المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَدِّ التَّطَوُّعِ وَالنَّافِلَةِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَطَوُّعَ الصَّلَاةِ هُوَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ بِخُصُوصِيَّتِهِ بَلْ يُفَضِّلُهُ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً، وَالذَّاهِبُونَ إلَى هَذَا قَالُوا: مَا عَدَا الْفَرَائِضِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ "سُنَنٌ" وَهِيَ الَّتِي وَاظَبَ عَلَيْهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "وَمُسْتَحَبَّاتٌ" وَهِيَ الَّتِي فَعَلَهَا أَحْيَانًا وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا "وَتَطَوُّعَاتٌ" وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا أَوَّلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّفَلَ وَالتَّطَوُّعَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُمَا مَا سِوَى الْفَرَائِضِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ السُّنَّةَ وَالنَّفَلَ وَالتَّطَوُّعَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُرَغَّبَ فِيهِ وَالْمُسْتَحَبَّ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ وَهِيَ مَا سِوَى الْوَاجِبَاتِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّطَوُّعُ فِي الْأَصْلِ فِعْلُ الطَّاعَةِ، وَصَارَ فِي الشَّرْعِ مَخْصُوصًا بِطَاعَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ لِمَا رَوَى عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
"اسْتَقِيمُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ" وَلِأَنَّهَا تَجْمَعُ مِنْ الْقُرَبِ مَا لَا يَجْمَعُ غَيْرُهَا مِنْ الطَّهَارَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَذِكْرِ الله تَعَالَى، وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَيُمْنَعُ فِيهَا مِنْ كُلِّ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمَشْيِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ. وَتَطَوُّعُهَا أَفْضَلُ التَّطَوُّعِ.
الشرح:
حَدِيثُ عَبْدِ الله هَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي "سُنَنِهِ" فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِيهِ وَفِي فَضَائِلِ الصَّلَوَاتِ قَبْلَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ رَوَيَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله، وَمِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ بِلَفْظِهِ هُنَا، وَفِيهِ زِيَادَةٌ قَالَ: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ" إلَخْ لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ

 

ج / 3 ص -344-       عَنْ عَبْدِ الله "أَنَّ مِنْ خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةَ" وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبَيْهَقِيّ إثْبَاتُ "مِنْ" وَفِي بَعْضِهَا حَذْفُهَا وَإِسْنَادُ رِوَايَةِ عَبْدِ الله فِيهِ ضَعْفٌ، وَإِسْنَادُ رِوَايَةِ ثَوْبَانَ جَيِّدٌ لَكِنْ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَمْ يَسْمَعْ سَالِمٌ مِنْ ثَوْبَانَ وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" مُرْسَلًا مُعْضَلًا. فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ، وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ" قَالَ صَاحِبُ "مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ": الْزَمُوا طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ، وَقَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَإِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ جَمِيعَ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَلَنْ تُحْصُوا أَنْ تُطِيقُوا الِاسْتِقَامَةَ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَقِيلَ: لَنْ تُحْصُوا مَا لَكُمْ فِي الِاسْتِقَامَةِ مِنْ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ وَسَائِرِ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ، وَقَالَ صَاحِبُ "الْمُسْتَظْهِرِيِّ" فِي كِتَابِ الصِّيَامِ: اُخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: الصَّلَاةُ أَفْضَلُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ وَالصَّوْمُ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَيُحْتَجُّ بِتَرْجِيحِ الصَّوْمِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ [بِفِطْرِهِ] وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعمِائَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي" وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّائِمُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ غَيْرُهُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَمَّا الدَّلِيلُ لِتَرْجِيحِ الصَّلَاةِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ - فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ مَشْهُورَةٌ "مِنْهَا" "حَدِيثُ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ" وَقَدْ سَبَقَ وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّوْمِ، وَالْعَرَبُ تَبْدَأُ بِالْأُمِّ "وَحَدِيثُ" ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى الله؟ وَفِي رِوَايَةٍ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْهُ: "أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذَا يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ لِجَمِيعِ أُمَّتِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ [شَيْءٌ]؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لَمْ تُغْشَ1 الْكَبَائِرُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ" رَوَاه


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث
"الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (ط).
2 عمارة بن رؤيبة الثقفي له تسعة أحاديث انفرد له مسلم بحديثين هذا أحدهما (ط).

 

ج / 3 ص -345-       الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ الْبَرْدَانِ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، وَعَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ1 رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الله، فَانْظُرْ يَا بْنَ آدَمَ لَا يُطَالِبَنَّكَ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ.
وَيُسْتَدَلُّ أَيْضًا لِتَرْجِيحِ الصَّلَاةِ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كَوْنِهَا تَجْمَعُ الْعِبَادَاتِ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ مَا دَامَ مُكَلَّفًا إلَّا فِي حَقِّ الْحَائِضِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالله أَعْلَمُ.
"فَإِنْ قِيلَ" قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَتَطَوُّعُهَا أَفْضَلُ التَّطَوُّعِ يُرَدُّ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ الصَّلَاةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْإِيرَادَ غَلَطٌ وَغَفْلَةٌ مِنْ مُورِدِهِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا تَطَوُّعٌ، وَكَلَامُنَا هُنَا فِي التَّطَوُّعِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ فِي كِتَابِهِ "الزِّيَادَاتِ": الِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ مِنْ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ حِفْظَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
فرع: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمٍ، فَإِنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ بِلَا شَكٍّ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ يَكُونَ غَالِبًا عَلَيْهِ مَنْسُوبًا إلَى الْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَيَقْتَصِرَ مِنْ الْآخَرِ عَلَى الْمُتَأَكَّدِ مِنْهُ فَهَذَا مَحِلُّ الْخِلَافِ وَالتَّفْضِيلِ، وَالصَّحِيحُ تَفْضِيلُ الصَّلَاةِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَتَطَوُّعُهَا ضَرْبَانِ "ضَرْبٌ" تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ "وَضَرْبٌ" لَا تُسَنُّ لَهُ فَمَا سُنَّ لَهُ الْجَمَاعَةُ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَهَذَا الضَّرْبُ أَفْضَلُ مِمَّا لَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْفَرَائِضَ فِي سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ، وَأَوْكَدُ ذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ؛ لِأَنَّهَا رَاتِبَةٌ بِوَقْتٍ كَالْفَرَائِضِ، ثُمَّ صَلَاةُ الْكُسُوفِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] وَلَيْسَ هَهُنَا صَلَاةٌ تَتَعَلَّقُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إلَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ ثُمَّ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ وَلِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ أَبْوَابٌ نَذْكُرُ فِيهَا أَحْكَامَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا تَطَوُّعُ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ:
"ضَرْبٌ" تُسَنُّ فِيهِ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ الْعِيدُ، وَالْكُسُوفُ، وَالِاسْتِسْقَاءُ، وَكَذَا التَّرَاوِيحُ عَلَى الْأَصَحِّ "وَضَرْبٌ" لَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ، لَكِنْ لَوْ فَعَلَ جَمَاعَةٌ صَحَّ وَهُوَ مَا سِوَى ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَفْضَلُهَا وَآكَدُهَا صَلَاةُ الْعِيدِ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْفَرَائِضَ، وَلِأَنَّهَا يُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ ثُمَّ الْكُسُوفَيْنِ ثُمَّ الِاسْتِسْقَاءُ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ قُلْنَا الِانْفِرَادُ بِهَا أَفْضَلُ فَالنَّوَافِلُ الرَّاتِبَةُ مَعَ الْفَرَائِضِ كَسُنَّةِ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَغَيْرِهِمَا أَفْضَلُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قُلْنَا - بِالْأَصَحِّ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهَا

 

ج / 3 ص -346-       أَفْضَلُ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمَحَامِلِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّرَاوِيحَ أَفْضَلُ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ؛ لِأَنَّهَا تُسَنُّ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَأَشْبَهَتْ الْعِيدَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ"، وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ أَنَّ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ أَفْضَلُ وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي "الْمُخْتَصَرِ" ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ عَلَى الرَّاتِبَةِ دُونَ التَّرَاوِيحِ وَضَعَّفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله، قَالَ فِي "الْمُخْتَصَرِ": وَأَمَّا قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الِانْفِرَادَ بِالتَّرَاوِيحِ أَفْضَلُ مِنْ إقَامَتِهَا جَمَاعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرَادَ أَنَّ الرَّاتِبَةَ الَّتِي لَا تُصَلَّى جَمَاعَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّرَاوِيحِ وَإِنْ شُرِعَتْ لَهَا الْجَمَاعَةُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِسِيَاقِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، قَالَ صَاحِبُ "الشَّامِلِ": هَذَا ظَاهِرُ نَصِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ صَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا أَفْضَلُ، بَلْ قَالَ: صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ آكَدُ مِنْ صَلَاةِ كُسُوفِ الْقَمَرِ وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ طُرُقٍ مُتَكَاثِرَاتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ" الْحَدِيثَ فَقَدَّمَ الشَّمْسَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالشَّمْسِ أَكْثَرُ مِنْ الْقَمَرِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ بِلَا خِلَافٍ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ بِدْعَةٌ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَسْقِي تَارَةً بِالصَّلَاةِ وَتَارَةً بِالدُّعَاءِ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ صَلَاةَ الْكُسُوفِ عِنْدَ وُجُودِهَا وَلِأَنَّ الْكُسُوفَ يُخَافُ فَوْتُهَا بِالِانْجِلَاءِ كَمَا يُخَافُ فَوْتُ الْفَرِيضَةِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَتَتَأَكَّدُ لِشَبَهِهَا بِهَا بِخِلَافِ الِاسْتِسْقَاءِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّ الْكُسُوفَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَالِاسْتِسْقَاءُ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكُسُوفَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ بَلْ فِيهَا طَلَبٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ لَا يُكْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادْعُوَا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ" وَفِي رِوَايَةٍ "لَا يُكْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ" وَفِي رِوَايَةٍ "فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ عَنْكُمْ" وَفِي رِوَايَةٍ "يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يَكْشِفَ مَا بِكُمْ" وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَبَعْضُهَا فِيهِمَا. وَبَعْضُهَا فِي أَحَدِهِمَا وَفِيهِمَا أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ نَحْوُهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكُسُوفَ غَالِبًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ ضَرَرٌ بِخِلَافِ الْقَحْطِ فَتَمَحَّضَ الْكُسُوفِ عِبَادَةٌ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا مَا لَا يُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ فَضَرْبَانِ: رَاتِبَةٌ بِوَقْتٍ وَغَيْرُ رَاتِبَةٍ، فَأَمَّا الرَّاتِبَةُ فَمِنْهَا السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ مَعَ الْفَرَائِضِ وَأَدْنَى الْكَمَالِ فِيهَا عَشْرُ رَكَعَاتٍ غَيْرُ الْوِتْرِ، وَهِيَ رَكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:
"صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الظُّهْرِ سَجْدَتَيْنِ ، وَبَعْدَهَا سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ سَجْدَتَيْنِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ

 

ج / 3 ص -347-       سَجْدَتَيْنِ" وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ" وَالْأَكْمَلُ أَنْ يُصَلِّيَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوِتْرِ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا [لِمَا] رَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حُرِّمَ عَلَى النَّارِ" وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ لِمَا رَوَى عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ [الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ1] وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ" وَالسُّنَّةُ فِيهَا وَفِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَيَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه [أَنَّهُ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ]".
الشرح:
حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، وَالسَّجْدَتَانِ رَكْعَتَانِ، وَحَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ السَّلَامِ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَاسْمُ أُمِّ حَبِيبَةَ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَقِيلَ: اسْمُهَا هِنْدٌ كُنِّيَتْ بِابْنَتِهَا حَبِيبَةَ بِنْتِ عَبْدِ الله بْنِ جَحْشٍ، وَكَانَتْ مِنْ السَّابِقِينَ إلَى الْإِسْلَامِ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ سَبْعٍ رضي الله عنها.
وَفِي الْفَصْلِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ أَيْضًا مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، ثُمَّ يَخْرُجُ وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْهَا "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا لَمْ يُصَلِّ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ صَلَّاهُنَّ بَعْدَهَا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَالْأَكْمَلُ فِي الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ غَيْرِ الْوِتْرِ ثَمَانِ عَشْرَةَ رَكْعَةً كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَأَدْنَى الْكَمَالِ عَشْرٌ كَمَا ذَكَرَهُ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ثَمَانٍ فَأَسْقَطَ سُنَّةَ الْعِشَاءِ قَالَ الْخُضَرِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ وَقِيلَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَزَادَ قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَقِيلَ بِزِيَادَةِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَكُلُّ هَذَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُؤَكَّدِ مِنْهُ.
فرع: فِي اسْتِحْبَابِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيِّينَ الصَّحِيحُ: مِنْهُمَا: الِاسْتِحْبَابُ لِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ "صَحِيحِهِ" وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "قَالَ: رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْهُ قَالَ:


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش. و. ق. (ط).

 

ج / 3 ص -348-       "كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ ، فَقُلْتُ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهَا فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْهُ قَالَ: "كُنَّا بِالْمَدِينَةِ وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه "أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي اسْتِحْبَابِهَا وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَبُو إِسْحَاقَ الطُّوسِيُّ وَأَبُو زَكَرِيَّا السُّكَّرِيُّ حَكَاهُ عَنْهُمَا الرَّافِعِيُّ وَهَذَا الِاسْتِحْبَابُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ شُرُوعِ الْمُؤَذِّنِ فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا إذَا شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ فَيُكْرَهُ أَنْ يَشْرَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ غَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ "إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم" فَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَأَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ عَنْهُ بِأَنَّهُ نَفَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَأَثْبَتَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ عَلِمَهُ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ رِوَايَةِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا لِكَثْرَتِهِمْ وَلِمَا مَعَهُمْ مِنْ عِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ ابْنُ عُمَرَ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ رَكْعَتَيْنِ فَصَاعِدًا لِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ يَشَاءُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالْمُرَادُ بِالْأَذَانَيْنِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
فرع: فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَهَا وَقَبْلَهَا: تُسَنُّ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا صَلَاةٌ وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ قَبْلَهَا وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا وَالْأَكْمَلُ أَرْبَعٌ قَبْلَهَا وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا هَذَا مُخْتَصَرُ الْكَلَامِ فِيهَا. وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ فِي "الْمِفْتَاحِ" فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ: سُنَّتُهَا أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا، وَقَالَ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ كَهِيَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ: لَا نَصَّ لِلشَّافِعِيِّ فِيمَا يُصَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَاَلَّذِي يُجْزِئُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَهَا مَا يُصَلِّي بَعْدَ الظُّهْرِ إنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ أَرْبَعًا. قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَكَذَا يُصَلِّي قَبْلَهَا مَا يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ أَبُو نَصْرٍ وَأَقَرَّهُ صَاحِبُ "الْبَيَانِ" عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا نَصَّ لَهُ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ غَلَطٌ بَلْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ذَكَرَ هَذَا النَّصَّ فِي "الْأُمِّ" فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، مِنْ كِتَابِ اخْتِلَافِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، وَهُوَ مِنْ أَوَاخِرِ كُتُبِ "الْأُمِّ" قَبْلَ كِتَابِ "سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ"، كَذَلِكَ رَأَيْتُهُ فِيهِ. وَنَقَلَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ فَهَذَا مَا حَضَرَنِي الْآنَ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَكَلَامِ الْأَصْحَابِ رحمهم الله.
وَأَمَّا دَلِيلُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ" وَفِي رِوَايَةٍ "كَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ. حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ

 

ج / 3 ص -349-       فَلِيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا" وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا" وَفِي رِوَايَةٍ "إذَا صَلَّيْتُمْ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَصَلُّوا بَعْدَهَا أَرْبَعًا" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد "إذَا صَلَّيْتُمْ الْجُمُعَةَ فَصَلُّوا بَعْدَهَا أَرْبَعًا" وَأَمَّا السُّنَّةُ قَبْلَهَا فَالْعُمْدَةُ فِيهَا حَدِيثُ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ الْمَذْكُورُ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ" وَالْقِيَاسُ عَلَى الظُّهْرِ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا لَا يَفْصِلُ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ" فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ جِدًّا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَكَرَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ.
فرع: السُّنَّةُ لِمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ أَوْ بَعْدَهَا أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَحَدِيثِ
"صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى" وَسَيَأْتِي أَدِلَّةُ الْمَسْأَلَةِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَغَيْرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ وَبِالله التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهَا تَسْلِيمٌ يُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ" فَضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَضَعَّفَهُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَمَا يُفْعَلُ قَبْلَ [هَذِهِ] الْفَرَائِضِ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِدُخُولِ وَقْتِ الْفَرْضِ وَيَبْقَى وَقْتُهَا إلَى أَنْ يَذْهَبَ وَقْتُ الْفَرْضِ وَمَا كَانَ بَعْدَ الْفَرْضِ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِالْفَرَاغِ مِنْ الْفَرْضِ وَيَبْقَى وَقْتُهَا إلَى أَنْ يَذْهَبَ وَقْتُ الْفَرْضِ [لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْفَرْضِ فَذَهَبَ وَقْتُهَا بِذَهَابِ وَقْتِ الْفَرْضِ1] وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَبْقَى وَقْتُ سُنَّةِ الْفَجْرِ إلَى الزَّوَالِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ".
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: يَدْخُلُ وَقْتُ السُّنَنِ الَّتِي قَبْلَ الْفَرَائِضِ بِدُخُولِ وَقْتِ الْفَرَائِضِ، وَيَبْقَى وَقْتُهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ، لَكِنْ الْمُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفَرِيضَةِ وَيَدْخُلُ وَقْتُ السُّنَنِ الَّتِي بَعْدَ الْفَرَائِضِ بِفِعْلِ الْفَرِيضَةِ وَيَبْقَى مَا دَامَ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ يَبْقَى وَقْتُ سُنَّةِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَزُلْ الشَّمْسُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ".
وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي أَنَّ سُنَّةَ الصُّبْحِ يَخْرُجُ وَقْتُهَا بِفِعْلِ فَرِيضَةِ الصُّبْحِ، وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّ سُنَّةَ فَرِيضَةِ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهَا يَخْرُجُ وَقْتُهَا بِفِعْلِ الظُّهْرِ وَيَصِيرُ قَضَاءً، وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي أَيْضًا أَنَّ وَقْتَ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ يَمْتَدُّ إلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ. وَإِنْ قُلْنَا لَا يَمْتَدُّ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي أَيْضًا أَنَّ وَقْتَ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةَ الصُّبْحِ، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا الْوِتْرُ فَهُوَ سُنَّةٌ لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش. و. ق. (ط).

 

ج / 3 ص -350-       عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْوِتْرُ حَقٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ" وَأَكْثَرُهُ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ فِيهَا بِوَاحِدَةٍ" وَأَقَلُّهُ رَكْعَةٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَفِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و"الْمُعَوِّذَتَيْنِ" لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ ذَلِكَ. وَالسُّنَّةُ لِمَنْ أَوْتَرَ بِمَا زَادَ عَلَى رَكْعَةٍ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ، وَلِأَنَّهُ يَجْهَرُ فِي الثَّالِثَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مَوْصُولَةً بِالرَّكْعَتَيْنِ لَمَا جَهَرَ فِيهَا كَالثَّالِثَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا بِتَسْلِيمَةٍ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتَيْ الْوِتْرِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْنُتَ فِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "السُّنَّةُ إذَا انْتَصَفَ الشَّهْرُ مِنْ رَمَضَانَ أَنْ تُلْعَنَ الْكَفَرَةُ فِي الْوِتْرِ بَعْدَمَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الله الزُّبَيْرِيُّ يَقْنُتُ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ لِمَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ" وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ.
وَمَحِلُّ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مَحِلُّهُ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ لِحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه وَلِأَنَّهُ فِي الصُّبْحِ يَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ الْوِتْرُ، وَوَقْتُ الْوِتْرِ مَا بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ" فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ تَهَجُّدٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَهُ حَتَّى يُصَلِّيَهُ بَعْدَ التَّهَجُّدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَهَجُّدٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَهُ بَعْدَ سُنَّةِ الْعِشَاءِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ خَافَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَسْتَيْقِظَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ لِيَرْقُدْ، وَمَنْ طَمَعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ".

الشرح: الْوِتْرُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ، وَأَقَلُّهُ رَكْعَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ، وَأَكْمَلُ مِنْهُ خَمْسٌ ثُمَّ سَبْعٌ ثُمَّ تِسْعٌ ثُمَّ إحْدَى عَشْرَةَ وَهِيَ أَكْثَرُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّ أَكْثَرَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَمَنْ قَالَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ يَتَأَوَّلُهَا عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ حَسَبَ مَعَهَا سُنَّةَ الْعِشَاءِ، وَلَوْ زَادَ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يَصِحَّ وِتْرُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِيهِ وَجْهٌ - حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ عَلَى أَوْجُهٍ مِنْ أَعْدَادٍ مِنْ الرَّكَعَاتِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ انْحِصَارِهِ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَعْدَادِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يُجَاوِزْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَلَمْ يُنْقَلْ مُجَاوَزَتُهَا فَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِهَا، وَالْخِلَافُ شَبِيهٌ بِالْخِلَافِ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ فِيمَا زَادَ عَلَى إقَامَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَفِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى انْتِظَارَيْنِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَإِذَا أَوْتَرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ فَمَا دُونَهَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ ،

 

ج / 3 ص -351-       فَإِنْ أَرَادَ جَمْعَهَا بِتَشَهُّدٍ وَاحِدٍ فِي آخِرِهَا كُلِّهَا جَازَ، وَإِنْ أَرَادَهَا بِتَشَهُّدَيْنِ وَسَلَامٍ وَاحِدٍ يَجْلِسُ فِي الْآخِرَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا جَازَ. وَحَكَى الْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِتَشَهُّدَيْنِ، بَلْ يُشْتَرَطُ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَشَهُّدٍ وَاحِدٍ، وَحَمَلَ هَذَا الْقَائِلُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ بِتَشَهُّدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الْوَجْهُ رَدِيءٌ لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا عَكْسَهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَشَهُّدٍ وَاحِدٍ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ غَلَطٌ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُصَرِّحَةٌ بِإِبْطَالِهِمَا، وَالصَّوَابُ جَوَازُ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَلَكِنْ هَلْ الْأَفْضَلُ تَشَهُّدٌ أَمْ تَشَهُّدَانِ؟ أَمْ هُمَا مَعًا فِي الْفَضِيلَةِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ تَشَهُّدًا فَقَطْ، أَمَّا إذَا زَادَ عَلَى تَشَهُّدَيْنِ وَجَلَسَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَاقْتَصَرَ عَلَى السَّلَامِ فِي الْآخِرَةِ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَيَصِحُّ وِتْرُهُ كَمَا لَوْ صَلَّى نَافِلَةً مُطْلَقَةً بِتَشَهُّدَاتٍ وَسَلَامٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَنْقُولِ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَبِهَذَا قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ أَنَّ النَّوَافِلَ الْمُطْلَقَةَ لَا حَصْرَ لِرَكَعَاتِهَا وَتَشَهُّدَاتِهَا بِخِلَافِ الْوِتْرِ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِتْيَانَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَفِي الْأَفْضَلِ أَوْجُهٌ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُصَلِّيَهَا مَفْصُولَةً بِسَلَامَيْنِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ، وَلِكَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهُ تَتَجَدَّدُ النِّيَّةُ وَدُعَاءُ التَّوَجُّهِ وَالدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالثَّانِي: إنْ وَصَلَهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يُصَحِّحُ الْمَفْصُولَةَ وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْفَصْلُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا فَالْوَصْلُ حَتَّى تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِكُلِّ الْمُقْتَدِينَ وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.
وَهَلْ الثَّلَاثُ الْمَوْصُولَةُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّكْعَةُ فَرْدَةً؟ فِيهِ أَوْجُهٌ حَكَاهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ الصَّحِيحُ: أَنَّ الثَّلَاثَ أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ وَالثَّانِي: الْفَرْدَةُ أَفْضَلُ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَغَلَا هَذَا الْقَائِلُ فَقَالَ: الرَّكْعَةُ الْفَرْدَةُ أَفْضَلُ مِنْ إحْدَى عَشْرَةَ مَوْصُولَةً وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْفَرْدَةُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا فَالثَّلَاثُ الْمَوْصُولَةُ أَفْضَلُ، ثُمَّ إنَّ الْخِلَافَ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ إنَّمَا هُوَ فِي الْوَصْلِ بِثَلَاثٍ أَمَّا الْوَصْلُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَلَاثٍ فَالْفَصْلُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ، ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالله أَعْلَمُ.
ثُمَّ إنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ نَوَى بِهَا الْوِتْرَ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِأَكْثَرَ وَاقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ نَوَى الْوِتْرَ أَيْضًا، وَإِذَا فَصَلَ الرَّكْعَتَيْنِ بِالسَّلَامِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ نَوَى بِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْوِتْرِ، هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ هَذَا مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ.
فَرْعٌ: "فِي وَقْتِ الْوِتْرِ" أَمَّا أَوَّلُهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ: الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَدْخُلُ بِفَرَاغِهِ مِنْ فَرِيضَةِ الْعِشَاءِ سَوَاءٌ صَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِشَاءِ نَافِلَةً أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ أَمْ بِأَكْثَرَ، فَإِنْ أَوْتَرَ قَبْلَ فِعْلِ الْعِشَاءِ لَمْ يَصِحَّ وِتْرُهُ، سَوَاءٌ تَعَمَّدَهُ أَمْ سَهَا وَظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ أَمْ ظَنَّ جَوَازَهُ، وَكَذَا لَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ ظَانًّا أَنَّهُ تَطَهَّرَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ فَأَوْتَرَ فَبَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فِي الْعِشَاءِ فَوِتْرُهُ بَاطِلٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَدْخُلُ وَقْتُ الْوِتْرِ بِدُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ قَبْلَهَا، حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ

 

ج / 3 ص -352-       وَآخَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَالُوا: سَوَاءٌ تَعَمَّدَ أَوْ سَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ أَوْتَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ رَكْعَةٍ دَخَلَ وَقْتُهُ بِفِعْلِ الْعِشَاءِ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ فَشَرْطُ صِحَّتِهَا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا نَافِلَةٌ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْعِشَاءِ، فَإِنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا نَفْلٌ لَمْ يَصِحَّ وِتْرُهُ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَكُونُ تَطَوُّعًا، قَالَ الرَّافِعِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي صِحَّتِهَا نَفْلًا وَبُطْلَانِهَا بِالْكُلِّيَّةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْوِتْرِ فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ وَقْتُهُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةَ الصُّبْحِ، وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لِلْإِيتَارِ فَقَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ الْوِتْرُ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَتَهَجَّدُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوتِرَ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْعِشَاءِ وَسُنَنِهَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ فَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ الْوِتْرِ لِيَفْعَلَهُ بَعْدَ التَّهَجُّدِ، وَيَقَعُ وِتْرُهُ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: تَقْدِيمُ الْوِتْرِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَهُ غَيْرُهُمَا مِنْ الْأَصْحَابِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْلُهُمَا عَلَى مَنْ لَا يَعْتَادُ قِيَامَ اللَّيْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلٍ، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ وَكُلٌّ سَائِغٌ قُلْتُ: وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ الَّذِي سَبَقَ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَهُ تَهَجُّدٌ تَأْخِيرُ الْوِتْرِ وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَهَجُّدٌ وَوَثِقَ بِاسْتِيقَاظِهِ أَوَاخِرَ اللَّيْلِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِإِيقَاظِ غَيْرِهِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ لِيَفْعَلَهُ آخِرَ اللَّيْلِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَإِذَا بَقِيَ الْوِتْرُ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "فَإِذَا أَوْتَرَ قَالَ: قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَةُ" وَدَلِيلُ اسْتِحْبَابِ الْإِيتَارِ آخِرَ اللَّيْلِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "مِنْ كُلِّ لَيْلٍ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا الصُّبْحَ بِالْوِتْرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَافَ أَلَّا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمَعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ التَّفْصِيلِ وَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما: "أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةُ الضُّحَى، وَأَلَّا أَنَامَ إلَّا عَلَى وِتْرٍ" رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَمَحْمُولَانِ عَلَى مَنْ لَا يَثِقُ بِالْقِيَامِ آخِرَ اللَّيْلِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيَّنٌ لِيَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِهِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: إذَا أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ ثُمَّ قَامَ وَتَهَجَّدَ لَمْ يُنْقَضْ الْوِتْرُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، بَلْ يَتَهَجَّدُ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ شَفْعًا، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ يُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ قِيَامِهِ رَكْعَةً يُشْفِعُهُ ثُمَّ يَتَهَجَّدُ مَا شَاءَ ثُمَّ يُوتِرُ ثَانِيًا، وَيُسَمَّى هَذَا نَقْضُ الْوِتْرِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

 

ج / 3 ص -353-       فرع: إذَا اسْتَحْبَبْنَا الْجَمَاعَةَ فِي التَّرَاوِيحِ اُسْتُحِبَّتْ الْجَمَاعَةُ أَيْضًا فِي الْوِتْرِ بَعْدَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ لَمْ يُوتِرْ مَعَهُمْ بَلْ يُؤَخِّرُهُ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ كَمَا سَبَقَ فَإِنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ صَلَّى نَافِلَةً مُطْلَقَةً وَأَوْتَرَ آخِرَ اللَّيْلِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ حِكَايَةِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَبْدَانِ وَجْهَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِهَا فِيهِ مُطْلَقًا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقْنُتَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَفِي وَجْهٍ يُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الْوِتْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا، أَبِي عَبْدِ الله الزُّبَيْرِيِّ وَأَبِي الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيِّ وَأَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَبْدَانِ وَأَبِي مَنْصُورِ بْنِ مِهْرَانَ وَهَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ فِي الدَّلِيلِ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما السَّابِقِ فِي الْقُنُوتِ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْمَذْهَبِ مَا سَبَقَ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله كَرَاهَةُ الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ: وَلَوْ تَرَكَ الْقُنُوتَ فِي مَوْضِعٍ اسْتَحَبَّهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ قَنَتَ حَيْثُ لَا يَسْتَحِبُّهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَقْنُتُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِتَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ: وَهَذَا حَسَنٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ طَبَرِسْتَانَ.
فرع: فِي مَوْضِعِ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ أَوْجُهٌ الصَّحِيحُ: الْمَشْهُورُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله مِنْ حَرْمَلَةَ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الْبَاقُونَ وَالثَّانِي: قَبْلَ الرُّكُوعِ قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَسَيَأْتِي دَلِيلُ الْجَمِيعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا قُلْنَا: يُقَدِّمُهُ عَلَى الرُّكُوعِ، فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَقْنُتُ بِلَا تَكْبِيرٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُكَبِّرُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ ثُمَّ يَقْنُتُ ثُمَّ يَرْكَعُ مُكَبِّرًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ رحمه الله.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَفْظُ الْقُنُوتِ هُنَا كَهُوَ فِي الصُّبْحِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ قَالُوا: فَيَقْنُتُ بِـ"اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ" وَبِقُنُوتِ عُمَرَ رضي الله عنه وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَهَلْ الْأَفْضَلُ تَقْدِيمُ قُنُوتِ عُمَرَ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي؟ أَمْ تَأْخِيرُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ تَقْدِيمُهُ أَفْضَلُ، قَالَ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي غَيْرِ تَعْلِيقِهِ عَنْ شُيُوخِهِمْ تَأْخِيرَهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا آكَدُ وَأَهَمُّ فَقُدِّمَ قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ: ابْنُ الْقَاصِّ: يَزِيدُ فِي الْقُنُوتِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إلَى آخِرِ السُّورَةِ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَالْمَشْهُورُ كَرَاهَةُ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ.
فرع: حُكْمُ الْجَهْرِ بِالْقُنُوتِ وَرَفْعِ الْيَدِ وَمَسْحِ الْوَجْهِ كَمَا سَبَقَ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَى: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ، وَفِي الثَّانِيَةِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَغَيْرَهُ.

 

ج / 3 ص -354-       فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْوِتْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ "سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ" وَأَنْ يَقُولَ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" فَفِيهِمَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ.
فرع: إذَا أَوْتَرَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ نَافِلَةً أَمْ غَيْرَهَا فِي اللَّيْلِ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ كَمَا سَبَقَ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَقَدْ سُئِلَتْ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَتْ:
"كُنَّا نَعُدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنْ اللَّيْلِ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهِنَّ إلَّا فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيُمَجِّدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيُمَجِّدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ بَيَانًا لِجَوَازِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَائِشَةَ مَعَ رِوَايَةِ خَلَائِقَ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ آخِرَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلِ كَانَتْ وِتْرًا وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِالْأَمْرِ يَكُونُ آخِرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ وِتْرًا كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا،" وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا عَنْ "الصَّحِيحَيْنِ" كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ" رَوَيَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَشْبَاهِهَا أَنَّهُ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ بَيَانِ الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا بَسَطْتُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ جَالِسًا، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَدْعُو النَّاسَ إلَيْهِ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ وَغَبَاوَةٌ، [لِعَدَمِ] أُنْسِهِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَتَنَوُّعِ طُرُقِهَا وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فَاحْذَرْ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِهِ وَاعْتَمِدْ مَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا وَبِالله التَّوْفِيقُ.
فرع: فِي بَيَانِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فِي فَضْلِ الْوِتْرِ.
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَاهُ هَكَذَا أَيْضًا الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِيهِ وَهِيَ قَوْلُهُ: الْوِتْرُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَغَرِيبَةٌ لَا أَعْرِفُ لَهَا إسْنَادًا صَحِيحًا، وَيُغْنِي عَنْهَا مَا سَأَذْكُرُهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوِتْرِ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ فِي الْأَوَّلِ
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكِنْ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمَا ذِكْرُ

 

ج / 3 ص -355-       الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ بِتَسْلِيمَةٍ يُسْمِعُنَاهَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي "مُسْنَدِهِ" بِهَذَا اللَّفْظِ. الْخَامِسُ: قِيلَ: فَإِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ حَدِيثَ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتِي الْوَتْرِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي "السُّنَنِ الْكَبِيرَةِ" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَقَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اخْتِصَارًا مِنْ حَدِيثِهَا فِي الْإِيتَارِ بِتِسْعٍ، يَعْنِي حَدِيثَهَا السَّابِقَ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ.
السَّادِسُ: حَدِيثُ قُنُوتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إلَّا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، فَإِذَا كَانَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ فَكَانُوا يَقُولُونَ "أَبَقَ أُبَيٌّ" هَذَا لَفْظٌ فِي أَبِي دَاوُد وَالْبَيْهَقِيِّ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ بَلْ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَمَّهُمْ، يَعْنِي فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ الْآخِرِ مِنْهُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مَجْهُولٍ.
السَّابِعُ: حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَضَعَّفَهُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَّفَهَا كُلَّهَا وَبَيَّنَ سَبَبَ ضَعْفِهَا.
الثَّامِنُ: حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ" هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ رضي الله عنه قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْوِتْرُ، فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَفِي إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعْفٌ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى تَضْعِيفِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِيهِ رَجُلَانِ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا يُعْرَفُ سَمَاعُ رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ.
التَّاسِعُ: حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ خَافَ أَلَّا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمَعَ" الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.

فرع: فِي لُغَاتِ أَلْفَاظِ الْفَصْلِ.
الْوَتْرُ: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا، لُغَتَانِ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ اسْمُهُ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ شَهِدَ بَدْرًا وَالْعَقَبَةَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ شَهْرًا حَتَّى يُثَبِّتَ مَسَاكِنَهُ، تُوُفِّيَ فِي الْغَزْوِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ رضي الله عنه.
وَأَمَّا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ فَهُوَ أَبُو الْمُنْذِرِ وَيُقَالُ أَبُو الطُّفَيْلِ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ وَبَدْرًا وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ أَجَلِّهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "قَرَأَ عَلَيْهِ
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} السُّورَةَ. وَقَالَ: أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَقْرَأَهَا عَلَيْكَ" وَحَدِيثُهُ هَذَا مَشْهُورٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَقِيلَ عِشْرِينَ وَقِيلَ اثْنَتَيْنِ

 

ج / 3 ص -356-       وَعِشْرِينَ رضي الله عنه. قَوْلُهُ: "الْوِتْرُ حَقٌّ" أَيْ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَالتَّهَجُّدُ هُوَ الصَّلَاةُ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الْوِتْرِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً حَتَّى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحْدَهُ: هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ أَثِمَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ": الْوِتْرُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ، وَبِهِ قَالَتْ الْأُمَّةُ كُلُّهَا إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: هُوَ وَاجِبٌ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ فَرْضٌ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا: هُوَ سُنَّةٌ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا. وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ" إلَخْ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَحَافِظُوا عَلَيْهَا، وَهِيَ الْوِتْرُ" وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا" وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَإِذَا أَوْتَرَ قَالَ: قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَةُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذَكَرُوا أَقْيِسَةً وَمُنَاسِبَاتٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله رضي الله عنه قَالَ:
"جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلِيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ، وَسَأَلَهُ عَنْ الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَالله لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، وَاسْتَنْبَطَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَدِلَّةٍ أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الصَّلَوَاتِ إنَّمَا هُوَ الْخَمْسُ الثَّانِي: قَوْلُهُ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ لَا الثَّالِثُ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْخَمْسِ إنَّمَا تَكُونُ تَطَوُّعًا الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْخَمْسِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ1 فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحفوظ أن قوله "أطاعوك" جاءت في الفرائض والتكاليف، أما الأولى فهي "فإن هم أجابوك" لأن الطاعة فرع الإجابة وهو من الأدب النبوي الكريم (ط).

 

ج / 3 ص -357-       تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ إلَى فُقَرَائِهِمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ بَعْثَ مُعَاذٍ رضي الله عنه إلَى الْيَمَنِ كَانَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَلِيلٍ جِدًّا.
وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُحَيْرِيزٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ الْمُخْدَجِيُّ قَالَ: كَانَ بِالشَّامِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ، فَرُحْتُ إلَى عُبَادَةَ - يَعْنِي ابْنَ الصَّامِتِ - فَقُلْتُ: إنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، قَالَ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا جَاءَ وَلَهُ عِنْدَ الله عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ ضَيَّعَهُنَّ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ جَاءَ وَلَا عَهْدَ لَهُ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ" هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "لَيْسَ الْوِتْرُ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الْمَكْتُوبَةِ: وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَآخَرُونَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: "الْوِتْرُ أَمْرٌ حَسَنٌ جَمِيلٌ عَمَل بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَكُمْ أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ سُنَّةً فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى الْعُمُومِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَالْمَكْتُوبَةِ، وَكَانَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَوَازُ هَذَا الْوَاجِبِ الْخَاصِّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ هِيَ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ غَيْرَ مَا سَبَقَ، لَكِنْ أَكْثَرُهَا ضَعِيفَةٌ لَا أَسْتَحِلُّ الِاحْتِجَاجَ بِهَا، وَفِيمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَبْلَغُ كِفَايَةٍ. وَمِنْ الضَّعِيفِ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ حَدِيثُ أَبِي جَنَابٍ - بِجِيمٍ وَنُونٍ - عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"ثَلَاثٌ هُنَّ عَلِيَّ فَرَائِضُ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: أَبُو جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ اسْمُهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي حيينةَ1 ضَعِيفٌ وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأُبَيِّنَ ضَعْفَهُ وَأُحَذِّرَ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ وَلَا الْإِقَامَةُ فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ كَالضُّحَى وَغَيْرِهَا، وَاحْتَرَزُوا بِقَوْلِهِمْ: عَلَى الْأَعْيَانِ مِنْ الْجِنَازَةِ وَالنَّذْرِ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ الْمُتَأَكِّدِ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدْلَلْنَا بِهَا، فَهَذَا جَوَابٌ يَعُمُّهَا وَيُجَابُ عَنْ بَعْضِهَا خُصُوصًا بِجَوَابٍ آخَرَ، فَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ لَا يَقُولُونَ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ: "فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ" وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَكُونُ الْوِتْرُ إلَّا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالنسختين ش. و. ق. وصوابه يحيى بن أبي حية بمهملة وتحتانية قال ابن حجر: ضعفوه لكثرة تدليسه وقال الخزرجي: كان صدوقاً يدلس وقال أبو نعيم: ثقة يدلس وقال الفلاس: متروك، وقال النسائي: ليس بالقوي (ط).

 

ج / 3 ص -358-       ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِي إسْنَادِهِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِي رِوَايَتِهِ عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله الْعَتَكِيُّ أَبُو الْمُنِيبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِهِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ وَادَّعَى الْحَاكِمُ أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي فِعْلِ الْوِتْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَمْ لَا، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَجُوزُ إلَّا لِعُذْرٍ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي وَقْتِ الْوِتْرِ وَاسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقْتٌ لِلْوِتْرِ، ثُمَّ حَكَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَمْتَدُّ وَقْتُهُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَفُوتُ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّ الْإِيتَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَعَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِمَا أَسَنَّ رضي الله عنهم، وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّ تَأْخِيرَهُ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ رضي الله عنهم، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا كَمَا سَبَقَ وَذَكَرْنَا دَلِيلَهُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ الْوِتْرِ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ أَقَلَّهُ رَكْعَةٌ وَأَكْثَرَهُ إحْدَى عَشْرَةَ، وَفِي وَجْهٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْ أَكْثَرِهِ كَانَ أَفْضَلَ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ الْوِتْرُ إلَّا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ مَوْصُولَةٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ كَهَيْئَةِ الْمَغْرِبِ قَالَ: لَوْ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ أَوْ بِثَلَاثٍ بِتَسْلِيمَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ، وَوَافَقَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَصِحُّ الْإِيتَارُ بِهَا غَيْرُهُمَا وَمَنْ تَابَعَهُمَا، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ الْبُتَيْرَاءِ" وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "الْوِتْرُ ثَلَاثٌ كَوِتْرِ النَّهَارِ: الْمَغْرِبُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا "مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ" وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ
"لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتِي الْوِتْرِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ" فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَسَبَقَ بَيَانُهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ

 

ج / 3 ص -359-       قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي آخِرِهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ بِسَبْعٍ وَلَا تَشَبَّهُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَالْأَحَادِيثُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَثِيرَةٌ فِي "الصَّحِيحِ" وَفِيمَا ذَكَرْتُهُ كِفَايَةٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم التَّطَوُّعَ أَوْ الْوِتْرَ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مَفْصُولَةٍ عَمَّا قَبْلَهَا، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ بِأَسَانِيدِهَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أَيُّوبَ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم.
وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبُتَيْرَاءِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَمُرْسَلٌ وَعَنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "الْوِتْرُ ثَلَاثٌ" أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا ثَلَاثٌ فَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: "مَا أَجْزَأَتْ صَلَاةُ رَكْعَةٍ قَطُّ" أَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ وَلَوْ ثَبَتَ لَحُمِلَ عَلَى الْفَرَائِضِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ رَدًّا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الصَّلَاةِ الرَّبَاعِيَةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "مَا أَجْزَأَتْهُ رَكْعَةٌ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ قَطُّ" وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِيتَارِ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَا يَقْرَأُ مَنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَى: سَبِّحْ، وَفِي الثَّانِيَةِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ مَرَّةً، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تُقْرَأُ الْمُعَوِّذَتَانِ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ، وَنَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ فِي فَرْعِ بَيَانِ الْأَحَادِيثِ، وَاعْتَمَدُوا أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ بِإِثْبَاتِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ هَلْ يَفْصِلُ الرَّكْعَتَيْنِ عَنْ الثَّلَاثَةِ بِسَلَامٍ؟ فَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَنَّ الْفَصْلَ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذٍ الْقَارِئِ وَعَبْدِ الله بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كِلَاهُمَا حَسَنٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَوْصُولَاتٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ فِيهِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّبَيْرِيُّ وَيَحْيَى1 ابْنُ وَثَّابٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يحيى بن وثاب الأسدي مولاهم الكوفي المقري يروي عن ابن عباس وابن عمر وعنه طلحة بن مصرف وأبو إسحاق والأعمش وثقة النسائي وقال أبو الشيخ: إمام في القراءة (ط).

 

ج / 3 ص -360-       الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَقْنُتُ فِيهِ فِي كُلِّ السَّنَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا سَبَقَ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ بِدْعَةٌ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي مَحِلِّ الْوِتْرِ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهُ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنهم، قَالَ: بِهِ أَقُولُ. وَحَكَى الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم أَيْضًا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَإِسْحَاقَ وَحُكِيَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ وَقَدْ سَبَقَتْ أَدِلَّةُ الْمَسْأَلَةِ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ وَسَبَقَ هُنَاكَ مَذَاهِبُهُمْ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ. وَمِمَّا اُحْتُجَّ بِهِ لِلْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ يُسَلِّمُ مِنْهَا وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ" وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَحَدِيثٌ آخَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ مِثْلَ حَدِيثِ أُبَيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ ظَاهِرُ الضَّعْفِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي نَقْضِ الْوِتْرِ، قَدْ ذَكَرْتُ أَنَّ مَذْهَبَنَا الْمَشْهُورَ أَنَّهُ إذَا أَوْتَرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ تَهَجَّدَ لَا يُنْقَضُ وِتْرُهُ بَلْ يُصَلِّي مَا شَاءَ شَفْعًا وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَسَعْدٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو وَعَائِشَةَ وَطَاوُسٍ وَعَلْقَمَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ رضي الله عنهم، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَنْقُضُهُ فَيُصَلِّي فِي أَوَّلِ تَهَجُّدِهِ رَكْعَةً تَشْفَعُهُ، ثُمَّ يَتَهَجَّدُ ثُمَّ يُوتِرُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَإِسْحَاقَ رضي الله عنهم، دَلِيلُنَا [الْحَدِيثُ] السَّابِقُ عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ
"لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ" وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ الْأَوَّلَ مَضَى عَلَى صِحَّتِهِ فَلَا يُتَوَجَّهُ بِإِبْطَالِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ، وَدَلِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا يُفْهَمُ مِمَّا سَبَقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَحَذَفْتُهَا هَهُنَا اخْتِصَارًا لِطُولِ الْكَلَامِ وَبِالله التَّوْفِيقُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَآكَدُ هَذِهِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ مَعَ الْفَرَائِضِ سُنَّةُ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِمَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهِمَا، وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ قَالَ فِي "الْجَدِيدِ". الْوِتْرُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ1 بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْوِتْرُ" وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا" وَلِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ، وَسُنَّةُ الْفَجْرِ مُجْمَعٌ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً، فَكَانَ الْوِتْرُ آكَدَ، وَقَالَ فِي "الْقَدِيمِ": سُنَّةُ الْفَجْرِ آكَدُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوهَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ" وَلِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ فَهِيَ بِالْفَرَائِضِ أَشْبَهُ مِنْ الْوِتْرِ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض نسخ "المهذب" "أمركم" (ط).

 

ج / 3 ص -361-       الشَّرْحُ: الْحَدِيثَانِ الْأَوَّلَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي مَسَائِلِ الْوِتْرِ، وَأَمَّا حَدِيثُ سُنَّةِ الْفَجْرِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "لَا تَدَعُوا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ" وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ اُخْتُلِفَ فِي تَوْثِيقِهِ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْهَا "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَسْرَعَ مِنْهُ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: أَفْضَلُ النَّوَافِلِ الَّتِي لَا تُسَنُّ لَهَا الْجَمَاعَةُ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَأَفْضَلُ الرَّوَاتِبِ الْوِتْرُ وَسُنَّةُ الْفَجْرِ، وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ "الْجَدِيدُ" الصَّحِيحُ الْوِتْرُ أَفْضَلُ "وَالْقَدِيمُ" أَنَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ أَفْضَلُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا، وَحَكَى صَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ فَإِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ تَلِي الْوِتْرَ فِي الْفَضِيلَةِ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ سُنَّةِ الْفَجْرِ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ فَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا "الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ" ثُمَّ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ بَعْدَ الرَّوَاتِبِ وَالتَّرَاوِيحِ: الضُّحَى، ثُمَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ إذَا لَمْ نُوجِبْهُمَا، وَرَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ سُنَّةِ الْوُضُوءِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَسُنَّةُ الْفَجْرِ مُجْمَعٌ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً فَكَذَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا، وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ أَوْجَبَهَا لِلْأَحَادِيثِ، وَحَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالله أَعْلَمُ.

فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ.
إحْدَاهَا: قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ أَوْ بَعْدَهَا أَوْ قَبْلَ الْعَصْرِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَتَجُوزُ بِتَسْلِيمَةٍ بِتَشَهُّدٍ وَبِتَشَهُّدَيْنِ فَإِذَا صَلَّى أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَتَيْنِ يَنْوِي بِكُلٍّ رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيْنِ مِنْ سُنَّةِ الظُّهْرِ، وَإِذَا صَلَّاهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَتَشَهُّدَيْنِ فَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَنُّ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ؟ كَالْخِلَافِ فِي الْفَرِيضَةِ.
الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُ سُنَّةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ فِي فَصْلِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ:
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الْآيَةَ، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] الْآيَةَ أَوْ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً فِي هَذَا وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ ؟" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَيُخَفِّفُهُمَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
الثَّالِثَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ بَعْدَ صَلَاةِ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَيُصَلِّيَهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَلَا

 

ج / 3 ص -362-       يَتْرُكُ الِاضْطِجَاعَ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَصَلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْفَرِيضَةِ بِكَلَامٍ، وَدَلِيلُ تَقْدِيمِهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَدَلِيلُ الِاضْطِجَاعِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَذَكَرَتْ صَلَاةَ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَتْ: فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: أَمَا يَجْزِي أَحَدَنَا مَمْشَاهُ إلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَضْطَجِعَ عَلَى يَمِينِهِ؟ قَالَ: لَا" حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلَّا اضْطَجَعَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَوْلُهَا: "حَدَّثَنِي وَإِلَّا اضْطَجَعَ" يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم يَضْطَجِعُ يَسِيرًا وَيُحَدِّثُهَا وَإِلَّا فَيَضْطَجِعُ كَثِيرًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْقَلِيلَةِ كَانَ يَتْرُكُ الِاضْطِجَاعَ، بَيَانًا لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَا كَانَ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنْ الْمُخْتَارَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بَيَانًا لِلْجَوَازِ كَالْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً وَنَظَائِرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ الِاضْطِجَاعُ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَرِوَايَاتِ عَائِشَةَ السَّابِقَةِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُصَرِّحِ بِالْأَمْرِ بِالِاضْطِجَاعِ، وَالله أَعْلَمُ.
وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي "شَرْحِ مُسْلِمٍ" اسْتِحْبَابَ الِاضْطِجَاعِ بَعْدَ سُنَّةِ الْفَجْرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ ثُمَّ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ: لَيْسَ هُوَ سُنَّةٌ بَلْ سَمَّوْهُ بِدْعَةً، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ أَحَادِيثَ عَائِشَةَ فِي بَعْضِهَا الِاضْطِجَاعُ قَبْلَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بَعْدَ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَفِي بَعْضِهَا بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودَهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَرْدُودٌ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّرِيحِ فِي الْأَمْرِ بِهَا، وَكَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم اضْطَجَعَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ كُلِّهَا بَعْدَ صَلَاةِ اللَّيْلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَضْطَجِعَ أَيْضًا بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَحَّ اضْطِجَاعُهُ بَعْدَهُمَا وَأَمْرُهُ بِهِ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَيَكُونُ سُنَّةً وَتَرْكُهُ يَجُوزُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "السُّنَنِ الْكَبِيرِ": أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الِاضْطِجَاعِ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ فَيَحْصُلُ بِالِاضْطِجَاعِ وَالتَّحَدُّثِ أَوْ التَّحَوُّلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَلَا يَتَعَيَّنُ الِاضْطِجَاعُ، هَذَا مَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْمُخْتَارُ الِاضْطِجَاعُ لِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ بِدْعَةٌ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ؛ وَلِأَنَّهُ نَفْيٌ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْإِثْبَاتِ عَلَيْهِ وَالله أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: يُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فِعْلُ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ فِي السَّفَرِ لَكِنَّهَا فِي الْحَضَرِ آكَدُ وَسَنُوَضِّحُ الْمَسْأَلَةَ بِفُرُوعِهَا وَدَلِيلِهَا وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِمَّا تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَال بِهِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه الطَّوِيلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى مُعْجِزَاتٍ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

 

ج / 3 ص -363-       وَجُمَلٍ مِنْ الْفَوَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ قَالَ فِيهِ "إنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَنَامُوا عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَسَارُوا حَتَّى ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ هُمَا سُنَّةُ الصُّبْحِ.
الْخَامِسَةُ: مَنْ وَاظَبَ عَلَى تَرْكِ الرَّاتِبَةِ أَوْ تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتَهَاوُنِهِ بِالدِّينِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَسَنُوَضِّحُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِدَلَائِلِهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَمِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ قِيَامُ رَمَضَانَ وَهُوَ عِشْرُونَ رَكْعَةً بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي جَمَاعَةٍ، نُصَّ عَلَيْهِ [فِي "الْبُوَيْطِيِّ"، لِمَا رُوِيَ أَنْ عُمَرَ رضي الله عنه جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلَّى بِهِمْ التَّرَاوِيحَ] وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِعْلُهَا مُنْفَرِدًا أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "صَلَّى لَيَالِيَ فَصَلَّوْهَا مَعَهُ، ثُمَّ تَأَخَّرَ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ بَاقِيَ الشَّهْرِ" وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا مُخْتَصَرًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وَأَمَّا حَدِيثُ جَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهما فَصَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ"، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ الْآخَرَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهَا لَيَالِيَ فَصَلَّوْهَا مَعَهُ ثُمَّ تَأَخَّرَ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ "خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا" فَرَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها. قَوْلُهُ: "مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِعَزِيمَةٍ" مَعْنَاهُ لَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ أَمْرَ تَحْتِيمٍ وَإِلْزَامٍ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ، بَلْ أَمْرُ نَدْبٍ وَتَرْغِيبٍ فِيهِ بِذِكْرِ فَضْلِهِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "إيمَانًا" أَيْ تَصْدِيقًا بِأَنَّهُ حَقٌّ، وَاحْتِسَابًا أَيْ يَفْعَلُهُ لِلّهِ تَعَالَى لَا رِيَاءً وَلَا نَحْوَهُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا عِشْرُونَ رَكْعَةً بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ وَتَجُوزُ مُنْفَرِدًا وَجَمَاعَةً، وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَحَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ قَوْلَيْنِ الصَّحِيحُ: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ أَفْضَلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي "الْبُوَيْطِيِّ"، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ.
الثَّانِي: الِانْفِرَادُ أَفْضَلُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا. قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ: الْخِلَافُ فِيمَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَخَافُ الْكَسَلَ عَنْهَا لَوْ انْفَرَدَ، وَلَا تَخْتَلُّ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِتَخَلُّفِهِ. فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَالْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. ثَالِثُهَا هَذَا الْفَرْقُ. وَمِمَّنْ حَكَى الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو إِسْحَاقَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً أَفْضَلُ مِنْ الِانْفِرَادِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ.

 

ج / 3 ص -364-       فرع: يَدْخُلُ وَقْتُ التَّرَاوِيحِ بِالْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، وَيَبْقَى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلْيُصَلِّهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ، فَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ لَمْ يَصِحَّ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ، قَالَ: وَلَا تَصِحُّ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، بَلْ يَنْوِي سُنَّةَ التَّرَاوِيحِ أَوْ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ أَوْ قِيَامَ رَمَضَانَ فَيَنْوِي فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ.

فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ
مَذْهَبُنَا أَنَّهَا عِشْرُونَ رَكْعَةً بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ غَيْرَ الْوِتْرِ، وَذَلِكَ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ وَالتَّرْوِيحَةُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَحُكِيَ أَنَّ الْأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ1 كَانَ يَقُومُ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِسَبْعٍ. وَقَالَ مَالِكٌ التَّرَاوِيحُ تِسْعُ تَرْوِيحَاتٍ وَهِيَ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوِتْرِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَفْعَلُونَهَا هَكَذَا، وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ يَقُومُونَ رَمَضَانَ بِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً يُوتِرُونَ مِنْهَا بِثَلَاثٍ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَكَانُوا يَقُومُونَ بِالْمِائَتَيْنِ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عِصِيِّهِمْ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ" وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ قَالَ. كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ، فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ رُومَانَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَيْضًا قِيَامَ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: سَبَبُهُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ طَوَافًا وَيُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَطُوفُونَ بَعْدَ التَّرْوِيحَةِ الْخَامِسَةِ. فَأَرَادَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مُسَاوَاتَهُمْ فَجَعَلُوا مَكَانَ كُلِّ طَوَافٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَزَادُوا سِتَّ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَأَوْتَرُوا بِثَلَاثٍ فَصَارَ الْمَجْمُوعُ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ صَاحِبَا "الشَّامِلِ" و "الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُمَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَفْعَلُوا فِي التَّرَاوِيحِ فِعْلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيُصَلُّوهَا سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً؛ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ شَرَفًا بِمُهَاجَرَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَدْفِنِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ": قَالَ الشَّافِعِيُّ فَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَارُوا أَهْلَ مَكَّةَ وَلَا يُنَافِسُوهُمْ.
فرع: فِيمَا كَانَ السَّلَفُ يَقْرَءُونَ فِي التَّرَاوِيحِ. رَوَى مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: "مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكُفْرَ فِي رَمَضَانَ. قَالَ: وَكَانَ الْقَارِئُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأسود بن يزيد بن قيس النخعي أبو عمرو الكوفي فقيه مخضرم روى عن ابن مسعود وأبي موسى وعائشة وطائفة وعنه ابنه عبد الرحمن ويكنى به وإبراهيم النخعي وأبو إسحاق وعمارة بن عمر وطائفة وثقه ابن معين والناس قال: كان النخعي يختم القرآن كل ليلتين وروي أنه حج ثمانين حجة توفي سنة 75 (ط).

 

ج / 3 ص -365-       يَقُومُ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَإِذَا قَامَ بِهَا فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةٍ رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ. وَرَوَى مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ مِنْ الْقِيَامِ فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بِالسُّحُورِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ" رَوَى مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ، وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِائَتَيْنِ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَا مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إلَّا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَلَاثَةِ قُرَّاءٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ، فَأَمَرَ أَسْرَعَهُمْ قِرَاءَةً أَنْ يَقْرَأَ لِلنَّاسِ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَأَمَرَ أَوْسَطَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَأَمَرَ أَبْطَأَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ عِشْرِينَ آيَةً.
فرع: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه جَمَعَ النَّاسَ عَلَى قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، الرِّجَالُ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالنِّسَاءُ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَعَنْ عَرْفَجَةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ:
"كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَأْمُرُ النَّاسَ بِقِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيَجْعَلُ لِلرِّجَالِ إمَامًا وَلِلنِّسَاءِ إمَامًا، فَكُنْتُ أَنَا إمَامَ النِّسَاءِ" رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَنَّ فِعْلَ التَّرَاوِيحِ فِي جَمَاعَةٍ أَفْضَلُ مِنْ الِانْفِرَادِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الْقُمِّيَّ ادَّعَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَآخَرُونَ: "الِانْفِرَادُ بِهَا أَفْضَلُ" دَلِيلُنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى فِعْلِهَا جَمَاعَةً كَمَا سَبَقَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَمِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ صَلَاةُ الضُّحَى وَأَفْضَلُهَا ثَمَانِي رَكَعَاتٍ لِمَا رَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهَا ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ" وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يُصَلِّيهَا مِنْ الضُّحَى" وَوَقْتُهَا إذَا أَشْرَقَتْ الشَّمْسُ إلَى الزَّوَالِ.
الشرح:
حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَاسْمُ أُمِّ هَانِئٍ فَاخِتَةُ وَقِيلَ هِنْدُ، وَقِيلَ فَاطِمَةُ، أَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ وَكُنِّيَتْ بِابْنِهَا هَانِئٍ الْحُرَّةُ1 وَاسْمُ أَبِي طَالِبٍ عَبْدُ مَنَافٍ وَاسْمُ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه جُنْدُبٌ، وَقِيلَ بُرْبُرٌ - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَكْرِيرِ الرَّاءِ - وَهُوَ مِنْ السَّابِقِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَنَاقِبُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا مَشْهُورَةٌ، قِيلَ: كَانَ رَابِعَ مَنْ أَسْلَمَ، وَقِيلَ: خَامِسَ: وَهُوَ كِنَانِيٌّ غِفَارِيٌّ، تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بِالرَّبَذَةِ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى كُلِّ سُلَامَى" هُوَ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ الْمَفْصِلُ وَجَمْعُهُ سُلَامَيَاتٌ، بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَهِيَ الْمَفَاصِلُ. وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا ورد في ش. و. ق. والوحيدة، وهي أم هانئ بنت أبي طالب وهي أخت علي رضي الله عنه لأبويه والله أعلم (ط).

 

ج / 3 ص -366-       قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إنَّهُ خَلَقَ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ" وَقَوْلُهُ: إذَا أَشْرَقَتْ الشَّمْسُ، هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ أَشْرَقَتْ بِالْأَلِفِ، وَمَعْنَاهُ أَضَاءَتْ وَارْتَفَعَتْ وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ}. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ: أَشْرَقَتْ الشَّمْسُ إذَا أَضَاءَتْ، وَشَرَقَتْ طَلَعَتْ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: صَلَاةُ الضُّحَى سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ وَأَكْثَرُهَا ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، هَكَذَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: أَكْثَرُهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِيهِ حَدِيثٌ فِيهِ ضَعْفٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَدْنَى الْكَمَالِ أَرْبَعٌ وَأَفْضَلُ مِنْهُ سِتٌّ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الضُّحَى وَوَقْتُهَا مِنْ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ.
قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": وَقْتُهَا الْمُخْتَارُ إذَا مَضَى رُبْعُ النَّهَارِ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، تَرْمَضُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْمِيمِ، وَالرَّمْضَاءُ الرَّمْلُ الَّذِي اشْتَدَّتْ حَرَارَتُهُ مِنْ الشَّمْسِ، أَيْ حِينَ يَبُولُ الْفُصْلَانُ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي أَخْفَافِهَا.
فرع: فِي مُخْتَصَرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي صَلَاةِ الضُّحَى، وَبَيَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيَتْرُكُهَا فِي بَعْضِهَا مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ وُجُوبَهَا أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، كَمَا تَرَكَ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى التَّرَاوِيحِ لِهَذَا الْمَعْنَى. فَمِنْ الْأَحَادِيثِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَأُمِّ هَانِئٍ وَهُمَا صَحِيحَانِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُمَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ:
"أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوُهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي بَعْضِهَا: "وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ" وَفِي بَعْضِهَا: "وَيَزِيدُ مَا شَاءَ" وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها "أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا، إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُسَبِّحُ سُبْحَةَ الضُّحَى وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُسَبِّحُ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا وَإِنْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: "إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُدَاوِمُ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى مَخَافَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى الْأُمَّةِ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَانَ يَفْعَلُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ عَائِشَةُ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَكَمَا ذَكَرَتْهُ أُمُّ هَانِئٍ وَأَوْصَى بِهَا أَبَا الدَّرْدَاءِ وَأَبَا هُرَيْرَةَ". وَقَوْلُ عَائِشَةَ "مَا رَأَيْتُهُ صَلَّاهَا" لَا يُخَالِفُ قَوْلَهَا "كَانَ يُصَلِّيهَا" لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَكُونُ عِنْدَهَا فِي وَقْتِ الضُّحَى إلَّا فِي نَادِرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي وَقْتٍ يَكُونُ مُسَافِرًا وَفِي وَقْتٍ يَكُونُ حَاضِرًا، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْحَضَرِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ فِي بَيْتٍ فَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ. فَلَوْ اعْتَبَرْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَمَا صَادَفَ وَقْتَ الضُّحَى عِنْدَ عَائِشَةَ إلَّا فِي نَادِرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَمَا رَأَتْهُ صَلَّاهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ النَّادِرَةِ، فَقَالَتْ: "مَا رَأَيْتُهُ" وَعَلِمَتْ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا بِإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ

 

ج / 3 ص -367-       بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ، فَرَوَتْ ذَلِكَ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ1.
وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ صَلَّى سُبْحَةَ الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ صَلَّيْتَ الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ تُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا أَرْبَعًا كُتِبْتَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا سِتًّا كُتِبْتَ مِنْ الْقَانِتِينَ وَإِنْ صَلَّيْتَهَا ثَمَانِيًا كُتِبْتَ مِنْ الْفَائِزِينَ وَإِنْ صَلَّيْتَهَا عَشْرًا لَمْ يُكْتَبْ لَكَ ذَلِكَ الْيَوْمَ ذَنْبٌ وَإِنْ صَلَّيْتَهَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ فَقَالَ: فِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَمَّارٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ لَا تُعْجِزْنِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ نَهَارِكَ أَكْفِكَ آخِرَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْبَيَانِ فَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الضُّحَى مِنْ الرَّوَاتِبِ بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ "قُلْتُ": وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ وَتَسْمِيَةُ الْمُصَنِّفِ لَهَا رَاتِبَةً صَحِيحَةٌ وَمُرَادُهُ أَنَّهَا رَاتِبَةٌ فِي وَقْتٍ مَضْبُوطٍ لَا أَنَّهَا رَاتِبَةٌ مَعَ فَرْضٍ كَسُنَّةِ الظُّهْرِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الضُّحَى سُنَّةً هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ كَافَّةً، وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَرَاهَا بِدْعَةً، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ، دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ وَيُتَأَوَّلُ قَوْلُهُ: بِدْعَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ أَوْ أَرَادَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا أَوْ أَنَّ الْجَهَارَةَ فِي الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا بِدْعَةٌ، وَإِنَّمَا سُنَّةُ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ بَسَطْتُ جَوَابَهُ فِي "شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ" رحمه الله تعالى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَمَنْ فَاتَهُ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ شَيْءٌ فِي وَقْتِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ فَلَمْ تُقْضَ كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالثَّانِي: تُقْضَى لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا" وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ رَاتِبَةٌ فِي وَقْتٍ فَلَمْ تَسْقُطْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَالْفَرَائِضِ بِخِلَافِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ رَاتِبَةٍ، وَإِنَّمَا تُفْعَلُ لِعَارِضٍ وَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ.
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ
"مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إذَا ذَكَرَهَا" وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: "لِأَنَّهَا صَلَاةٌ رَاتِبَةٌ" احْتِرَازٌ مِنْ الْكُسُوفِ، وَقَوْلُهُ: "إلَى غَيْرِ بَدَلٍ" احْتِرَازٌ مِنْ الْجُمُعَةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: النَّوَافِلُ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَإِنَّمَا يُفْعَلُ لِعَارِضٍ كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فَهَذَا إذَا فَاتَ لَا يُقْضَى الثَّانِي: مُؤَقَّتٌ كَالْعِيدِ وَالضُّحَى وَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ كَسُنَّةِ الظُّهْرِ وَغَيْرِهَا فَهَذِهِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهَا يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهَا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي "الْجَدِيدِ"، وَالثَّانِي: لَا تُقْضَى وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْقَدِيمِ" وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّالِثُ: مَا اسْتَقَلَّ كَالْعِيدِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر ولعلة "ولكن روايات الإثبات أحفظ من روايات النفي" والله أعلم (ط).

 

ج / 3 ص -368-       وَالضُّحَى قُضِيَ وَمَا لَا يَسْتَقِلُّ كَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ فَلَا يُقْضَى، وَإِذَا [كَانَتْ] تُقْضَى فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهَا تُقْضَى أَبَدًا. وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ قَوْلًا ضَعِيفًا أَنَّهُ يَقْضِي فَائِتَ النَّهَارِ مَا لَمْ تَغْرُبْ شَمْسُهُ، وَفَائِتَ اللَّيْلِ مَا لَمْ يَطْلُعْ فَجْرُهُ، وَعَلَى هَذَا تُقْضَى سُنَّةُ الْفَجْرِ مَا دَامَ النَّهَارُ بَاقِيًا، وَحَكَوْا قَوْلًا آخَرَ ضَعِيفًا أَنَّهُ يَقْضِي كُلَّ تَابِعٍ مَا لَمْ يُصَلِّ فَرِيضَةً مُسْتَقْبَلَةً، فَيَقْضِي الْوَتْرَ مَا لَمْ يُصَلِّ الصُّبْحَ وَيَقْضِي سُنَّةَ الصُّبْحِ مَا لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ، وَالْبَاقِي هَذَا الْمِثَالُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا بِفِعْلِهَا، وَهَذَا الْخِلَافُ كُلُّهُ ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ اسْتِحْبَابُ قَضَاءِ الْجَمِيعِ أَبَدًا، وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ السَّابِقُ قَرِيبًا فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْفَرْعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "فَاتَهُ الصُّبْحُ فِي السَّفَرِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْغَدَاةَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْمُرَادُ بِالسَّجْدَتَيْنِ رَكْعَتَانِ. وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُصَلِّهِمَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَعَنْ أَبَى سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إذَا ذَكَرَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَتَكَلَّمَ عَلَى إسْنَادِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِكَلَامِ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ مَنْ لَا أُنْسَ لَهُ بِطُرُقِ الْحَدِيثِ وَالْأَسْمَاءِ فَيَتَوَهَّمَ ضَعْفَ مَا لَيْسَ هُوَ بِضَعِيفٍ، وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ ضَعِيفًا. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مِنْ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَدَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مَبْنِيَّةٌ، عَلَى الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ نُسِخَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَارَ سُنَّةً وَسَنَبْسُطُ الْمَسْأَلَةَ بِأَدِلَّتِهَا فِي الْخَصَائِصِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ1 حَيْثُ ذَكَرَهَا الْأَصْحَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهَا وَفِي هَذَا أَبْلَغُ كِفَايَةٍ، وَبِالله التَّوْفِيقُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا اسْتِحْبَابُ قَضَاءِ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ وَالْمُزَنِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ لَا يَقْضِي. دَلِيلُنَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا غَيْرُ الرَّاتِبَةِ فَهِيَ الصَّلَوَاتُ الَّتِي يَتَطَوَّعُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَفْضَلُهَا التَّهَجُّدُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ" وَأَنَّهَا تُفْعَلُ فِي وَقْتِ غَفْلَةِ النَّاسِ وَتَرْكِهِمْ الطَّاعَاتِ فَكَانَتْ أَفْضَلَ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "ذَاكِرُو الله فِي الْغَافِلِينَ كَشَجَرَةٍ خَضْرَاءَ بَيْنَ أَشْجَارٍ يَابِسَةٍ" وَآخِرُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يكتب الله له قدس سره أن يصل إلى كتاب النكاح فقد أدركته المنية في أول البيوع وألقى الله على عاتقنا هذه الأمانة فسرنا على نهجه بقدر ما استطعنا (ط).

 

ج / 3 ص -369-       اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ أَوَّلِهِ لِقَوْلِ الله تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18] وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ النَّوْمِ أَشَقُّ وَلِأَنَّ الْمُصَلِّينَ فِيهِ أَقَلُّ فَكَانَ أَفْضَلَ، فَإِنْ جَزَّأَ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَالثُّلُثُ الْأَوْسَطُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَى عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى الله تَعَالَى صَلَاةُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ" وَلِأَنَّ الطَّاعَاتِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَقَلُّ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلَ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ كُلَّهُ لِمَا رَوَى عَبْدُ الله بْنُ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "تَصُومُ بِالنَّهَارِ ؟: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَآتِي1 النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَمَّا حَدِيثُهُ الْآخَرُ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَفْظُهُ عِنْدَهُمَا أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِك عَلَيْك حَقًّا" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَرُوِيَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" هَذَا اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي "الْمُهَذَّبِ" مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَقَعُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ بِغَيْرِ وَاوٍ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما وَهَذَا غَلَطٌ صَرِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَأْوِيلَ لَهُ، وَصَوَابُهُ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَحَدِيثُهُ هَذَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَسَائِرِ كُتُبِ الْحَدِيثِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّهَجُّدُ أَصْلُهُ الصَّلَاةُ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، وقوله تعالى:
{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: الْهُجُوعُ النَّوْمُ فِي اللَّيْلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقِيلَ: إنَّ مَا صِلَةٌ. وَالْمَعْنَى كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ وَيُصَلُّونَ أَكْثَرَهُ، وَقَلِيلٌ مَعْنَاهُ كَانَ اللَّيْلُ الَّذِي يَنَامُونَهُ كُلُّهُ قَلِيلًا، وَقِيلَ بِالْوَقْفِ عَلَى قَلِيلًا أَيْ كَانُوا قَلِيلًا مِنْ النَّاسِ. ثُمَّ يُبْتَدَأُ مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ أَيْ لَا يَنَامُونَ شَيْئًا مِنْهُ وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ. وَالْأَسْحَارُ جَمْعُ سَحَرٍ وَهُوَ آخِرُ اللَّيْلِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: السَّحَرُ السُّدُسُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ: "فَإِنْ جَزَّأَ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ" يُقَالُ: جَزَّأَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِهَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ، وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ قَسَّمَ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقِيَامُ اللَّيْلِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقَدْ تَطَابَقَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيهِ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ بِلَا سَبَبٍ فِي اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي النَّهَارِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مَعَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَإِنْ قَسَمَ اللَّيْلَ نِصْفَيْنِ فَالنِّصْفُ الْآخِرُ أَفْضَلُ، وَإِنْ قَسَمَهُ أَثْلَاثًا مُسْتَوِيَةً فَالثُّلُثُ الْأَوْسَطُ أَفْضَلُهَا وَأَفْضَلُ مِنْهُ السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ لِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْن


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة الركبي "وأمس النساء" (ط).

 

ج / 3 ص -370-       الْعَاصِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فِي صَلَاةِ دَاوُد صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مُرَادُ الْمُصَنِّفِ وَالشَّافِعِيِّ فِي "الْمُخْتَصَرِ". وَغَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: الثُّلُثُ الْأَوْسَطُ أَفْضَلُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخِلَّ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَإِنْ قَلَّتْ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ كُلَّ اللَّيْلِ دَائِمًا لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الدَّهْرِ غَيْرَ أَيَّامِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كُلِّهِ دَائِمًا يَضُرُّ الْعَيْنَ وَسَائِرَ الْبَدَنِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي فِي اللَّيْلِ مَا فَاتَهُ مِنْ أَكْلِ النَّهَارِ وَلَا يُمْكِنُهُ نَوْمُ النَّهَارِ إذَا صَلَّى اللَّيْلَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
هَذَا حُكْمُ قِيَامِ اللَّيْلِ دَائِمًا فَأَمَّا بَعْضُ اللَّيَالِي فَلَا يُكْرَهُ إحْيَاؤُهَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَحْيَا اللَّيْلَ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى إحْيَاءِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ،" وَالله أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: فِي مَسَائِلَ مُهِمَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ
إحْدَاهَا: يُسَنُّ لِكُلِّ مَنْ اسْتَيْقَظَ فِي اللَّيْلِ أَنْ يَمْسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَنْ يَتَسَوَّكَ وَأَنْ يَنْظُرَ فِي السَّمَاءِ، وَأَنْ يَقْرَأَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ
{إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] الْآيَاتِ. ثَبَتَ كُلُّ ذَلِكَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
الثَّانِيَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يَفْتَتِحَ صَلَاةَ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّيَ بَعْدَهُمَا كَيْفَ شَاءَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الثَّالِثَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَسَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا بِدَلَائِلِهِ وَفُرُوعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الرَّابِعَةُ: تَطْوِيلُ الْقِيَامِ عِنْدَنَا أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَغَيْرِهِمَا وَأَفْضَلُ مِنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ بِدَلَائِلِهَا وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي أَوَّلِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ.
الْخَامِسَةُ: هَلْ يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ أَمْ الْإِسْرَارُ؟ أَمْ التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ سَبَقَتْ بِدَلَائِلِهَا فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ جُمْلَةً مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ لَا يَتَأَذَّى بِجَهْرِهِ أَحَدٌ وَلَا يُخَافُ بِهِ رِيَاءٌ وَنَحْوُهُ، فَإِنْ اخْتَلَّ أَحَدُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَسَرَّ بِلَا خِلَافٍ، وَالسُّنَّةُ تَرْتِيلُ قِرَاءَتِهِ وَتَدَبُّرُهَا وَلَا بَأْسَ بِتَرْدِيدِ الْآيَةِ لِلتَّدَبُّرِ وَإِنْ طَالَ تَرْدِيدُهَا.
السَّادِسَةُ: إذَا نَعَسَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتْرُكْهَا وَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ وَهُوَ نَاعِسٌ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فَلْيَضْطَجِعْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ

 

ج / 3 ص -371-       فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا لِزَيْنَبِ تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ: حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَشْهُورَةٌ.
السَّابِعَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ إذَا اسْتَيْقَظَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ أَنْ يُوقِظَ لَهَا امْرَأَتَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ إذَا اسْتَيْقَظَتْ لَهَا أَنْ تُوقِظَ زَوْجَهَا لَهَا، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِمَا أَيْضًا لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً فَقَالَ:
"سُبْحَانَ الله مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ. مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ، يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَّةٍ فِي الْآخِرَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم "طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ لَيْلَةً فَقَالَ: أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّه فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ جَمِيعًا قَالَا: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَ مِنْ الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
الثَّامِنَةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ قِيَامَ اللَّيْلِ أَنْ لَا يَعْتَادَ مِنْهُ إلَّا قَدْرًا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ بِقَرَائِنِ حَالِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَيُكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَرْكُهُ وَالنَّقْصُ مِنْهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَدَلَائِلُ هَذَا كُلِّهِ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مَشْهُورَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَوَالله لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَمَعْنَاهُ لَا يُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمَالِّ وَيَقْطَعُ عَنْكُمْ الثَّوَابَ حَتَّى تَمَلُّوا. وَعَنْهَا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى الله تَعَالَى؟ قَالَ: أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ عَمَلُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم دِيمَةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إذَا نَامَ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إلَّا رَمَضَانَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "يَا عَبْدَ الله لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ الله لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ. قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُ الله بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَالْأَحَادِيثُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ كَثِيرَةٌ.
التَّاسِعَةُ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ نَوْمِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ نِيَّةً جَازِمَةً لِيَحُوزَ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّي مِنْ

 

ج / 3 ص -372-       اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
الْعَاشِرَةُ: يُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ كُلِّهَا وَآكَدُهُ النِّصْفُ الْآخِرُ وَأَفْضَلُهُ عِنْدَ الْأَسْحَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] وَقَالَ تَعَالَى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُو فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَشَبَهِهِ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ أَحَدُهُمَا: تَأْوِيلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِصِفَاتِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَنْ الِانْتِقَالِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْمُحْدَثِ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالثَّانِي: الْإِمْسَاكُ عَنْ تَأْوِيلِهَا مَعَ اعْتِقَادِ تَنْزِيهِ الله سُبْحَانَهُ عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثِ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَحَاصِلُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا نَعْلَمُ الْمُرَادَ بِهَذَا وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهِ مَعَ اعْتِقَادِنَا أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَهُ مَعْنًى يَلِيقُ بِالله تَعَالَى وَالله أَعْلَمُ.
فرع: الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي "الْأُمِّ" و "الْمُخْتَصَرِ" أَنَّ الْوِتْرَ يُسَمَّى تَهَجُّدًا، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَهَجُّدًا، بَلْ الْوِتْرُ غَيْرُ التَّهَجُّدِ.
فرع: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فرع: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَبِالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: الْقَيْلُولَةُ فِي اللُّغَةِ النَّوْمُ نِصْفَ النَّهَارِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ يُعْمَلُ فِيهَا بِالضَّعِيفِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَفْضَلُ التَّطَوُّعِ بِالنَّهَارِ مَا كَانَ فِي الْبَيْتِ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ".
الشرح: حَدِيثُ زَيْدٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَرِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ضَحَّاكِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ النَّجَّارِيِّ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ كُنْيَتُهُ أَبُو سَعِيدٍ، وَقِيلَ أَبُو خَارِجَةَ وَقِيلَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ كَاتِبًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ: فِعْلُ مَا لَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ التَّطَوُّعِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ تَطَوُّعُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَسَوَاءٌ الرَّوَاتِبُ مَعَ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَعَجِيبٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي "تَخْصِيصِهِ" بِتَطَوُّعِ النَّهَارِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَفِعْلُ التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ كَمَا

 

ج / 3 ص -373-       قَالَهُ فِي "التَّنْبِيهِ"، وَكَمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ. وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَفُرُوعَهَا، وَكَلَامَ الْأَصْحَابِ فِيهَا فِي أَوَاخِرِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي سَبَقَ هُنَاكَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا رَأَيْتَ أَنَّ الصُّبْحَ تُدْرِكُكَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ" وَإِنْ جَمَعَ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ جَازَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُصَلِّي [مِنْ اللَّيْلِ] ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ يَجْلِسُ فِي الْآخِرَةِ وَيُسَلِّمُ، وَأَنَّهُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ [وَلَا كَلَامٍ]" وَإِنْ تَطَوَّعَ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه "مَرَّ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى رَكْعَةً فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا صَلَّيْتَ رَكْعَةً؟ فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ تَطَوُّعٌ فَمَنْ شَاءَ زَادَ وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ".
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ عِنْدَهُمَا
"صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ" وَفِي رِوَايَةٍ "فَإِذَا خِفْتَ" وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد "صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى" وَإِسْنَادُهُمَا صَحِيحٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَالَ: هِيَ صَحِيحَةٌ، وَلَوْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الرِّوَايَتَيْنِ كَانَ أَحْسَنَ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ صَحِيحٌ، بَعْضُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَبَعْضُهُ فِي أَحَدِهِمَا بِمَعْنَاهُ فَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي آخِرِهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ "كَانَ يُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إلَّا فِي الثَّامِنَةِ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ التَّطَوُّعَ يُسَنُّ كَوْنُهُ رَكْعَتَيْنِ وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَلْ مَنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْمَسْنُونَ، وَمَنْ شَاءَ زَادَ عَلَيْهِ فَزَادَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ، وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ مِنْهُ فَاقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: التَّطَوُّعُ هُوَ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ وَلَا حَصْرَ لَهُ وَلَا لِعَدَدِ رَكَعَاتِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ عَدَدًا وَلَهُ أَنْ لَا يَنْوِيَهُ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا شَرَعَ فِي تَطَوُّعٍ وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَةٍ وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فَيَجْعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ عَشْرًا أَوْ مِائَةً أَوْ أَلْفًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَوْ صَلَّى عَدَدًا لَا يَعْلَمُهُ ثُمَّ سَلَّمَ صَحَّ بِلَا خِلَافٍ، اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْإِمْلَاءِ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ
"أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه صَلَّى عَدَدًا كَثِيرًا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ رحمه الله: هَلْ تَدْرِي انْصَرَفْتَ عَلَى شَفْعٍ أَمْ عَلَى وِتْرٍ؟ قَالَ: إلَّا أَكُنْ أَدْرِي فَإِنَّ اللَّهَ يَدْرِي، إنِّي سَمِعْتُ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ - ثُمَّ بَكَى - ثُمَّ قَالَ: إنِّي سَمِعْتُ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً" وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَّا رَجُلًا اخْتَلَفُوا فِي عَدَالَتِهِ. وَحَكَى صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ" وَجْهَيْنِ

 

ج / 3 ص -374-       فِيمَنْ نَوَى التَّطَوُّعَ مُطْلَقًا: يُكْرَهُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صَلَاةً هَلْ يَكْفِيهِ رَكْعَةٌ أَمْ يَجِبُ رَكْعَتَانِ؟ وَفِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا أَوْ غَلَطٌ. وَأَمَّا إذَا نَوَى رَكْعَةً وَاحِدَةً وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ نَوَى عَدَدًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَإِنْ بَلَغَتْ كَثْرَتُهُ مَا بَلَغَتْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَيَسْتَوْفِيهِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ الْمَنْقُولِ فِي الْوِتْرِ، وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ جَوَازُ الزِّيَادَةِ مَا شَاءَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: ثُمَّ إذَا نَوَى عَدَدًا فَلَهُ أَنْ يَزِيدَ وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ فَمَنْ أَحْرَمَ بِرَكْعَتَيْنِ أَوْ رَكْعَةٍ فَلَهُ جَعْلُهَا عَشْرًا وَمِائَةً وَمَنْ أَحْرَمَ بِعَشْرٍ أَوْ مِائَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فَلَهُ جَعْلُهَا رَكْعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا.
وَإِنَّمَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ بِشَرْطِ تَغْيِيرِ النِّيَّةِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، فَإِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ بِلَا تَغْيِيرِ النِّيَّةِ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ. مِثَالُهُ: نَوَى رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ إلَى ثَالِثَةٍ بِنِيَّةِ الزِّيَادَةِ جَازَ، وَإِنْ قَامَ بِلَا نِيَّةٍ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَامَ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ لَكِنْ يَعُودُ إلَى الْقُعُودِ وَيَتَشَهَّدُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، فَلَوْ بَدَا لَهُ فِي الْقِيَامِ وَأَرَادَ أَنْ يَزِيدَ فَهَلْ يُشْتَرَطُ الْعَوْدُ إلَى الْقُعُودِ ثُمَّ يَقُومُ مِنْهُ أَمْ لَهُ الْمُضِيُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا: الِاشْتِرَاطُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ إلَى الثَّالِثَةِ شَرْطٌ وَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، وَلَوْ نَوَى رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى أَرْبَعًا سَاهِيًا ثُمَّ نَوَى إكْمَالَ صَلَاتِهِ أَرْبَعًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ آخِرَتَيْنِ وَلَا يَحْسُبُ مَا سَهَا بِهِ. وَلَوْ نَوَى أَرْبَعًا ثُمَّ نَوَى الِاقْتِصَارَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ جَازَ وَسَلَّمَ مِنْهُمَا، فَلَوْ سَلَّمَ قَبْلَ تَغَيُّرِ النِّيَّةِ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ سَلَّمَ سَهْوًا أَتَمَّ أَرْبَعًا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ سَلَامِهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ جَازَ فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ الْأَوَّلَ وَقَعَ سَهْوًا فَهُوَ غَيْرُ مَحْسُوبٍ. ثُمَّ إنْ تَطَوَّعَ بِرَكْعَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّشَهُّدِ عَقِبَهَا وَيَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى رَكْعَةٍ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَشَهُّدٍ وَاحِدٍ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، وَهَذَا التَّشَهُّدُ رُكْنٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي الْفَرَائِضِ الرُّبَاعِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ وِتْرًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّشَهُّدِ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، وَهَذَا إذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا، فَإِنْ كَانَتْ سِتًّا أَوْ عَشْرًا أَوْ عِشْرِينَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ شَفْعًا كَانَتْ أَوْ وِتْرًا فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
الصَّحِيحُ: الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَآخَرُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ كَثُرَتْ التَّشَهُّدَاتُ، وَيَتَشَهَّدُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَشَهُّدٍ فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ أَرْبَعٍ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ سِتٍّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ اخْتِرَاعُ صُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ لَا عَهْدَ بِهَا.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى تَشَهُّدَيْنِ بِحَالٍ مِنْ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ إنْ كَانَ الْعَدَدُ شَفْعًا، فَإِنْ كَانَ وِتْرًا لَمْ يَجُزْ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَةٍ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَا "التَّتِمَّةِ" و "التَّهْذِيبِ" وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوِيٌّ، وَظَاهِرُ السُّنَّةِ يَقْتَضِيهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي الْآخِرَةِ، حَكَاهُ صَاحِبَا "الْإِبَانَةِ" و "الْبَيَانِ" وَهُوَ غَلَطٌ.
وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ التَّشَهُّدُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَهُوَ

 

ج / 3 ص -375-       ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، قَالَ الرَّافِعِيُّ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا غَيْرُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ قَالَ: وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى تَشَهُّدٍ فِي آخِر الصَّلَاةِ، قَالَ: وَالْمَذْهَبُ جَوَازُ التَّشَهُّدِ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى تَشَهُّدٍ قَرَأَ السُّورَةَ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ، وَإِنْ صَلَّى بِتَشَهُّدَيْنِ فَفِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِيمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ الْقَوْلَانِ الْمَعْرُوفَانِ فِي الْفَرَائِضِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ بَيَانُ هَذَا فِي مَوَاضِعَ سَبَقَتْ وَبِالله التَّوْفِيقُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَجْمَعَ رَكَعَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ بِتَسْلِيمَةٍ وَأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّسْلِيمُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعٍ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. وَصَلَاةُ اللَّيْلِ رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَمَانٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي بِالنَّهَارِ أَرْبَعًا وَاخْتَارَهُ إِسْحَاقُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلِيُصَلِّ سَجْدَتَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجْلِسَ" فَإِنْ دَخَلَ وَقَدْ حَضَرَتْ الْجَمَاعَةُ لَمْ يُصَلِّ التَّحِيَّةَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ" وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ التَّحِيَّةُ كَمَا يَحْصُلُ حَقُّ الدُّخُولِ إلَى الْحَرَمِ بِحُجَّةِ الْفَرْضِ.
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ مِنْ طُرُقٍ، مِنْهَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ" هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَالْمُرَادُ بِالسَّجْدَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ رَكْعَتَانِ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَمَّا حَدِيثُ: "إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ" فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْلِسَ مِنْ غَيْرِ تَحِيَّةٍ بِلَا عُذْرٍ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُصَرِّحِ بِالنَّهْيِ وَسَوَاءٌ عِنْدَنَا دَخَلَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ أَمْ فِي غَيْرِهِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ بِدَلِيلِهِ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَانِ لِلْحَدِيثِ، فَإِنْ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ، وَكَانَتْ كُلُّهَا تَحِيَّةً لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ أَوْ سَجَدَ لِتِلَاوَةٍ أَوْ شُكْرٍ أَوْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً لَمْ تَحْصُلْ التَّحِيَّةُ، لِصَرِيحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهَا تَحْصُلُ لِحُصُولِ عِبَادَةٍ وَإِكْرَامِ الْمَسْجِدِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا جَلَسَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ بِالرَّكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، بَلْ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا أَوْ نَوَى رَكْعَتَيْنِ نَافِلَةً رَاتِبَةً أَوْ غَيْرَ رَاتِبَةٍ أَوْ صَلَاةَ فَرِيضَةٍ مُؤَدَّاةٍ أَوْ مَقْضِيَّةٍ أَوْ مَنْذُورَةٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَحَصَلَ لَهُ مَا نَوَى، وَحَصَلَتْ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ ضِمْنًا وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَا لَوْ نَوَى الْفَرِيضَةَ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ أَوْ الرَّاتِبَةَ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ حَصَلَا جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِعِيِّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَطَّرِدَ فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَنْ

 

ج / 3 ص -376-       يَنْوِي بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ هَلْ تَحْصُلُ الْجُمُعَةُ؟ وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَطَّرِدَ فِيهَا الْخِلَافُ فِيمَنْ نَوَى بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ وَالْجُمُعَةَ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرَاهُ، بَلْ كُلُّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِحُصُولِ الصَّلَاةِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَحُصُولِ التَّحِيَّةِ فِيهِمَا وَبِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَيُفَارِقُ مَسْأَلَةَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مَقْصُودَةٌ وَأَمَّا التَّحِيَّةُ فَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ لَا يَنْتَهِكَ الْمَسْجِدَ بِالْجُلُوسِ بِغَيْرِ صَلَاةٍ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ تَكَرَّرَ دُخُولُهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا، قَالَ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ": تُسْتَحَبُّ التَّحِيَّةُ لِكُلِّ مَرَّةٍ وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي "اللُّبَابِ": أَرْجُو أَنْ تُجْزِيَهُ التَّحِيَّةُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَقْرَبُ إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
فَرْعٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: تُكْرَهُ التَّحِيَّةُ فِي حَالَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: إذَا دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي الْمَكْتُوبَةِ أَوْ وَقَدْ شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ الثَّانِي: إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا عَنْ الطَّوَافِ، وَأَمَّا إذَا دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرَهُ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ وَيُخَفِّفَهَا، وَسَنُوَضِّحُهَا بِدَلَائِلِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: لَوْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ التَّحِيَّةِ وَطَالَ الْفَصْلُ فَاتَتْ، وَلَا يُشْرَعُ قَضَاؤُهَا بِالِاتِّفَاقِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، فَإِنْ لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ فَاَلَّذِي قَالَهُ الْأَصْحَابُ إنَّهَا تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ فَلَا يَفْعَلُهَا بَعْدَهُ، وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ "الْحَجِّ" فِي مَسْأَلَةِ الْإِحْرَامِ لِدُخُولِ الْحَرَمِ، وَقَاسُوا عَلَيْهَا أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لَا يَقْضِيهِ، بَلْ فَاتَهُ بِمُجَرَّدِ الدُّخُولِ كَمَا تَفُوتُ التَّحِيَّةُ بِالْجُلُوسِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ الْمُصَنَّفِ فِي الْعِبَادَاتِ أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ التَّحِيَّةَ وَجَلَسَ ثُمَّ ذَكَرَهَا بَعْدَ سَاعَةٍ صَلَّاهَا، وَهَذَا غَرِيبٌ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ:
"جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَعَدَ سُلَيْكٌ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرَكَعْتَ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا: قَالَ: قُمْ فَارْكَعْهُمَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ التَّحِيَّةَ جَهْلًا بِهَا أَوْ سَهْوًا يُشْرَعُ لَهُ فِعْلُهَا مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدَانَ وَيُحْمَلُ كَلَامُ الْأَصْحَابِ عَلَى مَا إذَا طَالَ الْفَصْلُ لِئَلَّا يُصَادِمَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ مُتَعَيَّنٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَابْنِ عَبْدَانَ وَالْحَدِيثِ، وَالله أَعْلَمُ.

فَصْلٌ: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِبَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ.
إحْدَاهَا: يُسْتَحَبُّ رَكْعَتَانِ عَقِبَ الْوُضُوءِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا فِي آخِرِ الْبَابِ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أُرِيدَ قَتْلُهُ بِقِصَاصٍ أَوْ فِي حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا أَنْ يُصَلِّيَ قُبَيْلَهُ إنْ أَمْكَنَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:
"أَنَّ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ الصَّحَابِيَّ رضي الله عنه حِينَ أَخْرَجَهُ الْكُفَّارُ لِيَقْتُلُوهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَعُونِي أُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

 

ج / 3 ص -377-       الثَّانِيَةُ: مِنْ السُّنَنِ رَكْعَتَا الْإِحْرَامِ وَكَذَا رَكْعَتَا الطَّوَافِ إذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ إنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ.
الثَّالِثَةُ: السُّنَّةُ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ أَوَّلَ قُدُومِهِ لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ.
الرَّابِعَةُ: صَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ سُنَّةٌ وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ ثُمَّ دَعَا بِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ ارْضِنِي بِهِ. وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ، وَفِي بَعْضِهَا ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي. الثَّانِيَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثُمَّ يَنْهَضُ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ لِمَا يَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَا "التَّهْذِيبِ" و "التَّتِمَّةِ" وَالرُّويَانِيُّ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ كِتَابِهِ الْبَحْرِ: يُسْتَحَبُّ صَلَاةُ التَّسْبِيحِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا وَفِي هَذَا الِاسْتِحْبَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَهَا ضَعِيفٌ، وَفِيهَا تَغْيِيرٌ لِنَظْمِ الصَّلَاةِ الْمَعْرُوفِ، فَيَنْبَغِي أَلَا يُفْعَلَ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَلَيْسَ حَدِيثُهَا بِثَابِتٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ رضي الله عنه:
"يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّاهُ أَلَا أُعْطِيكَ، أَلَا أَمْنَحُكَ، أَلَا أَحْبُوكَ أَلَا أَفْعَلُ بِك عَشْرَ خِصَالٍ إذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَك ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَأَنْتَ قَائِمٌ قُلْت: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَه إلَّا اللَّهُ وَالله أَكْبَرُ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ وَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا وَتَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ الرُّكُوعِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا ثُمَّ تَسْجُدُ فَتَقُولُهَا عَشْرًا ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ فَتَقُولُهَا عَشْرًا فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا كُلَّ يَوْمٍ فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ عُمُرِكَ مَرَّةً" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحِهِ" وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ بِمَعْنَاهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ غَيْرُ حَدِيثٍ قَالَ: وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَبِيرُ شَيْءٍ، قَالَ: قَدْ رَأَى ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ صَلَاةَ التَّسْبِيحِ، وَذَكَرُوا الْفَضْلَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَيْسَ فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ، وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَآخَرُونَ، أَنَّهُ

 

ج / 3 ص -378-       لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ1 وَالله أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ فِي صَلَاةِ الْحَاجَةِ: عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"2 مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى الله تَعَالَى أَوْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لِيُثْنِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَلِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لِيَقُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ.
السَّابِعَةُ: يُكْرَهُ تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الثَّامِنَةُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّوَافِلَ لَا تُشْرَعُ الْجَمَاعَةُ فِيهَا إلَّا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَكَذَا التَّرَاوِيحُ وَالْوِتْرُ بَعْدَهَا إذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهَا أَفْضَلُ، وَأَمَّا بَاقِي النَّوَافِلِ كَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ مَعَ الْفَرَائِضِ وَالضُّحَى وَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا تُشْرَعُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ، أَيْ لَا تُسْتَحَبُّ، لَكِنْ لَوْ صَلَّاهَا جَمَاعَةً جَازَ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "مُخْتَصَرَيْ الْبُوَيْطِيِّ" وَالرَّبِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْجَمَاعَةِ فِي النَّافِلَةِ وَدَلِيلُ جَوَازِهَا جَمَاعَةُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي "الصَّحِيحِ" مِنْهَا حَدِيثُ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"جَاءَهُ فِي بَيْتِهِ بَعْدَمَا اشْتَدَّ النَّهَارُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فَأَشَرْتُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فَقَامَ وَصَفَّنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَثَبَتَتْ الْجَمَاعَةُ فِي النَّافِلَةِ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ رضي الله عنهم، وَأَحَادِيثُهُمْ كُلُّهَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" إلَّا حَدِيثَ حُذَيْفَةَ فَفِي مُسْلِمٍ فَقَطْ، وَالله أَعْلَمُ.
التَّاسِعَةُ: يَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّوَافِلِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْبَابِ، وَقَدْ سَبَقَتْ دَلَائِلُهُ، مِنْ أَهَمِّهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: اُذْكُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَتُكَمَّلَ بِهِ مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قلت ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال ابن حجر: لا بأس بإسناد حديث ابن عباس وهو من شرط الحسن فإن له شواهد تقويه وقد أساء ابن الجوزي بذكره في "الموضوعات". وقال في "اللآلئ" نقلا عن ابن حجر: والحق أن طرقه كلها ضعيفة وأن حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلاة وقد صنف بعض العلماء في إثبات حسنها مصنفات.
2 أخرجه الترمذي وابن ماجه كلامهما من رواية فايد بن عبد الرحمن بن أبي الورقاء عنه وفايد متروك (ط).

 

ج / 3 ص -379-       وَآخَرُونَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَكَذَا، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ رِوَايَةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ بِمَعْنَاهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
الْعَاشِرَةُ: الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ بِصَلَاةِ الرَّغَائِبِ، وَهِيَ ثِنْتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً تُصَلَّى بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَيْلَةَ أَوَّلِ جُمُعَةٍ فِي رَجَبٍ، وَصَلَاةُ لَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ مِائَةُ رَكْعَةٍ وَهَاتَانِ الصَّلَاتَانِ بِدْعَتَانِ وَمُنْكَرَانِ قَبِيحَتَانِ وَلَا يُغْتَرُّ بِذَكَرِهِمَا فِي كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ، وَإِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ، وَلَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِيهِمَا فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَا يُغْتَرُّ بِبَعْضِ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ فَصَنَّفَ وَرَقَاتٍ فِي اسْتِحْبَابِهِمَا فَإِنَّهُ غَالِطٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ صَنَّفَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْمَقْدِسِيُّ كِتَابًا نَفِيسًا فِي إبْطَالِهِمَا فَأَحْسَنَ فِيهِ وَأَجَادَ رحمه الله.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ رَكَعَاتِ التَّطَوُّعِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي النَّفْلِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَةٍ وَرَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ رَكَعَاتٍ كَثِيرَةٍ سَوَاءٌ كَانَ بِاللَّيْلِ أَمْ بِالنَّهَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَةٍ فِي صَلَاةٍ أَبَدًا، قَالَ: وَيَجُوزُ نَوَافِلُ النَّهَارِ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعًا وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَنَوَافِلُ اللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعًا وَسِتًّا وَثَمَانِيًا وَلَا يَزِيدُ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي فَصْلِ الْوِتْرِ الْمُصَرِّحَةُ بِدَلَائِلِ مَذْهَبِنَا.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي نَفْلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي النَّهَارِ أَرْبَعًا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى وَصَلَاةُ النَّهَارِ إنْ شَاءَ أَرْبَعًا وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ، دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ
"صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى" وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ قَرِيبًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي كَوْنِ صَلَاةِ النَّهَارِ رَكْعَتَيْنِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي "الصَّحِيحِ" كَحَدِيثِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَكَذَا قَبْلَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَحَدِيثِ رَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيْ الِاسْتِخَارَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: "أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا تَسْلِيمَ فِيهِنَّ يُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ" فَضَعِيفٌ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَمَدَارُهُ عَلَى عُبَيْدَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ كُرِهَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِنَافِلَةٍ سَوَاءٌ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَسُنَّةُ الصُّبْحِ وَغَيْرُهَا وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَمُجَاهِدٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِصَلَاةِ سُنَّةِ الصُّبْحِ وَالْإِمَامُ فِي الْفَرِيضَةِ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ إنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يَفُوتَهُ الْإِمَامُ بِالرَّكْعَةِ فَلِيُصَلِّ خَارِجًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ فَلْيَرْكَعْ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو حَنِيفَةَ ارْكَعْهُمَا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ مَا دُمْتَ تَتَيَقَّنُ أَنَّكَ تُدْرِكُ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ، فَإِنْ خَشِيتَ فَوْتَ الْأَخِيرَةِ فَادْخُلْ مَعَ الْإِمَامِ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ