المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَقُمْ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ

 

ج / 3 ص -163-       الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ: "أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ فَلَمَّا قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا، وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ مِثْلَ مَا يَقُولُهُ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الْأَذَانِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ "إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ" احْتِرَازٌ مِنْ الْمُنْفَرِدِ فَإِنَّهُ يَقُومُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقِيمُ قَائِمًا، وَقَوْلُهُ "لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلدُّخُولِ" يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الدُّخُولُ فِيهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْإِقَامَةِ لَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ، فَإِنَّهَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهَا فِي أَثْنَاءِ الْإِقَامَةِ وَقَبْلَهَا، وَقَوْلُهُ: "وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ" يَعْنِي الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ، لِلدُّخُولِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَابَعَهُ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ وَلَا يُتَابِعُهُ إلَّا قَبْلَ الدُّخُولِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَقُومَا حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ، فَإِذَا فَرَغَ قَامَا [قِيَامًا] مُتَّصِلًا بِفَرَاغِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ نَهَضَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ. فَإِذَا قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ وَكَبَّرُوا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إذَا قِيلَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَثَبَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله وَأَبُو قِلَابَةَ وَعِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ وَالزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ يَقُومُونَ إلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ بُدُوِّهِ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ. وَكَانَ مَالِكُ لَا يُؤَقِّتُ فِيهِ شَيْئًا، هَذَا مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَوَافَقَنَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ الْإِمَامُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْقَاضِي عِيَاضٌ.
وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِمَا رُوِيَ أَنْ بِلَالًا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم
"لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ فَرُّوخَ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: "كَانَ بِلَالٌ إذَا قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ نَهَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ يَكُونُ كَاذِبًا، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا الْمُحَدِّثُونَ مِنْهُمْ الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ فَلَمْ يُشْرَعْ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ كَالْأَذَانِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ بِلَالٍ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحْسَنُهُمَا - وَهُوَ جَوَابُ الْبَيْهَقِيّ وَالْمُحَقِّقِينَ - أَنَّهُ ضَعِيفٌ رُوِيَ مُرْسَلًا، وَفِي رِوَايَةٍ مُسْنَدًا فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: قَالَ بِلَالٌ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَيَرْجِعُ الْحَدِيثُ إلَى أَنَّ بِلَالًا كَأَنَّهُ كَانَ يُؤَمِّنُ قَبْلَ تَأْمِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ".

 

ج / 3 ص -164-       وَالْجَوَابُ الثَّانِي جَوَابُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ طَلَب ذَلِكَ حِينَ عُرِضَ لَهُ حَاجَةٌ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم التَّمَهُّلَ لِيُدْرِكَ تَأْمِينَهُ، الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَبَيْنَ آخِرِ الْإِقَامَةِ زَمَنًا يَسِيرًا جِدًّا يُمْكِنُهُ إتْمَامُ الْإِقَامَةِ وَإِدْرَاكُ أَوَّلِهَا بَلْ مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ دُعَاءَ الِافْتِتَاحِ بَعْدَ تَكْبِيرِهِ ثُمَّ يَتَعَوَّذُ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْفَاتِحَةِ، فَيَتَعَيَّنُ مَا قُلْنَاهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فَضَعِيفٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ. لَا يَرْوِيهِ إلَّا حَجَّاجُ بْنُ فَرُّوخَ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يُضَعِّفُهُ قُلْتُ: اتَّفَقُوا عَلَى جَرْحِ الْحَجَّاجِ هَذَا فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: لَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ. هُوَ شَيْخٌ مَجْهُولٌ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوكٌ، وَهَذِهِ أَوْضَحُ الْعِبَارَاتِ عِنْدَهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ ضَعْفٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْعَوَّامَ بْنَ حَوْشَبٍ لَمْ يُدْرِكْ ابْنَ أَبِي أَوْفَى كَذَا قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ وَلَمْ يَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا رِوَايَتُهُ عَنْ التَّابِعِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فَجَوَابُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ قَرُبَ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ فَهَكَذَا قَالَهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُحَدِّثُونَ، وَهُوَ مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ حَسَنٌ كَقَوْلِ الله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أَيْ قَارَبْنَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ "مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ" أَيْ قَارَبَ التَّمَامَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّ مَا أَلْزَمُونَا بِهِ يَلْزَمُهُمْ عَلَى مُقْتَضَاهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ أَنْ لَا يَقُومَا حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي فِي آخِرِ بَابِ الْأَذَانِ: يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ شَيْخًا بَطِيءَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَلِسَرِيعِ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِيَسْتَوُوا قِيَامًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
فَرْعٌ: لَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَرَادَ الشُّرُوعَ فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهَا، فَشَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ قَبْلَ إحْرَامِهِ فَلْيَسْتَمِرَّ قَائِمًا وَلَا يَشْرَعْ فِي التَّحِيَّةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
"إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ" وَلَا يَجْلِسُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْجُلُوسِ قَبْلَ التَّحِيَّةِ، وَإِذَا اسْتَمَرَّ قَائِمًا لَا يَكُونُ قَدْ قَامَ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ الْإِقَامَةِ،؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَبْتَدِ الْقِيَامَ لَهَا، صَرَّحَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ، وَفِي كِتَابِ الزِّيَادَاتِ لِأَبِي عَاصِمٍ أَنَّهُ يَجْلِسُ، وَهَذَا غَلَطٌ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ.
فرع: إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ الْإِمَامُ مَعَ الْقَوْمِ بَلْ يَخْرُجُ إلَيْهِمْ فَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ عَقِبَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ "حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ" فَإِنْ قِيلَ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَتْ الصَّلَاةُ تُقَامُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ" قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ إذَا رَأَوْهُ قَدْ خَرَجَ قَبْلَ وُصُولِهِ مَقَامَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا دَحَضَتْ وَلَا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ الصَّلَاةَ حِينَ يَرَاهُ". فَإِنْ قِيلَ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ. "أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَقُمْنَا

 

ج / 3 ص -165-       فَعَدَلْنَا الصُّفُوفَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَتَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا أَقَامَ فِي مُصَلَّاهُ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قُلْنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ الْغَالِبُ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ "قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا" أَيْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَنَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْقِيَامُ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ لِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ" وَأَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْتَفِلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهُوَ قَاعِدٌ" وَلِأَنَّ النَّوَافِلَ تَكْثُرُ، فَلَوْ وَجَبَ فِيهَا الْقِيَامُ شُقَّ وَانْقَطَعَتْ النَّوَافِلُ.
الشَّرْحُ:
حَدِيثُ عِمْرَانَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِهِ1 وَحُصَيْنٌ صَحَابِيٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: لَمْ يُسْلِمْ، كُنْيَةُ عِمْرَانَ أَبُو نُجَيْدٍ بِضَمِّ النُّونِ أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ وَهُوَ خُزَاعِيٌّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ وَوَلِيَ قَضَاءَهَا، ثُمَّ اسْتَقَالَ فَأُقِيلَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَأَمَّا حَدِيثُ تَنَفُّلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّاحِلَةِ فَثَابِتٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنهم.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَالْقِيَامُ فِي الْفَرَائِضِ فَرْضٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مِنْ الْقَادِرِ عَلَيْهِ إلَّا بِهِ حَتَّى قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ مُسْلِمٌ: أَنَا أَسْتَحِلُّ الْقُعُودَ فِي الْفَرِيضَةِ بِلَا عُذْرٍ أَوْ قَالَ: الْقِيَامُ فِي الْفَرِيضَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ كَفَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ.
فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْقِيَامِ إحْدَاهَا: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ فِي الْقِيَامِ الِانْتِصَابُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ الِاسْتِقْلَالُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَنِدُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَالرَّافِعِيُّ لَا يُشْتَرَطُ، فَلَوْ اسْتَنَدَ إلَى جِدَارٍ أَوْ إنْسَانٍ أَوْ اعْتَمَدَ عَلَى عَصًا بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ لَسَقَطَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَائِمًا، وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ وَلَا تَصِحُّ مَعَ الِاسْتِنَادِ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ بِحَالٍ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ ابْنِ الْقَطَّانِ وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ الِاسْتِنَادُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ لَمْ يَسْقُطْ وَإِلَّا فَلَا. هَذَا فِي اسْتِنَادٍ لَا يَسْلُبُ اسْمَ الْقِيَامِ، فَإِنْ اسْتَنَدَ مُتَّكِئًا بِحَيْثُ لَوْ رَفَعَ عَنْ الْأَرْضِ قَدَمَيْهِ لَأَمْكَنَهُ الْبَقَاءُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَائِمٍ. بَلْ مُعَلِّقٌ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْتَصِبَ مُتَّكِئًا لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِصَابِ، وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِصَابُ، بَلْ لَهُ الصَّلَاةُ قَاعِدًا.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والحصين هو ابن عبيد بن خلف بن عبيد بن نهم حذيفة وينتهي إلى عمرو الخزاعي قال ابن الأثير: مختلف في صحبتة وإسلامه ثم ساق بالاسناد أخبرنا إسماعيل بن عبيد الله وغير واحد بإسنادهم إلى محمد بن عيسى حدثنا أحمد بن منيع أخبرنا أبو معاوية عن شعيب بن شعبة عن الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: يا حصين كم تعبد اليوم إلها؟ قال: سبعة ستة في اليوم وواحد في السماء قال: فأيهم تعبد لرغبتك ورهبتك؟ قال: يا حصين أما أنك لو أسلمت لعلمتك كلمتين ينفعانك قال: فلما أسلم قال: يا رسول الله علمني الكلمتين اللتين وعدتني قال: قل: "اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي" (ط).

 

ج / 3 ص -166-       أَمَّا الِانْتِصَابُ الْمَشْرُوطُ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ نَصْبُ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَلَيْسَ لِلْقَادِرِ أَنْ يَقِفَ مَائِلًا إلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ زَائِلًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَامِ وَلَا أَنْ يَقِفَ مُنْحَنِيًا فِي حَدِّ الرَّاكِعِينَ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ انْحِنَاؤُهُ حَدَّ الرَّاكِعِينَ، لَكِنْ كَانَ إلَيْهِ أَقْرَبُ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَصِبٍ، وَالثَّانِي: تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلَوْ أَطْرَقَ رَأْسَهُ بِغَيْرِ انْحِنَاءٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَصِبٌ وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ إلَّا بِمُعِينٍ، ثُمَّ إذَا نَهَضَ لَا يَتَأَذَّى بِالْقِيَامِ لَزِمَهُ الِاسْتِعَانَةُ إمَّا بِمُتَبَرِّعٍ وَإِمَّا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ إنْ وَجَدَهَا هَذَا كُلُّهُ فِي الْقَادِرِ عَلَى الِانْتِصَابِ. فَأَمَّا الْعَاجِزُ كَمَنْ تَقَوَّسَ ظَهْرُهُ لِزَمَانَةٍ أَوْ كِبَرٍ، وَصَارَ فِي حَدِّ الرَّاكِعِينَ فَيَلْزَمُهُ الْقِيَامُ فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ زَادَ فِي الِانْحِنَاءِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ قَالَ الرَّافِعِيُّ هُوَ الْمَذْهَبُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا قَالَا: فَإِنْ قَدَرَ عِنْدَ الرُّكُوعِ عَلَى الِارْتِفَاعِ إلَى حَدِّ الرَّاكِعِينَ لَزِمَهُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ، وَلَوْ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ الْقِيَامِ لِعِلَّةٍ بِظَهْرِهِ تَمْنَعُ الِانْحِنَاءَ لَزِمَهُ الْقِيَامُ، وَيَأْتِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِحَسْبِ الطَّاقَةِ، فَيَحْنِي صُلْبَهُ قَدْرَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ حَنَى رَقَبَتِهِ وَرَأْسِهِ، فَإِنْ احْتَاجَ فِيهِ إلَى شَيْءٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَوْ لِيَمِيلَ إلَى جَنْبِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُطِقْ الِانْحِنَاءَ أَصْلًا أَوْمَأَ إلَيْهِمَا وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ وَالِاضْطِجَاعُ دُونَ الْقُعُودِ، قَالَ الْبَغَوِيّ يَأْتِي بِالْقُعُودِ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ قُعُودٌ وَزِيَادَةٌ.
وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُ مَسَائِلِ الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ وَفُرُوعُهَا فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ رحمه الله.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى شَيْءٍ فِي حَالِ الْقِيَامِ: قَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ مَذْهَبِنَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي مَسَائِلِ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي جَوَازِ التَّعَلُّقِ بِالْحِبَالِ وَنَحْوِهَا فِي صَلَاةِ النَّفْلِ لِطُولِهَا فَنَهَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَحُذَيْفَةُ رضي الله عنهما، وَرَخَّصَ فِيهِ آخَرُونَ قَالَ: وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ عَلَى الْعَصَا فَجَائِزٌ فِي النَّوَافِلِ بِاتِّفَاقِهِمْ إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ مِنْ كَرَاهَتِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِهِ، قَالَ: وَأَمَّا فِي الْفَرَائِضِ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالُوا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى عَصًا أَوْ حَائِطٍ وَنَحْوِهِ بِحَيْثُ يَسْقُطُ لَوْ زَالَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ قَالَ: وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ قَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً فَإِنْ كَانَتْ جَازَ وَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ جَالِسًا وَالله أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَامَ عَلَى إحْدَى رِجْلَيْهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فَلَا كَرَاهَةَ وَيُكْرَهُ أَنْ يُلْصِقَ الْقَدَمَيْنِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُمَا إلَى الْقِبْلَةِ.
فرع: فِي التَّرْوِيحِ بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ فِي الْقِيَامِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ وَهَذَا أَيْضًا مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا
الثَّالِثَةُ: تَطْوِيلُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ

 

ج / 3 ص -167-       الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ "طُولُ الْقُنُوتِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْقُنُوتِ الْقِيَامُ، وَتَطْوِيلُ السُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ بَاقِي الْأَرْكَانِ غَيْرَ الْقِيَامِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: تَطْوِيلُ السُّجُودِ وَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقِيَامِ، حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ" وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِهِ، وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يَقْضِ فِيهَا بِشَيْءٍ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَمَّا فِي النَّهَارِ فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ، وَأَمَّا بِاللَّيْلِ فَتَطْوِيلُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ جُزْءٌ بِاللَّيْلِ يَأْتِي عَلَيْهِ فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ جُزْأَهُ وَيَرْبَحُ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّمَا قَالَ إِسْحَاقُ هَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ وَصَفُوا صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ بِطُولِ الْقِيَامِ وَلَمْ يُوصَفْ مِنْ تَطْوِيلِهِ بِالنَّهَارِ مَا وُصِفَ بِاللَّيْلِ. دَلِيلُنَا عَلَى تَفْضِيلِ إطَالَةِ الْقِيَامِ حَدِيثُ "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ" وَلِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ "كَانَ يُطَوِّلُ الْقِيَامَ أَكْثَرَ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ" وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْقِيَامِ الْقِرَاءَةُ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
الرَّابِعَةُ: وَالْوَاجِبُ مِنْ الْقِيَامِ قَدْرُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَلَا يَجِبُ مَا زَادَ، وَالْوَاجِبُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَدْرُ أَدْنَى طُمَأْنِينَةٍ وَلَا يَجِبُ مَا زَادَ، فَلَوْ زَادَ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى مَا يُجْزِئُهُ فَهَلْ يَقَعُ الْجَمِيعُ وَاجِبًا أَمْ الْوَاجِبُ مَا يُجْزِئُهُ وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَمِيعَ يَقَعُ وَاجِبًا وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةِ، وَهُمَا مِثْلُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَسْحِ كُلِّ الرَّأْسِ وَفِي الْبَعِيرِ الْمُخْرَجُ فِي الزَّكَاةِ عَنْ خَمْسٍ، وَفِي الْبَدَنَةِ الْمُضَحَّى بِهَا بَدَلًا عَنْ شَاةٍ مَنْذُورَةٍ قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: وَالْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْوَقْصَ فِي الزَّكَاةِ عَفْوٌ أَمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَرْضُ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ فِي تَكْثِيرِ الثَّوَابِ فَإِنَّ ثَوَابَ الْفَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ التَّطَوُّعِ، وَفِي الزَّكَاةِ فِي الرُّجُوعِ عِنْدَ التَّعْجِيلِ وَفِي الْبَدَنَةِ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ.
الْخَامِسَةُ: لَوْ جَلَسَ لِلْغُزَاةِ رَقِيبٌ يَرْقُبُ الْعَدُوَّ فَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَلَوْ قَامَ لَرَآهُ الْعَدُوُّ، أَوْ جَلَسَ الْغُزَاةُ فِي مَكْمَنٍ وَلَوْ قَامُوا رَآهُمْ الْعَدُوُّ وَفَسَدَ التَّدْبِيرُ، فَلَهُمْ الصَّلَاةُ قُعُودًا وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ لِنُدُورِهِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي غَيْرِ الرَّقِيبِ: إنْ خَافَ لَوْ قَامَ أَنْ يَقْصِدَهُ الْعَدُوُّ صَلَّى قَاعِدًا أَجْزَأَتْهُ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ: وَلَوْ صَلَّى الْكَمِينُ فِي وَهْدَةٍ قُعُودًا فَفِي صِحَّتِهَا قَوْلَانِ، قُلْت أَصَحُّهُمَا وُجُوبُ الْإِعَادَةِ.
السَّادِسَةُ: يَجُوزُ فِعْلُ النَّافِلَةِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْإِجْمَاعِ، وَدَلِيلُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَغَيْرُهَا مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ، لَكِنْ ثَوَابُهَا يَكُونُ نِصْفَ ثَوَابِ الْقَائِمِ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى

 

ج / 3 ص -168-       قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالنَّائِمِ الْمُضْطَجِعِ وَلَوْ تَنَفَّلَ مُضْطَجِعًا بِالْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُذْهِبُ صُورَتَهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَهَذَا أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ: صِحَّتُهَا لِحَدِيثِ عِمْرَانَ، وَلَوْ صَلَّى النَّافِلَةَ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِلْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَثَوَابُهُ ثَوَابُ الْقِيَامِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ ثَوَابَهَا ثَوَابُ الْقَائِمِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِيمَنْ يُصَلِّي النَّفَلَ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ، يَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَمِيعُ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ وَالرَّاتِبَةِ وَصَلَاةُ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعِيدُ وَالْكُسُوفُ وَالِاسْتِسْقَاءُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْفَرَائِضِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا الْجِنَازَةُ فَسَبَقَ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ بَيَانُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَطُرُقِ الْأَصْحَابِ فِيهَا وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مُعْظَمُ أَرْكَانِهَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَالثَّالِثُ: إنْ تَعَيَّنَتْ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ إذَا جَوَّزْنَا الِاضْطِجَاعَ فِي النَّفْلِ مَعَ قُدْرَتِهِ فَهَلْ يُجْزِئُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِيمَاءِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ أَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ كَالْقَاعِدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ جَوَّزَ الِاضْطِجَاعَ لَا يُجَوِّزُ الِاقْتِصَارَ فِي الْأَرْكَانِ الذِّكْرِيَّةِ كَالتَّشَهُّدِ وَالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يُجْزِئُ ذِكْرُ الْقَلْبِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلصَّلَاةِ صُورَةٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالتَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَيَبْقَى مَا عَدَاهُمَا عَلَى مُقْتَضَاهُ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَنْوِي وَالنِّيَّةُ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّوْمِ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ، فَإِنْ نَوَى بِقَلْبِهِ دُونَ لِسَانِهِ أَجْزَأَهُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَنْوِي بِالْقَلْبِ وَيَتَلَفَّظُ بِاللِّسَانِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْقَصْدُ بِالْقَلْبِ.
الشَّرْحُ: حَدِيثُ
"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه. وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ. وَقَوْلُهُ " قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ " فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّوْمِ، إنَّمَا قَاسَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ خَاصٌّ "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ" وَهَذَا الْقِيَاسُ يُنْتَقَضُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ طَرِيقُهَا الْأَفْعَالُ كَمَا قَالَهُ فِي نِيَّةِ الْوُضُوءِ لِيَحْتَرِزَ عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَالنِّيَّةُ فَرْضٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ الْأَشْرَافِ وَكِتَابِ الْإِجْمَاعِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَآخَرُونَ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ رِوَايَةً عَنْ

 

ج / 3 ص -169-       أَحْمَدَ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ1 عَنْهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ أَوْجَبَهَا فَإِنْ نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِلِسَانِهِ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ الله الزُّبَيْرِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يُجْمِعَ بَيْنَ نِيَّةِ الْقَلْبِ وَتَلَفُّظِ اللِّسَانِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رحمه الله - قَالَ فِي الْحَجِّ: إذَا نَوَى حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ وَلَيْسَ كَالصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنُّطْقِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: غَلِطَ هَذَا الْقَائِلُ، وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالنُّطْقِ فِي الصَّلَاةِ هَذَا، بَلْ مُرَادُهُ التَّكْبِيرُ وَلَوْ تَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ. كَذَا نَقَلَ أَصْحَابُنَا بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ. وَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ انْعَقَدَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ.
فرع: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي النِّيَّةِ هَلْ هِيَ فَرْضٌ أَمْ شَرْطٌ؟ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ: هِيَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، كَالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ شَرْطٌ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالطَّهَارَةِ. وَبِهَذَا قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي أَوَّلِ بَابِ مَا يُجْزِئُ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ وَالْقَفَّالُ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ رُكْنٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُجِيبُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ فَرْضٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ [النِّيَّةُ] مُقَارِنَةً لَهُ.
الشرح:
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - فِي الْمُخْتَصَرِ (وَإِذَا أَحْرَمَ نَوَى صَلَاتَهُ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ لَا بَعْدَهُ وَلَا قَبْلَهُ) وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ النَّصَّ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا: قَالَ الشَّافِعِيُّ "يَنْوِي مَعَ التَّكْبِيرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ). قَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ النِّيَّةِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْمُقَارَنَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ النِّيَّةَ بِالْقَلْبِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ بِاللِّسَانِ وَيَفْرُغَ مِنْهَا مَعَ فَرَاغِهِ مِنْهُ. وَأَصَحُّهُمَا لَا يَجِبُ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِئَلَّا يَخْلُوَ أَوَّلُ التَّكْبِيرِ عَنْ تَمَامِ النِّيَّةِ، فَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ مِهْرَانَ شَيْخِ أَبِي بَكْرٍ الْأَوْدَنِيِّ: يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ النِّيَّةَ عَلَى أَوَّلِ التَّكْبِيرِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لِئَلَّا يَتَأَخَّرَ أَوَّلُهَا عَنْ أَوَّلِ التَّكْبِيرِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَجِبُ ذَلِكَ، بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْمُقَارَنَةِ وَسَوَاءٌ قَدَّمَ أَمْ لَمْ يُقَدِّمْ وَيَجِبُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ إلَى انْقِضَاءِ التَّكْبِيرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّدْقِيقُ الْمَذْكُورُ فِي تَحْقِيقِ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ، وَأَنَّهُ تَكْفِي الْمُقَارَنَةُ الْعُرْفِيَّةُ الْعَامِّيَّةُ بِحَيْثُ يُعَدُّ مُسْتَحْضِرًا لِصَلَاتِهِ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهَا، اقْتِدَاءً بِالْأَوَّلِينَ فِي تَسَامُحِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَاهُ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالنِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ فَيُحْضِرُ فِي ذِهْنِهِ ذَاتَ الصَّلَاةِ وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ مِنْ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالأصل والعبارة ركيكة وغامضة ومذهب أحمد كما في المغني أن النية هي القصد ومحلها القلب وأن تلفظ بها كان توكدا فإن كانت الصلاة مكتوبة لزمه نية الصلاة بعينها ظهرا أو عصرا أو غيرهما فيحتاج إلى نية شيئين الفصل والتعيين قال: واختلف أصحابنا في الفرضية فقال بعضهم لا يحتاج إليها لأن التعيين يغني عنها: ثم ساق اختلاف أصحاب أحمد وخلص إلى وجوب التعيين (ط).

 

ج / 3 ص -170-       صِفَاتِهَا، كَالظُّهْرِيَّةِ وَالْفَرْضِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعُلُومَ1 قَصْدًا مُقَارِنًا لِأَوَّلِ التَّكْبِيرِ، وَيَسْتَصْحِبُهُ حَتَّى يَفْرُغَ التَّكْبِيرُ، وَلَا يَجِبُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَاقِضٍ لَهَا، فَلَوْ نَوَى فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ الْخُرُوجَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ النِّيَّةُ عَلَى التَّكْبِيرِ بِزَمَانٍ يَسِيرٍ بِحَيْثُ لَا يَعْرِضُ شَاغِلٌ عَنْ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: يَجِبُ أَنْ تَتَقَدَّمَ النِّيَّةُ عَلَى التَّكْبِيرِ وَيُكَبِّرَ عَقِبَهَا بِلَا فَصْلٍ وَلَا يَجِبُ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ قَاصِدًا صَلَاةَ الظُّهْرِ مَعَ الْإِمَامِ فَانْتَهَى إلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَدَخَلَ مَعَهُ فِيهَا وَلَمْ يَحْضُرْهُ أَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ أَجْزَأَهُ.
فرع: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْكَفَّارَةِ: وَيَنْوِي مَعَ التَّكْفِيرِ أَوْ قَبْلَهُ. قَالَ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ فِي الْكَفَّارَةِ مَعَ التَّكْفِيرِ كَالصَّلَاةِ. قَالَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَوْ قَبْلَهُ يَعْنِي أَوْ قُبَيْلَهُ، وَيَسْتَدْعِي ذِكْرَ النِّيَّةِ حَتَّى يَكُونَ ذَاكِرًا لَهَا حَالَ التَّكْفِيرِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ آكَدُ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ تَعَيُّنُهَا بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَالزَّكَاةَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى تَقْدِيمِ نِيَّتِهِمَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَالْكَفَّارَةَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُمَا عَلَى وُجُوبِهِمَا فَجَازَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى "فَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةً لَزِمَهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فَيَنْوِي الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا وَهَلْ تَلْزَمُهُ نِيَّةُ الْفَرْضِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ يَلْزَمُهُ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ ظُهْرِ الصَّبِيِّ، وَظُهْرِ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً فَصَلَّاهَا مَعَهُمْ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَكْفِيهِ نِيَّةٌ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ لَا يَكُونَانِ فِي حَقِّ هَذَا إلَّا فَرْضًا وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْأَدَاءَ أَوْ الْقَضَاءَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ، فَإِنْ قَالَ فِيمَنْ صَلَّى يَوْمَ الْغَيْمِ بِالِاجْتِهَادِ فَوَافَقَ مَا بَعْدَ الْوَقْتِ: أَنَّهُ يُجْزِيهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ فِي الْأَسِيرِ: إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ فَصَامَ يَوْمًا2 بِالِاجْتِهَادِ فَوَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَصُومُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ".
الشرح: إذَا أَرَادَ فَرِيضَةً وَجَبَ قَصْدُ أَمْرَيْنِ بِلَا خِلَافٍ: أَحَدُهُمَا: فِعْلُ الصَّلَاةِ تَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَلَا يَكْفِي إحْضَارُ نَفْسِ الصَّلَاةِ بِالْبَالِ غَافِلًا عَنْ الْفِعْلِ. وَالثَّانِي: تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الْمَأْتِيِّ بِهَا هَلْ هِيَ ظُهْرٌ أَمْ عَصْرٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، فَلَوْ نَوَى فَرِيضَةَ الْوَقْتِ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ: أَحَدُهُمَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الظُّهْرُ مَثَلًا. وَأَصَحُّهُمَا لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَةَ الَّتِي يَتَذَكَّرُهَا تُشَارِكُهَا فِي كَوْنِهَا فَرِيضَةَ الْوَقْتِ، وَلَوْ نَوَى فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ الْجُمُعَةَ بَدَلًا عَنْ الظُّهْرِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهَا تَصِحُّ وَيَحْصُلُ لَهُ الظُّهْرُ، وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ. وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالطبعتين ش و ق ولعل الصواب (ثم يقصد هذا العموم ).
2 في بعض النسخ (فصام يوما بالاجتهاد فوافق رمضان الخ) "ط".

 

ج / 3 ص -171-       بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الظُّهْرِ، وَلَا تَصِحُّ بِنِيَّةِ الظُّهْرِ الْمَقْصُورَةِ إنْ قُلْنَا: إنَّهَا صَلَاةٌ بِحِيَالِهَا، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ صَحَّتْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: الْفَرِيضَةُ وَفِيهَا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ، الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ اشْتِرَاطُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ قَضَاءً أَمْ أَدَاءً، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَغَوِيُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ وَسَوَاءٌ كَانَ النَّاوِي بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ نِيَّةُ الْفَرِيضَةِ، وَكَيْفَ يَنْوِي الْفَرِيضَةَ، وَصَلَاتُهُ لَا تَقَعُ فَرْضًا؟ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ الثَّانِي: الْإِضَافَةُ إلَى الله تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ أَوْ فَرِيضَةَ الله، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الِاشْتِرَاطَ عَنْ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ الثَّالِثُ: الْقَضَاءُ وَالْأَدَاءُ وَفِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا يُشْتَرَطَانِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطَانِ، وَهَذَا الْقَائِلُ يُجِيبُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُصَلِّي فِي الْغَيْمِ أَوْ الْأَسِيرِ بِأَنَّهُمَا مَعْذُورَانِ، وَالثَّالِثُ: يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ دُونَ الْأَدَاءِ، حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَتَمَيَّزُ بِالْوَقْتِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ، وَالرَّابِعُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ اُشْتُرِطَ نِيَّةُ الْأَدَاءِ وَإِلَّا فَلَا، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْحَاوِي أَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ أَوْ فَوَائِتُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ ظُهْرَ يَوْمِ الْخَمِيسِ مَثَلًا بَلْ يَكْفِيهِ نِيَّةُ الظُّهْرِ، وَالظُّهْرُ الْفَائِتَةُ إذَا اشْتَرَطْنَا نِيَّةَ الْقَضَاءِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُمَا: لَوْ ظَنَّ أَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ قَدْ خَرَجَ فَصَلَّاهَا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ فَبَانَ أَنَّهُ بَاقٍ أَجْزَأَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى يَوْمَ الْغَيْمِ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ وَهُوَ يَظُنُّ بَقَاءَ الْوَقْتِ فَبَانَ وُقُوعُ الصَّلَاةِ خَارِجَ الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَضَاءِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، هَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَالَ الرَّافِعِيُّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ، بَلْ يَصِحُّ الْأَدَاءُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَعَكْسُهُ هَذَا كَلَامُهُمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ لَكَ أَنْ تَقُولَ: الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ فِي الْأَدَاءِ وَنِيَّةِ الْقَضَاءِ فِي الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ أَمَّا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ وَعَكْسُهُ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَرَتْ هَذِهِ النِّيَّةُ عَلَى لِسَانِهِ أَوْ فِي قَلْبِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قَصَدَ مَعْنَاهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ لِتَلَاعُبِهِ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَهَذَا الْإِلْزَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ حُكْمُهُ صَحِيحٌ. وَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ مَنْ نَوَى الْأَدَاءَ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ عَالِمًا بِالْحَالِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، مِمَّنْ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مُرَادُ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِمْ: الْقَضَاءُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ وَعَكْسُهُ بَلْ مُرَادُهُمْ مَنْ نَوَى ذَلِكَ وَهُوَ جَاهِلُ الْوَقْتِ لِغَيْمٍ وَنَحْوِهِ كَمَا فِي الصُّورَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَنَصِّ الشَّافِعِيِّ وَالله أَعْلَمُ. الرَّابِعُ: نِيَّةُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَعَدَدُ الرَّكَعَاتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وَهُوَ غَلَطٌ صَرِيحٌ لَكِنْ لَوْ نَوَى الظُّهْرَ خَمْسًا أَوْ ثَلَاثًا لَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ لِتَقْصِيرِهِ.
فرع: قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ الْحَاوِي: الْعِبَادَاتُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ وَهُوَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى نَفْلًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَقَعَ عَنْ الْوَاجِبِ. وَالثَّانِي: يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ دُونَ التَّعْيِينِ، وَهُوَ الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَالثَّالِثُ: يَفْتَقِرُ إلَى

 

ج / 3 ص -172-       ِنيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، وَفِي نِيَّةِ الْوُجُوبِ وَجْهَانِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ سُنَّةً رَاتِبَةً كَالْوِتْرِ وَسُنَّةِ الْفَجْرِ لَمْ تَصِحَّ حَتَّى تُعَيَّنَ النِّيَّةُ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَافِلَةً غَيْرَ رَاتِبَةٍ أَجْزَأَتْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ.
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: النَّوَافِلُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَهَا وَقْتٌ أَوْ سَبَبٌ كَسُنَنِ الْمَكْتُوبَاتِ وَالضُّحَى وَالْوِتْرِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْعِيدِ وَغَيْرِهَا فَيُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالتَّعْيِينِ، فَيَنْوِي مَثَلًا صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْخُسُوفِ وَعِيدِ الْفِطْرِ أَوْ الْأَضْحَى أَوْ الضُّحَى وَنَحْوِهَا، وَفِي الرَّوَاتِبِ تُعَيَّنُ بِالْإِضَافَةِ فَيَنْوِي سُنَّةَ الصُّبْحِ أَوْ سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ الَّتِي بَعْدَهَا أَوْ سُنَّةَ الْعَصْرِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا ضَعِيفًا وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الشَّامِلِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الرَّوَاتِبِ سِوَى سُنَّةِ الصُّبْحِ نِيَّةُ أَصْلِ الصَّلَاةِ لِتَأَكُّدِ سُنَّةِ الصُّبْحِ فَالْتُحِقَتْ بِالْفَرَائِضِ. وَأَمَّا الْوِتْرُ فَيَنْوِي سُنَّةَ الْوِتْرِ وَلَا يُضِيفُهَا إلَى الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِنْ أَوْتَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ رَكْعَةٍ نَوَى بِالْجَمِيعِ لِلْوِتْرِ إنْ كَانَ بِتَسْلِيمَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِتَسْلِيمَاتٍ نَوَى بِكُلِّ تَسْلِيمَةٍ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْوِتْرِ، وَقِيلَ: يَنْوِي بِمَا قَبْلَ الْأَخِيرِ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: يَنْوِي بِهِ سُنَّةَ الْوِتْرِ، وَقِيلَ مُقَدِّمَةَ الْوِتْرِ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَوِيَّةِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ
الضَّرْبُ الثَّانِي: النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ فَيَكْفِي فِيهَا نِيَّةُ فِعْلِ الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ النَّفْلِيَّةِ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ وَجْهَيْنِ، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَهَا فِي الضَّرْبِ الثَّانِي، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِجَرَيَانِهِمَا قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ النَّفْلِيَّةُ فِي الْأَوَّلِ وَلَا فِي الثَّانِيَةِ لِعَدَمِ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ الِاشْتِرَاطَ فِي الْفَرِيضَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ أَحْرَمَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ نَوَى؟ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ نَوَى [فَإِنْ1 كَانَ] قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ [ذَلِكَ] وَهُوَ شَاكٌّ فِي صَلَاتِهِ.
الشرح:
إذَا شَكَّ هَلْ نَوَى أَوْ لَا؟ أَوْ هَلْ أَتَى بِبَعْضِ شُرُوطِ النِّيَّةِ أَمْ لَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فِي حَالِ الشَّكِّ، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَتَى بِكَمَالِهَا قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا عَلَى الشَّكِّ وَقِصَرِ الزَّمَانِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ طَالَ بَطَلَتْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لِانْقِطَاعِ نَظْمِهَا، حَكَى الْوَجْهَيْنِ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَصَاحِبُ الْحَاوِي وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ أَنْ أَتَى مَعَ الشَّكِّ بِرُكْنٍ فِعْلِيٍّ كَرُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ اعْتِدَالٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنْ أَتَى بِرُكْنٍ قَوْلِيٍّ كَالْقِرَاءَةِ وَالتَّشَهُّدِ بَطَلَتْ أَيْضًا عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ كَالْفِعْلِيِّ. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَهُ لَا يُخِلُّ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: لَوْ شَكَّ هَلْ نَوَى ظُهْرًا أَوْ عَصْرًا؟ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ تَيَقَّنَهَا فَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ: إذَا فَعَلَ رُكْنًا فِي حَالِ الشَّكِّ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إنْ فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مابين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).

 

ج / 3 ص -173-       بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَإِطْلَاقُهُمْ الْبُطْلَانَ مُشْكِلٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْذَرَ لِجَهْلِهِ قُلْتُ: إنَّمَا لَمْ يَعْذُرُوهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِالْفِعْلِ فِي حَالِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ بِخِلَافِ مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ رُكْنًا نَاسِيًا فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِي النِّسْيَانِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ نَوَى أَنَّهُ سَيَخْرُجُ أَوْ شَكَّ هَلْ يَخْرُجُ أَمْ لَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَطَعَ ذَلِكَ بِمَا أَحْدَثَ فَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَالطَّهَارَةِ إذَا قَطَعَهَا بِالْحَدَثِ.
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: الْعِبَادَاتُ فِي قَطْعِ النِّيَّةِ عَلَى أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ وَالصَّلَاةُ فَيَبْطُلَانِ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهُمَا وَبِالتَّرَدُّدِ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ أَمْ يَبْقَى، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّرَدُّدِ: أَنْ يَطْرَأَ شَكٌّ مُنَاقِضٌ جَزْمَ النِّيَّةِ، وَأَمَّا مَا يَجْرِي فِي الْفِكْرِ أَنَّهُ لَوْ تَرَدَّدَ فِي الصَّلَاةِ كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ؟ فَهَذَا مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْمُوَسْوِسُ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ قَطْعًا. قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ بِالله تَعَالَى فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَلَوْ نَوَى فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ عَلَّقَ الْخُرُوجَ بِشَيْءٍ يُوجَدُ فِي صَلَاتِهِ قَطْعًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي الْحَالِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ فِي الْحَالِ، بَلْ لَوْ رَفَضَ هَذَا التَّرَدُّدَ قَبْلَ الِانْتِهَاءِ إلَى الْغَايَةِ الْمَنْوِيَّةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ عَلَّقَ الْخُرُوجَ بِدُخُولِ شَخْصٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُحْتَمَلُ حُصُولُهُ فِي الصَّلَاةِ وَعَدَمُهُ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: تَبْطُلُ كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ هَكَذَا، فَإِنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِلَا خِلَافٍ، وَكَمَا لَوْ عَلَّقَ بِهِ الْخُرُوجَ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِالله تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْحَالِ بِلَا خِلَافٍ، وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ فِي الْحَالِ، فَعَلَى هَذَا إنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ وَهُوَ ذَاهِلٌ عَنْ التَّعْلِيقِ فَفِي بُطْلَانِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ غَافِلٌ، وَالنِّيَّةُ الْأُولَى لَمْ تُؤَثِّرْ، وَأَصَحُّهُمَا: تَبْطُلُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَظْهَرُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ تَبَيَّنَ بِالصِّفَةِ بُطْلَانُهَا مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ، أَمَّا إذَا وُجِدَتْ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلتَّعْلِيقِ فَتَبْطُلُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ نَوَى فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ يَأْكُلَ أَوْ يَفْعَلَ فِعْلًا مُبْطِلًا لِلصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ فِي الْحَالِ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله بِقَوْلِهِ: وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَمَلِ الْقُلُوبِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ نَوَى تَعْلِيقَ النِّيَّةِ أَوْ قَطْعَهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِجَزْمِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ صَلَاتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَازِمٍ. وَأَمَّا مَنْ نَوَى الْفِعْلَ فَاَلَّذِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِفِعْلٍ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَإِذَا أَتَى بِهِ بَطَلَتْ ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمِثْلُ هَذَا إذَا دَخَلَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بِنِيَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ، وَقُلْنَا: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ بِالِانْتِظَارِ الثَّالِثِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ مَعْرُوفٍ فَقَدْ نَوَى فِي أَوَّلِ صَلَاتِهِ أَنْ يَفْعَلَ فِي أَثْنَائِهَا فِعْلًا مُبْطِلًا، وَلَمْ تَبْطُلْ فِي الْحَالِ وَالله أَعْلَمُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ: فَإِذَا نَوَى الْخُرُوجَ مِنْهُمَا وَنَوَى قَطْعَهُمَا لَمْ يَنْقَطِعَا بِلَا خِلَافٍ ،

 

ج / 3 ص -174-       وَلِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا بِالْإِفْسَادِ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: الصَّوْمُ وَالِاعْتِكَافُ فَإِذَا جَزَمَ فِي أَثْنَائِهِمَا بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهُمَا فَفِي بُطْلَانِهِمَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي بَابَيْهِمَا، أَصَحُّهُمَا لَا يَبْطُلُ كَالْحَجِّ وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّوْمِ الْبُطْلَانَ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ كَثِيرُونَ وَلَكِنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: لَا تَبْطُلُ، وَلَوْ تَرَدَّدَ الصَّائِمُ فِي قَطْعِ نِيَّةِ الصَّوْمِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ أَوْ عَلَّقَهُ عَلَى دُخُولِ شَخْصٍ وَنَحْوِهِ فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ جَزَمَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: - وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تَبْطُلُ وَجْهًا وَاحِدًا.
الضَّرْبُ الرَّابِعُ: الْوُضُوءُ فَإِنْ نَوَى قَطْعَهُ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى مِنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ لِمَا بَقِيَ، وَإِنْ نَوَى قَطْعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَمْ يَبْطُلْ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا لَوْ نَوَى قَطْعَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ بَعْدَ فَرَاغِهَا فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِلَا خِلَافٍ وَقِيلَ: فِي بُطْلَانِ الْوُضُوءِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ بَاقٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَقْصًى فِي آخِرِ بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَبِالله التَّوْفِيقُ.
فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهَا تَبْطُلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَبْطُلُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ دَخَلَ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ صَرَفَ النِّيَّةَ إلَى الْعَصْرِ بَطَلَ الظُّهْرُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ نِيَّتَهَا وَلَمْ يَصِحَّ الْعَصْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ صَرَفَ نِيَّةَ الظُّهْرِ إلَى التَّطَوُّعِ؛ بَطَلَ الظُّهْرُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِي التَّطَوُّعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَصْرِ: وَالثَّانِي: تَصِحُّ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ تَتَضَمَّنُ نِيَّةَ النَّفْلِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ بَعْدَ الزَّوَالِ كَانَتْ صَلَاتُهُ نَافِلَةً.
الشرح: مَتَى دَخَلَ فِي فَرِيضَةٍ ثُمَّ صَرَفَ نِيَّتَهُ إلَى فَرِيضَةٍ أُخْرَى أَوْ نَافِلَةٍ بَطَلَتْ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ الَّتِي نَوَاهَا بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ. وَفِي انْقِلَابِهَا نَافِلَةً خِلَافٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ أَتَى بِمَا يُنَافِي الْفَرِيضَةَ دُونَ النَّفْلِيَّةِ فِي أَوَّلِ فَرِيضَةٍ أَوْ أَثْنَائِهَا بَطَلَ فَرْضُهُ، وَهَلْ تَبْقَى صَلَاتُهُ نَفْلًا أَمْ تَبْطُلُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ اخْتَلَفَ فِي الْأَصَحِّ مِنْهُمَا بِحَسْبِ الصُّوَرِ، فَمِنْهَا إذَا قَلَبَ ظُهْرَهُ إلَى عَصْرٍ أَوْ إلَى نَفْلٍ بِلَا سَبَبٍ أَوْ وَجَدَ الْمُصَلِّي قَاعِدًا خِفَّةً فِي صَلَاتِهِ وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فَلَمْ يَقُمْ أَوْ أَحْرَمَ الْقَادِرُ عَلَى الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ قَاعِدًا فَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا لَوْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ - فَالْأَصَحُّ الْبُطْلَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَلَاعِبٌ، وَإِنْ جَهِلَ وَظَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ فَالصَّحِيحُ انْعِقَادُهَا نَفْلًا، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ. وَمِنْهَا لَوْ وَجَدَ الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَأَتَى بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْضِهَا فِي الرُّكُوعِ لَا يَنْعَقِدُ فَرْضًا بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ فَالْأَصَحُّ بُطْلَانُهَا. وَالثَّانِي: تَنْعَقِدُ نَفْلًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهَا فَالْأَصَحُّ انْعِقَادُهَا نَفْلًا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِمَا. وَمِنْهَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ أُقِيمَتْ جَمَاعَةٌ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِيُدْرِكَهَا، الْأَصَحُّ: صِحَّتُهَا، وَالثَّانِي: تَبْطُلُ، وَمِنْهَا لَوْ شَرَعُوا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ خَرَجَ

 

ج / 3 ص -175-       الْوَقْتُ وَهُمْ فِيهَا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا وَتُجْزِيهِمْ، وَقَطَعَ بِهَذَا الْمُصَنِّفُ وَالْعِرَاقِيُّونَ. وَعِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي: لَا تُجْزِيهِمْ عَنْ الظُّهْرِ بَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الظُّهْرِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَنْقَلِبُ نَفْلًا أَمْ تَبْطُلُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا تَنْقَلِبُ نَفْلًا.
فَرْعٌ: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ.
إحْدَاهَا: لَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ بِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّبَرُّكَ وَوُقُوعَ الْفِعْلِ بِمَشِيئَةِ الله تَعَالَى - لَمْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّعْلِيقَ أَوْ الشَّكَّ لَمْ يَصِحَّ. ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ الثَّانِيَةُ: لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ النِّيَّةَ فِي إحْدَاهُمَا وَجَهِلَ عَيْنَهَا لَزِمَهُ إعَادَتُهُمَا جَمِيعًا الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ: صَلِّ الظُّهْرَ لِنَفْسِكَ وَلَك عَلَيَّ دِينَارٌ فَصَلَّاهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الدِّينَارَ. ذَكَرُوهُ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ أَعْتَقَ عَنْ الْكَفَّارَةِ عَبْدًا بِعِوَضٍ, وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَنْ صَلَّى وَقَصَدَ دَفْعَ غَرِيمِهِ عَنْهُ فِي ضِمْنِ الصَّلَاةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي نِيَّةِ الْوُضُوءِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى: ثُمَّ يُكَبِّرُ وَالتَّكْبِيرُ لِلْإِحْرَامِ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، إلَّا أَنَّ فِيهِ عَبْدَ الله بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُهُ، قَالَ: وَعَبْدُ الله بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ صَدُوقُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْحُمَيْدِيُّ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْوُضُوءُ مِفْتَاحًا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ مَانِعٌ مِنْ الصَّلَاةِ كَالْغَلْقِ عَلَى الْبَابِ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ إلَّا بِمِفْتَاحٍ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ". قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَصْلُ التَّحْرِيمِ مِنْ قَوْلِكَ: حَرَمْتُ فُلَانًا كَذَا أَيْ مَنَعْتُهُ، وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَحِرْمٌ، فَسَمَّى التَّكْبِيرَ تَحْرِيمًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُصَلِّي مِنْ الْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَغَيْرِهِمَا
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا. هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُنَا عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بِلَا تَكْبِيرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ وَالْأَصَمِّ كَقَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ شَرْطٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا، وَلَكِنْ لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ بَلْ هِيَ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِيمَا لَوْ كَبَّرَ وَفِي يَدِهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرَةِ، أَوْ شَرَعَ فِي التَّكْبِيرَةِ قَبْلَ ظُهُورِ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ ظَهَرَ الزَّوَالُ قَبْلَ فَرَاغِهَا فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا فِي الصُّورَتَيْنِ، وَتَصِحُّ عِنْدَهُ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَاحْتُجَّ لِلزُّهْرِيِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَلِلْكَرْخِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15].

 

ج / 3 ص -176-       فَعَقَّبَ الذِّكْرَ بِالصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَالْإِضَافَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُضَافَ غَيْرُ الْمُضَافِ إلَيْهِ، كَدَارِ زَيْدٍ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى الزُّهْرِيِّ حَدِيثُ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:
"إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إلَّا الْفُرُوضَ خَاصَّةً، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُكَبِّرُ لِلْإِحْرَامِ".
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَهَذَا مُقْتَضَى وُجُوبِ كُلِّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَا خَرَجَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ وَنَحْوِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ مَا يَرَى وَهِيَ الْأَفْعَالُ دُونَ الْأَقْوَالِ، فَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ بِجَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ رُؤْيَةُ شَخْصِهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا مِثْلُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، أَيْ صَلُّوا كَمَا عَلِمْتُمُونِي أُصَلِّي.
وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّوْمِ وَالْحَجِّ أَنَّهُمَا لَيْسَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى النُّطْقِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ، وَدَلِيلُنَا عَلَى الْكَرْخِيِّ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَإِنْ قَالُوا: الْمُرَادُ بِهِ تَكْبِيرَاتُ الِانْتِقَالَاتِ، فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ وَلَا يُقْبَلُ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ: وَالثَّانِي: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى تَكْبِيرَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ أَوْلَى مِنْ تَكْبِيرَةٍ لَا تَجِبُ، وَالْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَ خِلَافِ الْمُخَالِفِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: الْإِضَافَةُ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ أَنَّ الْإِضَافَةَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ كَثَوْبِ زَيْدٍ، وَالثَّانِي: تَقْتَضِي الْجُزْئِيَّةَ كَقَوْلِهِ: رَأْسُ زَيْدٍ، وَصَحْنُ الدَّارِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا، فَلَوْ تَرَكَهَا الْإِمَامُ أَوْ الْمَأْمُومُ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ وَلَا تُجْزِئُ عَنْهَا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ وَلَا غَيْرُهَا، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا نَسِيَهَا فِيهَا أَجْزَأَتْهُ عَنْهَا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَرِوَايَةً عَنْ حَمَّادِ1 بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَأْمُومِ مِثْلُهُ، لَكِنَّهُ قَالَ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (حامد بن أبي سليمان) وهو خطأ وإنما هو حماد بن أبي سليمان الأشعري مولاهم أبو إسماعيل الكوفي مات سنة 120 (ط).

 

ج / 3 ص -177-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالتَّكْبِيرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ بِهِ الصَّلَاةَ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" فَإِنْ قَالَ: اللَّهُ الْأَكْبَرُ أَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَزَادَ زِيَادَةً لَا تُحِيلُ الْمَعْنَى، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا.
الشرح:
أَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ فَالْأَحَادِيثُ فِيهِ مَشْهُورَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، فَإِنْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ قَالَ: اللَّهُ الْأَكْبَرُ انْعَقَدَتْ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَغَيْرُهُمَا قَوْلًا أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الصَّلَاةُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ التَّكْبِيرَةِ وَلَا يُجْزِئُ مَا قَرُبَ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ، وَالله أَعْظَمُ وَالله كَبِيرٌ، وَالرَّبُّ أَكْبَرُ وَغَيْرُهَا.
وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يُجْزِيهِ: الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ أَوْ الرَّحِيمُ أَكْبَرُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَأَمَّا إذَا كَبَّرَ وَزَادَ مَا لَا يُغَيِّرُهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَالله أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالله أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَيُجْزِيهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالتَّكْبِيرِ وَزَادَ مَا لَا يُغَيِّرُهُ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُ الْجَلِيلُ أَكْبَرُ أَجْزَأَهُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ أَدْخَلَ بَيْنَ لَفْظَتَيْ التَّكْبِيرِ لَفْظَةً أُخْرَى مِنْ صِفَاتِ الله بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطُولَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْبَرُ، فَإِنْ طَالَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ أَكْبَرُ لَمْ يُجْزِئْهُ بِلَا خِلَافٍ، لِخُرُوجِهِ عَنْ اسْمِ التَّكْبِيرِ، وَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ فِي التَّكْبِيرِ عَنْ الْوَقْفَةِ بَيْنَ كَلِمَتَيْهِ وَعَنْ زِيَادَةٍ تُغَيِّرُ الْمَعْنَى فَإِنْ وَقَفَ أَوْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ بِمَدِّ هَمْزَةِ الله أَوْ بِهَمْزَتَيْنِ، أَوْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَارُ أَوْ زَادَ وَاوًا سَاكِنَةً أَوْ مُتَحَرِّكَةً بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ تَكْبِيرُهُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ: وَلَا يَجُوزُ الْمَدُّ إلَّا عَلَى الْأَلِفِ الَّتِي بَيْنَ اللَّامِ وَالْهَاءِ وَلَا يُخْرِجُهَا بِالْمَدِّ عَنْ حَدِّ الِاقْتِصَادِ لِلْإِفْرَاطِ، وَإِذَا قَالَ: أُصَلِّي الظُّهْرَ مَأْمُومًا أَوْ إمَامًا اللَّهُ أَكْبَرُ فَلْيَقْطَعْ الْهَمْزَةَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَيُخَفِّفُهَا فَلَوْ وَصَلَهَا فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَلَكِنْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ1.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ قَالَ: أَكْبَرُ اللَّهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُجْزِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَالثَّانِي لَا يُجْزِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي الذِّكْرِ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَدَّمَ آيَةً عَلَى آيَةٍ وَهَذَا يَبْطُلُ بِالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ".
الشرح:
إذَا قَالَ أَكْبَرُ اللَّهُ أَوْ الْأَكْبَرُ اللَّهُ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ يُجْزِيهِ فَقِيلَ فِيهِمَا قَوْلَانِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ يُجْزِيهِ فِي السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى تَسْلِيمًا وَهُوَ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مُعْتَادٌ وَلَا يُجْزِيهِ فِي التَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَكْبِيرًا، وَقِيلَ يُجْزِيهِ فِي قَوْلِهِ الْأَكْبَرُ اللَّهُ دُونَ أَكْبَرُ اللَّهُ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا عَنْ وَالِدِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ ثُمَّ قَالَ وَهَذَا زَلَلٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِتَمَيُّزِهِ فِي عِلْمِ اللِّسَانِ وَصَحَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْإِجْزَاءَ فِيهِمَا وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ ثُمَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّعْلِيلِ بِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَكْبِيرًا هُوَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل (ش) .

 

ج / 3 ص -178-       الصَّوَابُ، وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ فَضَعِيفٌ، وَمِمَّنْ قَالَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ أَكْبَرُ اللَّهُ وَالْأَكْبَرُ اللَّهُ صَاحِبُ "الْحَاوِي" ، وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي"الْبَسِيطِ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ كَبَّرَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ بِالْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُجْزِئْهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ وَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَبَّرَ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اللَّفْظِ فَأَتَى بِمَعْنَاهُ، وَإِنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لَزِمَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَكَبَّرَ بِلِسَانِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ اللَّفْظَ1 مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَإِذَا كَبَّرَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ كَلِمَةِ التَّكْبِيرِ أَوْ بَعْضِهَا فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ كَسْبُ الْقُدْرَةِ بِأَنْ كَانَ بِهِ خَرَسٌ وَنَحْوُهُ وَجَبَ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ وَلَهَاتَهُ بِالتَّكْبِيرِ قَدْرَ إمْكَانِهِ، وَإِنْ كَانَ نَاطِقًا لَا يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِتَرْجَمَةِ التَّكْبِيرِ وَلَا يُجْزِيهِ الْعُدُولُ إلَى ذِكْرٍ آخَرَ، ثُمَّ جَمِيعُ اللُّغَاتِ فِي التَّرْجَمَةِ سَوَاءٌ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: إنْ أَحْسَنَ السُّرْيَانِيَّةَ أَوْ الْعِبْرَانِيَّةَ تَعَيَّنَتْ لِشَرَفِهَا بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ بِهَا وَبَعْدَهُمَا الْفَارِسِيَّةُ أَوْلَى مِنْ التُّرْكِيَّةِ وَالْهِنْدِيَّةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي" : إذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ وَأَحْسَنَ الْفَارِسِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّة فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُكَبِّرُ بِالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ: وَالثَّانِي: بِالسُّرْيَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ بِهَا كِتَابًا وَلَمْ يُنْزِلْ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا قَالَ: فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ التُّرْكِيَّةَ وَالْفَارِسِيَّةَ فَهَلْ تَتَعَيَّنُ الْفَارِسِيَّةُ أَمْ يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ النَّبَطِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّة فَهَلْ تَتَعَيَّنُ السُّرْيَانِيَّةُ أَمْ يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ التُّرْكِيَّةَ وَالْهِنْدِيَّةَ تَخَيَّرَ بِلَا خِلَافٍ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُمْكِنَهُ الْقُدْرَةُ بِتَعَلُّمٍ أَوْ نَظَرٍ فِي مَوْضِعِ كُتُبٍ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّكْبِيرِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ، وَلَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ لَا يَجِدُ فِيهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ التَّكْبِيرَ لَزِمَهُ الْمَسِيرُ إلَى قَرْيَةٍ يَتَعَلَّمُ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، بَلْ يُجْزِيهِ التَّرْجَمَةُ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ الْمَسِيرُ إلَى قَرْيَةِ الْوُضُوءِ بَلْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ "الْحَاوِي". وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَصَحَّحَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ؛ لِأَنَّ نَفْعَ تَعَلُّمِ التَّكْبِيرِ يَدُومُ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسِيرِ لِتَعَلُّمِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّكْبِيرِ، وَقَالَ: عَدَمُ الْوُجُوبِ ضَعِيفٌ وَلَا تَجُوزُ التَّرْجَمَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِمَنْ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ فِي آخِرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَلِّمُهُ الْعَرَبِيَّةَ تَرْجَمَ، وَمَتَى أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ وَجَبَ، وَإِذَا صَلَّى بِالتَّرْجَمَةِ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ فَلَا إعَادَةَ، وَأَمَّا فِي الْحَالِ الثَّانِي فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ التَّعَلُّمِ لِبَلَادَةِ ذِهْنِهِ أَوْ قِلَّةِ مَا أَدْرَكَهُ مِنْ الْوَقْتِ فَلَا إعَادَةَ أَيْضًا، وَإِنْ أَخَّرَ التَّعَلُّمَ مَعَ التَّمَكُّنِ وَضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى بِالتَّرْجَمَةِ، وَلَزِمَهُ الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ لِتَقْصِيرِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض نسخ المهذب (لأنه ترك الفرض) (ط).

 

ج / 3 ص -179-       لَا إعَادَةَ وَهُوَ غَرِيبٌ وَغَلَطٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ كَانَ بِلِسَانِهِ خَبْلٌ أَوْ خَرَسٌ حَرَّكَهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ كَثِيرُ الْفَوَائِدِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي جُزْءٍ فَبَلَغَتْ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا1، قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ بِلِسَانِهِ خَبْلٌ، هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ الْفَسَادُ وَجَمْعُهُ خُبُولٌ، فَإِذَا كَانَ بِلِسَانِهِ خَبْلٌ أَوْ خَرَسٌ لَزِمَهُ أَنْ يُحَرِّكَهُ قَدْرَ إمْكَانِهِ، وَلَوْ شُفِيَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَفْصَحَ بِالتَّكْبِيرِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ تَحْرِيكِهِ قَدْرَ إمْكَانِهِ هُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَكَذَا حُكْمُ تَشَهُّدِهِ وَسَلَامِهِ وَسَائِرِ أَذْكَارِهِ، وَلِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ احْتِمَالٌ فِي وُجُوبِ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ الْقِرَاءَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى "وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَ مَنْ خَلْفَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يُسِرَّ بِهِ وَأَدْنَاهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ".
الشرح:
يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَبِتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ لِيُسْمِعَ الْمَأْمُومِينَ فَيَعْلَمُوا صِحَّةَ صَلَاتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا لَا يَبْلُغُ صَوْتُهُ إلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ أَوْ كَانَ ضَعِيفَ الصَّوْتِ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ أَوْ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ بَلَّغَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى حَسْبِ الْحَاجَةِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"صَلَّى فِي مَرَضِهِ بِالنَّاسِ وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يُسْمِعُهُمْ التَّكْبِيرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ وَسَأَبْسُطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الرُّكُوعِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا غَيْرُ الْإِمَامِ فَالسُّنَّةُ الْإِسْرَارُ بِالتَّكْبِيرِ سَوَاءٌ الْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ، وَأَدْنَى الْإِسْرَارِ أَنْ يُسْمِعَ [نَفْسَهُ] إذَا كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ وَلَا عَارِضَ عِنْدَهُ مِنْ لَفْظٍ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا عَامٌّ فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَغَيْرِهِ ، وَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ وَالدُّعَاءِ، سَوَاءٌ وَاجِبُهَا وَنَفْلُهَا لَا يُحْسَبُ شَيْءٌ مِنْهَا حَتَّى يُسْمِعَ نَفْسَهُ إذَا كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ وَلَا عَارِضَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ رَفَعَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يُجْزِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى إسْمَاعِ نَفْسِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" : يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ.
فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّكْبِيرِ إحْدَاهَا: يَجِبُ أَنْ يُكَبِّرَ لِلْإِحْرَامِ قَائِمًا حَيْثُ يَجِبُ الْقِيَامُ وَكَذَا الْمَسْبُوقُ الَّذِي يُدْرِكُ الْإِمَامَ رَاكِعًا يَجِبُ أَنْ تَقَعَ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا فِي حَالِ قِيَامِهِ، فَإِنْ أَتَى بِحَرْفٍ مِنْهَا فِي غَيْرِ حَالِ الْقِيَامِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ فَرْضًا بِلَا خِلَافٍ، وَفِي انْعِقَادِهَا نَفْلًا الْخِلَافُ السَّابِقُ قَرِيبًا فِي فَصْلِ النِّيَّةِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ فَرْضًا إذَا كَبَّرَ وَهُوَ مَسْبُوقٌ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْمُوَطَّأِ" وَ "الْمُدَوَّنَةِ" ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةُ: فَلَوْ شَكَّ هَلْ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي الأربعون حديثا النووية وكان من شأنه أن نفع الله العامة بالمجموع الخاصة (ط).

 

ج / 3 ص -180-       وَقَعَتْ تَكْبِيرَتُهُ كُلُّهَا فِي الْقِيَامِ؟ أَمْ وَقَعَ حَرْفٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ الْقِيَامِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّكْبِيرِ إلَّا فِي الْقِيَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْأَصْحَابِ أَطْلَقُوا أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ إذَا وَقَعَ بَعْضُهَا فِي غَيْرِ حَالِ الْقِيَامِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ، وَكَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: إنْ وَقَعَ بَعْضُ تَكْبِيرَتِهِ فِي حَالِ رُكُوعِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ فَرْضًا، وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُهَا فِي انْحِنَائِهِ وَتَمَّتْ قَبْلَ بُلُوغِهِ حَدَّ الرَّاكِعِينَ انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ فَرْضًا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ حَدِّ الرُّكُوعِ مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَامِ وَلَا يَضُرُّ الِانْحِنَاءُ الْيَسِيرُ، قَالَ: وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ حَدِّ الرُّكُوعِ وَحَدِّ الْقِيَامِ أَنْ تَنَالَ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ فَهَذَا حَدُّ الرُّكُوعِ، وَمَا قَبْلَهُ حَدُّ الْقِيَامِ، فَإِنْ كَانَتْ يَدَاهُ أَوْ إحْدَاهُمَا طَوِيلَةً خَارِجَةً عَنْ الْعَادَةِ اُعْتُبِرَ عَادَةُ مِثْلِهِ فِي الْخِلْقَةِ، هَذَا كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَتَى انْحَنَى بِحَيْثُ يَكُونُ إلَى حَدِّ الرُّكُوعِ أَقْرَبُ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا، وَلَا تَصِحُّ تَكْبِيرَتُهُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي فَصْلِ الْقِيَامِ.
الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَحَدُهُمَا مَعْنَاهُ اللَّهُ كَبِيرٌ قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ أَفْعَلُ نَعْتًا فِي حُرُوفٍ مَشْهُورَةٍ كَقَوْلِهِمْ هَذَا أَمْرٌ أَهْوَنُ أَيْ هَيِّنٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا غَيْرُ مُنْكَرٍ، وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرٍ، كَقَوْلِك: هُوَ أَعَزُّ عَزِيزٍ كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:

إنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا                             بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ


أَرَادَ دَعَائِمَهُ أَعَزَّ عَزِيزٍ، وَأَطْوَلَ طَوِيلٍ، وَقِيلَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: مَعْنَاهُ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، أَوْ يُذْكَرَ بِغَيْرِ الْمَدْحِ وَالتَّمْجِيدِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، قَالَ صَاحِبُ "التَّحْرِيرِ" فِي "شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ" : هَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّا لَا نُجَوِّزُ اللَّهُ كَبِيرٌ أَوْ الْكَبِيرُ بَدَلَ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا فَنَصَبَ كَبِيرًا عَلَى تَقْدِيرِ كَبَّرْتُ كَبِيرًا.
الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ "التَّلْخِيصِ" وَتَابَعَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَنَقَلَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي"الْبَسِيطِ" وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الْأَصْحَابِ كَافَّةً: لَوْ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِالْأَوْتَارِ1 وَبَطَلَتْ بِالْأَشْفَاعِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَنْوِيَ بِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَنْوِي الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ، فَبِالْأُولَى دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَبِالثَّانِيَةِ خَرَجَ مِنْهَا، وَبَطَلَتْ. وَبِالثَّالِثَةِ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَبِالرَّابِعَةِ خَرَجَ وَبِالْخَامِسَةِ دَخَلَ وَبِالسَّادِسَةِ خَرَجَ، وَهَكَذَا أَبَدًا؛ لِأَنَّ مَنْ افْتَتَحَ صَلَاةً ثُمَّ افْتَتَحَ أُخْرَى بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قَطْعَ الْأُولَى. فَلَوْ نَوَى بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ أَوْ الْخُرُوجَ مِنْهَا فَبِالنِّيَّةِ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ وَبِالتَّكْبِيرِ يَدْخُلُ فَلَوْ لَمْ يَنْوِ بِالتَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا افْتِتَاحًا وَلَا دُخُولًا وَلَا خُرُوجًا صَحَّ دُخُولُهُ بِالْأُولَى، وَيَكُونُ بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ ذِكْرًا لَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، بَلْ حُكْمُ بَاقِي الْأَذْكَارِ.
الرَّابِعَةُ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَوْ أَخَلَّ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ التَّكْبِيرِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأوتار الأشفاع جمعا وتر وشفع ليسا مصدرين ومصدرهما الإيتار والإشفاع (ط).

 

ج / 3 ص -181-       لَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْبِيرٍ.
الْخَامِسَةُ: الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِسُرْعَةٍ، وَلَا يَمُدَّهَا لِئَلَّا تَزُولَ النِّيَّةُ. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي وَجْهًا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَدُّهَا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: يَرْفَعُ الْإِمَامُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَيَمُدُّهُ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، قَالَ الْأَصْحَابُ: أَرَادَ بِالتَّمْطِيطِ الْمَدَّ وَبِالتَّحْرِيفِ إسْقَاطَ بَعْضِ الْحُرُوفِ كَالرَّاءِ مِنْ أَكْبَرَ، وَأَمَّا تَكْبِيرَاتُ الِانْتِقَالَاتِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَفِيهَا قَوْلَانِ، الْقَدِيمُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَمُدَّهَا وَالْجَدِيدُ الصَّحِيحُ يُسْتَحَبُّ مَدُّهَا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الرُّكْنِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ حَتَّى لَا يَخْلُو جُزْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ مِنْ ذِكْرٍ.
السَّادِسَةُ: قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُعَلِّمَ مَمْلُوكَهُ التَّكْبِيرَ وَسَائِرَ الْأَذْكَارِ الْمَفْرُوضَةِ وَمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ، أَوْ يُخَلِّيَهُ حَتَّى يَتَعَلَّمَ، وَيَلْزَمُ الْأَبَ تَعْلِيمُ وَلَدِهِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ تَعْلِيمِ الْوَالِدِ فِي مُقَدَّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ وَفِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
السَّابِعَةُ: يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّكْبِيرَ وَسَائِرَ الْأَذْكَارِ الْوَاجِبَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ.
الثَّامِنَةُ: فِي بَيَانِ مَا يُتَرْجِمُ عَنْهُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَمَا لَا يُتَرْجِمُ، أَمَّا الْفَاتِحَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ تَرْجَمَتُهُ بِالْعَجَمِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يُذْهِبُ الْإِعْجَازَ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا إعْجَازَ فِيهِ. وَأَمَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهِ وَعَلَى الْآلِ إذَا أَوْجَبْنَاهَا فَيَجُوزُ تَرْجَمَتُهَا لِلْعَاجِزِ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَادِرِ. وَأَمَّا مَا عَدَا الْأَلْفَاظِ الْوَاجِبَةِ فَقِسْمَانِ، دُعَاءٌ وَغَيْرُهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: تَجُوزُ التَّرْجَمَةُ لِلْعَاجِزِ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا تَجُوزُ لِلْقَادِرِ، فَإِنْ تُرْجِمَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَالثَّانِي: تَجُوزُ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: لَا تَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَرِعَ دَعْوَةً غَيْرَ مَأْثُورَةٍ وَيَأْتِي بِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَتَبْطُلُ بِهَا الصَّلَاةُ بِخِلَافِ مَا لَوْ اخْتَرَعَ دَعْوَةً بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَذْكَارِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ وَالْقُنُوتِ وَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ فَإِنْ جَوَّزْنَا الدُّعَاءَ بِالْعَجَمِيَّةِ فَهَذِهِ أَوْلَى وَإِلَّا فَفِي جَوَازِهَا لِلْعَاجِزِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا: يَجُوزُ وَالثَّانِي: لَا وَالثَّالِثُ: يُتَرْجِمُ لِمَا يُجْبَرُ بِالسُّجُودِ دُونَ غَيْرِهِ1 وَذَكَرَ صَاحِبُ "الْحَاوِي" أَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ أَتَى بِكُلِّ الْأَذْكَارِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا أَتَى بِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ فَمَا كَانَ وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ لَمْ يُجْزِهِ وَمَا كَانَ سُنَّةً كَالتَّسْبِيحِ وَالِافْتِتَاحِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ.
فرع: إذَا أَرَادَ الْكَافِرُ الْإِسْلَامَ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ بِلِسَانِهِ وَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَهَلْ يَصِحُّ إسْلَامُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ صِحَّتُهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ "الْحَاوِي" وَآخَرُونَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقع هنا النسخ "هذا في رتب المذهب" ولم نجد لها مذاقا فليحرر (ش).

 

ج / 3 ص -182-       لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا، وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا: يَصِيرُ، وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ، وَقَاسَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَفَرَّقَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ الْإِخْبَارُ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَتَعَبَّدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِلَفْظٍ فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ.
التَّاسِعَةُ: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي التَّكْبِيرِ بِالْعَجَمِيَّةِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَتَجُوزُ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجُوزُ التَّرْجَمَةُ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَلِغَيْرِهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَبِحَدِيثِ "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" وَقِيَاسًا عَلَى إسْلَامِ الْكَافِرِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَكَانَ يُكَبِّرُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ قَالُوا: التَّكْبِيرَةُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ بَلْ شَرْطٌ خَارِجٌ عَنْهَا: قُلْنَا: قَدْ سَبَقَ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّهَا مِنْ الصَّلَاةِ. وَالْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِالْآيَةِ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُمْ فِيهَا، وَعَنْ حَدِيثِ "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّكْبِيرِ الْمَعْهُودِ، وَعَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْعَجَمِيَّةِ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ.
الْعَاشِرَةُ: تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَتَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ الْأَكْبَرُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد: لَا تَنْعَقِدُ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ كَمَا سَبَقَ وَلَا تَنْعَقِدُ بِغَيْرِ هَذَيْنِ، فَلَوْ قَالَ: اللَّهُ أَجَلُّ، أَوْ اللَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ اللَّهُ الْكَبِيرُ وَنَحْوُهَا لَمْ تَنْعَقِدْ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: تَنْعَقِدُ بِكُلِّ ذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ تَعْظِيمَ الله تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَجَلُّ، أَوْ اللَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ الله وَبِأَيِّ أَسْمَائِهِ شَاءَ كَقَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ أَوْ أَجَلُّ، أَوْ الرَّحِيمُ أَكْبَرُ أَوْ أَعْظَمُ، وَالْقُدُّوسُ أَوْ الرَّبُّ أَعْظَمُ وَنَحْوُهَا، وَلَا تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ: يَا اللَّهُ ارْحَمْنِي، أَوْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ بِالله أَسْتَعِينُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَنْعَقِدُ بِأَلْفَاظِ التَّكْبِيرِ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ اللَّهُ الْأَكْبَرُ أَوْ اللَّهُ الْكَبِيرُ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُ أَوْ الرَّحْمَنُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ فَفِي انْعِقَادِ صَلَاتِهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ الله تَعَالَى
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] وَلَمْ يَخُصَّ ذِكْرًا. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما "كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَمُسْلِمٌ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِيهِ تَعْظِيمٌ فَأَجْزَأَ كَالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِلَفْظٍ كَالْخُطْبَةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" وَلَيْسَ هُوَ تَمَسُّكًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ بَلْ بِمَنْطُوقٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، وَأَنَّ تَحْرِيمَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا سَبَقَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ سَبَقَ هُوَ وَجَوَابُهُ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْآيَةِ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَعَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه

 

ج / 3 ص -183-       أَنَّ الْمُرَادَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ "فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا". وَبَيَّنَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: ذِكْرٌ فِيهِ تَعْظِيمٌ أَنَّهُ قِيَاسٌ يُخَالِفُ السُّنَّةَ، وَلِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَالْجَوَابُ عَنْ الْخُطْبَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَوْعِظَةُ وَيَحْصُلُ بِكُلِّ لَفْظٍ، وَهُنَا الْمُرَادُ الْوَصْفُ بِآكَدِ الصِّفَاتِ، وَلَيْسَ غَيْرُ قَوْلِنَا اللَّهُ أَكْبَرُ فِي مَعْنَاهُ.
وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِحَدِيثِ "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" وَهُوَ حَاصِلٌ بِقَوْلِنَا اللَّهُ الْكَبِيرُ وَلِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ. دَلِيلُنَا مَا سَبَقَ. وَأَمَّا حَدِيثُ "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ وَهُوَ اللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ بِمَعْنَاهُ فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ فِي اللَّهُ أَكْبَرُ مُبَالَغَةً وَتَعْظِيمًا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ، وَاحْتُجَّ لِمَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ بِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُ أَكْبَرُ فَلَا يَجُوزُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ كَمَا لَا يَجُوزُ اللَّهُ الْكَبِيرُ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَذَانِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ. دَلِيلُنَا أَنَّ قَوْلَهُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ هُوَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَزِيَادَةٌ لَا تُغَيِّرُ فَجَازَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَالُوا: يَجُوزُ اللَّهُ الْكَبِيرُ الْأَكْبَرُ الْمَوْضُوعُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَا يَجُوزُ فِي الْأَذَانِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: لَا نُسَلِّمُهُ بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ كَالصَّلَاةِ، وَالله أَعْلَمُ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَاحِدَةٌ وَلَا تُشْرَعُ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيُّ عَنْ الرَّافِضَةِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى دَلِيلٍ عَلَى رَدِّهِ، فَلَوْ كَبَّرَ ثَلَاثًا أَوْ كَبَّرَ1 فَفِيهِ التَّفْصِيلُ السَّابِقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ فِيهِ وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ الزَّيْدِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالزَّيْدِيَّةُ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ، وَنَقَلَ الْمُتَوَلِّي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الرَّفْعَ، وَرَأَيْتُ أَنَا فِيمَا عَلِقَ مِنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ الْإِمَامَ الْبَارِعَ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ سَيَّارٍ الْمَرْوَزِيَّ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا فِي طَبَقَةِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: إذَا لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَوَجَبَ الرَّفْعُ بِخِلَافِ بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ لَا يَجِبُ الرَّفْعُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض الأصل، ولعله أربعا أو أكثر، يعني فيه التفصيل السابق في الأشفاع والأوتار (ط).

 

ج / 3 ص -184-       مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ.
َأَمَّا مَحَلُّ الرَّفْعِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَ "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ" وَالْأَصْحَابُ: يَرْفَعُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَالْمُرَادُ أَنْ تُحَاذِي رَاحَتَاهُ مَنْكِبَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَرْفَعُهُمَا بِحَيْثُ يُحَاذِي أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ أَعْلَى أُذُنَيْهِ، وَإِبْهَامَاهُ شَحْمَتِي أُذُنَيْهِ وَرَاحَتَاهُ مَنْكِبَيْهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ رحمهم الله: يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَهَكَذَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ، وَقَدْ جَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَا نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَآخَرُونَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ بِهَذَا، قَالَ الرَّافِعِيُّ وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَجِيزِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فَمُنْكَرٌ لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ. وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْفَعُ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ: وَالثَّانِي: حَذْوَ الْأُذُنَيْنِ، وَهَذَا الثَّانِي غَرِيبٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَدُّوهُ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ رَوَى الرَّفْعَ إلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ مَعَ ابْنِ عُمَرَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ" وَفِي رِوَايَةٍ "فُرُوعَ أُذُنَيْهِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ نَحْوُهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد فِي حَدِيثِ وَائِلٍ "رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا حِيَالَ مَنْكِبَيْهِ، وَحَاذَى بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ" لَكِنَّ إسْنَادَهَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. وَقِيلَ أَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رحمه الله - جَمَعَ بَيْنَ رِوَايَةِ الْمَنْكِبَيْنِ وَرِوَايَةِ الْأُذُنَيْنِ1 عَلَى مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا عَنْ وَائِلٍ: "رَفَعَ إبْهَامَيْهِ إلَى شَحْمَتِي أُذُنَيْهِ" وَالْمَذْهَبُ الرَّفْعُ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَرَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ أَصَحُّ إسْنَادًا وَأَكْثَرُ رِوَايَةً؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ عَمَّنْ رَوَى إلَى مُحَاذَاةِ الْأُذُنَيْنِ بِخِلَافِ مَنْ رَوَى حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَحَلِّ رَفْعِ الْيَدَيْنِ: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا الْمَشْهُورَ أَنَّهُ يَرْفَعُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ رضي الله عنهما وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ حَذْوَ أُذُنَيْهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَا فَضِيلَةَ لِأَحَدِهِمَا، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَحَكَى الْعُبَيْدِيُّ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى تَجَاوَزَ بِهِمَا رَأْسَهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يَنْشُرُ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ نَشْرًا".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ وَبَالَغَ فِي تَضْعِيفِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِحْبَابِ تَفْرِيقِ الْأَصَابِعِ هُنَا فَقَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ بِاسْتِحْبَابِهِ، وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ مُطْلَقًا، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ لَا يَتَكَلَّفُ الضَّمَّ وَلَا التَّفْرِيقَ، بَلْ يَتْرُكُهَا مَنْشُورَةً عَلَى هَيْئَتِهَا. وَقَالَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ما راجعه الغزالي في الإحياء في ربع العبادات (ط).

 

ج / 3 ص -185-       الرَّافِعِيُّ يُفَرِّقُ تَفْرِيقًا وَسَطًا، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: يُسْتَحَبُّ التَّفْرِيقُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَمَرْنَاهُ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ.
فرع: لِلْأَصَابِعِ فِي الصَّلَاةِ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: حَالَةُ الرَّفْعِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ وَالْقِيَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ اسْتِحْبَابُ التَّفْرِيقِ فِيهَا وَالثَّانِي: حَالَةُ الْقِيَامِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ فَلَا تَفْرِيقَ فِيهَا الثَّالِثُ: حَالَةُ الرُّكُوعِ يُسْتَحَبُّ تَفْرِيقُهَا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ الرَّابِعُ: حَالَةُ السُّجُودِ يُسْتَحَبُّ ضَمُّهَا وَتَوْجِيهُهَا إلَى الْقِبْلَةِ الْخَامِسُ: حَالَةُ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَفِيهَا وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: أَنَّهَا كَحَالَةِ السُّجُودِ وَالثَّانِي: يَتْرُكُهَا عَلَى هَيْئَتِهَا وَلَا يَتَكَلَّفُ ضَمَّهَا السَّادِسُ: حَالَةُ التَّشَهُّدِ بِالْيُمْنَى مَقْبُوضَةَ الْأَصَابِعِ إلَّا الْمُسَبِّحَةَ وَالْإِبْهَامَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَالْيُسْرَى مَبْسُوطَةً وَفِيهَا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ فِي حَالَةِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، الصَّحِيحُ يَضُمُّهَا وَيُوَجِّهُهَا لِلْقِبْلَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الرَّفْعِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ انْتِهَائِهِ، فَإِنْ سَبَقَتْ الْيَدُ أَثْبَتَهَا مَرْفُوعَةً حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ التَّكْبِيرِ،؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ لِلتَّكْبِيرِ فَكَانَ مَعَهُ".
الشرح:
فِي وَقْتِ اسْتِحْبَابِ الرَّفْعِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا هَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الرَّفْعِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ، وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ انْتِهَائِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" : يَرْفَعُ مَعَ افْتِتَاحِ التَّكْبِيرِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرَّفْعِ مَعَ انْقِضَائِهِ وَيُثْبِتُ يَدَيْهِ مَرْفُوعَةً حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ التَّكْبِيرِ كُلِّهِ. قَالَ: فَإِنْ أَثْبَتَ يَدَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ التَّكْبِيرِ مَرْفُوعَتَيْنِ قَلِيلًا لَمْ يَضُرَّهُ وَلَا آمُرُهُ بِهِ، هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "التَّعْلِيقِ" : لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالرَّفْعِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَحُطُّ يَدَيْهِ قَبْلَ انْتِهَاءِ التَّكْبِيرِ.
وَالثَّانِي: يَرْفَعُ بِلَا تَكْبِيرٍ ثُمَّ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ مَعَ إرْسَالِ الْيَدَيْنِ وَيُنْهِيهِ مَعَ انْتِهَائِهِ.
وَالثَّالِثُ: يَرْفَعُ بِلَا تَكْبِيرٍ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَدَاهُ قَارَّتَانِ، ثُمَّ يُرْسِلُهُمَا بَعْدَ فَرَاغِ التَّكْبِيرِ، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ
وَالرَّابِعُ: يَبْتَدِئُ بِهِمَا مَعًا وَيُنْهِي التَّكْبِيرَ مَعَ انْتِهَاءِ الْإِرْسَالِ.
وَالْخَامِسُ: وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَلَا اسْتِحْبَابَ فِي "الِانْتِهَاءِ"، فَإِنْ فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ قَبْلَ تَمَامِ الرَّفْعِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَتَمَّ الْبَاقِي، وَإِنْ فَرَغَ مِنْهُمَا حَطَّ يَدَيْهِ وَلَمْ يَسْتَدِمْ الرَّفْعَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَحَادِيثُ يُسْتَدَلُّ بِهَا لِهَذِهِ الْأَوْجُهِ كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا "مِنْهَا" عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ "يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ "كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ" وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ "ثُمَّ كَبَّرَ وَهُمَا كَذَلِكَ" وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ بِكَسْرِ الْقَافِ أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ

 

ج / 3 ص -186-       رضي الله عنه إذَا صَلَّى كَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ هَكَذَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ "كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ" وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُمَا "يَدَيْهِ" أَوْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ أَحَدِهِمَا أَوْ رَفْعُهُمَا إلَى دُونِ الْمَنْكِبِ رَفَعَ مَا أَمْكَنَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَإِنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ إذَا رَفَعَ الْيَدَ جَاوَزَ الْمَنْكِبَ رَفَعَ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَبِزِيَادَةٍ هُوَ مَغْلُوبٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَسِيَ الرَّفْعَ وَذَكَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ التَّكْبِيرِ أَتَى بِهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَاقٍ.
الشَّرْحُ:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا مِنْ الْمِعْصَمِ رَفَعَ السَّاعِدَ، قَالَ الْبَغَوِيّ فَإِنْ قُطِعَ مِنْ الْمِرْفَقِ رَفَعَ الْعَضُدَ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالثَّانِي: لَا يَرْفَعُ ؛ لِأَنَّ الْعَضُدَ لَا يُرْفَعُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَجَزَمَ الْمُتَوَلِّي بِرَفْعِ الْعَضُدِ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوعِ أَوْ نَقْصٍ أَتَى بِالْمُمْكِنِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْرُوعِ أَتَى بِالزِّيَادَةِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً مِنْ أَصْلِهَا أَوْ شَلَّاءَ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهَا رَفَعَ الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا صَحِيحَةً وَالْأُخْرَى عَلِيلَةً فَعَلَ بِالْعَلِيلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَرَفَعَ الصَّحِيحَةَ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" ، وَلَوْ تَرَكَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا حَتَّى أَتَى بِبَعْضِ التَّكْبِيرِ رَفَعَهُمَا فِي الْبَاقِي، فَإِنْ أَتَمَّ التَّكْبِيرَ لَمْ يَرْفَعْ بَعْدَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
فرع: فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالرَّفْعِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي "الْأُمِّ" اُسْتُحِبَّ الرَّفْعُ لِكُلِّ مُصَلٍّ إمَامٍ أَوْ مَأْمُومٍ أَوْ مُنْفَرِدٍ أَوْ امْرَأَةٍ، قَالَ: وَكُلُّ مَا قُلْتُ يَصْنَعُهُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَمَرْتُهُ بِصُنْعِهِ فِي تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، وَفِي قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَ، قَالَ: وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ نَافِلَةٍ وَفَرِيضَةٍ سَوَاءٌ، قَالَ: وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَسُجُودِ الْقُرْآنِ وَسُجُودِ الشُّكْرِ، قَالَ: وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ صَلَّى أَوْ سَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ أَوْ مُضْطَجِعٌ يُومِئُ إيمَاءً، فِي أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ، قَالَ: وَإِنْ تَرَكَ رَفْعَ يَدَيْهِ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرْتُهُ بِهِ أَوْ رَفَعَهُمَا حَيْثُ لَمْ آمُرُهُ فِي فَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ جِنَازَةٍ كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةُ صَلَاةٍ وَلَا سُجُودُ سَهْوٍ عَمَدَ ذَلِكَ أَوْ نَسِيَهُ أَوْ جَهِلَهُ؛ لِأَنَّهُ هَيْئَةٌ فِي الْعَمَلِ، وَهَكَذَا أَقُولُ فِي كُلِّ هَيْئَةِ عَمَلٍ تَرَكَهَا، هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ كَفُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ عِنْدَ الرَّفْعِ، قَالَ الْبَغَوِيّ وَالسُّنَّةُ كَشْفُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرَّفْعِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي كُلِّ هَذَا.
فرع: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحِكْمَةِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ، فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ صَلَّى بِجَنْبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَرَفَعَ الشَّافِعِيُّ يَدَيْهِ لِلرُّكُوعِ وَلِلرَّفْعِ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: لِمَ رَفَعْتَ يَدَيْكَ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إعْظَامًا لِجَلَالِ اللهِ تَعَالَى، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَرَجَاءً لِثَوَابِ اللهِ.

 

ج / 3 ص -187-       وَقَالَ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ التَّحْرِيرُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ إشَارَةٌ إلَى التَّوْحِيدِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ الْمَالِكِيُّ فِي "شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" : حِكْمَةُ الرَّفْعِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ أَنْ يَرَاهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ فَيَعْلَمُ دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْتَدِي بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِسْلَامٌ وَانْقِيَادٌ، وَكَانَ الْأَسِيرُ إذَا غُلِبَ مَدَّ يَدَيْهِ عَلَامَةً لِاسْتِسْلَامِهِ، وَقِيلَ: هُوَ إشَارَةٌ إلَى طَرْحِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى صَلَاتِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى - فَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الْيَمِينَ عَلَى الْيَسَارِ فَيَضَعَ الْيَمِينَ عَلَى بَعْضِ الْكَفِّ وَبَعْضِ الرُّسْغِ، لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجُرٍ قَالَ: "قُلْتُ لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُصَلِّي فَنَظَرْتُ إلَيْهِ [وَقَدْ] وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَهُمَا تَحْتَ الصَّدْرِ لِمَا رَوَى وَائِلٌ قَالَ
"رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى"
الشرح:
أَمَّا حَدِيثُ وَائِلٍ فَسَنُبَيِّنُهُ فِي فَرْعَيْ مَسْأَلَتَيْ الْخِلَافَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْيَدُ الْيَسَارُ - فَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا - لُغَتَانِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَالرُّسْغُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ - وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ بِضَمِّ السِّينِ وَجَمْعُهُ أَرْسَاغٌ، وَيُقَال رُصْغٌ بِالصَّادِ، وَكَذَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالسِّينُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَهُوَ الْمَفْصِلُ بَيْنَ الْكَفِّ وَالسَّاعِدِ. وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ - بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا جِيمٌ سَاكِنَةٌ - وَكَانَ وَائِلٌ مِنْ كِبَارِ الْعَرَبِ وَأَوْلَادِ مُلُوكِ حِمْيَرٍ، كُنْيَتُهُ أَبُو هُنَيْدَةَ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَعَاشَ إلَى أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: السُّنَّةُ أَنْ يَحُطَّ يَدَيْهِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، وَيَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَيَقْبِضَ بِكَفِّ الْيُمْنَى كُوعَ الْيُسْرَى وَبَعْضَ رُسْغِهَا وَسَاعِدِهَا، قَالَ الْقَفَّالُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ بَسْطِ أَصَابِعِ الْيُمْنَى فِي عَرْضِ الْمَفْصِلِ وَبَيْنَ نَشْرِهَا فِي صَوْبِ السَّاعِدِ، وَيَجْعَلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ وَفَوْقَ سُرَّتِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَ يَدَيْهِ هَلْ يُرْسِلُهُمَا إرْسَالًا بَلِيغًا، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ رَفْعَهُمَا إلَى تَحْتِ صَدْرِهِ وَوَضْعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى أَمْ يُرْسِلُهُمَا إرْسَالًا خَفِيفًا إلَى تَحْتِ صَدْرِهِ فَقَطْ ثُمَّ يَضَعُ؟ قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ فِي تَدْرِيبِهِ وَجَزَمَ فِي الْخُلَاصَةِ بِالْأَوَّلِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَآخَرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَآخَرُونَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ: أَنَّهُ يُرْسِلُ يَدَيْهِ وَلَا يَضَعُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يُرْسِلُهُمَا، فَإِنْ طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى

 

ج / 3 ص -188-       الْيُسْرَى لِلِاسْتِرَاحَةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَضْعِ وَالْإِرْسَالِ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ الْوَضْعَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ الْإِرْسَالَ وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ جُمْهُورِهِمْ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَذْكُرْ وَضْعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ
"كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ فِي الصَّلَاةِ" قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعْلَمُهُ إلَّا يُنْمِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ صَرِيحَةٌ فِي الرَّفْعِ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ أَنَّهُ "رَأَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ أَيْضًا قَالَ: "قُلْتُ لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُصَلِّي فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ فَرَفَعَ يَدَهُ حَتَّى حَاذَى أُذُنَيْهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا. الرُّصْغِ بِالصَّادِ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
"أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَعَنْ هُلْبٍ الطَّائِيِّ قَالَ "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: "صَفُّ الْقَدَمَيْنِ وَوَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ مِنْ السُّنَّةِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "ثَلَاثَةٌ مِنْ النُّبُوَّةِ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: هَذَا صَحِيحٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ قُلْتُ: مُحَمَّدٌ هَذَا مَجْهُولٌ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ عَائِشَةَ، وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَبْلَغُ كِفَايَةٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ أَسْلَمُ لَهُ مِنْ الْعَبَثِ وَأَحْسَنُ فِي التَّوَاضُعِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعَلِّمْهُ إلَّا الْوَاجِبَاتِ فَقَطْ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي مَحَلِّ مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ جَعْلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ فَوْقَ سُرَّتِهِ وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ يَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا سَبَقَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: فَوْقَ السُّرَّةِ ، وَالثَّانِيَةُ تَحْتَهَا، وَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ هَاتَانِ، وَالثَّالِثَةُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَا تَفْضِيلَ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي غَيْرِ الْأَشْرَافِ أَظُنُّهُ فِي الْأَوْسَطِ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: تَحْتَ السُّرَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:
"مِنْ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ" وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ" رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا

 

ج / 3 ص -189-       بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْوَاسِطِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ لَمْ يَنْظُرْ إلَّا إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا غَرِيبٌ لَا أَعْرِفُهُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَحَادِيثَ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَغَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا يُلْهِي وَكَرَاهَةِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَتَقْرِيبِ نَظَرِهِ وَقَصْرِهِ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ فِي ضَبْطِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ يَجْعَلُ نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَالثَّانِي: وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي يَكُونُ نَظَرُهُ فِي الْقِيَامِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَفِي الرُّكُوعِ إلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ، وَفِي السُّجُودِ إلَى أَنْفِهِ، وَفِي الْقُعُودِ إلَى حِجْرِهِ؛ لِأَنَّ امْتِدَادَ الْبَصَرِ يُلْهِي فَإِذَا قَصَرَهُ كَانَ أَوْلَى. وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَرْدِيدَ الْبَصَرِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَيَمْنَعُ كَمَالَ الْخُشُوعِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ وَزِيَادَاتٌ سَنَبْسُطُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ بَابِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ.
فرع: أَمَّا تَغْمِيضُ الْعَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي بَابِ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ: يُكْرَهُ أَنْ يُغْمِضَ الْمُصَلِّي عَيْنَيْهِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ.
دَلِيلُنَا أَنَّ الثَّوْرِيَّ قَالَ: إنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَلِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَغْمِيضُ الْعَيْنِ فَكَذَا تَغْمِيضُ الْعَيْنَيْنِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْعَبْدَرِيُّ وَلَمْ أَرَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا؛ لِأَنَّهُ يُجْمِعُ الْخُشُوعَ وَحُضُورَ الْقَلْبِ، وَيَمْنَعُ مِنْ إرْسَالِ النَّظَرِ وَتَفْرِيقِ الذِّهْنِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا كَرِهَا تَغْمِيضَ الْعَيْنَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِيهِ حَدِيثٌ قَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَقْرَأُ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ وَهُوَ سُنَّةٌ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ1 قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق كان إذا أقام للصلاة، وفي بعض النسخ (لا يهديني لأحسنها) و (والخير كله في يديك) وفي بعض النسخ من المهذب حذف (أنابك وإليك) (ط).

 

ج / 3 ص -190-       وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْك" [كَمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ "فَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُهُ لَا يَقُولُ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ].
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" نَقَلْتُهُ، وَفِي نُسَخِ الْمُهَذَّبِ مُخَالَفَةٌ لَهُ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ مِنْهَا أَنَّهُ فِي "الْمُهَذَّبِ" فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الْمَكْتُوبَةِ، وَاَلَّذِي فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ أَعَمُّ، وَقَوْلُهُ: وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَكَذَا هُوَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفِي "الْمُهَذَّبِ" أَنَّ لَفْظَةَ مِنْ لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ ثَابِتَةٌ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي بَعْضِهَا: وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي بَعْضِهَا: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" : "رَوَاهُ أَكْثَرُهُمْ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" وَسَقَطَ فِي الْمُهَذَّبِ قَوْلُهُ: أَنْتَ رَبِّي. وَيَا لَيْتَهُ نَقَلَهُ مِنْ "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" .
وَأَمَّا تَفْسِيرُ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فَتَحْتَمِلُ جُزْءًا كَبِيرًا لَكِنِّي أُشِيرُ إلَى مَقَاصِدِهِ رَمْزًا؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْمُورٌ بِتَدَبُّرِ الْأَذْكَارِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَاهَا لِيُمْكِنَهُ تَدَبُّرُ مَعَانِيهَا.
قَوْلُهُ: إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَتَنَاوَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، قَوْلُهُ: وَجَّهْت وَجْهِي. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهَا أَقْبَلْتُ بِوَجْهِي. وَقِيلَ قَصَدْتُ بِعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي إلَيْهِ، وَيَجُوزُ فِي وَجْهِي إلَيْهِ إسْكَانُ الْيَاءِ وَفَتْحُهَا، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى الْإِسْكَانِ. وَقَوْلُهُ "فَطَرَ السَّمَوَاتِ" أَيْ ابْتَدَأَ خَلْقَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَجَمَعَ السَّمَوَاتِ دُونَ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَتْ سَبْعًا كَالسَّمَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ جِنْسَ الْأَرَضِينَ، وَجَمَعَ السَّمَوَاتِ لِشَرَفِهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ السَّمَوَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَرَضِينَ، وَقِيلَ الْأَرْضُونَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَدْفِنُهُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَوْلُهُ "حَنِيفًا" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَآخَرُونَ: أَيْ مُسْتَقِيمًا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْأَكْثَرُونَ: الْحَنِيفُ الْمَائِلُ. وَمِنْهُ قِيلَ أَحْنَفَ الرَّجُلُ، قَالُوا: وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَائِلُ إلَى الْحَقِّ، وَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُخَالِفِيهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْحَنِيفُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم وَانْتَصَبَ حَنِيفًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ وَجَّهْتُ وَجْهِي فِي حَالِ حَنِيفِيَّتِي، وَقَوْلُهُ "وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ" بَيَانٌ لِلْحَنِيفِ وَإِيضَاحٌ لِمَعْنَاهُ، وَالْمُشْرِكُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ كَافِرٍ مِنْ عَابِدِ وَثَنٍ أَوْ صَنَمٍ، وَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ وَمَجُوسِيٍّ وَزِنْدِيقٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ "إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الصَّلَاةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِهَا. قَالَ: وَالنُّسُكُ الْعِبَادَةُ، وَالنَّاسِكُ الَّذِي يُخْلِصُ عِبَادَتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ مِنْ النَّسِيكَةِ وَهِيَ النَّقْرَةُ الْخَالِصَةُ الْمُذَابَةُ الْمُصَفَّاةُ مِنْ كُلِّ خَلْطٍ، وَالنَّسِيكَةُ أَيْضًا الْقُرْبَانُ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى الله تَعَالَى، وَقِيلَ: النُّسُكُ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ. وَقَوْلُهُ "وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي" أَيْ حَيَاتِي وَمَمَاتِي، وَيَجُوزُ فِيهِمَا فَتْحُ الْيَاءِ وَإِسْكَانُهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى فَتْحِ مَحْيَايَ وَإِسْكَانِ مَمَاتِي لِلَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذِهِ لَامُ الْإِضَافَةِ وَلَهَا مَعْنَيَانِ، الْمِلْكُ كَقَوْلِكَ: الْمَالُ لِزَيْدٍ، وَالِاسْتِحْقَاقُ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ، وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ

 

ج / 3 ص -191-       هُنَا.
وَقَوْلُهُ "للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" فِي مَعْنَى رَبٍّ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَالِكُ، وَالسَّيِّدُ، وَالْمُدَبِّرُ، وَالْمُرَبِّي. قَالَ: فَإِنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنَّهُ رَبٌّ أَوْ مَالِكٌ أَوْ سَيِّدٌ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَإِنْ قِيلَ؛ لِأَنَّهُ مُدَبِّرُ خَلْقِهِ أَوْ مُرَبِّيهِمْ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ، قَالَ: وَمَتَى أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ الْأَلْفَ وَاللَّامَ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالله تَعَالَى دُونَ خَلْقِهِ، وَإِنْ حَذَفْتَهَا كَانَ مُشْتَرَكًا فَتَقُولُ: رَبُّ الْعَالَمِينَ وَرَبُّ الدَّارِ، وَأَمَّا الْعَالَمُونَ فَجَمْعُ عَالَمٍ، وَالْعَالَمُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَتِهِ، فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرُونَ: الْعَالَمُ كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُمْ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ. وَقِيلَ: هُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَقِيلَ: بَنُو آدَمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ وَأَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِ الْعَالَمِ فَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَامَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ دَلَالَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى وُجُودِ صَانِعِهِ، فَالْعَالَمُ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَدَلِيلُهُ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِمْ الْعَالَمُ مُحْدَثٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَدَلِيلُهُ مِنْ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] قَالَ: "رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا" وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ، فَالْعَالَمُونَ عَلَى هَذَا مَنْ يَعْقِلُ خَاصَّةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْهَيْثَمِ وَالْأَزْهَرِيُّ لِقَوْلِ الله تَعَالَى:{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1]. قَوْلُهُ "اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: فِيهِ مَذْهَبَانِ لِلنَّحْوِيِّينَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ يَا اللَّهُ آمِنَّا بِخَيْرٍ، فَكَثُرَتْ فِي الْكَلَامِ وَاخْتَلَطَتْ، فَقِيلَ: اللَّهُمَّ وَتُرِكَتْ مَفْتُوحَةَ الْمِيمِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: مَعْنَاهُ يَا اللَّهُ وَالْمِيمُ الْمُشَدَّدَةُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ النِّدَاءِ، وَالْمِيمُ مَفْتُوحَةٌ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الْمِيمِ قَبْلَهَا وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُقَالُ: يَا اللَّهُمَّ، وَقَوْلُهُ: أَنْتَ الْمَلِكُ أَيْ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
قَوْلُهُ "وَأَنَا عَبْدُكَ" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَيْ إنِّي لَا أَعْبُدُ غَيْرَكَ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَا مُعْتَرِفٌ بِأَنَّكَ مَالِكِي وَمُدَبَّرِي وَحُكْمُكَ نَافِذٌ فِي، قَوْلُهُ "ظَلَمْتُ نَفْسِي" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ قَدَّمَهُ عَلَى سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ عليهما السلام
{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [لأعراف: 23] قَوْلُهُ: "اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ" أَيْ أَرْشِدْنِي لِصَوَابِهَا، وَوَفِّقْنِي لِلتَّخَلُّقِ بِهِ وَسَيِّئُهَا: قَبِيحُهَا.
قَوْلُهُ "لَبَّيْكَ" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَآخَرُونَ: مَعْنَاهُ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ إقَامَةً بَعْدَ إقَامَةٍ، يُقَالُ: لَبَّ بِالْمَكَانِ لَبًّا وَأَلَبَّ إلْبَابًا أَقَامَ بِهِ، وَأَصْلُ لَبَّيْكَ لَبَّيْنَ، فَحُذِفَتْ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، وَقَوْلُ "وَسَعْدَيْكَ" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَيْ مُسَاعَدَةً لِأَمْرِكَ بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ، وَمُتَابَعَةً بَعْدَ مُتَابَعَةٍ لِدِينِكَ الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ بَعْدَ مُتَابَعَةٍ.
قَوْلُهُ "وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ" فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك، قَالَهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ.

 

ج / 3 ص -192-       وَالثَّانِي: حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ الْمُزَنِيِّ وَقَالَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ مَعْنَاهُ: لَا يُضَافُ إلَيْكَ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَلَا يُقَالُ: يَا خَالِقَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَيَا رَبَّ الشَّرِّ وَنَحْوُ هَذَا، وَإِنْ كَانَ يُقَالُ: يَا خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ الشَّرُّ فِي الْعُمُومِ.
وَالثَّالِثُ: مَعْنَاهُ وَالشَّرُّ لَا يَصْعَدُ إلَيْكَ وَإِنَّمَا يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَالرَّابِعُ: مَعْنَاهُ وَالشَّرُّ لَيْسَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْكَ فَإِنَّك خَلَقْتَهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ.
وَالْخَامِسُ: حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ كَقَوْلِهِ فُلَانٌ إلَى بَنِي فُلَانٍ، وَإِذَا كَانَ عِدَادُهُ فِيهِمْ أَوْ صَفُّوهُ إلَيْهِمْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ جَمِيعًا اللَّهُ فَاعِلُهُمَا وَلَا إحْدَاثَ لِلْعَبْدِ فِيهِمَا، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: يَخْلُقُهُمَا وَيَخْتَرِعُهُمَا وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمَا صُنْعٌ. وَلَا يَسْمَعُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْخَيْرَ مِنْ عِنْدِ الله وَالشَّرَّ مِنْ نَفْسِكَ إلَّا هَمَجُ الْعَامَّةِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا سُنِّيٌّ وَلَا بِدْعِيٌّ.
وَقَوْلُهُ "أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ" أَيْ الْتِجَائِي وَانْتِمَائِي إلَيْكَ وَتَوْفِيقِي بِكَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ مَعْنَاهُ أَعْتَصِمُ بِكَ وَأَلْجَأُ إلَيْكَ، قَوْلُهُ "تَبَارَكْتَ" اسْتَحْقَقْتَ الثَّنَاءَ، وَقِيلَ: ثَبَتَ الْخَيْرُ عِنْدَكَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تَبَارَكَ الْعِبَادُ بِتَوْحِيدِكَ. وَالله أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنْ إمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَمُنْفَرِدٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَمُسَافِرٍ وَمُفْتَرِضٍ وَمُتَنَفِّلٍ وَقَاعِدٍ وَمُضْطَجِعٍ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَأْتِيَ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَوْ تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا حَتَّى شَرَعَ فِي التَّعَوُّذِ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ وَلَا يَتَدَارَكُهُ فِي بَاقِي الرَّكَعَاتِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ: إذَا تَرَكَهُ وَشَرَعَ فِي التَّعَوُّذِ يَعُودُ إلَيْهِ مِنْ بَعْدِ التَّعَوُّذِ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ وَالْجُمْهُورُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَلَكِنْ لَوْ خَالَفَ فَأَتَى بِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ [لَهُ]، كَمَا لَوْ دَعَا أَوْ سَبَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَكَذَا لَوْ أَتَى بِهِ حَيْثُ لَا آمُرُهُ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَعُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي أَيِّ حَالٍ ذَكَرَهُ. قَالَ الْبَغَوِيّ وَلَوْ أَحْرَمَ مَسْبُوقٌ فَأَمَّنَ الْإِمَامُ عَقِبَ إحْرَامِهِ أَمَّنَ ثُمَّ أَتَى بِالِاسْتِفْتَاحِ؛ لِأَنَّ التَّأْمِينَ يَسِيرٌ، وَلَوْ أَدْرَكَ مَسْبُوقٌ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَكَبَّرَ وَقَعَدَ فَسَلَّمَ مَعَ أَوَّلِ قُعُودِهِ قَامَ وَلَا يَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، قَالُوا: وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ قُعُودِهِ لَا يَقْعُدُ وَيَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِحْبَابِ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ لِكُلِّ مُصَلٍّ يَدْخُلُ فِيهَا النَّوَافِلُ الْمُرَتَّبَةُ وَالْمُطْلَقَةُ وَالْعِيدُ وَالْكُسُوفُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ وَغَيْرُهَا وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَوْضِعَانِ:
أَحَدُهُمَا: صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، فِيهَا وَجْهَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَنَائِزِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْأَصْحَابِ: لَا يُشْرَعُ فِيهَا دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَالثَّانِي: تُسْتَحَبُّ كَغَيْرِهَا.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ لَا يَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَافِعًا مِنْ الِاعْتِدَالِ حِينَ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ لَمْ يَأْتِ بِدُعَاءِ

 

ج / 3 ص -193-       الِاسْتِفْتَاحِ ، بَلْ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ ، إلَى آخِرِهِ مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الْقِيَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذُ وَالْفَاتِحَةُ أَتَى بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَقَالَهُ الْأَصْحَابُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَجِّلَ فِي قِرَاءَتِهِ وَيَقْرَأَ إلَى قَوْلِهِ: "وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ" فَقَطْ ثُمَّ يُنْصِتُ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ أَوْ شَكَّ لَمْ يَأْتِ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَلَوْ خَالَفَ وَأَتَى بِهِ فَرَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ فَرَاغِ الْفَاتِحَةِ فَهَلْ يَرْكَعُ مَعَهُ وَيَتْرُكُ بَقِيَّةَ الْفَاتِحَةِ أَمْ يُتِمُّهَا وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ مَعَ التَّعَوُّذِ وَالْفَاتِحَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ كُلُّهُ أَتَى بِالْمُمْكِنِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" .
فرع: فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي "الصَّحِيحِ" ، مِنْهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله فِي إسْكَاتِكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، هَذَا لَفْظُ إحْدَى رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ. وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِثْلُهَا إلَّا أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ1 اللَّهُمَّ وَاغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ " وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، ثُمَّ يَقُولُ: أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: وَالنَّسَائِيُّ وَضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ ، وَجَاءَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ "نَفْثِهِ" الشَّرُّ "وَنَفْخِهِ" الْكِبْرُ "وَهَمْزِهِ" الْمَوْتَةُ أَيْ الْجُنُونُ. وَرَوَى الِاسْتِفْتَاحَ: "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ" جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: أَصَحُّ مَا فِيهَا الْأَثَرُ الْمَوْقُوفُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ" وَهَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ أَنَّهُ قَالَهُ فِي "الِاسْتِفْتَاحِ" ، بَلْ رَوَاهُ عَنْ عَبْدَةَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ".
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَقَعَتْ فِي مُسْلِمٍ مُرْسَلَةً؛ لِأَنَّ عَبْدَةَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ لَمْ يَسْمَع


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواية مسلم: اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم واغسلني الخ فاقتصر الشارح على موضع الخلاف بين الروايتين (ط).

 

ج / 3 ص -194-       عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ مُتَّصِلًا وَفِي رِوَايَتِهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَهُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ، وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ قَالَ: أَيُّكُمْ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ أَيُّكُمْ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشْرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ "أَرَمَّ" بِالرَّاءِ أَيْ سَكَتَ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إذْ قَالَ رَجُلٌ فِي الْقَوْمِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ الله بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ الْقَائِلُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ الله، قَالَ: عَجِبْتُ لَهَا كَلِمَةً فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُتَّصِلًا بِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي قَبْلَهُ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الِاسْتِفْتَاحِ بِأَيَّتِهَا اسْتَفْتَحَ حَصَّلَ سُنَّةَ الِاسْتِفْتَاحِ، لَكِنَّ أَفْضَلَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَيَلِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إلَى آخِرِهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ إمَامًا لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ: وَجَّهْتُ وَجْهِي، إلَى قَوْلِهِ: وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا لِقَوْمٍ مَحْصُورِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ وَرَضُوا بِالتَّطْوِيلِ اسْتَوْفَى حَدِيثَ عَلِيٍّ بِكَمَالِهِ، وَيُسْتَحَبُّ مَعَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الِاسْتِفْتَاحِ وَمَا يُسْتَفْتَحُ بِهِ.
أَمَّا الِاسْتِفْتَاحُ فَقَالَ بِاسْتِحْبَابِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ خَالَفَ فِيهِ إلَّا مَالِكٌ رحمه الله فَقَالَ: لَا يَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَلَا بِشَيْءٍ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ أَصْلًا، بَلْ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إلَى آخِرِ الْفَاتِحَةِ. وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ "الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ" وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِفْتَاحٌ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ فِي فَصْلِ التَّكْبِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". وَدَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَا جَوَابَ لَهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ "الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ" مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ رَفْعِ الْيَدِ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا عَلَّمَهُ الْفَرَائِضَ فَقَطْ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَا سَبَقَ فِي فَصْلِ التَّكْبِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِفَتْحِ الْقِرَاءَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ قَبْلَ السُّورَةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَبَيَّنَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ، وَكَيْفَ كَانَ فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَلَوْ

 

ج / 3 ص -195-       صَرَّحَ بِنَفْيِهِ كَانَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَظَاهِرَةُ بِإِثْبَاتِهِ مُقَدَّمَةً؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَاتٍ وَلِأَنَّهَا إثْبَاتٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ وَالله أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا يُسْتَفْتَحُ بِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَفْتَحُ بِوَجَّهْتُ وَجْهِي إلَى آخِرِهِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد يُسْتَفْتَحُ بِسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ إلَى آخِرِهِ وَلَا يَأْتِي بِوَجَّهْتُ وَجْهِي. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا سَبَقَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيَّ ذَلِكَ قَالَ أَجْزَأَهُ وَأَنَا إلَى حَدِيثِ: وَجَّهْتُ وَجْهِي أَمِيلُ، دَلِيلُنَا أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الِاسْتِفْتَاحِ بِسُبْحَانِكَ اللَّهُمَّ شَيْءٌ وَثَبَتَ وَجَّهْتُ وَجْهِي فَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَتَعَوَّذُ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ " قَالَ فِي الْأُمِّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه يَتَعَوَّذُ فِي نَفْسِهِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَجْهَرُ بِهِ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ جَازَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُسِرَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ وَلَا عَلَمٍ عَلَى الِاتِّبَاعِ، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، قَالَ فِي الْأُمِّ: يَقُولُ فِي أَوَّلِ الرَّكْعَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إنْ قَالَهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَحَسَنٌ، وَلَا آمُرُ بِهِ أَمْرِي فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيمَا سِوَى الْأُولَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفْتِحُ الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَهِيَ كَالْأُولَى. الثَّانِيَةُ: لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ اسْتِفْتَاحَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُسْتَحَبُّ فِي الْجَمِيعِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه.
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فَقَالَ فِيهِ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ الله تَعَالَى "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثِ دُونَ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ فِيهَا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِعَاذَةِ فَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ الْمَحَلِّ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، فَالْجَوَابُ الِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ.
وَمَعْنَى: أَعُوذُ بِالله أَلُوذُ وَأَعْتَصِمُ بِهِ، وَأَلْجَأُ إلَيْهِ، وَالشَّيْطَانُ اسْمٌ لِكُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ سُمِّيَ شَيْطَانًا لِشُطُونِهِ عَنْ الْخَيْرِ، أَيْ تَبَاعُدِهِ، وَقِيلَ لِشَيْطِهِ، أَيْ هَلَاكِهِ وَاحْتِرَاقِهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ النُّونُ أَصْلِيَّةٌ وَعَلَى الثَّانِي زَائِدَةٌ، وَالرَّجِيمُ الْمَطْرُودُ وَالْمُبْعَدُ وَقِيلَ الْمَرْجُومُ بِالشُّهُبِ، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ وَلَا عَلَمٍ عَلَى الِاتِّبَاعِ، الْعَلَمُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ الْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ التَّكْبِيرِ.
أَمَّا حُكْمُ الْفَصْلِ: فَهُوَ أَنَّ التَّعَوُّذَ مَشْرُوعٌ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ فَيَقُولُ بَعْدَ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: أَعُوذُ بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ غَرِيبٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَأَصْحَابُنَا: يَحْصُلُ التَّعَوُّذُ بِكُلِّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ، لَكِنَّ أَفْضَلَهُ أَعُوذُ بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي" : وَبَعْدَهُ فِي الْفَضِيلَةِ أَعُوذُ

 

ج / 3 ص -196-       بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَبَعْدَ هَذَا أَعُوذُ بِالله الْعَلِيِّ مِنْ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ.
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَجْزَأَهُ إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ سَرِيَّةً بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ جَهْرِيَّةً فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَصَاحِبُ "الْحَاوِي" يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَارُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، كَدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ: وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا: يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَارُ: وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَأَشْبَهَ التَّأْمِينَ كَمَا لَوْ قَرَأَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَجْهَرُ بِالتَّعَوُّذِ قَطْعًا: وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ وَلَا تَرْجِيحَ وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ فَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَنَقَلَا التَّعَوُّذَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَغَلَطَا، فَهَذِهِ طُرُقُ الْأَصْحَابِ وَالْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُ التَّعَوُّذِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي "الْبَسِيطِ" وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَلَوْ تَرَكَهُ فِي الْأُولَى عَمْدًا أَوْ سَهْوًا اُسْتُحِبَّ فِي الثَّانِيَةِ بِلَا خِلَافٍ. سَوَاءٌ قُلْنَا: يَخْتَصُّ، بِالْأُولَى أَمْ لَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَرَكَ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْأُولَى لَا يَأْتِي بِهِ فِيمَا بَعْدَهَا بِلَا خِلَافٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ مَشْرُوعٌ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ فَاتَ فَصَارَ كَالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا التَّعَوُّذُ فَمَشْرُوعٌ فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ وَالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِيهَا قِرَاءَةٌ.
فرع: فِي مَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةٍ بِالتَّعَوُّذِ إحْدَاهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" لَوْ تَرَكَ التَّعَوُّذَ عَمْدًا1 فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ الثَّانِيَةُ: فِي اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي مِنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْحَاوِي فِي بَابِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَهُمَا كَالْخِلَافِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ أَوْ مَنْذُورَةٍ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنْ إمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَمُنْفَرِدٍ وَمُضْطَجِعٍ وَرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَحَاضِرٍ وَمُسَافِرٍ وَقَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَمُحَارِبٍ إلَّا الْمَسْبُوقَ الَّذِي يَخَافُ فَوْتَ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ لَوْ اشْتَغَلَ بِهِ فَيَتْرُكُهُ وَيَشْرَعُ فِي الْفَاتِحَةِ وَيَتَعَوَّذُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى. وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّعَوُّذُ كَالتَّأْمِينِ: وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ الرَّابِعَةُ: التَّعَوُّذُ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ الشُّرُوعَ فِي قِرَاءَةٍ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَيَجْهَرُ الْقَارِئُ خَارِجَ الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ، وَيَكْفِيهِ التَّعَوُّذُ الْوَاحِدُ مَا لَمْ يَقْطَعْ قِرَاءَتَهُ بِكَلَامٍ أَوْ سُكُوتٍ طَوِيلٍ، فَإِنْ قَطَعَهَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَأْنَفَ التَّعَوُّذَ وَإِنْ سَجَدَ لِتِلَاوَةٍ ثُمَّ عَادَ إلَى الْقِرَاءَةِ لَمْ يَتَعَوَّذْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَصْلٍ أَوْ هُوَ فَصْلٌ يَسِيرٌ. ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي التَّعَوُّذِ وَمَحَلِّهِ وَصِفَتِهِ وَالْجَهْرِ بِهِ وَتَكْرَارِهِ فِي الرَّكَعَاتِ وَاسْتِحْبَابِهِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالأصل وفيها سقط ولعله (تداركه في الثانية) كما يفهم من عبارة الروضة والأم وقد حكى الشارع عبارة الأم بالمعنى (ش).

 

ج / 3 ص -197-       لِلْمَأْمُومِ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ أَمْ وَاجِبٌ. أَمَّا أَصْلُهُ فَاسْتَحَبَّهُ لِلْمُصَلِّي جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَتَعَوَّذُ أَصْلًا لِحَدِيثِ "الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ" وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ الْآيَةُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَحَادِيثَ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ فَالْآيَةُ أَوْلَى.
وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَعَوَّذُ بَعْدَ فَرَاغِ الْفَاتِحَةِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَعْنَاهَا إذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ، وَهُوَ اللَّائِقُ السَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ. وَأَمَّا صِفَتُهُ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ "أَعُوذُ بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يَقُولُ "أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" وَنَقَلَ الشَّاشِيُّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ "أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " وَحَكَى صَاحِبُ الشَّامِلِ هَذَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الله:
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[لأعراف:200] وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ الله تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] فَقَدْ امْتَثَلَ الْأَمْرَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا فَلَيْسَتْ بَيَانًا لِصِفَةِ الِاسْتِعَاذَةِ، بَلْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ عَلِيمٌ، فَهُوَ حَثَّ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ، وَالْآيَةُ الَّتِي أَخَذْنَا بِهَا أَقْرَبُ إلَى صِفَةِ الِاسْتِعَاذَةِ وَكَانَتْ أَوْلَى، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه فَسَبَقَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْجَهْرُ بِالتَّعَوُّذِ فِي الْجَهْرِيَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يَجْهَرُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَجْهَرُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْإِسْرَارُ وَالْجَهْرُ سَوَاءٌ وَهُمَا حَسَنَانِ.
وَأَمَّا اسْتِحْبَابُهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مَذْهَبِنَا اسْتِحْبَابُهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَخْتَصُّ التَّعَوُّذُ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى وَأَمَّا اسْتِحْبَابُهُ لِلْمَأْمُومِ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَتَعَوَّذُ الْمَأْمُومُ؛ لِأَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا وَأَمَّا حُكْمُهُ فَمُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا أَوْجَبَاهُ، قَالَ: وَعَنْ دَاوُد رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: وُجُوبُهُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَدَلِيلُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَهُوَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ".

 

ج / 3 ص -198-       الشرح: حَدِيثُ عُبَادَةَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ - رحمهما الله - وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهَا فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا وَمُتَعَيِّنَةٌ لَا يَقُومُ مَقَامَهَا تَرْجَمَتُهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا قِرَاءَةُ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَيَسْتَوِي فِي تَعَيُّنِهَا جَمِيعُ الصَّلَوَاتِ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا، جَهْرُهَا وَسِرُّهَا، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالْمُسَافِرُ وَالصَّبِيُّ، وَالْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ، وَفِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ فِي تَعَيُّنِهَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ. وَفِي الْمَأْمُومِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَسَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَتَسْقُطُ الْفَاتِحَةُ عَنْ الْمَسْبُوقِ وَيَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الْإِمَامُ بِشَرْطِ أَنَّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ مَحْسُوبَةٌ لِلْإِمَامِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ، وَاَلَّذِي قَامَ لِخَامِسَةٍ نَاسِيًا، وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ مُتَعَيَّنَةٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَلْ نُسَمِّيهَا فِي النَّافِلَةِ وَاجِبَةً أَمْ شَرْطًا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي مَوَاضِعَ أَصَحُّهَا رُكْنٌ وَالله أَعْلَمُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ
مَذْهَبُنَا أَنَّ الْفَاتِحَةَ مُتَعَيَّنَةٌ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَيْهَا إلَّا بِهَا ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَخَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ عَوْنٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَحَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ الثَّوْرِيِّ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَتَعَيَّنُ الْفَاتِحَةُ لَكِنْ تُسْتَحَبُّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ تَجِبُ وَلَا تُشْتَرَطُ ، وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَجْزَأَهُ ، وَفِي قَدْرِ الْوَاجِبِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْهُ إحْدَاهَا: آيَةٌ تَامَّةٌ وَالثَّانِيَةُ: مَا يَتَنَاوَلُ الِاسْمَ قَالَ الرَّازِيّ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ وَالثَّالِثَةُ: ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ الله تَعَالَى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ "كَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرِهَا" وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" قَالُوا: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا يَقُومُ مَقَامَهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ بِدَلِيلِ تَحْرِيمِ قِرَاءَةِ الْجَمِيعِ عَلَى الْجُنُبِ وَتَحْرِيمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ الْمُصْحَفَ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ:
"لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ كَامِلَةً قُلْنَا: هَذَا خِلَافُ الْحَقِيقَةِ وَخِلَافُ الظَّاهِرِ وَالسَّابِقِ إلَى الْفَهْمِ فَلَا يُقْبَلُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ يَقُولُهَا ثَلَاثًا" ، أَيْ غَيْرُ تَمَامٍ فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { قَسَمْتُ

 

ج / 3 ص -199-       الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي} فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ حَسَنٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ كُلُّهُمْ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاءِ فِي صَحِيحَيْهِمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "أُمِرْنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ لَا فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ ، وَعَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الْفَاتِحَةَ تَتَيَسَّرُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يُحْسِنُهَا ، وَعَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ "لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ" أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ لَوْ صَحَّ أَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ، كَمَا يُقَالُ: صُمْ وَلَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ ، أَيْ أَكْثِرْ مِنْ الصَّوْمِ ، فَإِنْ نَقَصْتَ فَلَا تَنْقُصْ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ فِي الْحُرْمَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِوَاؤُهَا فِي الْإِجْزَاءِ فِي الصَّلَاةِ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَفْسِ الْفَاتِحَةِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا هَذَا مُخْتَصَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ مِنْ الدَّلَائِلِ لَنَا وَلَهُمْ ، اقْتَصَرْتُ فِيهَا عَلَى الصَّوَابِ مِنْ الدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِطْنَابِ فِي الْوَاهِيَاتِ ، وَبِالله التَّوْفِيقُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي أَصْلِ الْقِرَاءَةِ.
مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً وُجُوبُهَا ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ إلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَمُتَابِعُوهُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ. وَاحْتُجَّ لَهُمَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه
"صَلَّى الْمَغْرِبَ فَلَمْ يَقْرَأْ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؟ قَالُوا: حَسَنًا قَالَ: فَلَا بَأْسَ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَغَيْرُهُ وَعَنْ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: إنِّي صَلَّيْتُ وَلَمْ أَقْرَأْ ، قَالَ: أَتْمَمْتُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ تَمَّتْ صَلَاتُكَ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: "الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ "لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فَجَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ

 

ج / 3 ص -200-       وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ1 لَمْ يُدْرِكَا عُمَرَ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ: وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ مَوْصُولَيْنِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَقْرَأْ فَأَعَادَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَوْصُولَةٌ مُوَافِقَةٌ لِلسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ ، وَلِلْقِيَاسِ فِي أَنَّ الْأَرْكَانَ لَا تَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَضَعِيفٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحَارِثَ الْأَعْوَرَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ وَتُرِكَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ زَيْدٍ فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: مُرَادُهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى حَسْبِ مَا فِي الْمُصْحَفِ فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَقَايِيسِ الْعَرَبِيَّةِ ، بَلْ حُرُوفُ الْقِرَاءَةِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ أَيْ طَرِيقٌ يُتَّبَعُ وَلَا يُغَيَّرُ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَشَرَةُ أَسْمَاءٍ حَكَاهَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ: أَحَدُهَا: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ ، قَالُوا: سُمِّيَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْتَتَحُ بِهَا الْمُصْحَفُ وَالتَّعَلُّمُ وَالْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ ، وَهِيَ مُفْتَتَحَةٌ بِالْحَمْدِ الَّذِي يُفْتَتَحُ بِهِ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ ، وَقِيلَ ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ فَاتِحَةُ كُلِّ كِتَابٍ الثَّانِي: سُورَةُ الْحَمْدِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا الْحَمْدَ الثَّالِثُ: وَ الرَّابِعُ: أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ فِي الْمُصْحَفِ ، كَمَا أَنَّ مَكَّةَ أُمُّ الْقُرَى حَيْثُ دُحِيَتْ الدُّنْيَا مِنْ تَحْتِهَا ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَجْمَعُ الْعُلُومِ وَالْخَيْرَاتِ كَمَا سُمِّيَ الدِّمَاغُ أُمُّ الرَّأْسِ ؛ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ وَالْمَنَافِعِ.
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْأُمُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرَّايَةُ يَنْصِبُهَا الْأَمِيرُ لِلْعَسْكَرِ يَفْزَعُونَ إلَيْهَا فِي حَيَاتِهِمْ وَمَوْتِهِمْ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا إمَامٌ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ يُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، وَيُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ سُورَةٍ كَأُمِّ الْقُرَى لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ ، ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَأَخَذَ بِيَدَيَّ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ".
الْخَامِسُ: الصَّلَاةُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي "مُسْلِمٍ"  أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي} وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا السَّادِسُ: السَّبْعُ الْمَثَانِي لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ فَتُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ السَّابِعُ: الْوَافِيَةُ - بِالْفَاءِ - ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْقُصُ فَيُقْرَأُ بَعْضُهَا فِي رَكْعَةٍ ، وَبَعْضُهَا فِي أُخْرَى بِخِلَافِ غَيْرِهَا الثَّامِنُ: الْكَافِيَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَكْفِي عَنْ غَيْرِهَا وَلَا يَكْفِي عَنْهَا غَيْرُهَا التَّاسِعُ: الْأَسَاسُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْعَاشِرُ: الشِّفَاءُ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَسْمِيَتِهَا أُمَّ الْكِتَابِ فَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ تَبَعٌ لَهَا وَمَنَعَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَزَعَمَا أَنَّ هَذَا اسْمٌ لِلَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَلَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ "قُلْتُ" هَذَا غَلَطٌ فَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "مَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ" وَفِي سُنَنِ أَبِي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف لم يدرك عمر لأن مولده كان سنة بضع وعشرين ومحمد بن علي هو محمد ابن الحنفية إحدى سبايا بني حنيقة ولم يكن مميزا في عهد عمر رضي الله عنهم إجمعين (ط).

 

 

ج / 3 ص -201-       دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ: " تُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؟ قَالُوا: حَسَنًا قَالَ: فَلَا بَأْسَ " وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا تُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهُ بِالنِّسْيَانِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ".
الشرح:
هَذَا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي الْفَرْعِ السَّابِقِ فِي مَذْهَبِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَأَنَّهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَفِيمَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ نَاسِيًا حَتَّى سَلَّمَ أَوْ رَكَعَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ وَهُوَ الْجَدِيدُ: لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ، بَلْ إنْ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ قَبْلَ الْقِيَامِ إلَى الثَّانِيَةِ عَادَ إلَى الْقِيَامِ وَقَرَأَ، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ قِيَامِهِ إلَى الثَّانِيَةِ لَغَتْ الْأُولَى وَصَارَتْ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ السَّلَامِ - وَالْفَصْلُ قَرِيبٌ - لَزِمَهُ الْعَوْدُ إلَى الصَّلَاةِ وَيَبْنِي عَلَى مَا فَعَلَ، فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي الْقَدِيمُ أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ بِالنِّسْيَانِ، فَعَلَى هَذَا إنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ السَّلَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقِرَاءَةِ كَمَا لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً وَنَحْوَهَا: وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَرَكْعَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ كَمَا لَوْ تَذَكَّر بَعْدَ السَّلَامِ وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ، وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّهِ فِي "الْقَدِيمِ" ، وَقَطَعَ بِهِ أَيْضًا الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَهُوَ الْأَصَحُّ.
فرع: لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ فِيهَا خِلَافٌ كَهَذِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَصِحُّ "مِنْهَا" تَرْكُ تَرْتِيبِ الْوُضُوءِ نَاسِيًا "وَنِسْيَانُ" الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ فِي التَّيَمُّمِ "وَمَنْ" صَلَّى أَوْ صَامَ بِالِاجْتِهَادِ فَصَادَفَ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ حَمَلَهَا أَوْ نَسِيَهَا، أَوْ أَخْطَأَ فِي الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَهَا بِـ
{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "قَرَأَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَعَدَّهَا آيَةً" وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَثْبَتُوهَا فِيمَا جَمَعُوا مِنْ الْقُرْآنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ يُجْهَرُ فِيهَا جَهَرَ بِهَا كَمَا يَجْهَرُ بِسَائِرِ الْفَاتِحَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بِبِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَلِأَنَّهَا تُقْرَأُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُقْرَأُ بَعْدَ التَّعَوُّذِ فَكَانَ سُنَّتُهَا الْجَهْرَ كَسَائِرِ الْفَاتِحَةِ".
الشرح:
حَدِيثُ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحِهِ" بِمَعْنَاهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَاكَ، وَسَنَذْكُرُ مَا يُغْنِي عَنْهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

 

ج / 3 ص -202-       أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَمَذْهَبُنَا أَنَّ {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَيْسَتْ فِي أَوَّلِ بَرَاءَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا بَاقِي السُّوَرِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ وَبَرَاءَةَ فَفِي الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ حَكَاهَا الْخُرَاسَانِيُّونَ أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا وَهُوَ الصَّوَابُ أَوْ الْأَصْوَبُ أَنَّهَا آيَةٌ كَامِلَةٌ: وَالثَّانِي: أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ: وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا قُرْآنٌ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرَ بَرَاءَةَ، ثُمَّ هَلْ هِيَ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا قُرْآنٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ؟ أَمْ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ "الْحَاوِي" وَالْبَنْدَنِيجِيّ: أَحَدُهُمَا: عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِقِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا يَكُونُ قَارِئًا لِسُورَةٍ غَيْرِهَا بِكَمَالِهَا إلَّا إذَا ابْتَدَأَهَا بِالْبَسْمَلَةِ "وَالصَّحِيحُ" أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ نَافِيهَا لَا يَكْفُرُ، وَلَوْ كَانَتْ قُرْآنًا قَطْعًا لَكَفَرَ، كَمَنْ نَفَى غَيْرَهَا، فَعَلَى هَذَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا قَالَ: هِيَ قُرْآنٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ لَمْ يُقْبَلْ فِي إثْبَاتِهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي إثْبَاتِهَا فِي الْمُصْحَفِ كَمَا سَيَأْتِي تَحْرِيرُهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَضَعَّفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا قُرْآنٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، قَالَ الْإِمَامُ هَذِهِ غَبَاوَةٌ1 عَظِيمَةٌ مِنْ قَائِلِ هَذَا ؛ لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْعِلْمِ حَيْثُ لَا قَاطِعَ مُحَالٌ. وَقَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي" : قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: هِيَ آيَةٌ حُكْمًا لَا قَطْعًا ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ هِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرَ بَرَاءَةَ قَطْعًا ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَنَا أَنَّهَا تَجِبُ قِرَاءَتُهُ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا ؛ لِأَنَّهَا كَبَاقِي الْفَاتِحَةِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسَنُّ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ فِي الْفَاتِحَةِ وَفِي السُّورَةِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالنظر إلى جميع أصول المجموع نجدها (هذه عبارة) وبالرجوع إلى النهاية نسخه خطبة يحققها الأخ الأستاذ عبد الحليم الديب لنيل الدكتوراة نجدها (هذه غباوة عظيمة) إلخ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي إثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ وَعَدَمِهَا
اعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْبَسْمَلَةِ عَظِيمَةٌ مُهِمَّةٌ يَنْبَنِي عَلَيْهَا صِحَّةُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْأَرْكَانِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا الْمَحَلِّ الْأَعْلَى الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ وَصْفِهَا اعْتَنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ بِشَأْنِهَا، وَأَكْثَرُوا التَّصَانِيفَ فِيهَا مُفْرَدَةً، وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ الدِّمَشْقِيُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ، وَحَوَى فِيهِ مُعْظَمَ الْمُصَنَّفَاتِ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدًا كَبِيرًا وَأَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَذْكُرُ هُنَا جَمِيعَ مَقَاصِدِهِ مُخْتَصَرَةً وَأَضُمُّ إلَيْهَا تَتِمَّاتٍ لَا بُدَّ مِنْهَا فَأَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَلِكَ هِيَ آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرَ بَرَاءَةَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِنَا كَمَا سَبَقَ، وَبِهَذَا قَالَ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ مِنْ السَّلَفِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٍ، وَقَالَ: وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِي كَوْنِهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ

 

ج / 3 ص -203-       الْكُوفَةِ وَمَكَّةَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ الْخِلَافِيَّاتُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَالزُّهْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَفِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ لَهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهم.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد لَيْسَتْ الْبَسْمَلَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ كُلِّهَا قُرْآنًا لَا فِي الْفَاتِحَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَقَالَ أَحْمَدُ هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَيْسَتْ بِقُرْآنٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُ مِنْهُمْ: هِيَ آيَةٌ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ غَيْرَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ، وَلَيْسَتْ مِنْ السُّوَرِ، بَلْ هِيَ قُرْآنٌ كَسُوَرٍ قَصِيرَةٍ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مَا بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ مَنْ أَثْبَتَهَا وَلَا مَنْ نَفَاهَا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَفَى حَرْفًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ أَثْبَتَ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا فِي الْبَسْمَلَةِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرَ بَرَاءَةَ ، وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ النَّمْلِ
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] فَقُرْآنٌ بِالْإِجْمَاعِ فَمَنْ جَحَدَ مِنْهَا حَرْفًا كَفَرَ بِالْإِجْمَاعِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ نَفَاهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِالظَّنِّ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ. وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ. الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَسْمَلَةَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا بِطُولِهِ، وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ مِنْ الْقُرْآنِ سُورَةً ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد " تَشْفَعُ " قَالُوا: وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى الْبَسْمَلَةِ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي مَبْدَأِ الْوَحْيِ "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ "فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" لَا يَذْكُرُونَ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا آخِرِهَا "قَالُوا" وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ الْقُرْآنِ لَكَفَرَ جَاحِدُهَا وَأَجْمَعْنَا أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ "قَالُوا" وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعَدَدِ مُجْمِعُونَ عَلَى تَرْكِ عَدِّهَا آيَةً مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّهَا فِي الْفَاتِحَةِ ، قَالُوا: وَنَقَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِأَسْرِهِمْ عَنْ آبَائِهِمْ التَّابِعِينَ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"قَالُوا: وَقَدْ "قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَقْرَأُ أُمَّ الْقُرْآنِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَجْمَعُوا عَلَى إثْبَاتِهَا فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ جَمِيعًا سِوَى بَرَاءَةَ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ ، بِخِلَافِ الْأَعْشَارِ وَتَرَاجِمِ السُّوَرِ ، فَإِنَّ الْعَادَةَ كِتَابَتُهَا بِحُمْرَةٍ وَنَحْوِهَا ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا لَمَا اسْتَجَازُوا إثْبَاتَهَا بِخَطِّ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهَا قُرْآنٌ فَيَكُونُونَ مُغَرِّرِينَ بِالْمُسْلِمِينَ ، حَامِلِينَ لَهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا فَهَذَا مِمَّا لَا

 

ج / 3 ص -204-       يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ فِي الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا أَقْوَى أَدِلَّتِنَا فِي إثْبَاتِهَا.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ أَحْسَنُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُنَا كِتَابَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي قَصَدُوا بِكِتَابَتِهَا نَفْيَ الْخِلَافِ عَنْ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مِائَةً وَثَلَاثَ عَشَرَةَ آيَةً لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمُسْتَصْفَى" : أَظْهَرُ الْأَدِلَّةِ كِتَابَتُهَا بِخَطِّ الْقُرْآنِ قَالَ: وَنَحْنُ نَقْنَعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالظَّنِّ وَلَا شَكَّ فِي حُصُولِهِ "فَإِنْ قِيلَ" لَعَلَّهَا أُثْبِتَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ "فَجَوَابُهُ" مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا فِيهِ تَغْرِيرٌ لَا يَجُوزُ ارْتِكَابُهُ لِمُجَرَّدِ الْفَصْلِ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْفَصْلِ لَكُتِبَتْ بَيْنَ بَرَاءَةَ وَالْأَنْفَالِ، وَلَمَا حَسُنَ كِتَابَتُهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْفَصْلَ كَانَ مُمْكِنًا بِتَرَاجِمِ السُّوَرِ كَمَا حَصَلَ بَيْنَ بَرَاءَةَ وَالْأَنْفَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهَا كُتِبَتْ لِلتَّبَرُّكِ بِذِكْرِ الله، فَجَوَابُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، وَمِنْ وَجْهٍ رَابِعٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لِلتَّبَرُّكِ لَاكْتَفَى بِهَا فِي أَوَّلِ الْمُصْحَفِ، أَوْ لَكُتِبَتْ فِي أَوَّلِ بَرَاءَةَ، وَلَمَا كُتِبَتْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الله كَالْفَاتِحَةِ وَالْأَنْعَامِ وَسُبْحَانَ وَالْكَهْفِ وَالْفُرْقَانِ وَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَكُنْ حَاجَةً إلَى الْبَسْمَلَةِ، وَلِأَنَّهُمْ قَصَدُوا تَجْرِيدَ الْمُصْحَفِ مِمَّا لَيْسَ بِقُرْآنٍ. وَلِهَذَا لَمْ يَكْتُبُوا التَّعَوُّذَ وَالتَّأْمِينَ مَعَ أَنَّهُ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِمَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَلَا الْآيَاتِ النَّازِلَةَ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها لَمْ يُبَسْمِلْ، وَلَمَّا تَلَا سُورَةَ الْكَوْثَرِ حِينَ نُزُولِهَا بَسْمَلَ، فَلَوْ كَانَتْ لِلتَّبَرُّكِ لَكَانَتْ الْآيَاتُ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ أَوْلَى مِمَّا يُتَبَرَّكُ فِيهِ لِمَا دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ السُّرُورِ بِذَلِكَ.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "قَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَعَدَّهَا آيَةً" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] قَالَ: هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، قَالَ فَأَيْنَ السَّابِعَةُ؟ قَالَ {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رَوَاهُمَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحِهِ" ، وَرَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ "بَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إذْ أَغْفَى إغْفَاءً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر}" [الكوثر: 1- 3] رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِسْمِ الله وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" ، وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" أَيْضًا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ كُلِّهَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَرَأَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلِمَ أَنَّهَا سُورَةٌ" الثَّانِي: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْلَمُ خَتْمَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" الثَّالِثُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَعْلَمُونَ انْقِضَاءَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَفِي "سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ" عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم "أَنَّ الْفَاتِحَةَ هِيَ السَّبْعُ

 

ج / 3 ص -205-       مِنْ الْمَثَانِي وَهِيَ السَّبْعُ آيَاتٍ وَأَنَّ الْبَسْمَلَةَ هِيَ الْآيَةُ السَّابِعَةُ" وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذَا قَرَأْتُمْ الْحَمْدَ فَاقْرَءُوا: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي وَبِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إحْدَى آيَاتِهَا" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رِجَالُ إسْنَادِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَرُوِيَ مَوْقُوفًا.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُتَعَاضِدَةٌ مُحَصِّلَةٌ لِلظَّنِّ الْقَوِيِّ بِكَوْنِهَا قُرْآنًا حَيْثُ كُتِبَتْ ، وَالْمَطْلُوبُ هُنَا هُوَ الظَّنُّ لَا الْقَطْعُ، خِلَافُ مَا ظَنَّهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ حَيْثُ شَنَّعَ عَلَى مَذْهَبِنَا وَقَالَ: لَا يَثْبُتُ الْقُرْآنُ بِالظَّنِّ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَأَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ يَكْفِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ "مِمَّا" ذَكَرَهُ حَدِيثَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْرِفُ خَتْمَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ: وَالْقَاضِي مُعْتَرِفٌ بِهَذَا لَكِنَّهُ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ وَلَمْ تَكُنْ قُرْآنًا. قَالَ: وَلَيْسَ كُلُّ مُنَزَّلٍ قُرْآنًا. قَالَ الْغَزَالِيُّ وَمَا مِنْ مُصَنِّفٍ إلَّا وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ وَيُضَعِّفُهُ. وَاعْتَرَفَ أَيْضًا بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ كُتِبَتْ بِأَمْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَعَ إخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ، وَهَذَا مُوهِمٌ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّهَا قُرْآنٌ وَدَلِيلٌ قَاطِعٌ أَوْ كَالْقَاطِعِ أَنَّهَا قُرْآنٌ فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ بَيَانِهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَبَيَّنَهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اكْتَفَى بِقَوْلِهِ إنَّهَا مُنَزَّلَةٌ، وَبِإِمْلَائِهَا عَلَى كُتَّابِهِ وَبِأَنَّهَا تُكْتَبُ بِخَطِّ الْقُرْآنِ، كَمَا لَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ إمْلَاءِ كُلِّ آيَةٍ أَنَّهَا قُرْآنٌ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ ذَلِكَ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ وَمِنْ التَّصْرِيحِ بِالْإِنْزَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّوَرِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لِلْفَصْلِ، قُلْنَا مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ قَوْلُهُ: حَتَّى يَنْزِلَ فَأَخْبَرَ بِنُزُولِهَا، وَهَذَا صِفَةُ كُلِّ الْقُرْآنِ، وَتَقْدِيرُ الله لَا يُعْرَفُ بِالشُّرُوعِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى إلَّا بِالْبَسْمَلَةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْزِلُ إلَّا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: الْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً بَلْ ظَنِّيَّةً وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَارِضَةً فَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَرْجَحُ وَأَغْلَبُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا يَثْبُتُ الْقُرْآنُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إثْبَاتَهَا فِي الْمُصْحَفِ فِي مَعْنَى التَّوَاتُرِ: وَالثَّانِي: أَنَّ التَّوَاتُرَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَثْبُتُ قُرْآنًا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، أَمَّا مَا يَثْبُتُ قُرْآنًا عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ فَيَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَالْبَسْمَلَةُ قُرْآنٌ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ " قَسَمْتُ الصَّلَاةَ " فَمِنْ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ إنَّمَا لَمْ تُذْكَرْ لِانْدِرَاجِهَا فِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ فَإِذَا انْتَهَى الْعَبْدُ فِي قِرَاءَتِهِ إلَى
{الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْبَسْمَلَةُ دَاخِلَةً الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ الْمَقْسُومُ مَا يَخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ مِنْ الْآيَاتِ الْكَامِلَةِ وَاحْتَرَزْنَا بِالْكَامِلَةِ عَنْ قوله تعالى: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: من الآية75] وَعَنْ قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:182] وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ فَغَيْرُ مُخْتَصَّةٍ الرَّابِعُ: لَعَلَّهُ قَالَهُ قَبْلَ نُزُولِ الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ: "ضَعُوهَا فِي سُورَةِ كَذَا".

 

ج / 3 ص -206-       الْخَامِسُ: أَنَّهُ جَاءَ ذِكْرُ الْبَسْمَلَةِ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ "فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ ذَكَرَنِي عَبْدِي" وَلَكِنَّ إسْنَادَهَا ضَعِيفٌ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ. وَاخْتُلِفَ فِي السَّابِعَةِ فَمَنْ جَعَلَ الْبَسْمَلَةَ آيَةً قَالَ السَّابِعَةُ
{صِرَاطَ الَّذِينَ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَمَنْ نَفَاهَا قَالَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] سَادِسَةٌ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلَى آخِرِهَا هِيَ السَّابِعَةُ، قَالُوا: وَيَتَرَجَّحُ هَذَا؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ حَقِيقَةُ التَّنْصِيفِ فَتَكُونُ لِلّهِ تَعَالَى ثَلَاثُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ وَالْعَبْدُ مِثْلُهَا، وَمَوْضِعُ التَّنْصِيفِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فَلَوْ عُدَّتْ الْبَسْمَلَةُ آيَةً وَلَمْ يُعَدَّ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] صَارَ لِلّهِ تَعَالَى أَرْبَعُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ وَلِلْعَبْدِ آيَتَانِ وَنِصْفٌ ، وَهَذَا خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ بِالتَّنْصِيفِ ، فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: مَنْعُ إرَادَةِ حَقِيقَةِ التَّنْصِيفِ ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَيْنِ شَامِتٌ                      وَآخَرُ مُثْنٍ بِاَلَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ


فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ الْفَاتِحَةَ قِسْمَانِ، فَأَوَّلُهَا لِلّهِ تَعَالَى وَآخِرُهَا لِلْعَبْدِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّنْصِيفِ قِسْمَانِ الثَّنَاءُ وَالدُّعَاءُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِعَدَدِ الْآيَاتِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْفَاتِحَةَ إذَا قُسِمَتْ بِاعْتِبَارِ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ وَالْبَسْمَلَةُ مِنْهَا كَانَ التَّنْصِيفُ فِي شَطْرَيْهَا أَقْرَبَ مِمَّا إذَا قُسِمَتْ بِحَذْفِ الْبَسْمَلَةِ، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ تَقْسِيمُهَا بِاعْتِبَارِ الْحُرُوفِ. فَإِنْ قِيلَ يَتَرَجَّحُ جَعْلُ الْآيَةِ السَّابِعَةِ
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} لِقَوْلِهِ: فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي، فَلَفْظَةُ هَؤُلَاءِ جَمْعٌ يَقْتَضِي ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ لِلْعَبْدِ إلَّا آيَتَانِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ رَوَوْهُ: فَهَذَا لِعَبْدِي ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" ، وَإِنْ كَانَ "هَؤُلَاءِ" ثَابِتَةً فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادَيْهِمَا "الصَّحِيحَيْنِ" .
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إلَى الْكَلِمَاتِ أَوْ إلَى الْحُرُوفِ أَوْ إلَى آيَتَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ قوله تعالى
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَمِثْلُ هَذَا يُجْمَعُ كَقَوْلِ الله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَالْمُرَادُ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ أَوْ إلَى آيَتَيْنِ فَحَسْبُ، وَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ وَحَقِيقَتُهُ ثَلَاثَةٌ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الِاثْنَيْنِ، حَقِيقَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ هَذَا كُلُّهُ إذَا سَلَّمْنَا أَنَّ التَّنَصُّفَ تَوَجَّهَ إلَى آيَاتِ الْفَاتِحَةِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَإِنَّمَا التَّنَصُّفُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الصَّلَاةِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ. فَإِنْ قَالُوا: الْمُرَادُ قِرَاءَةُ الصَّلَاةِ. قُلْنَا: بَلْ الْمُرَادُ قِسْمَةُ ذِكْرِ الصَّلَاةِ أَيْ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا، وَهُوَ ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ، فَالثَّنَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَى الله تَعَالَى، سَوَاءٌ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَمَا وَقَعَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا. وَالدُّعَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَى الْعَبْدِ، سَوَاءٌ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِي ذَلِكَ لِمَا سَبَقَ. ثُمَّ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ إخْبَارِهِ بِقِسْمَةِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ أَمْرًا آخَرَ وَهُوَ مَا يَقُولُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قِرَاءَةِ

 

ج / 3 ص -207-       الْعَبْدِ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْسُومِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ تَفْسِيرُ بَعْضِ الْمَقْسُومِ، فَإِنْ قِيلَ يَتَرَجَّحُ كَوْنُهُ تَفْسِيرًا لَذَكَرَهُ عَقِيبَهُ. قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي الْفَاتِحَةِ، فَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى قِسْمَةِ الذِّكْرِ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ فَائِدَةً، فَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ عُمْدَةُ نُفَاةِ الْبَسْمَلَةِ وَقَدْ بَانَ أَمْرُهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ شَفَاعَةِ تَبَارَكَ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا سِوَى الْبَسْمَلَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِهَذِهِ السُّورَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ نُزُولِ الْبَسْمَلَةِ فِيهَا فَلَمَّا نَزَلَتْ أُضِيفَتْ إلَيْهَا بِدَلِيلِ كِتَابَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَنْ يُثْبِتُ الْبَسْمَلَةَ فَهُوَ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَبْدَأِ الْوَحْيِ وَهُوَ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كَنَظَائِرَ لَهَا مِنْ الْآيَاتِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ سُوَرِهِ فِي النُّزُولِ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ وَبِهِ أَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيّ وَغَيْرُهُمَا "وَجَوَابٌ آخَرُ" وَهُوَ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ نَزَلَتْ أَوَّلًا وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"أَوَّلُ مَا أَلْقَى عَلَيَّ جِبْرِيلُ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَنَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ عَنْ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِثَابِتٍ فَلَا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَسَيَأْتِي جَوَابُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَكَفَرَ جَاحِدُهَا فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقْلَبَ عَلَيْهِمْ فَيُقَالَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا لَكَفَرَ مُثْبِتُهَا الثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَكُونُ بِالظَّنِّيَّاتِ، بَلْ بِالْقَطْعِيَّاتِ وَالْبَسْمَلَةُ ظَنِّيَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَدَدِ عَلَى أَنَّهُ لَا تُعَدُّ آيَةً، فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْعَدَدِ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ حَتَّى يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً، بَلْ هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ عَدُّوا كَذَلِكَ إمَّا؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ نَفْيُ الْبَسْمَلَةِ، وَإِمَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ، وَأَنَّهَا مَعَ أَوَّلِ السُّورَةِ آيَةٌ الثَّانِي: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ " مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشَرَةَ آيَةً ".
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَقْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِجْمَاعِهِمْ فَلَا نُسَلِّمُ إجْمَاعَهُمْ، بَلْ قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ الْخِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ وَسَتَأْتِي قِصَّةُ مُعَاوِيَةَ حِينَ تَرَكَهَا فِي صَلَاتِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَيُّ إجْمَاعٍ مَعَ هَذَا؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا قَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] أَوَّلُ آيَةٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَوْ ثَبَتَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ لِغَيْرِهِمْ هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ:
"قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَيْفَ تَقْرَأُ أُمَّ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا لَفْظُهُ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ " كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ " وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ، وَفِي "سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيّ" عَكْسُ مَا ذَكَرُوهُ وَهُوَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبُرَيْدَةَ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَسْتَفْتِحُ الْقُرْآنَ إذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَعَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْنَاهُ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْجَهْرِ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنْ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ الْجَهْرِ بِهَا حَيْثُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ جَمِيعًا فَلَهَا فِي الْجَهْرِ حُكْمُ بَاقِي الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ ،

 

ج / 3 ص -208-       هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ، فَأَمَّا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ قَالُوا بِهِ فَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَقَيْسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ الله بْنِ أَبِي أَوْفَى وَشِدَادِ بْنِ أَوْسٍ وَعَبْدِ الله بْنِ جَعْفَرٍ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ الله بْنِ جَعْفَر1ٍ وَمُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ حَضَرُوهُ لَمَّا صَلَّى بِالْمَدِينَةِ وَتَرَكَ الْجَهْرَ فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ فَرَجَعَ إلَى الْجَهْرِ بِهَا رضي الله عنهم أجمعين.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ قَالَ بِالْجَهْرِ بِهَا فَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرُوا وَأَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُحْصَرُوا، وَمِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو وَائِلٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَعِكْرِمَةُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَمَكْحُولٌ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو قِلَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ وَعَبْدُ الله بْنُ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ فَهَؤُلَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ بَعْدَ التَّابِعِينَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ الله بْنُ حَسَنٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ وَزَادَ فِي التَّابِعِينَ عَبْدَ الله بْنَ صَفْوَانَ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ وَمِمَّنْ تَابَعَهُمْ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ وَزَادَ فَقَالَ: هُوَ قَوْلٌ جَمَاعَةِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ طَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ وَسَائِرِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ وَهْبٍ صَاحِبِ مَالِكٍ وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ وَاخْتَارُوهُ وَصَنَّفُوا فِيهِ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ وَأَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبِي عَبْدِ الله الْحَكَمِ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيّ وَالْخَطِيبِ وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِمْ رحمهم الله.
وَفِي كِتَابِ "الْخِلَافِيَّاتِ" لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجَهْرِ "بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَنَقَلَ الْخَطِيبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي خَلْفَ مَنْ لَا يَجْهَرُ "بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يَنْبَغِي الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ لَا يَجْهَرُ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ أَئِمَّةَ الْقِرَاءَةِ السَّبْعَةِ "مِنْهُمْ" مَنْ تُرْوَى الْبَسْمَلَةُ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ "وَمِنْهُمْ" مِنْ رُوِيَ عَنْهُ الْأَمْرَانِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُبَسْمِلْ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ فَقَدْ بَحَثْتُ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْبَحْثِ فَوَجَدْتُهُ كَمَا ذَكَرْتُهُ ثُمَّ كُلُّ مَنْ رُوِيَتْ عَنْهُ الْبَسْمَلَةُ ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَهْرِ إلَّا رِوَايَاتٍ شَاذَّةً جَاءَتْ عَنْ حَمْزَةَ - رحمه الله - بِالْإِسْرَارِ بِهَا وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ عَلَى تَرْجِيحِ إثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ وَالْجَهْرِ بِهَا.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل، ولعله وعبد الله بن عمرو (ط).

 

ج / 3 ص -209-       وَفِي كِتَابِ "الْبَيَانِ" لِابْنِ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْمُسْلِمِيِّ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَوَّلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ ، وَفِي الْفَرْضِ كَانَ هَذَا مَذْهَبَ الْقُرَّاءِ بِالْمَدِينَةِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ السُّنَّةَ الْإِسْرَارُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَكَمِ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ سَوَاءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْجَهْرِ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى مَسْأَلَةِ إثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِمَّنْ يَرَى الْإِسْرَارَ بِهَا لَا يَعْتَقِدُونَهَا قُرْآنًا بَلْ يَرَوْنَهَا مِنْ سُنَنِهِ كَالتَّعَوُّذِ وَالتَّأْمِينِ، وَجَمَاعَةً مِمَّنْ يَرَى الْإِسْرَارَ بِهَا يَعْتَقِدُونَهَا قُرْآنًا وَإِنَّمَا أَسَرُّوا بِهَا، وَجَهَرَ أُولَئِكَ لِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَ كُلِّ
فَرِيقٍ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ يَرَى الْإِسْرَارَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَعَنْهُ "صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ
"فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ: "سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقْرَأُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إيَّاكَ وَالْحَدَثَ فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ رَجُلًا مِنْهُمْ يَقُولُهُ فَإِذَا قَرَأْتَ فَقُلْ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ "مَا جَهَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ رضي الله عنهما".
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِهَا مَنْسُوخٌ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِمَكَّةَ وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَدْعُونَ مُسَيْلِمَةَ {الرَّحْمَنَ} فَقَالُوا: "إنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُو إلَى إلَهِ الْيَمَامَةِ فَأَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْفَاهَا فَمَا جَهَرَ بِهَا حَتَّى مَاتَ" قَالُوا: وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ بِمِصْرَ حِين صَنَّفَ كِتَابَ الْجَهْرِ فَقَالَ: لَمْ يَصِحَّ فِي الْجَهْرِ بِهَا حَدِيثٌ.
قَالُوا: وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: الْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ قَالُوا: وَقِيَاسًا عَلَى التَّعَوُّذِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَهْرُ ثَابِتًا لَنُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا أَوْ مُسْتَفِيضًا كَوُرُودِهِ فِي سَائِرِ الْقِرَاءَةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ لِأَحَادِيثَ وَغَيْرِهَا جَمَعَهَا وَلَخَّصَهَا الشَّيْخُ أَبُو

 

ج / 3 ص -210-       مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْجَهْرِ كَثِيرَةٌ، مِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فُهِمَ مِنْ عِبَارَتِهِ. وَلَمْ يَرِدْ تَصْرِيحٌ بِالْإِسْرَارِ بِهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: عَنْ ابْنِ مُغَفَّلٍ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ. وَالثَّانِيَةُ: عَنْ أَنَسٍ وَهِيَ مُعَلَّلَةٌ بِمَا أَوْجَبَ سُقُوطَ الِاحْتِجَاجِ بِهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ" السَّابِقِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْإِسْرَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِحَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ وَحَدِيثٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَابْنِ مُغَفَّلٍ وَلَمْ يَدَعْ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ التَّحْقِيقُ غَيْرَهُمَا، فَقَالَ: لَنَا حَدِيثَانِ فَذَكَرَهُمَا، وَسَنُوَضِّحُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِمَا، وَأَمَّا أَحَادِيثُ الْجَهْرِ فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ، مِنْهَا - وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَمُرَةَ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنهم - أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَوَرَدَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ: مَا هُوَ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ مُتَّفَقٍ عَلَى صِحَّتِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
"قَالَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ" وَفِي رِوَايَةٍ "بِقِرَاءَةٍ" وَفِي أُخْرَى "لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ "فَمَا أَعْلَنَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَعْلَنَّاهُ لَكُمْ، وَمَا أَخْفَاهُ أَخْفَيْنَاهُ لَكُمْ" وَفِي رِوَايَةٍ "فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَسْمَعْنَاكُمْ وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَاهُ مِنْكُمْ" كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي "الصَّحِيحِ" ، وَبَعْضُهَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" ، وَبَعْضُهَا فِي أَحَدِهِمَا، وَمَعْنَاهُ يَجْهَرُ بِمَا جَهَرَ بِهِ وَيُسِرُّ بِمَا أَسَرَّ بِهِ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ فِي صَلَاتِهِ بِالْبَسْمَلَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ الْجَهْرَ بِهَا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ: الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ مَذْهَبٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ حُفِظَ عَنْهُ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: حَدِيثُ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ الله الْمُجْمِرِ قَالَ
"صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَرَأَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ حَتَّى إذَا بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ: آمِينَ وَقَالَ النَّاسُ: آمِينَ وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَإِذَا قَامَ مِنْ الْجُلُوسِ مِنْ الِاثْنَيْنِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَقُولُ إذَا سَلَّمَ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي "سُنَنِهِ" وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحِهِ" قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "مُصَنَّفِهِ" : فَأَمَّا الْجَهْرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ صَحَّ وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ مُتَّصِلٍ لَا شَكَّ وَلَا ارْتِيَابَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَخْبَارِ فِي صِحَّةِ سَنَدِهِ وَاتِّصَالِهِ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: فَقَدْ بَانَ وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ" وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي "سُنَنِهِ" وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" عَلَى الصَّحِيحِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ "الْخِلَافِيَّاتِ" ثُمَّ قَالَ: رُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مُجْمَعٌ عَلَى عَدَالَتِهِمْ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي "الصَّحِيحِ" ، وَقَالَ فِي "السُّنَنِ الْكَبِيرِ" : وَهُوَ إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَرَوَاهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مَرْضِيَّةٍ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ صَحِيحٌ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ تَعْلِيلٌ فِي اتِّصَالِهِ وَثِقَةِ رِجَالِهِ.

 

ج / 3 ص -211-       الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي "سُنَنِهِ" مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي مُزَاحِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا إدْرِيسُ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ كَانَ إذَا قَرَأَ وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ افْتَتَحَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ هِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ الله اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَإِنَّهَا الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا أَمَّ النَّاسَ قَرَأَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رِجَالُ إسْنَادِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: قَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيَأْمُرُ بِهِ فَذَكَر هَذَا الْحَدِيثَ" وَقَالَ بَدَلَ قَرَأَ: جَهَرَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِقِرَاءَةِ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَتْرُكُ صَرِيحَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَعْتَمِدُ رِوَايَةَ حَدِيثِ "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ" وَيَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ التَّسْمِيَةِ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى الْإِسْرَارِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا وَالْجَمِيعُ رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، فَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ رِوَايَاتِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِقَادِ اخْتِلَافِهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ" بِعَيْنِهِ فَوَجَبَ حَمْلُ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي أَحَدِهِمَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وَفِي رِوَايَةٍ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُقَطِّعُهَا حَرْفًا حَرْفًا" وَفِي رِوَايَةٍ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا قَرَأَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً" رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَهُوَ إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَرَوَاهُ عُمَرُ بْنُ1 هَارُونَ الْبَلْخِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ "أَنْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَعَدَّهَا آيَةً {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آيَتَيْنِ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثَلَاثَ آيَاتٍ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أَرْبَع آيَاتٍ وَقَالَ: هَكَذَا {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَجَمَعَ خَمْسَ أَصَابِعِهِ" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ لَمَّا وَقَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذِهِ الْمَقَاطِيعِ أُخْبِرَ عَنْهُ أَنَّهُ عِنْدَ كُلِّ مَقْطَعٍ آيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ، فَبَعْضُ الرُّوَاةِ حِينَ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَقَلَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ هَذَا كَلَامٌ لِبَعْضِ الْحُفَّاظِ إلَّا أَنَّ حَدِيثَهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ فَرَوَاهَا الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِسَنَدِهِ وَذَكَرَ الرَّازِيّ لَهُ تَأَمُّلَاتٍ ضَعِيفَةً أَبْطَلْتُهَا فِي الْكِتَابِ الطَّوِيلِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي "سُنَنِهِ" وَالْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عمر بن هارون بن يزيد بن جابر بن سلمة الثقفي مولاهم أبو حفص البلخي من أصحاب ابن جريح وسعيد عن أبي عروبة وحريز بن عثمان وطائفة مات ببلخ يوم جمعة سنة 194.

 

ج / 3 ص -212-       قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيثَيْنِ كِلَاهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ لَيْسَ فِي رُوَاتِهِ مَجْرُوحٌ: أَحَدُهُمَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَالثَّانِي: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَهَذَا الثَّانِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَاكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فَحَصَلَ لَنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحَّحَهَا الْأَئِمَّةُ لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ شَيْئًا مِنْهَا، بَلْ ذَكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ الْمَكِّيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزُلْ يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي السُّورَتَيْنِ حَتَّى قُبِضَ" قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَعُمَرُ بْنُ حَفْصٍ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِإِنْصَافٍ وَلَا تَحْقِيقٍ فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي الْجَهْرِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ عَنْ هَمَّامٍ وَجَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سُئِلَ أَنَسٌ "كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِسْمِ الله وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ" قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَازِمِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً. قَالَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَهْرِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَوْ اخْتَلَفَتْ فِي الْجَهْرِ بَيْنَ حَالَتَيْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لَبَيَّنَهَا أَنَسٌ وَلَمَا أَطْلَقَ جَوَابَهُ، وَحَيْثُ أَجَابَ بِالْبَسْمَلَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِهَا فِي قِرَاءَتِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَجَابَ أَنَسٌ بِ " الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " أَوْ غَيْرِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ
"بَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إذْ أَغْفَى إغْفَاءً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بسم الله الرحمن الرحيم {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} إلَى آخِرِهَا" وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالْجَهْرِ بِهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَكَذَا فِي الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي "صَحِيحِهِ" عَقِبَ الْحَدِيثِ الْمُحْتَجِّ بِهِ فِي نَفْيِ الْجَهْرِ كَالتَّعْلِيلِ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَهَرَ بِهَا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ تَلَا مَا أُنْزِلَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ جَمِيعَهُ فَجَهَرَ كَبَاقِي السُّوَرِ. قُلْنَا: فَهَذَا دَلِيلٌ لَنَا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ السُّورَةِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ بَاقِيهَا فِي الْجَهْرِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ خِلَافَهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا اعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلَافًا لِمَا ادَّعَتْهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ الْإِجْمَاعِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الله بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمٍ أَنْ أَبَا بَكْرِ بْنَ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى مُعَاوِيَةُ بِالْمَدِينَةِ صَلَاةً يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَرَأَ  "بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" لِأُمِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَقْرَأْ بِهَا لِلسُّوَرِ الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى قَضَى تِلْكَ الْقِرَاءَةَ وَلَمْ يُكَبِّرْ حِينَ يَهْوِي حَتَّى قَضَى تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَاهُ مَنْ شَهِدَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ كُلِّ مَكَان: يَا مُعَاوِيَةُ أَسَرَقْتَ الصَّلَاةَ أَمْ نَسِيتَ؟ فَلَمَّا صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ قَرَأَ "بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" لِلَّتِي بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَكَبَّرَ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ

 

ج / 3 ص -213-       سُفْيَانَ الْإِمَامُ عَنْ الْحُمَيْدِيِّ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ أَيْضًا فِي إثْبَاتِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ احْتَجَّ بِعَبْدِ الْمَجِيدِ، وَسَائِرُ رُوَاتِهِ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَالَتِهِمْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ خَيْثَمٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي "سُنَنِهِ" وَقَالَ: رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ فَذَكَرَهُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَلَمْ يَقْرَأْ " بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " لِأُمِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَقْرَأْ لِلسُّورَةِ بَعْدَهَا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَزَادَ: وَالْأَنْصَارِ. ثُمَّ قَالَ: فَلَمْ يُصَلِّ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا قَرَأَ " بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " لِأُمِّ الْقُرْآنِ وَلِلسُّورَةِ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَقَالَ: فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ حِينَ سَلَّمَ: يَا مُعَاوِيَةُ أَسَرَقْتَ صَلَاتَكَ؟ أَيْنَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ عَمَّا أُورِد فِي إسْنَادِهِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَتْنِهِ، وَيَكْفِينَا أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي "سُنَنِهِ" وَ "مُسْنَدِهِ" عَنْ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إسْنَادُهُ صَالِحٌ، وَفِيهِ عَنْ "مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّرِيِّ الْعَسْقَلَانِيِّ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ مَا لَا أُحْصِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ فَكَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَبَعْدَهَا، وَسَمِعْتُ الْمُعْتَمِرَ يَقُولُ: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ أُبَيِّ، وَقَالَ أُبَيٌّ: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَقَالَ أَنَسٌ: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم" وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" وَقَالَ: رُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ آخِرِهِمْ ثِقَاتٌ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
"سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الْحَاكِمُ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، قَالَ الْحَاكِمُ: فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مُعَارَضَةٌ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ السَّابِقِ فِي تَرْكِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ ، وَهُوَ كَمَا قَالَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِعْلًا وَرِوَايَةً ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَرْوِي مَا يَفْهَمُ خِلَافَهُ فَهُوَ لَمْ يَقْتَدِ فِي جَهْرِهِ بِهَا إلَّا بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ "عَنْ أَنَسٍ إنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا". قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ قَدْ حَصَلَ لَنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ جِيَادٍ فِي الْجَهْرِ، وَتَعَرَّضَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِتَضْعِيفِ بَعْضِ رُوَاتِهِ عَنْ أَنَسٍ لَمْ نَذْكُرْهَا نَحْنُ، وَتَعَرَّضَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ لِرِوَايَةِ شَرِيكٍ وَطَعَنَ فِيهِ. وَجَوَابُ مَا قَالَ أَنَّ شَرِيكًا مِنْ رِجَالِ"الصَّحِيحَيْنِ" . وَيَكْفِينَا أَنْ نَحْتَجَّ بِمَنْ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالصِّحَّةِ مَا يَرُدُّ قَوْلَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَنَسٍ شَيْءٌ فِي الْجَهْرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه الَّذِي بَدَأَ الدَّارَقُطْنِيّ بِذَكَرِهِ فِي "سُنَنِهِ" قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي صَلَاتِهِ" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا إسْنَادٌ عَلَوِيٌّ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ فِي تَرْكِهِمْ الْبَسْمَلَةَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ سَاقَ الدَّارَقُطْنِيّ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عَلِيٍّ مِنْ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ خَتَمَهَا بِرِوَايَةٍ عَنْهُ حِينَ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله

 

ج / 3 ص -214-       عنه عَنْ السَّبْعِ الْمَثَانِي فَقَالَ "الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" فَقِيلَ: إنَّمَا هِيَ سِتُّ آيَاتٍ، فَقَالَ: "بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" آيَةٌ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَإِذَا صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا يَعْتَقِدُهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ فَلَهَا حُكْمُ بَاقِيهَا فِي الْجَهْرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سَكْتَتَانِ، سَكْتَةٌ إذَا قَرَأَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ" وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَكَتَبُوا إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَكَتَبَ أَنْ صَدَقَ سَمُرَةُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ يُثْبِتُ سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ قَالَ الْخَطِيبُ: فَقَوْلُهُ سَكْتَةٌ إذَا قَرَأَ "بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" يَعْنِي إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ؛ لِأَنَّ السَّكْتَةَ إنَّمَا هِيَ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ لَا بَعْدَهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ
"كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" وَعَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ لَا بِالسُّورَةِ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيَّنٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ ؛ لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِعْلًا وَرِوَايَةً عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَرَدَتْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم. وَهُمَا مِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ جَمِيعِهِمْ اسْمُ السُّورَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ بِالْفَاتِحَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ الْبَسْمَلَةُ فَتَعَيَّنَ الِابْتِدَاءُ بِهَا. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِي "مُسْلِمٍ" "فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ "بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ رِوَايَةٌ لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ الرَّاوِي عَبَّرَ عَنْهُ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ فَأَخْطَأَ، وَلَوْ بَلَّغَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ الْأَوَّلِ لَأَصَابَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحُفَّاظُ، وَلَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد غَيْرَهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ اسْمُ السُّورَةِ كَمَا سَبَقَ.
وَثَبَتَ فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
"كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فِيمَا يُجْهَرُ بِهِ" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ دَلِيلٌ صَرِيحٌ لِتَأْوِيلِنَا، فَقَدْ ثَبَتَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ مَا ظَهَرَ خِلَافَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ خَمْسُ طُرُقٍ إحْدَاهَا: وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِتَلَوُّنِهِ وَاضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ مَعَ تَغَايُرِ مَعَانِيهَا فَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عِنْدِي،؛ لِأَنَّهُ قَالَ مَرَّةً: كَانُوا يَفْتَتِحُونَ "بِالْحَمْدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" وَمَرَّةً كَانُوا لَا يَجْهَرُونَ " بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَمَرَّةً كَانُوا لَا يَقْرَءُونَهَا وَمَرَّةً قَالَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَبَّرْتُ وَنَسِيتُ. فَحَاصِلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّنَا نَحْكُمُ بِتَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ وَلَا نَجْعَلُ بَعْضَهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَيَسْقُطُ الْجَمِيعُ. وَنَظِيرُ مَا فَعَلُوا فِي رَدِّ حَدِيثِ أَنَسٍ. هَذَا مَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ رَدَّ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي الْمُزَارَعَةِ لِاضْطِرَابِهِ وَتَلَوُّنِهِ. وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ كَثِيرُ الْأَلْوَانِ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ نُرَجِّحَ بَعْضَ أَلْفَاظِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى بَاقِيهَا وَنَرُدَّ مَا خَالَفَهَا إلَيْهَا فَلَا نَجِدُ الرُّجْحَانَ إلَّا لِلرِّوَايَةِ الَّتِي عَلَى لَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ
"أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِــ"الْحَمْدُ لِلَّهِ" أَيْ بِالسُّورَةِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ وَلِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ "بِأُمِّ الْقُرْآنِ" فَكَأَنَّ أَنَسًا أَخْرَجَ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى مَنْ يُجَوِّزُ قِرَاءَةَ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ أَوْ يَبْدَأُ

 

ج / 3 ص -215-       بغَيْرِهَا، ثُمَّ افْتَرَقَتْ الرُّوَاةُ عَنْهُ فَمِنْهُمْ مَنْ أَدَّاهُ بِلَفْظِهِ فَأَصَابَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ حَذْفَ الْبَسْمَلَةِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ "كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ" أَوْ فَلَمْ أَسْمَعْهُمْ يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ الْإِسْرَارَ فَعَبَّرَ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ إذَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ رِوَايَاتِ حَدِيثٍ قَضَى الْمُبَيَّنُ مِنْهَا عَلَى الْمُجْمَلِ، فَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ رِوَايَةَ: يَفْتَتِحُونَ مُحْتَمَلَةٌ، فَرِوَايَةُ: لَا يَجْهَرُونَ تُعَيِّنُ الْمُرَادَ. قُلْنَا: وَرِوَايَةُ "بِأُمِّ الْقُرْآنِ" تُعَيِّنُ الْمَعْنَى الْآخَرَ فَاسْتَوَيَا وَسَلِمَ لَنَا مَا سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْجَهْرِ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ، وَتِلْكَ لَا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا وَهَذِهِ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَأُوِّلَتْ وَجُمِعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَأَلْفَاظِهَا.
الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَا يُنَافِي أَحَادِيثَ الْجَهْرِ الصَّحِيحَةَ السَّابِقَةَ: أَمَّا الرِّوَايَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَجْهَرُونَ فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْجَهْرِ الشَّدِيدِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الاسراء: 110] فَنَفَى أَنَسٌ رضي الله عنه الْجَهْرَ الشَّدِيدَ دُونَ أَصْلِ الْجَهْرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ هُوَ رَوَى الْجَهْرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى "يُسِرُّونَ" فَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْإِسْرَارِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ يُسِرُّونَ التَّوَسُّطَ الْمَأْمُورَ بِهِ الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَهْر الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَالْإِسْرَارِ، وَاخْتَارَ هَذَا اللَّفْظَ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الْجَهْرِ الشَّدِيدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْجَهْرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قِرَاءَةُ الْأَعْرَابِ" أَرَادَ، الْجَهْرُ الشَّدِيدُ قِرَاءَةُ الْأَعْرَابِ؛ لِجَفَائِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِمَّنْ رَأَى الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ كَمَا سَبَقَ.
الطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ: رَجَّحَهَا الْإِمَامُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهِيَ رَدُّ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ إلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ بِالْبَسْمَلَةِ دُونَ تَرْكِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ الْجَهْرُ بِهَا بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ عَنْ أَنَسٍ وَكَأَنَّ أَنَسًا بَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ بِهَا فَقَالَ "أَنَا صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ فَرَأَيْتُهُمْ يُسِرُّونَ بِهَا" أَيْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَلَمْ يُرِدْ الدَّوَامَ، بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ الْجَهْرِ رِوَايَةً وَفِعْلًا كَمَا سَبَقَ، فَتَكُون أَحَادِيثُ أَنَسٍ قَدْ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَوُقُوعِهِمَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمَا: الْجَهْرُ وَالْإِسْرَارُ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ أَفْعَالُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ: هَذَا عِنْدِي مِنْ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، وَالْجَهْرُ أَحَبُّ إلَيَّ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى " لَمْ يَقْرَأْ " أَيْ لَمْ يَجْهَرْ، وَلَمْ أَسْمَعْهُمْ يَقْرَءُونَ، أَيْ يَجْهَرُونَ.
الطَّرِيقَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُقَالَ: نَطَقَ أَنَسٌ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمَرْوِيَّةِ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فِي "الِاسْتِدْلَالِ" وَ "الْبَيَانِ". فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حَمَلْتُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ رضي الله عنه عَلَى أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الْجَهْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ حَكَى ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ؟ قُلْنَا: مَنَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْجَهْرَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ، فَلَا يَخْتَارُ أَنَسٌ لِنَفْسِهِ إلَّا مَا كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَإِنْ رُمْنَا تَرْجِيحَ الْجَهْرِ فِيمَا نَقَلَ أَنَسٌ، قُلْنَا: هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مُسْلِمٌ الْمُصَرِّحَةُ بِحَذْفِ الْبَسْمَلَةِ أَوْ بِعَدَمِ الْجَهْرِ بِهَا قَدْ عُلِّلَتْ وَعُورِضَتْ بِأَحَادِيثِ الْجَهْرِ الثَّابِتَةِ عَنْ أَنَسٍ، وَالتَّعْلِيلُ يُخْرِجُهَا مِنْ الصِّحَّةِ إلَى الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ أَنْ لَا يَكُونَ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا، وَإِنْ اتَّصَلَ سَنَدُهُ بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطٍ عَنْ مِثْلِهِ، فَالتَّعْلِيلُ يُضْعِفُهُ لِكَوْنِهِ اطَّلَعَ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ

 

ج / 3 ص -216-       قَادِحَةٍ فِي صِحَّتِهِ كَاشِفَةٍ عَنْ وَهْمٍ لِبَعْضِ رُوَاتِهِ، وَلَا يَنْفَعُ حِينَئِذٍ إخْرَاجُهُ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ضَعِيفٌ، وَقَدْ خَفِيَ ضَعْفُهُ وَقَدْ تَخْفَى الْعِلَّةُ عَلَى أَكْثَرِ الْحُفَّاظِ وَيَعْرِفُهَا الْفَرْدُ مِنْهُمْ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ هُنَا بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ إخْرَاجِهِ.
وَقَدْ عُلِّلَ حَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا بِثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ مُفَصَّلَةً، وَقَالَ: الثَّامِنُ فِيهَا "أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا أَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ أَوْ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ فَقَالَ: إنَّكَ لَتَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا أَحْفَظُهُ وَمَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي سُنَنِهِ، وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَوَقُّفِ أَنَسٍ وَعَدَمِ جَزْمِهِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ الْجَزْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَاضْطَرَبَتْ أَحَادِيثُهُ، وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ فَتَعَارَضَتْ فَسَقَطَتْ، وَإِنْ تَرَجَّحَ بَعْضُهَا فَالتَّرْجِيحُ: الْجَهْرُ لِكَثْرَةِ أَحَادِيثِهِ، وَلِأَنَّهُ إثْبَاتٌ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ وَلَعَلَّ النِّسْيَانَ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ حُفِظَ عَنْهُ، حُجَّةٌ عَلَى مَنْ سَأَلَهُ فِي حَالِ نِسْيَانِهِ وَالله أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالْحُفَّاظُ: هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ مَجْهُولٌ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الله مَجْهُولٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ابْنُ عَبْدِ الله مَجْهُولٌ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَالَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الله مَجْهُولٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْحُفَّاظِ قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى مَجْهُولٍ وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ. وَذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ فِي الْبَسْمَلَةِ: إنَّ ذَلِكَ فِي صَلَاةٍ سِرِّيَّةٍ لَا جَهْرِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَرْفَعُ قِرَاءَتَهُ بِالْبَسْمَلَةِ وَغَيْرِهَا رَفْعًا يَسْمَعُهُ مَنْ عِنْدَهُ فَنَهَاهُ أَبُوهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: هَذَا مُحْدَثٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَهَا حُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ. الثَّانِي: جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الله مَجْهُولٌ وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْجَهْرِ ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الله بْنَ مُغَفَّلٍ مِنْ أَحْدَاثِ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ شُيُوخِهِمْ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ
"لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْرُبُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ الله بْنُ مُغَفَّلٍ يَبْعُدُ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَارِئَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ وَيَجْهَرُ بِقِرَاءَتِهِ فِي أَثْنَائِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَوَّلِهَا فَلَمْ يَحْفَظْ عَبْدُ الله الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ؛ لِأَنَّهُ بَعِيدٌ، وَهِيَ أَوَّلُ الْقِرَاءَةِ، وَحَفِظَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ لِقُرْبِهِ وَإِصْغَائِهِ وَجَوْدَةِ حِفْظِهِ وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَجَوَابُهُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ الْيَمَامِيِّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ لَا سِيَّمَا فِي رِوَايَتِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، هَذَا وَفِيهِ ضَعْفٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ1 النَّخَعِيّ لَمْ يُدْرِكْ ابْنَ مَسْعُودٍ بِالِاتِّفَاقِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال العجلي: رأي عائشة رؤيا وكان مفتي أهل الكوفة، وكان رجلا صالحا فقيها متوقيا قليل التكلف ومات =

 

ج / 3 ص -217-       ضَعِيفٌ وَإِذَا ثَبَتَ ضَعْفُهُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، وَلَوْ كَانَتْ لَكَانَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِالْجَهْرِ مُقَدَّمَةً لِصِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا وَلِأَنَّهَا إثْبَاتٌ وَهَذَا نَفْيٌ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ سَعِيد بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْجَهْرَ مَنْسُوخٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا عَنْهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، "وَقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء: 110] فَيَسْمَعُ الْمُشْرِكُونَ فَيَهْزَءُونَ {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110] وَفِي رِوَايَةٍ فَخَفَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي - وَالله أَعْلَمُ - فَخَفَضَ بِهَا دُونَ الْجَهْرِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَبْلُغُ أَسْمَاعَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ يَجْهَرُ بِهَا جَهْرًا يُسْمِعُ أَصْحَابَهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا نَهَاهُ عَنْ الْجَهْرِ بِهَا نَهَاهُ عَنْ الْمُخَافَتَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصًّا بِالْبَسْمَلَةِ بَلْ كُلُّ الْقِرَاءَةِ فِيهِ سَوَاءٌ. وَأَمَّا مَا حَكَوْا عَنْ الدَّارَقُطْنِيّ فَلَا يَصِحُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ صَحَّحَ فِي سُنَنِهِ كَثِيرًا مِنْ أَحَادِيثِ الْجَهْرِ كَمَا سَبَقَ، وَكِتَابُ السُّنَنِ صَنَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيّ بَعْدَ كِتَابِ الْجَهْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَحَالَ فِي "السُّنَنِ" عَلَيْهِ ، فَإِنْ صَحَّتْ تِلْكَ الْحِكَايَةُ حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ آخِرًا عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ لَيْسَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْهَا شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَحَّتْ فِي غَيْرِهَا ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَقَدْ سَبَقَ اسْتِنْبَاطُ الْجَهْرِ مِنْ "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ بِدْعَةٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - الْعَقِيقَةُ بِدْعَةٌ، وَصَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ بِدْعَةٌ، وَهُمَا سُنَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهَا، وَمَذْهَبُ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ، فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْأَكْثَرِينَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ. "وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ" عَلَى التَّعَوُّذِ "فَجَوَابُهُ" أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَمَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِخِلَافِ التَّعَوُّذِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ الْجَهْرُ ثَابِتًا لَنُقِلَ تَوَاتُرًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِكُلِّ حُكْمٍ، وَالله أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَهَا مُرَتَّبًا فَإِنْ قَرَأَ فِي خِلَالِهَا غَيْرَهَا نَاسِيًا ثُمَّ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهو مختف من الحجاج. وقال الأعمش كان إبراهيم خيرا في الحديث وقال الشعبي ما ترك أحدا أعلم منه وقال ابن معين مراسيل إبراهيم أحب إلى الشعبي، وقال الأعمش قلت لإبراهيم: أسند لي عن ابن مسعود، فقال إبراهيم إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله قال أبو نعيم: مات سنة 96وقال غيره: وهو ابن 49 سنة وقيل ابن 58 وقال أحمد عن حماد بن خالد عن شعبة: لم يسمع النخعي من أبي عبد الله الجدلي حديث خزيمة بن ثابت في المسح وفي العلل الكبير للترمذي: سمع إبراهيم النخعي حديث أبي عبد الله الجدلي من إبراهيم التيمي، والتيمي هذا لم يسمعه منه، وقال ابن المدني: لم يلق النخعي أحدا من أصحاب رسوالله صلى الله عليه وسلم فقلت له: فعائشة؟ قال: هذا لم يروه غير سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن عن إبراهيم وهوضعيف فقد رأى أبا جحيفة وزيد بن أرقم وابن أبي أوفى ولم يسمع من ابن عباس ا هـ ملخصا من تهذيب التهذيب وتاريخ بغداد والجرح والتعديل أبي حاتم وغيرها (ط).

 

ج / 3 ص -218-       أَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ وَإِنْ قَرَأَ عَامِدًا لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْقِرَاءَةَ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَإِنْ نَوَى قَطْعَهَا وَلَمْ يَقْطَعْ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْنَافُهَا؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِاللِّسَانِ وَلَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى قَطْعَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ بِالْقَلْبِ وَقَدْ قَطَعَ ذَلِكَ.
الشرح:
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقْرَأُ هَكَذَا" وَثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" فَإِنْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فَقَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ وَأَخَّرَ الْمُقَدَّمَ - فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ - بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَ أَنَّهُ قَرَأَ آيَةً أَوْ آيَاتٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاهِيًا لَمْ يُعْتَدَّ بِالْمُؤَخَّرِ وَيَبْنِي عَلَى الْمُرَتَّبِ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: إلَّا أَنْ يَطُولَ الْفَصْلُ فَيَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْقِرَاءَةِ هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ يَعْتَبِرُ التَّرْتِيبَ مُبْطِلًا لِلْمَعْنَى تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَمَا إذَا تَعَمَّدَهُ، كَمَا قَالُوا إذَا تَعَمَّدَ تَغْيِيرَ التَّشَهُّدِ تَغْيِيرًا يُبْطِلُ الْمَعْنَى ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ وَأَمَّا الْمُوَالَاةُ فَمَعْنَاهَا أَنْ يَصِلَ الْكَلِمَاتِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ ، وَلَا يَفْصِلَ إلَّا بِقَدْرِ التَّنَفُّسِ فَإِنْ أَخَلَّ بِالْمُوَالَاةِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فَيُنْظَرُ إنْ سَكَتَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ طَوِيلًا بِحَيْثُ أَشْعَرَ بِقَطْعِهِ الْقِرَاءَةَ أَوْ إعْرَاضِهِ عَنْهَا مُخْتَارًا أَوْ لِعَائِقٍ بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُ الْفَاتِحَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ قِرَاءَتُهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ، وَإِنْ قَصُرَتْ مُدَّةُ السُّكُوتِ لَمْ يُؤَثِّرْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ نَوَى قَطْعَ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يَسْكُتْ لَمْ تَبْطُلْ قِرَاءَتُهُ بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ قَالَ فِي "الْأُمِّ" : لِأَنَّهُ حَدِيثُ نَفْسٍ وَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُ، وَإِنْ نَوَى قَطْعَهَا وَسَكَتَ طَوِيلًا بَطَلَتْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ سَكَتَ يَسِيرًا بَطَلَتْ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ حَكَاهُ صَاحِبُ الْحَاوِي وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ الْفَرْدَةَ لَا تُؤَثِّرُ، وَكَذَا السُّكُوتُ الْيَسِيرُ، وَكَذَا إذَا اجْتَمَعَا.
وَإِنْ أَتَى فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ بِتَسْبِيحٍ أَوْ تَهْلِيلٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَذْكَارِ أَوْ قَرَأَ آيَةً مِنْ غَيْرِهَا عَمْدًا بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَثُرَ ذَلِكَ أَوْ قَلَّ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِقِرَاءَتِهَا. هَذَا فِيمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُصَلِّي، فَأَمَّا مَا أُمِرَ بِهِ إلَيْهِ كَتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ لِتَأْمِينِ إمَامِهِ، وَسُجُودِهِ لِتِلَاوَتِهِ، فَفِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُخِلَّ بِالْمُوَالَاةِ نَاسِيًا فَالصَّحِيحُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ قِرَاءَتُهُ، بَلْ يَبْنِي عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، سَوَاءٌ كَانَ أَخَلَّ بِالْمُوَالَاةِ بِسُكُوتٍ أَمْ بِقِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَائِهَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي"الْأُمِّ" وَقَالَهُ الْأَصْحَابُ، قَالَ فِي"الْأُمِّ" : لِأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ فِي النِّسْيَانِ، وَقَدْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ كُلَّهَا، وَسَوَاءٌ قُلْنَا يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْفَاتِحَةِ نَاسِيًا أَمْ لَا، وَمَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى انْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ بِالنِّسْيَانِ إذَا قُلْنَا: لَا تَسْقُطُ الْقِرَاءَةُ بِالنِّسْيَانِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ أُعْيِيَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ فَسَكَتَ لِلْإِعْيَاءِ ثُمَّ بَنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ حِينَ أَمْكَنَهُ صَحَّتْ قِرَاءَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ"  ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَهَا مُرَتَّبًا فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَقَوْلُهُ فَإِنْ قَرَأَ فِي

 

ج / 3 ص -219-       خِلَالِهَا غَيْرَهَا إلَى آخِرِهِ لَيْسَ مُرَادُهُ بِهِ تَفْسِيرَ التَّرْتِيبِ وَالتَّفْرِيعَ عَلَيْهِ، إذْ لَيْسَ فِي هَذَا تَرْكُ تَرْتِيبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُوَالَاةَ وَاجِبَةٌ كَالتَّرْتِيبِ فَبَيَّنَّ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمُوَالَاةَ عَمْدًا لَا تُجْزِيهِ الْقِرَاءَةُ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ قَوْلِهِ: وَتَجِبُ الْمُوَالَاةُ وَالله أَعْلَمُ
فرع: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إذَا كَرَّرَ الْفَاتِحَةَ أَوْ آيَةً مِنْهَا كَانَ شَيْخِي يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَشَكُّكِهِ فِي أَنَّ الْكَلِمَةَ قَرَأَهَا جَيِّدًا كَمَا يَنْبَغِي أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ كَرَّرَ كَلِمَةً مِنْهَا بِلَا سَبَبٍ كَانَ شَيْخِي يَتَرَدَّدُ فِي إلْحَاقِهِ بِمَا لَوْ أَدْرَجَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ ذِكْرًا آخَرَ. قَالَ الْإِمَامُ وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ مُوَالَاتُهُ بِتَكْرِيرِ كَلِمَةٍ مِنْهَا كَيْفَ كَانَ، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ وَقَدْ جَزَمَ شَيْخُهُ وَهُوَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةِ بِأَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ كَرَّرَهَا لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّفَكُّرِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ إنْ كَرَّرَ آيَةً لَمْ تَنْقَطِعْ الْقِرَاءَةُ، وَإِنْ قَرَأَ نِصْفَ الْفَاتِحَةِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَتَى بِالْبَسْمَلَةِ فَأَتَمَّهَا ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ أَتَى بِهَا يَجِبُ أَنْ يُعِيدَ مَا قَرَأَ بَعْدَ الشَّكِّ، وَلَا يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ فِيهَا غَيْرَهَا.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْفَاتِحَةِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي إنْ كَرَّرَ الْآيَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا لَمْ تَبْطُلْ قِرَاءَتُهُ، وَإِنْ أَعَادَ بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فَرَغَ مِنْهَا بِأَنْ وَصَلَ إلَى "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" ثُمَّ قَرَأَ "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى الْقِرَاءَةِ مِنْ "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" أَجْزَأَتْهُ قِرَاءَتُهُ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" ثُمَّ عَادَ فَقَرَأَ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" لَمْ تَصِحَّ قِرَاءَتُهُ وَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي التِّلَاوَةِ وَهَذَا إنْ كَانَ عَامِدًا فَإِنْ كَانَ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا لَمْ تَنْقَطِعْ قِرَاءَتُهُ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَكَذَا لَا تَبْطُلُ قِرَاءَتُهُ هُنَا وَأَمَّا صَاحِبُ الْبَيَانِ فَقَالَ: إنْ قَرَأَ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ أَوَّلَ آيَةً أَوْ آخِرَهَا لَمْ يَضُرَّ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَثْنَائِهَا فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ أَنَّهُ كَمَا لَوْ قَرَأَ فِي خِلَالِهَا غَيْرَهَا فَإِنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَهُ بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ، وَإِنْ سَهَا بَنَى، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْبَيَانِ لَمْ يَقِفْ عَلَى النَّقْلِ الَّذِي حَكَيْتُهُ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَلِهَذَا قَالَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ، وَهَذِهِ عَادَتُهُ فِيمَا لَمْ يَرَ فِيهِ نَقْلًا وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ الْفَاتِحَةَ فَأَمَّنَ وَالْمَأْمُومُ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ فَأَمَّنَ بِتَأْمِينِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ تَنْقَطِعُ الْقِرَاءَةُ كَمَا لَوْ قَطَعَهَا بِقِرَاءَةِ غَيْرِهَا. وَقَالَ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ لَا تَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ فَلَا تَنْقَطِعُ الْقِرَاءَةُ كَالسُّؤَالِ فِي آيَةِ الرَّحْمَةِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ النَّارِ فِي آيَةِ الْعَذَابِ فِيمَا يَقْرَأُ فِي صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا.
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَتَى فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ بِمَا نُدِبَ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ وَسُجُودِهِ مَعَهُ لِتِلَاوَتِهِ وَفَتْحِهِ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ وَسُؤَالِهِ الرَّحْمَةَ عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَتِهَا وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْعَذَابِ عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَلْ تَنْقَطِعُ مُوَالَاةُ الْفَاتِحَةِ؟ "فِيهِ وَجْهَانِ" مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْقَطِعُ بَلْ يُبْنَى عَلَيْهَا وَتَجْزِيهِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَالْقَفَّالُ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَأَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْبَسِيطِ، وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ: وَالثَّانِي: تَنْقَطِعُ فَيَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيِّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَلَا يَطَّرِدُ الْوَجْهَانِ فِي كُلِّ مَنْدُوبٍ، فَلَوْ أَجَابَ الْمُؤَذِّنَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ أَوْ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ فَتَحَ

 

ج / 3 ص -220-       الْقِرَاءَةَ عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ أَوْ سَبَّحَ لِمَنْ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ أَوْ نَحْوَهُ انْقَطَعَتْ الْمُوَالَاةُ بِلَا خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَالْأَصْحَابُ قَالُوا: وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي ذِكْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالصَّلَاةِ لِمُصَلِّيهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ السُّؤَالَ فِي آيَةِ الرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ لَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ وَجْهًا وَاحِدًا وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي التَّأْمِينِ. وَلَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ، بَلْ الْوَجْهَانِ فِي السُّؤَالِ عِنْدَ آيَةِ الرَّحْمَةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ لِآيَةِ الْعَذَابِ مَشْهُورَانِ صَرَّحَ بِهِمَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَوَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" وَآخَرُونَ لَا يُحْصَرُونَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَرَيَانِهِ فِي سُجُودِهِ مَعَ إمَامِهِ لِلتِّلَاوَةِ.
وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: قِيَاسُهُ عَلَى السُّؤَالِ فِي آيَةِ الرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ كَمَا ذَكَرْنَا وَالثَّانِي: إضَافَتُهُ عَدَمَ الِانْقِطَاعِ إلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَحْدَهُ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُهُ، أَوْ لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، بَلْ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الِانْقِطَاعِ لِأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ ذَكَرَهُ فِي الْإِفْصَاحِ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ بِأَزْمَانٍ، وَالْعَجَبُ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي تَعْلِيقِهِ وَقَالَ: فِيهَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فِي الْإِفْصَاحِ لَا يَنْقَطِعُ: وَالثَّانِي: قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ يَنْقَطِعُ فَكَانَ يَنْبَغِي لَلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَهُ شَيْخُهُ: وَالثَّانِي لَا يَنْقَطِعُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا أَبُو الطَّيِّبِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَلَوْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ فَقَرَأَ الْإِمَامُ:
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة:40] فَقَالَ الْمَأْمُومُ: بَلَى. تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ يَعْنِي أَنَّهُ كَسُؤَالِ الرَّحْمَةِ فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَاف وَالله أَعْلَمُ. وَالْأَحْوَطُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْفَاتِحَةَ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ.
"وَاعْلَمْ" أَنَّ الْخِلَافَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ أَتَى بِذَلِكَ عَامِدًا عَالَمًا. أَمَّا مَنْ أَتَى بِهِ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا فَلَا تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ" وَغَيْرُهُ وَهُوَ وَاضِحٌ مَفْهُومٌ مِمَّا سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِمَا تَخَلَّلَهَا فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ، قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ دَلِيلُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِمَا تَخَلَّلَهَا نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَكَذَا الْفَاتِحَةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَتَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لِمَا رَوَى رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ
"بَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَرَجُلٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَعِدْ صَلَاتَكَ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَقَالَ: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ - إلَى أَنْ قَالَ - ثُمَّ اصْنَعْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ذَلِكَ" وَلِأَنَّهَا رَكْعَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ فَوَجَبَ فِيهَا الْقِرَاءَةُ كَالرَّكْعَةِ الْأُولَى.
الشرح:
حَدِيثُ رِفَاعَةَ هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِبَعْضِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمْ قَوْلُهُ فِي "الْمُهَذَّبِ" "ثُمَّ اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ" بَلْ فِيهَا "فَاقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ" وَلَيْسَ فِي أَكْثَرِهَا "ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ" وَفِي رِوَايَةٍ "دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ، ثَلَاثًا. فَقَالَ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي ، فَقَالَ: إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ

 

ج / 3 ص -221-       رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ" وَذَكَرَ تَمَامَهُ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي كِتَابِ السَّلَامِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الدَّلَالَةِ وَفِيهِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ فَائِدَةً قَدْ جَمَعْتُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ إلَّا رَكْعَةَ الْمَسْبُوقِ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَإِنَّهُ لَا يَقْرَأُ وَتَصِحُّ لَهُ الرَّكْعَةُ، وَهَلْ يُقَالُ يَحْمِلُهَا عَنْهُ الْإِمَامُ أَمْ لَمْ تَجِبْ أَصْلًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ أَصَحُّهُمَا: يَحْمِلُهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ1 لَمْ تُحْسَبَ هَذِهِ الرَّكْعَةُ لِلْمَأْمُومِ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل وفيها سقط فحرره (ش) قلت: ولعله (لو كان الإمام صبيا) لأنه لا يحمل البالغ على المذهب (ط).

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ
قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَنَا وُجُوبُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ رضي الله عنهما ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، وَأَمَّا الْأُخْرَيَانِ فَلَا تَجِبُ فِيهِمَا قِرَاءَةٌ ، بَلْ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ دَاوُد: لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ إلَّا فِي رَكْعَةٍ مِنْ كُلِّ الصَّلَوَاتِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ إنْ قَرَأَ فِي أَكْثَرِ الرَّكَعَاتِ أَجْزَأَهُ. وَعَنْ الثَّوْرِيِّ إنْ قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ الصُّبْحِ أَوْ الرُّبَاعِيَّةِ فَقَطْ لَمْ يُجْزِهِ، وَعَنْ مَالِكٍ إنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ الصُّبْحِ لَمْ تُجْزِهِ، وَإِنْ تَرَكَهَا فِي رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِهَا أَجُزْأَهُ. وَاحْتُجَّ لِمَنْ لَمْ يُوجِبْ قِرَاءَةً فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِقَوْلِ الله تَعَالَى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] وَبِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْنَا لِشَابٍّ: سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ فَقَالَ: لَا لَا ، فَقِيلَ لَهُ: لَعَلَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ؟ فَقَالَ خَمْشًى ، هَذِهِ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى كَانَ عَبْدًا مَأْمُورًا بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَمَا اخْتَصَّنَا دُونَ النَّاسِ بِشَيْءٍ إلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ ، أَمَرَنَا أَنْ نُسْبِغَ الْوُضُوءَ، وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ لَا نُنْزِيَ الْحِمَارَ عَلَى الْفَرَسِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَقَوْلُهُ "خَمْشًا" هُوَ بِالْخَاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ خَمَشَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ خَمْشًا كَقَوْلِهِمْ عَقْرَى حَلْقَى.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"لَا أَدْرِي أَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَمْ لَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَبِحَدِيثِ عُبَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالُوا: وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَسَبَّحَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ


 

 

ج / 3 ص -222-       وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ فِي حَدِيثِ "الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ" وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا" وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ "ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ" وَبِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ، وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْلُهُ فِي "صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ" و "وَمُسْلِمٍ" ، لَكِنَّ قَوْلَهُ " يَقْرَأُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ" وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِأَشْيَاءَ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ. وَعَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَفَى وَغَيْرُهُ أَثْبَتَ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي وَكَيْفَ؟ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَأَكْبَرُ سِنًّا وَأَقْدَمُ صُحْبَةً وَأَكْثَرُ اخْتِلَاطًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا سِيَّمَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو قَتَادَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُ أَحَادِيثِهِمْ عَلَى حَدِيثِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تُبَيِّنُ أَنَّ نَفْيَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْمِينِ وَالظَّنِّ لَا عَنْ تَحْقِيقٍ، فَلَا يُعَارِضُ الْأَكْثَرِينَ الْجَازِمِينَ بِإِثْبَاتِ الْقِرَاءَةِ. وَعَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَعَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ سَبَقَ بَيَانُ تَضْعِيفِهِ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ: وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الْفَاتِحَةُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَعَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَهُوَ كَذَّابٌ مَشْهُورٌ بِالضَّعْفِ عِنْدَ الْحُفَّاظِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ خِلَافَهُ، وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فِي الْحَدِيثِ "بَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ" قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصْلُ بَيْنَا "بَيْنَ" فَأُشْبِعَتْ الْفَتْحَةُ فَصَارَتْ أَلِفًا قَالَ: وَبَيْنَمَا بِمَعْنَاهُ زِيدَتْ فِيهِ "مَا" قَالَ وَتَقْدِيرُهُ بَيْنَ أَوْقَاتِ جُلُوسِهِ جَرَى كَذَا وَكَذَا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهَا رَكْعَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ فَوَجَبَ فِيهَا الْقِرَاءَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُهُ "يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ" احْتِرَازٌ مِنْ رَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ، وَقَوْلُهُ: "مَعَ الْقُدْرَةِ" احْتِرَازٌ مِمَّنْ لَمْ يُحْسِنْ الْفَاتِحَةَ، وَفِي هَذَا الْقِيَاسِ رَدٌّ عَلَى جَمِيعِ الْمُخَالِفِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ رَاوِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ أَبُو مُعَاذٍ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الْأَنْصَارِيُّ الزُّرَقِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ أَبُوهُ صَحَابِيًّا نَقِيبًا1 تُوُفِّيَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا فِي فَصْلِ الِاعْتِدَالِ، وَقَالَ فِيهِ: رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ نِسْبَةً إلَى جَدِّهِ وَهُوَ صَحِيحٌ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وشهد أحدا وسائر المشاهد أيضا وأمه أم مالك بنت أبي ابن سلول وشهد معه بدرا أخواه خلاد ومالك وشهد مع علي الجمل وصفين (ط).

 

ج / 3 ص -223-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَهَلْ تَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ؟ فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ يُسِرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ يَجْهَرُ فِيهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْأُمِّ وَالْبُوَيْطِيِّ يَجِبُ، لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم [الصُّبْحَ] فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنِّي لَأَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ، قُلْنَا: وَالله أَجَلْ يَا رَسُولَ الله نَفْعَلُ هَذَا. قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا" وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ قِيَامُ الْقِرَاءَةِ لَزِمَهُ الْقِرَاءَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَقْرَأُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله قَالَ: إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟ فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم".
الشَّرْحُ:
هَذَانِ الْحَدِيثَانِ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُمَا حَدِيثَانِ حَسَنَانِ. وَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَضَعَّفَ الثَّانِيَ "حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ" وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ابْنُ أُكَيْمَةَ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ - وَهُوَ مَجْهُولٌ. قَالَ وَقَوْلُهُ: "فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ" وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ حِينَ مَيَّزَهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ "أَجَلْ يَا رَسُولَ الله نَفْعَلُ هَذَا" هُوَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَتَنْوِينِهَا هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَهَكَذَا ضَبَطَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "مَعَالِمِ السُّنَنِ" ، وَكَذَا ضَبَطْنَاهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ "نَهُذُّهُ هَذًّا" "أَوْ نَدْرُسُهُ دَرْسًا" قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: الْهَذُّ السُّرْعَةُ وَشِدَّةُ الِاسْتِعْجَالِ فِي الْقِرَاءَةِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْهَذِّ هُنَا الْجَهْرُ، وَتَقْدِيرُهُ يَهُذُّ هَذًّا، وَقَدْ بَسَطْتُ شَرْحَهُ وَضَبْطَهُ فِي تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ:. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ "وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ قِيَامُ الْقِرَاءَةِ لَزِمَهُ الْقِرَاءَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْإِمَامِ" اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: "لَزِمَهُ قِيَامُ الْقِرَاءَةِ" عَنْ الْمَسْبُوقِ ، وَبِقَوْلِهِ "مَعَ الْقُدْرَةِ" عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَعَلَى الْمَسْبُوقِ فِيمَا يُدْرِكُهُ مَعَ الْإِمَامِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْقَدِيمِ" : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْجَهْرِ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ "الْقَدِيمِ" وَ "الْإِمْلَاءِ" ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِمْلَاءَ مِنْ الْجَدِيدِ، وَنَقَلَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنْ "الْقَدِيمِ" وَ "الْإِمْلَاءِ"وَبَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِنْ الْجَدِيدِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَجْهًا فِي السِّرِّيَّةِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ فَالْمُرَادُ بِاَلَّتِي يُشْرَعُ فِيهَا الْجَهْرُ، فَأَمَّا ثَالِثَةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَرَابِعَةُ الْعِشَاءِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِأَنْ كَانَ أَصَمَّ أَوْ بَعِيدًا مِنْ الْإِمَامِ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَفِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ، أَصَحُّهُمَا: تَجِبُ؛ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ كَالسِّرِّيَّةِ: وَالثَّانِي: لَا

 

ج / 3 ص -224-       تَجِبُ ؛ لِأَنَّهَا جَهْرِيَّةٌ. وَلَوْ جَهَرَ الْإِمَامُ فِي السِّرِّيَّةِ أَوْ أَسَرَّ فِي الْجَهْرِيَّةِ فَوَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِفِعْلِ الْإِمَامِ وَالثَّانِي: بِصِفَةِ أَصْلِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ الْمَأْمُومُ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّعَوُّذُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَ "الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُمَا أَصَحُّهُمَا: لَا ، إذْ لَا قِرَاءَةَ. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ سِرِّيٌّ، وَإِذَا قُلْنَا: يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ فِي الْجَهْرِيَّةِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ بِحَيْثُ يُؤْذِي جَارَهُ ، بَلْ يُسِرُّ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا وَلَا شَاغِلَ مِنْ لَفْظ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَدْنَى الْقِرَاءَةِ الْمُجْزِئَةِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسَائِلِ الْفَرْعِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ لَهَا. قَالَ السَّرَخْسِيُّ فِي "الْأَمَالِي" : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ فِي هَذِهِ السَّكْتَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: "اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ" إلَى آخِرِهِ.
"قُلْت" وَمُخْتَارُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ سِرًّا، وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَ فِيهَا سُكُوتٌ حَقِيقِيٌّ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى قِرَاءَتِهِ فِي انْتِظَارِهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَلَا تَمْنَعُ تَسْمِيَتُهُ سُكُوتًا مَعَ الذِّكْرِ فِيهِ كَمَا فِي السَّكْتَةِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ سُكُوتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَهْرِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، وَدَلِيلُ هَذِهِ السَّكْتَةِ حَدِيثُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ "أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَعِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ تَذَاكَرَا فَحَدَّثَ سَمُرَةُ أَنَّهُ حَفِظَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سَكْتَتَيْنِ سَكْتَةً إذَا كَبَّرَ وَسَكْتَةً إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فَحَفِظَ ذَلِكَ سَمُرَةُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عِمْرَانُ وَكَتَبَا فِي ذَلِكَ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهم فَكَانَ فِي كِتَابِهِ إلَيْهِمَا: أَنَّ سَمُرَةَ قَدْ حَفِظَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ بِمَعْنَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَةِ رَفْعِ الْمَأْمُومِ صَوْتَهُ حَدِيثٌ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" سَنَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْجَهْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ هِيَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ قَالَ: وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: لَا قِرَاءَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا يَقْرَأُ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَتَجِبُ الْقِرَاءَةُ فِي السِّرِّيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ1 تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: تَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَا تَقْرَأُ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ فَذَكَرَ الْمَذَاهِبَ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرُ، وَحَكَى الْإِيجَابَ مُطْلَقًا عَنْ مَكْحُولٍ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَحَكَى الْعَبْدَرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ولعل: أصحاب الحديث كما هو واضح من السياق بعد (ط).

 

ج / 3 ص -225-       فَإِنْ كَانَتْ جَهْرِيَّةً وَلَمْ يَسْكُتْ لَمْ يَقْرَأْ، وَإِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً اُسْتُحِبَّتْ الْفَاتِحَةُ وَسُورَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ مَعْصِيَةٌ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عَلَى السُّنَّةِ وَأَحْوَطُهَا، ثُمَّ رَوَى الْأَحَادِيثَ فِيهِ ثُمَّ رَوَاهُ بِأَسَانِيدِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَهِشَامِ بْنِ عَامِرٍ وَعِمْرَانَ وَعَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. فَرَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمَكْحُولٍ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمهما الله.
وَاحْتُجَّ لِمَنْ قَالَ: لَا يَقْرَأُ مُطْلَقًا بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ مَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَنْبَسَةَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَدَّادٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ" وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَرَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: مَنْ الَّذِي يُخَالِجُنِي سُورَتِي؟" فَنَهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: "سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: وَجَبَتْ هَذِهِ؟ فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ أَقْرَبَ الْقَوْمِ إلَيْهِ: مَا أَرَى الْإِمَامَ إذَا أَمَّ الْقَوْمَ إلَّا قَدْ كَفَاهُمْ" وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ" وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: "مَنْ قَرَأَ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ " قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ "الْإِمَامُ ضَامِنٌ" وَلَيْسَ يَضْمَنُ إلَّا الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ قَالُوا: وَلِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ فَسَقَطَتْ عَنْ الْمَأْمُومِ كَالسُّورَةِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَكَرَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"لَا صَلَاةَ لِمَنْ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُصَلٍّ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ الْمَأْمُومِ بِمُخَصَّصٍ صَرِيحٍ فَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ وَبِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إمَامِكُمْ قُلْنَا: نَعَمْ هَذَا يَا رَسُولَ الله قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَيَّارٍ عَنْ مَكْحُولٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ وَالْمُدَلِّسُ إذَا قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ ، لَا يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُحَدِّثِينَ ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيَّ رَوَيَاهُ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ بِهَذَا فَذَكَرَهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي إسْنَادِهِ: هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَاعِدَةِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ الْمُدَلِّسَ إذَا رَوَى حَدِيثَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ قَالَ فِي إحْدَاهُمَا عَنْ وَفِي الْأُخْرَى حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي كَانَ الطَّرِيقَانِ صَحِيحَيْنِ ، وَحُكِمَ بِاتِّصَالِ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ

 

ج / 3 ص -226-       حَصَلَ ذَلِكَ هُنَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طُرُقٍ، وَكَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَفِي بَعْضِهَا: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَعْضَ الصَّلَاةِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: لَا يَقْرَأَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إذَا جَهَرْتُ بِالْقِرَاءَةِ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ عَقِبَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ عَنْ عُبَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ شَوَاهِدُ. ثُمَّ رَوَى أَحَادِيثَ شَوَاهِدَ لَهُ. وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ ، خِدَاجٌ ، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: وَإِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ ، فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ" إلَى آخِرِ حَدِيثِ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ سَبَقَ بِطُولِهِ فِي مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ، وَأَطْنَبَ أَصْحَابُنَا فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِإِسْقَاطِ الْقِرَاءَةِ بِهَا أَنَّهَا كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَعْضُهَا مَوْقُوفٌ وَبَعْضُهَا مُرْسَلٌ وَبَعْضُهَا فِي رُوَاتِهِ ضَعِيفٌ أَوْ ضُعَفَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله عِلَلَ جَمِيعِهَا وَأَوْضَحَ تَضْعِيفَهَا، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لَوْ صَحَّ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَسْبُوقِ أَوْ عَلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَالْجَوَابُ عَنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ أَنَّهَا سُنَّةٌ فَتُرِكَتْ لِاسْتِمَاعِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْفَاتِحَةِ، وَعَنْ رَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ أَنَّهَا سَقَطَتْ تَخْفِيفًا عَنْهُ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ وَالله أَعْلَمُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقِرَاءَةِ فِي السِّرِّيَّةِ دُونَ الْجَهْرِيَّةِ بِقَوْلِ الله تَعَالَى
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: هَذَا عِنْدَنَا فِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي تُسْمَعُ خَاصَّةً. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ "خَطَبَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَبَيَّنَ لَنَا سُنَنَنَا وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فَقِيلَ لِمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا "فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ، فَقِيلَ لِمَ لَمْ تَضَعْهُ هَاهُنَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٌ وَضَعْتُهُ هَاهُنَا، إنَّمَا وَضَعْتُ هَاهُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ" وَبِحَدِيثِ ابْنِ أُكَيْمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ "مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ" إلَى آخِرِهِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمَانِعِينَ مُطْلَقًا. وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا وَذَكَرْنَا دَلِيلَهُ مِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَرِيبًا وَحِينَئِذٍ لَا يَمْنَعُهُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي يُؤْمَرُ بِالْإِنْصَاتِ لَهَا فِي السُّورَةِ وَكَذَا الْفَاتِحَةُ إذَا سَكَتَ الْإِمَامُ بَعْدَهَا، وَهَذَا إذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ حَيْثُ قُرِئَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الَّذِي أَعْتَقِدُ رُجْحَانَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ وَسُمِّيَتْ قُرْآنًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ ، وَرَوَيْنَا فِي "سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ النَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ:
"وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا" فَمِنْ أَوْجُهٍ "مِنْهَا" الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي جَوَابِ الْآيَةِ "وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَيْسَتْ ثَابِتَةً عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" : هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَيْسَتْ بِمَحْفُوظَةٍ ثُمَّ رَوَى

 

ج / 3 ص -227-       الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَخَالَفَ التَّيْمِيُّ جَمِيعَ أَصْحَابِ قَتَادَةَ فِي زِيَادَتِهِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ ثُمَّ رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَتْ مَحْفُوظَةً قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَتْ هِيَ بِشَيْءٍ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ طُرُقَهَا وَعِلَلَهَا كُلَّهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُكَيْمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ" إلَى آخِرِهِ فَجَوَابُهُ أَيْضًا مِنْ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ "الْوَجْهَيْنِ السَّابِقِينَ" فِي جَوَابِ الْآيَةِ: وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ أُكَيْمَةَ مَجْهُولٌ كَمَا سَبَقَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ابْنَ أُكَيْمَةَ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ: أُرَاهُ يُحَدِّثُ [عَنْ] سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحُمَيْدِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: فِي حَدِيثِ ابْنِ أُكَيْمَةَ: هَذَا حَدِيثُ رَجُلٍ لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ فَقَطْ، وَلِأَنَّ الْحُفَّاظَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: " فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ " لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، بَلْ هِيَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ مُدْرَجَةٌ فِي الْحَدِيثِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ. قَالَ ذَلِكَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَإِمَامُ أَهْلِ نَيْسَابُورَ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَالْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الله ابْنِ بُحَيْنَةَ نَحْوَ رِوَايَةِ ابْنِ أُكَيْمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ رَوَى عَنْ الْحَافِظِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ قَالَ: هَذَا خَطَأٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَالله أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمَّنَ، وَهُوَ سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤَمِّنُ وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" فَإِنْ كَانَ إمَامًا أَمَّنَ وَأَمَّنَ الْمَأْمُومُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ بِتَأْمِينِهِ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ يُجْهَرُ فِيهَا جَهَرَ الْإِمَامُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا" وَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ بِهِ لَمَا عُلِّقَ تَأْمِينُ الْمَأْمُومِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْفَاتِحَةِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا فِي الْجَهْرِ كَالسُّورَةِ.
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقَدْ قَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجْهَرُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجْهَرُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْهَرُ لِمَا رَوَى عَطَاءٌ " أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُؤَمِّنُ وَيُؤَمِّنُونَ وَرَاءَهُ حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً ": وَالثَّانِي: لَا يَجْهَرُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَجْهَرُ بِهِ الْمَأْمُومُ كَالتَّكْبِيرَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا يَبْلُغُهُمْ تَأْمِينُ الْإِمَامِ لَا يَجْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَهْرِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا جَهَرَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى جَهْرٍ لِلْإِبْلَاغِ، وَحَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ ، فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ أَمَّنَ الْمَأْمُومُ وَجَهَرَ بِهِ لِيَسْمَعَ الْإِمَامُ فَيَأْتِيَ بِهِ.
الشرح: الَّذِي أَخْتَارُهُ: أُقَدِّمُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي التَّأْمِينِ فَيَحْصُلُ مِنْهَا بَيَانُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِيمَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمِنْ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ "إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَمَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ هَكَذَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ، قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ،

 

ج / 3 ص -228-       فَإِنْ وَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ لَهُ "إذَا قَالَ الْإِمَامُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" فَقُولُوا: آمِينَ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ "إذَا قَالَ الْقَارِئُ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" فَقَالَ مَنْ خَلْفَهُ: آمِينَ فَوَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ مِنْ صَحِيحِهِ.
وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ رضي الله عنه قَالَ:
"سَمِعْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" فَقَالَ: آمِينَ، مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد " رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ " وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ كُلُّ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ كَثِيرٍ الْعَبْدَيَّ جَرَّحَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَوَثَّقَهُ غَيْرُهُ وَقَدْ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَنَاهِيكَ بِهِ شَرَفًا وَتَوْثِيقًا لَهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عَنْبَسٍ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ فِيهِ فَرَوَاهُ عَنْهُ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ كَذَلِكَ وَرَوَاهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَقَالَ فِيهِ "قَالَ: آمِينَ خَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ" وَرَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ عَنْ سَلَمَةَ بِإِسْنَادِهِ "قَالُوا يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: أَخْطَأَ شُعْبَةُ إنَّمَا هُوَ جَهَرَ بِهَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثُ سُفْيَانَ أَصَحُّ فِي هَذَا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ قَالَ: وَأَخْطَأَ فِيهِ شُعْبَةُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ آمِينَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَقَالَ: هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ ، وَهَذَا لَفْظُهُ وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ الله: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا تَلَا "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" قَالَ: آمِينَ حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ "فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ".
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: "أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ الْأَئِمَّةَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَنْ بَعْدَهُ يَقُولُونَ: آمِينَ وَمَنْ خَلْفَهُمْ: آمِينَ حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ تَعْلِيقًا فَقَالَ: وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ دُعَاءٌ، أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً " وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ تَعْلِيقَ الْبُخَارِيِّ إذَا كَانَ بِصِيغَةِ جَزْمٍ مِثْلَ هَذَا، كَانَ صَحِيحًا عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ. هَذَا مُخْتَصَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحَادِيثِ الْفَصْلِ.
وَأَمَّا لُغَاتُهُ فَفِي آمِينَ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ "أَفْصَحُهُمَا" وَأَشْهَرُهُمَا وَأَجْوَدُهُمَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ آمِينَ بِالْمَدِّ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَبِهِ جَاءَتْ رِوَايَاتُ الْحَدِيثِ، وَالثَّانِيَةُ أَمِينَ بِالْقَصْرِ وَبِتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَكَاهَا ثَعْلَبٌ وَآخَرُونَ، وَأَنْكَرَهَا جَمَاعَةٌ عَلَى ثَعْلَبٍ وَقَالُوا: الْمَعْرُوفُ الْمَدُّ وَإِنَّمَا جَاءَتْ مَقْصُورَةً فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَهَذَا جَوَابٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشِّعْرَ الَّذِي جَاءَ فِيهَا فَاسِدٌ مِنْ ضَرُورِيَّةِ الْقَصْرِ.

 

ج / 3 ص -229-       وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ لُغَةً ثَالِثَةً آمِينَ بِالْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ مُخَفَّفَةَ الْمِيمِ، وَحَكَاهَا عَنْ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ آمِّينَ بِالْمَدِّ أَيْضًا وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، قَالَ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحُسَيْنِ أَبِي الْفَضْلِ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّ تَأْوِيلَهُ قَاصِدِينَ إلَيْكَ وَأَنْتَ الْكَرِيمُ مِنْ أَنْ تُخَيِّبَ قَاصِدًا.
وَحَكَى لُغَةَ الشَّدِّ أَيْضًا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَهِيَ شَاذَّةٌ مُنْكَرَةٌ مَرْدُودَةٌ، وَنَصَّ ابْنُ السِّكِّيتِ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ لَحْنِ الْعَوَامّ، وَنَصَّ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهَا خَطَأٌ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ" : لَا يَجُوزُ تَشْدِيدُ الْمِيمِ قَالُوا: وَهَذَا أَوَّلُ لَحْنٍ سُمِعَ مِنْ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ حِينَ دَخَلَ خُرَاسَانَ، وَقَالَ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ" : لَا يَجُوزُ التَّشْدِيدُ فَإِنْ شَدَّدَ مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي "التَّبْصِرَةِ" وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ لَا تَبْطُلُ بِهِ لِقَصْدِهِ الدُّعَاءَ وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ "التَّتِمَّةِ" .
قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: آمِينَ مَوْضُوعَةٌ مَوْضِعَ اسْمِ الِاسْتِجَابَةِ. كَمَا أَنَّ صَهٍ مَوْضُوعَةٌ لِلسُّكُوتِ قَالُوا: وَحَقُّ آمِينَ الْوَقْفُ.؛ لِأَنَّهَا كَالْأَصْوَاتِ فَإِنْ حَرَّكَهَا مُحَرِّكٌ وَوَصَلَهَا بِشَيْءٍ بَعْدَهَا فَتَحَهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ تُكْسَرْ لِثِقَلِ الْحَرَكَةِ بَعْدَ الْيَاءِ كَمَا فَتَحُوا أَيْنَ وَكَيْفَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهَا "فَقَالَ" الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَالْفِقْهِ: مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ "وَقِيلَ" لِيَكُنَّ كَذَلِكَ "وَقِيلَ" افْعَلْ "وَقِيلَ" لَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا "وَقِيلَ" لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا غَيْرُكَ "وَقِيلَ" هُوَ طَابَعُ الله عَلَى عِبَادِهِ يَدْفَعُ بِهِ عَنْهُمْ الْآفَاتِ "وَقِيلَ" هُوَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْعَرْشِ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ "وَقِيلَ" هُوَ اسْمُ الله تَعَالَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ "حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً" هِيَ بِفَتْحِ اللَّامَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ، وَقَوْلُهُ "لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْفَاتِحَةِ فَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْجَهْرِ حُكْمَهَا" اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ تَابِعٌ، عَنْ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ، وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَجْهَرُ بِهِ الْمَأْمُومُ قَالَ الْقَلَعِيُّ: قَوْلُهُ فِي الصَّلَاةُ احْتِرَازٌ مِنْ الْأَذَانِ، قَالَ: وَقَوْلُهُ مَسْنُونٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فَلَوْ حَذَفَهُ لَمْ تُنْتَقَضْ الْعِلَّةُ وَإِنَّمَا أَتَى بِهِ لِتَقْرِيبِ الشَّبَهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ أَمَّنَ الْمَأْمُومُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ لِيَتَنَاوَلَ تَرْكَهُ عَامِدًا وَنَاسِيًا فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" : فَإِنْ تَرَكَهُ.
وَأَمَّا عَطَاءٌ الرَّاوِي هُنَا عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَهُوَ عَطَاء بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَحْوَالَهُ فِي بَابِ الْحَيْضِ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَهُوَ أَبُو خُبَيْبٍ - بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ - وَيُقَالُ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الله بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهم وَهُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وُلِدَ بَعْدَ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْهَا، كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ فَصِيحًا شُجَاعًا، وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَبْعَ سِنِينَ وَقَتَلَهُ الْحَجَّاجُ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ رضي الله عنه وَالله أَعْلَمُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَفِيهِ مَسَائِلُ إحْدَاهَا: التَّأْمِينُ سُنَّةٌ لِكُلِّ مُصَلٍّ فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ سَوَاءٌ الْإِمَامُ

 

ج / 3 ص -230-       وَالْمَأْمُومُ، وَالْمُنْفَرِدُ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ، وَالْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ وَالْمُفْتَرِضُ وَالْمُتَنَفِّلُ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسَنُّ التَّأْمِينُ لِكُلِّ مَنْ فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ خَارِجَهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَكِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا الثَّانِيَةُ: إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ سِرِّيَّةً أَسَرَّ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ بِالتَّأْمِينِ تَبَعًا لِلْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَتْ جَهْرِيَّةً وَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ اُسْتُحِبَّ لِلْمَأْمُومِ الْجَهْرُ بِالتَّأْمِينِ بِلَا خِلَافٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ إشَارَةٌ إلَى وَجْهٍ فِيهِ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ النَّاسِخِ أَوْ الْمُصَنِّفِ بِلَا شَكٍّ، وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ الْجَهْرُ بِالتَّأْمِينِ كَالْإِمَامِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ "الْمَجْمُوعِ" وَ "الْمُقْنِعِ" وَالشَّيْخُ نَصْرٌ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَ "الْبَغَوِيُّ" وَصَاحِبُ الْبَيَانِ "وَالرَّافِعِيُّ" وَغَيْرُهُمْ. وَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ يُسِرُّ بِهِ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْجَدِيدِ": لَا يَجْهَرُ، وَفِي "الْقَدِيمِ" يَجْهَرُ ، وَهَذَا أَيْضًا غَلَطٌ مِنْ النَّاسِخِ أَوْ مِنْ الْمُصَنِّفِ بِلَا شَكٍّ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي "الْمُخْتَصَرِ" وَهُوَ مِنْ الْجَدِيدِ: يَرْفَعُ الْإِمَامُ صَوْتَهُ بِالتَّأْمِينِ وَيُسْمِعُ مَنْ خَلْفَهُ أَنْفُسَهُمْ.
وَقَالَ فِي "الْأُمِّ" : يَرْفَعُ الْإِمَامُ بِهَا صَوْتَهُ فَإِذَا قَالَهَا قَالُوهَا وَأَسْمَعُوا أَنْفُسَهُمْ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَجْهَرُوا ، فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ رَأَى فِيهِ نَصًّا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْجَدِيدِ.
ثُمَّ لِلْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ طُرُقٌ أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا وَاَلَّتِي قَالَهَا الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْهَرُ: وَالثَّانِي: يُسِرُّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَقَلَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي "الْبَسِيطِ" عَنْ أَصْحَابِنَا: وَالثَّانِي: يَجْهَر قَوْلًا وَاحِدًا: وَالثَّالِثُ: إنْ كَثُرَ الْجَمْعُ وَكَبُرَ الْمَسْجِدُ جَهَرَ، وَإِنْ قَلُّوا أَوْ صَغُرَ الْمَسْجِدُ أَسَرَّ وَالرَّابِعُ: حَكَاهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَجْهَرْ الْإِمَامُ جَهَرَ وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَالْأَصَحُّ مِنْ حَيْثُ الْحُجَّةُ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِهِ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي "التَّنْبِيهِ" وَالْغَزَالِيُّ فِي "الْوَجِيزِ" وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَطَعَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ فِي "الْمُقْنِعِ" وَآخَرُونَ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا يُفْتَى فِيهَا عَلَى "الْقَدِيمِ" عَلَى مَا سَبَقَ إيضَاحُهُ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ.
وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ، أَمَّا إذَا لَمْ يُؤَمِّنْ الْإِمَامُ فَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ التَّأْمِينُ جَهْرًا بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِيَسْمَعَهُ الْإِمَامُ فَيَأْتِي بِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: سَوَاءٌ تَرَكَهُ الْإِمَامُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ الْجَهْرُ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي التَّعْلِيقِ وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْأُمِّ" فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ قَالَهُ مَنْ خَلْفَهُ وَأَسْمَعَهُ لَعَلَّهُ يَذْكُرُ فَيَقُولُهُ وَلَا يَتْرُكُونَهُ لِتَرْكِهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ وَالتَّسْلِيمَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَرْكُهُ. هَذَا نَصُّهُ.
الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقَعَ تَأْمِينُ الْمَأْمُومِ مَعَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"فَمَنْ وَافَقَ

 

ج / 3 ص -231-       تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ تَأْمِينُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمَلَائِكَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى هَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَوَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي كُتُبِهِ وَالرَّافِعِيُّ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّنَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ. قَالُوا: فَإِنْ فَاتَهُ التَّأْمِينُ مَعَهُ أَمَّنَ بَعْدَهُ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: كَانَ شَيْخِي يَقُولُ: لَا يُسْتَحَبُّ مُقَارَنَةُ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي هَذَا. قَالَ الْإِمَامُ يُمْكِنُ تَعْلِيلُ اسْتِحْبَابِ الْمُقَارَنَةِ بِأَنَّ الْقَوْمَ لَا يُؤَمِّنُونَ لِتَأْمِينِهِ وَإِنَّمَا يُؤَمِّنُونَ لِقِرَاءَتِهِ وَقَدْ فَرَغَتْ قِرَاءَتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا" فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ: "إذَا قَالَ الْإِمَامُ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" فَقُولُوا آمِينَ" وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَبَقَ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ فَأَمِّنُوا لِيُجْمَعَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ إذَا رَحَلَ الْأَمِيرُ فَارْحَلُوا، أَيْ إذَا تَهَيَّأَ لِلرَّحِيلِ فَتَهَيَّئُوا لِيَكُنْ رَحِيلُكُمْ مَعَهُ وَبَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ "إذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ، وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: آمِينَ فَوَافَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ" فَظَاهِرُهُ الْأَمْرُ بِوُقُوعِ تَأْمِينِ الْجَمِيعِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَلَا يُقَالُ آمِينَ إلَّا بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَمْ يَقْضِهِ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا تَرَكَ التَّأْمِينَ حَتَّى اشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ فَاتَ وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: إنْ تَرَكَ التَّأْمِينَ نَاسِيًا فَذَكَرَهُ قَبْلَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ أَمَّنَ، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الرُّكُوعِ لَمْ يُؤَمِّنْ، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْقِرَاءَةِ فَهَلْ يُؤَمِّنُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَتَّى شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَذَكَرَ الشَّاشِيُّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ: الْأَصَحُّ لَا يُؤَمِّنُ ، وَقَطَعَ غَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَمِّنُ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ الْبَغَوِيّ: فَلَوْ قَرَأَ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ مَعَ الْإِمَامِ وَفَرَغَ مِنْهَا قَبْلَ فَرَاغِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَمِّنَ حَتَّى يُؤَمِّنَ الْإِمَامُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمُخْتَارُ أَوْ الصَّوَابُ أَنَّهُ يُؤَمِّنُ لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ، ثُمَّ يُؤَمِّنُ مَرَّةً أُخْرَى بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَمَالِي: وَإِذَا أَمَّنَ الْمَأْمُومُ بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ ثُمَّ قَرَأَ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ أَمَّنَ ثَانِيًا لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ، قَالَ فَلَوْ فَرَغَا مِنْ الْفَاتِحَةِ مَعًا كَفَاهُ أَنْ يُؤَمِّنَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
فرع: ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَصِلَ لَفْظَةَ آمِينَ بِقَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ، بَلْ بِسَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ جِدًّا ، لِيُعْلَمَ أَنَّ آمِينَ لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لِلْفَصْلِ اللَّطِيفِ نَظَائِرُهَا فِي السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا سَتَرَاهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذِهِ السَّكْتَةِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَالْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَالرَّافِعِيُّ وَأَمَّا قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يُتْبِعُ التَّأْمِينَ الْقِرَاءَةَ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَا يَسْكُتُ طَوِيلًا. وَالله أَعْلَمُ.
فرع: السُّنَّةُ فِي التَّأْمِينِ أَنْ يَقُولَ آمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ لُغَاتِهَا وَأَنَّ الْمُخْتَارَ "آمِينَ" بِالْمَدِّ

 

ج / 3 ص -232-       وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَبِهِ جَاءَتْ رِوَايَاتُ الْأَحَادِيثِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَوْ قَالَ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الله تَعَالَى كَانَ حَسَنًا لَا تَنْقَطِعُ الصَّلَاةُ بِشَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ الله تَعَالَى: قَالَ: وَقَوْلُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي التَّأْمِينِ
قَدْ ذَكَرْنَا: أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُهُ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ وَالْمُنْفَرِدَ يَجْهَرَانِ بِهِ، وَكَذَا الْمَأْمُومُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيُّ الْجَهْرَ بِهِ لِجَمِيعِهِمْ عَنْ طَاوُسٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: يُسِرُّونَ بِالتَّأْمِينِ، وَكَذَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَأْمُومِ وَعَنْهُ فِي الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: يُسِرُّ بِهِ: وَالثَّانِيَةُ: لَا يَأْتِي بِهِ، وَكَذَا الْمُنْفَرِدُ عِنْدَهُ، وَدَلِيلُنَا: الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، بَلْ احْتَجَّتْ الْحَنَفِيَّةُ بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ وَقَوْلِهِ: "وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ".
وَاحْتَجَّتْ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ سُنَّةَ الدُّعَاءِ بِآمِينَ لِلسَّامِعِ دُونَ الدَّاعِي، وَآخِرُ الْفَاتِحَةِ دُعَاءٌ فَلَا يُؤَمِّنُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ دَاعٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا غَلَطٌ، بَلْ إذَا اُسْتُحِبَّ التَّأْمِينُ لِلسَّامِعِ فَالدَّاعِي أَوْلَى بِالِاسْتِحْبَابِ، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْفَاتِحَةَ وَأَحْسَنَ غَيْرَهَا، قَرَأَ سَبْعَ آيَاتٍ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا بِقَدْرِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ، كَمَا إذَا فَاتَهُ صَوْمُ يَوْمٍ طَوِيلٍ لَمْ يُعْتَبَرْ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ فِي يَوْمٍ بِقَدْرِ سَاعَاتِ الْأَدَاءِ، وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُعْتُبِرَ عَدَدُ آيِ الْفَاتِحَةِ اُعْتُبِرَ قَدْرُ حُرُوفِهَا، وَيُخَالِفُ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمِقْدَارِ فِي السَّاعَاتِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِذِكْرٍ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الله بْنُ أَبِي أَوْفَى: رضي الله عنه
"أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْفَظَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَالله أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِالله" وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ فِيهِ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى بَدَلٍ كَالْقِيَامِ. وَفِي الذِّكْرِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ رضي الله عنه: يَأْتِي مِنْ الذِّكْرِ بِقَدْرِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَهَا فَاعْتُبِرَ قَدْرُهَا.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ رضي الله عنه: يَجِبُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ كَالتَّيَمُّمِ لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ فِيهِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
وَإِنْ أَحْسَنَ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ وَأَحْسَنَ غَيْرَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَقْرَأُ الْآيَةَ ثُمَّ يَقْرَأُ سِتَّ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْهَا انْتَقَلَ إلَى غَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَ يُحْسِنُ بَعْضَهَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ فِيمَا لَمْ يُحْسِنْ إلَى غَيْرِهَا، كَمَا لَوْ عَدِمَ بَعْضَ الْمَاءِ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ تَكْرَارُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ الذِّكْرِ قَامَ بِقَدْرِ سَبْعِ آيَاتٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ ، فَإِنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَلَمْ يَفْعَلْ وَصَلَّى، لَزِمَهُ أَنْ يُعِيدَ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَأَشْبَهَ إذَا تَرَكَهَا، وَهُوَ يُحْسِنُ.
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ الْقَدْرِ بِتَعَلُّمٍ ، أَوْ

 

ج / 3 ص -233-       تَحْصِيلُ مُصْحَفٍ يَقْرَؤُهَا فِيهِ بِشِرَاءٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي لَيْلٍ أَوْ ظُلْمَةٍ لَزِمَهُ تَحْصِيلُ السِّرَاجِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ أَثِمَ وَلَزِمَهُ إعَادَةُ كُلِّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا قَبْلَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَدَلِيلُنَا: الْقَاعِدَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ: أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَهُوَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَجِبُ إعَادَةُ كُلِّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا قَبْلَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَفِي الْحَاوِي وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ تَجِبُ إعَادَةُ مَا صَلَّى مِنْ حِينِ أَمْكَنَهُ التَّعْلِيمُ إلَى أَنْ شَرَعَ فِي التَّعْلِيمِ فَقَطْ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْفَاتِحَةُ لِتَعَذُّرِ التَّعْلِيمِ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ بَلَادَتِهِ أَوْ عَدَمِ الْمُعَلِّمِ أَوْ الْمُصْحَفِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ يَنْظُرُ إنْ أَحْسَنَ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ لَزِمَهُ قِرَاءَةُ سَبْعِ آيَاتٍ، وَلَا يُجْزِيهِ دُونَ سَبْعٍ، وَإِنْ كَانَتْ طِوَالًا بِلَا خِلَافٍ.
وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ وَآخَرُونَ: اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا، وَلَا يَضُرُّ طُولُ الْآيَاتِ وَزِيَادَةُ حُرُوفِهَا عَلَى حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ حُرُوفِهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْلَيْنِ، وَحَكَاهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ فِي طَرِيقَتَيْ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْبَيَانِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَبَعْضُهُمْ حَكَاهُ قَوْلَيْنِ وَبَعْضُهُمْ حَكَاهُ وَجْهَيْنِ، وَنَقَلَهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِعَدَدِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ قَالَ: تَجِبُ سَبْعُ آيَاتٍ، طِوَالًا كُنَّ أَوْ قِصَارًا.
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا بِاتِّفَاقِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُنْقِصَ حُرُوفَ الْآيَاتِ السَّبْعِ عَنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ بِقَدْرِ آيَةٍ، بَلْ يُجْرِيهِ أَنْ يَجْعَلَ آيَتَيْنِ بَدَلَ آيَةٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ لَا يَنْقُصُ عَنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَالْحَرْفُ الْمُشَدَّدُ بِحَرْفَيْنِ فِي الْفَاتِحَةِ وَالْبَدَلِ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَالثَّانِي: يَجِبُ أَنْ يَعْدِلَ حُرُوفَ كُلِّ آيَةٍ مِنْ الْبَدَلِ حُرُوفُ آيَةٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَكُونُ مِثْلَهَا أَوْ أَطْوَلَ ، حَكَاهُ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ وَضَعَّفُوهُ. وَالثَّالِثُ: يَكْفِي سَبْعُ آيَاتٍ نَاقِصَاتٍ كَمَا يَكْفِي صَوْمٌ قَصِيرٌ عَنْ طَوِيلٍ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ السَّاعَاتِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ، لَا يُسَلَّمُ، بَلْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِالِاسْتِظْهَارِ بِأَطْوَلَ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا هُنَا ، ثُمَّ إنْ لَمْ يُحْسِنْ سَبْعَ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةً بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَانَ لَهُ الْعُدُولُ إلَى مُفَرَّقَةٍ بِلَا خِلَافٍ. نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا الْمَسْأَلَةَ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ كَانَتْ الْآيَةُ الْفَرْدَةُ لَا تُغَيِّر1ُ مَعْنًى مَنْظُومًا إذَا قُرِئَتْ وَحْدَهَا كَقَوْلِهِ:
{ثُمَّ نَظَرَ} ، فَيَظْهَرُ أَنْ لَا نَأْمُرَهُ بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَنَجْعَلَهُ لَا يُحْسِنُ قُرْآنًا أَصْلًا ، فَسَيَأْتِي بِالذِّكْرِ. وَالْمُخْتَارُ: مَا سَبَقَ عَنْ إطْلَاقِ الْأَصْحَابِ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا السَّرَخْسِيُّ، فِي الْأَمَالِي وَغَيْرِهِ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعلها (لا تفيد معنى) وإنما إصابها التصحيف والله أعلم.

 

ج / 3 ص -234-       أَحَدُهُمَا: لَا تُجْزِيهِ الْمُتَفَرِّقَةُ، بَلْ تَجِبُ قِرَاءَةُ سَبْعِ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَالرَّافِعِيُّ أَصَحُّهُمَا: تُجْزِيهِ الْمُتَفَرِّقَةُ مِنْ سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ. أَمَّا إذَا كَانَ يُحْسِنُ دُونَ سَبْعِ آيَاتٍ كَآيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَقْرَأُ مَا يُحْسِنُهُ ثُمَّ يَأْتِي بِالذِّكْرِ عَنْ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْبَاقِي فَانْتَقَلَ إلَى بَدَلِهِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ تَكْرَارُ مَا يُحْسِنُهُ حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرَ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ الذِّكْرِ، فَلَوْ لَمْ يُحْسِنْ إلَّا بَعْضَ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يُحْسِنْ بَدَلًا مِنْ الذِّكْرِ وَجَبَ تَكْرَارُ مَا يُحْسِنُهُ حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرَهَا بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ أَحْسَنَ آيَةً أَوْ آيَاتٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يُحْسِنْ جَمِيعَهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ لِبَاقِيهَا بَدَلًا، وَجَبَ تَكْرَارُ مَا أَحْسَنَهُ حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرَ الْفَاتِحَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ أَحْسَنَ لِبَاقِيهَا بَدَلًا فَفِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَجْهَيْنِ، وَكَذَا حَكَاهُمَا الْجُمْهُورُ فِي طَرِيقَتَيْ الْعِرَاقِيِّينَ وَخُرَاسَانَ وَجْهَيْنِ، وَحَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ قَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ نَصْرٌ فِي تَهْذِيبِهِ ، وَأَصَحُّهُمَا: بِاتِّفَاقِهِمْ: أَنَّهُ يَجِبُ قِرَاءَةُ مَا يُحْسِنُهُ مِنْ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ يَأْتِي بِبَدَلِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ أَصْلًا وَبَدَلًا.
وَالثَّانِي: يَجِبُ تَكْرَارُ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ الْفَاتِحَةِ، حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرَهَا. وَيَجْرِي الْخِلَافُ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ الَّذِي يُحْسِنُهُ قُرْآنًا أَوْ ذِكْرًا، صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَى الذِّكْرِ إلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْقُرْآنِ. "فَإِنْ قُلْنَا" بِالْأَصَحِّ: إنَّهُ يَقْرَأُ مَا يُحْسِنُهُ وَيَأْتِي بِالْبَدَلِ، وَجَبَ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ يَحْفَظُ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ أَتَى بِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْبَدَلِ، وَلَا يَجُوزُ الْعَكْسُ. وَإِنْ كَانَ يَحْفَظُ آخِرَهَا أَتَى بِالْبَدَلِ ثُمَّ قَرَأَ الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنْهَا، فَلَوْ عَكَسَ لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَحَكَى الْبَغَوِيّ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ هَذَا التَّرْتِيبُ، بَلْ كَيْفَ أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ، فَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: اتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، وَعُلِّلَ بِعِلَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا: أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ وَعَلَيْهِ الْبَدَلُ قَبْلَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْفَاتِحَةِ، فَلْيُقَدِّمْهُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْبَدَلَ لَهُ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَالتَّرْتِيبُ شَرْطٌ فِي نِصْفَيْ الْفَاتِحَةِ وَكَذَا فِي نِصْفِهَا، وَمَا قَامَ مَقَامَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحْوَطَ وَالْمُسْتَحَبَّ لِمَنْ يُحَفِّظُ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ أَنْ يُكَرِّرَهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَيَأْتِيَ مَعَ ذَلِكَ بِبَدَلِ مَا زَادَ عَلَيْهَا؛ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَمِمَّنْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ، هَذَا حُكْمُ مَنْ يُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَتَى أَحْسَنَ سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا، وَيَنْتَقِلَ إلَى الذِّكْرِ، فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ دُونَ سَبْعٍ، فَهَلْ يُكَرِّرُهُ؟ أَمْ يَأْتِي بِبَدَلِ الْبَاقِي؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ ,
فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالذِّكْرِ بَدَلَهَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا فِيهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ:
"جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي مِنْهُ قَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالله أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِالله قَالَ: يَا رَسُولَ الله هَذَا لِلَّهِ فَمَا لِي؟ قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي. فَلَمَّا قَامَ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَهُ مِنْ الْخَيْرِ" . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَلَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ السَّكْسَكِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم

 

ج / 3 ص -235-       يَرْمُقُهُ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، قَالَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَقَدْ اجْتَهَدْتُ فِي نَفْسِي فَعَلِّمْنِي وَأَرِنِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَدْتَ أَنْ تُصَلِّيَ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، ثُمَّ تَشَهَّدْ فَأَقِمْ، ثُمَّ كَبِّرْ، فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ، وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ، ثُمَّ ارْكَعْ فَاطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ اعْتَدِلْ قَائِمًا - وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الذِّكْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالله أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِالله، فَتَجِبُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ وَتَكْفِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ وَيَجِبُ مَعَهَا كَلِمَتَانِ مِنْ الذِّكْرِ لِيَصِيرَ سَبْعَةَ أَنْوَاعٍ مَقَامَ سَبْعِ آيَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ أَنْوَاعُ الذِّكْرِ لَا الْأَلْفَاظُ الْمُسْرَدَةُ، وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَجُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَيْضًا فِي الدَّلِيلِ: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنْ الذِّكْرِ، بَلْ يُجْزِيهِ جَمِيعُ الْأَذْكَارِ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِهَا. فَيَجِبُ سَبْعَةُ أَذْكَارٍ، وَلَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُنْقِصَ حُرُوفَ مَا أَتَى بِهِ عَنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُشْتَرَطُ وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْبَدَلِ مِنْ الْقُرْآنِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا يُرَاعَى هُنَا إلَّا الْحُرُوفُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْسَنَ قُرْآنًا غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّا نُرَاعِي الْآيَاتِ وَفِي الْحُرُوفِ خِلَافٌ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: يَجِبُ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ الذِّكْرِ يُقَامُ كُلُّ نَوْعٍ مَقَامَ آيَةٍ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ.
وَاحْتُجَّ لِأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَلَيْسَ فِيهِ غَيْرُ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ، وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالصَّحِيحِ: بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْيُ وُجُوبِ زِيَادَةٍ مِنْ الْأَذْكَارِ، "فَإِنْ قِيلَ: لَوْ وَجَبَ زِيَادَةٌ لَذُكِرَتْ "قِيلَ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَالله أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ؟ حَيْثُ جَوَّزْتُمْ - عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ - خَمْسَ كَلِمَاتٍ، وَلَمْ تُجَوِّزُوا الْقُرْآنَ إلَّا سَبْعَ آيَاتٍ بِالِاتِّفَاقِ؟ فَالْفَرْقُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ بَدَلٌ لِلْفَاتِحَةِ مِنْ جِنْسِهَا فَاعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرُهَا، وَالذِّكْرُ بِخِلَافِهَا، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ كَالتَّيَمُّمِ عَنْ الْوُضُوءِ.
فَرْعٌ: إذَا عَجَزَ عَنْ الْقُرْآنِ وَانْتَقَلَ إلَى الْأَذْكَارِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُجْزِيهِ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ وَالْحَوْقَلَةُ وَنَحْوُهَا. وَأَمَّا الدُّعَاءُ الْمَحْضُ: فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَعَلَّ الْأَشْبَهَ أَنَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ يُجْزِيهِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ هُوَ الْمُرَجَّحُ، رَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ.
فرع:
شَرْطُ الذِّكْرِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْبَدَلِيَّةَ أَمْ يَكْفِيهِ الْإِتْيَانُ بِهِ بِلَا قَصْدٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمُتَابِعُوهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الْأَصَحُّ لَا يُشْتَرَطُ فَلَوْ أَتَى بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ أَوْ بِالتَّعَوُّذِ وَقَصَدَ بِهِ بَدَلَ الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَهُ عَنْهَا، فَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِفْتَاحَ أَوْ التَّعَوُّذَ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: يُجْزِيهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ.
فرع: إذَا لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُحْسِنْ الذِّكْرَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَحْسَنَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ أَتَى بِهِ

 

ج / 3 ص -236-       بِالْعَجَمِيَّةِ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي كَمَا يَأْتِي بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِالْعَجَمِيَّةِ إذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ مَا يَجُوزُ فِي فَصْلِ التَّكْبِيرَةِ.
فرع: إذَا أَتَى بِبَدَلِ الْفَاتِحَةِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ حَيْثُ يَجُوزَانِ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ وَاسْتَمَرَّ الْعَجْزُ عَنْ الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَا إعَادَةَ، فَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْفَاتِحَةِ فِي الرُّكُوعِ أَوْ مَا بَعْدَهُ، فَقَدْ مَضَتْ رَكْعَتُهُ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إلَى الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ تَمَكَّنَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ لَزِمَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْبَدَلِ فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَمَالِي قَوْلَيْنِ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْفَاتِحَةُ بِكَمَالِهَا. وَالثَّانِي: يَكْفِيهِ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ قَدْرَ مَا بَقِيَ. وَإِنْ تَمَكَّنَ بَعْدَ فَرَاغِ الْبَدَلِ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا السَّرَخْسِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ أَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ قَدَرَ الْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ عَلَى الرَّقَبَةِ بَعْدَ الصَّوْمِ وَالثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ كَمَا لَوْ تَمَكَّنَ فِي أَثْنَاءِ الْبَدَلِ، وَمِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالتَّمَكُّنُ قَدْ يَكُونُ بِتَلْقِينٍ وَقَدْ يَكُونُ بِمُصْحَفٍ وَغَيْرِهِمَا.
فرع: إذَا لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ الذِّكْرِ وَلَا أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ سَاكِتًا، ثُمَّ يَرْكَعَ، وَيُجْزِيهِ صَلَاتُهُ بِلَا إعَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا أَتَى بِالْآخَرِ لِقَوْلِهِ: "صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فرع: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَبْدَ الله بْنَ أَبِي أَوْفَى، وَهُوَ وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ رضي الله تعالى عنهما، وَاسْمُ أَبِي أَوْفَى عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكُنْيَةُ عَبْدِ الله أَبُو إبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: أَبُو مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: أَبُو مُعَاوِيَةَ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ قِيلَ: هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: "لِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ" فَجَازَ أَنْ يُنْتَقَلَ عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى بَدَلٍ كَالْقِيَامِ، وَقَوْلُهُ "مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ" احْتِرَازٌ مِنْ الْحَجِّ فَإِنَّهُ لَا بَدَلَ لِأَرْكَانِهِ، وَقَوْلُهُ: "فَجَازَ أَنْ يُنْتَقَلَ" لَوْ قَالَ: "وَجَبَ" كَانَ أَصْوَبَ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ كَيْفَ يُصَلِّي إذَا لَمْ يُحْسِنْ التَّعَلُّمَ؟ فَقَدْ ذَكَرْنَا: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ سَبْعِ آيَاتٍ غَيْرَهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ لَزِمَهُ الذِّكْرُ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهُ وَلَا أَمْكَنَهُ وَجَبَ أَنْ يَقِفَ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا عَجَزَ عَنْ الْقُرْآنِ قَامَ سَاكِتًا وَلَا يَجِبُ الذِّكْرُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ وَلَا الْقِيَامُ، وَقَدْ سَبَقَ دَلِيلُنَا عَلَيْهِمَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَمْ تُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْقُرْآنِ اللَّفْظُ [وَالنَّظْمُ1] وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
مَذْهَبُنَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ الْعَرَبِيَّةُ أَوْ عَجَزَ عَنْهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنْ أَتَى بِتَرْجَمَتِهِ فِي صَلَاةٍ بَدَلًا عَنْ الْقِرَاءَةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).

 

ج / 3 ص -237-       أَحْسَنَ الْقِرَاءَةَ أَمْ لَا، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ وَتَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ مُطْلَقًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ لِلْعَاجِزِ دُونَ الْقَادِرِ. وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِه} قَالُوا: وَالْعَجَمُ لَا يَعْقِلُونَ الْإِنْذَارَ إلَّا بِتَرْجَمَتِهِ، وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: رضي الله عنه أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْفُرْسِ سَأَلُوهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَتَبَ لَهُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بِالْفَارِسِيَّةِ ؛ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فَقَامَتْ تَرْجَمَتُهُ مَقَامَهُ كَالشَّهَادَتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَقِيَاسًا عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِيَاسًا عَلَى جَوَازِ التَّسْبِيحِ بِالْعَجَمِيَّةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةً عَلَى غَيْرِ مَا يَقْرَأُ عُمَرُ فَلَبَّبَهُ1 بِرِدَائِهِ، وَأَتَى بِهِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، فَلَوْ جَازَتْ التَّرْجَمَةُ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم اعْتِرَاضَهُ فِي شَيْءٍ جَائِزٍ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِأَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ قُرْآنًا ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ هَذَا النَّظْمُ الْمُعْجِزُ، وَبِالتَّرْجَمَةِ يَزُولُ الْإِعْجَازُ فَلَمْ يَجُزْ، وَكَمَا أَنَّ الشِّعْرَ يُخْرِجُهُ تَرْجَمَتُهُ عَنْ كَوْنِهِ شِعْرًا، فَكَذَا الْقُرْآنُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُوَ أَنَّ الْإِنْذَارَ يَحْصُلُ لِيَتِمَّ بِهِ، وَإِنْ نُقِلَ إلَيْهِمْ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ فَسَبْعُ لُغَاتٍ لِلْعَرَبِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ هَذِهِ السَّبْعَةَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَجُوزُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَمَعْلُومٌ: أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى سَبْعَةٍ، وَعَنْ فِعْلِ سَلْمَانَ أَنَّهُ كَتَبَ تَفْسِيرَهَا لَا حَقِيقَةَ الْفَاتِحَةِ، وَعَنْ الْإِسْلَامِ: أَنَّ فِي جَوَازِ تَرْجَمَتِهِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ وَجْهَيْنِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي فَصْلِ التَّكْبِيرِ. ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا - بِالْمَذْهَبِ - إنَّهُ يَصِحُّ إسْلَامُهُ، فَالْفَرْقُ: أَنَّ الْمُرَادَ مَعْرِفَةُ اعْتِقَادِهِ الْبَاطِنِ، وَالْعَجَمِيَّةُ كَالْعَرَبِيَّةِ فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ. وَعَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْحَدِيثِ وَالتَّسْبِيحِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ الْأَحْكَامُ وَالنَّظْمُ الْمُعْجِزُ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ وَالتَّسْبِيحِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ أَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَبَسَطَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَسَالِيبِ فَقَالَ: عُمْدَتُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي إعْجَازِهِ اللَّفْظُ قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي الْمُعْجِزِ مِنْهُ فَقِيلَ: الْإِعْجَازُ فِي بَلَاغَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ الْمُجَاوِزَةِ لِحُدُودِ جَزَالَةِ الْعَرَبِ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي جَزَالَتِهِ مَعَ أُسْلُوبِهِ الْخَارِجِ عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالْجَزَالَةُ وَالْأُسْلُوبُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْأَلْفَاظِ، ثُمَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ فِي حُكْمِ التَّابِعِ لِلْأَلْفَاظِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّفْظَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْمَتْبُوعُ، وَالْمَعْنَى تَابِعٌ فَنَقُولُ بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ:


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هشام بن حكيم بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي ووهم ابن منده فنسبه مخزوميا ثبت ذكره في الصحيح في هذه الرواية من رواية الزهري عن عروة عن المسور بن مخزمة وعبد الرحمن بن عبد القارئ عن عمر سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أنه أحضره ولببه من مجامع ثوبه فاستقراهما فصوبهما وقال: نزل القرآن على سبعة أحرف (الحديث) قال ابن سعد: كان هشام مهيبا وقال الزهري: كان يأمر بالمعروف في رجال معه وفال ابن وهب عن عبد الله: لم يكن يتخذ أخلاء ولا له ولد وقد مات قبل أبيه بمدة طويلة قال أبو نعيم استشهد بأجنادين (ط).

 

ج / 3 ص -238-       تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ قُرْآنًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُحَاوَلَةُ الدَّلِيلِ لِهَذَا تَكَلُّفٌ، فَلَيْسَ أَحَدٌ يُخَالِفُ فِي أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ بِالْهِنْدِيَّةِ لَيْسَتْ قُرْآنًا، وَلَيْسَ مَا لَفَظَ بِهِ قُرْآنًا، وَمَنْ خَالَفَ فِي هَذَا كَانَ مُرَاغِمًا جَاحِدًا، وَتَفْسِيرُ شِعْرِ امْرِئِ الْقِيسِ لَيْسَ شِعْرَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ قُرْآنًا؟ وَقَدْ سَلَّمُوا أَنْ الْجُنُبَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذِكْرُ مَعْنَى الْقُرْآنِ، وَالْمُحْدِثُ لَا يُمْنَعُ مِنْ حَمْلِ كِتَابٍ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَتَرْجَمَتُهُ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ لَيْسَ قُرْآنًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، وَلَيْسَتْ التَّرْجَمَةُ مُعْجِزَةً، وَالْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي تَحَدَّى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَرَبَ، وَوَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ لَيْسَتْ قُرْآنًا - وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ إلَّا بِقُرْآنٍ - حَصَلَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِالتَّرْجَمَةِ.
هَذَا كُلُّهُ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّعَبُّدِ وَالِاتِّبَاعِ وَالنَّهْيِ عَنْ الِاخْتِرَاعِ، وَطَرِيقُ الْقِيَاسِ مُنْسَدَّةٌ، وَإِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَأَعْدَادِهَا، وَاخْتِصَاصِهَا بِأَوْقَاتِهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَإِعَادَةِ رُكُوعِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَتَكَرُّرِ سُجُودِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهَا - وَمَدَارُهَا عَلَى الِاتِّبَاعِ، وَلَمْ يُفَارِقْهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا - فَهَذَا يَسُدُّ بَابَ الْقِيَاسِ، حَتَّى لَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَقْصُودُ الصَّلَاةِ الْخُضُوعُ فَيَقُومُ السُّجُودُ مَقَامَ الرُّكُوعِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ السُّجُودُ أَبْلَغَ فِي الْخُضُوعِ. ثُمَّ عَجِبْتُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ التَّرْجَمَةَ لَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْجُنُبِ، وَيَقُولُونَ: لَهَا حُكْمُهُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى التَّعَبُّدِ وَالِاتِّبَاعِ، وَيُخَالِفُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ الَّتِي قُلْنَا: يَأْتِي بِهَا الْعَاجِزُ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الْمَعْنَى مَعَ اللَّفْظِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ رحمه الله.
فرع: لَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ بِلُغَةٍ لِبَعْضِ الْعَرَبِ غَيْرِ اللُّغَةِ الْمَقْرُوءَةِ لَمْ تَصِحَّ، وَلَمْ يَجُزْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ ، قَالَ: وَمَنْ أَتَى بِالتَّرْجَمَةِ إنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا لَمْ يُعْتَدَّ بِقِرَاءَتِهِ، وَلَكِنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ كَسَائِرِ الْكَلَامِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُورَةً وَذَلِكَ سُنَّةٌ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، لِمَا رُوِيَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِيهَا بِالْوَاقِعَةِ" فَإِنْ كَانَ [فِي] يَوْمِ الْجُمُعَةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا {الم تَنْزِيلُ} [السجدة:1، 2] السَّجْدَةَ، وَ{هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ}[الانسان: 1] ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ بِنَحْوِ مَا يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: "حَزَرْنَا قِيَامَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ آيَةً قَدْرَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي [الْأَخِيرَتَيْنِ] عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ الْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ".
وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، رضي الله عنه وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِنَحْوِ مَا يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:أَنْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ فَإِنْ

 

ج / 3 ص -239-       خَالَفَ وَقَرَأَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ جَازَ لِمَا رَوَى رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ أَنَّهُ "سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ".
الشرح: الَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ أَقْدَمَ جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، فَيَحْصُلُ مِنْهَا بَيَانُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَمَا يُحْتَاجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَتْ الصَّلَاةُ تُقَامُ فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، أَوْ قَالَ: نِصْفَ ذَلِكَ، وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا قَالَ: "حَزَرْنَا قِيَامَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ آيَةً قَدْرَ {الم تَنْزِيلُ} [السجدة:1]، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ الْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِـ{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] وَفِي الْعَصْرِ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ؛ وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْر:ِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1]، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِـ{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1]، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] وَنَحْوِهِمَا مِنْ السُّوَرِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَالنَّسَائِيُّ، وَعَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا الظُّهْرَ فَنَسْمَعُ مِنْهُ الْآيَةَ بَعْدَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ وَالذَّارِيَاتِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: "يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: رضي الله عنهما: "أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ - وَهِيَ أُمُّهُ - رضي الله عنهما سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1]، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ وَالله لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ أَنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: "قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه: مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ؟ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ طُولَى الطُّولَيَيْنِ الْأَعْرَافُ وَالْمَائِدَةُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ: "أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ لِمَرْوَانَ: أَتَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ - يَعْنِي زَيْدًا - فَمَحْلُوفَةٌ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِيهَا بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ المص" وَعَنْ عَائِشَةَ: رضي الله عنها "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلَاةً

 

ج / 3 ص -240-       بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فُلَانٍ. قَالَ سُلَيْمَانُ: كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَيُخَفِّفُ الْأَخِيرَتَيْنِ وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ، وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ عَبْدِ الله الصُّنَابِحِيِّ1 " أَنَّهُ صَلَّى وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه الْمَغْرِبَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ، ثُمَّ قَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ فَدَنَوْتُ حَتَّى أَنْ كَادَ تَمَسُّ ثِيَابِي بِثِيَابِهِ، فَسَمِعْتُهُ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْآيَةِ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]" رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَعَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ:
"سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ مِنْهُ صَوْتًا وَقِرَاءَةً" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] فَسَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ: رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ طَوَّلَ فِي الْعِشَاءِ: يَا مُعَاذُ إذَا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأْ بِـ{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] وَ{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1]، وَ{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: من الآية1]،{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. هَذَا لَفْظُ إحْدَى رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ ، وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهَا مِنْ السُّوَرِ" ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَأَمَّا الصُّبْحُ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ فَيَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَسَائِرِ رِوَايَاتِهِ وَرِوَايَاتِ مُسْلِمٍ، "يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ "، وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ السَّائِبِ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ، أَوْ حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَعْلَةٌ فَرَكَعَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ قُطْبَةَ2 بْنِ مَالِكٍ: رضي الله عنه "أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ فَقَرَأَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ {وَالنَّخْلَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (السانحي) وهو خطأ ظاهر قال أبو عيسى الترمذي: الصنابحي الذي روى عن أبي بكر الصديق ليس له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد الرحمن بن عسيلمة (بالعين) يكنى أبا عبد الله رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث. والصنابح بن الأعسر الأحمسي صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقال له الصنابحي أيضا وإنما حديثه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأثير: قال ابن أبي خثيمة عن يحيى بن معين قال: يقال: عبد الله ويقال: أبو عبد الله. وخالفه غيره فقال: هذا غير أبي عبد الله اسمه أبي عبد الله: عبد الرحمن وهذا عبد الله. وقال ابن معين: عبد الله الصنابحي الذي يروي عنه المدنيون يشبه أن تكون له صحبة قال: والصواب عندي أنه أبو عبد الله لا غبد الله (ط)
2 هو قطبة – بالتحريك – ابن مالك الثعلبي ويقال: الثعلبي وصوب الأخير ابن عبد البر ورجح ابن السكن كونه من ثعل وقال: هو الصواب روى عنه زياد بن علاقة ويقال عم زياد (ط).

 

ج / 3 ص -241-       بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [قّ: من الآية10] أَوْ رُبَّمَا قَالَ فِي ق" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِـ{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [قّ:1]، وَكَانَ صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ ابْنِ حُرَيْثٍ رضي الله عنه: "أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17]" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الله الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ "سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةُ، , وَ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ فَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي وَائِلٍ قَالَ:
"جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: رضي الله عنه هَذًّا1 كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ: وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْحَسَنَةُ وَالضَّعِيفَةُ فِيهِ فَلَا تَنْحَصِرُ، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَاخْتِلَافُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأَحَادِيثِ كَانَ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ مِنْ حَالِ الْمَأْمُومِينَ فِي وَقْتٍ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ فَيُطَوِّلُ، وَفِي وَقْتٍ لَا يُؤْثِرُونَهُ لِعُذْرٍ وَنَحْوِهِ فَيُخَفِّفُ، وَفِي وَقْتٍ: يُرِيدُ إطَالَتَهَا فَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيَّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالله أَعْلَمُ.
وَأَمَّا ضَبْطُ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَبَيَانُهَا فَالْمُفَصَّلُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْفُصُولِ فِيهِ بَيْنَ سُوَرِهِ، وَقِيلَ: لِقِلَّةِ الْمَنْسُوخِ فِيهِ، وَآخِرُهُ
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] وَفِي أَوَّلِهِ مَذَاهِبُ قِيلَ: "سُورَةُ الْقِتَالِ" وَقِيلَ: مِنْ "الْحُجُرَاتِ" وَقِيلَ: مِنْ "ق" وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَرُوِيَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ مَشْهُورَةٌ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ قَوْلًا أَنَّهُ مِنْ "الْجَاثِيَةِ" وَهُوَ غَرِيبٌ، وَالسُّورَةُ تُهْمَزُ وَلَا تُهْمَزُ لُغَتَانِ [وَغَيْرُ] الْهَمْزِ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ. وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ2.
قَوْلُهُ: "وَقَرَأَ فِيهَا بِالْوَاقِعَةِ" هَذَا الْحَدِيثُ أَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: رُوِيَ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بِالْوَاقِعَةِ"، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كِفَايَةٌ عَنْهُ. قَوْلُهُ: يَقْرَأُ فِيهَا {الم تَنْزِيلُ} [السجدة:1،2] أَمَّا تَنْزِيلُ فَمَرْفُوعَةُ اللَّامِ عَلَى حِكَايَةِ التِّلَاوَةِ، وَأَمَّا السَّجْدَةُ فَيَجُوزُ رَفْعُهَا عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الهذ التقطيع والسرعة في القراءة.
2 والسورة في كلام العرب الإبانة لها من سورة أخرى وانفصالها عنها وسميت بذلك لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة، وقيل سميت بذلك لشرفها وارتفاعها كما يقال لما ارتفع من الأرض سور وقيل: سميت بذلك لأنها قطعت من القرآن على حدة من قول العرب للبقية سؤر، وجاء في أسآر الناس أي بقاياهم فعلى هذا يكون الأصل سؤرة يالهمزة فأبدلت واواً لانضمام ما قبلها، وقيل: سميت بذلك لتمامها وكمالها من فول العرب للناقة التامة سورة والجمع سور والله أعلم (ط).

 

ج / 3 ص -242-       مُبْتَدَأٍ، وَيَجُوزُ نَصْبُهَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ الم أَوْ بِإِضْمَارِ: أَعْنِي. وَسُورَةُ السَّجْدَةِ ثَلَاثُونَ آيَةً مَكِّيَّةً. وَقَوْلُهُ: "يَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَالْأُخْرَيَيْنِ" هُوَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِ الْمُكَرَّرَةِ فِي: "حَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الظُّهْرِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً" يَعْنِي: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، قَوْلُهُ: "الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ صَحِيحٌ" وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَقَالَ: لَا يُقَالُ الْآخِرَةُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا، فَلَا تَشْهَدُ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ." وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي الصُّبْحِ وَفِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَيَحْصُلُ أَصْلُ الِاسْتِحْبَابِ بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ سُورَةً كَامِلَةً أَفْضَلُ، حَتَّى أَنَّ سُورَةً قَصِيرَةً أَفْضَلُ مِنْ قَدْرِهَا مِنْ طَوِيلَةٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَرَأَ بَعْضَ سُورَةٍ فَقَدْ يَقِفُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْوَقْفِ، وَهُوَ انْقِطَاعُ الْكَلَامِ الْمُرْتَبِطِ، وَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، "كَالْحُجُرَاتِ" "وَالْوَاقِعَةِ" وَفِي الظُّهْرِ بِقَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِهِ، وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِهِ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَرَأَ بِأَطْوَلَ أَوْ أَقْصَرَ مِنْ ذَلِكَ جَازَ. وَدَلِيلُهُ الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ "الم تَنْزِيلُ" فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، "وَهَلْ أَتَى" فِي الثَّانِيَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ، وَيَقْرَأُ السُّورَتَيْنِ بِكَمَالِهِمَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِحْبَابِ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَأَوْسَاطِهِ هُوَ فِيمَا إذَا آثَرَ الْمَأْمُومُونَ التَّطْوِيلَ وَكَانُوا مَحْصُورِينَ لَا يَزِيدُونَ وَإِلَّا فَلْيُخَفِّفْ. وَقَدْ ذَكَرنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَحَادِيثِ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ كَانَ بِحَسَبِ، الْأَحْوَالِ, وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي رَكْعَةٍ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ مُتَوَالِيًا، فَإِذَا قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى سُورَةً قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مُتَّصِلَةً بِهَا. قَالَ الْمَتُولِي حَتَّى لَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَى
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَلَوْ قَرَأَ سُورَةً ثُمَّ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَقَدْ خَالَفَ الْأُولَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالله أَعْلَمُ.

فرع: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّورَةِ لِلنَّوَافِلِ
يُسْتَحَبُّ فِي رَكْعَتِي سُنَّةِ الصُّبْحِ التَّخْفِيفُ ، ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الْآيَةَ. وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } [آل عمران: 64] الْآيَةَ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ يَقْرَأُ فِيهِمَا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ بِهِمَا فِيهِمَا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
"رَمَقْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ مَرَّةً يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ رَجُلًا اخْتَلَفُوا فِي تَوْثِيقِهِ وَجَرْحِهِ ، وَقَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَالله أَعْلَمُ.

 

ج / 3 ص -243-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْفَاتِحَةِ لِقَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم "إذَا كُنْتُمْ خَلْفِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا" وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ يُسِرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ أَوْ فِي صَلَاةٍ يَجْهَرُ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُ الْقِرَاءَةَ قَرَأَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْإِنْصَاتِ إلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ كَالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ.
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يُشْرَعُ لَهُ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي الْجَهْرِيَّةِ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، وَلَوْ جَهَرَ وَلَمْ يَسْمَعْهُ لِبُعْدِهِ أَوْ سَمِعَهُ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ السُّورَةِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ أَوْ جُمْهُورُهُمْ إذْ لَا مَعْنَى لِسُكُوتِهِ، وَالثَّانِي: لَا يَقْرَؤُهَا حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ فَهَلْ يَقْرَأُ السُّورَةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ: "لَا يُسْتَحَبُّ" لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ: رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَكَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطِيلُ فِي الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي [كُلِّ رَكْعَةٍ]. وَقَالَ فِي الْأُمِّ: يُسْتَحَبُّ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ وَلِأَنَّهَا رَكْعَةٌ يُشْرَعُ فِيهَا الْفَاتِحَةُ فَيُشْرَعُ فِيهَا السُّورَةُ كَالْأُولَيَيْنِ، وَلَا يُفَضِّلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاسَرْجِسِيُّ رحمه الله: يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ فِي الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ أَطْوَلَ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْأُمِّ: أَنَّهُ لَا يُفَضِّلُ؛ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه وَحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطَالَ؛ لِأَنَّهُ أَحَسَّ بِدَاخِلٍ.
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاسْمُ أَبِي قَتَادَةَ: الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَقِيلَ: النُّعْمَانُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَوْلُهُ: "سَمِعْنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا" أَيْ: فِي نَادِرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لِغَلَبَةِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي التَّدَبُّرِ يَحْصُلُ الْجَهْرُ بِالْآيَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ جَوَازِ الْجَهْرِ، وَأَنَّهُ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَلَا يَقْتَضِي سُجُودَ سَهْوٍ أَوْ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ يَقْرَأُ، أَوْ أَنَّهُ يَقْرَأُ السُّورَةَ الْفُلَانِيَّةَ، وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ الْمَاسَرْجِسِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَاسْمُهُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ تَفَقَّهَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَكَانَ مُتْقِنًا لِلْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَحَدُ أَجْدَادِنَا فِي سِلْسِلَةِ الْفِقْهِ، تُوُفِّيَ رحمه الله سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهَا رَكْعَةٌ يُشْرَعُ فِيهَا الْفَاتِحَةُ احْتِرَازٌ مِنْ رَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَهَلْ يُسَنُّ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يُسْتَحَبُّ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَنَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ،: وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ ، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبُ الْحَاوِي عَنْ الْإِمْلَاءِ أَيْضًا، وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي الْأَصَحِّ مِنْهُمَا، فَقَالَ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ: الْأَصَحُّ الِاسْتِحْبَابُ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالشَّيْخُ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ وَالشَّاشِيُّ، وَصَحَّحَتْ طَائِفَةٌ عَدَمَ

 

ج / 3 ص -244-       الِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ أَفْتَى الْأَكْثَرُونَ وَجَعَلُوا الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُفْتَى فِيهَا عَلَى الْقَدِيمِ قُلْتُ: وَلَيْسَ هُوَ قَدِيمًا فَقَطْ، بَلْ مَعَهُ نَصَّانِ فِي الْجَدِيدِ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا: عَلَى أَنَّهُ إذَا قُلْنَا بِالسُّورَةِ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ تَكُنْ أَخَفَّ مِنْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: رضي الله عنه وَهَلْ يُطَوِّلُ الْأُولَى فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الثَّانِيَةِ مِنْ كُلِّ الصَّلَوَاتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَكْثَرِينَ: لَا يُطَوِّلُ وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ التَّطْوِيلُ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: الصَّحِيحُ أَنْ يُطَوِّلَ الْأُولَى مِنْ كُلِّ الصَّلَوَاتِ لَكِنَّهُ فِي الصُّبْحِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْمَاسَرْجِسِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الْفَجْرِ خَاصَّةً قَالَ: وَالْوَجْهُ الْآخَرُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا. ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ لِنَصِّهِ فِي الْأُمِّ ، قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُطَوِّلُهَا لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَلِيُدْرِكَهَا قَاصِدُ الْجَمَاعَةِ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْمُصَنِّفِ: أَنَّهُ أَحَسَّ بِدَاخِلٍ فَضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَ يُطِيلُ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِتَكَرُّرِ هَذَا، وَأَنَّهُ مَقْصُودٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: إنْ كَانَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَحَسَّ بِدَاخِلٍ وَهُوَ فِي الْقِيَامِ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ انْتِظَارُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي انْتِظَارِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالتَّشَهُّدِ، وَالصَّحِيحُ: اسْتِحْبَابُ تَطْوِيلِ الْأُولَى كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَنَقَلَهُ، وَقَدْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، وَحَسْبُكَ بِهِ مُعْتَمَدًا فِي هَذَا، وَإِذَا قُلْنَا بِتَطْوِيلِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ تَطْوِيلُ الثَّالِثَةِ عَلَى الرَّابِعَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُطَوَّلُ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهَا، وَلِعَدَمِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي الْأُولَى، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِيهَا الْوَجْهَيْنِ، وَإِذَا قُلْنَا: تُسَنُّ السُّورَةُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ مَسْنُونَةً لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَفِي الْمَأْمُومِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ السُّورَةَ فِي السِّرِّيَّةِ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي.
فرع: قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةُ: الْمُتَنَفِّلُ بِرَكْعَتَيْنِ تُسَنُّ لَهُ السُّورَةُ، وَالْمُتَنَفِّلُ بِأَكْثَرَ إنْ كَانَ يَقْتَصِرُ عَلَى تَشَهُّدٍ وَاحِدٍ قَرَأَ السُّورَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَإِنْ تَشَهَّدَ تَشَهُّدَيْنِ، فَهَلْ تُسَنُّ لَهُ السُّورَةُ فِي الرَّكَعَاتِ الْمَفْعُولَةِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الْفَرَائِضِ.
فرع: الْمَسْبُوقُ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَنَّهُ يَأْتِي بِهِمَا بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَتَيْنِ، وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي اسْتِحْبَابِ السُّورَةِ لَهُ الْقَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُمَا آخِرُ صَلَاتِهِ، وَإِنَّمَا فَرَّعَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلِهِ: تُسْتَحَبُّ السُّورَةُ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ تُسْتَحَبُّ لَهُ السُّورَةُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُسْتَحَبُّ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ وَلَا أَدْرَكَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ لِلسُّورَةِ فَاسْتُحِبَّ لَهُ، لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ مِنْ سُورَتَيْنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ.
وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُ "الشَّامِلِ" وَآخَرُونَ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ "الْحَاوِي" عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي [رَابِعَةِ] الْعِشَاءِ وَثَالِثَةِ الْمَغْرِبِ، لَمْ يَجْهَرْ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى

 

ج / 3 ص -245-       الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَصَاحِبُ "الشَّامِلِ" وَ "الْبَيَانِ" فِي جَهْرِهِ قَوْلَيْنِ كَالسُّورَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: نُصَّ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يَجْهَرُ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ قَدْ فَاتَهُ فَيَتَدَارَكُهُ كَالسِّرِّ، وَنُصَّ فِي غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجْهَرُ؛ لِأَنَّ سُنَّةَ آخِرِ الصَّلَاةِ الْإِسْرَارُ، فَلَا يَفُوتُهُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ لَوْ كَانَ الْإِمَامُ بَطِيءَ الْقِرَاءَةِ وَأَمْكَنَ الْمَأْمُومَ الْمَسْبُوقَ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ فِيمَا أَدْرَكَ فَقَرَأَهَا، لَمْ يُعِدْهَا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ إذَا قُلْنَا: تَخْتَصُّ الْقِرَاءَةُ بِالْأُولَيَيْنِ.
فرع: لَوْ قَرَأَ السُّورَةَ ثُمَّ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَجْزَأَتْهُ الْفَاتِحَةُ، وَلَا تُحْسَبُ لَهُ السُّورَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْفُورَانِيُّ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ وَوَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُمْ فِي الِاعْتِدَادِ بِالسُّورَةِ وَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا الْقِيَامُ وَقَدْ أَتَى بِهَا فِيهِ.
فرع: لَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ مَرَّتَيْنِ وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ إنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ لَمْ تُحْسَبْ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ عَنْ السُّورَةِ بِلَا خِلَافٍ. صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ، قَالَ: لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَرْضًا وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يُؤَدَّى بِهِ فَرْضٌ وَنَفْلٌ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ.
فرع: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةُ: لَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ السُّورَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ الْمَأْمُومُ فَقَرَأَهَا قَبْلَ رُكُوعِ الْإِمَامِ حَصَلَتْ لَهُ فَضِيلَةُ السُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لِإِسْرَاعِ الْإِمَامِ، وَكَانَ يَوَدُّ أَنْ يَتَمَكَّنَ فَلِلْمَأْمُومِ ثَوَابُ السُّورَةِ، وَعَلَى الْإِمَامِ وَبَالُ تَقْصِيرِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَالَ: وَرُبَّمَا تَأَخَّرَ الْمَأْمُومُ بَعْدَ رُكُوعِ الْإِمَامِ لِقِرَاءَةِ السُّورَةِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْمُتَابَعَةِ إذَا هَوَى الْإِمَامُ لِلرُّكُوعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْ الْفَرْضِ بِنَفْلٍ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَتْهُ الصَّلَاةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَكَافَّةُ الْعُلَمَاءِ، إلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه وَطَائِفَةٍ أَنَّهُ تَجِبُ مَعَ الْفَاتِحَةِ سُورَةٌ أَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَيُحْتَجُّ لَهُ: بِأَنَّهُ مِنْ الْمُعْتَادِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مَعَ قَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" دَلِيلُنَا قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ" وَظَاهِرُهُ: الِاكْتِفَاءُ بِهَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: " فِي كُلِّ صَلَاةٍ يَقْرَأُ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ الله أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَا، وَإِنْ لَمْ تُزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أُجْزِأْتَ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْأَثَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِمَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ بَعْضٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَقْرَأْ فِيهِمَا

 

ج / 3 ص -246-       إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رَوَاهُ1 بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: نَقْلُ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُسِرَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَهَرَ نَازَعَ الْإِمَامَ فِي الْقِرَاءَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ إلَى الْإِمَامِ، وَإِذَا جَهَرَ لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِنْصَاتُ [لِغَيْرِهِ فَهُوَ كَالْإِمَامِ]، [وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يَجْهَرَ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُ غَيْرَهُ وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ كَالْإِمَامِ2] وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ لَمْ تَجْهَرْ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ رِجَالٌ أَجَانِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُفْتَتَنَ بِهَا، وَيُسْتَحَبُّ الْإِسْرَارُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالثَّالِثَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَقْلُ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ. وَإِنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ بِالنَّهَارِ فَقَضَاهَا بِاللَّيْلِ أَسَرَّ؛ لِأَنَّهُ صَلَاةُ نَهَارٍ، وَإِنْ فَاتَهُ صَلَاةٌ بِاللَّيْلِ فَقَضَاهَا بِالنَّهَارِ أَسَرَّ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ فَارْمُوهُ بِالْبَعْرِ وَيَقُولُ: إنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ عَجْمَاءُ" وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي: أَنْ يَجْهَرَ كَمَا يُسِرُّ فِيمَا فَاتَهُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ فَقَضَاهَا بِاللَّيْلِ.
الشرح: السَّلَفُ فِي اللُّغَةِ: هُمْ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُرَادُ هُنَا: أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْخَلَفُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَيُقَالُ بِإِسْكَانِهَا لُغَتَانِ الْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَهُمْ السَّابِقُونَ3 لِمَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَقَوْلُهُ: "صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ" بِالْمَدِّ أَيْ لَا جَهْرَ فِيهَا تَشْبِيهًا بِالْعَجْمَاءِ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ بَاطِلٌ غَرِيبٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَالسُّنَّةُ الْجَهْرُ فِي رَكْعَتِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالْإِسْرَارُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَثَالِثَةِ الْمَغْرِبِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ مِنْ الْعِشَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَظَاهِرَةِ عَلَى ذَلِكَ، هَذَا حُكْمُ الْإِمَامِ. وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَيُسَنُّ لَهُ الْجَهْرُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: هُوَ مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: جَهْرُ الْمُنْفَرِدِ وَإِسْرَارُهُ سَوَاءٌ. دَلِيلُنَا: أَنَّ الْمُنْفَرِدَ كَالْإِمَامِ فِي الْحَاجَةِ إلَى الْجَهْرِ لِلتَّدَبُّرِ، فَسُنَّ لَهُ الْجَهْرُ كَالْإِمَامِ وَأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَدَبُّرًا لِقِرَاءَتِهِ لِعَدَمِ ارْتِبَاطِ غَيْرِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى إطَاقَةِ الْقِرَاءَةِ. وَيَجْهَرُ بِهَا لِلتَّدَبُّرِ كَيْفَ شَاءَ، وَيُخَالِفُ الْمُنْفَرِدُ الْمَأْمُومَ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِمَاعِ، وَلِئَلَّا يُهَوِّشَ عَلَى الْإِمَامِ. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يُسَنُّ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان في مكان هذا البياض لفظ البخاري وليس في البخاري مثل هذا الخبر فأخذت في التنقيب عنه في السنن وجميع كتب السنة التي بين يدي فلم أجده في احد منها وقد حذفت اسم البخاري تنزيها له عن أن ينسب إليه ما ليس فيه ثم يرد بضعف الإسناد فيكون مجزئاً لمن فتنوا برد أحاديث البخاري أن يتأيدوا بمثل هذه الغلطة التي مصدرها النساخ أو الطباعون ولعل البخاري أخرجه في جزء رفع اليدين أو غيره حاسا الجامع والله أعلم. (ط).
2 ما بين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).
3 هكذا والأولى أن يقال: اللاحقون لمن قبلهم إلخ حتى لا توهم العبارة وإثبات فضل الخلف على السلف بإثبات السبق والأمر عكس ذلك أو وهم السابقون لمن يليهم والله أعلم (ط).

 

ج / 3 ص -247-       لَهُ الْإِسْرَارُ وَيُكْرَهُ لَهُ الْجَهْرُ، سَوَاءٌ أَسَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ أَمْ لَا.
قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: حَدُّ الْجَهْرِ أَنْ يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ، وَحَدُّ الْإِسْرَارِ: أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، وَدَلِيلُ كَرَاهَةِ الْجَهْرِ لِلْمَأْمُومِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رضي الله عنهما
"أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَيُّكُمْ قَرَأَ؟ أَوْ أَيُّكُمْ الْقَارِئُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا فَقَالَ: قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ بَعْضَهُمْ خَالَجَنِيهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمَعْنَى خَالَجَنِيهَا: جَاذَبَنِيهَا وَنَازَعَنِيهَا. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: إنْ كَانَتْ تُصَلِّي خَالِيَةً أَوْ بِحَضْرَةِ نِسَاءٍ أَوْ رِجَالٍ مَحَارِمَ جَهَرَتْ بِالْقِرَاءَةِ، سَوَاءٌ أَصَلَّتْ بِنِسْوَةٍ أَمْ مُنْفَرِدَةً، وَإِنْ صَلَّتْ بِحَضْرَةِ أَجْنَبِيٍّ أَسَرَّتْ، , وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ الْمُصَنِّفُ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَأَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِمَا وَالْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ وَآخَرُونَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَأَطْلَقَ صَاحِبُ الْحَاوِي أَنَّهَا تُسِرُّ، سَوَاءٌ أَصَلَّتْ مُنْفَرِدَةً أَمْ إمَامَةً، وَبَالَغَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَقَالَ: هَلْ صَوْتُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، قَالَ: فَإِنْ قُلْنَا: عَوْرَةٌ فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهَا، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَيَكُونُ جَهْرُهَا أَخْفَضُ مِنْ جَهْرِ الرَّجُلِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَحُكْمُ التَّكْبِيرِ فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ حُكْمُ الْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا الْخُنْثَى فَيُسِرُّ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَيَجْهَرُ إنْ كَانَ خَالِيًا أَوْ بِحَضْرَةِ مَحَارِمِهِ فَقَطْ. وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ كَالْمَرْأَةِ1، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْتُهُ. وَأَمَّا الْفَائِتَةُ فَإِنْ قَضَى فَائِتَةَ اللَّيْلِ بِاللَّيْلِ جَهَرَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قَضَى فَائِتَةَ النَّهَارِ بِالنَّهَارِ أَسَرَّ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ قَضَى فَائِتَةَ النَّهَارِ لَيْلًا أَوْ اللَّيْلِ نَهَارًا فَوَجْهَانِ. حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ الْقَضَاءِ فِي الْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ صَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ، وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الْفَوَاتِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْحَاوِي قَالَ: لَكِنْ يَكُونُ جَهْرُهُ نَهَارًا دُونَ جَهْرِهِ لَيْلًا، وَطَرِيقَةُ الْمُصَنِّفِ مُخَالِفَةٌ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، فَإِنَّهُ قَطَعَ بِالْإِسْرَارِ مُطْلَقًا "قُلْتُ:" كَذَا أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ لَكِنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ - وَإِنْ كَانَتْ نَهَارِيَّةً -


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقول الفقهاء: الخنثى هو الذي لا يخلص إليه الحكم بأنه ذكر ولا بأنه أنثى ويقول الأطباء الخنثى: وهو من اكتملت فيه أعضاء الأنوثة معا فيكون له فرج كالنسء وذكر كالرجال وهذا نادر ندرة أسطورية في عالم الطب. ولكن الحالة التي يكثر وجودها هي أن يكون أحد الجهازين مغلباً للآخر، وهذا يرجع إلى أن التكوين الوراثي للجنين يحدد جنساً معيناً للمولود. قالوا: ثم يحدث خلل في التوازن الهرموني يجعله غير منسق مع التكوين الجنسي الوراثي للجنين، مثال ذلك: جنين أنثى وليها مبيضان فإنها نتيجة ورم في الغدد فوق الكلوية أو بعض أورام المبيض نفسه يفرز هرموناً ذكريا، فتظهر الأعضاء التناسلية والتكوين الجسدي الظاهر في شكل ذكر أنما الذي في الداخل فإن الجهاز التناسلي لأنثى. قالوا: وعلاج هذه الحالة هو الاكتشاف المبكر وإزالة الورم المتسبب فيها قالوا: يوحد نوع آخر يقال عنه عندهم (الجنس المحايد) أي لا ذكر ولا أنثى وهذا يرجع اختلاف ورائي في التكوين الكرموزمات ويعنون بهذا أن الكرموزمات هي المادة التي تحدد نوع الجنين بما خصها الله تعالى من فيحدث خلل في عملها فيوحد بسبب ذلك الجنين وشكله الظاهر أنثى ولكن لا توحد له أعضاء تناسلية قالوا: وعلاج هذا بإعطائه الهرمونات التي تساعد على إظهار الجنس الأكثر بروزاً في حياته وحسب ميله، ولهم في هذا كلام سنوفيه في تكملتنا أن شاء الله وله الحمد والمنة (ط).

 

ج / 3 ص -248-       فَلَهَا فِي الْقَضَاءِ فِي الْجَهْرِ حُكْمُ اللَّيْلِيَّةِ، وَلِوَقْتِهَا فِيهِ حُكْمُ اللَّيْلِ، وَهَذَا مُرَادُ الْأَصْحَابِ.
فَرْعٌ: لَوْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ أَوْ عَكَسَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ: يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، دَلِيلُنَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ "وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا" وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ.

فرع: فِي حُكْمِ النَّوَافِلِ فِي الْجَهْرِ.
أَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ وَخُسُوفِ الْقَمَرِ فَيُسَنُّ فِيهَا الْجَهْرُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا نَوَافِلُ النَّهَارِ فَيُسَنُّ فِيهَا الْإِسْرَارُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا نَوَافِلُ اللَّيْلِ غَيْرَ التَّرَاوِيحِ فَقَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: يُجْهَرُ فِيهَا، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ: يُتَوَسَّطُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، وَأَمَّا السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ مَعَ الْفَرَائِضِ: فَيُسَرُّ بِهَا كُلِّهَا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا. وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الْجَهْرَ فِي سُنَّةِ الصُّبْحِ، وَعَنْ الْجُمْهُورِ الْإِسْرَارَ كَمَذْهَبِنَا.
فرع: فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ:
"صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَع بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَتِّلًا، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ: رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لَيْلَةً، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ، وَمَرَّ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَرَرْتُ بِك يَا أَبَا بَكْرٍ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ مِنْ صَوْتِكَ قَالَ: قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ الله، وَقَالَ لِعُمَرَ: مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَكَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا، وَقَالَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ "فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا وَلِعُمَرَ اخْفِضْ شَيْئًا، وَقَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ، وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُ اللَّهُ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
"كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ يَخْفِضُ طَوْرًا وَيَرْفَعُ طَوْرًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَعَنْ عُصَيْفِ1 بْنِ حَارِثٍ وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَقِيلَ صَحَابِيٌّ، قَالَ: "قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش و ق وهو أسد الغابة (عفيف بن الحارث اليماني أورده الطبراني في الصحابة ثم أورد كلام أبي موسى بأن صحة اسمه غضيف بمعجمتين ابن الحارث الشمالي وفي تهذيب التهذيب قضيف ويقال: غطيف بن الحارث بن زنيم السكوني الكندي ويقال أبو أسماء الحمصي، مختلف في صحبته ا هـ وقال العجلي: غضيف بن الحارث شامي تابعي ثقة (ط).

 

ج / 3 ص -249-       الله عنها: أَرَأَيْتِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ آخِرَهُ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا أَوْتَرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا أَوْتَرَ فِي آخِرِهِ، قُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً. قُلْتُ: أَرَأَيْتِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ وَيَخْفِتُ بِهِ؟ قَالَتْ رُبَّمَا جَهَرَ بِهِ وَرُبَّمَا خَفَتَ، قُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيح وَرَوَاهُ غَيْرُهُ وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم "الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: "اعْتَكَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ: أَلَا إنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فَصْلٌ: فِي مَسَائِلَ مُهِمَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَأَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَكْثَرَهَا مُخْتَصَرَةً خَوْفًا مِنْ الْإِمْلَالِ بِكَثْرَةِ الْإِطَالَةِ.
إحْدَاهَا: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ، وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا غَيْرِهَا بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ السَّبْعَةِ مُتَوَاتِرَةٌ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يُعْدَلُ عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ فَغَالِطٌ أَوْ جَاهِلٌ، وَأَمَّا الشَّاذَّةُ فَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً، فَلَوْ خَالَفَ وَقَرَأَ بِالشَّاذَّةِ أُنْكِرَ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ عَلَى اسْتِتَابَةِ مَنْ قَرَأَ بِالشَّوَاذِّ، وَقَدْ ذَكَرْتُ [تَفْصِيلَهُ1] فِي التِّبْيَانِ فِي آدَابِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالشَّاذِّ وَأَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ يَقْرَأُ بِهَا، قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَمَنْ قَرَأَ بِالشَّاذِّ إنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ أَوْ بِتَحْرِيمِهِ عُرِّفَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ عُزِّرَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ عَنْ ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ عَلَى الْإِنْكَارِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ بِالشَّاذَّةِ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَغَيُّرُ مَعْنًى وَلَا زِيَادَةُ حَرْفٍ وَلَا نَقْصُهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِذَا قَرَأَ بِقِرَاءَةٍ مِنْ السَّبْعَةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُتِمَّ الْقِرَاءَةَ بِهَا، فَلَوْ قَرَأَ بَعْضَ الْآيَاتِ بِهَا وَبَعْضَهَا بِغَيْرِهَا مِنْ السَّبْعَةِ جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا قَرَأَهُ بِالثَّانِيَةِ مُرْتَبِطًا بِالْأُولَى.
الثَّانِيَةُ: تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا وَتَشْدِيدَاتِهَا، وَهُنَّ أَرْبَعَ عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً، فِي الْبَسْمَلَةِ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ، فَلَوْ أَسْقَطَ حَرْفًا مِنْهَا أَوْ خَفَّفَ مُشَدَّدًا أَوْ أَبْدَلَ حَرْفًا بِحَرْفٍ مَعَ صِحَّةِ لِسَانِهِ لَمْ تَصِحَّ قِرَاءَتُهُ، وَلَوْ أَبْدَلَ الضَّادَ بِالظَّاءِ فَفِي صِحَّةِ قِرَاءَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَجْهَانِ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ: أَصَحُّهُمَا لَا تَصِحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: كَمَا لَوْ أَبْدَلَ غَيْرَهُ، وَالثَّانِي: تَصِحُّ لِعُسْرِ إدْرَاكِ مَخْرَجِهِمَا عَلَى الْعَوَامّ وَشَبَهِهِمْ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في مكان تفصله كانت كلمة (قصة) في كل من ش و ق ولا يراها سائغة (ط).

 

ج / 3 ص -250-       الثَّالِثَةُ: إذَا لَحَنَ فِي الْفَاتِحَةِ لَحْنًا يُخِلُّ الْمَعْنَى بِأَنْ ضَمَّ تَاءَ أَنْعَمْتَ أَوْ كَسَرَهَا، أَوْ كَسَرَ كَافَ إيَّاكَ نَعْبُدُ أَوْ قَالَ: إيَّاءَ بِهَمْزَتَيْنِ لَمْ تَصِحَّ قِرَاءَتُهُ وَصَلَاتُهُ إنْ تَعَمَّدَ، وَتَجِبُ إعَادَةُ الْقِرَاءَةِ إنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ، وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ الْمَعْنَى كَفَتْحِ دَالِ نَعْبُدُ وَنُونِ نَسْتَعِينُ وَصَادِ صِرَاطَ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَلَا قِرَاءَتُهُ، وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَيَحْرُمُ تَعَمُّدُهُ. وَلَوْ تَعَمَّدَهُ لَمْ تَبْطُلْ قِرَاءَتُهُ وَلَا صَلَاتُهُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِي التَّتِمَّةِ وَجْهٌ: أَنَّ اللَّحْنَ الَّذِي لَا يُخِلُّ الْمَعْنَى لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهُ. قَالَ: وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ وَالْإِعْرَابِ جَمِيعًا أَوْ فِي النَّظْمِ فَقَطْ.
الرَّابِعَةُ: فِي دَقَائِقَ مُهِمَّةٍ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ فِي التَّبْصِرَةِ تَتَعَلَّقُ بِحُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، قَالَ: شَرْطُ السِّينِ مِنْ الْبَسْمَلَةِ وَسَائِرِ الْفَاتِحَةِ أَنْ تَكُونَ صَافِيَةً غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِغَيْرِهَا لَطِيفَةَ الْمَخْرَجِ مِنْ بَيْنِ الثَّنَايَا - يَعْنِي وَأَطْرَافِ اللِّسَانِ، فَإِنْ كَانَ بِهِ لُثْغَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ إصْفَاءِ السِّينِ فَجَعَلَهَا مَشُوبَةً بِالثَّاءِ، فَإِنْ كَانَتْ لُثْغَةً فَاحِشَةً لَمْ يَجُزْ لِلْفَصِيحِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لُثْغَةً يَسِيرَةً لَيْسَ فِيهَا إبْدَالُ السِّينِ جَازَتْ إمَامَتُهُ، وَيَجِبُ إظْهَارُ التَّشْدِيدِ فِي الْحَرْفِ الْمُشَدَّدِ، فَإِنْ بَالَغَ فِي التَّشْدِيدِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لَكِنَّ الْأَحْسَنَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْحَدِّ الْمَعْرُوفِ لِلْقِرَاءَةِ، وَهُوَ أَنْ يُشَدِّدَ التَّشْدِيدَ الْحَاصِلَ فِي الرُّوحِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَاتِحَةِ فَصْلُ كُلِّ كَلِمَةٍ عَنْ الْأُخْرَى كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَقَشِّفُونَ1 الْمُتَجَاوِزُونَ لِلْحَدِّ، بَلْ الْبَصْرِيُّونَ يَعُدُّونَ هَذَا مِنْ الْعَجْزِ وَالْعِيِّ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ فِي قِرَاءَتِهِ بَيْنَ الْبَسْمَلَةِ "وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" قَطَعَ هَمْزَةَ الْحَمْدِ وَخَفَّفَهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَصِلَ الْبَسْمَلَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَقِفَ عَلَى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَقْفٍ وَلَا مُنْتَهَى آيَةٍ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُبَالِغُ فِي التَّرْتِيلِ فَيَجْعَلُ الْكَلِمَةَ كَلِمَتَيْنِ، وَأَصْلُ إظْهَارِ الْحُرُوفِ كَقَوْلِهِمْ نَسْتَعِينُ، يَقِفُونَ بَيْنَ السِّينِ وَالتَّاءِ وَقْفَةً لَطِيفَةً فَيَنْقَطِعُ الْحَرْفُ عَنْ الْحَرْفِ وَالْكَلِمَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّقْطِيعَ وَالْفَصْلَ وَالْوَقْفَ فِي أَثْنَائِهَا، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ الْجَائِزُ مِنْ التَّرْتِيلِ: أَنْ يُخْرِجَ الْحَرْفَ مِنْ مَخْرَجِهِ ثُمَّ يَنْتَقِلَ إلَى مَا بَعْدَهُ مُتَّصِلًا بِلَا وَقْفَةٍ، وَتَرْتِيلُ الْقُرْآنِ وَصْلُ الْحَرْفِ وَالْكَلِمَاتِ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّأَنِّي، وَلَيْسَ مِنْ التَّرْتِيلِ فَصْلُ الْحُرُوفِ وَلَا الْوَقْفُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَمِنْ تَمَامِ التِّلَاوَةِ إشْمَامُ الْحَرَكَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْحَرْفِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ اخْتِلَاسًا لَا إشْبَاعًا، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَ الْحُرُوفِ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِهِ بِأَنْ يَقُولَ: نَسْتَعِينُ تُشْبِهُ التَّاءُ الدَّالَ أَوْ الصَّادَ لَا بِصَادٍ مَحْضَةٍ وَلَا بِسِينٍ مَحْضَةٍ، بَلْ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ التَّعَلُّمُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ وَجَبَ التَّعَلُّمُ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي زَمَنِ التَّفْرِيطِ فِي التَّعَلُّمِ. هَذَا حُكْمُ الْفَاتِحَةِ فَأَمَّا غَيْرُهَا فَالْخَلَلُ فِي تِلَاوَتِهِ إنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى وَهُوَ مُتَعَمِّدٌ بِأَنْ قَرَأَ:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: من الآية28] بِرَفْعِ الله وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ قَرَأَ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي فِي الشَّوَاذِّ كَقِرَاءَةِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا2 أيمانهما} [المائدة: من الآية38]، وَ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام متتابعات} [البقرة: من الآية196] {وَأَتمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ} [البقرة: 196].


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش و ق وصوابه (المتشقشقون) (ط).
2 يريد أيمانها بدل (أيديهما) والآية التي بعدها فيها زيادة متتابعات ثم قوله: وأقميموا والمتواتر (وأتموا) (ط).

 

ج / 3 ص -251-       فَهَذَا كُلُّهُ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَ خَلَلًا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَلَا يَزِيدُ فِي الْكَلَامِ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ الصَّلَاةُ وَلَكِنَّهَا تُكْرَهُ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ رحمه الله.
قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: وَإِنْ كَانَ فِي الشَّاذَّةِ تَغْيِيرُ مَعْنًى فَتَعَمَّدَ بَطَلَتْ، وَإِلَّا فَلَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ: لَوْ فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ أَتَمَّهَا وَلَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ شَكٌّ فِي كَلِمَةٍ أَوْ حَرْفٍ مِنْهَا، فَلَا أَثَرَ لِشَكِّهِ، وَقِرَاءَتُهُ مَحْكُومٌ بِصِحَّتِهَا، وَلَوْ فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ شَاكًّا فِي تَمَامِهَا لَزِمَهُ إعَادَتُهَا كَمَا لَوْ شَكَّ فِي أَثْنَائِهَا، وَلَوْ كَانَ يَقْرَأُ غَافِلًا فَفَطِنَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، وَلَمْ يَتَيَقَّنْ قِرَاءَةَ جَمِيعِ السُّورَةِ فَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الْقِرَاءَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ آخِرَهَا إلَّا بَعْدَ قِرَاءَةِ أَوَّلِهَا، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا كَلِمَةً أَوْ حَرْفًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْنِفْهَا وَرَكَعَ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ رَكَعَ نَاسِيًا فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لَغْوٌ.
السَّادِسَةُ: شَرْطُ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا أَنْ يَسْمَعَ نَفْسَهُ إنْ كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ وَلَا شَاغِلَ لِلسَّمْعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَقِيقَةُ الْإِسْمَاعِ، وَهَكَذَا الْجَمِيعُ فِي التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَغَيْرِهِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا كُلِّهِ، عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بِلَا خِلَافٍ.
السَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَى الْأَخْرَسِ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ بِقَدْرِ مَا يُحَرِّكُهُ النَّاطِقُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَتَضَمَّنُ نُطْقًا وَتَحْرِيكَ اللِّسَانِ، فَسَقَطَ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَوَجَبَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم
"وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي فَصْلِ التَّكْبِيرِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ هُنَاكَ وَبَسَطْنَاهَا.
الثَّامِنَةُ: يُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا أَرْبَعُ سَكَتَاتٍ لِلْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ الْأُولَى: عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ يَقُولُ فِيهَا دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ وَالثَّانِيَةُ: بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ وَآمِينَ سَكْتَةٌ لَطِيفَةٌ الثَّالِثَةُ: بَعْدَ آمِينَ سَكْتَةٌ طَوِيلَةٌ بِحَيْثُ يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ "الرَّابِعَةُ: بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ السُّورَةِ سَكْتَةٌ لَطِيفَةٌ جِدًّا لِيَفْصِلَ بِهَا بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، وَتَسْمِيَةُ الْأُولَى سَكْتَةً مَجَازٌ، فَإِنَّهُ لَا يَسْكُتُ حَقِيقَةً بَلْ يَقُولُ: دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ، لَكِنْ سُمِّيَتْ سَكْتَةً فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا سَبَقَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ كَلَامَهُ، فَهُوَ كَالسَّاكِتِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَالرَّابِعَةُ: فَسَكْتَتَانِ حَقِيقِيَّتَانِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِيهَا دُعَاءً وَذِكْرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ دَلَائِلُ السَّكَتَاتِ الْأُوَلِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَمَّا الرَّابِعَةُ فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم
"أَنَّهُ كَانَ يَسْكُتُ سَكْتَتَيْنِ إذَا اسْتَفْتَحَ وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ كُلِّهَا" وَفِي رِوَايَةٍ "إذَا فَرَغَ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ عِنْدَ الرُّكُوعِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ فَكَتَبُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْمَدِينَةِ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَدَّقَ سَمُرَةَ،" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَالتِّرْمِذِيِّ "سَكْتَةً إذَا اسْتَفْتَحَ وَسَكْتَةً إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تُخَالِفُ السَّابِقِينَ، بَلْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَجْمُوعِ إثْبَاتُ السَّكَتَاتِ الثَّلَاثَةِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: فِي التَّبْصِرَةِ: رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْوِصَالِ فِي الصَّلَاةِ

 

ج / 3 ص -252-       وَفَسَّرُوهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَصْلُ الْقِرَاءَةِ بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ يُكْرَهُ ذَلِكَ، بَلْ يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا: وَالثَّانِي: تَرْكُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ فَيَحْرُمُ أَنْ يَصِلَ الِانْتِقَالَ بِالِانْتِقَالِ، , بَلْ يَسْكُنَ لِلطُّمَأْنِينَةِ.
التَّاسِعَةُ: يُسْتَحَبُّ تَرْتِيلُ الْقِرَاءَةِ وَتَدَبُّرُهَا، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل:4] وَقَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [صّ: 29] وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ جُمَلًا مِنْهَا فِي كِتَابِ آدَابِ الْقُرَّاءِ1 وَذَكَرْتُ فِيهِ جُمَلًا مُهِمَّةً تَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ وَالْقِرَاءَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مُعْظَمِ ذَلِكَ فِي هَذَا الشَّرْحِ فِي آخِرِ بَابِ مَا يُوجِبْ الْغُسْلَ، وَفِيهَا نَفَائِسُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَبِالله التَّوْفِيقُ.
وَالْعَاشِرَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةَ وَسَائِرَ السُّوَرِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ، وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْهُ كَفَرَ، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ بَاطِلٌ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُحَلَّى2 هَذَا كَذِبٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّمَا صَحَّ عَنْهُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهَا الْفَاتِحَةُ وَالْمُعَوِّذَتَانِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "ثُمَّ يَرْكَعُ وَهُوَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وَالْمُسْتَحَبُّ: أَنْ يُكَبِّرَ لِلرُّكُوعِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: رضي الله عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ وَحِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا" وَلِأَنَّ الْهُوِيَّ إلَى الرُّكُوعِ فِعْلٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرٍ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ.
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالرُّكُوعُ فِي اللُّغَةِ: الِانْحِنَاءُ، كَذَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَصْحَابُنَا، وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي وَبَعْضُهُمْ: هُوَ الْخُضُوعُ وَأَنْشَدُوا فِيهِ الْبَيْتَ الْمَشْهُورَ:

عَلَّكَ أَنْ تَرْكَعَ يَوْمًا                                       وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ


وَقَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْهُوِيَّ هُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ السُّقُوطُ وَالِانْخِفَاضُ، وَقَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَآخَرُونَ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: الْهَوِيَّ بِالْفَتْحِ النُّزُولُ وَالسُّقُوطُ، وَالْهُوِيُّ بِالضَّمِّ الصُّعُودُ قَالَ: وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الرُّكُوعِ، وَدَلِيلُهُ مَعَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ حَدِيثُ " الْمُسِيءُ صَلَاتَهُ " مَعَ قَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَيُسَنُّ أَنْ يُكَبِّرَ لِلرُّكُوعِ، بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَصِلُ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ بِالْقِرَاءَةِ، بَلْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ كَمَا سَبَقَ قَالُوا: وَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ رَفْعِ يَدَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ مَعَ ابْتِدَاءِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو كتاب البيان في آداب حملة القرآن.
2 لابن حزم كتابان المحلى والمجلى وكلاهما في الفقه و ش و ق (المجاز) وهو تحريف للمجلى.

 

ج / 3 ص -253-       التَّكْبِيرِ، فَإِذَا حَاذَى كَفَّاهُ مَنْكِبَيْهِ انْحَنَى وَيَمُدُّ التَّكْبِيرَ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى حَدِّ الرَّكْعَتَيْنِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَنُصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَقَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ. وَحَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا هُوَ الْجَدِيدُ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ. لَا يَمُدُّ التَّكْبِيرَ بَلْ يَشْرَعُ بِهِ، قَالُوا: وَالْقَوْلَانِ جَارِيَانِ فِي جَمِيعِ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ، وَهَلْ تُحْذَفُ أَمْ تُمَدُّ، حَتَّى يَصِلَ إلَى الذِّكْرِ الَّذِي بَعْدَهَا؟ الصَّحِيحُ: الْمَدُّ، وَلَوْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا حَتَّى رَكَعَ لَمْ يَأْتِ بِهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ
اعْلَمْ: أَنَّ الصَّلَاةَ الرُّبَاعِيَّةَ يُشْرَعُ فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ تَكْبِيرَةً، مِنْهَا خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعٌ لِلسَّجْدَتَيْنِ وَالرَّفْعَيْنِ مِنْهَا، وَالْخَامِسَةُ لِلرُّكُوعِ فَهَذِهِ عِشْرُونَ، وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَتَكْبِيرَةُ الْقِيَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الثُّلَاثِيَّةُ فَيُشْرَعُ فِيهَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَقَطَ مِنْهَا تَكْبِيرَاتُ رَكْعَةٍ وَهُنَّ خَمْسٌ وَأَمَّا الثُّنَائِيَّةُ: فَيُشْرَعُ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ لِلرَّكْعَتَيْنِ وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا عِنْدَنَا سُنَّةٌ إلَّا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَهِيَ فَرْضٌ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ1 جَابِرٍ وَقَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ وَشُعَيْبٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يُشْرَعُ إلَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ فَقَطْ، وَلَا يُكَبَّرُ غَيْرُهَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَمَّا قَوْلُ الْبَغَوِيِّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا نَقَلْنَاهُ، أَوْ أَرَادَ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ التَّابِعِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الْخِلَافِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَالْقَفَّالُ وَالشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: جَمِيعُ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبَةٌ، وَاحْتُجَّ لِأَحْمَدَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُهُنَّ، وَاحْتُجَّ لِمَنْ أَسْقَطَهُنَّ غَيْرَ تَكْبِيرِ الْإِحْرَامِ بِحَدِيثٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عِمْرَانَ2 عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ: رضي الله عنه "أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا هَكَذَا. وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ زِيَادَةُ "لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ يَعْنِي إذَا خَفَضَ وَإِذَا رَفَعَ" وَدَلِيلُنَا عَلَى أَحْمَدَ حَدِيثُ "الْمُسِيءُ صَلَاتَهُ" فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ وَأَمَرَهُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَأَمَّا فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الله بن جابر البياضي.
2 الحسن بن عمران قال أبو ادود السجستاني صاحب "السنن": قال ابن بشار الشامي هو أبو عبد الله العسقلاني.

 

ج / 3 ص -254-       وَدَلِيلُنَا عَلَى الْآخَرِينَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.
وَعَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ:
"صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه فَكَانَ إذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ وَإِذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِي ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم أَوْ لَقَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّهُ أَحْمَقُ: فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ. وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبْزَى مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ رَاوِيَهُ الْحَسَنُ بْنُ عِمْرَانَ لَيْسَ [مَعْرُوفًا]1.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ التَّكْبِيرَ، وَقَدْ سَمِعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَقُدِّمَتْ رِوَايَةُ الْمُثْبِتِ. وَالثَّالِثُ: لَعَلَّهُ تَرَكَ التَّكْبِيرَاتِ أَوْ نَحْوَهَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ: جَوَابُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ.
فرع: يُسَنُّ لِلْإِمَامِ الْجَهْرُ بِتَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَبِقَوْلِهِ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" لِيَعْلَمَ الْمَأْمُومُونَ انْتِقَالَهُ، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الصَّوْتِ لِمَرَضٍ وَغَيْرِهِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْهَرَ الْمُؤَذِّنُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْمَأْمُومِينَ جَهْرًا يُسْمِعُ النَّاسَ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَدَلِيلُنَا مِنْ السُّنَّةِ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ:
"صَلَّى بِنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ وَحِينَ سَجَدَ - وَحِينَ رَفَعَ - وَحِينَ قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم هَكَذَا يُصَلِّي". وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "اشْتَكَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا "صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه خَلْفَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُنَا". وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قِصَّةِ مَرَضِ رَسُولِ الله قَالَتْ:


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فليحرر (ش) مصححه، قلت: وقد تكرر في ش و ق قوله عن الحسن عن عمران وهذا خطأ طبعا؛ لأن الحسن هو ابن عمران وانظر الهامش قبله، أما الكلام على صحة الخبر فقد قال ابن حبان في "الثقات": له عند أبي داود حديث واحد في تمام التكبير قال الحافظ بن حجر: والحديث معلول: قال أبو داود الطيالسي والبخاري: لا يصح. قلت: نقل البخاري عن الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل، وقال الطبري في "تهذيب الآثار" الحسن عندنا مجهول (ط).

 

ج / 3 ص -255-       "فَأَتَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ إلَى جَنْبِهِ - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه - وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُهُمْ التَّكْبِيرَ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فِي التَّكْبِيرِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ".
الشرح:
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ لِلرُّكُوعِ وَلِلرَّفْعِ مِنْهُ، وَفِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنْ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَمُضْطَجِعٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَمُفْتَرِضٍ وَمُتَنَفِّلٍ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ"، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ رَفْعِهِ وَهُوَ قَائِمٌ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ عَنْ الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَفْرِيجُ الْأَصَابِعِ هُنَا وَفِي كُلِّ رَفْعٍ، وَلَوْ كَانَتْ سَبَقَ فِي رَفْعِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَجَمِيعُ الْفُرُوعِ تَجِيءُ هُنَا.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ لِلرُّكُوعِ وَلِلرَّفْعِ مِنْهُ.
"اعْلَمْ" أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ جِدًّا، فَإِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ مُتَكَاثِرَاتٍ لَا سِيَّمَا طَالِبُ الْآخِرَةِ، وَمُكْثِرُ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا اعْتَنَى الْعُلَمَاءُ بِهَا أَشَدَّ اعْتِنَاءٍ، حَتَّى صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الله الْبُخَارِيِّ كِتَابًا كَبِيرًا فِي إثْبَاتِ الرَّفْعِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَالْإِنْكَارِ الشَّدِيدِ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، فَهُوَ كِتَابٌ نَفِيسٌ، هُوَ سَمَاعِيٌّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، فَسَأَنْقُلُ هُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ مُعْظَمَ مُهِمَّاتِ مَقَاصِدِهِ، وَجَمَعَ فِيهِ الْإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا جُمْلَةً حَسَنَةً، وَسَأَنْقُلُ مِنْ كِتَابِهِ هُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُهِمَّاتِ مَقَاصِدِهِ، وَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَأَرَيْتُكَ فِيهِ عَجَائِبَ مِنْ النَّفَائِسِ، وَأَرْجُو أَنْ أَجْمَعَ فِيهِ كِتَابًا مُسْتَقِلًّا.
"اعْلَمْ" أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ1 بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ، وَفِيهِ شَيْءٌ ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا رَفْعُهُمَا فِي تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَفِي الرَّفْعِ مِنْهُ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ فِيهِمَا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَسَالِمُ بْنِ عَبْدِ الله وَسَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعٌ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِر عَنْ أَكْثَرِ هَؤُلَاءِ، , وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، قَالَ: وَنَقَلَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم قَالَ: وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَجْمَع عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الله الْبُخَارِيُّ، يُرْوَى هَذَا الرَّفْعُ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ الْبَدْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْبَدْرِيُّ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ الله بْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدُ الله بْنُ الزُّبَيْرِ وَوَائِلُ بْنُ حُجُرٍ وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنهم، قَالَ: وَقَالَ الْحَسَنُ وَحُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ: كَانَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل وفي العبارة تقدير: سنة أو ثابت (ط).

 

ج / 3 ص -256-       أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ قَالَ: وَرَوَيْنَا الرَّفْعَ أَيْضًا هُنَا عَنْ عِدَّةٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَالْيَمَنِ وَعِدَّةٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَطَاوُوسٌ وَمَكْحُولٌ وَعَبْدُ الله بْنُ دِينَارٍ وَنَافِعٌ وَعُبَيْدُ الله بْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعِيدٍ وَعِدَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ: رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَرْفَعُ يَدَيْهَا، وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَمُحَدِّثِي أَهْلِ بُخَارَى، مِنْهُمْ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَكَعْبُ بْنُ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ وَعَبْدُ الله بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُشَيِّدِي وَعِدَّةٌ مِمَّنْ لَا يُحْصَى، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ مَنْ وَصَفْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ عَبْدُ الله بْنُ الزُّبَيْرِ - يَعْنِي الْحُمَيْدِيَّ شَيْخَهُ1 - وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يُثْبِتُونَ عَامَّةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَيَرَوْنَهَا حَقًّا، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ.
هَذَا كَلَامُ الْبُخَارِيِّ وَنَقَلَهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ، قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدِ الله بْنِ جَابِرٍ الْبَيَاضِيِّ الصَّحَابِيِّينَ رضي الله تعالى عنهم، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: وَرَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَأَبِي الزُّبَيْرِ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَعِدَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْآثَارِ بِالْبُلْدَانِ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي كُلِّ عَصْرٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَائِرُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ: لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، , وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم "إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ لَا يَعُودُ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "لَأُصَلِّيَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا مَرَّةً" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رضي الله عنهما فَلَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ "كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مِنْ الصَّلَاةِ، ثُمَّ لَا يَرْفَعُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه "أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مِنْ الصَّلَاةِ". وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم مَالِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟ اُسْكُنُوا فِي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري ولعل الهاء هنا ضمير يعود على البخاري وإنما أبهمه لشهرة مشيخته له ولعود الضمير على المتكلم وهو أول من سماه في "الجامع الصحيح" فإن أول ما يطالعك حديث "إنما الأعمال" وأول رواته الحميد عن عبد الله بن الزبير فهو أول رجل ذكره البخاري في "صحيحه" (ط).

 

ج / 3 ص -257-       الصَّلَاةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" ، وَعَنْ1 ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ مِنْ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَفِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبِعَرَفَاتٍ، وَجَمْعٍ فِي الْمَقَامَيْنِ، وَعِنْدَ الْجَسْرَتَيْنِ".
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ. وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ: أَنَّهُ "رَأَى مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ إذَا صَلَّى كَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَحَدَّثَ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ هَكَذَا" وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ مِثْلَ ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَصْنَعَهُ إذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: "وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ" يَعْنِي بِهِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ: إذَا قَامَ مِنْ التَّشَهُّد الْأُوَلِ، كَذَا فَسَّرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَبِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم
"رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَكَبَّرَ، وَوَصَفَ هَمَّامٌ وَهُوَ أَحَدُ الرُّوَاةِ: حِيَالَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ الثَّوْبِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا حُمَيْدٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمْ: أَبُو قَتَادَةَ يَقُولُ: "أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالُوا: فَاعْرِضْ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اعْتَدَلَ قَائِمًا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَرَكَعَ ثُمَّ اعْتَدَلَ فَاعْتَدَلَ، فَلَمْ يُصَوِّبْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُقَنِّعْ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كَمَا صَنَعَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: "قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ" يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا قَالُوا فِي آخِرِهِ: "صَدَقْتَ هَكَذَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مِنْ طُرُقٍ، وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واحتج صاحب "البدائع" بقوله: أما أصل الرفع فلما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم موقوفا عليهما ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن" وذكر من جملتها تكبيرة الافتتاح. (ط).

 

ج / 3 ص -258-       رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: رَوَى الرَّفْعَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه فَمِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ جَوَابُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَحُفَّاظِهِمْ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ، مِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَضْعِيفِهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الله بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو سَعِيدٍ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهَؤُلَاءِ أَرْكَانُ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيهِ، وَأَمَّا الْحُفَّاظُ وَالْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ ضَعَّفُوا فَأَكْثَرُوا مِنْ [نَقْدِ1] الْخَبَرِ: وَسَبَبُ تَضْعِيفِهِ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه، وَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ غَلِطَ فِيهِ، وَأَنَّهُ رَوَاهُ أَوَّلًا "إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْه" قَالَ سُفْيَانُ: فَقَدِمْتُ الْكُوفَةَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ بِهِ وَيَزِيدُ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَقَّنُوهُ، قَالَ سُفْيَانُ: وَقَالَ لِي أَصْحَابُنَا: إنَّ حِفْظَهُ قَدْ تَغَيَّرَ أَوْ قَدْ أَسَاءَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: ذَهَبَ سُفْيَانُ إلَى تَغْلِيطِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ يَزِيدُ، وَيَزِيدُ2 يَزِيدُ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ وَسَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يُضَعِّفُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَمِمَّا يُحَقِّقُ قَوْلَ سُفْيَانَ أَنَّهُمْ لَقَّنُوهُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَزُهَيْرَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَهِشَامًا وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يُنْكِرُوهَا إنَّمَا جَاءَ بِهَا مَنْ سَمِعَ مِنْهُ بِأَخِرَةٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ أَبُو عَبْدِ الله3، وَذَكَرَ إسْنَادَهُ إلَى سُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ. قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ بِمَكَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ" قَالَ سُفْيَانُ: فَلَمَّا قَدِمْتُ الْكُوفَةَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ لَا يَعُودُ" فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَقَّنُوهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَخِيهِ عِيسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ فِيهِ: "ثُمَّ لَا يَعُودُ" وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مِنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ. ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ فَصْلًا فِي تَضْعِيفِ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ هَذَا، قَالَ: وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَقْوَى مِنْ يَزِيدَ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَضْعِيفِهِ نَحْوَ مَا سَبَقَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: ذَكَرَ أَصْحَابُنَا قَالُوا: لَوْ صَحَّ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَعُودُ إلَى الرَّفْعِ فِي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين يقتضيها السياق أو كلمة "ذكر" حتى تستقيم العبارة.
2 يزيد الأولى الاسم والأخيرة فعل مضارع وهو ضرب من الجناس البديعي (ط).
3 هكذا ورد في الأصل وفي ش. و. ق. ولعله "ما ذهب إليه هؤلاء ما رواه أبو عبد الله الحاكم بن البيع" أو محمد بن إسماعيل والله أعلم.

 

ج / 3 ص -259-       ابْتِدَاءِ اسْتِفْتَاحِهِ وَلَا فِي أَوَائِلِ بَاقِي رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَحَادِيثَ الرَّفْعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا إثْبَاتٌ وَهَذَا نَفْيٌ فَيُقَدَّمُ الْإِثْبَاتُ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ أَحَادِيثَ الرَّفْعِ أَكْثَرُ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَجَوَابُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ، فَأَمَّا الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا تَضْعِيفُهُ فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ تَضْعِيفَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، وَتَابَعَهُمَا الْبُخَارِيُّ عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَضَعَّفَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ أَيْضًا: أَحَدُهَا: تَضْعِيفُهُ، مِمَّنْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ ثُمَّ رَوَى الْبُخَارِيُّ تَضْعِيفَهُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ الدَّارِمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ الْوَاهِي.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَفْعُ الْيَدِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ وَالْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ خِلَافَ مَا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ؟ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الزَّعْفَرَانُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا يَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ يَعْنِي مَا رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا فِي غَيْرِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا عَنْهُمَا لَأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ رَآهُمَا الرَّاوِي مَرَّةً أَغْفَلَا ذَلِكَ، قَالَ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: ذَهَبَ عَنْهُمَا حِفْظُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَحَفِظَهُ ابْنُ عُمَرَ لَكَانَتْ لَهُ الْحُجَّةُ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فَاحْتِجَاجُهُمْ بِهِ مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ وَأَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْجَهَالَةِ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَرِدْ فِي رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي حَالَةِ السَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَيُشِيرُونَ بِهَا إلَى الْجَانِبَيْنِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ لَهُ أَدْنَى اخْتِلَاطٍ بِأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيُبَيِّنُهُ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ رَوَاهُ فِي "صَحِيحِهِ" مِنْ طَرِيقِينَ أَحَدِهِمَا: الطَّرِيقُ السَّابِقُ وَالثَّانِي: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:
"كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْجَانِبَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم عَلَامَ تُومِئُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟ إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ" هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"، وَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ مِنْ أَصْحَابِ "السُّنَنِ" وَغَيْرِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَكُنَّا إذَا سَلَّمْنَا قُلْنَا بِأَيْدِينَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَنَظَرَ إلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ تُشِيرُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟ إذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ فَلْيَلْتَفِتْ إلَى صَاحِبِهِ، وَلَا يُومِئُ بِيَدِهِ"، هَذَا لَفْظُ "صَحِيحِ مُسْلِمٍ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ1: وَأَمَّا احْتِجَاجُ بَعْضِ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فَإِنَّمَا كَانَ فِي الرَّفْعِ عِنْدَ السَّلَامِ لَا فِي الْقِيَامِ قَالَ: وَلَا يَحْتَجُّ بِمِثْلِ هَذَا مَنْ لَهُ حَظٌّ مِنْ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ لَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه "رفع اليدين" (ط).

 

ج / 3 ص -260-       اخْتِلَافَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَوَهَّمَهُ هَذَا الْمُحْتَجُّ لَكَانَ رَفْعُ الْأَيْدِي فِي الِافْتِتَاحِ وَفِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ أَيْضًا مَنْهِيَّا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ رَفْعًا، وَقَدْ بَيَّنَهُ حَدِيثُ أَبِي نُعَيْمٍ ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ الَّتِي نَقَلْتُهَا الْآنَ، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَلْيَحْذَرْ امْرُؤٌ أَنْ يَتَأَوَّلَ أَوْ يَتَقَوَّلَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ" فَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ، وَهَذَا جَوَابُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَوْضَحَهُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا نَفْيٌ وَغَيْرُهُ إثْبَاتٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ تَرْكُ السُّنَنِ، وَالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ1 بِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الرَّفْعَ ثَابِتٌ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ غَيْرِ هَذِهِ السَّبْعَةِ قَدْ بَيَّنَهَا الْبُخَارِيُّ بِأَسَانِيدِهِ، وَسَأُفَرِّعُ بِهَا بِفَرْعٍ مُسْتَقِلٍّ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذَا تَنْقِيحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ وَدَلَائِلِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَأَخْتِمُهَا بِمَا خَتَمَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله تعالى، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ الْفَقِيهِ قَالَ: قَدْ صَحَّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثُمَّ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَيْسَ فِي نِسْيَانِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رَفْعَ الْيَدَيْنِ مَا يُوجِبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَدْ نَسِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَيْفِيَّةَ قِيَامِ الِاثْنَيْنِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَنَسِيَ نَسْخَ التَّطْبِيقِ فِي الرُّكُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا نَسِيَ هَذَا كَيْفَ لَا يَنْسَى رَفْعَ الْيَدَيْنِ؟ ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الرَّبِيعِ قَالَ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: مَا مَعْنَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ؟ فَقَالَ: مِثْلُ مَعْنَى رَفْعِهِمَا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ تَعْظِيمًا لِلّهِ تَعَالَى وَسُنَّةً مُتَّبَعَةً نَرْجُو فِيهَا ثَوَابَ الله تَعَالَى، وَمِثْلُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَغَيْرِهِمَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ عِشَاءً فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لِلثَّوْرِيِّ: لِمَ لَا تَرْفَعُ يَدَيْكَ فِي خَفْضِ الرُّكُوعِ وَرَفْعِهِ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَرْوِي لَك عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُعَارِضُنِي بِيَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ؟ وَيَزِيدُ رَجُلٌ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُهُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، فَاحْمَرَّ وَجْهُ الثَّوْرِيِّ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَأَنَّكَ كَرِهْتَ مَا قُلْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قُمْ بِنَا إلَى الْمَقَامِ نَلْتَعِنُ أَيُّنَا عَلَى الْحَقِّ، فَتَبَسَّمَ الثَّوْرِيُّ لَمَّا رَأَى الْأَوْزَاعِيَّ قَدْ احْتَدَّ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ نَافِعٍ: "أَنَّ ابْنِ عُمَرَ كَانَ إذَا رَأَى رَجُلًا لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَمَاهُ بِالْحَصَى" وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ: رضي الله عنها "أَنَّهَا كَانَتْ تَرْفَعُ يَدَيْهَا فِي الصَّلَاةِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهَا وَحِينَ تَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ وَحِينَ تَرْكَعُ، وَإِذَا قَالَتْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَتْ يَدَيْهَا وَقَالَتْ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَنِسَاءُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَبِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ:
"رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ تَزِيدُ بِهِ صَلَاتُكَ".


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل في العبارة سقطا تقديره "مستفيضة" أو "ناطقة" والله أعلم (ط).

 

ج / 3 ص -261-       قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِمَّنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، مِنْهُمْ الْحُمَيْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَبْنَاءِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عِلْمُهُ فِي تَرْكِ رَفْعِ الْأَيْدِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ قَالَ: وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَهْلِ زَمَانِهِ عِلْمًا فِيمَا يُعْرَفُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ عَنْ السَّلَفِ عِلْمٌ فَاقْتَدَى بِابْنِ الْمُبَارَكِ فِيمَا اتَّبَعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَالتَّابِعِينَ، لَكَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَعْلَمُ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ1 النُّعْمَانِ فَرَفَعْتُ يَدَيَّ فَقَالَ: مَا حَسِبْتُ أَنْ تَطِيرَ، قُلْتُ: إنْ لَمْ أَطِرْ فِي الْأُولَى لَمْ أَطِرْ فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ رَوَى الْبُخَارِيُّ رَفْعَ الْأَيْدِي فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَنْ أَعْلَامِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ ثُمَّ قَالَ: فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى رَفْعِ الْأَيْدِي. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ جَمَاعَاتٍ آخَرِينَ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ بِدْعَةٌ فَقَدْ طَعَنَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَالسَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمَا، وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ وَعِدَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَعُلَمَاءِ خُرَاسَانَ، مِنْهُمْ ابْنُ الْمُبَارَكِ حَتَّى شُيُوخِنَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم تَرْكُ الرَّفْعِ، وَلَيْسَ أَسَانِيدُهُ2 أَصَحَّ مِنْ أَسَانِيدِ الرَّفْعِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَأَمَّا رِوَايَةُ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّفْعَ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَعِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَرِوَايَةُ الَّذِينَ رَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَفِي الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَالْجَمِيعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا صَلَاةً وَاحِدَةً، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا بِعَيْنِهَا مَعَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجِبُ أَنْ يَنْحَنِيَ إلَى حَدٍّ يَبْلُغُ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بِمَا دُونَهُ رَاكِعًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّقَ أَصَابِعَهُ، لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ: رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمْسَكَ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَالْقَابِضِ عَلَيْهِمَا وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ" وَلَا يُطْبِقُ لِمَا رُوِيَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ:
"صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَجَعَلْتُ يَدَيَّ بَيْنَ رُكْبَتَيَّ وَبَيْنَ فَخِذَيَّ وَطَبَّقْتُهُمَا فَضَرَبَ بِيَدَيَّ وَقَالَ: اضْرِبْ بِكَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنَّا قَدْ كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا فَأُمِرْنَا أَنْ نَضْرِبَ بِالْأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ" وَالْمُسْتَحَبُّ: أَنْ يَمُدَّ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَلَا يُقَنِّعُ رَأْسَهُ وَلَا يُصَوِّبُهُ، لِمَا رُوِيَ: أَنَّ أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه "وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: فَرَكَعَ وَاعْتَدَلَ وَلَمْ يُصَوِّبْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُقَنِّعْهُ" وَالْمُسْتَحَبُّ: أَنْ يُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ: رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَمْ تُجَافِ، بَلْ تَضُمَّ الْمِرْفَقَيْنِ إلَى الْجَنْبَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَطْمَئِنَّ فِي الرُّكُوعِ لِقَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ "ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا".


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني أبا حنيفة رحمه الله تعالى وهو النعمان بن ثابت (ط).
2 الضمير يعود على الترك يعني وليس أسانيد الترك الخ (ط).

 

ج / 3 ص -262-       الشرح: حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ الْأَوَّلُ وَحَدِيثُهُ الْأَخِيرُ صَحِيحَانِ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ بِكَمَالِهَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا قَوْلَهُ "وَيُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ" فَلَمْ يَذْكُرْهَا التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ هَذَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ كَمَا وَقَعَتَا هُنَا، وَأَمَّا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ: "أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ: أَنَا كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رَأَيْتُهُ إذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارِهِ مَكَانَهَا، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضَهَا، وَاسْتَقْبَلَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ مُوَجَّهَةً لِلْقِبْلَةِ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى عَلَى مَقْعَدَتِهِ"، هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَأَمَّا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: "سَمِعْتُهُ وَهُوَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: فَاعْرِضْ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اعْتَدَلَ قَائِمًا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَرَفَعَ، ثُمَّ اعْتَدَلَ فَلَمْ يُصَوِّبْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُقَنِّعْ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا، ثُمَّ هَوَى إلَى الْأَرْضِ سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ إبْطَيْهِ وَفَتَحَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ اعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا، ثُمَّ هَوَى سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ وَقَعَدَ وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ نَهَضَ، ثُمَّ صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، كَمَا صَنَعَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ صَنَعَ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَنْقَضِي فِيهَا صَلَاتُهُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عَلَى شِقِّهِ مُتَوَرِّكًا، ثُمَّ سَلَّمَ، قَالُوا: صَدَقْتَ هَكَذَا صَلَّى صلى الله عليه وسلم" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَالَ: وَقَوْلُهُ "إذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ" يَعْنِي إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِثْلَ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَزَادَ بَعْدَهُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ يَقْرَأُ وَقَالَ فِيهَا: ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: "ثُمَّ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ" وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَقَالَ: "إذَا رَكَعَ أَمْكَنَ كَفَّيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ" لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي السُّجُودِ "وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ الْقِبْلَةَ" فَهَذِهِ طُرُقٌ مِنْ حَدِيثِ التَّطْبِيقِ رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ، وَوَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ فَنَهَانِي أَبِي وَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ". وَأَمَّا حَدِيثُ "الْمُسِيءُ صَلَاتَهُ" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
أَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَالتَّطْبِيقُ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ عَلَى بَطْنِ الْأُخْرَى وَيَجْعَلَهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ وَفَخِذَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يُقَنِّعُ رَأْسَهُ أَيْ لَا يَرْفَعُهُ وَلَا يُصَوِّبُهُ - وَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَبِالْبَاءِ

 

ج / 3 ص -263-       الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ لَا يُبَالِغُ فِي خَفْضِهِ وَتَنْكِيسِهِ، وَقَوْلُهُ: يُجَافَى هُوَ مَقْصُورٌ وَمَعْنَاهُ يُبَاعَدُ وَمِنْهُ، الْجَفْوَةُ وَالْجَفَاءُ بِالْمَدِّ، وَأَبُو حُمَيْدٍ اسْمُهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقِيلَ: الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ السَّاعِدِيُّ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ بَطْنٍ مِنْ الْأَنْصَارِ الْمَدَنِيُّ رضي الله عنه تُوُفِّيَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، وَمُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ اسْمُ أَبِي وَقَّاصٍ مَالِكُ بْنُ وُهَيْبٍ وَيُقَالُ: أَهْيَب فَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَمُصْعَبُ ابْنُهُ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ ثَنَاهُ وَعَطَفَهُ، وَالْفَقَارُ عِظَامُ الظَّهْرِ بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَقَوْلُهُ: "فَتَحَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ" وَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ لَيَّنَهَا وَثَنَاهَا إلَى الْقِبْلَةِ، وَقَوْلُهُ: وَرَكَعَ ثُمَّ اعْتَدَلَ أَيْ اسْتَوَى فِي رُكُوعِهِ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: أَقَلُّهُ أَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ تَنَالُ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ لَوْ أَرَادَ وَضْعَهُمَا عَلَيْهِمَا، وَلَا يُجْزِيهِ دُونَ هَذَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا. وَهَذَا عِنْدَ اعْتِدَالِ الْخِلْقَةِ وَسَلَامَةِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَلَوْ انْخَنَسَ وَأَخْرَجَ رُكْبَتَيْهِ، وَهُوَ مَائِلٌ مُنْتَصِبٌ وَصَارَ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ بَلَغَتْ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُكُوعًا ؛ لِأَنَّ بُلُوغَهُمَا لَمْ يَحْصُلْ بِالِانْحِنَاءِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ مَزَجَ الِانْحِنَاءَ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ وَكَانَ التَّمَكُّنُ مِنْ وَضْعِ الرَّاحَتَيْنِ إلَى الرُّكْبَتَيْنِ جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ رُكُوعًا أَيْضًا، ثُمَّ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْحِنَاءِ إلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ إلَّا بِمُعِينٍ أَوْ بِاعْتِمَادٍ عَلَى شَيْءٍ أَوْ بِأَنْ يَنْحَنِيَ عَلَى جَانِبِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى تَحْصِيلِ الرُّكُوعِ فَوَجَبَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ انْحَنَى الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ، فَإِنْ عَجَزَ أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ مِنْ قِيَامٍ، هَذَا بَيَانُ رُكُوعِ الْقَائِمِ.
أَمَّا رُكُوعُ الْمُصَلِّي قَاعِدًا فَأَقَلُّهُ أَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ يُحَاذِي وَجْهُهُ مَا وَرَاءَ رُكْبَتَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ، وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ تُحَاذِي جَبْهَتُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ لِعِلَّةٍ بِظَهْرِهِ وَنَحْوِهَا فَعَلَ الْمُمْكِنَ مِنْ الِانْحِنَاءِ، وَفِي رُكُوعِ الْعَاجِزِ وَسُجُودِهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ "الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ" فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهُوِيِّهِ غَيْرَ الرُّكُوعِ، فَلَوْ قَرَأَ فِي قِيَامِهِ آيَةَ سَجْدَةٍ فَهَوَى لِيَسْجُدَ ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ حَدَّ الرَّاكِعِينَ أَنْ يَرْكَعَ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ عَنْ الرُّكُوعِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقِيَامِ ثُمَّ يَرْكَعَ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَلَوْ سَقَطَ مِنْ قِيَامِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْقِرَاءَةِ فَارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ إلَى حَدِّ الرَّاكِعِينَ لَمْ يُجْزِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَصِبَ قَائِمًا ثُمَّ يَرْكَعَ، وَلَوْ انْحَنَى لِلرُّكُوعِ فَسَقَطَ قَبْلَ حُصُولِ أَقَلِّ الرُّكُوعِ لَزِمَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ مِنْهُ وَيَبْنِيَ عَلَى رُكُوعِهِ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ "الْحَاوِي" وَالْأَصْحَابُ، وَلَوْ رَكَعَ وَاطْمَأَنَّ ثُمَّ سَقَطَ لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَدِلَ قَائِمًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَى الرُّكُوعِ لِئَلَّا يَزِيدَ رُكُوعًا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ"، وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ، وَتَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ بِلَا خِلَافٍ لِحَدِيثِ: "الْمُسِيءُ صَلَاتَهُ" وَأَقَلُّهَا أَنْ يَمْكُثَ فِي هَيْئَةِ الرُّكُوعِ حَتَّى تَسْتَقِرَّ أَعْضَاؤُهُ، وَتَنْفَصِلَ حَرَكَةُ هُوِيِّهِ عَنْ ارْتِفَاعِهِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَوْ جَاوَزَ حَدَّ أَقَلِّ الرُّكُوعِ بِلَا خِلَافٍ لِحَدِيثِ: "الْمُسِيءُ صَلَاتَهُ" وَلَوْ زَادَ فِي الْهُوِيِّ ثُمَّ ارْتَفَعَ وَالْحَرَكَاتُ مُتَّصِلَةٌ وَلَمْ يَلْبَثْ لَمْ تَحْصُلْ الطُّمَأْنِينَةُ، وَلَا يَقُومُ زِيَادَةُ الْهُوِيِّ مَقَامَ الطُّمَأْنِينَةِ بِلَا خِلَافٍ.

 

ج / 3 ص -264-       وَأَمَّا أَكْمَلُ الرُّكُوعِ فِي الْهَيْئَةِ، فَأَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ وَعُنُقُهُ وَيَمُدَّهُمَا كَالصَّفِيحَةِ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ، وَلَا يُثْنِي رُكْبَتَيْهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": وَيَمُدُّ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَلَا يَخْفِضُ ظَهْرَهُ عَنْ عُنُقِهِ وَلَا يَرْفَعُهُ، وَيَجْتَهِدُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوِيًا، فَإِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ عَنْ ظَهْرِهِ أَوْ ظَهْرَهُ عَنْ رَأْسِهِ أَوْ جَافَى ظَهْرَهُ حَتَّى يَكُونَ كَالْمُحْدَوْدَبِ كَرِهْتُهُ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَأْخُذُهُمَا بِهِمَا، وَيُفَرِّقُ أَصَابِعَهُ حِينَئِذٍ وَيُوَجِّهُهَا نَحْوَ الْقِبْلَةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي "التَّبْصِرَةِ": وَيُوَجِّهُهَا نَحْوَ الْقِبْلَةِ غَيْرَ مُنْحَرِفَةِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِحْبَابِ تَفْرِيقِهَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْمُخْتَصَرِ" وَغَيْرِهِ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ. وَأَمَّا قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ فِي "الْوَسِيطِ": يَتْرُكُهَا عَلَى حَالِهَا فَشَاذٌّ مَرْدُودٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَأَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً أَوْ عَلِيلَةً فَعَلَ بِالْأُخْرَى مَا ذَكَرْنَا وَفَعَلَ بِالْعَلِيلَةِ الْمُمْكِنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَرْسَلَهُمَا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ مِنْ الزَّنْدَيْنِ لَمْ يَبْلُغْ بِزَنْدَيْهِ رُكْبَتَيْهِ، وَفِي الرَّفْعِ يَرْفَعُ زَنْدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَالْفَرْقُ: أَنَّ فِي تَبْلِيغِهِمَا إلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ مُفَارَقَةً لِهَيْئَتِهِ مِنْ اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ بِخِلَافِ الرَّفْعِ، وَلَوْ لَمْ يَضَعْ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَلَكِنْ بَلَغَ ذَلِكَ الْقَدْرَ أَجْزَأَهُ وَيُكْرَهُ تَطْبِيقُ الْيَدَيْنِ بَيْنَ الرُّكْبَتَيْنِ لِحَدِيثِ سَعْدٍ رضي الله عنه فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالنَّهْيِ، وَيُسَنُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيُسَنُّ لِلْمَرْأَةِ ضَمُّ بَعْضِهَا، إلَى بَعْضٍ وَتَرْكُ الْمُجَافَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَ هَذَا كُلِّهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، وَأَمَّا الْخُنْثَى فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالْمَرْأَةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ ضَمُّ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ. وَقَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ": قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفُتُوحِ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُجَافَاةُ وَلَا الضَّمُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخِرِ1، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": أُحِبُّ لِلْمَرْأَةِ فِي السُّجُودِ أَنْ تَضُمَّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَتُلْصِقَ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ لَهَا، قَالَ: وَهَكَذَا أُحِبُّ لَهَا فِي الرُّكُوعِ وَجَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي اسْتِحْبَابِ ضَمِّ الْمَرْأَةِ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ كَوْنُهُ أَسْتَرَ لَهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بَابًا ذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ ضَعَّفَهَا كُلَّهَا، وَأَقْرَبُ مَا فِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ فِي "سُنَنِ" أَبِي دَاوُد. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ مُجَافَاةِ الرَّجُلِ، مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَنَّهَا أَكْمَلُ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَصُورَتِهَا، وَلَا أَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِهَا خِلَافًا لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ اسْتِحْبَابَهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مُطْلَقًا، وَقَدْ ذَكَرْتُ حُكْمَ تَفْرِيقِ الْأَصَابِعِ وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي يُضَمُّ فِيهَا أَوْ يُفَرَّقُ فِي فَصْلِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبُ "التَّتِمَّةِ": لَوْ رَكَعَ وَلَمْ يَضَعْ يَدَيْهِ عَلَى


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخنثى هو الجنس الثالث وهو إنسان تتصارع فيه غدد الذكورة مع غدد الأنوثة بأمر الله تعالى وفي غلبة غدد الذكورة بروز المذاكير ونموها وإنبات الشعر للحية والشاربين وفي غلبة الأخرى ضمور المذاكير وتجرد الوجه من اللحية والشاربين ومنو الأرداف وبروز الثديين فإذا كان كذلك فالحكم يتبع مظاهر غلبة أحد القسمين على الآخر والله أعلم (ط).

 

ج / 3 ص -265-       رُكْبَتَيْهِ وَرَفَعَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ انْحَنَى قَدْرًا تَصِلُ بِهِ رَاحَتَاهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ أَمْ لَا؟ لَزِمَهُ إعَادَةُ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّ الرُّكُوعِ.
مَذْهَبُنَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ تَنَالُ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ، وَلَا يَجِبُ وَضْعُهُمَا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَتَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكْفِيهِ فِي الرُّكُوعِ أَدْنَى انْحِنَاءٍ، وَلَا يَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَالِانْخِفَاضُ وَالِانْحِنَاءُ قَدْ أَتَى بِهِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لِبَيَانِ أَقَلِّ الْوَاجِبَاتِ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ ، قُلْنَا: هَذَا غَلَطٌ وَغَفْلَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي آخِرِ مَرَّةٍ: "ارْجِعْ فَصَلِّ ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" فَقَالَ لَهُ: عَلِّمْنِي فَعَلَّمَهُ، وَقَدْ سَبَقَ أَمْرُهُ لَهُ بِالْإِعَادَةِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى تَكْرَارِهِ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه
"رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَقَالَ: مَا صَلَّيْتَ وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ حَدِيثُهُ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم "لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد. وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ "لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَالصُّلْبُ الظَّهْرُ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَجَوَابُهُ: أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ الْمُرَادَ بِهَا فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ.

فرع: فِي الرُّكُوعِ
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّطْبِيقِ فِي الرُّكُوعِ إلَّا عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: التَّطْبِيقُ سُنَّةٌ، وَيُخْبِرُ أَنَّهُ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ ، ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ سَعْدٍ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي النَّسْخِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ ، وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ:
"قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إنَّ الرُّكَبَ قَدْ سُنَّتْ لَكُمْ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالنَّسَائِيُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَى

 

ج / 3 ص -266-       الْكَمَالِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ" وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُضِيفَ: "اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ ، وَلَكَ خَشَعْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَعَظْمِي وَمُخِّي وَعَصَبِي" لِمَا رَوَى عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا رَكَعَ قَالَ ذَلِكَ" فَإِنْ تَرَكَ التَّسْبِيحَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِمَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ "ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا" وَلَمْ يَذْكُرْ التَّسْبِيحَ.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ عَوْنًا لَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتًا، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، أَيْ أَدْنَى مَا يُنْسَبُ إلَى كَمَالِ الْفَرْضِ وَالِاخْتِيَارِ مَعًا، لَا كَمَالِ الْفَرْضِ وَحْدَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنَّمَا قَالَ: إنْ كَانَ ثَابِتًا؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِيهِ مُغَايَرَةٌ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَدِيثُ
"الْمُسِيءُ صَلَاتَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْمُخْتَصَرِ": يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا. وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ، وَقَالَ فِي "الْأُمِّ": أُحِبُّ أَنْ يَبْدَأَ الرَّاكِعُ فَيَقُولَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَيَقُولَ مَا حَكَيْتُهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي حَدِيثَ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ أَصْحَابُنَا: "يُسْتَحَبُّ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ، وَيَحْصُلُ أَصْلُ السُّبْحَةِ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَ الله أَوْ سُبْحَانَ رَبِّي وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَهَذَا أَدْنَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ". قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ، لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَبَّحَ مَرَّةً وَاحِدَةً كَانَ آتِيًا بِسُنَّةِ التَّسْبِيحِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أَوَّلَ الْكَمَالِ الثَّلَاثُ، قَالَ: وَلَوْ سَبَّحَ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا أَوْ إحْدَى عَشْرَةَ كَانَ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ، لَكِنَّهُ إذَا كَانَ إمَامًا يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثٍ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": أَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثٌ، وَأَعْلَى الْكَمَالِ إحْدَى عَشْرَةَ أَوْ تِسْعٌ، وَأَوْسَطُهُ خَمْسٌ، وَلَوْ سَبَّحَ مَرَّةً حَصَلَ التَّسْبِيحُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ قَوْلِهِ: "وَبِحَمْدِهِ" الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ "الشَّامِلِ" و "الْغَزَالِيُّ"، وَآخَرُونَ، وَيُنْكَرُ عَلَى الرَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يُضِيفُ إلَيْهِ وَبِحَمْدِهِ، فَأَوْهَمَ أَنَّهُ وَجْهٌ شَاذٌّ مَعَ أَنَّهُ مَشْهُورٌ لِهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ إلَى آخِرِ مَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهَذَا أَتَمُّ الْكَمَالِ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّسْبِيحِ أَوَّلًا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْأُمِّ" الَّذِي قَدَّمْتُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِ الذِّكْرَيْنِ فَالتَّسْبِيحُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فِي الْأَحَادِيثِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَآخَرُونَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: "وَالْإِتْيَانُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتَ إلَى آخِرِهِ مَعَ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ أَفْضَلُ مِنْ حَذْفِهِ وَزِيَادَةِ التَّسْبِيحِ ثَلَاثًا ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَاضِحٌ لَا يَجِيءُ فِيهِ خِلَافٌ".

 

ج / 3 ص -267-       قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ تُسْتَحَبُّ لِلْمُنْفَرِدِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ، وَقِيلَ خَمْسٍ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَأْمُومُونَ بِالتَّطْوِيلِ وَيَكُونُوا مَحْصُورِينَ لَا يَزِيدُونَ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": أُحِبُّ أَنْ يَبْدَأَ الرَّاكِعُ فَيَقُولَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَيَقُولُ مَا حَكَيْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُهُ، يَعْنِي حَدِيثَ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: وَكُلُّ مَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَحْبَبْتُ أَنْ لَا يُقَصِّرَ عَنْهُ إمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا، وَهُوَ تَخْفِيفٌ لَا تَثْقِيلٌ، هَذَا لَفْظُ نَصِّهِ، وَظَاهِرُهُ: اسْتِحْبَابُ الْجَمِيعِ لِلْإِمَامِ، لَكِنَّ الْأَقْوَى مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فَيُتَأَوَّلُ نَصُّهُ عَلَى مَا إذَا رَضِيَ الْمَأْمُومُونَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي بَيَانِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَذْكَارِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ1:
"كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسُبُّوحٌ قُدُّوسٌ بِضَمِّ أَوَّلِهَا وَفَتْحِهِ لُغَتَانِ ، وَعَنْهَا "قَالَتْ افْتَقَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَتَحَسَّسْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ وَسَاجِدٌ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ2 وَبِحَمْدِكَ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ:
"صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْت: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، وَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه "عَنْ رَسُولِ الله: صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي إلَى آخِرِهِ. وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي. وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ [وَمِلْءَ] الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" رَوَاهُ3 مُسْلِمٌ.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواية مسلم هذه عن زبير بن حرب عن جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك ربنا اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي - يتأول القرآن"
2 في مسلم بإسناده إلى ابن جرير قال: قلت لعطاء: كيف تقول أنت في الركوع؟ قال: أما سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت فأخبرني ابن أبي مليكه عن عائشة قالت: افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه فتحسست ثم رجعت فإذا هو راكع أو ساجد يقول: سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت فقلت بأبي وأمي إني في شأن وإنك لفي آخر ا هـ (ط).
3 في مسلم من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي وعند أبي داود من طريق الحسين بن علي وعند الترمذي من =

 

ج / 3 ص -268-       وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، زَادَ أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، قَالَ: "فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا رَكَعَ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثًا، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثًا" قَالَ أَبُو دَاوُد: وَنَخَافُ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَحْفُوظَةً، وَفِي رُوَاتِهَا مَجْهُولٌ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثًا، وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثًا" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "قُمْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَامَ يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِآلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً سُورَةً" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ سَتَأْتِي بَقِيَّةٌ مِنْهَا فِي السُّجُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ حَالَةِ الْقِيَامِ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ1 لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ:
"نَهَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله: صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَإِنْ قَرَأَ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَيْضًا لَمْ تَبْطُلْ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ ، وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَصَاحِبُ "الْحَاوِي": أَنَّهُ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ رُكْنًا إلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ، كَمَا لَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَسَتَأْتِي فُرُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَنَبْسُطُهَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: فِي التَّسْبِيحِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَقَوْلُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، وَالتَّكْبِيرَاتُ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كُلُّ ذَلِكَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَأْثَمْ وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ، سَوَاءٌ أَتَرَكَهُ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا ، لَكِنْ يُكْرَهُ تَرْكُهُ عَمْدًا هَذَا مَذْهَبُنَا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= طريق عبد الله بن معاذ وعند النسائي من طريق عمرو بن علي وعند ابن ماجه من طريقي علي بن عمر وعباس العنبري (ط).
1 كذا بالأصل وفيه سقط لعله مكروهة أو نحوه فليحرر وكلام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" (1/96): ولا أحب لأحد أن يقرأ راكعاً أو ساجداً لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها موضع ذكر غير القراءة وكذلك لا أحب لأحد أن يقرأ في موضع التشهد قياساً على هذا (ط).

 

ج / 3 ص -269-       وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: التَّسْبِيحُ وَاجِبٌ إنْ تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ نَسِيَهُ لَمْ تَبْطُلْ، وَقَالَ دَاوُد: وَاجِبٌ مُطْلَقًا، وَأَشَارَ الْخَطَّابِيُّ فِي "مَعَالِمِ السُّنَنِ" إلَى اخْتِيَارِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَوْلُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَرَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَالذِّكْرُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَجَمِيعُ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ نَسِيَ لَمْ تَبْطُلْ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ عَنْهُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ سُنَّةٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمَذْكُورِ فِي فَرْعِ أَذْكَارِ الرُّكُوعِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ. وَقَالَ: صلى الله عليه وسلم
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْقِرَاءَةِ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُعَلِّمْهُ هَذِهِ الْأَذْكَارَ، مَعَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَالْقِرَاءَةَ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَذْكَارُ وَاجِبَةً لَعَلَّمَهُ إيَّاهَا، بَلْ هَذِهِ أَوْلَى بِالتَّعْلِيمِ، لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّهَا تُقَالُ سِرًّا وَتُخْفَى، فَإِذَا كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مَعَ ظُهُورِهِمَا لَا يُعَلِّمُهَا فَهَذِهِ أَوْلَى، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِهَذِهِ الْأَذْكَارِ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْأَفْعَالَ فِي الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُعْتَادٌ لِلنَّاسِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ، وَهَذَا لَا تَتَمَيَّزُ الْعِبَادَةُ فِيهِ عَنْ الْعَادَةِ فَوَجَبَ فِيهِ الذِّكْرُ لِيَتَمَيَّزَ.
وَالثَّانِي: غَيْرُ مُعْتَادٍ ، وَهُوَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، فَهُوَ خُضُوعٌ فِي نَفْسِهِ مُتَمَيِّزٌ لِصُورَتِهِ عَنْ أَفْعَالِ الْعَادَةِ فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى مُمَيَّزٍ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: التَّسْبِيحُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ التَّنْزِيهُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ الْمَعَانِي عَلَى أَنَّ مَعْنَى تَسْبِيحِ الله تَعَالَى تَنْزِيهُهُ وَتَبْرِئَتُهُ مِنْ السُّوءِ، قَالَ: وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ التَّبْعِيدُ مِنْ قَوْلِكَ: سَبَحْتُ فِي الْأَرْضِ إذَا بَعُدْتَ فِيهَا، وَسُبْحَانَ الله مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَالْفَرَّاءِ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: سُبْحَانًا وَتَسْبِيحًا فَجُعِلَ السُّبْحَانُ مَوْضِعَ التَّسْبِيحِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: سَبَّحْتُ اللَّهَ سُبْحَانًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْمَصْدَرُ التَّسْبِيحُ، وَسُبْحَانَ اسْمٌ يَقُومُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَبِحَمْدِهِ سَبَّحْتُهُ فَحَذَفَ سَبَّحْتُهُ اخْتِصَارًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَبِحَمْدِهِ حَالًا أَيْ حَامِدًا سَبَّحْتُهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَبِحَمْدِهِ أَبْتَدِئُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ: أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الرُّكُوعِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فِي الرَّفْعِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ قَالَ: مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ اللَّهُ لَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُولَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ حَقٌّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، كُلُّنَا لَك عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ ذَلِكَ" وَيَجِبُ أَنْ يَطْمَئِنَّ قَائِمًا، لِمَا رَوَى

 

ج / 3 ص -270-       رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلْيَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنْ قَالَ - ثُمَّ لِيَرْكَعْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ لِيَقُمْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ قَائِمًا، ثُمَّ لِيَسْجُدْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ سَاجِدًا".
الشرح:
أَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: "أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ" بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي أَحَقَّ وَوَاوٍ فِي "وَكُلُّنَا" هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسَائِرُ الْمُحَدِّثِينَ، وَوَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ وَكُتُبِ الْفِقْهِ "حَقٌّ مَا قَالَ الْعَبْدُ كُلُّنَا" بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَالْوَاوِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُنْتَظِمَ الْمَعْنَى لَكِنَّ الصَّوَابَ مَا ثَبَتَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رحمه الله: مَعْنَاهُ "أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ" قَوْلُهُ: "لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ" إلَى آخِرِهِ، وَقَوْلُهُ: "وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ"، فَاعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، قَالَ أَبُو دَاوُد: أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: "أَحَقُّ مَا قَالَ" خَبَرًا لِمَا قَبْلَهُ أَيْ قَوْلُهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ إلَى آخِرِهِ "أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ"، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهَذَا الَّذِي رَجَّحَهُ هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ لِمَا فِيهِ مِنْ كَمَالِ التَّفْوِيضِ إلَى الله تَعَالَى وَالِاعْتِرَافِ بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَقَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَتَدْبِيرِ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ رِفَاعَةَ صَحِيحٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِطُولِهِ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ، لَكِنْ وَمَعَ هُنَا "حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا" وَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ "حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا".
أَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. احْتِرَازٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي التَّكْبِيرِ أَكْبَرُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" أَيْ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ حَمْدَهُ وَجَازَاهُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: "مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ" هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ نَصْبُ آخِرِهِ وَرَفْعُهُ مِمَّنْ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ابْنُ خَالَوَيْهِ وَآخَرُونَ، وَحُكِيَ عَنْ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الرَّفْعُ، وَرَجَّحَ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَالْأَكْثَرُونَ النَّصْبَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ مَالِئًا، وَتَقْدِيرُهُ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَمَلَأ ذَلِكَ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي "تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ"، وَذَكَرْتُ قَوْلَ الزَّجَّاجِ وَابْنِ خَالَوَيْهِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَوْلُهُ: "أَهْلَ" مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ، وَقِيلَ وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْتَ أَهْلٌ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَالثَّنَاءُ: الْمَجْدُ، وَالْمَجْدُ: الْعَظَمَةُ، وَقَوْلُهُ: "لَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ" هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ بِكَسْرِهَا وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَالْجَدُّ: الْحَظُّ وَالْمَعْنَى لَا يَنْفَعُ ذَا الْمَالِ وَالْحَظِّ وَالْغِنَى غِنَاهُ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ عِقَابِكَ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ عِقَابِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ يَكُونُ مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ ذَا الْإِسْرَاعِ فِي الْهَرَبِ إسْرَاعُهُ وَهَرَبُهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي "تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ": وَقَوْلُهُ: رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ كَذَا هُوَ فِي "الْمُهَذَّبِ"، وَاَلَّذِي فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَلْ هَذَا فِي فَصْلِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ.
أَمَّا حُكْمُ الْفَصْلِ: فَالِاعْتِدَالُ مِنْ الرُّكُوعِ فَرْضٌ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، لَا تَصِحُّ إلَّا بِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَقَدْ يُتَعَجَّبُ مِنْ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ كَأَنَّهُ تَرَكَهُ لِاسْتِغْنَائِهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَيَجِبُ أَنْ يَطْمَئِنَّ قَائِمًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالِاعْتِدَالُ الْوَاجِبُ هُوَ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ رُكُوعِهِ إلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ، سَوَاءٌ أَصَلَّى قَائِمًا أَمْ قَاعِدًا ، فَلَوْ رَكَعَ عَنْ قِيَامٍ فَسَقَطَ

 

ج / 3 ص -271-       فِي رُكُوعِهِ نَظَرَ إنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ مِنْ رُكُوعِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى الرُّكُوعِ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَعْتَدِلَ مِنْهُ، وَإِنْ اطْمَأَنَّ لَزِمَهُ أَنْ يَنْتَصِبَ قَائِمًا فَيَعْتَدِلَ ثُمَّ يَسْجُدَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَى الرُّكُوعِ فَإِنْ عَادَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ رُكُوعًا، وَلَوْ رَفَعَ الرَّاكِعُ رَأْسَهُ ثُمَّ سَجَدَ وَشَكَّ هَلَّ تَمَّ اعْتِدَالُهُ؟ لَزِمَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى الِاعْتِدَالِ ثُمَّ يَسْجُدَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاعْتِدَالِ. وَيَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِارْتِفَاعِهِ مِنْ الرُّكُوعِ شَيْئًا غَيْرَ الِاعْتِدَالِ، فَلَوْ رَأَى فِي رُكُوعِهِ حَيَّةً وَنَحْوَهَا فَرَفَعَ فَزَعًا مِنْهَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطَوِّلَ الِاعْتِدَالَ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ لِأَذْكَارِهِ، فَإِنْ طَوَّلَ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَتَى بِالرُّكُوعِ الْوَاجِبِ فَعَرَضَتْ عِلَّةٌ مَنَعَتْهُ مِنْ الِانْتِصَابِ سَجَدَ مِنْ رُكُوعِهِ، وَسَقَطَ عَنْهُ الِاعْتِدَالُ لِتَعَذُّرِهِ، فَلَوْ زَالَتْ الْعِلَّةُ قَبْلَ بُلُوغِ جَبْهَتِهِ مِنْ الْأَرْضِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ وَيَنْتَصِبَ قَائِمًا وَيَعْتَدِلَ ثُمَّ يَسْجُدَ، وَإِنْ زَالَتْ بَعْدَ وَضْعِ جَبْهَتِهِ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الِاعْتِدَالِ بَلْ سَقَطَ عَنْهُ، فَإِنْ خَالَفَ وَعَادَ إلَيْهِ قَبْلَ تَمَامِ سُجُودِهِ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ، وَيَعُودُ إلَى السُّجُودِ، وَتَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الِاعْتِدَالِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي قَلْبِي مِنْ إيجَابِهَا شَيْءٌ، وَسَبَبُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ "حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا" وَقَالَ فِي بَاقِي الْأَرْكَانِ: حَتَّى تَطْمَئِنَّ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطْمَئِنُّ، وَقَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَاجِبِ الِاعْتِدَالِ وَأَمَّا أَكْمَلُهُ وَمَنْدُوبَاتُهُ، فَمِنْهَا أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي صِفَةِ الرَّفْعِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ رَفْعِهِمَا مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّفْعِ، وَدَلِيلُ الرَّفْعِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّا سَبَقَ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ بَيَانُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا اعْتَدَلَ قَائِمًا حَطَّ يَدَيْهِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ فِي حَالِ ارْتِفَاعِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَالْأَصْحَابُ: فَإِنْ قَالَ: "مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ" أَجْزَأَهُ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي التَّكْبِيرَةِ أَكْبَرُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ يُحِيلُ مَعْنَاهُ بِالتَّنْكِيسِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لَكِنَّ قَوْلَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ، فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُولَ: "رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدُ: لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ".
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: "يَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْأَذْكَارِ كُلِّهَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ، فَيَجْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيْنَ قَوْلِهِ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ وَرَبَّنَا لَك الْحَمْدُ إلَى آخِرِهِ" وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، لَكِنْ قَالَ الْأَصْحَابُ: إنَّمَا يَأْتِي الْإِمَامُ بِهَذَا كُلِّهِ إذَا رَضِيَ الْمَأْمُومُونَ بِالتَّطْوِيلِ وَكَانُوا مَحْصُورِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الَّذِي فِي رِوَايَةِ الْمُحَدِّثِينَ "أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ" وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ الْفِقْهِ "حَقٌّ مَا قَالَ الْعَبْدُ كُلُّنَا" بِخِلَافِ الْأَلِفِ وَالْوَاوِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحُ الْمَعْنَى، لَكِنَّ الْمُخْتَارَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ،

 

ج / 3 ص -272-       وَهُوَ إثْبَاتُ الْأَلِفِ وَالْوَاوِ. وَثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ "رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ" وَفِي رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" بِالْوَاوِ. وَفِي رِوَايَاتٍ "اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" وَفِي رِوَايَاتٍ "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ"، وَكُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: كُلُّهُ جَائِزٌ. فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو عَنْ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" فَقَالَ: هِيَ زَائِدَةٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: يَعْنِي هَذَا الثَّوْبُ: فَيَقُولُ الْمُخَاطَبُ: نَعَمْ وَهُوَ لَك بِدِرْهَمٍ، فَالْوَاوُ زَائِدَةٌ "قُلْتُ": وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: رَبَّنَا أَطَعْنَاك وَحَمَدْنَاكَ وَلَكَ الْحَمْدُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: "وَلَوْ قَالَ: وَلَكَ الْحَمْدُ رَبَّنَا" أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ سَبَقَ الْآنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "أَكْبَرُ اللَّهُ" قَالُوا: وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ قَوْلُهُ: "رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ" عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السَّنَةُ.
قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي" وَغَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِقَوْلِهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لِيَسْمَعَ الْمَأْمُومُونَ وَيَعْلَمُوا انْتِقَالَهُ، كَمَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَيُسِرُّ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ فِي الِاعْتِدَالِ فَأَسَرَّ بِهِ كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيُسِرُّ بِهِمَا كَمَا يُسِرُّ بِالتَّكْبِيرِ، وَإِذَا أَرَادَ تَبْلِيغَ غَيْرِهِ انْتِقَالَ الْإِمَامِ كَمَا يُبَلَّغُ التَّكْبِيرُ جَهَرَ بِقَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمَشْرُوعُ فِي حَالِ الِارْتِفَاعِ وَلَا يَجْهَرُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُشْرَعُ فِي حَالِ الِاعْتِدَالِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرَ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ" فِي اشْتِرَاطِ الِاعْتِدَالِ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَلَ هَلْ يَصِحُّ مُضْطَجِعًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ؟ قَالَ: وَوَجْهُ السُّنَّةِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِيمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إكْمَالِ الْأَرْكَانِ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الِاعْتِدَالِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا: أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ، وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ، بَلْ لَوْ انْحَطَّ مِنْ الرُّكُوعِ إلَى السُّجُودِ أَجْزَأَهُ. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَا تُعَارِضُهُ، وَبِقَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي".

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يُقَالُ فِي الِاعْتِدَالِ
قَدْ ذَكَرنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا: أَنَّهُ يَقُولُ فِي حَالِ ارْتِفَاعِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ إلَى آخِرِهِ ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو بُرْدَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَطْ، وَالْمَأْمُومُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَقَطْ. حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ: "يَجْمَعُ الْإِمَامُ الذِّكْرَيْنِ وَيَقْتَصِرُ الْمَأْمُومُ عَلَى رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ"، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي

 

ج / 3 ص -273-       مُوسَى.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ سَبَقَ بِطُولِهِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَمِثْلُهُ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي أَوْفَى وَغَيْرِهِ. وَثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" فَيَقْتَضِي هَذَا مَعَ مَا قَبْلَهُ أَنَّ كُلَّ مُصَلٍّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ فَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنْ الذِّكْرِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِالذِّكْرَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالِاعْتِدَالِ، بَقِيَ أَحَدُ الْحَالَيْنِ خَالِيًا عَنْ الذِّكْرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم
"وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ" فَقَالَ أَصْحَابُنَا: فَمَعْنَاهُ قُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مَعَ مَا قَدْ عَلِمْتُمُوهُ مِنْ قَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ جَهْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهِ الْجَهْرُ، وَلَا يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ سِرًّا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ قَوْلَهُ: صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" مَعَ قَاعِدَةِ التَّأَسِّي بِهِ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا، وَكَانُوا يُوَافِقُونَ فِي سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْأَمْرِ بِهِ، وَلَا يَعْرِفُونَ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَأُمِرُوا بِهِ، وَالله أَعْلَمُ.
فرع: ثَبَتَ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ:
"كُنَّا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ، قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنْ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَذْكَارِ فَيَقُولُ فِي ارْتِفَاعِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَإِذَا انْتَصَبَ قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ إلَى قَوْلِهِ: مِنْكَ الْجَدُّ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَسْجُدُ وَهُوَ فَرْضٌ لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْتَدِئَ عِنْدَ الْهُوِيِّ إلَى السُّجُودِ بِالتَّكْبِيرَاتِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه فِي الرُّكُوعِ.
الشرح: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ السُّجُودِ التَّطَامُنُ وَالْمَيْلُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُهُ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَكُلُّ مَنْ تَذَلَّلَ وَخَضَعَ فَقَدْ سَجَدَ، وَسُجُودُ كُلِّ مَوَاتٍ فِي الْقُرْآنِ طَاعَتُهُ لِمَا سَجَدَ لَهُ، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، وَقِيلَ لِمَنْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ فِي الْأَرْضِ سَجَدَ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ الْخُضُوعِ. وَالسُّجُودُ فَرْضٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّكْبِيرُ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ، وَأَنَّ أَحْمَدَ أَوْجَبَ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ لَا يَشْرَعُ، وَذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُسْتَحَبُّ مَدُّ التَّكْبِيرِ مِنْ حِينِ يَشْرَعُ فِي الْهُوِيِّ حَتَّى يَضَعَ

 

ج / 3 ص -274-       جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَمُدَّهُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ، لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجُرٍ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ"، فَإِنَّ وَضْعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ أَجْزَأُ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ هَيْئَةً.
الشرح:
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ فِي السُّجُودِ الرُّكْبَتَيْنِ ثُمَّ الْيَدَيْنِ، ثُمَّ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ: وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَاهُ أَيْضًا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَالنَّخَعِيُّ وَمُسْلِمُ بْنُ بَشَّارٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ: يُقَدِّمُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقَدِّمُ أَيُّهُمَا شَاءَ وَلَا تَرْجِيحَ.
وَاحْتُجَّ لِمَنْ قَالَ بِتَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ بِأَحَادِيثَ، وَلِمَنْ قَالَ بِعَكْسِهِ بِأَحَادِيثَ، وَلَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ حَيْثُ السُّنَّةُ، وَلَكِنْ أَذْكُرُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَمَا قِيلَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ رضي الله عنه قَالَ:
"رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ، وَهُوَ أَرْفَقُ بِالْمُصَلِّي وَأَحْسَنُ فِي الشَّكْلِ وَرَأْيِ الْعَيْنِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُد: وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ تَفَرَّدَ بِهِ شَرِيكٌ الْقَاضِي عَنْ ابْنِ كُلَيْبٍ، وَشَرِيكٌ لَيْسَ هُوَ مُنْفَرِدًا بِهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ يُعَدُّ مِنْ أَفْرَادِ شَرِيكٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَزَادَ أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَإِذَا نَهَضَ نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخِذِهِ" وَهِيَ زِيَادَةٌ ضَعِيفَةٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ، وَقِيلَ: وُلِدَ بَعْدَهُ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:
"رَأَيْت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي السُّجُودِ: "سَبَقَتْ رُكْبَتَاهُ يَدَيْهِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَشَارَ إلَى تَضْعِيفِهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ1" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَلَا يَبْرُكُ بُرُوكَ الْجَمَلِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الله بْنِ سَعِيدٍ: ضَعِيفٌ.
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ:
"كُنَّا نَضَعُ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ" رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي رجحه ابن القيم من مجتهدي الحنابلة في كتابه "زاد المعاد" وهو كتاب في "فقه السيرة" أن هذا الحديث فيه قلب وأن أصله: "وليضع ركبتيه قبل يديه" للجمع بين الروايات وكثرة العاملين بتقديم الركبتين والله أعلم (ط).

 

ج / 3 ص -275-       فِي "صَحِيحِهِ"، وَادَّعَى أَنَّهُ نَاسِخٌ لِتَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ، وَكَذَا اعْتَمَدَهُ أَصْحَابُنَا، وَلَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ ظَاهِرُ التَّضْعِيفِ بَيِّنٌ، الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ضَعَّفَهُ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ1 بْنِ كُهَيْلٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي حَدِيثِهِ مَنَاكِيرُ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": أُحِبُّ أَنْ يَبْتَدِئَ التَّكْبِيرَ قَائِمًا وَيَنْحَطَّ وَكَأَنَّهُ سَاجِدٌ، ثُمَّ إنَّهُ يَكُونُ أَوَّلَ مَا يَضَعُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهُ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ وَجْهَهُ، فَإِنْ وَضَعَ وَجْهَهُ قَبْلَ يَدَيْهِ أَوْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ كَرِهْتُهُ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ قَالَ: وَإِنْ أَخَّرَ التَّكْبِيرَ عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي: عَنْ الِانْحِطَاطِ وَكَبَّرَ مُعْتَدِلًا أَوْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ كَرِهْتُ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ": وَالْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ يُقَدِّمُ أَيُّهُمَا شَاءَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَسْجُدُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ فَوَاجِبٌ لِمَا رَوَى عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ: رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا تَنْقُرْهُ نَقْرًا" قَالَ فِي "الْأُمِّ": فَإِنْ وَضَعَ بَعْضَ الْجَبْهَةِ كَرِهْتُهُ وَأَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ عَلَى الْجَبْهَةِ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى حَائِلٍ [مُتَّصِلٍ بِهِ] دُونَ الْجَبْهَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ، , لِمَا رَوَى خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: "شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يَشْكُنَا". وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ فَهُوَ سُنَّةٌ لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "سَجَدَ وَأَمْكَنَ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ مِنْ الْأَرْضِ" فَإِنْ تَرَكَهُ أَجْزَأَهُ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَجَدَ بِأَعْلَى جَبْهَتِهِ عَلَى قِصَاصِ الشَّعْرِ" وَإِذَا سَجَدَ بِأَعْلَى جَبْهَتِهِ لَمْ يَسْجُدْ عَلَى الْأَنْفِ.
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ غَرِيبَانِ ضَعِيفَانِ، وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيثَ عُمَرَ وَجَابِرٍ بِلَفْظِهِ هُنَا، لَكِنَّهُ ضَعَّفَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ خَبَّابٍ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِهِ هُنَا وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، فَرَوَاهُ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: "أَتَيْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَشَكَوْنَا إلَيْهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يَشْكُنَا" قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ: أَفِي الظُّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: فِي تَعْجِيلِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَقَالَ: فَمَا أَشْكَانَا، وَقَالَ: "إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلُّوا" وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَصْحَابِنَا فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِوُجُوبِ كَشْفِ الْجَبْهَةِ، وَقَالَ: هَذَا وَرَدَ فِي الْأَبْرَادِ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُمْ شَكَوْا حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْكَشْفُ غَيْرَ وَاجِبٍ لَقِيلَ لَهُمْ: اُسْتُرُوهَا، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَشْفِهَا. وَقَوْلُهُ: فَلَمْ يَشْكُنَا وَلَمْ يُجِبْنَا إلَى مَا طَلَبْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا، وَثَبَتَتْ السُّنَّةُ بِالْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ فَرَوَاهُ أَبُو دؤاد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ ثَبَتَ السُّجُودُ عَلَى


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان في ش. و. ق. مسلمة وهو خطأ وهو يروي عن أبيه سلمة بن كهيل وعنه ابنه إسماعيل ضعفه ابن معين وقال أبو حاتم منكر الحديث ليس بالقوي، وقال النسائي. وليس بثقة، وأما أبوه سلمة فقد وثقه أحمد والعجلي وزاد: فيه تشيع وأما ابنه إسماعيل فقد قال الدارقطني: متروك (ط).

 

ج / 3 ص -276-       الْأَنْفِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ. وَقَوْلُهُ: قِصَاصُ الشَّعْرِ هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ، حَكَاهُنَّ ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَصْلٌ منبته مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ فَكُنْيَتُهُ: أَبُو عَبْدِ الله شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَالسَّابِقِينَ إلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَتُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَالسُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهَا كُلِّهَا، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهَا أَجْزَأَهُ ، مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ"، وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَالدَّارِمِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ وَضْعُ جَمِيعِهَا، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَلَوْ سَجَدَ عَلَى الْجَبِينِ وَهُوَ الَّذِي فِي جَانِبِ الْجَبْهَةِ أَوْ عَلَى خَدِّهِ أَوْ صُدْغِهِ أَوْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ أَوْ عَلَى أَنْفِهِ وَلَمْ يَضَعْ شَيْئًا مِنْ جَبْهَتِهِ عَلَى الْأَرْضِ، لَمْ يُجْزِئْهُ بِلَا خِلَافٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ".
وَالصَّحِيحُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي وَضْعِ الْجَبْهَةِ الْإِمْسَاسُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَتَحَامَلَ عَلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ بِثِقَلِ رَأْسِهِ وَعُنُقِهِ حَتَّى تَسْتَقِرَّ جَبْهَتُهُ، فَلَوْ سَجَدَ عَلَى قُطْنٍ أَوْ حَشِيشٍ أَوْ شَيْءٍ مَحْشُوٍّ بِهِمَا وَجَبَ أَنْ يَتَحَامَلَ حَتَّى يَنْكَبِسَ وَيَظْهَرَ أَثَرُهُ عَلَى يَدٍ - لَوْ فُرِضَتْ تَحْتَ ذَلِكَ الْمَحْشُوِّ - فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: عِنْدِي أَنَّهُ يَكْفِي إرْخَاءُ رَأْسِهِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَامُلِ كَيْفَ فُرِضَ مَحَلُّ السُّجُودِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَصَاحِبُ "التَّتِمَّةِ" و "التَّهْذِيبِ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَجِبُ أَنْ يَكْشِفَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَيُبَاشِرَ بِهِ مَوْضِعَ السُّجُودِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُ، فَإِنْ حَالَ دُونَ الْجَبْهَةِ حَائِلٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فَإِنْ سَجَدَ عَلَى كَفِّهِ أَوْ كَوْرِ عِمَامَتِهِ أَوْ طَرَفِ كُمِّهِ أَوْ عِمَامَتِهِ وَهُمَا يَتَحَرَّكَانِ بِحَرَكَتِهِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ أَوْ غَيْرِهِمَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى ذَيْلِهِ أَوْ كُمِّهِ أَوْ طَرَفِ عِمَامَتِهِ وَهُوَ طَوِيلٌ جِدًّا لَا يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لِأَنَّ هَذَا الطَّرَفَ فِي مَعْنَى الْمُنْفَصِلِ، وَالثَّانِي: لَا تَصِحُّ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ"، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ الطَّرَفِ نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ طَهَارَةِ الْبَدَنِ.
أَمَّا إذَا سَجَدَ عَلَى ذَيْلِ غَيْرِهِ أَوْ طَرَفِ عِمَامَةِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقَعَ بَشَرَتُهُ عَلَى بَشَرَتِهَا، أَوْ ظَهْرِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ كَالْحِمَارِ وَالشَّاةِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ عَلَى ظَهْرِ كَلْبٍ عَلَيْهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ بِحَيْثُ لَمْ يُبَاشِرْ شَيْئًا مِنْ النَّجَاسَةِ فَيَصِحُّ سُجُودُهُ وَصَلَاتُهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ بِلَا خِلَافٍ إذَا وُجِدَتْ هَيْئَةُ السُّجُودِ. قَالَ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ": لَكِنَّهُ يُكْرَهُ عَلَى الظَّهْرِ. هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الْمُبَاشَرَةِ بِالْجَبْهَةِ عُذْرٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَى جَبْهَتِهِ جِرَاحَةٌ وَعَصَبَهَا بِعِصَابَةٍ وَسَجَدَ عَلَى الْعِصَابَةِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَتْ الْإِعَادَةُ مَعَ الْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ لِلْعُذْرِ فَهُنَا أَوْلَى. قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي" و "الْمُسْتَظْهَرَيْ": وَفِيهِ وَجْهٌ يَخْرُجُ مِنْ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ ،

 

ج / 3 ص -277-       وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ". قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي "التَّبْصِرَةِ": وَشَرْطُ جَوَازِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ فِي إزَالَةِ الْعِصَابَةِ، وَلَوْ عَصَبَ عَلَى جَبْهَتِهِ عِصَابَةً مَشْقُوقَةً لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرٍ حَاجَةٍ وَسَجَدَ وَمَاسَّ مَا بَيْنَ شِقَّيْهَا شَيْئًا مِنْ جَبْهَتِهِ الْأَرْضَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَكَذَا لَوْ سَجَدَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ ثَوْبٌ مُخَرَّقٌ فَمَسَّ مِنْ جَبْهَتِهِ الْأَرْضَ أَجْزَأَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ.
فرع: إذَا سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ أَوْ كُمِّهِ وَنَحْوِهِمَا فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سُجُودَهُ بَاطِلٌ، فَإِنْ تَعَمَّدَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَمْ تَبْطُلْ، لَكِنْ يَجِبُ إعَادَةُ السُّجُودِ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا، مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي "التَّبْصِرَةِ".
فرع: السُّنَّةُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى أَنْفِهِ مَعَ جَبْهَتِهِ. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَا يُقَدِّمُ أَحَدَهُمَا، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ شَيْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْجَبْهَةِ أَجْزَأَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": كَرِهْتُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ، وَهَذَا مِنْ الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى صَاحِبُ "الْبَيَانِ" عَنْ الشَّيْخِ أَبِي يَزِيدَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ حَكَى قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ: إنَّهُ يَجِبُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ جَمِيعًا، وَهَذَا غَرِيبٌ فِي الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا فِي الدَّلِيلِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ وَضْعِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ عَلَى الْأَرْضِ. أَمَّا الْجَبْهَةُ: فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِهَا وَأَنَّ الْأَنْفَ لَا يُجْزِي عَنْهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَنْفِ، وَلَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُحْفَظُ هَذَا عَنْ أَحَدٍ غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا الْأَنْفُ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ السُّجُودُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَإِسْحَاقُ: يَجِبُ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ. وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْجَبْهَةِ. وَاحْتُجَّ لِمَنْ أَوْجَبَهَا بِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا سَجَدَ أَمْكَنَ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ مِنْ الْأَرْضِ" وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ: الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي لَا يُصِيبُ أَنْفُهُ الْأَرْضَ فَقَالَ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُصِيبُ أَنْفُهُ مِنْ الْأَرْضِ مَا يُصِيبُ الْجَبِينُ".
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْجَبْهَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي حُمَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَبِحَدِيثِ خَبَّابٍ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسُّجُودِ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، وَلَا يَقُومُ الْأَنْفُ مَقَامَ الْجَبْهَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَنْفِ صَرِيحًا لَا بِفِعْلٍ وَلَا بِقَوْلٍ. وَاحْتَجُّوا: فِي أَنَّ الْأَنْفَ لَا يَجِبُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْجَبْهَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْأَنْفِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ رِوَايَاتِ الْأَنْفِ زِيَادَةٌ مِنْ ثِقَةٍ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْ أَحَادِيثِ

 

ج / 3 ص -278-       الْأَنْفِ بِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ ثُمَّ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُد ثُمَّ الدَّارَقُطْنِيّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْحُفَّاظِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَاهُ وَضَعَّفَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي السُّجُودِ عَلَى كُمِّهِ وَذَيْلِهِ وَيَدِهِ وَكَوْرِ عِمَامَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ سُجُودُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ دَاوُد وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ - فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يَصِحُّ، قَالَ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ": وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:
"كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَقَدْ "رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ وَهُوَ يَتَّقِي الطِّينَ إذَا سَجَدَ بِكِسَاءٍ عَلَيْهِ يَجْعَلُهُ دُونَ يَدَيْهِ" رَوَاهُ ابْنُ حَنْبَلٍ فِي "مُسْنَدِهِ". وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ وَيَسْجُدُ الرَّجُلُ عَلَى عِمَامَتِهِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَبِمَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ" وَقِيَاسًا عَلَى بَاقِي الْأَعْضَاءِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ خَبَّابٍ وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهِ، وَبِحَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ:
"إنَّهُ لَا يَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ - وَذَكَرَ صِفَةَ الصَّلَاةِ - إلَى أَنْ قَالَ: فَيُمَكِّنَ وَجْهَهُ وَرُبَّمَا قَالَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ - وَذَكَرَ تَمَامَ صِفَةِ الصَّلَاةِ - ثُمَّ قَالَ: لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ قَالَ: "فَيُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ" بِلَا شَكٍّ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ثَوْبٍ مُنْفَصِلٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فِي "مُسْنَدِ أَحْمَدَ" فَضَعِيفٌ فِي إسْنَادِهِ مَجْرُوحٌ1، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ لِسَتْرِ الْجَبْهَةِ، وَأَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَسْجُدُ عَلَى الْعِمَامَةِ مَعَ بَعْضِ الْجَبْهَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ مُبَاشَرَةُ الْجَبْهَةِ لِلْأَرْضِ فَلَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ إهْمَالُ هَذَا، وَأَمَّا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الحديث أخرجه بهذا اللفظ الذي في الفرع قبله أبو يعلى أيضا وكذا الطبراني في "الكبير" و "الأوسط" ورواه بمعناه ابن أبي شيبة بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الأرض وبردها". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رجال أحمد رجال الصحيح. قلت: وقد أبهم النووي رحمه الله المجروج ولم يعرفه فيصار إلى الاجتهاد مع التسليم بصحة الحديث وأما قول النووي عن البيهقي: أنه لم يصح في السجود على كور العمامة حديث فذلك لأنه روي عن جماعة من الصحابة عند أبي نعيم عن ابن عباس ضعف إسناده الحافظ ابن حجر وعن ابن أبي أوفى عند الطبراني وفيه قائد أو الورقاء وهو ضعيف وعن جابر عند ابن عدي وفيه عمرو بن شمر وجابر الجعفي وعند ابن أبي حاتم في "العلل" عن أنس وفيه حسان بن سيارة ورواه عبد الرزاق مرسلاً ا هـ ملخصاً من "نيل الأوطار" و "التلخيص الحبير" و "شرح مسلم" للنووي (ط).

 

ج / 3 ص -279-       الْمَرْوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ" فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَلَا يَثْبُتُ فِي هَذَا شَيْءٌ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى بَاقِي الْأَعْضَاءِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ وَضْعُهَا عَلَى قَوْلٍ، وَإِنْ وَجَبَ، فَفِي كَشْفِهَا مَشَقَّةٌ بِخِلَافِ الْجَبْهَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ الْإِيمَاءُ بِهَا إذَا عَجَزَ كَالْجَبْهَةِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "أَمَرَ أَنْ يُسْجَدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَجَبْهَتِهِ" فَإِذَا قُلْنَا: بِهَذَا لَمْ يَجِبْ كَشْفُ الْقَدَمَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الرُّكْبَةِ يُفْضِي إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَالْقَدَمُ قَدْ يَكُونُ فِي الْخُفِّ فَكَشْفُهَا يُبْطِلُ الْمَسْحَ وَالصَّلَاةَ، وَأَمَّا الْيَدُ فَفِيهَا قَوْلَانِ الْمَنْصُوصُ: فِي الْكُتُبِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُكْشَفُ إلَّا لِحَاجَةٍ فَهِيَ كَالْقَدَمِ، وَقَالَ فِي السَّبَقِ وَالرَّمْيِ: قَدْ قِيلَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ يَجِبُ لِحَدِيثِ خَبَّابٍ بْنِ الْأَرَتِّ رضي الله عنه.
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَقَوْلُهُ: قَالَ فِي السَّبَقِ وَالرَّمْيِ، يَعْنِي قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ، وَهُوَ كِتَابٌ مِنْ كُتُبِ "الْأُمِّ".
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَفِي وُجُوبِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي "الْأُمِّ"، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَنَصَّ فِي "الْإِمْلَاءِ": أَنَّ وَضْعَهَا مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي الْأَصَحِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: ظَاهِرُ حَدِيثِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَضْعُهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْبَغَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَشْهَرُ وَصَحَّحَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي "التَّحْرِيرِ" وَالرُّويَانِيُّ فِي "الْحِلْيَةِ" وَالرَّافِعِيُّ، وَصَحَّحَ جَمَاعَةٌ قَوْلَ الْوُجُوبِ، وَمِنْهُمْ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "التَّبْصِرَةِ"، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الدَّلِيلِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِوَضْعِهَا، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ، وَالْقَائِلُ الْأَوَّلُ يَحْمِلُ الْحَدِيثَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ لَهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْوُجُوبُ، فَلَا يُصْرَفُ عَنْهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَالْمُخْتَارُ الصَّحِيحُ: الْوُجُوبُ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْأُمِّ" إلَى تَرْجِيحِهِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ: فِي الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ قَوْلَانِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهَا، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: فِي وُجُوبِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ قَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ لَمْ يَجِبْ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَجِبُ الرُّكْبَتَانِ فَالْقَدَمَانِ أُولَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّ الْمَذْهَبَ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَمِيعِ، وَأَنَّ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ خَصَّهُمَا بِالْيَدَيْنِ، وَقَالَ: لَا تَجِبُ الرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ قَوْلَ ابْنِ الْقَاصِّ: إنَّ فِي الْجَمِيعِ قَوْلَيْنِ، ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا غَلَطٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ: أَنَّ وَضْعَ الرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافَ الْقَدَمَيْنِ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ، وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الْقَفَّالُ عَنْ الْأَصْحَابِ عَجِيبٌ غَرِيبٌ وَهُوَ غَلَطٌ بِلَا شَكٍّ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْأَعْضَاءِ السِّتَّةِ فِي "الْأُمِّ"، وَصَرَّحَ الْأَصْحَابُ

 

ج / 3 ص -280-       الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ بِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَمِيعِ، وَهَا أَنَا أَنْقُلُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله مِنْ الْأُمِّ بِحُرُوفِهِ.
قَالَ فِي "الْأُمِّ": "كَمَالُ السُّجُودِ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ وَرَاحَتِهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ وَأَجْزَأَهُ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى بَعْضِ جَبْهَتِهِ دُونَ جَمِيعِهَا كَرِهْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةٌ، قَالَ: وَأُحِبُّ أَنْ يُبَاشِرَ بِرَاحَتَيْهِ الْأَرْضَ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَلَا أُحِبُّ هَذَا فِي رُكْبَتَيْهِ، بَلْ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَا مُسْتَتِرَيْنِ بِالثِّيَابِ، وَأُحِبُّ إنْ لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ مُتَخَفِّفًا أَنْ يُفْضِيَ بِقَدَمَيْهِ إلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَسْجُدُ مُتَنَعِّلًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي هَذَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: لِمَنْ [يَكُونُ]1 عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِ الَّتِي أَمَرْتُهُ بِالسُّجُودِ عَلَيْهَا، [وَيَكُونُ حُكْمُهَا غَيْرَ حُكْمِ الْوَجْهِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهَا كُلِّهَا مُتَغَطِّيَةً فَتُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ السُّجُودِ يَقَعُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَحُولًا دُونَهَا بِشَيْءٍ] فَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ: إنْ تَرَكَ2 عُضْوًا مِنْهَا لَمْ يُوقِعْهُ الْأَرْضَ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِهِ لَمْ يَكُنْ3 سَاجِدًا، كَمَا إذَا تَرَكَ جَبْهَتَهُ فَلَمْ يُوقِعْهَا الْأَرْضَ، وَهُوَ يَقْدِرُ [عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَسْجُدْ]، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى ظَهْرِ كَفَّيْهِ لَمْ يُجْزِهِ [لِأَنَّ السُّجُودَ عَلَى بُطُونِهَا]، وَكَذَا إنْ سَجَدَ عَلَى حُرُوفِهَا، وَإِنْ مَاسَّ الْأَرْضَ بِبَعْضِ يَدَيْهِ أَصَابِعِهِمَا أَوْ بَعْضِهِمَا أَوْ رَاحَتَيْهِ أَوْ بَعْضِهِمَا أَوْ سَجَدَ عَلَى مَا عَدَا جَبْهَتِهِ مُتَغَطِّيَةً أَجْزَأَهُ، وَهَكَذَا [هَذَا] فِي الرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ. "قَالَ الشَّافِعِيُّ" وَهَذَا مَذْهَبٌ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا دُونَ مَا سِوَاهَا أَجْزَأَهُ.
هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ بِحُرُوفِهِ نَقَلْته مِنْ "الْأُمِّ" مِنْ نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مُقَابَلَةٍ، وَفِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ فَحَصَلَ لِلْأَصْحَابِ أَرْبَعُ طُرُقٍ فِي الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَنَصَّ عَلَيْهِ: أَنَّ فِي وُجُوبِ وَضْعِ الْجَمِيعِ قَوْلَيْنِ وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْقَفَّالُ، وَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ سِوَى الْأَوَّلِ غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ وَنَصَّ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورَ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا أَذْكُرُهَا لِبَيَانِ حَالِهَا لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهَا.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ إذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ وَضْعُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ السِّتَّةِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْهُمْ الْمَحَامِلِيُّ فِي "الْمَجْمُوعِ": إذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ وَضْعُهَا فَمَعْنَاهُ يَجُوزُ تَرْكُ بَعْضِهَا عَلَى الْبَدَلِ فَتَارَةً يَتْرُكُ الْيَدَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا وَتَارَةً يَتْرُكُ الْقَدَمَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا، وَكَذَلِكَ الرُّكْبَتَانِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَرْكُ الْجَمِيعِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالْبَنْدَنِيجِيّ إذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ وَضْعُهَا فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَهَا كُلِّهَا أَجْزَأَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" مِثْلَهُ، قَالَ الرَّافِعِيُّ إذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ وَضْعُهَا اعْتَمَدَ مَا شَاءَ وَرَفَعَ مَا شَاءَ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْجُدَ مَعَ رَفْعِ الْجَمِيعِ، هَذَا هُوَ الْغَالِبُ وَالْمَقْطُوعُ بِهِ. "قُلْتُ": وَيُتَصَوَّرُ رَفْعُ الْجَمِيعِ فِيمَا إذَا صَلَّى عَلَى حَجَرَيْنِ مِنْهُمَا حَائِطٌ قَصِيرٌ، فَإِذَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش. و. ق. وانظر الفرق بين ما هو في "الأم" وبين ما هو مطبوع في الطبعتين السابقتين وعند الله الجزاء (ط).
2 في نسخة "الأم" طبعة المطبعة الأميرية بمصر: "أن ترك جبهته" والصواب ما أثبته النووي هنا (ط).
3 في نسخة "الأم" السابقة "فلم يسجد" (ط).

 

ج / 3 ص -281-       سَجَدَ انْبَطَحَ بِبَطْنِهِ عَلَى الْحَائِطِ، وَرَفَعَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ أَوْ اعْتَمَدَ بِوَسَطِ سَاقِهِ أَوْ بِظَهْرِ كُمِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ حُكْمُ رَفْعِ الْكَفِّ كَمَا سَبَقَ فِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا قُلْنَا يَجِبُ وَضْعُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ كَفَى وَضْعُ أَدْنَى جُزْءٍ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا كَمَا قُلْنَا فِي الْجَبْهَةِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي الْقَدَمَيْنِ بِبُطُونِ الْأَصَابِعِ، فَلَوْ وَضَعَ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ صَاحِبِ "الْفُرُوعِ" أَنَّهُ إنْ سَجَدَ عَلَى ظَاهِرِ قَدَمِهِ أَجْزَأَهُ وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالِاعْتِبَارُ فِي الْيَدَيْنِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ سَوَاءٌ فِيهِ بَاطِنُ الْأَصَابِعِ وَبَاطِنُ الرَّاحَةِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى بَاطِنِ بَعْضِ الرَّاحَةِ أَوْ بَعْضِ بَاطِنِ الْأَصَابِعِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى، ظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ أَوْ حَرْفِهِمَا لَمْ يُجْزِئْهُ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْأُمِّ" كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَهَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمُتَوَلِّي، وَخَالَفَهُمْ الْمَحَامِلِيُّ فِي "التَّجْرِيدِ" فَقَالَ: الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ السُّجُودُ هُوَ الرَّاحَتَانِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ يُجْزِيهِ بُطُونُ الْأَصَابِعِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى سَاجِدًا عَلَى يَدَيْهِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَإِذَا أَوْجَبْنَا وَضْعَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَجِبْ كَشْفُ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ كَشْفُ الْقَدَمَيْنِ وَيَلْزَمُهُ عَدَمُ كَشْفِ الرُّكْبَتَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ دَلِيلُ الْجَمِيعِ، وَفِي وُجُوبِ كَشْفِ الْيَدَيْنِ قَوْلَانِ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالثَّانِي: يَجِبُ كَشْفُ أَدْنَى جُزْءٍ مِنْ بَاطِنِ كُلِّ كَفٍّ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ تَعَذَّرَ وَضْعُ أَحَدِ الْكَفَّيْنِ أَوْ أَحَدِ الْقَدَمَيْنِ لِقَطْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَحُكْمُ الْمَسْأَلَةِ كَمَا سَبَقَ، وَلَا فَرْضَ فِي الْمُتَعَذِّرَةِ وَلَا يَجِبُ وَضْعُ طَرَفِ الزَّنْدِ مِنْ الْمَقْطُوعَةِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْفَرْضِ فَاتَ فَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ لَا يَجِبُ غَسْلُ الْعَضُدِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ: رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
"كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ [عَنْ جَنْبَيْهِ]" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقِلَّ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا سَجَدَ جَخَّ" وَرُوِيَ "جَخَّى" وَالْجَخُّ الْخَاوِي، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً ضَمَّتْ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا.
الشرح:
حَدِيثُ الْبَرَاءِ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ "جَخَّى" وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ "جَخَّ" وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ مُشَدَّدَةٌ - قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ وَالتَّجْخِيَةُ التَّخْوِيَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ جَافَى رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسَنُّ أَنْ يُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَيَرْفَعَ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَتَضُمُّ الْمَرْأَةُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، وَعَنْ عَبْدِ الله ابْنِ بُحَيْنَةَ: رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
"كَانَ إذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ وَضَحُ إبْطَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ1 وَالْوَضَحُ الْبَيَاضُ، وَعَنْ أَحْمَرَ بْنِ جُزْءٍ بِالزَّايِ:


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل وفيه سقط لعله: "وفي رواية لمسلم وضع أبطيه الخ" كما يتضح من مراجعة "صحيح مسلم" ا هـ (ش).

 

ج / 3 ص -282-       رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى نَأْوِيَ لَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَوْلُهُ: نَأْوِيَ1 لَهُ بِالْهَمْزَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ رَقَّ لَهُ وَرَثَى لَهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُفَرِّجُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا حُمَيْدٍ وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
"إذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ" وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ: رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ2 صلى الله عليه وسلم ["كَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ أَصَابِعَهُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ" وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ: رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم] "كَانَ يَفْتَخُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ" وَالْفَتَخُ: تَعْوِيجُ الْأَصَابِعِ، وَيَضُمُّ أَصَابِعَ يَدِهِ وَيَضَعُهَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ إذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ وَجَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ" وَيَرْفَعُ مِرْفَقَيْهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى رَاحَتَيْهِ، لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا سَجَدْتَ فَضُمَّ يَدَيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ3 بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، وَهُمَا مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِمَا وَجَرْحِهِمَا وَلَفْظُهُ: "إذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ" وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَغَرِيبٌ، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "سَجَدَ وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَسَبَقَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ قَالَ: وَفَتَخَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ، وَالْفَتَخُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ عَطَفَهَا إلَى الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ وَائِلٍ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ وَائِلٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا رَكَعَ فَرَّجَ أَصَابِعَهُ وَإِذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ" وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ وَائِلٍ: "أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَلَمَّا سَجَدَ سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ".
وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" وَلَفْظُهُ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا سَجَدَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ اسْتَقْبَلَ بِكَفَّيْهِ وَأَصَابِعِهِ الْقِبْلَةَ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَإِذَا سَجَدَ وَجَّهَ أَصَابِعَهُ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَتَفَاجَّ" وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "يُكْرَهُ أَنْ لَا يَمِيلَ بِكَفَّيْهِ إلَى الْقِبْلَةِ إذَا سَجَدَ" وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ عَائِشَةَ: رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي جُمْلَةِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لِلسَّاجِدِ أَنْ يُفَرِّجَ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ وَبَيْنَ قَدَمَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ": قَالَ أَصْحَابُنَا: يَكُونُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ قَدْرُ شِبْرٍ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ أَصَابِعُ رِجْلَيْهِ مُوَجَّهَةً إلَى الْقِبْلَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ تَوْجِيهُهَا بِالتَّحَامُلِ عَلَيْهَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش. و. ق. نادى بالدال في الموضعين وصوابه ما أثبتناه وكذلك هو في "سنن أبي داود".
2 ما بين المعقوفين ساقط وفيه رواية عائشة التي اختلط بها رواية أبي قتادة ولم يشر الشارح إليها ولعل السقط في نسخته لعدم ورود تخريج للحديثين يشفى.
3 قال أصحابنا المحدثون: أحاديث بقية، ليست نقية، فكن منها على تقية (ط).

 

ج / 3 ص -283-       وَالِاعْتِمَادِ عَلَى بُطُونِهَا، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّهُ يَضَعُ أَطْرَافَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ. وَنَقَلَ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْقِبْلَةَ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَنْ يَتَحَامَلَ عَلَيْهَا وَيُوَجِّهَ رُءُوسَهَا إلَى الْقِبْلَةِ. قَالَ: وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ يَضَعُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحَامُلٍ عَلَيْهَا. هَذَا كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي "الْبَسِيطِ" وَمُحَمَّدُ بْنُ1 يَحْيَى فِي الْمُحِيطِ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ وَلِنَصِّ الشَّافِعِيِّ وَلِمَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ: أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَضُمَّ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَيَبْسُطَهَا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَيَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَيَعْتَمِدَ عَلَى رَاحَتَيْهِ وَيَرْفَعَ ذِرَاعَيْهِ، وَيُكْرَهُ بَسْطُهُمَا وَافْتِرَاشُهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ دَلِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ": إذَا كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ وَطَوَّلَ السُّجُودَ وَلَحِقَهُ مَشَقَّةٌ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى كَفَّيْهِ وَضَعَ سَاعِدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، لِحَدِيثِ سُمَيٍّ2 عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَكَا أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَشَقَّةَ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:
"اسْتَعِينُوا بِالرُّكَبِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ سُمَيٍّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي3 عَيَّاشٍ تَابِعِيٌّ قَالَ: "شَكَا أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: إرْسَالُهُ أَصَحُّ مِنْ وَصْلِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَأَنَّ رِوَايَةَ الْإِرْسَالِ أَصَحُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجِبُ أَنْ يَطْمَئِنَّ فِي سُجُودِهِ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الاسم لم يكن واضحاً في ش. و. ق. حتى اسم الكتاب كان بالخاء المعجمة حتى حررناه وتحققنا أنه محمد بن يحيى بن منصور الإمام المعظم الشهيد النيسابوري تلميذ الغزالي ولد سنة 476 قال ابن السبكي: وخرجت له أربعين حديثاً وقعت لنا بالسماع وله تصانيف كثيرة منها "المحيط في شرح الوسيط" وهو هذا الذي يذكره النووي وفي ترجمة محمد بن الموفق الخبوشاني أنه كان يستحضر كاتب شيخه محمد بن يحيى المحيط عندما عدم الكتاب فأملاه من خاطره وله كتاب "تحقيق المحيط" في ستة عشرة مجلداً.
أما محمد بن يحيى فقد قتله الغز فمات شهيداً، قيل إنهم دسوا في فيه التراب حتى مات وذلك لما خرجوا على السلطان الكبير أعظم ملوك السلجوقية سنجر بن ملكشاه السلجوقي، وفعلوا العظائم، واقتحموا الجرائم، وكانت واقعتهم من أعظم الوقائع وأغربها، وقتل فيها أمم لا يحصيهم إلا الله سبحانه الذي خلقهم وقد قال علي بن أبي القاسم البيهقي يرثيه:

يا سافكاً دم عالم متبحر                        قد طار في أقصى الممالك صيته

بالله قل لي يا ظلوم ولا تخف                   من كان يحيي الدين كيف تميته


وقال آخر:

رفات الدين والإسلام تحيى                     بمحيي الدين مولانا ابن يحيى

كان الله رب العرش يلقي                       عليه حين يلقى الدرس وحيا


وله نظر في بعض المسائل في المعاملات سنشير إليها إن شاء الله (ط).
2 سمي بالتصغير هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي أبو عبد الله المدني عن مولاه وعن ابن المسيب وعنه سهيل بن أبي صالح وعبد الله بن عمرو ومالك وهو موثوق (ط).
3 النعمان بن أبي عياش الزرقي أبو سلمة المدني عن أبي سعيد وجابر وثقة ابن معين ولنا بحث في "الجرح والتعديل" عقدنا فيه لابن معين فصلا فيما انفرد به من التوثيق من سلسلة كتبتها في مجلة الأزهر راجع عدد صفر سنة 1392 (ط).

 

ج / 3 ص -284-       [بْنِ مَالِكٍ] ثُمَّ يَسْجُدَ حَتَّى يَطْمَئِنَّ سَاجِدًا.
الشرح:
حَدِيثُ رِفَاعَةَ صَحِيحٌ، وَالطُّمَأْنِينَةُ وَاجِبَةٌ فِي السُّجُودِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ حَدِّ الطُّمَأْنِينَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ لِمَا رَوَى عَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ: رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَقَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ" وَالْأَفْضَلُ: أَنْ يُضِيفَ إلَيْهِ "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" لِمَا رَوَى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا سَجَدَ قَالَ ذَلِكَ" وَإِنْ قَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ فَهُوَ حَسَنٌ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ فِي سُجُودِهِ" قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم "أَمَا إنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهَدُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ تَمَامُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي الرُّكُوعِ "إذَا قَالَ أَحَدُكُمْ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَإِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَآخَرُونَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَسَبَقَ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ بَيَانُ تَضْعِيفِهِ وَبَيَانُ مَعْنَى "تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ"، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُ: "أَمَا إنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا" إلَى آخِرِهِ فَرَوَاهَا كُلَّهَا مُسْلِمٌ بِلَفْظِهَا هُنَا، وَحَدِيثُ: "أَمَا إنِّي نُهِيتُ" مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
وَأَمَّا شَرْحُ أَلْفَاظِهَا فَتَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ بَيَانُ حَقِيقَةِ التَّسْبِيحِ.
وَقَوْلُهُ: "وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ" اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: الْأُذُنُ مِنْ الْوَجْهِ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ، وَمَعْنَى شَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، أَيْ مَنْفَذَهُمَا، وَقَوْلُهُ: "تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" أَيْ تَعَالَى، وَالْبَرَكَةُ: النَّمَاءُ وَالْعُلُوُّ، حَكَاهُ الْأَزْهَرِيُّ عَنْ ثَعْلَبٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تَبَرَّكَ الْعِبَادُ بِتَوْحِيدِهِ وَذِكْرِ اسْمِهِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: مَعْنَاهُ ثَبَتَ الْخَيْرُ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: تَعَظَّمَ وَتَمَجَّدَ قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَهُوَ بِمَعْنَى تَعْظِيمٍ وَقِيلَ: اسْتَحَقَّ التَّعْظِيمَ، وَقَوْلُهُ: "أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" أَيْ الْمُصَوِّرِينَ وَالْمُقَدِّرِينَ.
وَقَوْلُهُ: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ" بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا وَبِفَتْحٍ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ أَفْصَحُهُمَا وَأَكْثَرُهُمَا الضَّمُّ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُمَا صِفَتَانِ لِلَّهِ تَعَالَى: وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَالتِّرْمِذِيُّ: اسْمَانِ لِلّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرُهُ وَمَعْنَاهُ: مُسَبَّحٌ مُقَدَّسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْنَاهُ الْمُبَرَّأُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَمِنْ الشَّرِيكِ وَمِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ هَكَذَا: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ بِالرَّفْعِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: وَقِيلَ: سُبُّوحًا قُدُّوسًا بِالنَّصْبِ أَيْ

 

ج / 3 ص -285-       أُسَبِّحُ سُبُّوحًا أَوْ أُعَظِّمُ أَوْ أَذْكُرُ أَوْ أَعْبُدُ.
وَقَوْلُهُ: "رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ" قِيلَ: الرُّوحُ جِبْرِيلُ وَقِيلَ: مَلَكٌ عَظِيمٌ أَعْظَمُ الْمَلَائِكَةِ خَلْقًا، وَقِيلَ: أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: خَلْقٌ كَالنَّاسِ لَيْسُوا بِنَاسٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "فَقَمِنٌ" هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَيُقَالُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا: قَمِينٌ وَمَعْنَاهُ حَقِيقٌ، وَقَدْ بَسَطْتُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أَكْمَلَ بَسْطٍ فِي "تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ".
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله: يُسَنُّ التَّسْبِيحُ فِي السُّجُودِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ: "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ" إلَى آخِرِ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَأَدْنَى السُّنَّةِ التَّسْبِيحُ وَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَسُبُّوحٌ قُدُّوسٌ وَالدُّعَاءُ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ: فَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ، فَعَلَى التَّسْبِيحِ أَوْلَى، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَعُودُ هُنَا، وَسَبَقَ هُنَاكَ أَذْكَارُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ جَمِيعًا. وَمِمَّا لَمْ يَسْبِقْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:
"أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجُلَّهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "فَقَدْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدَيَّ عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي" وَغَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ هَذَا كُلَّهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَزِيدُ الْإِمَامُ عَلَى ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْقَوْمُ الْمَحْصُورُونَ، وَفِيهِ كَلَامٌ ذَكَرْتُهُ فِي ذِكْرِ الرُّكُوعِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ إمَامًا فَيُثْقِلُ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ، أَوْ مَأْمُومًا فَيُخَالِفُ إمَامَهُ، قَالَ: وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الذِّكْرِ سَوَاءٌ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ هَذَا النَّصَّ عَنْ "الْأُمِّ"، وَنَقَلَ عَنْ نَصِّهِ فِي "الْإِمْلَاءِ" أَنَّهُ لَا يَدْعُو لِئَلَّا يُثْقِلَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: النَّصَّانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، يَعْنِي أَنَّهُ يَدْعُو بِحَيْثُ لَا يُطَوِّلُ عَلَيْهِمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِ حَالَةِ الْقِيَامِ لِلْحَدِيثِ، فَلَوْ قَرَأَ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَبْطُلْ وَفِي الْفَاتِحَةِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ وَسَنُوَضِّحُهُ فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ بَيَانُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ التَّسْبِيحِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ انْقَلَبَ فَأَصَابَتْ جَبْهَتُهُ الْأَرْضَ، فَإِنْ نَوَى السُّجُودَ حَالَ الِانْقِلَابِ أَجْزَأَهُ كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ [وَالتَّنْظِيفِ] وَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ لِلتَّبَرُّدِ، وَلَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ.
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السُّجُودِ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهُوِيِّهِ إلَيْهِ غَيْرَهُ وَلَوْ سَقَطَ إلَى الْأَرْضِ مِنْ الِاعْتِدَالِ قَبْلَ قَصْدِ الْهُوِيِّ، لَمْ يُحْسَبْ ذَلِكَ السُّجُودُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الِاعْتِدَالِ وَيَسْجُدَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ فِعْلٍ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَوْ هَوَى لِيَسْجُدَ فَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ نُظِرَ إنْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِنِيَّةِ الِاعْتِمَادِ لَمْ يُحْسَبْ عَنْ السُّجُودِ، وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ هَذِهِ النِّيَّةَ حُسِبَ سَوَاءٌ قَصَدَ أَمْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا. نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِي "الْأُمِّ" وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ

 

ج / 3 ص -286-       نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ هَوَى لِيَسْجُدَ فَسَقَطَ عَلَى جَنْبِهِ فَانْقَلَبَ وَأَتَى بِصُورَةِ السُّجُودِ، فَإِنْ قَصَدَ السُّجُودَ اُعْتُدَّ بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِقَامَةَ وَقَصَدَ أَيْضًا صَرْفَهُ عَنْ السُّجُودِ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ بِلَا خِلَافٍ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِعْلًا لَا يُزَادُ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِقَامَةَ وَلَمْ يَقْصِدْ صَرْفَهُ عَنْ السُّجُودِ، بَلْ غَفَلَ عَنْهُ لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ فِي "الْأُمِّ"، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَخَرَجَ مِنْ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ نِيَّةِ التَّبَرُّدِ فِي الْوُضُوءِ إذَا عَرَضَتْ فِي أَثْنَائِهَا الْغَفْلَةُ عَنْ نِيَّةِ الْحَدَثِ، لَكِنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَعْتَدِلَ جَالِسًا، ثُمَّ يَسْجُدَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ لِيَسْجُدَ مِنْ قِيَامٍ فَلَوْ قَامَ كَانَ زَائِدًا قِيَامًا مُتَعَمَّدًا، فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ إنْ عَلِمَ تَحْرِيمَهُ، وَلَكِنْ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ احْتِمَالٌ لِنَفْسِهِ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ لِيَسْجُدَ مِنْهُ وَاسْتَضْعَفَهُ، وَقَالَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَقُومُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ السُّجُودَ وَلَا الِاسْتِقَامَةَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ السُّجُودِ بِلَا خِلَافٍ، وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ.

فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالسُّجُودِ
إحْدَاهَا1: قَالَ أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُّونَ: التَّنَكُّسُ فِي السُّجُودِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ قَالُوا: وَلِلسَّاجِدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ إحْدَاهَا: أَنْ تَكُونَ أَسَافِلُهُ أَعْلَى مِنْ أَعَالِيهِ فَتَكُونَ عَجِيزَتُهُ مُرْتَفِعَةً عَنْ رَأْسِهِ وَمَنْكِبَيْهِ، فَهَذِهِ هَيْئَةُ التَّنَكُّسِ الْمَطْلُوبَةُ، وَمَتَى كَانَ الْمَكَانُ مُسْتَوِيًا فَحُصُولُهَا هَيِّنٌ، وَلَوْ كَانَ مَوْضِعُ الرَّأْسِ مُرْتَفِعًا قَلِيلًا فَقَدْ رَفَعَ أَسَافِلَهُ، وَتَحْصُلُ هَذِهِ الْهَيْئَةُ أَيْضًا وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ بِلَا شَكٍّ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ أَعَالِيهِ أَرْفَعَ مِنْ أَسَافِلِهِ، بِأَنْ يَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى ارْتِفَاعٍ فَيَصِيرَ رَأْسُهُ أَعْلَى مِنْ حِقْوَيْهِ، فَلَا يُجْزِئُهُ لِعَدَمِ اسْمِ السُّجُودِ كَمَا لَوْ أَكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ وَمَدَّ رِجْلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ بِلَا شَكٍّ. قَالَ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ": إلَّا أَنْ تَكُونَ بِهِ عِلَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ السُّجُودُ إلَّا هَكَذَا فَيُجْزِئُهُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَوِيَ أَعَالِيهِ وَأَسَافِلُهُ لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِ الْجَبْهَةِ وَعَدَمِ رَفْعِهِ الْأَسَافِلَ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ لِفَوَاتِ الْهَيْئَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْوَجِيزِ" و "الْبَغَوِيُّ"، وَدَلِيلُ وُجُوبِ أَصْلِ التَّنَكُّسِ: أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَمَعْلُومٌ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَكِّسُ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: "وَصَفَ لَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنهما - يَعْنِي السُّجُودَ - فَوَضَعَ يَدَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَفَعَ عَجِيزَتَهُ وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهَذَا مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" يَقْتَضِي وُجُوبَهُ وَالله أَعْلَمُ.
وَلَوْ تَعَذَّرَ التَّنَكُّسُ لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَهَلْ يَجِبُ وَضْعُ وِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا لِيَضَعَ الْجَبْهَةَ عَلَى شَيْءٍ؟ فِيهِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الواضح أن الثانية والثالثة هي أحوال وليست من المسائل ولعل كلمة أحداها زائدة عن المطلوب إذ لا ثاني لها (ط).

 

ج / 3 ص -287-       وَجْهَانِ. حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا أَظْهَرُهُمَا: عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ التَّنَكُّسُ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى شَيْءٍ، فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا لَزِمَهُ الْآخَرُ وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ غَيْرِهِ: لَا يَجِبُ، بَلْ يَكْفِيهِ الْخَفْضُ الْمَذْكُورُ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا أَشْبَهُ بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّ هَيْئَةَ السُّجُودِ مُتَعَذِّرَةٌ فَيَكْفِيهِ الْخَفْضُ الْمُمْكِنُ قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَأَمْكَنَهُ وَضْعَهَا عَلَى وِسَادَةٍ مَعَ التَّنْكِيسِ لَزِمَهُ ذَلِكَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ [وَيُكَبِّرُ] لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي الرُّكُوعِ ثُمَّ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا، يَفْرُشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَجْلِسُ وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى، لِمَا يُرْوَى أَنَّ أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
"ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إلَى مَوْضِعِهِ" وَيُكْرَهُ الْإِقْعَاءُ فِي الْجُلُوسِ، وَهُوَ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَجْعَلَ يَدَيْهِ فِي الْأَرْضِ وَيَقْعُدَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الْإِقْعَاءِ [أَيْ يُقْعِي1] إقْعَاءَ الْقِرَدَةِ" وَيَجِبُ أَنْ يَطْمَئِنَّ فِي جُلُوسِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم [لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ] "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي جُلُوسِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي [وَاجْبُرْنِي] وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي وَاهْدِنِي لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ذَلِكَ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّكْبِيرِ صَحِيحٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِيهِ، وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ صَحِيحٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْإِقْعَاءِ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَرَوَى النَّهْيَ عَنْ الْإِقْعَاءِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَسٌ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَوَاهَا كُلَّهَا الْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَضَعَّفَهُ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْإِقْعَاءِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ "ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ مِنْ رِوَايَةِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي" وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: مِثْلُهُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ "وَأَجِرْنِي وَعَافِنِي" وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ "وَارْفَعْنِي" بَدَلَ "وَاهْدِنِي" وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَجِرْنِي وَارْفَعْنِي وَارْزُقْنِي وَاهْدِنِي" فَالِاحْتِيَاطُ وَالِاخْتِيَارُ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيَأْتِيَ بِجَمِيعِ أَلْفَاظِهَا وَهِيَ سَبْعَةٌ "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَعَافِنِي وَأَجِرْنِي وَارْفَعْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي" وَقَوْلُهُ: يَفْرُشُ هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ كَسْرُ الرَّاءِ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَرْضٌ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ فَرْضٌ لِلْحَدِيثِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كل ما بين المعقوفين فيما سبق ليس في ش. و. ق (ط).

 

ج / 3 ص -288-       حَدِّ الطُّمَأْنِينَةِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالرَّفْعِ شَيْئًا آخَرَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطَوِّلَهُ طُولًا فَاحِشًا، فَإِنْ طَوَّلَهُ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالسُّنَّةُ: أَنْ يُكَبِّرَ لِجُلُوسِهِ وَيَبْتَدِئَ التَّكْبِيرَ مِنْ حِينِ يَبْتَدِئُ رَفْعَ الرَّأْسِ وَيَمُدَّهُ إلَى أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا فَيَكُونَ مَدُّهُ أَقَلَّ مِنْ مَدِّ تَكْبِيرَةِ الْهُوِيِّ مِنْ الِاعْتِدَالِ إلَى السُّجُودِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ هُنَا قَلِيلٌ، وَقَدْ سَبَقَ حِكَايَةُ قَوْلِ: إنَّهُ لَا يَمُدُّ شَيْئًا مِنْ التَّكْبِيرَاتِ أَوْضَحْتُهُ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسَ مُفْتَرِشًا يَفْرُشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَجْلِسُ عَلَى كَعْبِهَا وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَحَكَى صَاحِبُ "الشَّامِلِ" وَآخَرُونَ قَوْلًا أَنَّهُ يُضْجِعُ قَدَمَيْهِ وَيَجْلِسُ عَلَى صَدْرِهِمَا، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْبُوَيْطِيِّ" و "الْإِمْلَاءِ" عَلَى صِفَةِ هَذَا الْجُلُوسِ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْإِقْعَاءِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ قَرِيبًا مِنْ رُكْبَتَيْهِ مَنْشُورَتَيْ الْأَصَابِعَ وَمُوَجَّهَةً إلَى الْقِبْلَةِ، وَلَوْ انْقَطَعَتْ أَطْرَافُ أَعْلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَلَا بَأْسَ، كَذَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ تَرَكَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ جَانِبَيْ فَخِذَيْهِ كَانَ كَإِرْسَالِهِمَا فِي الْقِيَامِ يَعْنِي يَكُونُ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ أَصَابِعُهُ مَضْمُومَةً كَمَا فِي السُّجُودِ أَوْ مُفَرَّقَةً؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: مَضْمُومَةً لِتَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ، وَسَنُوضِحُهَا فِي فَصْلِ التَّشَهُّدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ، وَالْمُخْتَارُ الْأَحْوَطُ: أَنْ يَأْتِيَ بِالْكَلِمَاتِ السَّبْعِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، قَالَ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ": وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الدُّعَاءُ، بَلْ أَيُّ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ حَصَلَتْ السُّنَّةُ، وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي فِي الْحَدِيثِ أَفْضَلُ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَمْ يَنْفِهِ قَالَ: وَهُوَ سُنَّةٌ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

فرع: فِي الْإِقْعَاءِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ مَعَ كَثْرَتِهَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ثَابِتٌ وَبَيَّنَّا رُوَاتَهَا، وَثَبَتَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ:
"قُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ قَالَ: هِيَ السُّنَّةُ فَقُلْنَا: إنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ قَالَ: بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ". وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ تَمَسَّ أَلْيَتَاكَ عَقِبَيْكَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ". وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، هَذَا ثُمَّ رَوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى يَقْعُدُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَيَقُولُ: إنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ ثُمَّ رَوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: رضي الله عنهم أَنَّهُمَا كَانَا يُقْعِيَانِ ثُمَّ رَوَى عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يُقْعِي وَقَالَ: رَأَيْتُ الْعَبَادِلَةَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ: عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ وَعَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَهَذَا الْإِقْعَاءُ الْمَرْضِيُّ فِيهِ وَالْمَسْنُونُ عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ: هُوَ أَنْ يَضَعَ أَطْرَافَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَضَعَ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ رَوَى الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْإِقْعَاءِ بِأَسَانِيدِهَا عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، ثُمَّ ضَعَّفَهَا كُلَّهَا وَبَيَّنَ

 

ج / 3 ص -289-       ضَعْفَهَا وَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ، ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْإِقْعَاءُ أَنْ يُلْصِقَ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَضَعَ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ قَالَ: وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْإِقْعَاءُ جُلُوسُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَلْيَتَيْهِ نَاصِبًا فَخِذَيْهِ مِثْلَ إقْعَاءِ الْكَلْبِ وَالسَّبُعِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِقْعَاءِ غَيْرَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مَسْنُونٌ. قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ" فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا فِي الْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَلَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ رحمه الله، وَلَقَدْ أَحْسَنَ وَأَجَادَ وَأَتْقَنَ وَأَفَادَ وَأَوْضَحَ إيضَاحًا شَافِيًا، وَحَرَّرَ تَحْرِيرًا وَافِيًا رحمه الله، وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى هَذَا الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ فَقَالَ بَعْد أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ الْإِقْعَاءِ: هَذَا الْإِقْعَاءُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَهَذَا الْإِقْعَاءُ غَيْرُ مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، فَذَلِكَ الْإِقْعَاءُ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ قَاعِدًا عَلَيْهَا وَعَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، وَقَدْ اسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فِي "الْإِمْلَاءِ" و "الْبُوَيْطِيُّ" قَالَ: وَقَدْ خَبَطَ فِي الْإِقْعَاءِ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ مَنْ1 يَعْلَمُ أَنَّهُ نَوْعَانِ كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: وَفِيهِ فِي "الْمُهَذَّبِ" تَخْلِيطٌ: هَذَا آخِرُ كَلَامِ أَبِي عَمْرٍو رحمه الله، وَهَذَا كِتَابُهُ الَّذِي حَكَاهُ عَنْ الْبُوَيْطِيِّ "وَالْإِمْلَاءِ" مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، قَدْ حَكَاهُ عَنْهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ "مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ" وَأَمَّا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا حَصَلَ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَخَالَفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَادَتَهُ فِي حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ، بَلْ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ قَالَ: وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْإِقْعَاءِ وَأَنَّهُ عَقِبُ الشَّيْطَانِ.
وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "قَعَدَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مُفْتَرِشًا قَدَمَهُ الْيُسْرَى". قَالَ: وَرَوَيْتُ كَرَاهَةَ الْإِقْعَاءِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ: وَالْإِقْعَاءُ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَقْعُدَ مُسْتَوْفِزًا غَيْرَ مُطْمَئِنٍّ إلَى الْأَرْضِ، وَهَذَا إقْعَاءُ الْكِلَابِ وَالسِّبَاعِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَأَهْلُ مَكَّةَ يَسْتَعْمِلُونَ الْإِقْعَاءَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْسُوخًا، وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ، وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ أَوْجُهٍ: مِنْهَا أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى أَحَادِيثِ النَّهْيِ فِيهِ، وَادَّعَى أَيْضًا نَسْخَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنَّسْخُ: لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَعَلِمْنَا التَّارِيخَ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ هُنَا الْجَمْعُ بَلْ أَمْكَنَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيْضًا التَّارِيخُ، وَجَعَلَ أَيْضًا الْإِقْعَاءَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا هُوَ نَوْعَانِ. فَالصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ: أَنَّ الْإِقْعَاءَ نَوْعَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو: أَحَدُهُمَا: مَكْرُوهٌ: وَالثَّانِي: جَائِزٌ أَوْ سُنَّةٌ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَحَادِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ وَوَائِلٍ وَغَيْرِهِمَا فِي صِفَةِ صَلَاةِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا ولعله "من لا يعلم" والله أعلم (ط).

 

ج / 3 ص -290-       رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَوَصْفِهِمْ الِافْتِرَاشَ عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى فَهُوَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ أَحْوَالٌ، حَالٌ يَفْعَلُ فِيهَا هَذَا وَحَالٌ يَفْعَلُ فِيهَا ذَاكَ، كَمَا كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ فِي تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ وَتَخْفِيفِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِهَا، وَكَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَكَمَا طَافَ رَاكِبًا وَطَافَ مَاشِيًا، وَكَمَا أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ وَأَوْسَطَهُ وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْوَالِهِ. صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَفْعَلُ الْعِبَادَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ أَوْ أَنْوَاعٍ لِيُبَيِّنَ الرُّخْصَةَ وَالْجَوَازَ بِمَرَّةٍ أَوْ مَرَّاتٍ قَلِيلَةٍ، وَيُوَاظِبُ عَلَى الْأَفْضَلِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّهُ الْمُخْتَارُ وَالْأَوْلَى.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْإِقْعَاءَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّفْسِيرِ الْمُخْتَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَفَعَلَ صلى الله عليه وسلم مَا رَوَاهُ أَبُو حُمَيْدٍ وَمُوَافِقُوهُ مِنْ جِهَةِ الِافْتِرَاشِ، وَكِلَاهُمَا سُنَّةٌ لَكِنَّ إحْدَى السُّنَّتَيْنِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي حُمَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ رَوَاهَا وَصَدَّقَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا سَبَقَ، وَرَوَاهَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ وَغَيْرُهُ، , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا وَشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ، فَهِيَ أَفْضَلُ وَأَرْجَحُ، مَعَ أَنَّ الْإِقْعَاءَ سُنَّةٌ أَيْضًا، فَهَذَا مَا يَسَّرَ اللَّهُ الْكَرِيمُ مِنْ تَحْقِيقِ أَمْرِ الْإِقْعَاءِ، وَهُوَ مِنْ الْمُهِمَّاتِ لِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَعَ تَكَرُّرِهِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَاسْتِشْكَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ لَهُ مِنْ كُلِّ الطَّوَائِفِ، وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ الْكَرِيمُ بِإِتْقَانِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ، مَذْهَبُنَا: أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِمَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ وَلَا الْجُلُوسُ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ عَنْ الْأَرْضِ أَدْنَى رَفْعٍ، وَلَوْ كَحَدِّ السَّيْفِ، وَعَنْهُ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُمَا قَالَا: يَجِبُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِحَيْثُ يَكُونُ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُمَا دَلِيلٌ يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الِاعْتِدَالِ عَنْ الرُّكُوعِ.

"ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى مِثْلَ الْأُولَى".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى .
الشرح:
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَدَلِيلُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ وَالْإِجْمَاعُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَصِفَةُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ صِفَةُ الْأُولَى فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُكَبِّرُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي الرُّكُوعِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا اسْتَوَى قَاعِدًا نَهَضَ، وَقَالَ فِي "الْأُمِّ": "يَقُومُ مِنْ السَّجْدَةِ" فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ إحْدَاهُمَا: لَا يَجْلِسُ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ اسْتَوَى قَائِمًا بِتَكْبِيرَةٍ" وَالثَّانِي: يَجْلِسُ لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا". وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إنْ كَانَ ضَعِيفًا جَلَسَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرَاحَةَ، وَإِنْ كَانَ

 

ج / 3 ص -291-       قوِيًّا لَمْ يَجْلِسْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرَاحَةِ، وَحَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجْلِسُ جَلَسَ مُفْتَرِشًا لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "ثَنَى رِجْلَهُ فَقَعَدَ عَلَيْهَا، حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إلَى مَوْضِعِهِ ثُمَّ نَهَضَ" وَيُسْتَحَبُّ: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدَيْهِ فِي الْقِيَامِ لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "اسْتَوَى قَاعِدًا ثُمَّ قَامَ وَاعْتَمَدَ [عَلَى] الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ" قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ هَذَا أَشْبَهُ بِالتَّوَاضُعِ وَأَعْوَنُ لِلْمُصَلِّي وَيَمُدُّ التَّكْبِيرَ إلَى أَنْ يَقُومَ حَتَّى لَا يَخْلُوَ [فِعْلٌ] مِنْ ذِكْرٍ.
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ، وَحَدِيثُ وَائِلٍ غَرِيبٌ وَحَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ "صَحِيحِهِ"، وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ بِطُولِهِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ. وَحَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ الْأَخِيرُ صَحِيحٌ أَيْضًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ، وَسَأَذْكُرُهُ بِلَفْظِهِ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ وَبَيَانُ أَحْوَالِهِمْ إلَّا مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ، وَهُوَ أَبُو سُلَيْمَانَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، وَيُقَالُ: ابْنُ الْحَارِثِ اللَّيْثِيُّ رضي الله عنه تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ فِيمَا قِيلَ وَقَوْلُهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِذَا اسْتَوَى قَاعِدًا نَهَضَ" يَعْنِي قَالَ هَذَا فِي "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ".
أَمَّا حُكْمُ الْفَصْلِ: فَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ يَعْقُبُهَا تَشَهُّدٌ مَدَّهُ حَتَّى يَجْلِسَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا يَعْقُبُهَا تَشَهُّدٌ فَهَلْ تُسَنُّ جِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ؟ فِيهَا النَّصَّانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَلِلْأَصْحَابِ فِيهَا ثَلَاثَةُ طُرُقٍ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: هُمَا مَحْمُولَانِ عَلَى حَالٍ فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي ضَعِيفًا لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا اُسْتُحِبَّ وَإِلَّا فَلَا.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهَا تُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي "الْمُقْنِعِ" وَالْفُورَانِيُّ فِي "الْإِبَانَةِ" وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي كُتُبِهِ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَآخَرُونَ، وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يُسْتَحَبُّ: وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ، وَهَذَا الطَّرِيقُ أَشْهَرُ، وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ اسْتِحْبَابُهَا، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ اسْتِحْبَابُهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا تُسَنُّ جِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ ابْتَدَأَ التَّكْبِيرَ مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّفْعِ وَفَرَغَ مِنْهُ مَعَ اسْتِوَائِهِ قَائِمًا، وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَهُوَ: أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ جِلْسَةٌ لَطِيفَةٌ جِدًّا، وَفِي التَّكْبِيرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَآخَرُونَ أَصَحُّهَا: عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَفِي "التَّنْبِيهِ"، وَنَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا وَيَمُدُّهُ إلَى أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا وَيُخَفِّفُ الْجِلْسَةَ، وَدَلِيلُهُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أَنْ لَا يَخْلُوَ جُزْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ عَنْ ذِكْرٍ الثَّانِي: يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ جَالِسًا وَيَمُدُّهُ إلَى أَنْ يَقُومَ وَالثَّالِثُ: يَرْفَعُ مُكَبِّرًا فَإِذَا جَلَسَ قَطَعَهُ ثُمَّ يَقُومُ بِلَا تَكْبِيرٍ، نَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِتَكْبِيرَتَيْنِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالسُّنَّةُ فِيهَا:

 

ج / 3 ص -292-       أَنْ يَجْلِسَ مُفْتَرِشًا لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَحَكَى صَاحِبُ "الْحَاوِي" وَجْهًا أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَتُسَنُّ هَذِهِ الْجِلْسَةُ عَقِبَ السَّجْدَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يَعْقُبُهَا قِيَامٌ سَوَاءٌ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ وَالْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ، لِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ إذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلَوْ سَجَدَ الْمُصَلِّي لِلتِّلَاوَةِ لَمْ تُشْرَعْ جِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ لَمْ يَجْلِسْ الْإِمَامُ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ فَجَلَسَهَا الْمَأْمُومُ جَازَ وَلَا يَضُرُّ هَذَا التَّخَلُّفُ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ، وَبِهَذَا فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَوْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ هَلْ هِيَ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَمْ جُلُوسٌ مُسْتَقِلٌّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنْ الثَّانِيَةِ ، حَكَاهُ فِي "الْبَيَانِ" عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: أَنَّهَا جُلُوسٌ فَاصِلٌ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَجُلُوسِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي تَعْلِيقِ الْيَمِينِ عَلَى شَيْءٍ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى هَذِهِ الْجِلْسَةِ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ فِيهَا وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ الصَّحِيحِ لَهَا، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْمُتَسَاهِلِينَ بِتَرْكِهَا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ قَامَ مِنْ الْجِلْسَةِ أَوْ مِنْ السَّجْدَةِ يُسَنُّ أَنْ يَقُومَ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَذَا إذَا قَامَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، سَوَاءٌ فِي هَذَا الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ لِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَلَيْسَ لَهُ مُعَارِضٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالله أَعْلَمُ.
وَإِذَا اعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ جَعَلَ بَطْنَ رَاحَتَيْهِ وَبُطُونَ أَصَابِعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي "الْوَسِيطِ" وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ إذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا يَضَعُ الْعَاجِنُ" فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ بِالنُّونِ، وَلَوْ صَحَّ كَانَ مَعْنَاهُ: قَائِمًا مُعْتَمِدًا بِبَطْنِ يَدَيْهِ كَمَا يَعْتَمِدُ الْعَاجِزُ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَاجِنَ الْعَجِينِ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ.
مَذْهَبُنَا الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا سَبَقَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ وَأَبُو حُمَيْدٍ وَأَبُو قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَأَبُو قِلَابَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ التَّابِعِينَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ: لَا يُسْتَحَبُّ، بَلْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ نَهَضَ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الزِّنَادِ، وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، قَالَ: قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ: "أَدْرَكْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ هَذَا" وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى هَذَا، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ "الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ" وَلَا ذِكْرَ لَهَا فِيهِ، وَبِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ:

 

ج / 3 ص -293-       وَلِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً لَسُنَّ لَهَا ذِكْرٌ كَغَيْرِهَا.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ
"رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ بِمَعْنَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: "اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كِتَابِ "السَّلَامِ". وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "ثُمَّ هَوَى سَاجِدًا ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ وَقَعَدَ حَتَّى رَجَعَ كُلُّ عَظْمٍ مَوْضِعَهُ ثُمَّ نَهَضَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ" فَقَالُوا: صَدَقْتَ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَإِسْنَادُ أَبِي دَاوُد إسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ فِي الرُّكُوعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ إنَّمَا عَلَّمَهُ الْوَاجِبَاتِ دُونَ الْمَسْنُونَاتِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ سَبَقَ ذِكْرُهُ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ وَائِلٍ فَلَوْ صَحَّ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَرْكِهَا، وَلَوْ كَانَ صَرِيحًا لَكَانَ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَأَبِي حُمَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ أَسَانِيدِهَا: وَالثَّانِي: كَثْرَةُ رُوَاتِهَا، وَيَحْتَمِلُ حَدِيثُ وَائِلٍ أَنْ يَكُونَ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي وَقْتٍ أَوْ أَوْقَاتٍ تَبَيُّنًا لِلْجَوَازِ، وَوَاظَبَ عَلَى مَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ بَعْدَ أَنْ قَامَ يُصَلِّي مَعَهُ وَيَتَحَفَّظُ الْعِلْمَ مِنْهُ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَرَادَ الِانْصِرَافَ مِنْ عِنْدِهِ إلَى أَهْلِهِ: "اذْهَبُوا إلَى أَهْلِيكُمْ وَمُرُوهُمْ وَكَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" مِنْ طُرُقٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم هَذَا وَقَدْ رَآهُ يَجْلِسُ الِاسْتِرَاحَةَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْمَسْنُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ لَمَا أَطْلَقَ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ فَرْقِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَيُجَابُ بِهِ أَيْضًا عَنْ قَوْلِ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ: لَيْسَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ وَائِلٍ وَغَيْرِهِ بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ عَلَى هَذَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْجِلْسَةِ إثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ تَنْفِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْأَحَادِيثِ، وَنَجِدُ فِيهَا خِلَافَهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهَا إثْبَاتُهَا وَلَا نَفْيُهَا لَمْ يَلْزَمْ رَدُّ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَاتٍ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: إنَّهَا لَيْسَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، فَمِنْ الْعَجَبِ الْغَرِيبِ فَإِنَّهَا مَشْهُورَةٌ فِيهِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ شُرِعَ لَكَانَ لَهَا ذِكْرٌ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ ذِكْرَهَا التَّكْبِيرُ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ يَمُدُّ حَتَّى يَسْتَوْعِبَهَا وَيَصِلَ إلَى الْقِيَامِ كَمَا سَبَقَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْرٌ لَمْ يَجُزْ رَدُّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ بِهَذَا الِاعْتِرَاضِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ النُّهُوضِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَسَائِرِ الرَّكَعَاتِ: قَدْ ذَكَرْنَا: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْهِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَكْحُولٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ

 

ج / 3 ص -294-       الْعَزِيزِ وَابْنِ أَبِي زَكَرِيَّا وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد: يَقُومُ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، بَلْ يَعْتَمِدُ صُدُورَ قَدَمَيْهِ، , وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "مِنْ السُّنَّةِ إذَا نَهَضَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَعَنْ خَالِدِ بْنِ إلْيَاسَ، وَيُقَالُ: ابْنُ يَاسٍ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى1 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إذَا نَهَضَ فِي الصَّلَاةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَعَنْ وَائِلِ بْن حُجْرٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَإِذَا نَهَضَ نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخِذِهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ "رَأَى ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُومُ عَلَى قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: هَذَا صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: "رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهم يَقُومُونَ عَلَى صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ فِي الصَّلَاةِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ بِحَدِيثِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَصَلَّى بِنَا فَقَالَ:
"إنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ ، أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي" قَالَ أَيُّوبُ: فَقُلْتُ لِأَبِي قِلَابَةَ: "كَيْفَ كَانَتْ صَلَاتُهُ؟ فَقَالَ: مِثْلُ شَيْخِنَا هَذَا - يَعْنِي عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ - قَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قَامَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" بِهَذَا اللَّفْظِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَأَعْوَنُ لِلْمُصَلِّي وَأَحْرَى أَنْ لَا يَنْقَلِبَ، وَالْجَوَابُ عَنْ أَحَادِيثِهِمْ: أَنَّهَا كُلَّهَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ إلَّا الْأَثَرُ الْمَوْقُوفُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ2 وَتَرْكُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ غَيْرِهِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ خَالِدِ بْنِ إلْيَاسَ وَصَالِحٍ ضَعِيفَتَانِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْغَزَالِيِّ، وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الثِّقَاتِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَفِيقُ الْغَزَالِيِّ فِي الرِّوَايَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَقَالَ فِيهِ: "نُهِيَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدَيْهِ". وَرَوَاهُ آخَرَانِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ خِلَافَ مَا رَوَاهُ الْغَزَالِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُد ذَلِكَ كُلَّهُ وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَاعِدَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مَا خَالَفَ الثِّقَاتِ كَانَ حَدِيثُهُ شَاذًّا مَرْدُودًا. وَأَمَّا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل، والسقط "التوأمة" لأن صالحاً مولى التوأمة هو راوي الحديث عن أبي هريرة واسمه صالح بن نبهان المدني. ضعفه شعبة ومالك وغيرهما والتوأمة بنت أمية بن خلف وكانت لها أخت أخرى وهما توأمتان واشتهرت أحداهما بصالح مولاها (ط).
2 لعل العبارة سقطاً تقديره "ولا يجوز ترك" الخ (ط).

 

ج / 3 ص -295-       حَدِيثُ وَائِلٍ فَضَعِيفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا، وَلَمْ يُدْرِكْهُ، وَقِيلَ: إنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَأَمَّا حِكَايَةُ عَطِيَّةَ فَمَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ عَطِيَّةَ ضَعِيفٌ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّاشِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ إحْدَى رِجْلَيْهِ حَالَ الْقِيَامِ وَيَعْتَمِدَ عَلَيْهَا، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْحَاقُ، قَالَ إِسْحَاقُ: إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَمِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِهِ.
قَالَ الْمُصَنَّف رحمه الله تعالى: وَلَا يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَبَعْدَهَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ". وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: يُسْتَحَبُّ كُلَّمَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ السُّجُودِ وَمِنْ التَّشَهُّدِ لِمَا رَوَى عَلِيٌّ: رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: [رَفْعَ1 الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ السُّجُودِ" وَرَوَى أَبُو حُمَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم] "كَانَ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ" وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
الشرح:
الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى فِي كُتُبِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ طُرُقٍ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" "وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ" وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ "وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ وَلَا حِينَ يَرْفَعُ مِنْ السُّجُودِ". وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: يُسْتَحَبُّ الرَّفْعُ كُلَّمَا قَامَ مِنْ السُّجُودِ وَمِنْ التَّشَهُّدِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِهَذَا بِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا رَكَعَ وَإِذَا سَجَدَ" لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي كِتَابِ النَّسَائِيّ حَدِيثٌ يَقْتَضِيهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ الرَّفْعُ إذَا قَامَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِيهِ وَفِي "شَرْحِ السُّنَّةِ" وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، دَلِيلُهُ: حَدِيثُ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما
"كَانَ إذَا دَخَلَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ".
وَعَنْ حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم2 أَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِيهَا: "وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِالْأَسَانِيدِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش. و. ق. (ط).
2 هذه العبارة "منهم أبو قتادة" كانت هنا ولا نجد لها مساغاً وكأنها مقحمة (ط).

 

ج / 3 ص -296-       الصَّحِيحَةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ سَبَقَ بِطُولِهِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ مِثْلَ ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَصْنَعُهُ إذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَآخَرُونَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ "الدُّعَاءِ" فِي أَوَاخِرَ كِتَابِهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: "وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ" بَدَلَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّجْدَتَيْنِ الرَّكْعَتَانِ بِلَا شَكٍّ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ، وَهَكَذَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّ فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ السَّجْدَتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ، ثُمَّ اُسْتُشْكِلَ الْحَدِيثُ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى طُرُقِ رِوَايَتِهِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَحَمَلَهُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ كَمَا حَمَلَهُ الْأَئِمَّةُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِذَا رَفَعَ لِلسُّجُودِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِيهِ رَجُلٌ فِيهِ أَدْنَى كَلَامٍ. وَقَدْ وَثَّقَهُ الْأَكْثَرُونَ وَقَدْ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ".
وَقَوْلُهُ: "رَفَعَ لِلسُّجُودِ" يَعْنِي رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ "رَفْعِ الْيَدَيْنِ" مَا زَادَهُ عَلِيٌّ وَأَبُو حُمَيْدٍ رضي الله عنهما فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَعْنِي وَابْنُ عُمَرَ: رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَرْفَعُ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ" كُلُّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا صَلَاةً وَاحِدَةً، وَتَخْتَلِفُ رِوَايَاتُهُمْ فِيهَا بِعَيْنِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ مَعَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ "مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ": وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: وَبِهَذَا أَقُولُ.
وَقَالَ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ": لَمْ يَذْكُر الشَّافِعِيُّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، وَمَذْهَبُهُ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو حُمَيْدٍ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ، وَصَدَّقُوهُ كُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
هَذَا كَلَامُ الْبَغَوِيِّ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي "التَّعْلِيقِ" : انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَاسْتِدْلَالُهُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى نَسْخِ الْحَدِيثِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ الرَّفْعُ فِي الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ عَنْ خَلَائِقَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي حُمَيْدٍ مَعَ أَصْحَابِهِ الْعَشَرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْتُهُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِاسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، وَأَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَكَثْرَةِ رُوَاتِهَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَالشَّافِعِيُّ قَائِلٌ بِهِ لِلْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا ابْنَ الْمُنْذِرِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ النَّيْسَابُورِيُّ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا فِي زَمَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَطَبَقَتِهِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ، وَهُوَ

 

ج / 3 ص -297-       صَاحِبُ "الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ" الَّتِي تَحْتَاجُ إلَيْهَا كُلُّ الطَّوَائِفِ قَدْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ حَالِهِ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ، وَهُوَ مُسْتَقْصًى فِي "الطَّبَقَاتِ" و "تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِثْلَ الْأُولَى إلَّا فِي النِّيَّةِ وَدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ "ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا" وَأَمَّا النِّيَّةُ وَدُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُرَادُ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى.
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْوَاجِبَاتُ فَقَطْ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ السُّنَنِ الْمَفْعُولَةِ فِي الْأُولَى، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ كَالْأُولَى، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ حَدِيثُهُ السَّابِقُ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ بِطُولِهِ قَالَ فِي آخِرِهِ: "ثُمَّ صَنَعَ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ" وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ حَدِيثٌ فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَكَانَ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَالرَّاوِي عَنْهُ هُنَا أَخَذَ عَنْهُ فِي الِاخْتِلَاطِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، وَالله أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: صِفَةُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَالْأُولَى إلَّا فِي النِّيَّةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي أَوَّلِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعَوُّذِ وَتَقْصِيرِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْخِلَافَ فِيهِمَا فِي مَوْضِعِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا، وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ هُنَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَرَفْعَ الْيَدَيْنِ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا، فَإِنْ قِيلَ: تَرَكَهُمَا لِشُهْرَتِهِمَا، قِيلَ: فَالنِّيَّةُ وَالِافْتِتَاحُ أَشْهَرُ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ تَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ لِلتَّشَهُّدِ لِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سُنَّةٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الله ابْنُ بُحَيْنَةَ رضي الله عنهما قَالَ: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ فَقَامَ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَلَمْ يَجْلِسْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ سَلَّمَ" وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَفَعَلَهُ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى السُّجُودِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسَ فِي هَذَا التَّشَهُّدِ مُفْتَرِشًا لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا جَلَسَ فِي الْأُولَيَيْنِ جَلَسَ عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى".
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ بُحَيْنَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَسَبَقَ بِطُولِهِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَبُحَيْنَةُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ صَحَابِيَّةٌ أَسْلَمَتْ رضي الله عنها وَبَايَعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: اسْمُهَا عَبْدَةُ - يَعْنِي وَبُحَيْنَةُ لَقَبٌ - وَابْنُهَا1 عَبْدُ الله بْنُ مَالِكٍ يُكَنَّى أَبَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القاعدة الإملائية أن لفظ ابن إذا وقعت بين علمين حذفت الألف إلا إذا وقعت بين ذكر وأنثى أو كانت في =

 

ج / 3 ص -298-       مُحَمَّدٍ، أَسْلَمَ وَصَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِيمًا، فَكَانَ فَاضِلًا نَاسِكًا يَصُومُ الدَّهْرَ غَيْرَ أَيَّامِ النَّهْيِ رضي الله عنه.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ جَلَسَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَهَذَا الْجُلُوسُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ صِفَةِ الِافْتِرَاشِ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَجِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ وَجِلْسَةِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَجِلْسَةِ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَالْأُولَى وَالرَّابِعَةُ وَاجِبَتَانِ، وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ سُنَّتَانِ، وَالسُّنَّةُ: أَنْ يَجْلِسَ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ مُفْتَرِشًا، وَفِي الرَّابِعَةِ مُتَوَرِّكًا، فَلَوْ عَكَسَ جَازَ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَتَعَيَّنُ لِلْجُلُوسِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هَيْئَةٌ لِلْإِجْزَاءِ بَلْ كَيْفَ وُجِدَ أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ تَوَرَّكَ أَوْ افْتَرَشَ أَوْ مَدَّ رِجْلَيْهِ أَوْ نَصَبَ رُكْبَتَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَكِنَّ السُّنَّةَ التَّوَرُّكُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالِافْتِرَاشُ فِيمَا سِوَاهُ وَالِافْتِرَاشُ: أَنْ يَضَعَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسَ عَلَى كَعْبِهَا، وَيَنْصِبَ الْيُمْنَى وَيَضَعَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهَا عَلَى الْأَرْضِ مُوَجَّهَةً إلَى الْقِبْلَةِ، وَالتَّوَرُّكُ: أَنْ يُخْرِجَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا عَلَى هَيْئَةِ الِافْتِرَاشِ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ، وَيُمَكِّنَ وَرِكَهُ الْأَيْسَرَ مِنْ الْأَرْضِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالْجُلُوسِ لَهُ.
مَذْهَبُنَا: أَنَّهُمَا سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد: هُوَ وَاجِبٌ، قَالَ أَحْمَدُ: إنْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا - سَجَدَ لِلسَّهْوِ - وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ. وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ وَقَالَ:
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَقِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" بِأَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِلْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَقَدْ قَامَتْ دَلَائِلُ عَلَى تَمَيُّزِهِمَا وَأَجَابُوا عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ: بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى إخْرَاجِهِ عَنْ الْوُجُوبِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجْبُرُهُ سُجُودُ السَّهْوِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أول السطر أو كانت بين كنيتين فإذا قيل عبد الله بن بحينة ثبتت الألف كعيسى بن مريم ومحمد بن الحنفية وإسماعيل بن علية وهكذا (ط).

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدَيْنِ.
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مُفْتَرِشًا وَفِي الثَّانِي مُتَوَرِّكًا، فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ جَلَسَ مُتَوَرِّكًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجْلِسُ فِيهِمَا مُتَوَرِّكًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: يَجْلِسَ فِيهِمَا مُفْتَرِشًا، وَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانَتْ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ افْتَرَشَ وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا افْتَرَشَ فِي الْأَوَّلِ وَتَوَرَّكَ فِي الثَّانِي. وَاحْتَجَّ لِمَنْ قَالَ: يَفْرُشُ فِيهِمَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْرُشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى وَيَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ" وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ: "يَفْرُشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى" وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ: رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْرُشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى" وَاحْتَجَّ

 

ج / 3 ص -299-       لِلتَّوَرُّكِ بِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ الزُّبَيْرِ: رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ إذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى بَيْنَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "سُنَّةُ الصَّلَاةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى وَتَثْنِيَ الْيُسْرَى" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَى مَالِكٌ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ الْجُلُوسَ عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ سَبَقَ بِطُولِهِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ صَرِيحٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، وَبَاقِي الْأَحَادِيثِ مُطْلَقَةٌ فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مُوَافَقَتِهِ، فَمَنْ رَوَى التَّوَرُّكَ أَرَادَ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَمَنْ رَوَى الِافْتِرَاشَ أَرَادَ الْأَوَّلَ، وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَا سِيَّمَا وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ وَافَقَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحِكْمَةُ فِي الِافْتِرَاشِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالتَّوَرُّكِ فِي الثَّانِي: أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى تَذَكُّرِ الصَّلَاةِ وَعَدَمِ اشْتِبَاهِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ تَخْفِيفُ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَيَجْلِسُ مُفْتَرِشًا لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِلْقِيَامِ، وَالسُّنَّةُ تَطْوِيلُ الثَّانِي وَلَا قِيَامَ بَعْدَهُ، فَيَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا لِيَكُونَ أَعْوَنَ لَهُ وَأَمْكَنَ لِيَتَوَفَّرَ الدُّعَاءُ، وَلِأَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا رَآهُ عَلِمَ فِي أَيِّ التَّشَهُّدَيْنِ.
فرع: الْمَسْبُوقُ إذَا جَلَسَ مَعَ الْإِمَامِ فِي آخِرِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِيهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي "الْأُمِّ"، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْجُمْهُورُ: يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِآخِرِ صَلَاتِهِ، وَالثَّانِي: يَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ، حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَوَالِدُهُ وَالرَّافِعِيُّ الثَّالِثُ: إنْ كَانَ جُلُوسُهُ فِي مَحَلِّ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ لِلْمَسْبُوقِ افْتَرَشَ وَإِلَّا تَوَرَّكَ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ حِينَئِذٍ لِمُجَرَّدِ الْمُتَابَعَةِ فَيُتَابِعُ فِي الْهَيْئَةِ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.
وَإِذَا جَلَسَ مَنْ عَلَيْهِ سُجُودُ سَهْوٍ فِي آخِرِهِ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ: أَحَدُهُمَا: يَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ: يَفْتَرِشُ وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَآخَرُونَ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ مُعْظَمِ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفِزٌ لِيُتِمَّ صَلَاتَهُ، فَعَلَى هَذَا إذَا سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ تَوَرَّكَ ثُمَّ سَلَّمَ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَشَهَّدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، بِأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ 1الرُّكُوعِ يَتَشَهَّدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ يَفْتَرِشُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْهُنَّ وَيَتَوَرَّكُ فِي الرَّابِعَةِ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي في جلسة التشهد الوسطى فيجلس مع الإمام ثم يقوم للركعة الثالثة للإمام والأولى له ثم يجلس للتشهد مع الإمام تشهده الأخير ثم يسلم الإمام فيقوم هو إلى الركعة الثانية فيجلس لتشهده الأوسط ثم يصلي الثالثة ويتشهد لها التشهد الأخير فيكون بهذا قد جلس للتشهد أربع مرات في صلاة ثلاثية (ط).

 

ج / 3 ص -300-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْسُطَ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ [الْيُسْرَى] وَفِي الْيَدِ الْيُمْنَى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يَضَعُهَا عَلَى فَخِذِهِ [الْيُمْنَى] مَقْبُوضَةَ الْأَصَابِعِ إلَّا الْمُسَبِّحَةَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ إذَا قَعَدَ فِي التَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ".
وَرَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا جَلَسَ افْتَرَشَ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى وَوَضَعَ إبْهَامَهُ عِنْدَ الْوُسْطَى وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَوَضَعَ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى" وَكَيْفَ يَضَعُ الْإِبْهَامَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضَعُهَا بِجَنْبِ الْمُسَبِّحَةِ عَلَى حَرْفِ رَاحَتِهِ أَسْفَلَ مِنْ الْمُسَبِّحَةِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما. وَالثَّانِي: يَضَعُهَا عَلَى حَرْفِ أُصْبُعِهِ الْوُسْطَى لِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، "وَالْقَوْلُ الثَّانِي" قَالَهُ فِي "الْإِمْلَاءِ": يَقْبِضُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَالْوُسْطَى وَيَبْسُطُ الْمُسَبِّحَةَ وَالْإِبْهَامَ، لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. "وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ": أَنَّهُ يَقْبِضُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَيُحَلِّقُ الْإِبْهَامُ مَعَ الْوُسْطَى لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجُرٍ: رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "وَضَعَ مِرْفَقَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ عَقَدَ أَصَابِعَهُ الْخِنْصَرَ وَاَلَّتِي تَلِيهَا وَحَلَّقَ بِأُصْبُعِهِ الْوُسْطَى عَلَى الْإِبْهَامِ وَرَفَعَ السَّبَّابَةَ، وَرَأَيْتُهُ يُشِيرُ بِهَا".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ قَدَمَهُ بَيْنَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْهُ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَعَدَ يَدْعُو وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ [الْيُمْنَى] وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، وَوَضَعَ إبْهَامَهُ عَلَى أُصْبُعِهِ الْوُسْطَى، وَيُلْقِمُ كَفَّهُ الْيُسْرَى رُكْبَتَهُ" . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ فَاَلَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: "وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى [عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى] وَكَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ"، وَأَمَّا حَدِيثُ وَائِلٍ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِهِ وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَنَحْنُ نُخَيِّرُهُ وَنَخْتَارُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ لِثُبُوتِ خَبَرِهِمَا وَقُوَّةِ إسْنَادِهِمَا وَمَزِيَّةِ رِجَالِهِمَا وَرُجْحَانِهِمْ فِي الْفَضْلِ عَلَى عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ رَاوِي حَدِيثِ وَائِلٍ.
أَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَالْمُسَبِّحَةُ هِيَ السَّبَّابَةُ، سُمِّيَتْ مُسَبِّحَةً؛ لِإِشَارَتِهَا إلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَهُوَ التَّسْبِيحُ، وَسُمِّيَتْ سَبَّابَةً؛ لِأَنَّهُ يُشَارُ بِهَا عِنْدَ الْمُخَاصِمَةِ وَالسَّبِّ، وَقَوْلُهُ: "عَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ" شَرْطٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ أَنْ يَضَعَ طَرَفَ الْخِنْصَرِ عَلَى الْبِنْصِرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا هُنَا، بَلْ مُرَادُهُ أَنْ يَضَعَ الْخِنْصَرَ عَلَى الرَّاحَةِ كَمَا يَضَعُ الْبِنْصِرَ وَالْوُسْطَى عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ صِفَةَ الْإِبْهَامِ وَالْمُسَبِّحَةِ، وَتَكُونُ الْيَدُ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْحِسَابِ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ اتِّبَاعًا لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ وَالله أَعْلَمُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: السُّنَّةُ فِي التَّشَهُّدَيْنِ جَمِيعًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى

 

 

ج / 3 ص -301-       عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَالْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَيَنْشُرَ أَصَابِعَهُ الْيُسْرَى جِهَةَ الْقِبْلَةِ وَيَجْعَلَهَا قَرِيبَةً مِنْ طَرَفِ الرُّكْبَةِ بِحَيْثُ تُسَاوِي رُءُوسُهَا الرُّكْبَةَ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّجَ الْأَصَابِعَ أَمْ يَضُمَّهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: الْأَصَحُّ أَنْ يُفَرِّجَهَا تَفْرِيجًا مُقْتَصِدًا، وَلَا يُؤْمَرُ بِالتَّفْرِيجِ الْفَاحِشِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ "الشَّامِلِ" وَأَكْثَرِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: يَضَعُهَا مُوَجَّهَةً إلَى الْقِبْلَةِ، وَهَذَا الثَّانِي أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا: لَا يُؤْمَرُ بِضَمِّ الْأَصَابِعِ إلَّا فِي السُّجُودِ فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ وَالله أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْيُمْنَى فَيَضَعُهَا عَلَى طَرَفِ الرُّكْبَةِ الْيُمْنَى وَيَقْبِضُ خِنْصَرَهَا وَبِنَصْرِهَا وَيُرْسِلُ الْمُسَبِّحَةَ، وَفِيمَا يَفْعَلُ بِالْإِبْهَامِ وَالْوُسْطَى الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي حَكَاهَا الْمُصَنِّفُ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَأَنْكَرُوا عَلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ حَيْثُ حَكَيَاهَا أَوْجُهًا، وَهِيَ أَقْوَالٌ مَشْهُورَةٌ: أَحَدُهَا: يَقْبِضُ الْوُسْطَى مَعَ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ وَيُرْسِلُ الْإِبْهَامَ مَعَ الْمُسَبِّحَةِ، وَهَذَا نَصُّهُ فِي "الْإِمْلَاءِ" وَالثَّانِي: يُحَلِّقُ الْإِبْهَامَ وَالْوُسْطَى، وَفِي كَيْفِيَّةِ التَّحْلِيقِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ. قَالُوا أَصَحُّهُمَا: يُحَلِّقُهُمَا بِرَأْسِهِمَا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَالثَّانِي: يَضَعُ أُنْمُلَةَ الْوُسْطَى بَيْن عُقْدَتَيْ الْإِبْهَامِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْبِضُ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامَ أَيْضًا، وَفِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِ الْإِبْهَامِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يَضَعُهَا بِجَنْبِ الْمُسَبِّحَةِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَالثَّانِي: يَضَعُهَا عَلَى حَرْفِ أُصْبُعِهِ الْوُسْطَى كَأَنَّهُ عَاقِدٌ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَيْفَ فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى الْأَقْوَالِ وَالْأَوْجُهِ كُلِّهَا يُسَنُّ أَنْ يُشِيرَ بِمُسَبِّحَةِ يُمْنَاهُ فَيَرْفَعُهَا إذَا بَلَغَ الْهَمْزَةَ مِنْ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ اسْتِحْبَابَ الْإِشَارَةِ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُشِيرُ بِهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يُشِيرُ بِهَا فِي جَمِيعِ التَّشَهُّدِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَلْ يُحَرِّكُهَا عِنْدَ الرَّفْعِ بِالْإِشَارَةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ الصَّحِيحُ: الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يُحَرِّكُهَا، فَلَوْ حَرَّكَهَا كَانَ مَكْرُوهًا وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَالثَّانِي: يَحْرُمُ تَحْرِيكُهَا، فَإِنْ حَرَّكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، حَكَاهُ1 عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَالثَّالِث: يُسْتَحَبُّ تَحْرِيكُهَا، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ. وَقَدْ يُحْتَجُّ لِهَذَا بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ وَضْعَ الْيَدَيْنِ فِي التَّشَهُّدِ قَالَ "ثُمَّ رَفَعَ أُصْبُعَهُ فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا يَدْعُو بِهَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّحْرِيكِ الْإِشَارَةَ بِهَا لَا تَكْرِيرَ تَحْرِيكِهَا، فَيَكُونَ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إذَا دَعَا لَا يُحَرِّكُهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "تَحْرِيكُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل.

 

ج / 3 ص -302-       الْأُصْبُعِ فِي الصَّلَاةِ مَذْعَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ" فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ الْوَاقِدِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْفَخِذَيْنِ فِي التَّشَهُّدِ أَنْ يَمْنَعَهُمَا مِنْ الْعَبَثِ.

فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْإِشَارَةِ الْمُسَبِّحَةِ:
إحْدَاهَا: أَنْ تَكُونَ إشَارَتُهُ بِهَا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الثَّانِيَةُ: يَنْوِي بِالْإِشَارَةِ الْإِخْلَاصَ وَالتَّوْحِيدَ، ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ فِي "مُخْتَصَرِهِ" وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثٍ فِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ عَنْ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُشِيرُ بِهَا لِلتَّوْحِيدِ" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: هُوَ الْإِخْلَاصُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "مَقْمَعَةُ الشَّيْطَانِ" الثَّالِثَةُ: يُكْرَهُ أَنْ يُشِيرَ بِالسَّبَّابَتَيْنِ مِنْ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ سُنَّةَ الْيُسْرَى أَنْ تَسْتَمِرَّ مَبْسُوطَةً الرَّابِعَةُ: لَوْ كَانَتْ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً سَقَطَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ فَلَا يُشِيرُ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَرْكُ السُّنَّةِ فِي غَيْرِهَا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ الْمُتَوَلِّي وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ لَا يَتَدَارَكُهُ فِي الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهَا تَرْكُ الرَّمَلِ، وَقَدْ سَبَقَتْ لَهُ نَظَائِرُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ إشَارَتَهُ، وَاحْتَجَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ الزُّبَيْرِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ وَلَا يُجَاوِزُ إشَارَتَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالله أَعْلم.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَتَشَهَّدُ وَأَفْضَلُ التَّشَهُّدِ أَنْ يَقُولَ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ، فَيَقُولُ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ" وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قُلْنَاهُ. وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ رحمه الله تعالى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ الله وَبِالله التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه1 عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ. وَذِكْرُ التَّسْمِيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَأَقَلُّ مَا يُجْزِي مِنْ ذَلِكَ خَمْسُ كَلِمَاتٍ وَهِيَ: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله" لِأَنَّ هَذَا يَأْتِي عَلَى مَعْنَى الْجَمِيعِ.
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي التَّشَهُّدِ أَحَادِيثُ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ
"كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَالْتَفَتَ إلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اللَّهُ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ - فَإِنَّكُمْ إذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ - أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ فَيَدْعُو" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: "كُنَّا نَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى الله مِنْ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكر متن الحديث وقد ساقه الشارع عند تخريج أحاديث الفصل (ط).

 

ج / 3 ص -303-       فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَى الله، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ كَمَا يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
"قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ، فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد نَحْوَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي - بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ يَقُولُ "قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ". وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "كَانَتْ إذَا تَشَهَّدَتْ قَالَتْ: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ" صَحِيحٌ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ".
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّشَهُّدِ وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ، وَأَشَدُّهَا صِحَّةً بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ثُمَّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَبِأَيِّهَا تَشَهَّدَ أَجْزَأَهُ لَكِنَّ تَشَهُّدَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفْضَلُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَأَفْضَلُ التَّشَهُّدِ أَنْ يَقُولَ إلَى آخِرِهِ فَقَوْلُهُ: أَفْضَلُ التَّشَهُّدِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِزِيَادَةِ لَفْظَةِ الْمُبَارَكَاتِ، وَلِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِ الله تَعَالَى:
{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وَلِقَوْلِهِ: كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَرَجَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَقْرَانِهِ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَضْرَابِهِ.
وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاخْتَارَ مَالِكٌ تَشَهُّدَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي فِي أَوَّلِهِ بِاسْمِ الله وَبِالله فَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُمْ وَكَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ، وَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيِّ، وَرَوَى التَّسْمِيَةَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ وَضَعَّفَهَا، وَنُقِلَ تَضْعِيفُهُ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ الله فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ صَحِيحٌ وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّ الَّذِينَ ضَعَّفُوهُ أَحْمَلُ مِنْ الْحَاكِمِ وَأَتْقَنُ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَسُمِّيَ التَّشَهُّدَ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ: التَّحِيَّاتُ جَمْعُ تَحِيَّةٍ، قَالَ

 

ج / 3 ص -304-       الْأَزْهَرِيُّ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُلْكُ، وَقِيلَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ، وَقِيلَ: السَّلَامَةُ وَتَقْدِيرُهُ السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ حَكَاهَا الْأَزْهَرِيُّ، وَقِيلَ: التَّحِيَّةُ الْحَيَا وَالْأَوَّلُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَآخَرُونَ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إنَّمَا قِيلَ التَّحِيَّاتُ بِالْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ تَحِيَّةٌ يُحَيَّا بِهَا فَقِيلَ لَنَا: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، أَيْ الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمُلْكِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. قَالَ الْبَغَوِيّ فِي "شَرْحِ السُّنَّةِ": لِأَنَّ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يُحَيُّونَ بِهِ الْمُلُوكَ لَا يَصْلُحُ لِلثَّنَاءِ عَلَى الله تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ قَالُوا: تَقْدِيرُهُ وَالْمُبَارَكَاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ بِالْوَاوِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ، وَلَكِنْ حُذِفَتْ الْوَاوُ وَحَذْفُ وَاوِ الْعَطْفِ جَائِزٌ.
قَوْلُهُ: "الصَّلَوَاتُ" قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْعِبَادَاتُ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: الْأَدْعِيَةُ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّلَوَاتُ الشَّرْعِيَّةُ، وَقِيلَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي "الْإِشْرَافِ" وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" و"الْبَيَانِ"، قَالَ صَاحِبُ "الْمَطَالِعِ": عَلَى هَذَا تَقْدِيرُ الصَّلَوَاتِ لِلَّهِ مِنْهُ أَيْ هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهَا، وَقِيلَ الْمَعْبُودُ بِهَا. قَوْلُهُ: "الطَّيِّبَاتُ" قِيلَ مَعْنَاهُ الطَّيِّبَاتُ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الله تَعَالَى وَذِكْرٌ لَهُ، قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَآخَرُونَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ مَا طَابَ وَحَسُنَ مِنْ الْكَلَامِ فَيَصْلُحُ أَنْ يُثْنِيَ بِهِ عَلَيْهِ، وَيُدْعَى بِهِ دُونَ مَا لَا يَلِيقُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ بَطَّالٍ وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ": مَعْنَاهُ الصَّالِحَةُ. قَوْلُهُ: "سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ اسْمُ السَّلَامِ أَيْ اسْمُ الله عَلَيْكَ: وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ تَسْلِيمًا وَسَلَامًا، وَمَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَلِمَ مِنْ الْآفَاتِ كُلِّهَا. قَوْلُهُ "السَّلَامُ عَلَيْنَا" لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ كَلَامًا فِي الضَّمِيرِ فِي عَلَيْنَا، وَفَاوَضْتُ فِيهِ كِبَارًا فَحَصَلَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَاضِرُونَ مِنْ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُهُ: "وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ" الْعِبَادُ جَمْعُ عَبْدٍ، رَوَيْنَا عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ فِي رِسَالَتِهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ يَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا اسْمٌ أَتَمَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْوَصْفِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَكَانَتْ أَشْرَفَ أَوْقَاتِهِ
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1] وَقَالَ تَعَالَى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وَالصَّالِحُونَ جَمْعُ صَالِحٍ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَصَاحِبُ "الْمَطَالِعِ": هُوَ الْقَائِمُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الله وَحُقُوقِ عِبَادِهِ وَقَوْلُهُ "أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" مَعْنَاهُ أَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ، قَوْلُهُ: "رَسُولُ الله" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّسُولُ هُوَ الَّذِي يُتَابِعُ أَخْبَارَ مَنْ بَعَثَهُ، وَقَالَ، غَيْرُهُ: لِتَتَابُعِ الْوَحْيِ إلَيْهِ وَالله أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: "لِمَا رَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" كَذَا وَقَعَ فِي "الْمُهَذَّبِ"، وَفِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ "عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ: بِسْمِ الله وَبِالله، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ" إلَى آخِرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ "لِأَنَّ هَذَا يَأْتِي عَلَى مَعْنَى الْجَمِيعِ" فَيُنَازَعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّحِيَّاتِ لَا يَتَضَمَّنُ الْمُبَارَكَاتِ وَالصَّلَوَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَأَكْمَلُ التَّشَهُّدِ عِنْدَنَا تَشَهُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِكَمَالِهِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْكَلَامِ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ ثُمَّ تَشَهُّدُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَقَدْ بَيَّنَّا الْجَمِيعَ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا غَرِيبًا أَنَّ

 

ج / 3 ص -305-       الْأَفْضَلَ أَنْ يَقُولَ: "التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الزَّاكِيَاتُ وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ" لِيَكُونَ جَامِعًا لَهَا كُلَّهَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَقُولَ فِي أَوَّلِهِ: بِسْمِ الله وَبِالله التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى آخِرِهِ، وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الشَّافِعِيُّ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ فِيهَا. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ التَّسْمِيَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ بِهَا غَيْرُهُمَا مِنْ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا أَقَلُّ التَّشَهُّدِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: أَقَلُّهُ "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله وَقَالَ جَمَاعَةٌ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ كَذَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالرُّويَانِيُّ وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ، قَالَ: وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالصَّيْدَلَانِيّ فَأَسْقَطَا قَوْلَهُ وَبَرَكَاتُهُ، وَقَالَا: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله "قُلْتُ": وَكَذَا رَأَيْتُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْأُمِّ" كَمَا نَقَلَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَكَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" عَنْ "الْأُمِّ" وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ أَقَلُّهُ: "وَالتَّحِيَّاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، سَلَامٌ عَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ" وَأَسْقَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ لَفْظَ السَّلَامِ الثَّانِي فَقَالَ: "وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ" وَأَسْقَطَ بَعْضُهُمْ الصَّالِحِينَ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الله الْحَلِيمِيِّ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ تَكَرَّرَ فِي الْأَحَادِيثِ وَلَمْ يَسْقُطْ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، فَيَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ كُلِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ يَتَعَيَّنُ لَفْظَةُ التَّحِيَّاتِ لِثُبُوتِهَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِخِلَافِ الْمُبَارَكَاتِ وَمَا بَعْدَهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ لِسُقُوطِ لَفْظَةِ "وَأَشْهَدُ" رِوَايَةُ أَبِي مُوسَى السَّابِقَةُ، وَأَمَّا إسْقَاطُ الصَّالِحِينَ فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالسَّلَامِ عَلَى كُلِّ الْعِبَادِ هُنَا بَلْ خَصَّ بِهِ الصَّالِحِينَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ إسْقَاطُ عَلَيْنَا خَطَأً أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّالِحِينَ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: وُجُوبُهُمَا وَالثَّانِي: حَذْفُهُمَا وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَفِي عَلَيْنَا الصَّالِحِينَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: وُجُوبُهُمَا وَالثَّانِي: حَذْفُهُمَا وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الصَّالِحِينَ دُونَ عَلَيْنَا، وَفِي الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله وَالثَّالِثُ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: وَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ فِي التَّشَهُّدِ "سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، سَلَامٌ عَلَيْنَا" بِتَنْكِيرِ سَلَامٍ فِي "الْمَوْضِعَيْنِ" وَكَذَا هُوَ فِي "الْبُوَيْطِيِّ" وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي "التَّنْبِيهِ" وَآخَرُونَ وَكَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْأَصْحَابِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، السَّلَامُ عَلَيْنَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِمَا، وَكَذَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ وَأَكْثَرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَوَقَعَ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ": السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، سَلَامٌ عَلَيْنَا، بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذَا جَائِزٌ لَكِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ أَفْضَلُ لِكَثْرَتِهِ فِي الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَلِزِيَادَتِهِ فَيَكُونُ أَحْوَطَ، وَلِمُوَافَقَتِهِ سَلَامَ

 

ج / 3 ص -306-       التَّحَلُّلِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: قَالَ فِي "الْأُمِّ": وَإِنْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ مَعَ تَرْكِ التَّرْتِيبِ، وَيُسْتَحَبُّ إذَا بَلَغَ الشَّهَادَةَ أَنْ يُشِيرَ بِالْمُسَبِّحَةِ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَوَائِلِ بْنِ حُجُرٍ رضي الله عنهم وَهَلْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا التَّشَهُّدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي "الْقَدِيمِ": لَا يُصَلِّي؛ لِأَنَّهَا لَوْ شُرِعَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ عَلَيْهِ لَشُرِعَتْ عَلَى آلِهِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَقَالَ فِي "الْأُمِّ": يُصَلِّي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قُعُودٌ شُرِعَ فِيهِ فَشُرِعَ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَالْقُعُودِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ".
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: "قُعُودٌ شُرِعَ فِيهِ التَّشَهُّدُ" احْتِرَازٌ مِنْ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَمِنْ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ ثَلَاثُ مَسَائِلَ إحْدَاهَا: اسْتِحْبَابُ الْإِشَارَةِ بِالْمُسَبِّحَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفُرُوعِهَا وَبَيَانُ أَحَادِيثِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي السَّابِقِ الثَّانِيَةُ: لَفْظُ التَّشَهُّدِ مُتَعَيَّنٌ فَلَوْ أَبْدَلَهُ بِمَعْنَاهُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى لَفْظِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ عَجَزَ أَجْزَأَتْهُ تَرْجَمَتُهُ وَعَلَيْهِ التَّعَلُّمُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلِ التَّكْبِيرِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَجْهًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بَدَلَ أَشْهَدُ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ كَسَائِرِ الْكَلِمَاتِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّشَهُّدِ مُرَتَّبًا فَإِنْ تَرَكَ تَرْتِيبَهُ نُظِرَ إنْ غَيَّرَهُ تَغْيِيرًا مُبْطِلًا لِلْمَعْنَى لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ إنْ تَعَمَّدَهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ فَطَرِيقَانِ الْمَذْهَبُ: صِحَّتُهُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي "الْأُمِّ" وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَالثَّانِي: فِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ وَقِيلَ قَوْلَانِ حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَصَاحِبُ "الْحَاوِي" وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ فِي التَّشَهُّدِ "أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ" وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا.
الثَّالِثَةُ: هَلْ تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَقِبَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ "الْقَدِيمُ" لَا يُشْرَعُ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالشُّعَبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ. "وَالْجَدِيدُ" الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ تُشْرَعُ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ. وَحَكَى الْمَحَامِلِيُّ فِي "الْمَجْمُوعِ" طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هَذَا وَالثَّانِي: يُسَنُّ قَوْلًا وَاحِدًا وَحَكَى صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلَانِ وَالثَّانِي: لَا يُسَنُّ قَوْلًا وَاحِدًا فَحَصَلَ ثَلَاثُ طُرُقٍ الْمَشْهُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُسَنُّ وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْأُمِّ" و "الْإِمْلَاءِ" وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْآلِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ لَا يُشْرَعُ وَالثَّانِي: حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى وُجُوبِهَا فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبْهَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَمْ تُشْرَعْ هُنَا، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الرَّافِعِيُّ فَإِنْ قُلْنَا لَا تُسَنُّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَلَا فِي الْقُنُوتِ فَفَعَلَهَا فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ أَوْجَبْنَاهَا عَلَى الْأُولَى فِي الْأَخِيرِ وَلَمْ نَسُنَّهَا فِي الْأَوَّلِ فَإِنْ أَتَى بِهَا فِيهِ فَقَدْ نَقَلَ رُكْنًا إلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

 

ج / 3 ص -307-       فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عَلَى لَفْظِ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْآلِ إذَا سَنَنَّاهُمَا، فَيُكْرَهُ أَنْ يَدْعُوَ فِيهِ أَوْ يُطَوِّلَهُ بِذِكْرٍ آخَرَ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ سَوَاءٌ طَوَّلَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، هَكَذَا نَقَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهَا. وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ: صلى الله عليه وسلم "كَانَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ قَالُوا: حَتَّى يَقُومَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ أَبَاهُ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَقُومُ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ، لِمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يُصَلِّي مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ مِثْلَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا فِيمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْجَهْرِ وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ.
الشرح:
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَقُومُ إلَى الثَّالِثَةِ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَسَبَقَ بَيَانُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَدَلِيلُنَا وَدَلِيلُهُمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَقُومُ مُكَبِّرًا وَيَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ مِنْ حِينِ يَبْتَدِئُ الْقِيَامَ وَيَمُدُّهُ إلَى أَنْ يَنْتَصِبَ قَائِمًا، وَقَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ حِكَايَةُ قَوْلٍ نَقَلَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ أَنَّهُ لَا يَمُدُّهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ كَوْنُهُ تَرَكَ ذِكْرَ التَّكْبِيرِ، وَهُوَ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِحْبَابِ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ مِنْ الْقِيَامِ هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: هَكَذَا وَالثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنَّ شِرْعَتَهُ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ فِي حَالِ قِيَامِهِ، فَإِذَا انْتَصَبَ قَائِمًا ابْتَدَأَ التَّكْبِيرَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ الْمَالِكِيُّ: وَهَذَا الَّذِي يُوَافِقُ الْجُمْهُورَ أَوْلَى. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْآثَارُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: ثُمَّ يُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ كَالثَّانِيَةِ إلَّا فِي الْجَهْرِ وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ سَبَقَا هَلْ تُشْرَعُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ شُرِعَتْ فَهِيَ أَخَفُّ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الثَّانِيَةِ كَمَا سَبَقَ وَجْهَانِ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إذَا قَامَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَوْ الصَّوَابَ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَبَسَطْنَا دَلَائِلَهُ، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِذَا بَلَغَ آخِرَ الصَّلَاةِ جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ وَتَشَهَّدَ، وَهُوَ فَرْضٌ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: السَّلَامُ عَلَى الله قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَى الله، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ".
الشرح:
إذَا بَلَغَ آخِرَ صَلَاتِهِ جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ وَتَشَهَّدَ، وَهَذَا الْجُلُوسُ وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ فَرْضَانِ عِنْدَنَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِمَا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْجُلُوسُ بِقَدْرِ التَّشَهُّدِ وَاجِبٌ وَلَا يَجِبُ التَّشَهُّدُ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ وَلَا جُلُوسُهُ إلَّا أَنَّ الزُّهْرِيَّ وَمَالِكًا وَالْأَوْزَاعِيَّ

 

ج / 3 ص -308-       قَالُوا لَوْ تَرَكَهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ أَنَّ الْوَاجِبَ الْجُلُوسُ بِقَدْرِ السَّلَامِ فَقَطْ. وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَبِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ1 ابْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الْأَفْرِيقِيِّ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم إذَا قَعَدَ الْإِمَامُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يَتَشَهَّدَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ" وَفِي رِوَايَةٍ "ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَأَلْفَاظُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَوْقُوفًا وَقِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالتَّسْبِيحِ لِلرُّكُوعِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ صَحِيحٌ بِهَذَا اللَّفْظِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَا: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ" وَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ صَرِيحٌ فِي خِلَافِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّ التَّشَهُّدَ شَبِيهٌ بِالْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ لَا تَتَمَيَّزُ الْعِبَادَةُ مِنْهُمَا عَنْ الْعَادَةِ فَوَجَبَ فِيهِمَا ذِكْرٌ لِيَتَمَيَّزَ، بِخِلَافِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ لَهُ النِّيَّةَ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُعُودَ لِلتَّشَهُّدِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ السَّلَامَ، وَقَدْ وَافَقَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، مِمَّنْ نَصَّ عَلَى ضَعْفِهِ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إسْنَادُهُ بِقَوِيٍّ، وَقَدْ اضْطَرَبُوا فِيهِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَضَعْفُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ "أَنَّهُ" مُضْطَرِبٌ، وَالْأَفْرِيقِيُّ ضَعِيفٌ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، وَبَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو وَأَمَّا الْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَضَعِيفٌ أَيْضًا ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ. وَعَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَبَرَ تَرْكَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَمْ يُجْبَرْ وَلَمْ يَجُزْ هَذَا التَّشَهُّدُ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ2 وَلَمْ يَزَلْ الْمُسْلِمُونَ يَجْبُرُونَ الْأَوَّلَ بِالسُّجُودِ دُونَ الثَّانِي وَالله أَعْلَمُ.
فرع: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْإِسْرَارِ بِالتَّشَهُّدَيْنِ وَكَرَاهَةِ الْجَهْرِ بِهِمَا، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُخْفِي التَّشَهُّدَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ"، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني أبو أيوب قاضي أفريقية عن أبيه وعنه ابن المبارك وابن وهب وثقه يحيى بن سعيد القطان واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وقال يعقوب بن شيبة: رجل صالح من الآمرين بالمعروف وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه وقال البخاري: هو مقارب الحديث قلت: مات سنة 156 (ط).
2 بياض بالأصل ولعله في كتاب "الأساليب" (ط).

 

ج / 3 ص -309-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالسُّنَّةُ فِي هَذَا الْقُعُودِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَرِّكًا فَيُخْرِجُ رِجْلَهُ مِنْ جَانِبِ وَرِكِهِ الْأَيْمَنِ، وَيَضَعُ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا جَلَسَ فِي الْأُولَيَيْنِ جَلَسَ عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَإِذَا جَلَسَ فِي الْأَخِيرِ جَلَسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَجَعَلَ بَطْنَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى تَحْتَ مَأْبِضِ الْيُمْنَى، وَنَصَبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى" وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ فِي هَذَا التَّشَهُّدِ يَطُولُ فَكَانَ التَّوَرُّكُ فِيهِ أَمْكَنَ وَالْجُلُوسُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ يَقْصُرُ فَكَانَ الِافْتِرَاشُ فِيهِ أَشْبَهَ، وَيَتَشَهَّدُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشرح:
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ سَبَقَتْ بِدَلَائِلِهَا وَفُرُوعِهَا، وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فَرْضٌ فِي هَذَا الْجُلُوسِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً إلَّا بِطَهُورٍ، وَبِالصَّلَاةِ عَلَيَّ" وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ [كَمَا1 صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ] كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ [أَنْ يَقُولَ]: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى آلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ قَالَ: "قَالُوا: يَا رَسُولَ الله كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ[عَلَى أَزْوَاجِهِ] وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ لِلْإِجْمَاعِ.
الشرح:
الَّذِي أَرَاهُ تَقْدِيمَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: قَدْ عَلِمْنَا أَوْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد "كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ - وَكَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ" وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ الله كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدُ مَجِيدٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُهُ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي وَسَطِ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْحُفَّاظِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْكِبَارِ عَزَاهُ إلَى الْبُخَارِيِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِيهِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش. و. ق. (ط).

 

ج / 3 ص -310-       التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَهِيَ لِمَا يَدُهُ حَيِيَّةٌ1.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
"أَتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ فَسَكَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمِ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَفِي رِوَايَةٍ: "كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" رَوَاهَا أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ الله فِي "صَحِيحَيْهِمَا" وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِهَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ: إذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ إبْرَاهِيمَ إنَّمَا فِيهَا كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ. وَعَنْ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ:
"سَمِعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدْ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم عَجِلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ الله وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ - بِكَسْرِ الْحَاءِ - وَأَبُو عَبْدِ الله الْحَاكِمُ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" وَغَيْرُهُمَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ - بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَبِالرَّاءِ - فَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ وَيُقَالُ أَبُو عَبْدِ الله، وَيُقَالُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ عُجْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ السَّالِمِيُّ، شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَقِيلَ إحْدَى وَخَمْسِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: "حَمِيدٌ مَجِيدٌ" قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْمَعَانِي وَالْمُفَسِّرُونَ: الْحَمِيدُ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، وَهُوَ الَّذِي تُحْمَدُ أَفْعَالُهُ، وَالْمَجِيدُ الْمَاجِدُ وَهُوَ مَنْ كَمُلَ فِي الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ وَالصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْمَسْأَلَةِ: فَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَرْضٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا إلَّا مَا سَأَذْكُرُهُ عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الْآلِ وَجْهَانِ، وَحَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ قَوْلَيْنِ، وَالْمَشْهُورُ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ وَالثَّانِي: تَجِبُ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجُمْهُورُ قَائِلَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ، وَأَبُو الْفَتْحِ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ فِي تَقْرِيبِهِ وَصَاحِبُهُ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ فِي "تَهْذِيبِهِ" وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" فَقَالُوا: هُوَ قَوْلُ التُّرْبَجِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا - بِمُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ - وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْآلِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر ولعله "وهي إلى حميد مجيد" (ط).

 

ج / 3 ص -311-       مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِالْآلِ الْأَهْلَ وَهُمْ الْأَزْوَاجُ وَالذُّرِّيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي فَرْعٍ مُسْتَقِلٍّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله وَغَيْرُهُ "وَهَذَا الْوَجْهُ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ" قِيلَ قَائِلُهُ: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْآلِ لَا تَجِبُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَالْأَفْضَلُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ مَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَأَمَّا أَقَلُّ الصَّلَاةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: هُوَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَوْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَى مُجَمَّد فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ "الْحَاوِي". قَالَ: وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ"، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ عَلَى أَحْمَدَ أَجْزَأَهُ. وَكَذَا قَطَعَ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ أَجْزَأَهُ، قَالَ: وَفِي وَجْهٍ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ، وَالْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ فِي التَّشَهُّدِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله قَالَ: وَهَذَا نَظَرٌ إلَى الْمَعْنَى وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ": لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى أَحْمَدَ أَوْ النَّبِيِّ، بَلْ تَسْمِيَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاجِبَةٌ. قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: وَأَقَلُّ الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ التَّشَهُّدِ، وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي بَيَانِ آلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَأْمُورِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا الصَّحِيحُ: فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي حَرْمَلَةَ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ عِتْرَتُهُ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ أَوْلَادُ فَاطِمَةَ رضي الله عنها وَنَسْلُهُمْ أَبَدًا، حَكَاهُ الْأَزْهَرِيُّ وَآخَرُونَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ التَّابِعِينَ لَهُ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَآخَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الصَّحَابِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا بِقَوْلِ الله تَعَالَى:
{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وَالْمُرَادُ جَمِيعُ أَتْبَاعِهِ كُلِّهِمْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيُحْتَجُّ لَهُمْ بِقَوْلِ الله تَعَالَى لِنُوحٍ صلى الله عليه وسلم: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: 40] وَ {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 45- 46] فَأَخْرَجَهُ بِالشِّرْكِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ نُوحٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا فَقَالَ: الَّذِي نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الَّذِينَ أَمَرْنَاكَ بِحَمْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27] فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ

 

ج / 3 ص -312-       أَمَرَهُ أَنْ لَا يَحْمِلَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ: "جِئْتُ أَطْلُبُ عَلِيًّا رضي الله عنه فَلَمْ أَجِدْهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها: انْطَلَقَ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ فَاجْلِسْ، قَالَ: فَجَاءَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَا فَدَخَلْتُ مَعَهُمَا، فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَأَجْلَسَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى فَخِذِهِ، وَأَدْنَى فَاطِمَةَ مِنْ حِجْرِهِ وَزَوْجَهَا، ثُمَّ لَفَّ عَلَيْهِمْ ثَوْبَهُ، وَأَنَّهُ مُنْتَبِزٌ، فَقَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي، اللَّهُمَّ أَهْلِي حَقٌّ، قَالَ وَاثِلَةُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله وَأَنَا مِنْ أَهْلِكَ؟ قَالَ: وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِي، قَالَ وَاثِلَةُ: إنَّهَا لَمِنْ أَرْجَى مَا أَرْجُوهُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ، قَالَ وَهُوَ إلَى تَخْصِيصِ وَاثِلَةَ بِذَلِكَ أَقْرَبُ مِنْ تَعْمِيمِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا بِهِ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ وَاثِلَةَ فِي حُكْمِ الْأَهْلِ تَشْبِيهًا بِمَنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ لَا تَحْقِيقًا.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرْمُزَةَ نَافِعٌ السُّلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ: مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: كُلُّ مؤمن تَقِيٍّ. فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا ضَعِيفٌ، لَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرْمُزَةَ كَذَّبَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ وَالْأَصْحَابُ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْآلُ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهَا فَرْضٌ فِيهِ، وَنَقَلَهُ أَصْحَابُنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ رضي الله عنهما، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنهما، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَعَنْ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَجُمْلَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِهِ أَقُولُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ: إنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا رَجَوْتُ أَنْ تُجْزِئَهُ. وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ "الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ" وَبِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَإِذَا فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الصَّلَاةَ وَأَوْلَى الْأَحْوَالِ بِهَا حَالُ الصَّلَاةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْآيَةُ تَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ "الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ" بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ التَّشَهُّدَ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَكَرِهِمَا كَمَا لَمْ يَذْكُرْ الْجُلُوسَ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِهِ وَإِنَّمَا تُرِكَتْ النِّيَّةُ لِلْعِلْمِ بِهَا، وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، وَسَيَأْتِي إيضَاحُ إدْرَاجِهَا وَقَوْلُ الْحُفَّاظِ فِيهِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ السَّلَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَدْعُو بِمَا أَحَبَّ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْ أَرْبَعٍ عَذَابِ النَّارِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ

 

ج / 3 ص -313-       الدَّجَّالِ، ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا بَدَا لَهُ، فَإِنْ كَانَ إمَامًا لَمْ يُطِلْ الدُّعَاءَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْعُوَ لِمَا رَوَى عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ دُونَ قَوْلِهِ: "ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا بَدَا لَهُ" وَالْبَيْهَقِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعَذَابُ كُلُّ مَا يُضْنِي1 الْإِنْسَانَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ وَسُمِّيَ عَذَابًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ، وَيَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ مِثْلِ مَا فَعَلَهُ "وَقَوْلُهُ" فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ أَيْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْمَسِيحِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ الصَّوَابُ فِي ضَبْطِهِ. وَقِيلَ أَشْيَاءُ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ نَبْسُطُهَا فِي "تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ: الْمَسِيحُ هُوَ الْمَمْسُوحُ الْعَيْنِ، وَبِهِ سُمِّيَ الدَّجَّالُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَقِيلَ الْمَسِيحُ الْأَعْوَرُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ: الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ وَالدَّجَّالُ مِنْ الدَّجْلِ، وَهُوَ التَّغْطِيَةُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَمْوِيهِهِ وَتَغْطِيَتِهِ الْحَقَّ بِبَاطِلِهِ وَتَجَنُّبِهِ لَهُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: "أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ" أَيْ يُقَدِّمُ مَنْ لَطَفَ بِهِ إلَى رَحْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ بِفَضْلِهِ وَيُؤَخِّرُ مَنْ شَاءَ عَنْ ذَلِكَ بِعَدْلِهِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَبْلَ السَّلَامِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِمَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَلَكِنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ أَفْضَلُ وَلَهُ الدُّعَاءُ بِالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَالْمَأْثُورَةِ فِي غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ، وَبِمَا يُرِيدُهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ وَالِدِهِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ فِي قَوْلِ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي جَارِيَةً صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا وَيَمِيلُ إلَى مَنْعِهِ وَأَنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ كُلُّ ذَلِكَ وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَدَلِيلُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي فَرْعٍ مُفْرَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ" وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا الدُّعَاءِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ"، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِلْإِمَامِ وَهَذَا غَلَطٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلِنُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": أُحِبُّ لِكُلِّ مُصَلٍّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذِكْرَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَدُعَاءَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَأَرَى أَنْ يَكُونَ زِيَادَةُ ذَلِكَ إنْ كَانَ إمَامًا أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَلِيلًا لِلتَّخْفِيفِ عَمَّنْ خَلْفَهُ، وَأَرَى أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ وَحْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كانت في جميع النسخ "ما يفنى" وأظنها من التصحيف والصواب "ما يضنى" لأنه ليس من لازم الفناء ولا العكس (ط).

 

ج / 3 ص -314-       أَكْرَهُ مَا أَطَالَ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ إلَى سَهْوٍ أَوْ يَخَافُ بِهِ سَهْوًا وَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَرِهْتُ ذَلِكَ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ، هَذَا نَصُّهُ نَقَلْتُهُ مِنْ "الْأُمِّ" بِحُرُوفِهِ وَفِيهِ فَوَائِدُ، وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي أَدْعِيَةٍ صَحِيحَةٍ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ مِنْهَا: حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ، فَيَدْعُو" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ "ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ "ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِالله مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ "إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِالله مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ". وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَشَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ" وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ: صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ، فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
"أَنَّ رَسُولَ الله: صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ، كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ: قُولُوا: اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ طَاوُسًا قَالَ لِابْنِهِ دَعَوْتَ بِهِ فِي صَلَاتِكَ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ أَعِدْ صَلَاتَكَ. وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهم قَالَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: "عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: ظُلْمًا كَثِيرًا - هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ - فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَبِيرًا بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالُ كَبِيرًا، وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ وَخَلَائِقُ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الدُّعَاءِ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ.
وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ، أَمَا إنِّي لَا أُحْسِنَ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الدَّنْدَنَةُ كَلَامٌ لَا يُفْهَمُ ، وَمَعْنَى حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ أَيْ حَوْلَ سُؤَالَيْهِمَا إحْدَاهُمَا: سُؤَالُ طَلَبٍ وَالثَّانِيَةُ: سُؤَالُ رَهَبٍ

 

ج / 3 ص -315-       وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْتُهُ كِفَايَةٌ وَبِالله التَّوْفِيقُ.
فرع: قَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بَيَانُ حُكْمِ الدُّعَاءِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِيمَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ. مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ فِيهَا بِكُلِّ مَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَلَهُ1: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي كَسْبًا طَيِّبًا وَوَلَدًا وَدَارًا وَجَارِيَةً حَسْنَاءَ يَصِفُهَا، وَاللهمَّ خَلِّصْ فُلَانًا مِنْ السِّجْنِ وَأَهْلِكْ فُلَانًا وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ إلَّا بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقُرْآنِ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ بِمَا يُطْلَبُ مِنْ آدَمِيٍّ؟ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إنْ دَعَا بِمَا يَقْصِدُ بِهِ اللَّذَّةَ وَشِبْهَ كَلَامِ الْآدَمِيِّ كَطَلَبِ جَارِيَةٍ وَكَسْبٍ طَيِّبٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ" وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ "فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" وَهُمَا صَحِيحَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فَأَطْلَقَ الْأَمْرَ بِالدُّعَاءِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ فَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يُسَمَّى دُعَاءً، وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا فِي مَوَاضِعَ بِأَدْعِيَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَجْرَ فِيهِ. وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ التَّشَهُّدِ: "ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ مَا أَعْجَبَهُ وَأَحَبَّهُ إلَيْهِ، وَمَا شَاءَ" وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَمَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ "ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ" قَالَ النَّسَائِيُّ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ:
"اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَمَسْلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "اللَّهُمَّ الْعَنْ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" وَهَؤُلَاءِ قَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ، وَالْأَحَادِيثُ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ كَثِيرَةٌ. وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِ النَّاسِ، وَعَنْ التَّشْمِيتِ وَرَدِّ السَّلَامِ أَنَّهُمَا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمَا خِطَابٌ لِآدَمِيٍّ بِخِلَافِ، الدُّعَاءِ، وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ جَلَسَ فِي آخِرِهَا مُتَوَرِّكًا وَتَشَهَّدَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَدَعَا عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي التَّشَهُّدِ ؛ لِأَنَّهُ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ لَمْ يُشْرَعْ فِيهَا الْقِرَاءَةُ فَكُرِهَتْ فِيهَا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
الشرح
: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ كُلَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى ثُمَّ يُسَلِّمُ وَهُوَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ" وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيْ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ فِيهِ نُطْقٌ كَالطَّرَفِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني وله أن يقول

 

ج / 3 ص -316-       الْأَوَّلِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ، وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، لِمَا رَوَى عَبْدُ الله رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، وَعَنْ يَسَارِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا".
وَقَالَ فِي "الْقَدِيمِ": إنْ اتَّسَعَ الْمَسْجِدُ وَكَثُرَ النَّاسُ سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَإِنْ صَغُرَ الْمَسْجِدُ وَقَلَّ النَّاسُ سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ: رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَلِأَنَّ السَّلَامَ لِلْإِعْلَامِ بِالْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَثُرَ النَّاسُ كَثُرَ اللَّغَطُ فَيُسَلِّمُ اثْنَتَيْنِ لِيُبَلِّغَ وَإِذَا قَلَّ النَّاسُ كَفَاهُمْ الْإِعْلَامُ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِي تَسْلِيمَةٍ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ تَسْلِيمَةٌ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ يَحْصُلُ بِتَسْلِيمَةٍ، فَإِنْ قَالَ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ كَمَا يُجْزِئُهُ فِي التَّشَهُّدِ وَإِنْ قَدَّمَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ مُرَتَّبًا كَمَا يَقُولُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَيَنْوِي الْإِمَامُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامَ عَلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَعَلَى الْحَفَظَةِ، وَيَنْوِي بِالثَّانِيَةِ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ وَعَلَى الْحَفَظَةِ، وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالسَّلَامَ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْحَفَظَةِ وَعَلَى الْمَأْمُومِينَ مِنْ نَاحِيَتِهِ فِي صَفِّهِ وَرَائِهِ وَقُدَّامِهِ، وَيَنْوِي بِالثَّانِيَةِ السَّلَامَ عَلَى الْحَفَظَةِ وَعَلَى الْمَأْمُومِينَ مِنْ نَاحِيَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قُدَّامَهُ نَوَاهُ فِي أَيِّ التَّسْلِيمَتَيْنِ شَاءَ، وَيَنْوِي الْمُنْفَرِدُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالسَّلَامَ عَلَى الْحَفَظَةِ، وَبِالثَّانِيَةِ السَّلَامَ عَلَى الْحَفَظَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى سَمُرَةُ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نُسَلِّمَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. وَرَوَى عَلِيٌّ رضي الله عنه كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا: يَفْصِلُ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ" وَإِنْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَنْوِ مَا سِوَاهُ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ سُنَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ: لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ فِي "الْبُوَيْطِيِّ"؛ لِأَنَّهُ نُطْقٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ1 وَأَبُو عَبْدِ الله الْخَتَنُ الْجُرْجَانِيُّ رحمهم الله: يَجْزِيهِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ قَدْ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَالسَّلَامُ مِنْ جُمْلَتِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ النِّيَّةُ فِي السَّلَامِ لَوَجَبَ تَعَيُّنُهَا كَمَا قُلْنَا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.
الشرح:
حَدِيثُ مِفْتَاحِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهِ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ: أَمَّا حُكْمُ السَّلَامِ فَحَاصِلُهُ أَنَّ السَّلَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهِ وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَلَوْ أَخَلَّ بِحَرْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْرُفِ لَمْ يَصِحَّ سَلَامُهُ، فَلَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوْ قَالَ: سَلَامِي عَلَيْكَ أَوْ سَلَامُ الله عَلَيْكُمْ أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ أَوْ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُجْزِهِ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ قَالَهُ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَتَجِبُ إعَادَةُ السَّلَامِ، وَإِنْ قَالَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إلَّا فِي قَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّهُ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِغَائِبٍ، وَإِنْ قَالَ: سَلَامٌ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخة المطبوعة من "المذهب" خلط بين الإسمبن وخطأ فيهما (ط).

 

ج / 3 ص -317-       عَلَيْكُمْ بِالتَّنْوِينِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، وَحَكَاهُمَا الْجُرْجَانِيُّ قَوْلَيْنِ وَهُوَ غَرِيبٌ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ وَيَقُومُ التَّنْوِينُ مَقَامَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا يُجْزِئُهُ فِي سَلَامِ التَّشَهُّدِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي الشَّرْحِ وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَمَنْ قَالَ: يُجْزِئُهُ فَقَدْ غَلِطَ. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَبَيَّنَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ" وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ فَإِنَّهُ نُقِلَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِالتَّنْوِينِ وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ.
وَقَوْلُهُمْ: التَّنْوِينُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَلْفِ وَاللَّامِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَسُدُّ مَسَدَّهُ فِي الْعُمُومِ وَالتَّعْرِيفِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ فَوَجْهَانِ، وَحَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ قَوْلَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ يَجْزِي كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ قِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ. فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَرَكَ تَرْتِيبَ الْقِرَاءَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُجْزِئُهُ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ نَصَّ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ شَمِلَتْ السَّلَامَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ وَأَبِي عَبْدِ الله الْخَتَنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَالثَّانِي: يَجِبُ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعِرَاقِيِّينَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي "الْبُوَيْطِيِّ" وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ الْقَاصِّ وَقَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ قِيَاسًا عَلَى أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مُعْظَمِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَحَمَلُوا نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ نِيَّةُ الْخُرُوجِ لَمْ تَجِبْ عَنْ الصَّلَاةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ. وَمِمَّنْ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَغَيْرُهُمَا. قَالُوا: لِأَنَّ الْخُرُوجَ مُتَعَيَّنٌ لِمَا شُرِعَ بِخِلَافِ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ: قَالُوا: فَلَوْ عَيَّنَ غَيْرَ الَّتِي هُوَ فِيهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ ثَانِيًا.
وَإِنْ قُلْنَا لَا تَجِبُ النِّيَّةُ لَمْ يَضُرَّ الْخَطَأُ فِي التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهُ كَمَنْ لَمْ يَنْوِ. هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ. قَالَ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" و "الْبَيَانِ": لَا يَضُرُّهُ كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَظَنَّ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ فِي الْعَصْرِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فِي الثَّالِثَةِ أَنَّهَا الظُّهْرُ لَمْ يَضُرَّهُ وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا تَجِبُ النِّيَّةُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ نَوَى بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ تَحَلَّلَ بِهِ فَتَكُونُ النِّيَّةُ مُقْتَرِنَةً بِالسَّلَامِ، فَلَوْ أَخَّرَهَا عَنْهُ وَسَلَّمَ بِلَا نِيَّةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إنْ تَعَمَّدَ، وَإِنْ سَهَا لَمْ تَبْطُلْ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يُعِيدُ السَّلَامَ مَعَ النِّيَّةِ إنْ لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، فَإِنْ طَالَ وَجَبَ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ، وَلَوْ نَوَى قَبْلَ السَّلَامِ الْخُرُوجَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ نَوَى قَبْلَ السَّلَامِ أَنَّهُ سَيَنْوِي الْخُرُوجَ عِنْدَ السَّلَامِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ لَكِنْ لَا تُجْزِئُهُ هَذِهِ النِّيَّةُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ السَّلَامِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُوقِعَ السَّلَامَ فِي حَالَةِ الْقُعُودِ فَلَوْ سَلَّمَ فِي غَيْرِهِ

 

ج / 3 ص -318-       لَمْ يُجْزِهِ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ إنْ تَعَمَّدَ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَقَلِّ السَّلَامِ.
وَأَمَّا أَكْمَلُهُ فَأَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله وَهَلْ يُسَنُّ تَسْلِيمَةٌ ثَانِيَةٌ؟ أَمْ يُقْتَصَرُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَلَا تُشْرَعُ الثَّانِيَةُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الصَّحِيحُ: الْمَشْهُورُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْجَدِيدِ" وَبِهِ قَطَعَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: يُسَنُّ تَسْلِيمَتَانِ وَالثَّانِي: تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ قَالَهُ فِي "الْقَدِيمِ" وَالثَّالِثُ: قَالَهُ فِي "الْقَدِيمِ" أَيْضًا إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ وَلَا لَغَطَ عِنْدَهُمْ فَتَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِلَّا فَثِنْتَانِ، هَكَذَا حَكَى الْأَصْحَابُ هَذَا الثَّالِثَ قَوْلًا قَدِيمًا، وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ عَنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلًا آخَرَ فِي "الْجَدِيدِ"، وَهَذَا غَرِيبٌ وَمَا أَظُنُّهُ ثَبَتَ. وَالْمَذْهَبُ تَسْلِيمَتَانِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ حَدِيثُ التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ ثَبَتَ فَلَهُ تَأْوِيلَاتٌ سَنَذْكُرُهَا، فَإِنْ قُلْنَا تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ جَعَلَهَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَإِنْ قُلْنَا تَسْلِيمَتَانِ فَالسُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ.
قَالَ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" وَغَيْرُهُ: يَبْتَدِئُ السَّلَامَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيُتِمُّهُ مُلْتَفِتًا بِحَيْثُ يَكُونُ تَمَامُ سَلَامِهِ مَعَ آخِرِ الِالْتِفَاتِ، فَفِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى يَلْتَفِتُ حَتَّى يَرَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ وَفِي الثَّانِيَةِ يَلْتَفِتُ حَتَّى يَرَى مَنْ عَنْ يَسَارِهِ خَدَّهُ الْأَيْسَرَ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَصَحَّحَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي "الْبَسِيطِ" و"الْجُمْهُورُ"، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْوَسِيطِ" وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَلْتَفِتُ حَتَّى يُرَى خَدَّاهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حَتَّى يُرَى خَدَّاهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّهُ إسْرَافٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ سَلَّمَ التَّسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ، قَالَ الْبَغَوِيّ وَلَوْ بَدَأَ بِالْيَسَارِ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إذَا قُلْنَا: يُسْتَحَبُّ التَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ وَاقِعَةٌ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مِنْهَا، وَقَدْ انْقَضَتْ الصَّلَاةُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى حَتَّى لَوْ أَحْدَثَ مَعَ الثَّانِيَةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنْ لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا بِطَهَارَةٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْوِيَ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَمُسْلِمِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَبِالثَّانِيَةِ عَلَى مَنْ يَسَارَهُ مِنْهُمْ وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَخْتَصُّ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ يَسَارِهِ نَوَاهُ فِي الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ مُحَاذِيًا لَهُ نَوَاهُ فِي أَيَّتِهِمَا شَاءَ، وَالْأُولَى أَفْضَلُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ"، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ الرَّدَّ عَلَى بَعْضٍ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَنْوِيَ بِالْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ إنْ لَمْ نُوجِبْهَا، وَدَلِيلُ هَذِهِ النِّيَّاتِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَسَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّيَّاتِ غَيْرُ نِيَّةِ الْخُرُوجِ فَفِيهَا الْخِلَافُ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله كَمَا سَبَقَ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَالصَّوَابُ الْمَوْجُودُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ إلَى "الْمُخْتَصَرِ" لِزَاهِرٍ السَّرَخْسِيِّ، "وَالنِّهَايَةِ" لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ و"الْحِلْيَةِ" لِلرُّويَانِيِّ زِيَادَةُ: وَبَرَكَاتُهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ لَا يُوثَقُ بِهِ وَهُوَ شَاذٌّ فِي نَقْلِ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ حَيْثُ

 

ج / 3 ص -319-       الْحَدِيثِ فَلَمْ أَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ إلَّا فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، وَعَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ" وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ نَسَبَهَا الطَّبَرَانِيُّ إلَى مُوسَى بْنِ قَيْسٍ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَنْهُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُد قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ إسْنَادُهُ فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" إسْنَادٌ صَحِيحٌ.
فرع: فِي بَيَانِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَغَيْرِهَا مِمَّا وَرَدَ فِي السَّلَامِ: أَمَّا حَدِيثُ "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ" فَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَرَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم:
"يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ [أَبِي] مَعْمَرٍ: أَنَّ أَمِيرًا كَانَ بِمَكَّةَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُ الله "يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ": أَنَّى عَلِقَهَا؟ قَالَ الْحَاكِمُ فِي حَدِيثِهِ: "إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَوْلُهُ: عَلِقَهَا - وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ - وَمَعْنَاهُ: مِنْ أَيْنَ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ السُّنَّةُ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ "حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ". وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: "كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْجَانِبَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم عَلَامَ تُومِئُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟ إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَمِنْهَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْمَذْكُورُ قَبْلَ الْفَرْعِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبْدِ الله بْنِ زَيْدٍ رضي الله تعالى عنهم وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى تَسْلِيمَةٍ فَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَآخَرُونَ. قَالَ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" عَلَى "الصَّحِيحَيْنِ": هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ1. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ: إنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيّ فِي "شَرْحِ السُّنَّةِ": فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ عَلَى تَضْعِيفِهِ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ" وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً" رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ الثَّانِي: أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَحَادِيثُ التَّسْلِيمَتَيْنِ لِبَيَانِ الْأَكْمَلِ الْأَفْضَلِ، وَلِهَذَا وَاظَبَ عَلَيْهَا صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ أَشْهَرَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم ينبه على ضعفه الذهبي في "تلخيص المستدرك"، وقد ساقه الحاكم كما ردده الذهبي كذلك وفي إسناده عمرو بن أبي سلمة وزهير بن محمد قال الحاكم وقد اتفق الشيخان على الاحتجاج بهما قلت: في هذا نظر لأن عمراً ضعفه ابن معين وقال أبو حاتم: لا يحتج به وأما زهير فقد قال البخاري: للشامين عنه مناكير وهو ثقة ليس به بأس وعن ابن معين روايتين ثقة وضعيف (ط).

 

ج / 3 ص -320-       وَرُوَاتُهَا أَكْثَرَ الثَّالِثُ: أَنَّ فِي رِوَايَاتِ التَّسْلِيمَتَيْنِ زِيَادَةً مِنْ ثِقَاتٍ فَوَجَبَ قَبُولُهَا وَالله أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيمَا يَنْوِي بِالسَّلَامِ فَمِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السَّابِقُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي "مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ" رحمه الله "عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ" وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِي إسْنَادِ أَبِي دَاوُد سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَالْأَكْثَرُونَ لَا يَحْتَجُّونَ بِهِ وَإِسْنَادُ رِوَايَتَيْ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيِّ حَسَنٌ، وَاعْتَضَدَتْ طُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ فَصَارَ حَسَنًا أَوْ صَحِيحًا.
فرع: فِي أَلْفَاظِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ: "يُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ" هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا لُغَتَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا مَرَّاتٍ. قَوْلُهُ: "لِمَا رَوَى عَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ" هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ قَوْلُهُ: "لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ" هُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا، قِيلَ: ابْنُ هِلَالٍ أَبُو سَعِيدٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ تُوُفِّيَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: "أَبُو عَبْدِ الله الْخَتَنُ" بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ الْمَفْتُوحَتَيْنِ يَصِفُهُ بِذَاكَ لِقُرْبِهِ مِنْ الْإِمَامِ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ: خَتَنُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَيُقَالُ: الْخَتَنُ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْجُرْجَانِيُّ، وَكَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا فِي عَصْرِهِ مُقَدَّمًا فِي عِلْمِ الْأَدَبِ وَالْقِرَاءَاتِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ مُبَرِّزًا فِي عِلْمِ الْجَدَلِ وَالنَّظَرِ وَالْفِقْهِ وَصَنَّفَ "شَرْحَ التَّلْخِيصِ"، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ تُوُفِّيَ رحمه الله تعالى يَوْمَ الْأَضْحَى سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ السَّلَامِ. مَذْهَبُنَا أَنَّهُ فَرْضٌ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ السَّلَامُ وَلَا هُوَ مِنْ الصَّلَاةِ، بَلْ إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ بِمَا يُنَافِيهَا مِنْ سَلَامٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ حَدَثٍ أَوْ قِيَامٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ وَبِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، وَقَالَ: إذَا قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ. إنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ" وَعَنْ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم "إذَا أَحْدَثَ، وَقَدْ قَعَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَقَدْ جَازَتْ صَلَاتُهُ" وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "إذَا جَلَسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَثَ، فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ".
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ "تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ" وَبِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ أَنَّهُ تَرَكَ بَيَانَ السَّلَامِ لِعِلْمِهِ بِهِ كَمَا تَرَكَ بَيَانَ النِّيَّةِ وَالْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ وَهُمَا وَاجِبَانِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْلَهُ:

 

ج / 3 ص -321-       "فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ أَوْ قُضِيَتْ صَلَاتُهُ" إلَى آخِرِهِ زِيَادَةٌ مُدْرَجَةٌ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، وَقَدْ بَيَّنَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا ذَلِكَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ وَحَدِيثُ ابْنِ عَمْرٍو فَضَعِيفَانِ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ وَضَعْفُهُمَا مَشْهُورٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ بَعْضِ هَذَا فِي ذِكْرِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ التَّشَهُّدِ، وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي اسْتِحْبَابِ تَسْلِيمَةٍ أَوْ تَسْلِيمَتَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ رضي الله عنهم، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعَلْقَمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ التَّابِعِينَ، وَعَنْ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ: كَانَ مَسْجِدُ الْأَنْصَارِ يُسَلِّمُونَ فِيهِ تَسْلِيمَتَيْنِ وَمَسْجِدُ الْمُهَاجِرِينَ يُسَلِّمُونَ فِيهِ تَسْلِيمَةً، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ يُعْرَفُ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: مَذْهَبُنَا الْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا تَجِبُ الثَّانِيَةُ وَبِهِ: قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَوْ كُلُّهُمْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزَةٌ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ التَّسْلِيمَتَيْنِ جَمِيعًا، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَبِهِمَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْرِجَ لَفْظَةَ السَّلَامِ وَلَا يَمُدَّهَا، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا لِلْعُلَمَاءِ. وَاحْتَجَّ لَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: "حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مَعْنَاهُ لَا يَمُدُّ مَدًّا.
فرع: يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُسَلِّمَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، قَالَ الْبَغَوِيّ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَبْتَدِئَ السَّلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّسْلِيمَتَيْنِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْبُوَيْطِيِّ" كَمَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: "وَمَنْ كَانَ خَلْفَ إمَامٍ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ سَلَامِهِ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ" هَذَا نَصُّهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْأُولَى وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ وَلَوْ قَارَنَهُ فِي السَّلَامِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إنْ لَمْ يَنْوِ مُفَارَقَتَهُ كَمَا لَوْ قَارَنَهُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَأَصَحُّهُمَا لَا تَبْطُلُ كَمَا لَوْ قَارَنَهُ فِي بَاقِي الْأَرْكَانِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ فِي صَلَاةٍ حَتَّى، يَفْرُغَ مِنْهَا فَلَا يَرْبِطُ صَلَاتَهُ بِمَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ، وَلَوْ سَلَّمَ قَبْلَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي السَّلَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إنْ لَمْ يَنْوِ مُفَارَقَتَهُ، فَإِنْ نَوَاهَا فَفِيهِ الْخِلَافُ فِيمَنْ نَوَى الْمُفَارَقَةَ، وَلَا يَكُونُ مُسَلِّمًا بَعْدَهُ إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْمِيمِ مِنْ قَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.

 

ج / 3 ص -322-       فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَسْبُوقِ أَنْ لَا يَقُومَ لِيَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّسْلِيمَتَيْنِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ" فَقَالَ: وَمَنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا يَقُومُ لِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّسْلِيمَتَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ قَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ قَوْلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فِي الْأُولَى جَازَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قَامَ قَبْلَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ فَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَنْ نَوَى الْمُفَارَقَةَ، وَلَوْ قَامَ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي السَّلَامِ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ قَوْلِهِ: "عَلَيْكُمْ" فَهُوَ كَمَا لَوْ قَامَ قَبْلَ شُرُوعِهِ. ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي إذَا قَامَ الْمَسْبُوقُ مُقَارَنَةً لِلتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، فَإِنْ قُلْنَا: لِلْمَأْمُومِ الْمُوَافِقِ أَنْ يُسَلِّمَ مُقَارِنًا لِلْإِمَامِ جَازَ قِيَامُ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَالٍ جَازَ لِلْمُوَافِقِ السَّلَامُ فِيهَا جَازَ لِلْمَسْبُوقِ الْمُفَارَقَةُ فِيهَا، كَمَا بَعْدَ السَّلَامِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ لِلْمُوَافِقِ السَّلَامُ مُقَارِنًا لَهُ لَمْ يَجُزْ لِلْمَسْبُوقِ الْقِيَامُ مَعَ الْمُقَارَنَةِ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمُفَارَقَةَ، وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ فَمَكَثَ الْمَسْبُوقُ بَعْدَ سَلَامِهِ جَالِسًا وَطَالَ جُلُوسُهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ مَوْضِعَ تَشَهُّدِهِ الْأَوَّلِ جَازَ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ جُلُوسٌ مَحْسُوبٌ مِنْ صَلَاتِهِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْقُدْوَةُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ يَجُوزُ تَطْوِيلُهُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ تَشَهُّدِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ كَانَ لِلْمُتَابَعَةِ وَقَدْ زَالَتْ، فَإِنْ جَلَسَ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَمْ تَبْطُلْ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.
فرع: إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى انْقَضَتْ قُدْوَةُ الْمَأْمُومِ الْمُوَافِقِ وَالْمَسْبُوقِ لِخُرُوجِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْمَأْمُومُ الْمُوَافِقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَ بَعْدَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَدَامَ الْجُلُوسَ لِلتَّعَوُّذِ وَالدُّعَاءِ وَأَطَالَ ذَلِكَ، هَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" نَقَلْتُهُ بِحُرُوفِهِ.
فَرْعٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا اقْتَصَرَ الْإِمَامُ عَلَى تَسْلِيمَةٍ يُسَنُّ لِلْمَأْمُومِ تَسْلِيمَتَانِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ بِالْأُولَى، بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَوْ تَرَكَهُ لَزِمَ الْمَأْمُومَ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ قَبْلَ السَّلَامِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ": لَوْ شَرَعَ فِي الظُّهْرِ فَتَشَهَّدَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ ثُمَّ قَامَ قَبْلَ السَّلَامِ وَشَرَعَ فِي الْعَصْرِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ بِقِيَامِهِ، وَصَحَّتْ الْعَصْرُ، وَإِنْ قَامَ نَاسِيًا لَمْ يَصِحَّ شُرُوعُهُ فِي الْعَصْرِ، فَإِنْ ذَكَرَ - وَالْفَصْلُ قَرِيبٌ - عَادَ إلَى الْجُلُوسِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ مِنْ الظُّهْرِ وَأَجْزَأَتْهُ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى لِمَا رَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أَنَّهُ
"كَانَ يُهَلِّلُ فِي أَثَرِ كُلِّ صَلَاةٍ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِالله، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، وَلَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" ثُمَّ يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهَذَا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ" وَكَتَبَ الْمُغِيرَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ".
الشرح: اتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ رَحِمَهُمْ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ الله تَعَالَى بَعْدَ

 

ج / 3 ص -323-       السَّلَامِ، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ أَيْضًا بَعْدَ السَّلَامِ بِالِاتِّفَاقِ وَجَاءَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ قَدْ جَمَعْتهَا فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ "مِنْهَا" عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قِيلَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرَ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ "كُنَّا نَعْرِفُ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" قِيلَ لِلْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ رُوَاتِهِ: كَيْفَ الِاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه
"أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إذَا انْصَرَفَ مِنْ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما "أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ، صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِالله لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: "وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه "أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فُضُولٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، فَقَالَ أَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "تُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ" فَقَالَ أَبُو صَالِحٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذِكْرِهَا يَقُولُ: "سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالله أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ الدُّثُورُ: بِضَمِّ الدَّالِ جَمْعُ دَثْرٍ بِفَتْحِ الدَّالِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ أَوْ فَاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَتَعَوَّذُ دُبُرَ الصَّلَاةِ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ

 

ج / 3 ص -324-       الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِهَادِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ" هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَهُوَ إسْنَادُ مُسْلِمٍ، هَكَذَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذَا بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَهُمَا صَحِيحَتَانِ، وَكَانَ يَقُولُ الدُّعَاءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالله أَعْلَمُ.
وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه
"أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: يَا مُعَاذُ وَالله إنِّي لَأُحِبّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعْهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ "أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد "بِالْمُعَوِّذَاتِ" فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مَعَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي "مُعْجَمِه"ِ أَحَادِيثَ فِي فَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، لَكِنَّهَا كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرَ مَا ذَكَرْتُهُ هُنَا، وَجَاءَ فِي الذِّكْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَحُرِسَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَّا الشِّرْكَ بِالله تَعَالَى" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي الْبَابِ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ هَذِهِ الْأَذْكَارِ بِحَدِيثِ الِاسْتِغْفَارِ وَحَكَى حَدِيثَ ثَوْبَانَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْأُمِّ" بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ1 السَّابِقَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ، وَحَدِيثَ ابْنِ الزُّبَيْرِ السَّابِقَ، وَحَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَذْكُورَ فِي الْفَصْلِ بَعْدَ هَذَا: أَخْتَارُ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ السَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ. وَيُخْفِيَانِ الذِّكْرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا يُرِيدُ2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشافعي روى حديث ابن عباس عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عنه قال: كنت أعرف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير - قال عمرو: ثم ذكرته لأبي معبد بعد فقال لم أحدثكه قال عمرو: قد حدثتنيه قال: كان من أصدق موالي ابن عباس قال الشافعي: كأنه نسيه بعد ما حدثه إياه ا هـ.
قال السراج البلقيني: حديث ابن عباس هذا أخرجه الصحيحان من حديث أبي معبد واسمه نافذ عن ابن عباس وهذا مما خرجه الصحيحان وفيه عنه أن الأصل قال للفرع: أحدثك بهذا وهذا خلاف جزم بعض الأصوليين بالمنع فسقط ا هـ (ط).
2 نسخة "الأم" الأميرية "يجب" بدل "يريد".

 

ج / 3 ص -325-       أَنْ يُتَعَلَّمَ مِنْهُ فَيَجْهَرَ حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ تُعُلِّمَ مِنْهُ فَيُسِرَّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] يَعْنِي وَالله أَعْلَمُ الدُّعَاءَ {وَلا تَجْهَرْ} تَرْفَعْ {وَلا تُخَافِتْ} حَتَّى لَا تُسْمِعَ نَفْسَكَ. [وَأَحْسَبُ مَا رَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ تَهْلِيلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ تَكْبِيرِهِ كَمَا رَوَيْنَاهُ] قَالَ: وَأَحْسَبُهُ إنَّمَا جَهَرَ قَلِيلًا - يَعْنِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - لِيَتَعَلَّمَ النَّاسُ مِنْهُ لِأَنَّ عَامَّةَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي كَتَبْنَاهَا مَعَ هَذَا وَغَيْرِهَا لَيْسَ يُذْكَرُ فِيهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ تَهْلِيلٌ وَلَا تَكْبِيرٌ [وَقَدْ يُذْكَرُ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِمَا وُصِفَ وَيُذْكَرُ انْصِرَافُهُ بِلَا ذِكْرٍ1] وَقَدْ ذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ "مُكْثَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تَذْكُرْ جَهْرًا وَأَحْسَبُهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْكُثْ إلَّا لِيَذْكُرَ سِرًّا2". قَالَ: وَأَسْتَحِبُّ لِلْمُصَلِّي، مُنْفَرِدًا أَوْ مَأْمُومًا أَنْ يُطِيلَ الذِّكْرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَيُكْثِرَ الدُّعَاءَ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، هَذَا نَصُّهُ فِي الْأُمِّ.
وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ لِتَفْسِيرِهِ الْآيَةَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى:
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَهَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَرَّ بِهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا يُرِيدُ تَعْلِيمَ النَّاسِ فَيَجْهَرَ لِيَتَعَلَّمُوا، فَإِذَا تَعَلَّمُوا وَكَانُوا عَالِمِينَ أَسَرَّهُ. وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْإِسْرَارِ بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكُنَّا إذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّهُ مَعَكُمْ سَمِيعٌ قَرِيبٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ "ارْبَعُوا" - بِفَتْحِ الْبَاءِ - أَيْ اُرْفُقُوا.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِحْبَابَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَقِبَ كُلِّ الصَّلَوَاتِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنْ تَخْصِيصِ دُعَاءِ الْإِمَامِ بِصَلَاتَيْ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ "الْحَاوِي" فَقَالَ: إنْ كَانَتْ صَلَاةً لَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ وَالْعَصْرِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ وَدَعَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا كَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَيُخْتَارُ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي مَنْزِلِهِ، وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ التَّخْصِيصِ لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ الصَّوَابُ اسْتِحْبَابُهُ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى النَّاسِ فَيَدْعُوَ. وَالله أَعْلَمُ.
فرع: وَأَمَّا هَذِهِ الْمُصَافَحَةُ الْمُعْتَادَةُ بَعْدَ صَلَاتَيْ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ3 رحمه الله أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ وَلَا تُوصَفُ بِكَرَاهَةٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَالَ: إنْ صَافَحَ مَنْ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَمُبَاحَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ صَافَحَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قَبْلَهَا فَمُسْتَحَبَّةٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَافَحَةَ عِنْدَ اللِّقَاءِ سُنَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ، وَسَأَبْسُطُ الْكَلَامَ فِي الْمُصَافَحَةِ وَالسَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَيُشْبِهُهَا فِي فَصْلٍ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين من زيادتنا على ش. و. ق. نقلا عن "الأم" (ط).
2 في نسخة "الأم" المطبوعة "الإ ليذكر ذكراً غير جهر" (ط).
3 هو الإمام العز بن عبد السلام الذي أفتى ببيع أمراء المماليك (ط).

 

ج / 3 ص -326-       عَقِبَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الذِّكْرِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، وَفِي اللَّيْلِ، وَعِنْدَ النَّوْمِ وَالِاسْتِيقَاظِ، وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَشْهُورَةٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا مَعَ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَقَدْ جَمَعْتُ مُعْظَمَ ذَلِكَ مُهَذَّبًا فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ فَإِنْ كَانَ خَلْفَهُ نِسَاءٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَلْبَثَ حَتَّى تَنْصَرِفَ النِّسَاءُ لِئَلَّا يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَالِ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي سَلَامَهُ فَيَمْكُثُ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ". قَالَ الزُّهْرِيُّ رحمه الله: "فَنَرَى وَالله أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِيَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالُ". وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ تَوَجَّهَ فِي جِهَةِ حَاجَتِهِ لِمَا رَوَى الْحَسَنُ رحمه الله قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَمَنْ كَانَ بَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ بَنِي تَمِيمٍ انْصَرَفَ عَنْ يَسَارِهِ وَمَنْ كَانَ بَيْتُهُ مَا يَلِي بَنِي سُلَيْمٍ انْصَرَفَ عَنْ يَمِينِهِ يَعْنِي بِالْبَصْرَةِ" وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ".
الشرح:
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مُصَلَّاهُ عَقِبَ سَلَامِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ نِسَاءٌ، هَكَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي "الْمُخْتَصَرِ"، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَعَلَّلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ بِعِلَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا: لِئَلَّا يَشُكَّ هُوَ أَوْ مَنْ خَلْفَهُ هَلْ سَلَّمَ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِيَةُ: لِئَلَّا يَدْخُلَ غَرِيبٌ فَيَظُنَّهُ بَعْدُ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْتَدِيَ بِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ خَلْفَهُ نِسَاءٌ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلْبَثَ بَعْدَ سَلَامِهِ وَيَثْبُتَ الرِّجَالُ قَدْرًا يَسِيرًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَنْصَرِفَ النِّسَاءُ، بِحَيْثُ لَا يُدْرِكُ الْمُسَارِعُونَ فِي سَيْرِهِمْ مِنْ الرِّجَالُ آخِرَهُنَّ وَيُسْتَحَبُّ لَهُنَّ أَنْ يَنْصَرِفْنَ عَقِبَ سَلَامِهِ فَإِذَا انْصَرَفْنَ انْصَرَفَ الْإِمَامُ وَسَائِرُ الرِّجَالِ وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَمَكَثَ يَسِيرًا كَيْ يَنْصَرِفْنَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ" وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ1 "فَأَرَى وَالله أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفَدَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْقَوْمِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ صَحِيحِهِ، وَلِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ بِهِنَّ مَظِنَّةُ الْفَسَادِ وَسَبَبٌ لِلرِّيبَةِ؛ لِأَنَّهُنَّ مُزَيَّنَاتٌ لِلنَّاسِ مُقَدَّمَاتٌ عَلَى كُلِّ الشَّهَوَاتِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": فَإِنْ قَامَ الْإِمَامُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ جَلَسَ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَلِلْمَأْمُومِ أَنْ يَنْصَرِفَ إذَا قَضَى الْإِمَامُ السَّلَامَ قَبْلَ، قِيَامِ الْإِمَامِ قَالَ: وَتَأْخِيرُ ذَلِكَ حَتَّى يَنْصَرِفَ بَعْدَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَوْ مَعَهُ أَحَبُّ إلَيَّ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل والذي رواه البخاري صيغتان أولاهما "قال: نرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن من الرجال" وفي الأخرى "قالت: نرى والله أعلم أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال" (ط).

 

ج / 3 ص -327-       قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَالْأَصْحَابُ: إذَا انْصَرَفَ الْمُصَلِّي إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَتِلْقَاءَ وَجْهِهِ رواه1 وَلَا كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ إنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ فِي جِهَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ فَجِهَةُ الْيُمْنَى أَوْلَى، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَالْأَصْحَابُ "بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ" وَقَدْ سَبَقَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ فِي فَصْلِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: "لَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ لَا يَرَى إلَّا أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إلَّا عَنْ يَمِينِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَالَ: "أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ" وَعَنْ هُلْبٍ بِضَمِّ الْهَاءِ الطَّائِيِّ رضي الله عنه "أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَكَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ شِقَّيْهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ الِانْصِرَافُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ ذَلِكَ.
فرع: إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفَتِلَ فِي الْمِحْرَابِ وَيُقْبِلَ عَلَى النَّاسِ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِمَا جَازَ أَنْ يَنْفَتِلَ كَيْفَ شَاءَ، وَأَمَّا الْأَفْضَلُ فَقَالَ الْبَغَوِيّ الْأَفْضَلُ أَنْ يَنْفَتِلَ عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ فِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى يُدْخِلُ يَمِينَهُ فِي الْمِحْرَابِ، وَيَسَارَهُ إلَى النَّاسِ، وَيَجْلِسُ عَلَى يَمِينِ الْمِحْرَابِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ يُدْخِلُ يَسَارَهُ فِي الْمِحْرَابِ وَيَمِينَهُ إلَى الْقَوْمِ وَيَجْلِسُ عَلَى يَسَارِ الْمِحْرَابِ، هَذَا لَفْظُ الْبَغَوِيِّ فِي "التَّهْذِيبِ" وَجَزَمَ الْبَغَوِيّ فِي "شَرْحِ السُّنَّةِ" بِهَذَا الثَّانِي. وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ: رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ أَوْ تَجْمَعُ عِبَادَكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ لَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا حَدِيثٌ فَلَسْت أَرَى فِيهِ إلَّا التَّخْيِيرَ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مِمَّا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَيْتِهِ لِفِعْلِ النَّافِلَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله تعالى عنه وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ:
"قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَضَى أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ نَصِيبًا فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى بَيْتِهِ وَأَرَادَ التَّنَفُّلَ فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ مَوْضِعِهِ قَلِيلًا لِتَكْثِيرِ مَوَاضِعِ سُجُودِهِ هَكَذَا عَلَّلَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ بِكَلَامِ إنْسَانٍ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل الصواب "ووراءه" (ط).

 

ج / 3 ص -328-       وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ "أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَرْسَلَهُ إلَى السَّائِبِ بْنِ أُخْتِ نُمَيْرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: نَعَمْ صَلَّيْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إلَيَّ فَقَالَ: لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ إذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تُكَلِّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا نُوصِلَ صَلَاةً حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ حَتَّى يَتَحَوَّلَ" فَضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: عَطَاءٌ لَمْ يُدْرِكْ الْمُغِيرَةَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ؟ يَعْنِي النَّافِلَةَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ". قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا صَلَّى النَّافِلَةَ فِي الْمَسْجِدِ جَازَ. وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فَفِي بَيْتِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَاقِيَ صَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ، وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى لَيَالِيَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ" وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالسُّنَّةُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَنْ يَقْنُتَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله تعالى عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ ثُمَّ تَرَكَهُ، فَأَمَّا فِي الصُّبْحِ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا" وَمَحِلُّ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ "لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ أَنَسٌ هَلْ قَنَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقِيلَ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ بَعْدَ الرُّكُوعِ" وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافَنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ" لِمَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فِي الْوِتْرِ فَقَالَ قُلْ: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ" إلَى آخِرِهِ وَإِنْ قَنَتَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ حَسَنًا وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ قَالَ: قَنَتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي الصُّبْحِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَلَا نَكْفُرُكَ وَنُؤْمِنُ بِك. وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَكَ إنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ، اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ وَثَبِّتْهُمْ عَلَى مِلَّةِ رَسُولِكَ وَأَوْزِعْهُمْ أَنْ يُوفُوا بِعَهْدِكَ الَّذِي عَاهَدْتَهُمْ عَلَيْهِ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ يَا إلَهَ الْحَقِّ وَاجْعَلْنَا مِنْهُمْ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الدُّعَاءِ لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ رضي الله عنه فِي الْوِتْرِ أَنَّهُ قَالَ: "تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَسَلَّمَ" وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُؤَمِّنَّ عَلَى الدُّعَاءِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "قَنَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ" وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الثَّنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ التَّأْمِينُ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَتْ

 

ج / 3 ص -329-       الْمُشَارَكَةُ أَوْلَى.
وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْفَعْ الْيَدَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَالِاسْتِنْصَارِ وَعَشِيَّةِ عَرَفَةَ وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ رَفْعُ الْيَدِ كَالدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْيَدَ، وَحَكَى فِي التَّعْلِيقِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْيَدَ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَصَحُّ. وَأَمَّا غَيْرُ الصُّبْحِ مِنْ الْفَرَائِضِ فَلَا يُقْنَتُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ قَنَتُوا فِي جَمِيعِ الْفَرَائِضِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ لَا يَقْنُتُ إلَّا أَنْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ، وَكَانَ إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمْدَهُ، قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَذَكَرَ الدُّعَاءَ".
الشرح: فِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ:
إحْدَاهَا: الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يُقْنَتُ فِي الصُّبْحِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شِعَارَ طَائِفَةٍ مُبْتَدِعَةٍ فَهُوَ غَلَطٌ لَا يُعَدُّ مِنْ مَذْهَبِنَا، وَأَمَّا غَيْرُ الصُّبْحِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ فَهَلْ يُقْنَتُ فِيهَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ حَكَاهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ "الصَّحِيحُ" الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: إنْ نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ كَخَوْفٍ أَوْ قَحْطٍ أَوْ وَبَاءٍ أَوْ جَرَادٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ قَنَتُوا فِي جَمِيعِهَا وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي: يَقْنُتُونَ مُطْلَقًا حَكَاهُ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ شَيْخُ الْأَصْحَابِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَمُتَابِعُوهُ. وَالثَّالِثُ: لَا يَقْنُتُونَ مُطْلَقًا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ وَهُوَ غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ عِنْدَ نُزُولِ النَّازِلَةِ حِينَ قُتِلَ أَصْحَابُهُ الْقُرَّاءُ" وَأَحَادِيثُهُمْ مَشْهُورَةٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، هَكَذَا صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْجُمْهُورُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ مُقْتَضَى كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْجَوَازِ فَحَيْثُ يَجُوزُ فَالِاخْتِيَارُ فِيهِ إلَى الْمُصَلِّي قَالَ: وَمِنْهُمْ مِنْ يُشْعِرُ كَلَامُهُ بِالِاسْتِحْبَابِ "قُلْتُ": وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُنُوتُ لِلنَّازِلَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سُنَّةً، مِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الِاسْتِحْبَابِ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ". قَالَ: وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" عَلَى الِاسْتِحْبَابِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَكْتُوبَاتِ فَلَا يُقْنَتُ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِيدَيْنِ: "وَلَا قُنُوتَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فَإِنْ قَنَتَ عِنْدَ نَازِلَةٍ لَمْ أَكْرَهْهُ1".
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَحِلُّ الْقُنُوتِ عِنْدَنَا بَعْدَ الرُّكُوعِ كَمَا سَبَقَ، فَلَوْ قَنَتَ قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ مَالِكِيًّا يَرَاهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. قَالَ صَاحِبُ "الْمُسْتَظْهِرِيِّ": هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيُعِيدُهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، قَالَ: وَهَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَقَطَعَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ يَسْجُدُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وبقية النص: وإن قنت عند غير نازلة طرهت له (ط).

 

ج / 3 ص -330-       لِلسَّهْوِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": لَوْ أَطَالَ الْقِيَامَ يَنْوِي بِهِ الْقُنُوتَ كَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ عَمَلٌ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا عَمِلَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْجَبَ سُجُودَ السَّهْوِ. هَذَا نَصُّهُ، وَأَشَارَ فِي "التَّهْذِيبِ" إلَى وَجْهٍ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: هُوَ كَمَا لَوْ قَرَأَ التَّشَهُّدَ فِي الْقِيَامِ فَحَصَلَ فِيمَنْ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ "الصَّحِيحُ": أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَلَا يُجْزِئُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَالثَّالِثُ: يُجْزِئُهُ وَالرَّابِعُ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَهُوَ غَلَطٌ.
الثَّالِثَةُ: السُّنَّةُ فِي لَفْظِ الْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَأَنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكَتْ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ. هَذَا لَفْظُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِإِثْبَاتِ الْفَاءِ فِي: فَإِنَّكَ وَالْوَاوِ فِي: وَأَنَّهُ لَا يَذِلُّ، وَتَبَارَكْتَ رَبَّنَا، هَذَا لَفْظُهُ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ1 وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَجُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَلَمْ يُثْبِتْ الْفَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَتَقَعُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مُغَيَّرَةً فَاعْتَمِدْ مَا حَقَّقْتُهُ، فَإِنَّ أَلْفَاظَ الْأَذْكَارِ يُحَافَظُ فِيهَا عَلَى الثَّابِتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: "عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَأَنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ: وَلَا يُعْرَفُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُنُوتِ شَيْءٌ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا. وَفِي رِوَايَةٍ رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "إنَّ هَذَا الدُّعَاءَ هُوَ الَّذِي كَانَ أَبِي يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي قُنُوتِهِ" وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ لِيَدْعُوَ بِهِ فِي الْقُنُوتِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ" وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي وِتْرِ اللَّيْلِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ" وَفِي رِوَايَةٍ "كَانَ يَقُولُهَا فِي قُنُوتِ اللَّيْلِ" فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ هَذَا الدُّعَاءِ وَقَعَ لِقُنُوتِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَبِالله التَّوْفِيقُ.
وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ الثِّمَانُ هُنَّ اللَّوَاتِي نَصَّ عَلَيْهِنَّ الشَّافِعِيُّ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ" وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِنَّ، وَلَوْ زَادَ عَلَيْهِنَّ "وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ" قَبْلَ "تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" وَبَعْدَهُ "فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَضَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ" فَلَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ حَسَنَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ "مَنْ عَادَيْتَ" لَيْسَ بِحَسَنٍ.؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ لَا تُضَافُ إلَى الله تَعَالَى، وَأَنْكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْأَصْحَابُ عَلَيْهِ وَقَالُوا قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ. قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِنْ كَانَ إمَامًا لَمْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ، بَلْ يُعَمِّمُ فَيَأْتِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا إلَى آخِرِهِ. وَهَلْ تَتَعَيَّنُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ فِيهِ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا تَتَعَيَّنُ بَلْ يَحْصُلُ بِكُلِّ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل السقط "وهي كذلك" (ط).

 

ج / 3 ص -331-       دُعَاءٍ.
وَالثَّانِي: تَتَعَيَّنُ كَكَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ فَإِنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَبِهَذَا قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى فِي كِتَابِهِ "الْمُحِيطِ"، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ "الْمُسْتَظْهِرِيِّ" قَالَ صَاحِبُ "الْمُسْتَظْهِرِيِّ": وَلَوْ تَرَكَ مِنْ هَذَا كَلِمَةً أَوْ عَدَلَ إلَى غَيْرِهِ لَا يُجْزِئُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي، حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَخَلَائِقُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ: قَوْلُ مَنْ قَالَ يَتَعَيَّنُ شَاذٌّ مَرْدُودٌ مُخَالِفٌ لِجُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، بَلْ مُخَالِفٌ لِجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ قُنُوتُ مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه "اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ" إلَى آخِرِهِ، بَلْ مُخَالِفٌ لِفِعْلِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ "اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَفُلَانًا وَفُلَانًا اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا" فَلْيَعُدَّ هَذَا الَّذِي قِيلَ بِالتَّعَيُّنِ غَلَطًا غَيْرَ مَعْدُودٍ وَجْهًا، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ أَبِي عَمْرٍو.
فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَقُلْنَا: إنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فَقَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": يَحْصُلُ بِالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِ الْمَأْثُورِ قَالَ: فَإِنْ قَرَأَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ هِيَ دُعَاءٌ أَوْ شَبِيهَةٌ بِالدُّعَاءِ كَآخِرِ الْبَقَرَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ الدُّعَاءَ وَلَمْ يُشْبِهْهُ كَآيَةِ الدَّيْنِ وَسُورَةِ تَبَّتْ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ إذَا نَوَى الْقُنُوتَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ لِلدُّعَاءِ وَهَذَا لَيْسَ بِدُعَاءٍ، وَالثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ أَوْ الصَّوَابُ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ مَكْرُوهَةٌ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ قَنَتَ بِالْمَنْقُولِ عَنْ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه كَانَ حَسَنًا، وَهُوَ الدُّعَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي لَفْظِهِ وَالرِّوَايَةُ الَّتِي أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إلَى اخْتِيَارِهَا رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا تَرُدُّهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُثْنِي عَلَيْكَ وَلَا نَكْفُرُكَ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ، بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ وَنَخْشَى عَذَابَكَ وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ إنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ. وَرَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى أَخَصْرَ مِنْ هَذَا، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَفِيهِ أَنَّهُ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمَنْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قُنُوتَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ أَكْثَرُ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَزَيْدُ بْنُ وَهْبٍ وَالْعَدَدُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنْ الْوَاحِدِ، وَفِي حُسْنِ سِيَاقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ لِلْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى حِفْظِهِ وَحِفْظِ مَنْ حَفِظَ عَنْهُ، وَاقْتَصَرَ الْبَغَوِيّ فِي "شَرْحِ السُّنَّةِ" عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بَعْضَ هَذَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّ إسْنَادَهُ مُرْسَلٌ وَالله أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ "اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ" إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَأَمَّا الْآنَ فَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَالَ عَذِّبْ الْكَفَرَةَ لِيَعُمَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ مِنْ

 

ج / 3 ص -332-       الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الدُّعَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَ قُنُوتِ عُمَرَ رضي الله عنه وَبَيْنَ مَا سَبَقَ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَالْأَصَحُّ تَأْخِيرُ قُنُوتِ عُمَرَ، وَفِي وَجْهٍ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهُ وَإِنْ اقْتَصَرَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامَ مَحْصُورِينَ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيلِ وَالله أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: 1 هَلْ يُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْقُنُوتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ "الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ" وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ يُسْتَحَبُّ وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فَإِنْ فَعَلَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ رُكْنًا إلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَحَكَاهُ عَنْهُ الْبَغَوِيّ وَهُوَ غَلَطٌ صَرِيحٌ، وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ رضي الله تعالى عنه قَالَ:
"عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فِي الْوِتْرِ قَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فَذَكَرَ الْأَلْفَاظَ الثَّمَانِيَةَ وَقَالَ فِي آخِرِهَا: تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ" فَهَذَا لَفْظُهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ.
فرع: قَالَ الْبَغَوِيّ يُكْرَهُ إطَالَةُ الْقُنُوتِ كَمَا يُكْرَهُ إطَالَةُ التَّشَهُّدِ الْأَوَّل قَالَ: وَتُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهِ، فَإِنْ قَرَأَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.
الْخَامِسَةُ: هَلْ يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُسْتَحَبُّ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ وَالْقَفَّالِ وَالْبَغَوِيِّ، وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَأَشَارُوا إلَى تَرْجِيحِهِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ لَا تُرْفَعُ لَهُ الْيَدُ كَدُعَاءِ السُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَفِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ إمَامِ طَرِيقَةِ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَفِي "الْمِنْهَاجِ"، وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّيْخِ نَصْرِ الْمَقْدِسِيِّ فِي كُتُبِهِ الثَّلَاثَةِ: الِانْتِخَابِ وَالتَّهْذِيبِ وَالْكَافِي وَآخَرِينَ. قَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ": وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ لَهُ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا رضي الله عنهم قَالَ
"لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا صَلَّى الْغَدَاةَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، يَعْنِي الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله تعالى: وَلِأَنَّ عَدَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الْقُنُوتِ. ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: "صَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَهَرَ بِالدُّعَاءِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا عَنْ عُمَرَ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ. وَأَمَّا مَسْحُ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الدُّعَاءِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ لَمْ يُشْرَعْ الْمَسْحُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قُلْنَا: يَرْفَعُ فَوَجْهَانِ "أَشْهُرُهُمَا" أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ. وَمِمَّنْ قَطَعَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَالشَّيْخُ نَصْرٌ فِي كُتُبِهِ وَالْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَالثَّانِي: لَا يَمْسَحُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رابعة المسائل التي في هذا الفصل وهي سبع مسائل (ط).

 

ج / 3 ص -333-       وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَسْتُ أَحْفَظُ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ هُنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ يُرْوَى عَنْ بَعْضِهِمْ فِي الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ عَمَلٌ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَا قِيَاسٌ. فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ وَيُقْتَصَرَ عَلَى مَا نَقَلَهُ السَّلَفُ عَنْهُمْ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ دُونَ مَسْحِهِمَا بِالْوَجْهِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ حَدِيثًا مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
"أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَلُوا اللَّهَ بِبُطُونِ كُفُوفِكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ" قَالَ أَبُو دَاوُد: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ كُلُّهَا وَاهِيَةٌ، هَذَا مَتْنُهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ الْبَاشَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الله - يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - عَنْ الَّذِي إذَا دَعَا مَسَحَ وَجْهَهُ قَالَ: لَمْ أَجِدْ لَهُ ثَبْتًا. قَالَ عَلِيُّ: وَلَمْ أَرَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ وَكَانَ عَبْدُ الله يَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي الْوِتْرِ وَكَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ فِي "كِتَابِ السُّنَنِ"، وَلَهُ رِسَالَةٌ مَشْهُورَةٌ كَتَبَهَا إلَى الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِيهَا أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا مَسْحَهُ وَجْهَهُ بَعْدَ الْقُنُوتِ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم
"كَانَ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، انْفَرَدَ بِهِ حَمَّادُ بْنُ عِيسَى وَحَمَّادُ هَذَا ضَعِيفٌ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ الْأَحْكَامِ وَقَالَ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَغَلِطَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا قَالَ غَرِيبٌ، وَالْحَاصِلُ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ: يُسْتَحَبُّ رَفْعُ يَدَيْهِ دُونَ مَسْحِ الْوَجْهِ وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَبَّانِ. وَالثَّالِثُ: يُسْتَحَبَّانِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْوَجْهِ مِنْ الصَّدْرِ وَغَيْرِهِ فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، بَلْ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ: هُوَ مَكْرُوهٌ، وَالله أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ: إذَا قَنَتَ الْإِمَامُ فِي الصُّبْحِ هَلْ يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَحَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَمِنْهُمْ صَاحِبُ "الْحَاوِي".
أَحَدُهُمَا: لَا يَجْهَرُ كَالتَّشَهُّدِ وَكَسَائِرِ الدَّعَوَاتِ وَأَصَحُّهُمَا: يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ، وَبِهِ قَطَعَ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَيَحْتَجُّ لَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا عَنْ "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" فِي قُنُوتِ النَّازِلَةِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ سَأَلَ الرَّحْمَةَ أَوْ اسْتَعَاذَ مِنْ الْعَذَابِ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُوَافِقُهُ فِي السُّؤَالِ، وَلَا يُؤَمِّنُ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُتَوَلِّي وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَيُسِرُّ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَأَمَّا الْمَأْمُومُ - فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجْهَرُ الْإِمَامُ - قَنَتَ وَأَسَرَّ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجْهَرُ الْإِمَامُ فَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ الْإِمَامَ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ أَصَحُّهُمَا: يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ وَلَا يَقْنُتُ وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ وَالثَّانِي: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ التَّأْمِينِ وَالْقُنُوتِ فَإِنْ قُلْنَا يُؤَمِّنُ فوجهان أَحَدِهِمَا: يُؤَمِّنُ

 

ج / 3 ص -334-       فِي الْجَمِيعِ وَأَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: يُؤَمِّنُ فِي الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ دُعَاءٌ. وَأَمَّا الثَّنَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ إلَى آخِرِهِ فَيُشَارِكُهُ فِي قَوْلِهِ أَوْ يَسْكُتُ1، وَالْمُشَارَكَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ وَذِكْرٌ لَا يَلِيقُ فِيهِ التَّأْمِينُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ لِبُعْدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَقُلْنَا لَوْ سَمِعَ لَأَمَّنَ فَهَهُنَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: يَقْنُتُ وَالثَّانِي: يُؤَمِّنُ، وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ. هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ وَفِيمَا إذَا قَنَتَ فِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا إذَا قَنَتَ فِي بَاقِي الْمَكْتُوبَاتِ حَيْثُ قُلْنَا بِهِ فَقَالَ الرَّافِعِيُّ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُسِرُّ بِهِ فِي السِّرِّيَّاتِ، وَفِي جَهْرِهِ بِهِ فِي الْجَهْرِيَّاتِ الْوَجْهَانِ، قَالَ وَإِطْلَاقُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلَافِ فِي الْجَمِيعِ. قَالَ وَحَدِيثُ قُنُوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ رضي الله عنهم يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَالصَّحِيحُ أَوْ الصَّوَابُ اسْتِحْبَابُ الْجَهْرِ، فَفِي الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الله تَعَالَى:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بِالْقُنُوتِ فِي قُنُوتِ النَّازِلَةِ" وَفِي الْجَهْرِ بِالْقُنُوتِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْقُنُوتِ.
وَاحْتَجَّ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ فِي اسْتِحْبَابِ تَأْمِينِ الْمَأْمُومِ عَلَى قُنُوتِ الْإِمَامِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"قَنَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، إذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمْدَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ.
السَّابِعَةُ: فِي أَلْفَاظِ الْفَصْلِ، الْقُنُوتُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ، مِنْهَا الدُّعَاءُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ هَذَا الدُّعَاءُ قُنُوتًا، وَيُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ بِخَيْرٍ وَشَرٍّ، يُقَالُ: قَنَتَ لَهُ وَقَنَتَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ ثُمَّ تَرَكَهُ" مَعْنَاهُ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَهُ الْقُرَّاءَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالنُّونِ – وَقَوْلُهُ: "ثُمَّ تَرَكَهُ" فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله حَكَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ: أَحَدُهُمَا: تَرَكَ الْقُنُوتَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ وَالثَّانِي: تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ وَلَعْنَتَهُمْ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي الصُّبْحِ فَلَمْ يَتْرُكْهُ. قَوْلُهُ: "لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ" هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ، قَوْلُهُ: "وَنَخْلَعُ مَنْ يَفْجُرُكَ" أَيْ نَتْرُكُ مَنْ يَعْصِيكَ وَيُلْحِدُ فِي صِفَاتِكَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ، قَوْلُهُ: "وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ" هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ نُسَارِعُ إلَى طَاعَتِكَ وَأَصْلُ الْحَفْدِ الْعَمَلُ وَالْخِدْمَةُ. قَوْلُهُ: "إنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ" هُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ الْحَقَّ، وَلَمْ تَقَعْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي "الْمُهَذَّبِ". قَوْلُهُ: "مُلْحِقٌ" الْأَشْهَرُ فِيهِ كَسْرُ الْحَاءِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ وَآخَرُونَ فِيهِ الْفَتْحَ، فَمَنْ فَتَحَ فَمَعْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَلْحَقَهُ بِهِمْ، وَمَنْ كَسَرَ مَعْنَاهُ لَحِقَ، كَمَا يُقَالُ: أَنْبَتَ2 الزَّرْعُ بِمَعْنَى نَبَتَ قَوْلُهُ: "وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ" أَيْ أُمُورَهُمْ وَمُوَاصَلَاتِهِمْ قَوْلُهُ:
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أَيْ اجْمَعْهَا عَلَى الْخَيْرِ. قَوْلُهُ:


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من البدع التي لم نجد لها أصلا قول المأمومين وكأنهم في حلقة من حلقات التواجد عند عبارات الثناء هذه "حقا" وقولهم عند تباركت ربنا وتعاليت "يا الله" ويجاريهم في ذلك بعض المتفقهين (ط).
2 أنبت لازم بمعنى نبت فيقال نبتت الأرض بدون مفعول ويمكن أن يتعدى بمفعول لأن هذا الفعل كألحق يلزم ويتعدى (ط).

 

ج / 3 ص -335-       "الْحِكْمَةُ" فَهِيَ كُلُّ مَا مَنَعَ الْقَبِيحَ. قَوْلُهُ: "وَأَوْزِعْهُمْ" أَيْ أَلْهِمْهُمْ، قَوْلُهُ: "وَاجْعَلْنَا مِنْهُمْ" أَيْ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، قَوْلُهُ: "إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْفَعْ الْيَدَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَالِاسْتِنْصَارِ وَعَشِيَّةِ عَرَفَةَ" وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِنْصَارِ الدُّعَاءُ بِالنَّصْرِ عَلَى الْكُفَّارِ.
قَوْلُهُ: "لِمَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ" هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَبْطُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَرَيْحَانَتُهُ، اُخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وِلَادَتِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ فِي نِصْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَقِيلَ إحْدَى وَخَمْسِينَ وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا رضي الله تعالى عنه "وَأَمَّا أَبُو رَافِعٍ" الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ قُنُوتُ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه فَهُوَ أَبُو رَافِعٍ الصَّائِغُ وَاسْمُهُ نُفَيْعٌ - بِضَمِّ النُّونِ - مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَأَخْيَارِهِمْ بَكَى حِينَ أُعْتِقَ وَقَالَ: كَانَ لِي أَجْرَانِ فَذَهَبَ أَحَدُهُمَا.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي إثْبَاتِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ.
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ فِيهَا سَوَاءٌ نَزَلَتْ نَازِلَةٌ أَوْ لَمْ تَنْزِلْ وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنهم رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَقَالَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ خَلَائِقُ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَمَالِكٍ وَدَاوُد وَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا قُنُوتَ فِي الصُّبْحِ قَالَ أَحْمَدُ إلَّا الْإِمَامَ فَيَقْنُتُ إذَا بَعَثَ الْجُيُوشَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ يَقْنُتُ لَلنَّازِلَةِ خَاصَّةً. وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي "صَحِيحَيْهِمَا" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاتِهِ شَهْرًا يَدْعُو لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ ثُمَّ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ" وَعَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ قَالَ: "قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبِي إنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ فَحَدِّثْ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَا قَنَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ" وَعَنْ أَبِي مَخْلَدٍ قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما الصُّبْحَ فَلَمْ يَقْنُتْ فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أَرَاك تَقْنُتُ؟ فَقَالَ: مَا أَحْفَظُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ بِدْعَةٌ" وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ ثُمَّ تَرَكَ فَأَمَّا فِي الصُّبْحِ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتْ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا" حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ وَصَحَّحُوهُ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى صِحَّتِهِ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَلْخِيُّ وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ الله فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طُرُقٍ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَعَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَمْزَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا عُثْمَانَ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ قُلْتُ: عَمَّنْ؟ قَالَ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله تعالى عنهم" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَعْقِلٍ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ - التَّابِعِيِّ قَالَ: "قَنَتَ عَلِيٌّ رضي الله عنه

 

ج / 3 ص -336-       فِي الْفَجْرِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: هَذَا عَنْ عَلِيٍّ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ، وَعَنْ الْبَرَاءِ رضي الله تعالى عنه عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرُ الْمَغْرِبِ، وَلَا يَضُرُّ تَرْكُ النَّاسِ الْقُنُوتَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَوْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ فِيهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تَرَكَهُ فَالْمُرَادُ تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَلَعْنَتَهُمْ فَقَطْ، لَا تَرَكَ جَمِيعَ الْقُنُوتِ أَوْ تَرَكَ الْقُنُوتَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ
"لَمْ يَزَلْ يَقْنُتْ فِي الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا" صَحِيحٌ صَرِيحٌ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُتَعَيَّنُ لِلْجَمْعِ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ الْإِمَامِ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّمَا تَرَكَ اللَّعْنَ" وَيُوَضِّحُ هَذَا التَّأْوِيلَ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: "ثُمَّ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ".
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ أَنَّ رِوَايَةَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْقُنُوتَ مَعَهُمَا زِيَادَةُ عِلْمٍ وَهُمْ أَكْثَرُ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُمْ، وَعَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ السَّخْمِيِّ1 وَهُوَ شَدِيدُ الضَّعْفِ مَتْرُوكٌ وَلِأَنَّهُ نَفْيٌ وَحَدِيثُ أَنَسٍ إثْبَاتٌ فَقُدِّمَ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ، وَعَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْهُ أَوْ نَسِيَهُ وَقَدْ حَفِظَهُ أَنَسٌ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُمَا فَقُدِّمَ مَنْ حَفِظَ، وَعَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ضَعِيفٌ جِدًّا وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي لَيْلَى الْكُوفِيِّ وَقَالَ: هَذَا لَا يَصِحُّ وَأَبُو لَيْلَى مَتْرُوكٌ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ "قَنَتَ فِي الصُّبْحِ" وَعَنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ2 بْنِ يَعْلَى عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ضُعَفَاءُ، وَلَا يَصِحُّ لِنَافِعٍ سَمَاعٌ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ إذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ: قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهَا إنْ نَزَلَتْ قَنَتَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْقُنُوتِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ هَذَا غَلَطٌ مِنْهُ بَلْ قَدْ قَنَتَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِصِفِّينَ وَدَلِيلُنَا عَلَى مَنْ خَالَفَنَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا لِقَتْلِ الْقُرَّاءِ رضي الله عنهم" وَقَدْ سَبَقَتْ جُمْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبَاقِيهَا مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ.
فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي مَحِلِّ الْقُنُوتِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ مَحِلَّهُ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رضي الله تعالى عنهم حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وورد اسمه مصغراً اليمامي عن حبيب بن أبي ثابت وعون بن أبي جحيفة وسماك بن حرب وطائفة وعنه أيوب مع تقدمه والسفيانان ووكيع وخلق. ضعفه ابن معين قال الفلاس: صدوق متروك الحديث ا هـ من التهذيب (ط).
2 ابن يعلى السلمي الكوفي قال البخاري: ذاهب الحديث وعنبسة قال أبو حاتم يضع. أما عبد الله بن نافع مولى ابن عمر عن أبيه قال فيه البخاري منكر الحديث (ط).

 

ج / 3 ص -337-       عَنْهُمْ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُمْ وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرَوَيْنَا الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْبَرَاءِ وَأَنَسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رضي الله عنهم، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ التَّخْيِيرَ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ عَنْ أَنَسٍ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَأَحْمَدَ وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِالْأَمْرَيْنِ فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ" وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ "قُلْتُ لِأَنَسٍ قَنَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي الصُّبْحِ؟ قَالَ نَعَمْ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي الْفَجْرِ يَدْعُو عَلَى بَنِي عُصَيَّةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ عَاصِمٍ قَالَ: "سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ الْقُنُوتِ أَكَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: بَعْدَهُ قُلْتُ فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: قَبْلَ الرُّكُوعِ: قَالَ كَذَبَ إنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ خِفَافِ1 بْنِ إيمَاءٍ رضي الله عنه قَالَ: "رَكَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ وَعُصَيَّةُ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، اللَّهُمَّ الْعَنْ بَنِي لِحْيَانَ وَالْعَنْ رِعْلًا وَذَكْوَانَ ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَيْنَا عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِالْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ ثُمَّ ذَكَرْنَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ
"إنَّمَا قَنَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا فَقُلْتُ: كَيْفَ الْقُنُوتُ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّ الْقُنُوتَ الْمُطْلَقَ الْمُعْتَادَ بَعْدَ الرُّكُوعِ قَالَ: وَقَوْلُهُ "إنَّمَا قَنَتَ شَهْرًا" يُرِيدُ بِهِ اللَّعْنَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوَاةُ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ فَهُوَ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رضي الله عنهم فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ وَأَكْثَرِهَا وَالله أَعْلَمُ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الغفاري كان إمام مسجد بني غافر وخطيبهم وشهد الحديبية وتوفي في خلافة عمر بالمدينة (ط).

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ
قَدْ سَبَقَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ اسْتِحْبَابُهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ قَالَ: وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ. وَقَدْ سَبَقَ دَلِيلُ الْجَمِيعِ وَالله أَعْلَمُ.

فرع: فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَبَيَانِ جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى

 

ج / 3 ص -338-       وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ فَثَارَ سَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ مِنْ لِحْيَتِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَرَوَيَا بِمَعْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ "فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدْعُو وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَ فَمَا خَرَجْنَا مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى مُطِرْنَا فَمَا زِلْنَا بِمَطَرٍ حَتَّى كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى" وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَثَبَتَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرِ أَنَسٍ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ سَخِيٌّ يَسْتَحْيِ إذَا رَفَعَ الرَّجُلُ يَدَيْهِ إلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ "وَالصِّفْرُ" بِكَسْرِ الصَّادِ الْخَالِي. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا صَلَّى الْغَدَاةَ رَفْعَ يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ يَعْنِي عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ حَسَنٍ، وَقَدْ سَبَقَ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي حَدِيثِهَا الطَّوِيلِ فِي خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلِ إلَى الْبَقِيعِ لِلدُّعَاءِ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ قَالَتْ: "أَتَى الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ قَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَانِي فَقَالَ: إنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ وَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي فَمَازَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
"قَوْلُهُ" يَهْتِفُ - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ - يُقَالُ: هَتَفَ يَهْتِفُ إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما
"أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلًا وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَقْبِلُ وَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:
"صَبَّحَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بُكْرَةً وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِي فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ صَحِيحِهِ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إلَى أَوْطَاسٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَأَنَّ أَبَا عَامِرٍ رضي الله عنه اُسْتُشْهِدَ فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى: يَا بْنَ أَخِي أَمَّرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، وَمَاتَ أَبُو عَامِرٍ قَالَ أَبُو مُوسَى: فَرَجَعْتُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفْعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ أَبِي عَامِرٍ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ وَمِنْ النَّاسِ، فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ الله بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى

 

ج / 3 ص -339-       السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأُقِيمُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَأَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ اُثْبُتْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ رضي الله عنه فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو رَافِعًا يَدَيْهِ يَقُولُ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَلَا تُعَاقِبْنِي، أَيُّمَا رَجُلٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ فَلَا تُعَاقِبْنِي فِيهِ".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
"اسْتَقْبَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ وَتَهَيَّأَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ" وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه "أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ جَابِرٌ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ ؟" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي هِجْرَتِهِ مَعَ صَاحِبٍ لَهُ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ مَرِضَ فَجَزَعَ فَجَرَحَ يَدَيْهِ فَمَاتَ فَرَآهُ الطُّفَيْلُ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غُفِرَ لِي بِهِجْرَتِي إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا شَأْنُ يَدَيْكَ؟ قَالَ قِيلَ لَنْ يَصْلُحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ مِنْ نَفْسِكَ فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ - رَفْعَ يَدَيْهِ" وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةُ الْوَلِيدِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو إلَيْهِ زَوْجَهَا أَنَّهُ يَضْرِبُهَا فَقَالَ: اذْهَبِي إلَيْهِ فَقُولِي لَهُ كَيْتُ وَكَيْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَهَبَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَقَالَتْ: إنَّهُ عَادَ يَضْرِبُنِي فَقَالَ: اذْهَبِي فَقُولِي لَهُ كَيْتُ وَكَيْتُ فَقَالَتْ: إنَّهُ يَضْرِبُنِي فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْوَلِيدَ". وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَافِعًا يَدَيْهِ حَتَّى بَدَا ضَبْعَاهُ يَدْعُو لِعَوْدِ عُثْمَانَ رضي الله عنه" وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ "رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ بَاسِطًا كَفَّيْهِ" وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الْقُنُوتِ وَعَنْ الْأَسْوَدِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الْقُنُوتِ" هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ "إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَلَا تُعَاقِبْنِي" إلَى آخِرِهَا رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ وَفِيمَا ذَكَرْتُهُ كِفَايَةٌ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ ادَّعَى حَصْرَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ بِالرَّفْعِ فِيهَا فَهُوَ غَالِطٌ غَلَطًا فَاحِشًا وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْفَرْضُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ: النِّيَّةُ وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامُ وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالرُّكُوعُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ فِيهِ، وَالرَّفْعُ مِنْ الرُّكُوعِ حَتَّى يَعْتَدِلَ، وَالسُّجُودُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَطْمَئِنَّ، وَالْجُلُوسُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَالتَّسْلِيمَةُ الْأُولَى، وَنِيَّةُ الْخُرُوجِ وَتَرْتِيبُ أَفْعَالِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَالسُّنَنُ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ: رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ، وَالرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ، وَالنَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ، وَدُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ، وَالتَّعَوُّذُ، وَالتَّأْمِينُ، وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَالْجَهْرُ وَالْإِسْرَارُ، وَالتَّكْبِيرَاتُ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالتَّسْمِيعُ، وَالتَّحْمِيدُ فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ، وَالتَّسْبِيحُ فِي السُّجُودِ، وَوَضْعُ الْيَدِ عَلَى

 

ج / 3 ص -340-       الرُّكْبَةِ فِي الرُّكُوعِ، وَمَدُّ الظَّهْرِ وَالْعُنُقِ فِيهِ، وَالْبِدَايَةُ بِالرُّكْبَةِ ثُمَّ بِالْيَدِ فِي السُّجُودِ، وَوَضْعُ الْأَنْفِ فِي السُّجُودِ، وَمُجَافَاةُ الْمِرْفَقِ عَنْ الْجَنْبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِقْلَالُ الْبَطْنِ عَنْ الْفَخِذِ فِي السُّجُودِ، وَالدُّعَاءُ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَجِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ، وَوَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ الْقِيَامِ، وَالتَّوَرُّكُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَالِافْتِرَاشُ فِي سَائِرِ الْجِلْسَاتِ، وَوَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْفَخِذِ الْيُمْنَى مَقْبُوضَةً، وَالْإِشَارَةُ بِالْمُسَبِّحَةِ، وَوَضْعُ الْيَدِ الْيُسْرَى عَلَى الْفَخِذِ الْيُسْرَى مَبْسُوطَةً، وَالتَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى آلِهِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَالدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ، وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ، وَنِيَّةُ السَّلَامِ عَلَى الْحَاضِرِينَ.
الشَّرْحُ:
أَمَّا فَرَائِضُهَا فَهِيَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا خِلَافٌ سَبَقَ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَضَمَّ ابْنُ الْقَاصِّ وَالْقَفَّالُ إلَى الْفُرُوضِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ شَرْطٌ لَا فَرْضٌ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ شَرْطٌ لَا فَرْضٌ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا فَرْضٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا مَبْسُوطَةً وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْبَسِيطِ" وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ رُكْنٌ مُسْتَقِلٌّ كَالرُّكُوعِ أَمْ رُكْنٌ مُتَكَرِّرٌ كَالرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّجْدَةِ الْأُولَى رُكْنٌ، قَالَ: وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْعِبَارَةِ. وَأَمَّا السُّنَنُ فَمِنْهَا هَذِهِ الْخَمْسُ وَالثَّلَاثُونَ الَّتِي ذَكَرَهَا وَبَقِيَ مِنْهَا سُنَنٌ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ هُنَا. وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ كَثِيرًا فِي مَوْضِعِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِذَاكَ عَنْ ذِكْرِهِ هُنَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَغْنِيَ بِهِ كَمَا لَمْ يَسْتَغْنِ فِي هَذِهِ الْخَمْسِ وَالثَّلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ سَبَقَتْ فِي مَوْضِعِهَا؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ هُنَا حَصْرُهَا وَضَبْطُهَا بِالْعَدَدِ، فَمِمَّا تَرَكَهُ تَفْرِيقُ أَصَابِعِ يَدَيْهِ إذَا رَفَعَهَا، وَتَفْرِيقُهَا عَلَى الرُّكْبَةِ فِي الرُّكُوعِ، وَضَمُّهَا إلَى الْقِبْلَةِ فِي السُّجُودِ، وَتَوْجِيهُ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ إلَى الْقِبْلَةِ فِي السُّجُودِ، وَجَعْلُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فِي السُّجُودِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِي السُّجُودِ، وَالدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ وَجَعْلُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَوْقَ السُّرَّةِ وَالْجَهْرُ بِالتَّأْمِينِ وَالِالْتِفَاتُ مِنْ التَّسْلِيمَتَيْنِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَغَيْرُهَا مِمَّا سَبَقَ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ يُقَالُ اسْتَغْنَى لِكَوْنِهِ وَصْفًا لِشَيْءٍ ذَكَرَهُ هُنَا، وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْمَوْصُوفِ. وَالله أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: "التَّسْمِيعُ وَالتَّحْمِيدُ فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ" كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ التَّسْمِيعُ فِي الرَّفْعِ وَالتَّحْمِيدُ فِي الِاعْتِدَالِ مِنْهُ.؛ لِأَنَّ التَّحْمِيدَ لَا يُشْرَعُ فِي الرَّفْعِ إنَّمَا يُشْرَعُ إذَا اعْتَدَلَ، وَكَأَنَّهُ اخْتَصَرَ وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِهِ عَلَى وَجْهِهِ فِي مَوْضِعِهِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لِلصَّلَاةِ أَرْكَانٌ وَأَبْعَاضٌ وَهَيْئَاتٌ وَشُرُوطٌ، فَالْأَرْكَانُ هِيَ الْفُرُوضُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا، وَالْأَبْعَاضُ سِتَّةٌ أَحَدُهَا: الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ وَفِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالثَّانِي: الْقِيَامُ لِلْقُنُوتِ، وَالثَّالِثُ: التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ وَالرَّابِعُ: الْجُلُوسُ لَهُ وَالْخَامِسُ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ إذَا قُلْنَا هِيَ سُنَّةٌ وَالسَّادِسُ: الْجُلُوسُ لِلصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدَيْنِ إذَا قُلْنَا هِيَ سُنَّةٌ فِيهِمَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ كُلِّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا الْهَيْئَاتُ وَهِيَ السُّنَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ أَبْعَاضًا فَكُلُّ مَا يُشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ الْأَرْكَانِ وَالْأَبْعَاضِ، وَأَمَّا الشُّرُوطُ فَخَمْسَةٌ: الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ، وَالطَّهَارَةُ عَنْ النَّجَسِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَمَعْرِفَتُهُ الْوَقْتَ يَقِينًا أَوْ ظَنَّا

 

ج / 3 ص -341-       بِمُسْتَنَدٍ، وَضَمَّ الْفُورَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ إلَى الشُّرُوطِ تَرْكَ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَتَرْكَ الْكَلَامِ وَتَرْكَ الْأَكْلِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِشُرُوطٍ وَإِنَّمَا هِيَ مُبْطِلَاتُ الصَّلَاةِ، كَقَطْعِ النِّيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا تُسَمَّى شُرُوطًا فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ وَلَا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ أَطْلَقُوا عَلَيْهَا فِي مَوْضِعٍ اسْمَ الشَّرْطِ كَانَ مَجَازًا لِمُشَارَكَتِهَا الشَّرْطَ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ اخْتِلَالِهِ، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ تَرَكَ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ بِعُذْرٍ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، كَفَاقِدِ السُّتْرَةِ، وَإِنْ تَرَكَ غَيْرَهُمَا صَحَّتْ وَفَاتَهُ الْفَضِيلَةُ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْ الْأَبْعَاضِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَإِلَّا فَلَا. هَذَا مُخْتَصَرُ الْقَوْلِ فِي هَذَا، وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعِهِ وَبِالله التَّوْفِيقُ.

فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الصَّلَاةِ.
أَحَدُهَا: يُسْتَحَبُّ دُخُولُهُ فِيهَا بِنَشَاطٍ وَإِقْبَالٍ عَلَيْهَا وَأَنْ يَتَدَبَّرَ الْقِرَاءَةَ وَالْأَذْكَارَ وَيُرَتِّلَهُمَا وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ، وَيُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا وَيَمْتَنِعَ مِنْ الْفِكْرِ فِي غَيْرِ هَذَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا وَيُسْتَحَبُّ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ أَنْ تُلِينَ جَانِبَكَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ، وَأَنْ لَا تَلْتَفِتَ فِي صَلَاتِك. وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ: الْخُشُوعُ السُّكُونُ فِيهَا وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. الْخَيْلُ الشُّمْسُ ذَاتُ التَّوَثُّبِ وَالنِّفَارِ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ ذَكَرَ فَضْلَ الْوُضُوءِ، وَفِي آخِرِهِ "إنْ قَامَ فَصَلَّى فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِاَلَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَةِ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ1 صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ وَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي الْيَسْرِ - بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتَ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ - وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ آخِرُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ وَالرُّبْعَ وَالْخُمْسَ حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا نَحْوَهُ أَوْ مِثْلَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادُهُ أَيْضًا صَحِيحٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش. و. ق. "يحضر" و "توت" (ط).

 

ج / 3 ص -342-       عنه إذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ، وَحَدَثَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ كَذَلِكَ، قَالَ فَكَانَ يُقَالُ: ذَلِكَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ" وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ وَالله أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْأُمِّ": أَرَى فِي كُلِّ حَالٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يُرَتِّلَ التَّشَهُّدَ وَالتَّسْبِيحَ وَالْقِرَاءَةَ أَوْ يَزِيدَ فِيهَا شَيْئًا بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّ مَنْ وَرَاءَهُ مِمَّنْ يَثْقُلُ لِسَانُهُ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَرَى لَهُ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ أَنْ يَتَمَكَّنَ لِيُدْرِكَهُ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَالثَّقِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَفَعَلَ بِأَخَفِّ الْأَشْيَاءِ كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، هَذَا نَصُّهُ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِبَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَلْيَقُ، لَكِنْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْبَابِ، وَهُنَا ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَسَنُعِيدُهَا مَبْسُوطَةً بِفُرُوعِهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا فَرْضٌ، وَمَعْرِفَةُ أَعْمَالِهَا قَالَ: فَإِنْ جَهِلَ فَرْضِيَّةَ أَصْلِ الصَّلَاةِ أَوْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الصَّلَاةِ فَرِيضَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ فَرِيضَةَ الصَّلَاةِ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعْرِفْ فَرْضِيَّةَ الْوُضُوءِ، أَمَّا إذَا عَلِمَ فَرْضِيَّةَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَرْكَانَهَا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا سُنَّةً وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَ بَعْضَ أَفْعَالِهَا فَرْضًا وَبَعْضَهَا سُنَّةً وَلَا يُمَيِّزُ الْفَرْضَ مِنْ السُّنَّةِ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَاهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا فَرْضًا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ وَهِيَ وَاجِبَةٌ وَأَصَحُّهُمَا: تَصِحُّ وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ أَدَّى سُنَّةً بِاعْتِقَادِ الْفَرْضِ وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ. قَالَ الْبَغَوِيّ فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ صَلَاتَهُ فَفِي صِحَّةِ وُضُوئِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَجْهَانِ، هَكَذَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْعَامِّيِّ وَغَيْرِهِ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْفَتَاوَى": الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ فَرَائِضَ صَلَاتِهِ مِنْ سُنَنِهَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْصِدَ التَّنَفُّلَ بِمَا هُوَ فَرْضٌ، فَإِنْ نَوَى التَّنَفُّلَ بِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَلَوْ غَفَلَ عَنْ التَّفْصِيلِ فَنِيَّةُ الْجُمْلَةِ فِي الِابْتِدَاءِ كَافِيَةٌ. هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْزَمَ الْأَعْرَابَ وَغَيْرَهُمْ هَذَا التَّمْيِيزَ، وَلَا أَمَرَ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ هَذَا وَالله أَعْلَمُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: وَيَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ وَالتَّشَهُّدَ وَتَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَصِفَةَ الصَّلَاةِ كُلِّهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِيمَنْ لَا يُحْسِنُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمّ" عَلَى أَصْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
الرَّابِعَةُ: فِي "التَّنْبِيهِ" عَلَى حِفْظِ أَشْيَاءَ سَبَقَتْ مَبْسُوطَةً، مِنْهَا أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ مُسْتَحَبٌّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَنَا، عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَكَذَا فِي الْقِيَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَتَكُونُ الْأَصَابِعُ مُفَرَّقَةً فِيهَا كُلِّهَا وَلِلْأَصَابِعِ أَحْوَالٌ فِي الصَّلَاةِ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي فَصْلِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَسَبَقَ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً وَفِي الثُّلَاثِيَّةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَفِي الثُّنَائِيَّةِ إحْدَى عَشْرَةَ، وَأَنَّ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ أَرْبَعَ جِلْسَاتٍ الْجِلْسَةُ بَيْنَ سَجْدَتَيْنِ، وَلِلِاسْتِرَاحَةِ وَلِلتَّشَهُّدَيْنِ يَتَوَرَّكُ فِي الْآخِرَةِ وَيَفْتَرِشُ فِي الْبَاقِي وَأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَغْرِبِ أَرْبَعَ تَشَهُّدَاتٍ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ.

 

ج / 3 ص -343-       الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْمُخْتَصَرِ": وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي عَمَلِ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَضُمَّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، وَأَنْ تُلْصِقَ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا فِي السُّجُودِ كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ، وَأُحِبُّ ذَلِكَ لَهَا فِي الرُّكُوعِ وَفِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَأَنْ تُكَثِّفَ جِلْبَابَهَا وَتُجَافِيهِ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً لِئَلَّا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا، وَأَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا. وَإِنْ نَابَهَا شَيْءٌ فِي صَلَاتِهَا صَفَّقَتْ، هَذَا نَصُّهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا وَأَبْعَاضِهَا وَأَمَّا الْهَيْئَاتُ الْمَسْنُونَاتُ فَهِيَ كَالرَّجُلِ فِي مُعْظَمِهَا وَتُخَالِفُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَيُخَالِفُ النِّسَاءُ الرِّجَالَ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: لَا تَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِنَّ كَتَأَكُّدِهَا فِي الرِّجَالِ الثَّانِي: تَقِفُ إمَامَتُهُنَّ وَسَطَهُنَّ الثَّالِثُ: تَقِفُ وَاحِدَتُهُنَّ خَلْفَ الرَّجُلِ لَا بِجَنْبِهِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ الرَّابِعُ: إذَا صَلَّيْنَ صُفُوفًا مَعَ الرِّجَالِ فَآخِرُ صُفُوفِهِنَّ أَفْضَلُ مِنْ أَوَّلِهَا وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسَائِلُ بِدَلَائِلِهَا وَفُرُوعِهَا مَبْسُوطَةً فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَمَوْقِفُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا صِفَةُ قُعُودِهَا فِي صَلَاتِهَا فَكَصِفَةِ قُعُودِ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا وَقَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": إذَا صَلَّتْ قَاعِدَةً جَلَسَتْ مُتَرَبِّعَةً وَهَذَا شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَلِمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهَا كَالرَّجُلِ إلَّا فِيمَا اسْتَثْنَاهُ الشَّافِعِيُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله نَصَّ هُنَا عَلَى خَفْضِ صَوْتِهَا، وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ وَبِالله التَّوْفِيقُ.