المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ زَكَاةِ الغَنَمِ1
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"أَوَّل نِصَابِ الغَنَمِ أَرْبَعُونَ وَفَرْضُهُ شَاةٌ إلى مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَيَجِبُ شَاتَانِ إلى مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ فَيَجِبُ ثَلاثُ شِيَاهٍ ثُمَّ يَجِبُ فِي كُل مِائَةٍ شَاةٌ، لمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَةِ وَفِيهِ: وَفِي الغَنَمِ فِي كُل أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إلى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا شَاتَانِ إلى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلى المِائَتَيْنِ شَاةٌ فَفِيهَا ثَلاثُ شِيَاهٍ إلى ثَلاثِمِائَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ الغَنَمُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ فَفِي كُل مِائَةٍ شَاةٌ"وَالشَّاةُ الوَاجِبَةُ فِي الغَنَمِ الجَذَعَةُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيَّةُ مِنْ المَعَزِ وَالجَذَعَةُ هِيَ التِي لهَا سَنَةٌ وَقِيل سِتَّةُ أَشْهُرٍ: وَالثَّنِيَّةُ [هِيَ التِي] لهَا سَنَتَانِ".
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَشْهُورٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ. قَال التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الجَامِعِ: المَشْهُورُ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَال هُوَ فِي كِتَابِ العِلل: سَأَلتُ البُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَال: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا. وَهَذَا الحَدِيثُ يَرْوِيهِ سُفْيَانُ عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ. وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ثِقَةٌ. وَقَدْ تَكَلمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ فِي الجَامِعِ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالمٍ وَلمْ يَرْفَعُوهُ وَإِنَّمَا رَفَعَهُ سُفْيَانُ. وَذَكَرَ البَيْهَقِيُّ عَنْ الحَافِظِ أَبِي أَحْمَدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّهُ قَال: قَدْ وَافَقَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَلى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ سَالمٍ عَنْ أَبِيهِ سُليْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
وَلوْ احْتَجَّ المُصَنِّفُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ المَذْكُورِ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ الذِي قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّل بَابِ زَكَاةِ الإِبِل لكَانَ أَحْسَنَ؛ لأَنَّ فِيهِ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ذَكَرَهَا البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ "فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ وَشَاةً، فَفِيهَا ثَلاثُ شِيَاهٍ حَتَّى تَبْلغَ ثَلاثَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلى ثَلاثِمِائَةٍ، فَليْسَ فِيهَا إلا ثَلاثُ شِيَاهٍ حَتَّى تَبْلغَ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ، فَإِذَا بَلغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ فِي كُل مِائَةٍ شَاةٌ}. فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَرُدُّ مَا حُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَالحَسَنِ بْنِ صَالحٍ فِي قَوْلهِمَا: إذَا زَادَتْ عَلى ثَلاثِمِائَةٍ وَاحِدَةٌ وَجَبَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ إلى أَرْبَعِمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَخَمْسُ شِيَاهٍ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ العُلمَاءِ كَافَّةً غَيْرُهُمَا أَنَّهُ لا شَيْءَ فِيهَا بَعْدَ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ حَتَّى تَبْلغَ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَيَجِبُ أَرْبَعُ شِيَاهٍ. قَال أَصْحَابُنَا: أَوَّل نِصَابِ الغَنَمِ أَرْبَعُونَ بِالإِجْمَاعِ، وَفِيهِ شَاةٌ بِالإِجْمَاعِ أَيْضًا، ثُمَّ لا شَيْءَ حَتَّى تَبْلغَ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا شَاتَانِ، ثُمَّ لا شَيْءَ حَتَّى تَبْلغَ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةً فَثَلاثُ شِيَاهٍ، ثُمَّ لا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلغَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ فِي كُل مِائَةٍ شَاةٌ، وَيَتَغَيَّرُ الفَرْضُ بَعْدَ هَذَا بِمِائَةٍ مِائَةٍ. وَأَكْثَرُ وَقْصِ

 

ج / 5 ص -276-       الغَنَمِ مِائَتَانِ إلا شَاتَيْنِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَالأَصْحَابُ: الشَّاةُ الوَاجِبَةُ هُنَا جَذَعَةُ ضَأْنٍ أَوْ ثَنِيَّةُ مَعَزٍ، وَسَبَقَ بَيَانُ سِنِّهِمَا، وَالاخْتِلافُ فِيهِ فِي زَكَاةِ الإِبِل وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا كَانَتْ المَاشِيَةُ صِحَاحًا لمْ يُؤْخَذْ فِي فَرْضِهَا مَرِيضَةٌ، لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم
"وَلا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلا ذَاتُ عَوَارٍ"وَرُوِيَ"وَلا ذَاتُ عَيْبٍ"وَإِنْ كَانَتْ مِرَاضًا أُخِذَتْ مَرِيضَةٌ وَلا يَجِبُ إخْرَاجُ صَحِيحَةٍ؛ لأَنَّ فِي ذَلكَ إضْرَارًا لرَبِّ المَال، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا صِحَاحًا وَبَعْضُهَا مِرَاضًا أُخِذَ عَنْهَا صَحِيحَةٌ بِبَعْضِ قِيمَةِ فَرْضِ صَحِيحٍ وَبَعْضِ قِيمَةِ فَرْضِ مَرِيضٍ؛ لأَنَّا لوْ أَخَذْنَا مَرِيضَةً لتَيَمَّمْنَا الخَبِيثَ وَقَدْ قَال اللهُ تَعَالى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}وَإِنْ كَانَتْ المَاشِيَةُ كِبَارَ الأَسْنَانِ كَالثَّنَايَا وَالبَزْل فِي الإِبِل لمْ يُؤْخَذْ غَيْرُ الفَرْضِ المَنْصُوصِ عَليْهِ؛ لأَنَّا لوْ أَخَذْنَا كِبَارَ الأَسْنَانِ أَخَذْنَا عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، ثُمَّ نَأْخُذُهَا فِي إحْدَى وَسِتِّينَ فَيُؤَدِّيَ إلى التَّسْوِيَةِ فِي القَليل وَالكَثِيرِ. وَإِنْ كَانَتْ المَاشِيَةُ صِغَارًا نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الغَنَمِ أُخِذَ مِنْهَا صَغِيرَةٌ، لقَوْل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه "وَلوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لقَاتَلتُهُمْ عَليْهِ "وَلأَنَّا لوْ أَوْجَبْنَا فِيهَا كَبِيرَةً أَضْرَرْنَا1 بِرَبِّ المَال. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الإِبِل وَالبَقَرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: قَال أَبُو إِسْحَاقَ: تُؤْخَذُ الفَرَائِضُ المَنْصُوصُ عَليْهَا بِالقِسْطِ، فَيُقَوَّمُ النِّصَابُ مِنْ الكِبَارِ، ثُمَّ يُقَوَّمُ فَرْضُهُ، ثُمَّ يُقَوَّمُ النِّصَابُ مِنْ الصِّغَارِ، وَيُؤْخَذُ كَبِيرَةٌ بِالقِسْطِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: إنْ كَانَ المَال مِمَّا يَتَغَيَّرُ الفَرْضُ فِيهِ بِالسِّنِّ لمْ يَجُزْ؛ لأَنَّهُ يُؤَدِّي إلى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ القَليل مَا يُؤْخَذُ مِنْ الكَثِيرِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَغَيَّرُ الفَرْضُ فِيهِ بِالعَدَدِ أُخِذَ صَغِيرَةٌ لأَنَّهُ لا يُؤَدِّي إلى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ القَليل مَا يُؤْخَذُ مِنْ الكَثِيرِ، فَأَخْذُ الصَّغِيرِ مِنْ الصِّغَارِ كَالغَنَمِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الأَوَّل؛ لأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ فَصِيلانِ، وَمِنْ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَصِيلانِ وَإِنْ وَإِنْ كَانَتْ المَاشِيَةُ إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الإِبِل وَالغَنَمِ لمْ يُؤْخَذْ فِي فَرْضِهَا إلا الإِنَاثُ؛ لأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهَا بِالإِنَاثِ عَلى مَا مَضَى وَلأَنَّ فِي أَخْذِ الذَّكَرِ مِنْ الإِنَاثِ تَيَمُّمَ الخَبِيثِ وَقَدْ قَال اللهُ تَعَالى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}وَإِنْ كَانَتْ مِنْ البَقَرِ نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَتْ فِي فَرْضِ الأَرْبَعِينَ لمْ يَجُزْ إلا الإِنَاثُ لمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي فَرْضِ الثَّلاثِينَ جَازَ فِيهِ الذَّكَرُ وَالأُنْثَى لحَدِيثِ مُعَاذٍ "فِي كُل ثَلاثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ"وَإِنْ كَانَتْ كُلهَا ذُكُورًا نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الغَنَمِ أُخِذَ وَاحِدٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الإِبِل أَوْ مِنْ الأَرْبَعِينَ مِنْ البَقَرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: قَال أَبُو إِسْحَاقَ: لا يَجُوزُ إلا الأُنْثَى، فَيُقَوَّمُ النِّصَابُ مِنْ الإِنَاثِ، وَالفَرْضُ الذِي فِيهَا، ثُمَّ يُقَوَّمُ النِّصَابُ مِنْ الذُّكُورِ، وَيُؤْخَذُ أُنْثَى بِالقِسْطِ حَتَّى لا يُؤَدِّي إلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ، وَالدَّليل عَليْهِ أَنَّهُ لا يُؤْخَذُ إلا الأُنْثَى؛ لأَنَّ الفَرَائِضَ كُلهَا إنَاثٌ، إلا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَلا ضَرُورَةَ هَهُنَا، فَوَجَبَتْ الأُنْثَى، وَقَال أَبُو عَليِّ بْنُ خَيْرَانَ: يَجُوزُ فِيهِ الذُّكُورُ وَهُوَ المَنْصُوصُ فِي الأُمِّ، وَالدَّليل عَليْهِ أَنَّ الزَّكَاةَ وُضِعَتْ عَلى الرِّفْقِ وَالمُوَاسَاةِ، فَلوْ أَوْجَبْنَا الإِنَاثَ مِنْ الذُّكُورِ أَجْحَفْنَا بِرَبِّ المَال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ أجحفنا برب المال (ط).

 

ج / 5 ص -277-       قَال أَبُو إِسْحَاقَ: إلا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ ابْنُ لبُونٍ، أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ ابْنِ لبُونٍ وَيُؤْخَذُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى لا يُؤَدِّيَ إلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ القَليل وَالكَثِيرِ فِي الفَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ المَاشِيَةُ صِنْفًا وَاحِدًا أُخِذَ الفَرْضُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا كَالضَّأْنِ وَالمَاعِزِ وَالجَوَامِيسِ وَالبَقَرِ وَالبَخَاتِيِّ وَالعَرَبُ، فَفِيهِ قَوْلانِ:
 أحدهما: أَنَّهُ يُؤْخَذُ الفَرْضُ مِنْ الغَالبِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانُوا سَوَاءً أَخَذَ السَّاعِي أَنْفَعَ النَّوْعَيْنِ للمَسَاكِينِ،؛ لأَنَّا لوْ أَلزَمْنَاهُ الفَرْض مِنْ كُلّ نَوْعٍ شَقَّ، فَاعْتُبِرَ الغَالبُ وَالقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤْخَذ مِنْ كُلّ نَوْعٍ بِقِسْطِهِ؛ لأَنَّهَا أَنْوَاعٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَأُخِذَ مِنْ كُل نَوْعٍ بِقِسْطِهِ كَالثِّمَارِ، فَعَلى هَذَا إذَا كَانَ عِشْرُونَ مِنْ الضَّأْن وَعِشْرُونَ مِنْ المَعْزِ قُوِّمَ النِّصَابُ مِنْ الضَّأْنِ، فَيُقَال: قِيمَتُهُ مِثْلًا مِائَةٌ يُقَوَّمُ فَرْضَهُ فَيُقَال: قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، وَيُقَوَّمُ نِصَابُ المَعْزِ، فَيُقَال: قِيمَتُهُ خَمْسُونَ، ثُمَّ يُقَوَّمُ فَرْضُهُ، فَيُقَال: قِيمَتُهُ خَمْسَةٌ فَيُقَال لهُ: اشْتَرِ شَاةً مِنْ أَيِّ النَّوْعَيْنِ شِئْتَ بِسَبْعَةٍ وَنِصْفٍ وَأَخْرِجْ".
الشرح:
هَذَا الحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ البُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّل بَابِ زَكَاةِ الإِبِل، وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّ العَوَارَ - بِفَتْحِ العَيْنِ وَضَمِّهَا - وَهُوَ العَيْبُ، وَهَذَا الفَصْل وَمَسَائِلهُ ليْسَ للغَنَمِ خَاصَّةً بَل للمَاشِيَةِ كُلهَا، وَكَانَ يَنْبَغِي للمُصَنِّفِ أَنْ يُفْرِدَهُ بِبَابٍ وَلا يُدْخِلهُ فِي بَابِ زَكَاةِ الغَنَمِ وَمَعَ هَذَا فَذِكْرُهُ هُنَا لهُ وَجْهٌ. وَحَاصِل الفَصْل بَيَانُ صِفَةِ المَخْرَجِ فِي زَكَاةِ المَاشِيَةِ. قَال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالى: إنْ كَانَتْ المَاشِيَةُ كَامِلةً أَخْرَجَ الوَاجِبَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً فَأَسْبَابُ النَّقْصِ خَمْسَةٌ أحدها: المَرَضُ، فَإِنْ كَانَتْ المَاشِيَةُ كُلهَا مِرَاضًا أُخِذَتْ مِنْهَا مَرِيضَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ لئَلا يَتَضَرَّرَ المَالكُ وَلا المَسَاكِينُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا صَحِيحًا وَبَعْضُهَا مِرَاضًا، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ قَدْرَ الوَاجِبِ فَأَكْثَرُ لمْ تَجُزْ المَرِيضَةُ وَإِنْ كَانَ الوَاجِبُ حَيَوَانًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ اثْنَيْنِ، وَنِصْفُ مَاشِيَتِهِ صِحَاحٌ وَنِصْفُهَا مِرَاضٌ كَبِنْتَيْ لبُونٍ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَكَشَاتَيْنِ فِي مِائَتَيْنِ فَطَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ العِرَاقِيُّونَ وَجُمْهُورُ الخُرَاسَانِيِّينَ يَجِبُ صَحِيحَتَانِ بِالقِسْطِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى، لعُمُومِ قوله تعالى{وَلا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
والطريق الثاني: حَكَاهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِيهِ وَجْهَانِ: "أَحَدُهُمَا "هَذَا وَأَصَحُّهُمَا "عِنْدَهُ يُجْزِئُهُ صَحِيحَةٌ وَمَرِيضَةٌ، وَالمَذْهَبُ الأَوَّل فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ مَاشِيَتِهِ دُونَ قَدْرِ الوَاجِبِ كَشَاتَيْنِ فِي مِائَتَيْنِ ليْسَ فِيهَا إلا صَحِيحَةٌ وَاحِدَةٌ، فَطَرِيقَانِ "الصَّحِيحُ "وَبِهِ قَطَعَ العِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلانِيّ وَجُمْهُورُ الخُرَاسَانِيِّينَ: يُجْزِئُهُ مَرِيضَةٌ وَصَحِيحَةٌ بِالقِسْطِ والطريق الثاني: فِيهِ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ "أَصَحُّهُمَا "هَذَا والثاني: وَبِهِ قَال أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ: يَجِبُ صَحِيحَتَانِ بِالقِسْطِ، وَلا تُجْزِئُهُ صَحِيحَةٌ وَمَرِيضَةٌ؛ لأَنَّ المُخْرَجَتَيْنِ يُزَكِّيَانِ أَنْفُسَهُمَا وَالمَال، فَكُل وَاحِدَةٍ تُزَكِّي الأُخْرَى فَيَلزَمُ مِنْهُ أَنْ تُزَكِّيَ مَرِيضَةٌ صَحِيحَةً. قَال أَصْحَابُنَا: وَإِذَا انْقَسَمَ المَال إلى صِحَاحٍ وَمِرَاضٍ وَأَوْجَبْنَا صَحِيحَةً لمْ يُكَلفْ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ نَفْسِ مَالهِ وَلا يُكَلفُ صَحِيحَةً كَامِلةً مُسَاوِيَةً لصَحِيحَةِ مَالهِ فِي القِيمَةِ بَل يَجِبُ صَحِيحَةٌ لا تُعَدُّ لائِقَةً بِمَالهِ.
مثاله: أَرْبَعُونَ شَاةً نِصْفُهَا صِحَاحٌ وَنِصْفُهَا مِرَاضٌ قِيمَةُ كُل صَحِيحَةٍ مِنْهَا دِينَارَانِ وَقِيمَةُ كُل مَرِيضَةٍ دِينَارٌ، فَعَليْهِ صَحِيحَةٌ بِقِيمَةِ نِصْفِ صَحِيحَةٍ وَنِصْفِ مَرِيضَةٍ، وَذَلكَ دِينَارٌ وَنِصْفُ. وَلوْ كَانَتْ

 

ج / 5 ص -278-       الصِّحَاحُ فِي المِثَال المَذْكُورِ ثَلاثِينَ، فَعَليْهِ صَحِيحَةٌ بِثَلاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَةِ صَحِيحَةٍ، وَرُبُعِ قِيمَةِ مَرِيضَةٍ وَهُوَ دِينَارٌ وَرُبُعُ عُشْرِ دِينَارٍ وَالمَجْمُوعُ رُبُعُ عُشْرِ المَال، وَمَتَى قُوِّمَ جُمْلةُ النِّصَابِ وَكَانَتْ الصَّحِيحَةُ المُخْرَجَةُ رُبُعَ عُشْرِ قِيمَةِ الجُمْلةِ كَفَاهُ، فَلوْ مَلكَ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ شَاةً فَلتَكُنْ قِيمَةُ الشَّاتَيْنِ المَأْخُوذَتَيْنِ جُزْأَيْنِ مِنْ مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ قِيمَةِ الجُمْلةِ. وَإِنْ مَلكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِل، فَلتَكُنْ قِيمَةُ بِنْتِ المَخَاضِ المَأْخُوذَةِ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ قِيمَةِ الجُمْلةِ، وَقِسْ عَلى هَذَا سَائِرَ النُّصُبِ، وَوَاجِبَاتِهَا، فَلوْ مَلكَ ثَلاثِينَ مِنْ الإِبِل نِصْفُهَا صِحَاحٌ وَنِصْفُهَا مِرَاضٌ، وَقِيمَةُ كُل صَحِيحَةٍ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَكُل مَرِيضَةٍ دِينَارَانِ وَجَبَ صَحِيحَةٌ بِنِصْفِ قِيمَةِ صَحِيحَةٍ وَنِصْفِ قِيمَةِ مَرِيضَةٍ وَهُوَ ثَلاثَةُ دَنَانِيرَ ذَكَرَهُ البَغَوِيّ وَغَيْرُهُ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَلك أَنْ تَقُول: هَلا كَانَ مَبْنِيًّا عَلى أَنَّ الوَقْصَ يَتَعَلقُ بِهِ الفَرْضُ أَمْ لا؟ وَإِنْ عَلقْنَاهُ بِهِ، فَالحُكْمُ كَمَا ذَكَرُوهُ، وَإِلا فَليَسْقُطْ الوَاجِبُ عَلى الخَمْسِ وَالعِشْرِينَ.
قُلتُ: وَهَذَا الاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ؛ لأَنَّ الوَاجِبَ بِنْتُ مَخَاضٍ مُوَزَّعَةً بِالقِيمَةِ نِصْفَيْنِ، فَلا اعْتِبَارَ بِالوَقْصِ، وَلوْ مَلكَ مِائَتَيْ بَعِيرٍ فِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ صِحَاحٌ وَبَاقِيهَا مِرَاضٌ لزِمَهُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ صِحَاحٌ قِيمَتُهُنَّ خُمُسُ عُشْرِ قِيمَةِ الجَمِيعِ، وَإِنْ لمْ يَكُنْ فِيهَا صَحِيحٌ إلا ثَلاثَ حِقَاقٍ أَوْ ثِنْتَانِ أَوْ وَاحِدَةٌ أُخِذَ صَحِيحٌ بِقَدْرِ الصِّحَاحِ بِالقِسْطِ، وَأُخِذَ البَاقِي مِرَاضًا وَفِيهِ الوَجْهُ الضَّعِيفُ السَّابِقُ عَنْ البَغَوِيِّ، وَالوَجْهُ السَّابِقُ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ.
وَالنَّقْصُ الثَّانِي: العَيْبُ وَحُكْمُهُ حُكْمُ المَرَضِ،، سَوَاءٌ تَمَحَّضَتْ المَاشِيَةُ مَعِيبَةً أَوْ انْقَسَمَتْ مَعِيبَةً وَصَحِيحَةً، وَالمُرَادُ بِالعَيْبِ هُنَا مَا يُثْبِتُ الرَّدَّ فِي البَيْعِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ المَشْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ هَذَا مَعَ مَا يَمْنَعُ الإِجْزَاءَ فِي الأُضْحِيَّةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَلوْ مَلكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ بَعِيرًا مَعِيبَةً وَفِيهَا بِنْتَا مَخَاضٍ إحْدَاهُمَا مِنْ أَجْوَدِ المَال مَعَ عَيْبِهَا وَالأُخْرَى دُونَهَا فَهَل يَأْخُذُ الأَغْبَطَ مِنْ بَنَاتِ اللبُونِ وَالحِقَاقِ؟ أَمْ الوَسَطَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا1 وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ الصحيح: الوَسَطُ لئَلا يُجْحِفَ بِرَبِّ المَال. قَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي المُخْتَصَرِ: وَيَأْخُذْ خَيْرَ المَعِيبِ قَال جُمْهُورُ الأَصْحَابِ: ليْسَ هَذَا عَلى ظَاهِرِهِ بَل هُوَ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَسَطِهِ لا أَعْلاهُ، وَلا أَدْنَاهُ وَنَقَل الرَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى اتِّفَاقَ الأَصْحَابِ عَلى هَذَا التَّأْوِيل وَأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ غَيْرُ مُرَادٍ، وَكَذَا قَال السَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَالي: لا يَخْتَلفُ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّهُ لا يُؤْخَذُ إلا الوَسَطُ وَلكِنْ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الوَسَطُ وَجْهَانِ: المَذْهَبُ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ العَيْبُ، فَلا يُؤْخَذُ أَقَلهَا عَيْبًا وَلا أَكْثَرُهَا عَيْبًا لكِنْ يُؤْخَذُ الوَسَطُ فِي العَيْبِ والثاني: يُعْتَبَرُ القِيمَةُ فَلا يُؤْخَذُ أَقَلهَا وَلا أَكْثَرُهَا قِيمَةً بَل أَوْسَطُهَا. وَحَمَل الأَصْحَابُ كَلامَ الشَّافِعِيِّ عَلى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ فَرِيضَةَ مِائَتَيْنِ مِنْ الإِبِل إذَا كَانَتْ مَعِيبَةً، فَيُؤْخَذُ الجِنْسُ الذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ الحِقَاقِ أَوْ بَنَاتِ اللبُونِ وَلكِنْ مِنْ أَوْسَطِهَا عَيْبًا. هَذَا كَلامُ السَّرَخْسِيِّ
وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: اخْتَلفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى كَلامَهُ عَلى ظَاهِرِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل

 

ج / 5 ص -279-       وَأَوْجَبَ أَخْذَ خَيْرِ المَعِيبِ مِنْ جَمِيعِ مَالهِ، وَهَذَا غَلطٌ ؛ لأَنَّهُ لا يَطَّرِدُ عَلى أَصْل الشَّافِعِيِّ. قَال: وَمِنْهُمْ مَنْ قَال أَرَادَ بِذَلكَ أَخْذَ خَيْرِ الفَرْضَيْنِ مِنْ الحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللبُونِ وَلمْ يُرِدْ خَيْرَ جَمِيعِ المَال، قَال: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَال أَبُو عَليِّ بْنُ خَيْرَانَ. وَقِيل أَرَادَ بِخَيْرِ المَعِيبِ أَوْسَطَهُ، وَعَلى هَذَا فِي اعْتِبَارِ الأَوْسَطِ وَجْهَانِ: أحدهما: أَوْسَطُهَا عَيْبًا مثاله: أَنْ يَكُونَ بِبَعْضِهَا عَيْبٌ وَاحِدٌ وَبِبَعْضِهَا عَيْبَانِ وَبِبَعْضِهَا ثَلاثَةُ عُيُوبٍ، فَيَأْخُذَ مَا بِهِ عَيْبَانِ والثاني: أَوْسَطُهَا فِي القِيمَةِ مِثَالهُ: أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا خَمْسِينَ وَقِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا مِائَةً وَقِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا مِائَةً وَخَمْسِينَ فَيَأْخُذَ مِنْهَا مَا قِيمَتُهُ مِائَةٌ قَال: فَحَصَل للأَصْحَابِ فِي المَسْأَلةِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أصحها: مَا قَالهُ ابْنُ خَيْرَانَ أَنَّهُ يَأْخُذُ خَيْرَ الفَرْضَيْنِ لا غَيْرَ وَقَدْ نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الأُمِّ فَقَال: يَأْخُذُ خَيْرَ المَعِيبِ مِنْ السِّنِّ التِي وَجَبَتْ عَليْهِ والثاني: وَهُوَ أَشَدُّهَا غِلظًا يَأْخُذُ خَيْرَ المَال كُلهِ والثالث: يَأْخُذُ أَوْسَطَهَا عَيْبًا والرابع: أَوْسَطَهَا قِيمَةً، هَذَا كَلامُ صَاحِبِ الحَاوِي وَفِيهِ إثْبَاتُ خِلافٍ بِخِلافِ مَا نَقَلهُ الرَّافِعِيُّ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
النَّقْصُ الثَّالثُ: الذُّكُورَةُ فَإِذَا تَمَحَّضَتْ الإِبِل إنَاثًا أَوْ انْقَسَمَتْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا لمْ يَجُزْ فِيهَا الذَّكَرُ إلا فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ فِيهَا ابْنُ لبُونٍ عِنْدَ فَقْدِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْيِينِ الإِنَاثِ1 مُتَّفَقٌ عَليْهِ فِي الخَمْسِ وَالعِشْرِينَ، وَإِنْ تَمَحَّضَتْ ذُكُورًا فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ أصحها: وَهُوَ المَنْصُوصُ جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي الطِّيبِ بْنِ سَلمَةَ كَالمَرِيضَةِ مِنْ المِرَاضِ، وَعَلى هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ ابْنُ لبُونٍ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ ابْنِ لبُونٍ يُؤْخَذُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ والثاني: المَنْعُ، هَكَذَا صَحَّحَهُ الجُمْهُورُ، وَنَقَلهُ المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ عَنْ نَصِّهِ فِي الأُمِّ، وَعَنْ أَبِي عَليِّ بْنِ خَيْرَانَ رحمه الله فَعَلى هَذَا تَتَعَيَّنُ الأُنْثَى وَلكِنْ يُؤْخَذُ شَيْءٌ كَانَ يُؤْخَذُ لوْ تَمَحَّضَتْ إنَاثًا، بَل تُقَوَّمُ مَاشِيَتُهُ لوْ كَانَتْ إنَاثًا، وَتُقَوَّمُ الأُنْثَى المَأْخُوذَةُ مِنْهَا، وَيُعْرَفُ نِسْبَتُهَا مِنْ الجُمْلةِ، وَتُقَوَّمُ مَاشِيَتُهُ الذُّكُورُ وَيُؤْخَذُ أُنْثَى قِيمَتُهَا مَا تَقْتَضِيهِ النِّسْبَةُ، وَكَذَلكَ الأُنْثَى المَأْخُوذَةُ مِنْ الإِنَاثِ وَالذُّكُورِ تَكُونُ دُونَ المَأْخُوذَةِ مِنْ مَحْضِ الإِنَاثِ، وَفَوْقَ المَأْخُوذَةِ مِنْ مَحْضِ الذُّكُورِ، بِطَرِيقِ التَّقْسِيطِ السَّابِقِ فِي المِرَاضِ. وَحَكَى صَاحِبُ البَيَانِ فِي كِتَابِ مُشْكِلاتِ المُهَذَّبِ وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ عَلى هَذَا الوَجْهِ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا سَوَاءً، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ.
وَالوَجْهُ الثَّالثُ: إنْ أَدَّى أَخْذُ الذَّكَرِ إلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ نِصَابَيْنِ لمْ يُؤْخَذْ، وَإِلا أُخِذَ مِثَالهُ: يُؤْخَذُ ابْنُ مَخَاضٍ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَحِقٌّ مِنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَجَذَعٌ مِنْ إحْدَى وَسِتِّينَ، وَكَذَلكَ يُؤْخَذُ الذَّكَرُ إذَا زَادَتْ الإِبِل، وَاخْتَلفَ الفَرْضُ بِزِيَادَةِ العَدَدِ، وَلا يُؤْخَذُ ابْنُ لبُونٍ مِنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ؛ لأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
وأما: البَقَرُ فَالتَّبِيعُ مَأْخُوذٌ مِنْهَا فِي مَوَاضِعِ وُجُوبِهِ، وَهُوَ فِي كُل ثَلاثِينَ، وَحَيْثُ وَجَبَتْ المُسِنَّةُ تَعَيَّنَتْ إنْ تَمَحَّضَتْ إنَاثًا أَوْ انْقَسَمَتْ كَمَا سَبَقَ فِي الإِبِل، وَإِنْ تَمَحَّضَتْ ذُكُورًا فَفِيهِ الوَجْهَانِ: الأَوَّلانِ فِي الإِبِل الأصح: عِنْدَ الأَصْحَابِ وَنَقَلهُ المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ عَنْ نَصِّهِ فِي الأُمِّ، جَوَازُ الذَّكَرِ، وَلوْ

 

ج / 5 ص -280-       كَانَتْ البَقَرُ أَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا تَبِيعَيْنِ أَجْزَأَهُ عَلى المَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ، وَسَبَقَ فِي بَابِ زَكَاةِ البَقَرِ فِيهِ خِلافٌ ضَعِيفٌ. وأما: الغَنَمُ فَإِنْ تَمَحَّضَتْ ذُكُورًا فَطَرِيقَانِ: المَذْهَبُ: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالجَمَاهِيرُ يُجْزِئُ الذَّكَرُ؛ لأَنَّ وَاجِبَهَا شَاةٌ وَالشَّاةُ تَقَعُ عَلى الأُنْثَى وَالذَّكَرِ بِخِلافِ الإِبِل وَالأَرْبَعِينَ مِنْ البَقَرِ، فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ فِيهِمَا عَلى أُنْثَى وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ الوَجْهَانِ: الأَوَّلانِ فِي الإِبِل حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وأما: قَوْل المُصَنِّفِ فِي الكِتَابِ: إنْ تَمَحَّضَتْ ذُكُورًا، وَكَانَتْ مِنْ الإِبِل أَوْ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ البَقَرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: قَال أَبُو إِسْحَاقَ: لا يَجُوزُ إلا الأُنْثَى: وَقَال أَبُو عَليِّ بْنُ خَيْرَانَ: يَجُوزُ فِيهِ الذَّكَرُ وَهُوَ المَنْصُوصُ فِي الأُمِّ. قَال أَبُو إِسْحَاقَ: إلا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ ابْنُ لبُونٍ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ ابْنِ لبُونٍ يُؤْخَذُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، فَهَذَا الذِي فَرَّعَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي ابْنِ لبُونٍ مُتَّفَقٌ عَليْهِ، وَليْسَ أَبُو إِسْحَاقَ مُنْفَرِدًا بِهِ بَل اتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَليْهِ تَفْرِيعًا عَلى المَنْصُوصِ وَقَدْ تُسْتَشْكَل حِكَايَةُ المُصَنِّفِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا التَّفْرِيعَ؛ لأَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُول: لا يُخْرَجُ الذَّكَرُ فَكَيْفَ يُفَرِّعُ عَليْهِ؟ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْل ابْنِ خَيْرَانَ.
وَجَوَابُ: هَذَا الإِشْكَال أَنَّ قَوْل ابْنِ خَيْرَانَ هُوَ المَنْصُوصُ كَمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ، فَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ تَفْرِيعًا عَليْهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَقْوِيمِ ابْنِ لبُونٍ، وَاخْتَارَ وَجْهًا آخَرَ مُخَالفًا للنَّصِّ خَرَّجَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الأُنْثَى، وَلا مُعَارَضَةَ بَيْنَ كَلامَيْهِ، وَمِثْل هَذَا مَوْجُودٌ لأَبِي إِسْحَاقَ فِي مَوَاضِعَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ مَا يُفْسِدُ المَاءَ مِنْ النَّجَاسَاتِ لهَذَا نَظِيرٌ، وَنَبَّهْتُ عَليْهِ فِي هَذَا الشَّرْحِ، هَذَا هُوَ الجَوَابُ المُعْتَمَدُ، وَذَكَرَ صَاحِبُ البَيَانِ فِي كِتَابِهِ مُشْكِلاتِ المُهَذَّبِ هَذَا السُّؤَال، ثُمَّ قَال: الجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ سَائِرَ أَصْحَابِنَا ذَكَرُوا هَذَا التَّفْرِيعَ لابْنِ خَيْرَانَ وَلعَل ذَلكَ وَقَعَ فِي المُهَذَّبِ مِنْ زَلل النَّاسِخِ، وَهَذَا جَوَابٌ فَاسِدٌ، وَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ وَلا مُنَافَاةَ بَيْنَ نَقْل المُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ فَقَدْ اتَّفَقَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ خَيْرَانَ عَلى التَّفْرِيعِ؛ وَإِنْ اخْتَلفَا فِي التَّخْرِيجِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
النَّقْصُ الرَّابِعُ: الصِّغَرُ، وَللمَاشِيَةِ فِيهِ ثَلاثَةُ أَحْوَالٍ: أحدها: أَنْ تَكُونَ كُلهَا أَوْ بَعْضُهَا أَوْ قَدْرُ الفَرْضِ مِنْهَا فِي سِنِّ الفَرْضِ فَيَجِبُ سِنُّ الفَرْضِ المَنْصُوصِ عَليْهِ، وَلا يُكَلفُ فَوْقَهُ، وَلا يُقْنَعُ بِدُونِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا كِبَارًا أَوْ صِغَارًا، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ.
والثاني: أَنْ تَكُونَ كُلهَا فَوْقَ سِنِّ الفَرْضِ، فَلا يُكَلفُ الإِخْرَاجَ مِنْهَا، بَل يُحَصِّل السِّنَّ الوَاجِبَةَ وَيُخْرِجُهَا وَلهُ الصُّعُودُ وَالنُّزُول مَعَ الجُبْرَانِ فِي الإِبِل كَمَا سَبَقَ الثالث: أَنْ يَكُونَ الجَمِيعُ دُونَ سِنِّ الفَرْضِ، وَقَدْ يُسْتَبْعَدُ تَصَوُّرُ هَذَا؛ لأَنَّ أَحَدَ شُرُوطِ الزَّكَاةِ الحَوْل، وَإِذَا حَال الحَوْل فَقَدْ بَلغَتْ المَاشِيَةُ حَدَّ الإِجْزَاءِ، وَذَكَرَ الأَصْحَابُ لهُ صُوَرًا مِنْهَا: أَنْ تَحْدُثَ [فِي] المَاشِيَةِ فِي أَثْنَاءِ الحَوْل فِصْلانٌ أَوْ عُجُولٌ أَوْ سِخَالٌ، ثُمَّ تَمُوتُ الأُمَّهَاتُ وَيَتِمُّ حَوْلهَا وَالنِّتَاجُ صِغَارٌ بَعْدُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلى المَذْهَبِ أَنَّ حَوْل النِّتَاجِ يَنْبَنِي عَلى حَوْل الأُمَّهَاتِ. وَأَمَّا عَلى قَوْل الأَنْمَاطِيِّ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ الحَوْل بِمَوْتِ الأُمَّهَاتِ، بَل بِنُقْصَانِهَا عَنْ النِّصَابِ، فَلا تَجِيءُ هَذِهِ الصُّورَةُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَمِنْهَا: أَنْ يَمْلكَ نِصَابًا مِنْ صِغَارِ المَعَزِ،

 

ج / 5 ص -281-       وَيَمْضِيَ عَليْهِ حَوْلٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ، وَلمْ تَبْلغْ سِنَّ الإِجْزَاءِ؛ لأَنَّ وَاجِبَهَا ثَنِيَّةٌ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الأَصَحَّ أَنَّهَا التِي اسْتَكْمَلتْ سَنَتَيْنِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا: فَإِنْ كَانَتْ المَاشِيَةُ غَنَمًا فَفِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ المُتَمَحِّضَةِ الصِّغَارُ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالعِرَاقِيُّونَ وَطَائِفَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ تُؤْخَذُ الصَّغِيرَةُ، لقَوْل أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه "وَاَللهِ لوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لقَاتَلتُهُمْ عَلى مَنْعِهَا "رَوَاهُ البُخَارِيُّ، فَقَال هَذَا للصَّحَابَةِ كُلهِمْ وَلمْ يُنْكِرْ عَليْهِ أَحَدٌ بَل وَافَقُوهُ، فَحَصَلتْ مِنْهُ دَلالتَانِ: إحداهما: رِوَايَتُهُ عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْذَ العَنَاقِ. وَالثَّانِيَةُ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ؛ وَلأَنَّا لوْ أَوْجَبْنَا كَبِيرَةً أَجْحَفْنَا بِهِ والطريق الثاني: حَكَاهُ الخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ وَجْهَانِ: وَحَكَاهُمَا الفُورَانِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ قَوْليْنِ: القَدِيمُ: لا يُؤْخَذُ إلا كَبِيرَةٌ، لكِنْ دُونَ الكَبِيرَةِ المَأْخُوذَةِ مِنْ الكِبَارِ فِي القِيمَةِ قَالوا: وَكَذَا إذَا انْقَسَمَ المَال إلى صِغَارٍ وَكِبَارٍ فَتُؤْخَذُ كَبِيرَةٌ بِالقِسْطِ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ. قَال المَسْعُودِيُّ فِي كِتَابِهِ الإِيضَاحِ وَالرَّافِعِيُّ: فَإِنْ تَعَذَّرَتْ كَبِيرَةٌ بِالقِسْطِ أُخِذَتْ القِيمَةُ للضَّرُورَةِ وَالقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الجَدِيدُ لا تَتَعَيَّنُ الكَبِيرَةُ، بَل تُجْزِئُهُ الصَّغِيرَةُ كَالمَرِيضَةِ مِنْ المِرَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ المَاشِيَةُ إبِلًا أَوْ بَقَرًا، فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ العِرَاقِيِّينَ وَالخُرَاسَانِيِّينَ ذَكَرَ المُصَنِّفُ مِنْهَا اثْنَيْنِ، وَحَذَفَ ثَالثَهَا وَهُوَ الأَصَحُّ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهَا مِنْ العِرَاقِيِّينَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالمَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ وَخَلائِقُ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا الخُرَاسَانِيُّونَ فَالأَوْجُهُ فِي كُتُبِهِمْ أَشْهَرُ مِنْهَا فِي كُتُبِ العِرَاقِيِّينَ أصحها: عِنْدَ الأَكْثَرِينَ: يَجُوزُ أَخْذُ الصِّغَارِ مُطْلقًا كَالغَنَمِ لئَلا يُجْحِفَ بِرَبِّ المَال، وَلكِنْ يَجْتَهِدُ السَّاعِي، وَيَحْتَرِزُ عَنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ القَليل وَالكَثِيرِ، فَيَأْخُذُ مِنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ فَصِيلًا فَوْقَ الفَصِيل المَأْخُوذِ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ فَصِيلًا فَوْقَ المَأْخُوذِ فِي سِتٍّ وَثَلاثِينَ، وَعَلى هَذَا القِيَاسِ. وَهَذَا الوَجْهُ هُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ البَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. وَالوَجْهُ الثَّانِي: لا تُجْزِئُ الصَّغِيرَةُ لئَلا يُؤَدِّيَ إلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ القَليل وَالكَثِيرِ لكِنْ تُؤْخَذُ كَبِيرَةٌ بِالقِسْطِ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ وَهَذَا هُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ المُصَنِّفِ وَشَيْخِهِ القَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَالشَّاشِيِّ وَهُوَ قَوْل ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ الثالث: لا يُؤْخَذُ فَصِيلٌ مِنْ إحْدَى وَسِتِّينَ فَمَا دُونَهَا، وَيُؤْخَذُ مِمَّا فَوْقَهَا وَكَذَا مِنْ البَقَرِ، قَال المَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا الوَجْهُ غَلطٌ لشَيْئَيْنِ:
أحدهما: أَنَّ التَّسْوِيَةَ التِي تَلزَمُ فِي إحْدَى وَسِتِّينَ فَمَا دُونَهَا تَلزَمُ فِي إحْدَى وَتِسْعِينَ، فَإِنَّ الوَاجِبَ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لبُونٍ، وَفِي إحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ فَإِذَا أَخَذْنَا فَصِيليْنِ فِي هَذَا وَفِي ذَلكَ سَوَّيْنَا، فَإِنْ أَوْجَبَ الاحْتِرَازَ عَنْ التَّسْوِيَةِ فَليَحْتَرِزْ عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ. والثاني: أَنَّ هَذِهِ التَّسْوِيَةَ تَلزَمُ فِي البَقَرِ فِي ثَلاثِينَ وَأَرْبَعِينَ، وَقَدْ عَبَّرَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ عَنْ هَذَا الوَجْهِ بِعِبَارَةٍ تَدْفَعُ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ فَقَالوا: تُؤْخَذُ الصَّغِيرَةُ حَيْثُ لا يُؤَدِّي إلى التَّسْوِيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ المَنْعَ عَلى هَذَا الوَجْهِ بِسِتٍّ وَثَلاثِينَ فَمَا فَوْقَهَا، وَجَوَّزَ فَصِيلًا عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إذْ لا تَسْوِيَةَ فِي تَجْوِيزِهِ وَحْدَهُ.
النَّقْصُ الخَامِسُ: رَدَاءَةُ النَّوْعِ. قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: إنْ اتَّحَدَتْ نَوْعُ المَاشِيَةِ وَصِفَتُهَا أَخَذَ

 

ج / 5 ص -282-       السَّاعِي مِنْ أَيُّهَا شَاءَ إذْ لا تَفَاوُتَ، وَإِنْ اخْتَلفَتْ صِفَتُهَا مَعَ أَنَّهَا نَوْعٌ وَاحِدٌ وَلا عَيْبَ فِيهَا وَلا صِغَرَ وَلا غَيْرَهُمَا مِنْ أَسْبَابِ النَّقْصِ السَّابِقَةِ، فَوَجْهَانِ: حَكَاهُمَا صَاحِبُ البَيَانِ أحدهما: قَال وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ أَصْحَابِنَا: يَخْتَارُ السَّاعِي خَيْرَهُمَا كَمَا سَبَقَ فِي الحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللبُونِ والثاني: وَهُوَ قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ يَأْخُذُ مِنْ وَسَطِ ذَلكَ لئَلا يُجْحِفَ بِرَبِّ المَال، وَإِنْ كَانَتْ الإِبِل كُلهَا أَرْحَبِيَّةٌ بِفَتْحِ الحَاءِ المُهْمَلةِ وَكَسْرِ البَاءِ المُوَحَّدَةِ أَوْ مَهْرِيَّةٌ أَوْ كَانَتْ كُلهَا ضَأْنًا أَوْ مَعَزًا أَخَذَ الفَرْضَ مِنْهَا، وَذَكَرَ البَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ ثَلاثَةَ أَوْجُهٍ فِي أَنَّهُ هَل يَجُوزُ أَخْذُ ثَنِيَّةٍ مِنْ المَعَزِ بِاعْتِبَارِ القِيمَةِ عَنْ أَرْبَعِينَ ضَأْنًا أَوْ جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ عَنْ أَرْبَعِينَ مَعَزًا أصحها: الجَوَازُ لاتِّفَاقِ الجِنْسِ كَالمَهْرِيَّةِ مَعَ الأَرْحَبِيَّةِ والثاني: المَنْعُ وَكَالبَقَرِ عَنْ الغَنَمِ.
الثالث: لا يَجُوزُ المَعْزُ عَنْ الضَّأْنِ وَيَجُوزُ العَكْسُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الإِبِل المَهْرِيَّةِ عَنْ المُجَيْدِيَّةِ وَلا عَكْس فَإِنَّ المَهْرِيَّةَ خَيْرٌ مِنْ المُجَيْدِيَّةِ. وَكَلامُ إمَامِ الحَرَمَيْنِ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا الثَّالثِ، فَإِنْ قَال: لوْ مَلكَ أَرْبَعِينَ مِنْ الضَّأْنِ الوَسَطِ فَأَخْرَجَ ثَنِيَّةً مِنْ المَعْزِ الشَّرِيفَةِ تُسَاوِي جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ التِي يَمْلكُهَا، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَالظَّاهِرُ إجْزَاؤُهَا، وَليْسَ كَمَا لوْ أَخْرَجَ مَعِيبَةً قِيمَتُهَا قِيمَةُ سَليمَةٍ فَإِنَّهَا لا تُقْبَل، وَالفَرْقُ أَنَّهُ لوْ كَانَ فِي مَالهِ سَليمَةً وَغَالبُهُ مَعِيبٌ، لمْ يُجْزِئْهُ مَعِيبَةٌ وَلوْ كَانَ ضَأْنًا وَمَعْزًا أَخَذْنَا مَاعِزَةً كَمَا تَقَرَّرَ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ المَاشِيَةُ نَوْعَيْنِ أَوْ أَنْوَاعًا بِأَنْ انْقَسَمَتْ الإِبِل إلى بَخَاتِيٍّ وَعِرَابٍ وَإِلى أَرْحَبِيَّةٍ وَمَهْرِيَّةٍ وَمُجَيْدِيَّةٍ أَوْ انْقَسَمَتْ البَقَرُ إلى جَوَامِيسَ وَعِرَابٍ أَوْ جَوَامِيسَ وَعِرَابٍ وَدِرْبَانِيَةٍ، أَوْ انْقَسَمَتْ الغَنَمُ إلى ضَأْنٍ وَمَعْزٍ، فَيَضُمُّ بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ فِي إكْمَال النِّصَابِ بِلا خِلافٍ لاتِّحَادِ الجِنْسِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهَا قَوْلانِ مَشْهُورَانِ: أحدهما: يُؤْخَذُ مِنْ الأَغْلبِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا كَاجْتِمَاعِ الحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللبُونِ فِي مِائَتَيْنِ فَيُؤْخَذُ الأَغْبَطُ للمَسَاكِينِ عَلى المَذْهَبِ. صَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ. وَنَقَل إمَامُ الحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الأَصْحَابِ عَليْهِ، وَلكِنَّ المُرَادَ النَّظَرُ إلى الأَنْوَاعِ بِاعْتِبَارِ القِيمَةِ، فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ القِيمَةُ وَالتَّقْسِيطُ فَمِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ المَأْخُوذُ جَازَ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ المُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الأَصْحَابِ، وَنَقَلهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الجُمْهُورِ، قَال وَقَال صَاحِبُ الشَّامِل: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ المَأْخُوذُ مِنْ أَعْلى الأَنْوَاعِ، كَمَا لوْ انْقَسَمَتْ إلى صِحَاحٍ وَمِرَاضٍ. قَال الرَّافِعِيُّ: يُجَابُ عَمَّا قَال بِأَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ المَرِيضَةِ وَالمَعِيبَةِ فَلمْ نَأْخُذْهَا مَتَى وَجَدْنَا صَحِيحَةً بِخِلافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَحَكَى صَاحِبُ الشَّامِل وَآخَرُونَ فِي المَسْأَلةِ قَوْلًا ثَالثًا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الأُمِّ أَنَّهُ إذَا اخْتَلفَ الأَنْوَاعُ أَخَذَ مِنْ الوَسَطِ كَمَا فِي الثِّمَارِ. قَالوا: وَهَذَا القَوْل لا يَجِيءُ فِيمَا إذَا كَانَا نَوْعَيْنِ فَقَطْ. وَلا فِي ثَلاثَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ.
وَحَكَى القَاضِي أَبُو القَاسِمِ بْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الأَجْوَدِ مُطْلقًا تَخْرِيجًا مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي اجْتِمَاعِ الحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللبُونِ فِي مِائَتَيْنِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ أَنَّ مَوْضِعَ القَوْليْنِ إذَا لمْ يُحْتَمَل أَخْذُ وَاجِبِ كُل نَوْعٍ لوْ كَانَ وَحْدَهُ مِنْهُ، فَإِنْ اُحْتُمِل أُخِذَ كَذَلكَ قَوْلًا وَاحِدًا بِأَنْ مَلكَ مِائَةَ أَرْحَبِيَّةٍ وَمِائَةَ مَهْرِيَّةٍ فَيُؤْخَذُ حِقَّتَانِ مِنْ هَذِهِ، وَحِقَّتَانِ مِنْ هَذِهِ. وَهَذَا الذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ شَاذٌّ، وَالمَشْهُورُ فِي المَذْهَبِ طَرْدُ القَوْليْنِ مُطْلقًا.
وَنُوَضِّحُ القَوْليْنِ الأَوَّليْنِ بِمِثْليْنِ أحدهما: لهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الإِبِل عَشْرٌ مَهْرِيَّةٌ وَعَشْرٌ أَرْحَبِيَّةٌ

 

ج / 5 ص -283-       وَخَمْسٌ مُجَيْدِيَّةٌ، فَعَلى القَوْل الأَوَّل تُؤْخَذُ بِنْتُ مَخَاضٍ مَهْرِيَّةٌ أَوْ أَرْحَبِيَّةٌ بِقِيمَةِ نِصْفِ أَرْحَبِيَّةٍ وَنِصْفِ مُهْرِيَّةٍ؛ لأَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَغْلبُ. وَعَلى الثَّانِي يُؤْخَذُ بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ أَيِّ الأَنْوَاعِ أَعْطَى بِقِيمَةِ خُمُسَيْ مَهْرِيَّةٍ وَخُمُسَيْ أَرْحَبِيَّةٍ وَخُمُسِ مُجَيْدِيَّةٍ. وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ مَهْرِيَّةٍ عَشَرَةً وَأَرْحَبِيَّةٍ خَمْسَةً وَمُجَيْدِيَّةٍ دِينَارَيْنِ وَنِصْفًا، أُخِذَ بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ أَيِّ الأَنْوَاعِ كَانَ قِيمَتُهَا سِتَّةً وَنِصْفًا وَلا يَجِيءُ هُنَا قَوْل الوَسَطِ وَيَجِيءُ وَجْهُ ابْنِ كَجٍّ.
المِثَال الثَّانِي: لهُ ثَلاثُونَ مِنْ المَعْزِ وَعَشْرٌ مِنْ الضَّأْنِ، فَعَلى القَوْل الأَوَّل يَأْخُذُ ثَنِيَّةً مِنْ المَعْزِ، كَمَا لوْ كَانَتْ كُلهَا مَعْزًا، وَلوْ كَانَتْ الثَّلاثُونَ ضَأْنًا أَخَذْنَا جَذَعَةَ ضَأْنٍ وَعَلى الثَّانِي يُؤْخَذُ ضَائِنَةٌ أَوْ عَنْزٌ بِقِيمَةِ ثَلاثَةِ أَرْبَاعِ عَنْزٍ وَرُبُعِ ضَائِنَةٍ فِي الصُّورَةِ الأُولى. وَبِقِيمَةِ ثَلاثَةِ أَرْبَاعِ ضَائِنَةٍ وَرُبُعِ عَنْزٍ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، لا يَجِيءُ قَوْل اعْتِبَارِ الوَسَطِ. وَعَلى وَجْهِ اعْتِبَارِ الأَشْرَفِ يَجِبُ أَشْرَفُهَا. وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.

فرع: فِي أَلفَاظِ الكِتَابِ
أَمَّا حَدِيثُ "لا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ"فَصَحِيحٌ رَوَاهُ البُخَارِيُّ سَبَقَ بَيَانُهُ. قَوْلهُ: بِبَعْضِ قِيمَةِ فَرْضٍ فَرْضٌ صَحِيحٌ وَبَعْضُ قِيمَةِ فَرْضٍ مَرِيضٌ، هُوَ بِتَنْوِينِ فَرْضٍ قَوْلهُ: كَالثَّنَايَا وَالبُزْل، هُوَ بِضَمِّ البَاءِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ، جَمْعُ بَازِلٍ، سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّل بَابِ زَكَاةِ الإِبِل قَوْلهُ: لقَوْل أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه
"لوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لقَاتَلتُهُمْ عَلى مَنْعِهَا "رَوَاهُ البُخَارِيُّ هَكَذَا؛ وَأَصْل الحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، لكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلمٍ عِقَالًا، وَالعَنَاقُ بِفَتْحِ العَيْنِ الأُنْثَى مِنْ أَوْلادِ المَعْزِ إذَا قَوِيَتْ مَا لمْ تَسْتَكْمِل سَنَةً، وَجَمْعُهَا أَعْنُقٍ وَعُنُوقٍ. قَوْلهُ: كَالضَّأْنِ وَالمَعْزِ، أَمَّا الضَّأْنُ فَمَهْمُوزٌ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ بِالإِسْكَانِ كَنَظَائِرِهِ، وَهُوَ جَمْعٌ، وَاحِدَةُ ضَائِنٍ بِهَمْزَةٍ قَبْل النُّونِ، كَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَيُقَال فِي الجَمْعِ أَيْضًا: ضَأَنٌ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ كَحَارِسٍ وَحَرَسٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلى ضَئِينٍ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِفَتْحِ أَوَّلهِ كَغَازِي وَغَزِيِّ، وَالأُنْثَى ضَائِنَةٌ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الأَلفِ، ثُمَّ نُونٍ وَجَمْعُهَا ضَوَائِنُ وَالمَعْزُ بِفَتْحِ العَيْنِ وَإِسْكَانِهَا، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، الوَاحِدُ مِنْهُ مَاعِزٌ، وَالأُنْثَى مَاعِزَةٌ وَالمَعْزَى وَالمَعِيزُ بِفَتْحِ المِيمِ وَالأُمْعُوزُ بِضَمِّ الهَمْزَةِ بِمَعْنَى المَعْزِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الإِبِل وَالبَقَرِ فِي أَوَّل بَابَيْهِمَا.
وَالجَامُوسُ مَعْرُوفٌ، قَال الجَوَاليقِيُّ: هُوَ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ. وَالبَخَاتِيُّ بِتَشْدِيدِ اليَاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الجُمُوعِ التِي وَاحِدُهَا مُشَدَّدٌ يَجُوزُ فِي الجَمْعِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ. كَالذَّرَارِيِّ وَالسَّرَارِي وَالعَوَارِيّ وَالأَثَافِي وَأَشْبَاهِهَا وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ "وَالجَوَامِيسُ وَالبَقَرُ "فَكَذَا قَالهُ فِي المُهَذَّبِ فِي بَابِ الرِّبَا وَكَذَا فِي التَّنْبِيهِ، وَهُوَ مِمَّا يُنْكَرُ عَليْهِ؛ لأَنَّ حَاصِلهُ أَنَّهُ جَعَل البَقَرَ نَوْعًا للبَقَرِ وَالجَوَامِيسِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَلا مُنْتَظِمٍ. وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ البَقَرَ جِنْسٌ وَنَوْعَاهُ الجَوَامِيسُ وَالعِرَابُ وَهِيَ المُلسُ المَعْرُوفَةُ، الجَرْدُ الحِسَانُ الأَلوَانِ كَذَا قَالهُ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا المَوْضِعِ. وَكَذَا قَالهُ الأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْل اللغَةِ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا يُؤْخَذُ فِي الفَرْضِ الرُّبَّى، وَهُوَ التِي وَلدَتْ وَمَعَهَا وَلدُهَا، وَلا المَاخِضَ وَهِيَ الحَامِل، وَلا مَا طَرَقَهَا الفَحْل؛ ؛ لأَنَّ البَهِيمَةَ لا يَكَادُ يَطْرُقُهَا الفَحْل إلا وَهِيَ

 

ج / 5 ص -284-       تَحْبَل، وَلا الأَكُولةُ، وَهِيَ السَّمِينَةُ التِي أُعِدَّتْ للأَكْل، وَلا فَحْل الغَنَمِ الذِي أُعِدَّ للضِّرَابِ وَلا حَزَرَاتِ المَال وَهِيَ خِيَارُهَا التِي تُحْرِزُهَا العَيْنُ لحُسْنِهَا، لمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلى اليَمَنِ فَقَال لهُ: إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلومِ}. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَال لعَامِلهِ1 سُفْيَانَ "قُل لقَوْمِك: إنَّا نَدَعُ لكُمْ الرُّبَّى وَالمَاخِضَ وَذَاتَ اللحْمِ وَفَحْل الغَنَمِ وَنَأْخُذُ الجَذَعَ وَالثَّنِيَّ، وَذَلكَ وَسَطٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي المَال "وَلأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلى وَجْهِ الرِّفْقِ، فَلوْ أَخَذْنَا خِيَارَ المَال خَرَجْنَا عَنْ حَدِّ الرِّفْقِ، فَإِنْ رَضِيَ رَبُّ المَال بِإِخْرَاجِ ذَلكَ قُبِل مِنْهُ، لمَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ رضي الله عنه قَال "بَعَثَنِي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا، فَمَرَرْت بِرَجُلٍ فَلمَّا جَمَعَ لي مَالهُ فَلمْ أَجِدْ فِيهِ إلا بِنْتَ مَخَاضٍ فَقُلتُ لهُ: أَدِّ بِنْتَ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا صَدَقَتُكَ فَقَال: ذَلكَ مَا لا لبَنَ فِيهِ وَلا ظَهْرَ، وَمَا كُنْتُ لأُقْرِضَ اللهَ تَعَالى مِنْ مَالي مَا لا لبَنَ فِيهِ وَلا ظَهْرَ، وَلكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ سَمِينَةٌ فَخُذْهَا. قُلتُ لهُ: مَا أَنَا بِآخِذٍ مَا لمْ أُومَرْ بِهِ. وَهَذَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْك قَرِيبٌ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَعْرِضَ عَليْهِ مَا عَرَضْتَ عَليَّ فَافْعَل، فَإِنْ قَبِلهُ مِنْكَ قَبِلتُهُ، فَخَرَجَ مَعِي وَخَرَجَ بِالنَّاقَةِ حَتَّى قَدِمْنَا عَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال لهُ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم ذَاكَ الذِي عَليْكَ فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ آجَرَك اللهُ فِيهِ وَقَبِلنَاهُ مِنْكَ، فَقَال: فَهَاهِيَ ذِي فَخُذْهَا، فَأَمَرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَبْضِهَا وَدَعَا لهُ بِالبَرَكَةِ}؛ وَلأَنَّ المَنْعَ مِنْ أَخْذِ الخِيَارِ لحَقِّ رَبِّ المَال فَإِذَا رَضِيَ قُبِل مِنْهُ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَالأَثَرُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه صَحِيحٌ، رَوَاهُ مَالكٌ فِي المُوَطَّأِ بِمَعْنَاهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ الصَّحَابِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، وَكَانَ يَعُدُّ عَليْهِمْ السَّخْل فَقَالوا: تَعُدُّ عَليْنَا السَّخْل وَلا تَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا، فَلمَّا قَدِمَ عَلى عُمَرَ رضي الله عنه ذَكَر ذَلكَ لهُ فَقَال عُمَرُ رضي الله عنه "نَعَمْ نَعُدُّ عَليْهِمْ السَّخْلةَ يَحْمِلهَا الرَّاعِي، وَلا نَأْخُذُهَا وَلا نَأْخُذُ الأَكُولةَ وَلا الرُّبَّى وَلا المَاخِضَ وَلا فَحْل الغَنَمِ، وَنَأْخُذُ الجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ، وَذَلكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ المَال وَخِيَارِهِ "وَهَذَا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه صَحِيحٌ، وَقَوْلهُ: غِذَاءُ المَال بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَبِالمَدِّ وَهِيَ جَمْعُ غَذِيٍّ بِتَشْدِيدِ اليَاءِ وَهُوَ الرَّدِيءُ. وَأَمَّا الرُّبَّى فَبِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ البَاءِ مَقْصُورَةً، وَجَمْعُهَا رُبَابٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالمَصْدَرُ رِبَابٌ بِكَسْرِهَا، قَال الجَوْهَرِيُّ: قَال الأُمَوِيُّ: الرُّبَّى مِنْ وِلادَتِهَا إلى شَهْرَيْنِ، قَال أَبُو زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ: الرُّبَّى مِنْ المَعْزِ وَقَال غَيْرُهُ: مِنْ المَعْزِ وَالضَّأْنِ وَرُبَّمَا جَاءَتْ فِي الإِبِل، وَالأَكُولةُ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وَحَزَرَاتٌ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلى الرَّاءِ وَحُكِيَ عَكْسُهُ، وَالأَوَّل أَصَحُّ وَأَشْهَرُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال النووي في "التهذيب" سفيان بن عبد الله الصحابي رضي الله عنه عامل عمر بن الخطاب هو أبو عمرو وقيل: أبو عمرة سفيان بن عبد الله بن أبي ربيعة بن الحارث بن مالك ابن حطيط بضم الحاء المهملة بن حشيم بن ثقيف الثقفي الصحابي كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على الطائف استعمله إذ عزل عثمان بن أبي العاص عنها ونقل إلى البحرين. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة, روى مسلم حديثا وهو أنه قال:
قلت: يارسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك, قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام روى عنه ابنه عبد الله, وعروة وجبير بن نفير ونافع بن جبير وغيرهم رضي الله عنهم ا هـ

 

ج / 5 ص -285-       أَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه فَرَوَاهُ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ، وَزَادَ ابْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: قَال الرَّاوِي عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ عُمَارَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَقَدْ وُليتُ الصَّدَقَاتِ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَخَذْتُ مِنْ ذَلكَ الرَّجُل ثَلاثِينَ حِقَّةً لأَلفٍ وَخَمْسمِائَةِ بَعِيرٍ، وَقَوْلهُ: نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ هِيَ بِالفَاءِ المَفْتُوحَةِ، ثُمَّ مُثَنَّاهُ مِنْ فَوْقٍ، ثُمَّ مِنْ تَحْتٍ وَهِيَ النَّاقَةُ الشَّابَّةُ القَوِيَّةُ وقوله: تَعْرِضُ عَليْهِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ.
أما حكم الفصل: فَهُوَ كَمَا قَالهُ المُصَنِّفُ فَلا يَجُوزُ أَخْذُ الرُّبَّى وَلا الأَكُولةِ، وَلا الحَامِل، وَلا التِي طَرَقَهَا الفَحْل، وَلا حَزَرَاتِ المَال، وَلا فَحْل المَاشِيَةِ حَيْثُ يَجُوزُ أَخْذُ الذَّكَرِ، وَلا غَيْرِ ذَلكَ مِنْ النَّفَائِسِ إلا أَنْ يَرْضَى المَالكُ بِذَلكَ فَيَجُوزُ وَيَكُونُ أَفْضَل لهُ وَلا فَرْقَ بَيْنَ الرُّبَّى وَغَيْرِهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ، وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَذَكَرَ العِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ لوْ تَبَرَّعَ بِالرُّبَى قُبِلتْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةَ عَهْدٍ بِالوِلادَةِ جَرْيًا عَلى القِيَاسِ، قَال: وَحَكَوْا وَجْهًا بَعِيدًا لبَعْضِ الأَصْحَابِ أَنَّهَا لا تُقْبَل مِنْهُ؛ لأَنَّهَا تَكُونُ مَهْزُولةً لقُرْبِ وِلادَتِهَا وَالهُزَال عَيْبٌ قَال الإِمَامُ: وَهَذَا سَاقِطٌ، فَقَدْ لا تَكُونُ كَذَلكَ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرُ الرُّبَّى مَهْزُولةً وَالهُزَال الذِي هُوَ عَيْبٌ هُوَ الهُزَال الظَّاهِرُ البَيِّنُ، وَهَذَا الوَجْهُ الذِي حَكَاهُ قَدْ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ العِرَاقِيِّينَ، وَاتَّفَقُوا عَلى تَغْليطِ قَائِلهِ.
قَال الإِمَامُ: وَلوْ بَذَل الحَامِل قُبِلتْ مِنْهُ عِنْدَ الأَئِمَّةِ كَالكَرِيمَةِ فِي نَوْعِهَا أَوْ صِفَتِهَا قَال: وَنَقَل الأَئِمَّةُ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ مَنَعَ قَبُولهَا. قَال:؛ لأَنَّ الحَمْل عَيْبٌ، قَال الإِمَامُ: وَهَذَا سَاقِطٌ؛ لأَنَّهُ ليْسَ عَيْبًا فِي البَهَائِمِ وَإِنَّمَا هُوَ عَيْبٌ فِي الآدَمِيَّاتِ، قَال الإِمَامُ: قَال صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: لا يَتَعَمَّدُ السَّاعِي أَخْذَ كَرِيمَةِ مَالهِ، فَلوْ تَبَرَّعَ المَالكُ بِإِخْرَاجِهَا قُبِلتْ وَأَجْزَأَتْ عَلى المَذْهَبِ قَال: وَمِنْ أَئِمَّتِنَا مَنْ قَال: لا تُقْبَل، للنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ الكَرَائِمِ. قَال الإِمَامُ: وَهَذَا مُزَيَّفٌ لا أَصْل لهُ؛ لأَنَّ المُرَادَ بِالنَّهْيِ نَهْيُ السُّعَاةِ عَنْ الإِجْحَافِ بِأَصْحَابِ الأَمْوَال وَحَثِّهِمْ عَلى الإِنْصَافِ، وَلا يَفْهَمُ مِنْهُ الفَقِيهِ غَيْرَ هَذَا قَال الإِمَامُ: وَلوْ كَانَتْ المَاشِيَةُ كُلهَا حَوَامِل قَال صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: لا يَطْلبُ مِنْهُ حَامِلًا، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَعْفُوٌّ عَنْهَا، كَمَا يُعْفَى عَنْ الوَقْصِ، قَال الإِمَامُ وَهَذَا الذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ حَسَنٌ لطِيفٌ وَفِيهِ نَظَرٌ دَقِيقٌ، وَهُوَ أَنَّ الحَامِل قَدْ تَحْمِل حَيَوَانَيْنِ الأُمُّ وَالجَنِينُ، وَإِنَّمَا فِي الأَرْبَعِينَ شَاةً فَلا وَجْهَ لتَكْليفِهِ حَامِلًا، وَقَدْ يَرُدُّ عَلى هَذَا إيجَابُ الخِلفَاتِ فِي الدِّيَةِ، وَلكِنَّ الدِّيَةَ اتِّبَاعِيَّةٌ لا مَجَال للنَّظَرِ فِي مِقْدَارِهَا وَصِفَتِهَا وَمَنْ يَتَحَمَّلهَا، فَلا وَجْهَ لمُخَالفَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ قَال: أَمَّا لوْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ سَمِينَةً للمَرْعَى فَيُطَالبُهُ بِسَمِينَةٍ، وَيَجْعَل ذَلكَ كَشَرَفِ النَّوْعِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لوْ تَبَرَّعَ المَالكُ بِالحَامِل قُبِلتْ مِنْهُ، وَنَقَلهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ العُلمَاءِ كَافَّةً غَيْرَ دَاوُد، وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ قَال: لا تُجْزِئُ الحَامِل؛ لأَنَّ الحَمْل عَيْبٌ فِي الحَيَوَانِ، بِدَليل أَنَّهُ لوْ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَوَجَدَهَا حَامِلًا فَلهُ رَدُّهَا بِسَبَبِ الحَمْل، وَقَال: الحَامِل لا تُجْزِئُ فِي الأُضْحِيَّةِ، وَأَجَابَ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ، وَسَائِرُ الأَصْحَابِ: بِأَنَّ الحَمْل نَقْصٌ فِي الآدَمِيَّاتِ لمَا يُخَافُ عَليْهِنَّ مِنْ الوِلادَةِ بِخِلافِ البَهَائِمِ، ثُمَّ قَال: الحَمْل فَضِيلةٌ فِيهَا، قَالوا: وَلهَذَا قُلنَا: لوْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا حَامِلًا، فَلهُ رَدُّهَا بِذَلكَ، وَلوْ اشْتَرَى بَهِيمَةً فَوَجَدَهَا حَامِلًا لمْ يَكُنْ لهُ رَدُّهَا بِهِ،

 

ج / 5 ص -286-       وَلمْ يَكُنْ الحَمْل عَيْبًا فِيهَا، بَل هُوَ فَضِيلةٌ، وَلهَذَا أَوْجَبَ صَاحِبُ الشَّرْعِ فِي الدِّيَةِ المُغَلظَةِ أَرْبَعِينَ خِلفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا، وَأَجَابَ الأَصْحَابُ عَنْ الأُضْحِيَّةِ فَقَالوا: إنَّمَا لا تُجْزِئُ الحَامِل فِي الأُضْحِيَّةِ؛ لأَنَّ المَقْصُودَ مِنْ الأُضْحِيَّةِ اللحْمُ وَالحَمْل يُهْزِلهَا وَيَقِل بِسَبَبِهِ لحْمُهَا فَلا تُجْزِئُ، وَالمَقْصُودُ فِي الزَّكَاةِ كَثْرَةُ القِيمَةِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْل، وَذَلكَ فِي الحَامِل، فَكَانَتْ أَوْلى بِالجَوَازِ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا يَجُوزُ أَخْذُ القِيمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لأَنَّ الحَقَّ للهِ تَعَالى، وَقَدْ عَلقَهُ عَلى مَا نَصَّ عَليْهِ، فَلا يَجُوزُ نَقْل ذَلكَ إلى غَيْرِهِ، كَالأُضْحِيَّةِ لمَّا عَلقَهَا عَلى الأَنْعَامِ لمْ يَجُزْ نَقْلهَا إلى غَيْرِهَا، فَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ المَنْصُوصِ عَليْهِ سِنًّا أَعْلى مِنْهُ مِثْل أَنْ يُخْرِجَ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ بِنْتَ لبُونٍ أَجْزَأَهُ؛ لأَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ، فَلأَنْ تُجْزِئَ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْلى، كَالبَدَنَةِ لمَّا أَجْزَأَتْ عَنْ سَبْعَةٍ فِي الأُضْحِيَّةِ، فَلأَنْ تُجْزِئَ عَنْ وَاحِدٍ أَوْلى، وَكَذَلكَ لوْ وَجَبَتْ عَليْهِ مُسِنَّةٌ فَأَخْرَجَ تَبِيعَيْنِ أَجْزَأَهُ؛ لأَنَّهُ إذَا أَجْزَأَهُ ذَلكَ عَنْ سِتِّينَ فَلأَنْ يُجْزِئَ عَنْ أَرْبَعِينَ أَوْلى".
الشرح:
اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ لا يَجُوزُ إخْرَاجُ القِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الأَصْحَابِ، فِيهِ وَجْهٌ أَنَّ القِيمَةَ تُجْزِئُ حَكَاهُ1 وَهُوَ شَاذٌّ بَاطِلٌ، وَدَليل المَذْهَبِ مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وأما: إذَا أَخْرَجَ سِنًّا أَعْلى مِنْ الوَاجِبِ كَبِنْتِ لبُونٍ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ وَنَظَائِرُهُ فَتُجْزِئُهُ بِلا خِلافٍ، لحَدِيثِ أُبَيِّ السَّابِقِ وَلمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وأما: إذَا أَخْرَجَ تَبِيعَيْنِ عَنْ المُسِنَّةِ فَقَدْ قَطَعَ المُصَنِّفُ بِجَوَازِهِ، وَهُوَ المَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الجَمَاهِيرُ وَفِيهِ وَجْهٌ سَبَقَ فِي بَابِ زَكَاةِ البَقَرِ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لا يَجُوزُ إخْرَاجُ القِيمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَوَاتِ وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد إلا أَنَّ مَالكًا جَوَّزَ الدَّرَاهِمَ عَنْ الدَّنَانِيرِ وَعَكْسُهُ وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، فَإِنْ لزِمَهُ شَاةٌ فَأَخْرَجَ عَنْهَا دَرَاهِمَ بِقِيمَتِهَا أَوْ أَخْرَجَ عَنْهَا مَا لهُ قِيمَةٌ عِنْدَهُ كَالكَلبِ وَالثِّيَابِ جَازَ. وَحَاصِل مَذْهَبِهِ أَنَّ كُل مَا جَازَتْ الصَّدَقَةُ بِهِ جَازَ إخْرَاجُهُ فِي الزَّكَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الجِنْسِ الذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ إلا فِي مَسْأَلتَيْنِ إحداهما: تَجِبُ عَليْهِ الزَّكَاةُ فَيُخْرِجُ بِقِيمَتِهَا مَنْفَعَةَ عَيْنٍ بِأَنْ يُسَلمَ إلى الفُقَرَاءِ دَارًا يَسْكُنُونَهَا بِقِيمَةِ الزَّكَاةِ. والثانية: أَنْ يُخْرِجَ نِصْفَ صَاعٍ جَيِّدٍ عَنْ نِصْفِ صَاعٍ وَسَطٍ لزِمَهُ فَإِنَّهُ لا يُجْزِئُهُ وَوَافَقَ عَلى أَنَّهُ لا تُجْزِئُ القِيمَةُ فِي الأُضْحِيَّةِ، وَكَذَا لوْ لزِمَهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ فِي كَفَّارَةٍ لا تُجْزِئُ قِيمَتُهَا وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أَدَّى عَنْ خَمْسَةٍ جِيَادٍ خَمْسَةً دُونَهَا فِي الجَوْدَةِ أَجْزَأَهُ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يُؤَدِّي فَضْل مَا بَيْنَهُمَا، وَقَال زُفَرُ: عَليْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهَا وَلا يُجْزِئُهُ الأَوَّل، كَذَا حَكَاهُ أَبُو بَكْرِ الرَّازِيّ وَقَال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُجْزِئُ إخْرَاجُ العُرُوضِ عَنْ الزَّكَاةِ إذَا كَانَتْ بِقِيمَتِهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ البُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ وَجْهٌ لنَا كَمَا سَبَقَ.
وَاحْتَجَّ المُجَوِّزُونَ للقِيمَةِ بِأَنَّ مُعَاذًا رضي الله عنه قَال لأَهْل اليَمَنِ حَيْثُ بَعَثَهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَخْذِ زَكَاتِهِمْ وَغَيْرِهَا: "ائْتُونِي بِعَرَضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأكمل ولعله: حكاه أبوبكر الرازي كما سيأتي.

 

ج / 5 ص -287-       عَليْكُمْ وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالمَدِينَةِ "ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْليقًا بِصِيغَةِ جَزْمٍ، وَبِالحَدِيثِ الصَّحِيحِ "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنْ لمْ تَكُنْ فَابْنُ لبُونٍ"قَالوا: وَهَذَا نَصٌّ عَلى دَفْعِ القِيمَةِ قَالوا: وَلأَنَّهُ مَالٌ زَكَوِيٌّ، فَجَازَتْ قِيمَتُهُ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ؛ وَلأَنَّ القِيمَةَ مَالٌ، فَأَشْبَهَتْ المَنْصُوصَ عَليْهِ ؛ وَلأَنَّهُ لمَّا جَازَ العُدُول عَنْ العَيْنِ إلى الجِنْسِ بِالإِجْمَاعِ بِأَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ غَنَمِهِ عَنْ غَنَمٍ غَيْرَهَا جَازَ العُدُول مِنْ جِنْسٍ إلى جِنْسٍ.
وَاسْتَدَل أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الشَّرْعَ نَصَّ عَلى بِنْتِ مَخَاضٍ وَبِنْتِ لبُونٍ وَحِقَّةٍ وَجَذَعَةٍ وَتَبِيعٍ وَمُسِنَّةٍ وَشَاةٍ وَشِيَاهٍ وَغَيْرِ ذَلكَ مِنْ الوَاجِبَاتِ فَلا يَجُوزُ العُدُول، كَمَا لا يَجُوزُ فِي الأُضْحِيَّةِ وَلا فِي المَنْفَعَةِ وَلا فِي الكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الأُصُول التِي وَافَقُوا عَليْهَا وَلا فِي حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ. وَاسْتَدَل صَاحِبُ الحَاوِي
بِقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ"إلى آخِرِهِ، وَلمْ يَذْكُرْ القِيمَةَ وَلوْ جَازَتْ لبَيَّنَهَا فَقَدْ تَدْعُو الحَاجَةُ إليْهَا؛ وَلأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَال: "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِل بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنْ لمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لبُونٍ"وَلوْ جَازَتْ القِيمَةُ لبَيَّنَهَا؛ وَلأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَال: "فِيمَنْ وَجَبَ عَليْهِ جَذَعَةٌ فَإِنْ لمْ تَكُنْ عِنْدَهُ دَفَعَ حِقَّةً وَشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا"وَكَذَا غَيْرُهَا مِنْ الجُبْرَانِ عَلى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَوَّل بَابِ زَكَاةِ الإِبِل فَقَدَّرَ البَدَل بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَلوْ كَانَتْ القِيمَةُ مُجْزِئَةً لمْ يُقَدِّرْهُ بَل أَوْجَبَ التَّفَاوُتَ بِحَسْبِ القِيمَةِ.
 وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي الأَسَاليبِ: المُعْتَمَدُ فِي الدَّليل لأَصْحَابِنَا أَنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ للهِ تَعَالى وَكُل مَا كَانَ كَذَلكَ فَسَبِيلهُ أَنْ يُتَّبَعَ فِيهِ أَمْرُ اللهِ تَعَالى وَلوْ قَال إنْسَانٌ لوَكِيلهِ: اشْتَرِ ثَوْبًا وَعَلمَ الوَكِيل أَنَّ غَرَضَهُ التِّجَارَةُ وَلوْ وَجَدَ سِلعَةً هِيَ أَنْفَعُ لمُوَكَّلهِ لمْ يَكُنْ لهُ مُخَالفَتُهُ وَإِنْ رَآهُ أَنْفَعَ، فَمَا يَجِبُ للهِ تَعَالى بِأَمْرِهِ أَوْلى بِالاتِّبَاعِ (فَإِنْ قَالوا): هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلكُمْ فِي زَكَاةِ الصَّبِيِّ إنَّ مَقْصُودَهَا سَدُّ الخَلةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ المَقْصُودَ سَدُّ الحَاجَةِ فَلا تُتَّبَعُ الأَعْيَانُ المَنْصُوصُ عَليْهَا قُلنَا: لا نُنْكِرُ أَنَّ المَقْصُودَ الظَّاهِرَ سَدُّ الحَاجَةِ وَلكِنَّ الزَّكَاةَ مَعَ ذَلكَ قُرْبَةٌ فَإِذَا كَانَ المَرْءُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ تَعَيَّنَتْ عَليْهِ النِّيَّةُ، فَلا يُعْتَدُّ بِمَا أَخْرَجَهُ لتَمَكُّنِهِ مِنْ الجَمْعِ بَيْنَ الفَرْضَيْنِ، وَلوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالنِّيَّةِ وَالاسْتِنَابَةِ أَخَذَهَا السُّلطَانُ عَمَلًا بِالفَرْضِ الأَكْبَرِ، وَلهَذَا إذَا أَخْرَجَ بِاخْتِيَارِهِ لمْ يُعْتَدَّ بِهِ كَمَا لوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ بِلا نِيَّةٍ.
وَلوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا وَلمْ يَجِدْ الإِمَامُ لهُ شَيْئًا مِنْ جِنْسِهَا أَخَذَ مَا يَجِدُ، ثُمَّ إذَا اُضْطُرَّ إلى صَرْفِ مَا أَخَذَهُ إلى المَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ ذَلكَ وَإِنْ لمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الزَّكَاةِ فَقَدْ خُرِّجَتْ المَسْأَلتَانِ عَلى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالعِبَادَةُ تَقْتَضِي النِّيَّةَ وَالاتِّبَاعَ وَمَبْنَى الزَّكَاةِ عَلى سَدِّ الخَلةِ، فَالاخْتِيَارُ يُوجِبُ النِّيَّةَ وَالاتِّبَاعَ لمَا نَصَّ عَليْهِ جِنْسًا وَقَدْرًا، فَإِنْ عَسُرَتْ النِّيَّةُ أَوْ تَعَذَّرَ إخْرَاجُ المَنْصُوصِ عَليْهِ غَلبَ مَقْصُودُ الزَّكَاةِ، وَهُوَ سَدُّ الخَلةِ، فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ أَطْرَافِ أَدِلةِ المَسْأَلةِ وَالجَوَابُ: عَنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ المُرَادَ بِهِ أَخْذُ البَدَل عَنْ الجِزْيَةِ لا عَنْ الزَّكَاةِ،
فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الزَّكَاةِ عَنْ الحَبِّ حَبًّا وَعَقَّبَهُ بِالجِزْيَةِ "فَقَال: "خُذْ مِنْ كُل حَالمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلهُ مَغَافِرَفإن قيل: فَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَذَلكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الجِزْيَةِ. قَال صَاحِبُ الحَاوِي: الجَوَابُ: أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّ مُعَاذًا عَقَدَ مَعَهُمْ الجِزْيَةَ عَلى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ زُرُوعِهِمْ.

 

ج / 5 ص -288-       قَال أَصْحَابُنَا: مِمَّا يَدُل عَلى أَنَّهُ فِي الجِزْيَةِ لا فِي الزَّكَاةِ أَنَّ مَذْهَبَ مُعَاذٍ أَنَّهُ لا يَنْقُل وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: "أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَل مِنْ مِخْلافِ عَشِيرَتِهِ إلى مِخْلافٍ آخَرَ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلافِ عَشِيرَتِهِ "فَدَل عَلى أَنَّهُ فِي الجِزْيَةِ التِي يَجُوزُ نَقْلهَا بِالاتِّفَاقِ، وَالجَوَابُ عَنْ ابْنِ اللبُونِ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَليْهِ لا للقِيمَةِ، وَلهَذَا لوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَل مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ أَخَذْنَاهُ؛ وَلأَنَّهُ أَيْضًا إنَّمَا يُؤْخَذُ عِنْدَ عَدَمِ بِنْتِ المَخَاضِ، وَلوْ كَانَ قِيمَةً عَلى مَا تَقُولونَ لجَازَ دَفْعُهُ مَعَ وُجُودِهَا. وَالجَوَابُ عَنْ القِيَاسِ عَلى عَرَضِ التِّجَارَةِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي قِيمَتِهِ وَالمُخْرَجُ ليْسَ بَدَلًا عَنْ الوَاجِبِ بَل هُوَ الوَاجِبُ، كَمَا أَنَّ الشَّاةَ المُخْرَجَةَ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الإِبِل هِيَ وَاجِبُهَا، لا أَنَّهَا قِيمَةٌ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلى المَنْصُوصِ عَليْهِ فَأَبْطَلهُ أَصْحَابُنَا بِإِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعٍ جَيِّدٍ عَنْ نِصْفِ صَاعٍ وَسَطٍ وَشَاةٍ عَنْ شَاتَيْنِ بِقِيمَتِهِمَا، ثُمَّ المُعْتَمَدُ فِي الأَصْل أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَليْهِ، فَلهَذَا جَازَ إخْرَاجُهُ بِخِلافِ القِيمَةِ. وَأَمَّا قَوْلهُمْ "لمَّا جَازَ العُدُول إلى آخِرِهِ "فَهَذَا قِيَاسٌ فَلا يَلزَمُنَا، مَعَ أَنَّ الوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ جِنْسِ مَالهِ لا مِنْ عَيْنِهِ، فَلمْ يَكُنْ ذَلكَ عُدُولًا عَنْ الوَاجِبِ إلى القِيمَةِ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لا يَجُوزُ عِنْدَنَا إخْرَاجُ القِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ. قَال أَصْحَابُنَا: هَذَا إذَا لمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ، وَنَقَل الرَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلةِ اجْتِمَاعِ الحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللبُونِ فِي مِائَتَيْنِ عَنْ الأَصْحَابِ أَنَّهُمْ قَالوا: يُعْدَل فِي الزَّكَاةِ إلى غَيْرِ الجِنْسِ الوَاجِبِ للضَّرُورَةِ كَمَنْ وَجَبَ عَليْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِل، فَفَقَدَ الشَّاةَ وَلمْ يُمْكِنْهُ تَحْصِيلهَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ قِيمَتَهَا دَرَاهِمَ وَيُجْزِئُهُ، كَمَنْ لزِمَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَلمْ يَجِدْهَا، وَلا ابْنَ لبُونٍ لا فِي مَالهِ وَلا بِالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ يُعْدَل إلى القِيمَةِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ أَخْذُ الأَغْبَطِ وَأَخَذَ السَّاعِي غَيْرَهُ وَأَوْجَبْنَا التَّفَاوُتَ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ دَرَاهِمَ إنْ لمْ يُمْكِنْ تَحْصِيل شِقْصٍ بِهِ، وَكَذَا إنْ أَمْكَنَ عَلى الأَصَحِّ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ نَظَائِرَهُ.
 وَذَكَرَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي بَابِ النِّيَّةِ فِي الزَّكَاةِ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ فِي التَّفَاوُتِ عِنْدَ إمْكَانِ الشِّقْصِ، ثُمَّ قَال: فَليُخْرَجْ مِنْ هَذَا الخِلافِ أَنَّهُ مَتَى أَدَّى الحِسَابُ فِي زَكَاةِ المَاشِيَةِ إلى تَشْقِيصٍ فِي مَسَائِل الخُلطَةِ، فَفِي جَوَازِ القِيمَةِ عَنْ الشِّقْصِ هَذَانِ الوَجْهَانِ. قَال: وَلوْ لزِمَهُ شَاةٌ عَنْ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ تَلفَ المَال كُلهُ بَعْدَ إمْكَانِ الأَدَاءِ، وَعَسُرَ تَحْصِيل شَاةٍ وَمَسَّتْ حَاجَةُ المَسَاكِينِ، فَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ يُخْرِجُ القِيمَةَ للضَّرُورَةِ وَلا سَبِيل إلى تَأْخِيرِ حَقِّ المَسَاكِينِ، ثُمَّ ذَكَرَ الإِمَامُ أَنَّ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَليْهِ زَكَاةٌ، وَامْتَنَعَ يَأْخُذُ الإِمَامُ أَيَّ شَيْءٍ وَجَدَهُ، إذَا لمْ يَجِدْ المَنْصُوصَ، كَمَا يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ مَال المُمْتَنِعِ، وَإِنْ لمْ يَنْوِ مَنْ عَليْهِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ كَانَ مَنْ عَليْهِ الزَّكَاةُ قَادِرًا عَلى المَنْصُوصِ عَليْهِ، فَفِي إجْزَائِهِ تَرَدُّدٌ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى فِي المُمْتَنِعِ مِنْ النِّيَّةِ، إذَا أَخَذَهَا الإِمَامُ، فَهَذَا كَلامُ الإِمَامِ فِي النِّهَايَةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الفَرْعِ الذِي قَبْل هَذَا عَنْ كَلامِهِ فِي الأَسَاليبِ نَحْوُ هَذَا.
وَمِنْ مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ التِي تُجْزِئُ فِيهَا القِيمَةُ مَا إذَا أَلزَمَهُمْ السُّلطَانُ بِالقِيمَةِ، وَأَخَذَهَا مِنْهُمْ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ المُصَنِّفُ المَسْأَلةَ فِي آخِرِ بَابِ الخُلطَةِ فِيمَا إذَا أَخَذَ السَّاعِي مِنْ أَحَدِ الخَليطَيْنِ قِيمَةَ الفَرْضِ، فَقَال الصحيح: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلى خَليطِهِ؛ لأَنَّهُ أَخَذَهُ بِاجْتِهَادِهِ، فَأَشْبَهَ إذَا أَخَذَ الكَبِيرَةَ عَنْ السِّخَال، هَكَذَا قَطَعَ جَمَاهِيرُ الأَصْحَابِ فِي هَذَا المَوْضِعِ بِإِجْزَاءِ القِيمَةِ التِي أَخَذَهَا السَّاعِي نَقَلهُ أَصْحَابُنَا

 

ج / 5 ص -289-       العِرَاقِيُّونَ كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ، وَالمَحَامِليُّ فِي كِتَابَيْهِ وَصَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُمْ فِي بَابِ الخُلطَةِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي الأُمِّ قَالوا: نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ أَنَّهُ تُجْزِئُهُ القِيمَةُ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلى خَليطِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ القِيمَةِ؛ لأَنَّ ذَلكَ حُكْمٌ مِنْ السَّاعِي فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاجْتِهَادُ، فَوَجَبَ إمْضَاؤُهُ قَالوا: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَال ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالوا وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ المَرْوَزِيُّ لا تُجْزِئُهُ القِيمَةُ التِي يَأْخُذُهَا السَّاعِي، وَلا يَرْجِعُ بِهَا عَلى خَليطِهِ؛ لأَنَّهُ غَيْرُ الوَاجِبِ وَهَذَا الوَجْهُ غَلطٌ ظَاهِرٌ مُخَالفٌ لنَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَللأَصْحَابِ رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالى وَللدَّليل وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.