المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 7 ص -138-       بَابُ الْإِحْرَامِ وَمَا يَحْرُمُ فِيهِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ، لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ لِلْإِحْرَامِ" وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ اغْتَسَلَتْ لِلْإِحْرَامِ، لِمَا رَوَى، الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: "أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "
مُرُوهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتُهِلَّ" وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ يُرَادُ بِهِ النُّسُكَ فَاسْتَوَى فِيهِ الْحَائِضُ وَالطَّاهِرُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ تَيَمَّمَ لِأَنَّهُ غُسْلٌ مَشْرُوعٌ فَانْتُقِلَ فِيهِ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، قَالَ في"الأم": وَيُغْتَسَلُ لِسَبْعَةِ مَوَاطِنَ: لِلْإِحْرَامِ وَدُخُولِ مَكَّةَ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلِرَمْيِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ تَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ فَاسْتُحِبَّ لَهَا الِاغْتِسَالُ، وَلَا يُغْتَسَلُ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَلَا يَجْتَمِعُ لَهُ النَّاسُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَأَضَافَ إلَيْهَا فِي الْقَدِيمِ الْغُسْلَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ لَهُمَا وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ في"الجديد"؛ وَلِأَنَّ وَقْتَهُمَا مُتَّسَعٌ فَلَا يَتَّفِقُ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِيهِمَا".
الشرح: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ الْقَاسِمِ فِي قِصَّةِ أَسْمَاءَ وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى وأما حديث الْقَاسِمِ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الموطأ" هَكَذَا مُرْسَلًا، كَمَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْقَاسِمِ "أَنَّ أَسْمَاءَ وَلَدَتْ" فَذَكَرَهُ بِكَمَالِهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي إرْسَالَ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْقَاسِمَ تَابِعِيٌّ وَهُوَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه" عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ وَلَدَتْ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِهِ هَكَذَا مُتَّصِلًا بِذِكْرِ عَائِشَةَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى وَغَيْرُهُمْ فَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ وَكَفَى بِهِ صِحَّةً رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لَهُ في "صحيحه" وَوَصْلُهُ ثَابِتٌ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَنَاهِيكَ بِهَذَا صِحَّةً، وَثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، وَأَسْمَاءُ هَذِهِ هِيَ امْرَأَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما، وَأَبُوهَا عُمَيْسٌ - بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ - وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَالْبَيْدَاءُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْمَدِّ - وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَكَانٌ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ: وَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَذَكَرَهُ إلَى آخِرِهِ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"مُرُوهَا أَنْ تَغْتَسِلَ ثُمَّ لِتُهِلَّ" يَجُوزُ فِي - لَامِ لِتُهِلَّ - الْكَسْرُ وَالْإِسْكَانُ وَالْفَتْحُ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ "المهذب" "مُرْهَا" وَفِي بَعْضِهَا "مُرُوهَا" بِزِيَادَةِ وَاوٍ وَذَكَرَ الْإِمَامُ مَحْمُودُ بْنُ خيلياشي1 بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الخيلياشي أَنَّهُ رَآهُ هَذَا بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ.
وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: بَابُ الْإِحْرَامِ وَمَا يَحْرُمُ فِيهِ، فَكَذَا قَالَهُ فِي"التنبيه"، وَهُوَ - بِفَتْحِ الْيَاءِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم نجد له ذكرا في "طبقات الشافعية" لابن السبكي ولا في "وفيات الأعيان".

 

ج / 7 ص -139-       وَضَمِّ الرَّاءِ - مِنْ يَحْرُمُ وَلَيْسَ هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ؛ لِأَنَّهُ صَدَّرَ الْبَابَ بِمُقَدِّمَاتِ الْإِحْرَامِ مِنْ الِاغْتِسَالِ وَالتَّنْظِيفِ وَالتَّطَيُّبِ وَالصَّلَاةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِحْرَامَ نَفْسَهُ وَهُوَ النِّيَّةُ، فَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي تَرْجَمَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ كَانَ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى إرَادَةِ مَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ لَكَانَتْ التَّرْجَمَةُ قَاصِرَةً؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُدْخِلًا فِي الْبَابِ مَا لَمْ يُتَرْجِمْ لَهُ وَهُوَ مُحَرَّمَاتُ الْإِحْرَامِ وَهِيَ مُعْظَمُ الْبَابِ فَتَعَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ أَعْلَمُ. وقوله: لِأَنَّهُ غُسْلٌ يُرَادُ لِلنُّسُكِ احْتِرَازٌ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالْجُمُعَةِ وَأَرَادَ بِالنُّسُكِ مَا يَخْتَصُّ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، وقوله: غُسْلٌ مَشْرُوعٌ ذَكَرَ الْقَلَعِيُّ أَنَّهُ احْتِرَازٌ مِنْ الْغُسْلِ لِلدُّخُولِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِمَا، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ تَقْرِيبَ الْفَرْعِ مِنْ الْأَصْلِ دُونَ الِاحْتِرَازِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ: إحداها: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ إحْرَامُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يَجِبُ هَذَا الْغُسْلُ وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ مُتَأَكَّدَةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في "الأم" وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ كَمَا سَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ الله تعالى قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْأَشْرَافِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِغَيْرِ غُسْلٍ جَائِزٌ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لِلْإِحْرَامِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إذَا نَسِيَ الْغُسْلَ يَغْتَسِلُ إذَا ذَكَرَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ أَنَّهُ غُسْلٌ لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه في "الأم" "أَسْتَحِبُّ الْغُسْلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِلرَّجُلِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ1 قَالَ: وَأَكْرَهُ تَرْكَ الْغُسْلِ لَهُ وَمَا تَرَكْتُ الْغُسْلَ لِلْإِحْرَامِ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ لَهُ مَرِيضًا فِي السَّفَرِ وَأَنِّي أَخَافُ ضَرَرَ الْمَاءِ، وَمَا صَحِبْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ رَأَيْتُهُ تَرَكَهُ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ عَدَا بِهِ أَنْ رَآهُ اخْتِيَارًا، قَالَ: وَإِذَا أَتَتْ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ الْمِيقَاتَ وَعَلَيْهِمَا مِنْ الزَّمَانِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ طُهْرُهُمَا وَأَدْرَكَهُمَا الْحَجُّ بِلَا عِلَّةٍ أَحْبَبْتُ اسْتِئْخَارَهُمَا لِيَطْهُرَا فَيُحْرِمَا طَاهِرَتَيْنِ، وَإِنْ أَهَلَّتَا غَيْرَ طَاهِرَتَيْنِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا وَلَا فِدْيَةَ" قَالَ: "وَكُلُّ مَا عَمِلَتْهُ الْحَائِضُ عَمِلَهُ الرَّجُلُ الْجُنُبُ وَالْمُحْدِثُ وَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ لَا يَعْمَلَهُ كُلَّهُ إلَّا طَاهِرًا، قَالَ: وَكُلُّ عَمَلِ الْحَجِّ تَعْمَلُهُ الْحَائِضُ، وَغَيْرُ الطَّاهِرِ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَرَكْعَتَيْهِ" هَذَا آخِرُ نَصِّهِ في "الأم" بِحُرُوفِهِ2 وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ عَلَى جَمِيعِ هَذَا إلَّا قَوْلًا شَاذًّا ضَعِيفًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ لَا يُسَنُّ لَهُمَا الْغُسْلُ، وَالصَّوَابُ اسْتِحْبَابُهُ لَهُمَا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَغْتَسِلَانِ بِنِيَّةِ غُسْلِ الْإِحْرَامِ كَمَا يَنْوِي


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسختنا من "الأم" "وكل من أراد الإهلال اتباعا للسنة. ومعقول أنه يجب إذا دخل المرء في نسك لم يكن له فيه أن يدخله إلا بأكمل الطهارة وأن يتنظف له لامتناعه من أحداث الطيب في الأحرام، وإذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مرأة وهي نفساء لا يطهرها الغسل للصلاة فاختار لها الغسل كان من يطهره الغسل للصلاة أولى أن يختار له أو في مثل معناه أو أكثر منه الخ (ط).
2 قلت: مع بعض التصرف في الحذف والاختصار (ط).

 

ج / 7 ص -140-       غَيْرُهُمَا، وَلِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي نِيَّتِهِمَا احْتِمَالٌ.
الثانية: إذَا عَجَزَ الْمُحْرِمُ عَنْ الْغُسْلِ تَيَمَّمَ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في "الأم"، وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ إلَّا أَنَّ الرَّافِعِيَّ قَالَ: يَتَيَمَّمُ الْعَاجِزُ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ احْتِمَالًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ، قَالَ: وَذَلِكَ لِاحْتِمَالٍ جَارٍ هُنَا، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْغُسْلِ أَحْسَنُ وَأَعَمُّ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي قَوْلِهِمْ: إنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ يَتَيَمَّمُ لِأَنَّ الْعَجْزَ يَعُمُّ عَدَمَ الْمَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ.
وأما: إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِلْغُسْلِ فَقَدْ قَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي كُتُبِهِ الثَّلَاثَةِ "الْمَجْمُوعِ" و"التجريد" و"المقنع"، وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ: يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ مَعَ التَّيَمُّمِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْوُضُوءِ فَلَيْسَ بِمُعَوَّلٍ، وَلَا يُوَافَقُونَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَقُومُ مَقَامَ الْغُسْلِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ، وَلَا يَقُومُ الْوُضُوءُ مَقَامَ الْغُسْلِ، وَلَا يَرِدُ هَذَا عَلَى الْجُنُبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُجَامِعَ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ الَّذِي فِيهِ الْكَلَامُ وَاجِدٌ لِمَا يَكْفِيهِ لِغُسْلِهِ، وَلَا يُفِيدُهُ التَّيَمُّمُ شَيْئًا، وَلَا يَصِحُّ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ وَيُفِيدُهُ الْوُضُوءُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ عَنْ أَعْضَائِهِ فَاسْتُحِبَّ لَهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ هُوَ عَادِمٌ لِمَا يَكْفِيهِ لِغُسْلِهِ فَنَظِيرُهُ مِنْ الْجُنُبِ أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِمَا يَكْفِيهِ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ مَعَ الْوُضُوءِ أَوْ يَتَيَمَّمُ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ.
الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله في "الأم": يَغْتَسِلُ الْمُحْرِمُ لِسَبْعَةِ مَوَاطِنَ: لِلْإِحْرَامِ، وَدُخُولِ مَكَّةَ، وَالْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلِرَمْيِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ وَيُسْتَحَبُّ لَهَا الِاغْتِسَالُ، وَهَذَا النَّصُّ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ الْأُمِّ كَذَا هُوَ في "الأم"، وَكَذَا نَقَلَهُ أَصْحَابُنَا عَنْ "الْأُمِّ"، وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ نُصُوصِهِ قَدِيمًا وَجَدِيدًا. وَلَيْسَ هَذَا التَّعْلِيلُ في "الأم" - أَعْنِي قَوْلَهُ: لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ - بَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: في "الأم" فِي ذَلِكَ بِآثَارٍ ذَكَرَهَا، قَالَ في "الأم" عَقِبَ ذِكْرِهِ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ: وَأَسْتَحِبُّ الْغُسْلَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْبَدَنِ بِالْعَرَقِ وَغَيْرِهِ تَنْظِيفًا لِلْبَدَنِ، قَالَ: فَلِذَلِكَ أُحِبُّهُ لِلْحَائِضِ، قَالَ: وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ هَذَا وَاجِبًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: "لِلْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ" يَعْنِي الْوُقُوفَ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَهُوَ قُزَحُ، وَذَلِكَ الْوُقُوفُ يَكُونُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ الله تعالى، وَهَكَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي هَذَا الْغُسْلِ: إنَّهُ لِلْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَنَقَلَهُ عَنْ "الْأُمِّ"، وَكَذَا رَأَيْتُهُ في "الأم" صَرِيحًا وَخَالَفَهُمْ الْمَحَامِلِيُّ فِي كُتُبِهِ الثَّلَاثَةِ "الْمَجْمُوعِ" و"التجريد" و"المقنع" وَأَبُو الْفَتْحِ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ في: "الكفاية"، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ في "الكافي"، فَقَالُوا: الْغُسْلُ لِلْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْغُسْلَ لِلْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، بَلْ جَعَلُوا الْغُسْلَ السَّابِعَ هُوَ الْغُسْلُ لِلْمَبِيتِ بِهَا، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا لَيْسَ فِيهِ اجْتِمَاعٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى غُسْلٍ، بِخِلَافِ الْوُقُوفِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْغُسْلَ السَّابِعَ الْوُقُوفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَأَنَّهُ

 

ج / 7 ص -141-       لَا يُشْرَعُ لِلْمَبِيتِ بِهَا، وَقَوْلُهُمْ "لِرَمْيِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ" يَعْنُونَ الْجَمَرَاتِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَغْتَسِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ غُسْلًا وَاحِدًا لِرَمْيِ الْجَمَرَاتِ وَلَا يَغْتَسِلُ لِكُلِّ جَمْرَةٍ فِي انْفِرَادِهَا، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَغْسَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ فِي الْحَجِّ سَبْعَةٌ فَقَطْ هُوَ نَصُّهُ في "الجديد"، وَأَضَافَ إلَيْهَا فِي "الْقَدِيمِ" اسْتِحْبَابَهُ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، هَكَذَا نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ عَنْ "الْقَدِيمِ".
وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ عَنْ الْقَدِيمِ أَنَّهُ أَضَافَ إلَى هَذَيْنِ الْغُسْلَيْنِ، وَزَادَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَالرَّافِعِيُّ عَنْ "الْقَدِيمِ" غُسْلًا ثَالِثًا، وَهُوَ الْغُسْلُ لِلْحَلْقِ، وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُهُ وَطُرُقُ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "ثُمَّ يَتَجَرَّدُ عَنْ الْمَخِيطِ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ أَبْيَضَيْنِ وَنَعْلَيْنِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لِيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَاضًا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خِيَارِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَلَا يُطَيِّبُ ثَوْبَهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَزَعَهُ لِلْغُسْلِ فَيَطْرَحُهُ عَلَى بَدَنِهِ، فَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ رضي الله عنهم "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَحْرَمَ" وَفِي الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ: قال: فِي "الْقَدِيمِ: "الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ عَقِبَ الرَّكْعَتَيْنِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ" وقال: في "الأم": الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ إذَا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ إنْ كَانَ رَاكِبًا، وَإِذَا ابْتَدَأَ السَّيْرَ إنْ كَانَ رَاجِلًا، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا رُحْتُمْ إلَى مِنًى مُتَوَجِّهِينَ فَأَهِّلُوا بِالْحَجِّ" وَلِأَنَّهُ إذَا لَبَّى مَعَ السَّيْرِ وَافَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَإِذَا لَبَّى فِي مُصَلَّاهُ لَمْ يُوَافِقْ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ:
"لِيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ" حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَيُغْنِي عَنْهُ مَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْأُزُرِ وَالْأَرْدِيَةِ يُلْبَسُ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ الْجِلْدَ، حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ" ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في "صحيحه" وَقَوْلُهُ: (تَرْدَعُ الْجِلْدَ) أَيْ تُلَطِّخُهُ إذَا لُبِسَتْ، وَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقٍ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ ثُمَّ دَالٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ عَيْنٌ مُهْمَلَتَيْنِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الرَّدْعُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَثَرٌ مِنْ الطِّيبِ كَالزَّعْفَرَانِ، وَالرَّدْغُ بِالْمُعْجَمَةِ الطِّينُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَلِيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ" قَالَ: وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ يَقُولُونَ: يَلْبَسُ الَّذِي يُرِيدُ الْإِحْرَامَ إزَارًا وَرِدَاءً، هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَثَبَتَ في "الصحيحين" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ: "فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ" وَثَبَتَ فِيهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ" وَمِثْلُهُ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

 

ج / 7 ص -142-       مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خِيَارِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ" فَحَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي الْجَنَائِزِ، وَسَبَقَ ذِكْرُهُ وَبَيَانُهُ فِي "المهذب" فِي بَابِ هَيْئَةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ وأما حديث عَائِشَةَ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُسْتَفِيضٌ مَشْهُورٌ جِدًّا. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ قَالَتْ: "كَأَنَّمَا أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ" وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَفَارِقِ"وَفِي بَعْضِهَا" و "بِيصِ الْمِسْكِ" وَالْمَفَارِقُ جَمْعُ مَفْرِقٍ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - هُوَ وَسَطُ الرَّأْسِ حَيْثُ يَنْفَرِقُ الشَّعْرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَالْوَبِيج / 7 ص - بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْبَرِيقُ وَاللَّمَعَانُ.
وأما قَوْلُهُ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَجَابِرًا رَوَيَا صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَحَدِيثُ جَابِرٍ صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه" فِي جُمْلَةِ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمُ الْفَوَائِدِ، فِيهِ مَنَاسِكُ، وَمُعْظَمُهَا ذُكِرَ فِيهِ كُلُّ مَا فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حِينِ خُرُوجِهِ إلَى فَرَاغِهِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا بِطُولِهِ، وَلَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيُّ بِطُولِهِ وأما حديث ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ كِفَايَةٌ عَنْهُ، وَثَبَتَ في "صحيح البخاري" عَنْ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَرْكَبُ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
وأما حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ" فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ خصيب1 الْجَزَرِيَّ، قَالَ: وَهُوَ غَيْرُ قَوِيٍّ، وَكَذَا قَالَهُ غَيْرُهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وأما: قَوْلُ الْبَيْهَقِيّ: إنَّ خُصَيْفًا غَيْرُ قَوِيٍّ فَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ كَثِيرُونَ مِنْ الْحُفَّاظِ وَالْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْبَيَانِ فَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ إمَامُ "الجرح والتعديل"، وَوَثَّقَهُ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِيهِ: هُوَ صَالِحٌ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إنَّهُ حَسَنٌ لَعَلَّهُ اُعْتُضِدَ عِنْدَهُ فَصَارَ بِصِفَةِ الْحَسَنِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا فِي مُقَدَّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ.
وأما حديث جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا رُحْتُمْ إلَى مِنًى مُتَوَجِّهِينَ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه" بِمَعْنَاهُ. وَثَبَتَ في "صحيح البخاري" عن جابر: "أَنَّ إهْلَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ رَاحِلَتُهُ" وَثَبَتَ في "الصحيحين" عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش و ق بالباء الموحدة التحتية وصوابه بالفاء والموحدة (خصيف) بن عبد الرحمن بكسر الخاء المعجمة الأولى الأموي مولاهم الحراني الحوري روى عن مجاهد وعكرمة وأبي عبيدة بن عبد الله وعنه ابن إسحاق والسفيانان وخلق ضعفه ووثقه ابن معين وأبو زرعة وقال ابن عدي: إذا حدث عنه ثقة فلا بأس به (-).

 

ج / 7 ص -143-       يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ" وَفي "الصحيحين" عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ مِنْ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ" الْغَرْزُ - بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا زَايٌ - رِكَابٌ، وَكَانَ كُورَ الْبَعِيرِ إذَا كَانَ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خَشَبٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ فَهُوَ رِكَابٌ، وَقِيلَ يُسَمَّى غَرْزًا مِنْ أَيْ شَيْءٍ كَانَ.
وَثَبَتَ في "الصحيحين" عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً" وَثَبَتَ في "صحيح البخاري" عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَلَمَّا أَصْبَحَ وَاسْتَوَتْ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ قَاطِعَةٌ بِتَرَجُّحِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّيْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَنْ قَالَ بِتَرَجُّحِ الْإِحْرَامِ عَقِبَ الصَّلَاةِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ لَهُ رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ خُصَيْفٍ1 عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: عَجِبْتُ لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَوْجَبَ، فَقَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسَ بِذَلِكَ، إنَّهَا إنَّمَا كَانَتْ حَجَّةً وَاحِدَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنْ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْهِ أَوْجَبَهُ فِي مَجْلِسِهِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ فَحَفِظَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ رَكِبَ فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَأْتُونَ أَرْسَالًا فَسَمِعُوهُ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ يُهِلُّ فَقَالُوا: إنَّمَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ فَقَالُوا: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءِ وَأَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَوْجَبَ فِي مُصَلَّاهُ، وَأَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ، وَأَهَلَّ حِينَ عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: خُصَيْفٌ غَيْرُ قَوِيٍّ وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: السُّنَّةُ أَنْ يُحْرِمَ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ، هَذَا مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ كَمَا سَبَقَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَفِي أَيْ شَيْءٍ أَحْرَمَ جَازَ إلَّا الْخُفَّ وَنَحْوَهُ وَالْمَخِيطَ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ أَبْيَضَيْنِ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَصاحب "البيان" وَآخَرُونَ مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ: الثَّوْبُ الْجَدِيدُ فِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَغْسُولِ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَدِيدٌ فَمَغْسُولٌ، وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من فوضى التحقيق والتصحيف أن كتاب "التقريب" للحافظ ابن حجر ضبطه مصححه الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف بالباء الموحدة في حين أنه ورد في "ميزان الاعتدال" الترجمة 2511 بالفاء والتصغير وضبط خاءه وفتح صاده في جميع المواضع الأستاذ محمد البجاوي ولكن الصواب - والله أعلم - هو ما حققناه وأما الجزري التي وردت آنفا فلعل صوابها الحوري بفتح الحاء المهملة نسبة إلى قرية بالرقة باسمها حوري راجع "لسان الميزان" الترجمة 1630 (ط).

 

ج / 7 ص -144-       جَدِيدَيْنِ وَنَظِيفَيْنِ، فَقَدْ يُوهِمُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ، وَلَكِنْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَصْحَابِ وَتَقْدِيرُ كَلَامِهِ جَدِيدَيْنِ وَإِلَّا نَظِيفَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ لَهُ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، وَهُنَاكَ يَنْبَسِطُ الْكَلَامُ فِيهِ بِأَدِلَّتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ الطِّيبُ الَّذِي يَبْقَى لَهُ جِرْمٌ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَاَلَّذِي لَا يَبْقَى، وَسَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّ التَّطَيُّبَ مُبَاحٌ لَا مُسْتَحَبٌّ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ التَّطَيُّبُ بِحَالٍ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ قَوْلًا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ التَّطَيُّبُ بِمَا يَبْقَى عَيْنُهُ، وَحَكَى صاحب "البيان" وَغَيْرُهُ وَجْهًا فِي تَحْرِيمِ مَا يَبْقَى عَيْنُهُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالصَّوَابُ اسْتِحْبَابُهُ مُطْلَقًا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ، قَالَ: وَبِهِ قَطَعَ عَامَّةُ الْأَصْحَابُ. وَسَنَبْسُطُ أَدِلَّتَهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ فِي اسْتِحْبَابِهِ الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ، وَقَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُتَطَيِّبَاتٍ لِأَنَّ مَكَانَ الْجُمُعَةِ يَضِيقُ، وَكَذَلِكَ وَقْتُهَا فَلَا يُمْكِنُهَا اجْتِنَابُ الرِّجَالِ بِخِلَافِ النُّسُكِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا تَطَيَّبَ فَلَهُ اسْتِدَامَتُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إذَا تَطَيَّبَتْ ثُمَّ لَزِمَتْهَا عِدَّةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا إزَالَةُ الطِّيبِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ آدَمِيٌّ فَالْمُضَايَقَةُ فِيهِ أَكْثَرُ. وَلَوْ أَخَذَ طِيبًا مِنْ مَوْضِعِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَرَدَّهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ، وَلَوْ انْتَقَلَ الطِّيبُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ بِالْعَرَقِ فَوَجْهَانِ: أصحهما: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ مُبَاحٍ والثاني عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إنْ تَرَكَهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحِلِّ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كَالنَّاسِي، وَلِأَنَّ حُصُولَهُ هُنَاكَ تَوَلَّدَ مِنْ فِعْلِهِ، فَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ عَنْ الْأَصْحَابِ. وَلَوْ مَسَّهُ بِيَدِهِ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِلطِّيبِ ابْتِدَاءً.
الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ ثَوْبِ الْمُحْرِمِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي جَوَازِ تَطْيِيبِهِ طَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْعِرَاقِيُّونَ جَوَازُهُ، فَإِذَا طَيَّبَهُ وَلَبِسَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ وَاسْتَدَامَ لُبْسَهُ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ، فَإِنْ نَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَهُ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ لَبِسَ ثَوْبًا مُطَيَّبًا بَعْدَ إحْرَامِهِ، والطريق الثاني: طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أصحها: الْجَوَازُ كَمَا سَبَقَ قِيَاسًا عَلَى الْبَدَنِ، والثاني التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الثَّوْبِ وَلَا يُسْتَهْلَكُ وَيَلْبَسُهُ أَيْضًا بَعْدَ نَزْعِهِ، فَيَكُونُ مُسْتَأْنِفًا لِلطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ، والثالث: يَجُوزُ بِمَا لَا يَبْقَى لَهُ جِرْمٌ وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِهِ. قَالُوا: فَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ فَنَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَهُ فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ: أصحهما: عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ الْوُجُوبُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ الطِّيبَ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ، والثاني لَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الثَّوْبِ النَّزْعُ وَاللُّبْسُ فَصَارَ مَعْفُوًّا عَنْهُ. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي فِي طِيبِ الثِّيَابِ قَوْلَيْنِ: أحدهما: يُسْتَحَبُّ كَمَا يُسْتَحَبُّ فِي الْبَدَنِ، والثاني أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ غَرِيبٌ جِدًّا، هَذَا كُلُّهُ فِي تَطَيُّبِ ثِيَابِ الْإِحْرَامِ. أما: إذَا طَيَّبَ الْبَدَنَ فَتَعَطَّرَ ثَوْبُهُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -145-       فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ في "الأم" و"المختصر": أُحِبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَضِبَ لِلْإِحْرَامِ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخِضَابِ لَهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لَا لِأَنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فأما: إذَا كَانَتْ تُرِيدُ الْإِحْرَامَ - فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ - اُسْتُحِبَّ لَهَا الْخِضَابُ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَجَمَالٌ، وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ إلَى الزِّينَةِ وَالتَّجَمُّلِ لِزَوْجِهَا كُلَّ وَقْتٍ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ وَلَمْ تُرِدْ الْإِحْرَامَ كُرِهَ لَهَا الْخِضَابُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ بِهِ الْفِتْنَةُ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا بِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَسَوَاءٌ فِي اسْتِحْبَابِ الْخِضَابِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْعَجُوزُ وَالشَّابَّةُ كَمَا سَبَقَ فِي التَّطَيُّبِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحَيْثُ اخْتَضَبَتْ تَخْضِبُ يَدَيْهَا إلَى الْكُوعَيْنِ وَلَا تَزِيدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتَخْضِبُ الْكَفَّيْنِ تَعْمِيمًا، وَلَا تَطْرِفُ الْأَصَابِعَ وَلَا تَنْقُشُ وَلَا تُسَوِّدُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ طَهَارَةِ الْبَدَنِ. وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ مَنْهِيٌّ عَنْ الْخِضَابِ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ أَنْ تَمْسَحَ وَجْهَهَا أَيْضًا بِشَيْءٍ مِنْ الْحِنَّاءِ قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَفِي خِضَابِ كَفِّهَا أَنْ يَسْتَتِرَ لَوْنُ الْبَشَرَةِ، لِأَنَّهَا تُؤْمَرُ بِكَشْفِ الْوَجْهِ وَقَدْ يَنْكَشِفُ الْكَفَّانِ أَيْضًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّ الْحِنَّاءَ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ فَاسْتُحِبَّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ وَتَرْجِيلِ الشَّعْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ في "الصحيحين" عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
: "دَعِي عُمْرَتَكِ وَانْفُضِي رَأْسَكَ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا سَالَتْ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ فَلَا يَنْهَانَا" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ الْخِضَابُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الزِّينَةِ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ لِلْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّهُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا اخْتَضَبَتْ فِي الْإِحْرَامِ فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَ بِطِيبٍ عِنْدَنَا، فَإِنْ اخْتَضَبَتْ وَلَفَّتْ عَلَى يَدَيْهَا الْخِرَقَ قَالَ الشَّافِعِيُّ في "الأم": رَأَيْتُ أَنْ تَفْتَدِيَ، وَقَالَ في "الإملاء": لَا يَبِينُ لِي أَنَّ عَلَيْهَا الْفِدْيَةَ قَالَ، الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصاحب "الشامل"، وَالْأَصْحَابُ هَذَا الِاخْتِلَافُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَعَ تَحْرِيمِهِ الْقُفَّازَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مُخْتَلِفٌ فِي سَبَبِ تَحْرِيمِ الْقُفَّازَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ الْفِدْيَةَ فِي الْخِرْقَةِ الْمَلْفُوفَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْقُفَّازَيْنِ إنَّمَا كَانَ لِأَمْرِ إحْرَامِ الْمَرْأَةِ يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، وَإِنَّمَا جَوَّزَ لَهَا سَتْرَ كَفَّيْهَا بِكُمَّيْهَا لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْ ذَلِكَ وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَّيْنِ لَيْسَا عَوْرَةً فَوَجَبَ كَشْفُهُمَا مِنْهَا كَالْوَجْهِ.
قَالُوا: وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَمْ يُوجِبْ فِيهِ الْفِدْيَةَ فِي الْخِرَقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ الْقُفَّازَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَعْمُولَانِ عَلَى قَدْرِ الْكَفَّيْنِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ الْخُفَّانِ. وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ إحْرَامُهَا بِعُضْوٍ تَعَلَّقَ تَحْرِيمُ الْمَخِيطِ بِغَيْرِهِ كَالرَّجُلِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا سَائِرُ بَدَنِهَا لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، هَذَا نَقْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَصاحب "الشامل" وَالْأَكْثَرِينَ، وَلَمْ يَحْكِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ نَصَّهُ في "الإملاء"، وَإِنَّمَا حَكَى نَصَّهُ في "الأم"، قَالَ: إنْ لَمْ يَشُدَّ الْخِرْقَةَ فَلَا فِدْيَةَ وَإِلَّا فَقَوْلَانِ كَالْقُفَّازَيْنِ، وَقَطَعَ آخَرُونَ بِأَنَّ لَفَّ الْخِرَقِ عَلَى يَدَيْهَا مَعَ الْحِنَّاءِ أَوْ دُونَهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِ. وَالْحَاصِلُ ثَلَاثُ طُرُقٍ: "الْمَذْهَبُ" أَنَّ لَفَّ الْخِرَقِ مَعَ الْحِنَّاءِ وَغَيْرِهِ عَلَى يَدَيْ الْمَرْأَةِ لَا فِدْيَةَ فِيهِ، والثاني فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ، والثالث: إنْ لَمْ تَشُدَّهَا لَا فِدْيَةَ وَإِلَّا

 

ج / 7 ص -146-       فَقَوْلَانِ، وَسَنُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ فِي فَصْلِ تَحْرِيمِ اللِّبَاسِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
الرابعة: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِلْإِحْرَامِ مَعَ مَا سَبَقَ بِحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلِ الرَّأْسِ بِسِدْرٍ أَوْ خِطْمِيٍّ وَنَحْوِهِمَا، وَعَجَبٌ كَوْنُ الْمُصَنِّفِ أَهْمَلَ هَذَا فِي "المهذب"، مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي "التنبيه"، وَمَعَ أَنَّهُ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَبِّدَ رَأْسَهُ بِصَمْغٍ أَوْ خِطْمِيٍّ أَوْ عَسَلٍ وَنَحْوِهَا، وَالتَّلْبِيدُ أَنْ يَجْعَلَ فِي رَأْسِهِ شَيْئًا مِنْ صَمْغٍ وَنَحْوِهِ لِيَتَلَبَّدَ شَعْرُهُ فَلَا يَتَوَلَّدُ فِيهِ الْقَمْلُ وَلَا يَتَشَعَّثُ فِي مُدَّةِ الْإِحْرَامِ.
وَدَلِيلُ اسْتِحْبَابِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي ذَلِكَ، منها: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ مُلَبِّدًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ مَيِّتًا:
"اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبَّدًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَكَذَا "مُلَبَّدًا" فَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَرَوَاهُ هَكَذَا فِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْحَجِّ هَكَذَا مِنْ طُرُقٍ، وَرَوَيْنَاهُ مِنْ أَكْثَرِ الطُّرُقِ "مُلَبِّيًا" وَلَا مُخَالِفَةَ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَعَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُحِلَّ فَقَالَ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
الْخَامِسَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ: لَوْ كَانَ فِي وَقْتِ فَرِيضَةٍ فَصَلَّاهَا كَفَى عَنْ رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ تَنْدَرِجُ فِي الْفَرِيضَةِ وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مَقْصُودَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَنْدَرِجَ كَسُنَّةِ الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ فِي الْمِيقَاتِ مَسْجِدٌ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا فِيهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَى:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا فَالْأَوْلَى انْتِظَارُ زَوَالِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ ثُمَّ يُصَلِّيهَا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الِانْتِظَارُ فَوَجْهَانِ: الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ، وَلَا يَكُونُ الْإِحْرَامُ سَبَبًا لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ وَقَدْ لَا يَقَعُ فَكُرِهَتْ الصَّلَاةُ كَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، والثاني لَا يُكْرَهُ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، وَقَطَعَ بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ لِأَنَّ سَبَبَهَا إرَادَةُ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ وُجِدَتْ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ السَّاعَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الْإِحْرَامِ فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ: هَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ عَقِبَ صَلَاةِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ جَالِسٌ؟ أَمْ إذَا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ مُتَوَجِّهَةً إلَى مَقْصِدِهِ حِينَ ابْتِدَاءِ السَّيْرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَهُمَا مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا "القديم: "عَقِبَ الصَّلَاةِ، والأصح: نَصُّهُ في "الأم" أَنَّ الْأَفْضَلَ حِينَ تَنْبَعِثُ بِهِ دَابَّتُهُ إلَى جِهَةِ مَكَّةَ إنْ كَانَ رَاكِبًا، أَوْ حِينَ يَتَوَجَّهُ إلَى الطَّرِيقِ إنْ كَانَ مَاشِيًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يُسْتَحَبُّ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ في "صحيح البخاري" وَغَيْرِهِ الْمُصَرِّحِ بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الطِّيبِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُهُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ

 

ج / 7 ص -147-       وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُعَاوِيَةُ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُكْرَهُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: حُكِيَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اخْلَعْ عَنْكَ هَذِهِ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الْخَلُوقِ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتَطَيِّبِ بَعْدَ إحْرَامِهِ يُمْنَعُ مِنْهُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثَيْ عَائِشَةَ رضي الله عنها السَّابِقَيْنِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ كَمَا سَبَقَ، وَلِأَنَّ الطِّيبَ مَعْنًى يُزَادُ لِلِاسْتِدَامَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ الْإِحْرَامُ مِنْ اسْتِدَامَتِهِ كَالنِّكَاحِ.
والجواب: عَنْ حَدِيثِ يَعْلَى مِنْ أَوْجُهٍ: أحدها أَنَّ هَذَا الْخَلُوقَ كَانَ فِي الْجُبَّةِ لَا فِي الْبَدَنِ، وَالرَّجُلُ مَنْهِيٌّ عَنْ التَّزَعْفُرِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَسْتَوِي فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُزَعْفَرِ الرَّجُلُ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَهُمْ مُتَقَدِّمٌ، وَخَبَرُنَا مُتَأَخِّرٌ فَكَانَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُمْ بِالْجِعْرَانَةِ كَانَ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَخَبَرُنَا كَانَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِلَا شَكٍّ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ كَانَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَهَا بِإِجْمَاعٍ. فإن قيل: فَلَعَلَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا: "أُطَيِّبُهُ لِإِحْرَامِهِ" أَيْ إحْرَامِهِ لِلْعُمْرَةِ، قلنا: هَذَا غَلَطٌ وَغَبَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَجَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الطِّيبَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَمِرِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَبَعْدَهُ حَتَّى تَفْرُغَ عُمْرَتُهُ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ الطِّيبُ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي الْحَجِّ فَتَعَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ بَعْدَ إحْرَامِهِ فَأَمَرَ بِإِزَالَتِهِ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وأما: قَوْلُهُمْ: هُوَ فِي مَعْنَى الْمُتَطَيِّبِ بَعْدَ إحْرَامِهِ فَيَبْطُلُ بَعْدَ إحْرَامِهِ فَيَبْطُلُ عَلَيْهِمْ بِالنِّكَاحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِي عِيَاضًا وَغَيْرَهُ مِمَّنْ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ الطِّيبِ تَأَوَّلُوا حَدِيثَ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّهُ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَهُ فَذَهَبَ الطِّيبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ قَالُوا: وَيَزِيدُ هَذَا قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إحْرَامِهِ، ثُمَّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا" هَكَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إنَّمَا تَطَيَّبَ لِمُبَاشَرَةِ نِسَائِهِ، ثُمَّ زَالَ بِالْغُسْلِ بَعْدَهُ. لَا سِيَّمَا وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَهَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ قَبْلَ الْأُخْرَى وَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ طِيبٌ وَيَكُونُ قَوْلُهَا: "ثُمَّ أَصْبَحَ يَنْضَحُ1 طِيبًا" كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النضخ بالمعجمة قريب من النضح، وقد اختلف فيهما أيهما أكثر، والأكثر أنه بالمعجمة أقل من المهملة وقيل: هو بالمعجمة الأثر يبقى في الثوب والجسد وبالمهملة الفعل نفسه وقيل: في العمد بالمعجمة وفي الكتاب العزيز {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} (ط).

 

ج / 7 ص -148-       أَيْ أَصْبَحَ يَنْضَحُ طِيبًا قَبْلَ غُسْلِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ الطِّيبَ كَانَ ذَرِيرَةً، وَهِيَ مِمَّا يُذْهِبُهُ الْغُسْلُ، قَالُوا: وَقَوْلُهَا: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ" الْمُرَادُ أَثَرُهُ لَا جِرْمَهُ هَذَا اعْتِرَاضُهُمْ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ اسْتِحْبَابِ الطِّيبِ لِلْإِحْرَامِ لِقَوْلِهَا: "طَيَّبْتُهُ لِإِحْرَامِهِ" وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّطَيُّبَ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلنِّسَاءِ، وَيَعْضِدُهُ قَوْلُهَا: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ" وَتَأْوِيلُهُمْ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِمُخَالِفَتِهِ الظَّاهِرَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلْإِحْرَامِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إحْرَامُهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّيْرِ وَانْبِعَاثِ الرَّاحِلَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد: إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَدْ سَبَقَتْ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ لِلْمَذْهَبَيْنِ وَاضِحَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيَنْوِي الْإِحْرَامَ وَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" [وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى] وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَيُلَبِّي لِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى النِّيَّةِ وَلَمْ يُلَبِّ أَجْزَأَهُ، وَقَالَ: [أَبُو إِسْحَاقَ و] أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ، كَمَا لَا تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَجِبُ النُّطْقُ فِي آخِرِهَا، فَلَمْ يَجِبْ [النُّطْقُ] فِي أَوَّلِهَا كَالصَّوْمِ".
الشرح: حَدِيثُ:
"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَسَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي أَوَّلِ بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ وقوله: عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ احْتِرَازٌ مِنْ الْأَذَانِ وَالْعِدَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالسَّلَفُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَالْخَلَفُ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ سَبَقَ بَيَانُ حَالِهِ فِي بَابِ الْحَيْضِ، وَقَوْلُهُ: لَا يَجِبُ النُّطْقُ فِي آخِرِهَا احْتِرَازٌ مِنْ الصَّلَاةِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَنْبَغِي لِمُرِيدِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَنْوِيَهُ بِقَلْبِهِ، وَيَلْفِظَ بِذَلِكَ بِلِسَانِهِ، وَيُلَبِّي فَيَقُولُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ: نَوَيْتُ الْحَجَّ وَأَحْرَمْت بِهِ لِلَّهِ تعالى لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ إلَى آخِرِ التَّلْبِيَةِ، فَهَذَا أَكْمَلُ مَا يَنْبَغِي لَهُ، فَالْإِحْرَامُ هُوَ النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ، وَهِيَ قَصْدُ الدُّخُولِ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ كِلَيْهِمَا هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وأما: اللَّفْظُ بِذَلِكَ فَمُسْتَحَبٌّ لِتَوْكِيدِ مَا فِي الْقَلْبِ كَمَا سَبَقَ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَنِيَّةِ الْوُضُوءِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْقَلْبِ لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَلْبِ دُونَ لَفْظِ اللِّسَانِ صَحَّ إحْرَامُهُ كَمَا سَبَقَ هُنَاكَ، أما: إذَا لَبَّى وَلَمْ يَنْوِ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا لَبَّى بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: "وَإِنْ لَمْ يُرِدْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ، وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ الرَّبِيعِ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا، ثُمَّ تَلَفَّظَ بِنُسُكٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَنْوِهِ فَيُجْعَلُ لَفْظُهُ تَعْيِينًا لِلْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
والطريق الثاني: حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمُتَابِعُوهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أصحهما: لَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ، والثاني يَنْعَقِدُ وَيَلْزَمُهُ مَا سَمَّى؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِالتَّسْمِيَةِ، قَالُوا: وَعَلَى هَذَا لَوْ أَطْلَقَ التَّلْبِيَةَ انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ مُطْلَقًا يَصْرِفُهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا بَلْ غَلَطٌ، قَالَ إمَامُ

 

ج / 7 ص -149-       الْحَرَمَيْنِ: لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا، قَالَ: فَإِنْ تَكَلَّفَ لَهُ مُتَكَلِّفٌ وَقَالَ: مِنْ ضَرُورَةِ تَجْرِيدِ الْقَصْدِ إلَى التَّلْبِيَةِ مَعَ انْتِفَاءِ سَائِرِ الْمَقَاصِدِ سِوَى الْإِحْرَامِ أَنْ يُجْزِئَ فِي الضَّمِيرِ، قَصْدُ الْإِحْرَامِ قلنا: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَرَضَ هَذَا فَهُوَ إحْرَامٌ بِنِيَّةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالنِّيَّةِ، قلت: وَالتَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّا سَنَذْكُرُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ الله تعالى أَنَّ الْإِحْرَامَ الْمُطْلَقَ لَا يَصِحُّ صَرْفُهُ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَاعْلَمْ: أَنَّ نَصَّهُ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ" مُحْتَاجٌ إلَى قَيْدٍ آخَرَ، وَمَعْنَاهُ لَمْ يُرِدْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، وَلَا أَصْلَ الْإِحْرَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا لَبَّى وَلَمْ يَنْوِ فَلَوْ نَوَى وَلَمْ يُلَبِّ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أَوْ أَقْوَالٍ: الصحيح: الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ والثاني لَا يَنْعَقِدُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ قَوْلًا قَدِيمًا والثالث: حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ وَتَقْلِيدِهِ وَالتَّوَجُّهِ مَعَهُ والرابع: حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَغَيْرُهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّلْبِيَةَ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلِانْعِقَادِ، فَإِنْ نَوَى وَلَمْ يُلَبِّ انْعَقَدَ وَأَثِمَ وَلَزِمَهُ دَمٌ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: الِاعْتِبَارُ بِالنِّيَّةِ، فَلَوْ لَبَّى بِحَجٍّ وَنَوَى عُمْرَةً فَهُوَ مُعْتَمِرٌ، وَإِنْ لَبَّى بِعُمْرَةٍ وَنَوَى حَجًّا فَهُوَ حَاجٌّ، وَإِنْ لَبَّى بِأَحَدِهِمَا وَنَوَى الْقِرَانَ فَقَارِنٌ، وَلَوْ لَبَّى بِهِمَا وَنَوَى أَحَدَهُمَا انْعَقَدَ مَا نَوَى فَقَطْ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا مَعَ نَظَائِرِهِ فِي نِيَّةِ الْوُضُوءِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا الْمَشْهُورَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ دُونَ التَّلْبِيَةِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالتَّلْبِيَةِ بِلَا نِيَّةٍ، وَقَالَ دَاوُد وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ التَّلْبِيَةِ قَالَ دَاوُد: وَلَا تَكْفِي النِّيَّةُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ إلَّا بِالنِّيَّةِ مَعَ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ وَاحْتُجَّ لَهُمْ"بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَبَّى.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". وَاحْتَجَّ دَاوُد لِوُجُوبِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ بِحَدِيثِ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي وَمَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ - أَوْ قَالَ بِالتَّلْبِيَةِ" - رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد، وَلَفْظُ النَّسَائِيُّ: "جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَك أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ" وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَحَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّلْبِيَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا يُحْرِمُ بِهِ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَإِنْ أَهَلَّ1 بِنُسُكٍ وَنَوَى غَيْرَهُ انْعَقَدَ مَا نَوَاهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ بِالْقَلْبِ وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ إحْرَامًا مُبْهَمًا، لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: "قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
كَيْفَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَحْسَنْتَ" وَفِي الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ "فإن لبنى بنسك" (ط).

 

ج / 7 ص -150-       "الْأُمِّ" التَّعْيِينُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَيَّنَ عَرَفَ مَا دَخَلَ فِيهِ والثاني أَنَّ الْإِبْهَامَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا عَرَضَ مَرَضٌ أَوْ إحْصَارٌ فَيَصْرِفُهُ إلَى مَا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَيَّنَ انْعَقَدَ مَا عَيَّنَهُ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَذْكُرَ مَا أَحْرَمَ بِهِ فِي تَلْبِيَتِهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ أَيُسَمِّي أَحَدُنَا حَجًّا أَوْ عُمْرَةً ؟ فَقَالَ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ، إنَّمَا هِيَ نِيَّةُ أَحَدِكُمْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ" وَلِأَنَّهُ إذَا نَطَقَ بِهِ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ السَّهْوِ، فَإِنْ أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ جَازَ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لَهُمَا فَصَرَفَهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْهُمَا".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وأما حديث أَنَسٍ وَحَدِيثُ إحْرَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَجٍّ فَصَحِيحَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَذِكْرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ احْتِجَاجُهُ بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى لِجَوَازِ إطْلَاقِ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إطْلَاقٌ وَإِبْهَامٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ تَعْلِيقُ إحْرَامِهِ بِإِحْرَامِ غَيْرِهِ. وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذِهِ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الدَّلَالَةُ لِأَنَّهُ إذَا دَلَّ بِجَوَازِ التَّعْلِيقِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ، وَمُخَالِفَةِ الْقَوَاعِدِ فَالْإِطْلَاقُ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: لِلْإِحْرَامِ حَالَانِ: أحدهما: أَنْ يَنْعَقِدَ مُعَيَّنًا بِأَنْ يَنْوِيَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَيَنْعَقِدَ مَا يَنْوِي لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّمَا الْأَعْمَالُ، بِالنِّيَّاتِ" فَلَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ انْعَقَدَتْ إحْدَاهُمَا فَقَطْ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ الْأُخْرَى، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، الثاني: أَنْ يَنْعَقِدَ مُطْلَقًا وَيُسَمَّى الْمُطْلَقُ مُبْهَمًا كَمَا نَوَى، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ أَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَهُ صَرْفُهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ، وَيَكُونُ الصَّرْفُ بِالنِّيَّةِ لَا بِاللَّفْظِ، وَلَا يُجْزِئُهُ الْعَمَلُ قَبْلَ النِّيَّةِ، فَلَوْ طَافَ أَوْ سَعَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ قَبْلَ النِّيَّةِ، وَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْأَشْهُرِ فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْعُمْرَةِ جَازَ. وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ بَعْدَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ فَوَجْهَانِ: الصحيح: لَا يَجُوزُ، بَلْ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ عُمْرَةً، والثاني يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إحْرَامُهُ قَدْ وَقَعَ مُطْلَقًا أما: إذَا صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ قَبْلَ الْأَشْهُرِ فَهُوَ كَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الْأَشْهُرِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.
المسألة الثانية: هَلْ الْأَفْضَلُ إطْلَاقُ الْإِحْرَامِ أَوْ تَعْيِينُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: نَصُّهُ في "الأم" أَنَّ التَّعْيِينَ أَفْضَلُ، والثاني نَصُّهُ في "الإملاء" أَنَّ الْإِطْلَاقَ أَفْضَلُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ فِي تَلْبِيَتِهِ بِمَا عَيَّنَهُ بِأَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِحَجٍّ أَوْ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: لَا يُسْتَحَبُّ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى النِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَصَحَّحَهُ الْأَصْحَابُ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ الْمَسْأَلَةَ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا سِوَى التَّلْبِيَةِ الْأُولَى الَّتِي عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمِّيَ فِيهَا مَا أَحْرَمَ بِهِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَجْهًا وَاحِدًا، قَالَ: وَلَا يَجْهَرُ بِهَذِهِ التَّلْبِيَةِ بَلْ يُسْمِعُهَا نَفْسَهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهَا، فَإِنَّهُ يَجْهَرُ.
المسألة الثالثة: إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ حَجًّا وَلَبَّى بِعُمْرَةٍ أَوْ عَكْسَهُ انْعَقَدَ مَا فِي قَلْبِهِ دُونَ لِسَانِهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ

 

ج / 7 ص -151-       الْمَسْأَلَةُ قَرِيبًا بِفُرُوعِهَا وَاضِحَةً.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "فَإِنْ قَالَ: إهْلَالًا كَإِهْلَالِ فُلَانٍ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِمَا عَقَدَ بِهِ فُلَانٌ إحْرَامَهُ، فَإِنْ مَاتَ الرَّجُلُ الَّذِي عَلَّقَ إهْلَالَهُ بِإِهْلَالِهِ أَوْ جُنَّ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا أَهَلَّ بِهِ، يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرِنَ لِيَسْقُطَ مَا لَزِمَهُ بِيَقِينٍ، فَإِنْ بَانَ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يُحْرِمْ انْعَقَدَ إحْرَامًا مُطْلَقًا فَيَصْرِفُهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْإِحْرَامَ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ عَيْنَ النُّسُكِ عَلَى إحْرَامِ فُلَانٍ فَإِذَا سَقَطَ إحْرَامُ فُلَانٍ بَقِيَ إحْرَامُهُ مُطْلَقًا فَيَصْرِفُهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ".
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَحْرَمَ عَمْرٌو بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زَيْدٌ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ السَّابِقِ ثُمَّ لِزَيْدٍ أَحْوَالٌ أَرْبَعَةٌ: أحدها: أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا وَيُمْكِنَ مَعْرِفَةُ مَا أَحْرَمَ بِهِ، فَيَنْعَقِدَ لِعَمْرٍو مِثْلُ إحْرَامِهِ إنْ كَانَ حَجًّا فَحَجٌّ، وَإِنْ كَانَ عُمْرَةً فَعُمْرَةٌ، وَإِنْ كَانَ قِرَانًا فَقِرَانٌ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ بِنِيَّةِ التَّمَتُّعِ كَانَ عَمْرٌو مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَتُّعُ، وَإِنْ كَانَ إحْرَامُ زَيْدٍ مُطْلَقًا، انْعَقَدَ إحْرَامُ عَمْرٍو مُطْلَقًا، وَيَتَخَيَّرُ كَمَا يَتَخَيَّرُ زَيْدٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ الصَّرْفُ إلَى مَا يَصْرِفُ إلَيْهِ زَيْدٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ تَلْزَمُهُ مُوَافَقَتُهُ فِي الصَّرْفِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَالَ الْبَغَوِيّ: إلاَّ إذَا أَرَادَ إحْرَامًا كَإِحْرَامِ زَيْدٍ بَعْدَ تَعْيِينِهِ فَيَلْزَمُهُ أما: إذَا كَانَ إحْرَامُ زَيْدٍ فَاسِدًا فَوَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُ عَمْرٍو؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَاغٍ وأصحهما: انْعِقَادُهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ نَذَرَ صَلَاةً فَاسِدَةً، هَلْ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِصَلَاةٍ صَحِيحَةٍ؟ أَمْ لَا يَنْعَقِدُ؟ وَالصَّحِيحُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ.
أما: إذَا كَانَ زَيْدٌ أَحْرَمَ مُطْلَقًا، ثُمَّ عَيَّنَهُ قَبْلَ إحْرَامِ عَمْرٍو فَوَجْهَانِ: أصحهما: يَنْعَقِدُ إحْرَامُ عَمْرٍو مُطْلَقًا، والثاني مُعَيَّنًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَفَّالِ وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ أَحْرَمَ زَيْدٌ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ عَمْرٌو مُعْتَمِرًا وَعَلَى الثَّانِي قَارِنًا وَالْوَجْهَانِ فِيمَا إذَا لَمْ يَخْطُرُ التَّشْبِيهُ بِإِحْرَامِ زَيْدٍ فِي الْحَالِ وَلَا فِي أَوَّلِهِ فَإِنْ خَطَرَ التَّشْبِيهُ لِإِحْرَامِ زَيْدٍ فِي الْحَالِ فَالِاعْتِبَارُ بِمَا خَطَرَ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ أَخْبَرَهُ زَيْدٌ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ خِلَافُهُ فَهَلْ يَعْمَلُ بِخَبَرِهِ ؟ أَمْ بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ أَقْيَسُهُمَا بِخَبَرِهِ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ فَعَمِلَ بِقَوْلِهِ فَبَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، فَقَدْ بَانَ أَنَّ إحْرَامَ عَمْرٍو كَانَ مُنْعَقِدًا بِحَجٍّ، فَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ تَحَلَّلَ وَأَرَاقَ دَمًا، وَهَلْ الدَّمُ فِي مَالِهِ أَمْ فِي مَالِ زَيْدٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الأصح: فِي مَالِهِ. مِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَيْنِ الدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، وَالْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ زَيْدٌ مُحْرِمًا أَصْلًا - فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ عَمْرٌو جَاهِلًا بِهِ - انْعَقَدَ إحْرَامُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِالْإِحْرَامِ، وَإِنْ كَانَ عَمْرٌو عَالِمًا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ بِأَنْ عَلِمَ مَوْتَهُ فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ انْعِقَادُ إحْرَامِ عَمْرٍو مُطْلَقًا، والثاني عَلَى وَجْهَيْنِ: أصحهما: هَذَا والثاني لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ ابْنِ الْقَفَّالِ وَحَكَاهُ آخَرُونَ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا فَقَدْ أَحْرَمْتُ فَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، والصواب الْأَوَّلُ. وَيُخَالِفُ قَوْلَهُ: إنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ لِأَصْلِ الْإِحْرَامِ فَلِهَذَا يَقُولُ: إنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا، فَهَذَا الْمُعَلَّقُ وَإِلَّا فَلَا، وأما: هَهُنَا فَأَصْلُ الْإِحْرَامِ مَجْزُومٌ بِهِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاحْتَجُّوا لِلْمَذْهَبِ بِصُورَتَيْنِ نُصَّ عَلَيْهِمَا في "الأم": إحداهما: لَوْ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلَانِ

 

ج / 7 ص -152-       لِيَحُجَّ عَنْهُمَا، فَأَحْرَمَ عَنْهُمَا لَمْ يَنْعَقِدْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَانْعَقَدَ عَنْ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُتَعَذَّرٌ فَلَغَتْ الْإِضَافَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ أَمْ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ - وَإِنْ كَانَ إحْدَى إجَارَتَيْ الْعَيْنِ فَاسِدَةً - إلَّا أَنَّ الْإِحْرَامَ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ الْإِجَارَةِ: الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَأَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْمُسْتَأْجِرِ لَغَتْ الْإِضَافَتَانِ، وَبَقِيَ الْإِحْرَامُ لِلْأَجِيرِ، فَلَمَّا لَغَتْ الْإِضَافَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ وَبَقِيَ أَصْلُ الْإِحْرَامِ جَازَ أَنْ يَلْغُوَهَا التَّشْبِيهُ، وَيَبْقَى أَصْلُ الْإِحْرَامِ.
الحال الثالث: أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ مُحْرِمًا، وَتَتَعَذَّرُ مُرَاجَعَتُهُ لِجُنُونٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةٌ وَهِيَ إنْ أَحْرَمَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ ثُمَّ نَسِيَهُ، قال: فِي "الْقَدِيمِ: "أُحِبُّ أَنْ يَقْرِنَ، وَإِنْ تَحَرَّى رَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَهُ، وَقَالَ في "الجديد": هُوَ قَارِنٌ، وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: الْقَطْعُ بِجَوَازِ التَّحَرِّي، وَتَأْوِيلُ "الْجَدِيدِ" عَلَى مَا إذَا شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ؟ أَمْ قَرَنَ؟ وأصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: "الْقَدِيمُ" جَوَازُ التَّحَرِّي، وَيَعْمَلُ بِظَنِّهِ، "وَالْجَدِيدُ" لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي، بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَصِيرَ نَفْسُهُ قَارِنًا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى فَإِذَا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ إحْرَامِ زَيْدٍ فَطَرِيقَانِ: أحدهما: يَكُونُ عَمْرٌو كَمَنْ نَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ، وَفِيهِ الطَّرِيقَانِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ والطريق الثاني: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، لَا يَتَحَرَّى بِحَالٍ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْقِرَانُ، وَحَكَوْهُ عَنْ نَصِّهِ فِي "الْقَدِيمِ"، وَلَيْسَ في "الجديد" مَا يُخَالِفُهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّكَّ فِي مَسْأَلَةِ النِّسْيَانِ وَقَعَ عَنْ فِعْلِهِ، فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّحَرِّي بِخِلَافِ إحْرَامِ زَيْدٍ.
فرع: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِزَيْدٍ هُوَ فِيمَا إذَا أَحْرَمَ عَمْرٌو فِي الْحَالِ بِإِحْرَامٍ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ، أَمَّا إذَا عَلَّقَ إحْرَامَهُ فَقَالَ: إذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ فَأَنَا مُحْرِمٌ فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنَا مُحْرِمٌ، هَكَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالدَّارِمِيُّ وَالشَّاشِيُّ فِي "الْمُعْتَمَدِ" فِي صِحَّةِ الْإِحْرَامِ الْمُعَلَّقِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَنَحْوِهِ وَجْهَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالدَّارِمِيُّ: أصحهما: لَا يَنْعَقِدُ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقِيَاسُ تَجْوِيزِ تَعْلِيقِ أَصْلِ الْإِحْرَامِ بِإِحْرَامِ الْغَيْرِ تَجْوِيزُ هَذَا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ إلَّا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ بِمُسْتَقْبَلٍ، وَذَاكَ تَعْلِيقٌ بِحَاضِرٍ، وَمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ مِنْ الْعُقُودِ يَقْبَلُهَا جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي "البحر": لَوْ قَالَ: أَحْرَمْتُ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ بِنُسُكٍ مُتَّفِقٍ كَانَ كَأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِعُمْرَةٍ وَالْآخِرُ بِحَجٍّ كَانَ هَذَا الْمُعَلِّقُ قَارِنًا. وَكَذَا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَارِنًا، قَالَ: فَلَوْ قَالَ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ الْكَافِرِ، وَكَانَ الْكَافِرُ قَدْ أَتَى بِصُورَةِ إحْرَامٍ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ لَهُ مَا أَحْرَمَ بِهِ الْكَافِرُ؟ أَمْ يَنْعَقِدُ مُطْلَقًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ، بَلْ الصَّوَابُ انْعِقَادُهُ مُطْلَقًا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ: أَحْرَمْتُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ انْعَقَدَ مُطْلَقًا كَالطَّلَاقِ وَلَوْ قَالَ: أَحْرَمْتُ بِنِصْفِ نُسُكٍ انْعَقَدَ بِنُسُكٍ كَالطَّلَاقِ، وَفِيمَا نَقَلَهُ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَقِدَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ وَالنِّيَّةُ الْجَارِيَةُ الْكَامِلَةُ شَرْطٌ فِيهَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ، وَيَقْبَلُ الْإِخْطَارَ وَيَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -153-       فرع: إذَا أَحْرَمَ عَمْرٌو كَإِحْرَامِ زَيْدٍ فَأُحْصِرَ زَيْدٌ وَتَحَلَّلَ، لَمْ يَجُزْ لِعَمْرٍو أَنْ يَتَحَلَّلَ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، بَلْ إنْ وُجِدَ عَمْرٌو فِي إحْصَارٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُبِيحُ لَهُ التَّحَلُّلُ تَحَلَّلَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ ارْتَكَبَ زَيْدٌ مَحْظُورًا فِي إحْرَامِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى عَمْرٍو بِذَلِكَ.
فرع: إذَا أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَقَالَ فِي نِيَّتِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ، هَذَا نَقْلُ الدَّارِمِيِّ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فِيمَنْ نَوَى الصَّوْمَ وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" الْمَسْأَلَةَ هُنَا فَقَالَ: لَوْ قَالَ: أَنَا مُحْرِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ فِي الْحَالِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ فِيهِ؟ فَقَالَ: الْفَرْقُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُؤَثِّرُ فِي النُّطْقِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي النِّيَّاتِ، وَالْعِتْقُ يَنْعَقِدُ بِالنُّطْقِ، وَلِذَلِكَ أَثَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ، وَالْإِحْرَامُ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَوَى الطَّلَاقَ أَثَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ؟ فَقَالَ: الْفَرْقُ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ النِّيَّةِ فِي الطَّلَاقِ كَالصَّرِيحِ، فَلِهَذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِحْرَامُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا وَتَنْعَقِدُ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي إحْدَاهُمَا، قَالَ في "الأم": وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلَانِ لِيَحُجَّ عَنْهُمَا فَأَحْرَمَ عَنْهُمَا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَتَعَارَضَا وَسَقَطَا، وَبَقِيَ إحْرَامٌ مُطْلَقٌ فَانْعَقَدَ لَهُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَأَحْرَمَ عَنْهُ وَعَنْ نَفْسِهِ انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ التَّعْيِينَانِ فَسَقَطَا وَبَقِيَ إحْرَامٌ مُطْلَقٌ1 فَانْعَقَدَ لَهُ".
الشرح: هَذِهِ الْمَسَائِلُ صَحِيحَةٌ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ كَمَا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَسْأَلَةِ الْإِحْرَامِ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ فِي مَسْأَلَةِ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِهِ، وَذَكَرْنَا بَعْدَهَا تَعْلِيلَ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا وأما: مَسْأَلَتَا الْأَجِيرِ فَسَبَقَتَا قَرِيبًا فِي الْحَالِ الثَّانِي مِنْ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ الَّتِي فِي تَعْلِيقِ الْإِحْرَامِ بِإِحْرَامِ زَيْدٍ، وَسَبَقَتَا أَيْضًا فِي فَصْلِ الِاسْتِئْجَارِ لِلْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ أَحْرَمَ بِنُسُكٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ نَسِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِنُسُكٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قال: في "الأم": يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرِنَ؛ لِأَنَّهُ شَكٌّ لَحِقَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْعِبَادَةِ، فَيُبْنَى فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، وقال: فِي "الْقَدِيمِ: "يَتَحَرَّى لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ بِالتَّحَرِّي فَيَتَحَرَّى فِيهِ كَالْقِبْلَةِ، فإذا قلنا: يَقْرِنُ لَزِمَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ، فَإِذَا قَرَنَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ الْحَجِّ، وَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ الْعُمْرَةِ؟ إن قلنا: يَجُوزُ إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ أَجْزَأَهُ عَنْ الْعُمْرَةِ أَيْضًا، وإن قلنا: لَا يَجُوزُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا شَكَّ لَمْ يَسْقُطْ الْفَرْضُ، والثاني أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ إنَّمَا لَا يَجُوزُ إدْخَالُهَا عَلَى الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَهَهُنَا بِهِ حَاجَةٌ إلَى إدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ وَالْمَذْهَبُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ "وبقي مطلق الإحرام" (ط).

 

ج / 7 ص -154-       الْأَوَّلُ.
فإن قلنا: إنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ الْعُمْرَةِ لَزِمَهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ قَارِنٌ، وإن قلنا: لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْعُمْرَةِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ؟. فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِأَنَّا لَمْ نَحْكُمْ لَهُ بِالْقِرَانِ فَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ، والثاني يَلْزَمُهُ دَمٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَارِنًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ احْتِيَاطًا، وَإِنْ نَسِيَ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ طَوَافِ الْقُدُومِ، فَإِنْ نَوَى الْقِرَانَ وَعَادَ قَبْلَ طَوَافِ الْقُدُومِ أَجْزَأَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَاجًّا أَوْ قَارِنًا فَقَدْ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، فَصَحَّ حَجُّهُ وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لَا يَصِحُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَيَصِحُّ فِي الْآخَرِ مَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ، فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يَصِحَّ فَلَمْ يُجْزِئْهُ وَإِنْ نَسِيَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَقَبْلَ الْوُقُوفِ فإن قلنا: إنَّ إدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لَا يَجُوزُ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْحَجُّ وَلَا الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَمِرًا فَلَا يَصِحُّ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ، فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُ الْحَجِّ مَعَ الشَّكِّ، وَلَا تَصِحُّ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِهَا أَوْ أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ الْحَجِّ1 فَلَا يَصِحُّ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَجُوزُ إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْحَجُّ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَطَافَ لَهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا، وَتَصِحُّ لَهُ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهَا عَلَى الْحَجِّ قَبْلَ الْوُقُوفِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُجْزِئَهُ الْحَجُّ طَافَ وَسَعَى لِعُمْرَتِهِ وَيَحْلِقَ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا أَوْ قَارِنًا فَلَا يَضُرُّهُ تَجْدِيدُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعْتَمِرًا فَقَدْ حَلَقَ فِي وَقْتِهِ وَصَارَ مُتَمَتِّعًا، فَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ دُونَ دَمِ الْحَلْقِ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَقَدْ حَلَقَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، فَعَلَيْهِ دَمُ الْحَلْقِ دُونَ دَمِ التَّمَتُّعِ وَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَعَلَيْهِ دَمُ الْحَلْقِ وَدَمُ الْقِرَانِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمَانِ بِالشَّكِّ، وَمَنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ دَمَانِ احْتِيَاطًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ".
الشرح: إذَا أَحْرَمَ بِنُسُكٍ، ثُمَّ نَسِيَهُ وَشَكَّ هَلْ هُوَ حَجٌّ أَمْ عُمْرَةٌ أَمْ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ؟ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْقَدِيمِ: "أُحِبُّ أَنْ يَقْرِنَ، وَإِنْ تَحَرَّى رَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَهُ. وَقَالَ فِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ: هُوَ قَارِنٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ: أحدهما: الْقَطْعُ بِجَوَازِ التَّحَرِّي، وَتَأْوِيلُ "الْجَدِيدِ" عَلَى مَا إذَا شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ أَمْ قَرَنَ؟، والطريق الثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: قَوْلُهُ "الْقَدِيمُ: "يَجُوزُ التَّحَرِّي وَيَعْمَلُ بِظَنِّهِ وأصحهما: وَهُوَ نَصُّهُ فِي "كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ" لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي بَلْ يَقْرِنُ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ في "الأم" و"الْإِمْلَاءِ"، قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: هُوَ نَصُّهُ فِي "كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ" و"الْإِمْلَاءِ" و"المختصر".
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا قُلْنَا "بِالْقَدِيمِ" تَحَرَّى، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُهُمَا بِأَمَارَةِ عَمَلٍ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي ظَنَّهُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، قَالُوا: وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، بَلْ يَعْمَلُ عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى هَذَا "الْقَدِيمِ" يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَحَرَّى، بَلْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْقَدِيمِ"، فَإِنَّهُ قَالَ فِي "الْقَدِيم"ِ: إذَا أَحْرَمَ بِنُسُكٍ، ثُمَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ "أو أحرم بها على حج".

 

ج / 7 ص -155-       نَسِيَهُ، فَأُحِبُّ أَنْ يَقْرِنَ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، قَالَ: فَإِنْ تَحَرَّى رَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَهُ إنْ شَاءَ الله تعالى، هَذَا نَصُّهُ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ عَنْ "الْقَدِيمِ"، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَإِذَا قُلْنَا "بِالْقَدِيمِ" فَتَحَرَّى فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ وَأَجْزَأَهُ ذَلِكَ النُّسُكُ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ تَفْرِيعًا عَلَى "الْقَدِيمِ"، وَحَكَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ النُّسُكُ، بَلْ فَائِدَةُ التَّحَرِّي التَّخَلُّصُ مِنْ الْإِحْرَامِ وَهَذَا إسْنَادٌ ضَعِيفٌ جِدًّا.
أَمَّا إذَا قُلْنَا: بِالْجَدِيدِ فَلِلشَّكِّ حَالَانِ: أحدهما: أَنْ يَعْرِضَ قَبْلَ عَمَلِ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَارِنٌ، قَالَ الْأَصْحَابُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْوِي الْقِرَانَ وَيَصِيرُ نَفْسُهُ قَارِنًا، وَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةٍ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجَمَاهِيرُ، وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا بِلَا نِيَّةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي "المختصر" فَقَالَ: إذَا لَبَّى بِأَحَدِهِمَا ثُمَّ نَسِيَهُ فَهُوَ قَارِنٌ، وَكَذَا لَفْظُ الْمُصَنِّفِ فِي "التنبيه" فَإِنَّهُ قَالَ: يَصِيرُ قَارِنًا، وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ نَفْسُهُ قَارِنًا بِأَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ، وَكَذَا يُتَأَوَّلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي "التنبيه".
قَالَ أَصْحَابُنَا: ثُمَّ إذَا نَوَى الْقِرَانَ، وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ تَحَلَّلَ مِنْ إحْرَامِهِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الْحَجِّ بِيَقِينٍ وَأَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ لَمْ يَضُرَّهُ تَجْدِيدُ نِيَّةِ الْعُمْرَةِ بَعْدَهُ، سَوَاءٌ قُلْنَا: يَصِحُّ إدْخَالُهَا عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، فَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِهَا جَائِزٌ فَثَبَتَ لَهُ الْحَجُّ بِلَا خِلَافٍ، وأما: الْعُمْرَةُ فَإِنْ جَوَّزْنَا إدْخَالَهَا عَلَى الْحَجِّ أَجْزَأَتْهُ أَيْضًا عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أصحهما: تُجْزِئُهُ، وَالثَّانِي لَا تُجْزِئُهُ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا وَزَيَّفَ الْأَصْحَابُ قَوْلَ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ هَذَا، وَبَالَغُوا فِي إبْطَالِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ فإن قلنا: يُجْزِئُهُ الْعَمَلُ لَزِمَهُ دَمُ الْقِرَانِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ، وإن قلنا: لَا يُجْزِئُهُ الدَّمُ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: الصحيح: لَا يَلْزَمُهُ، والثاني يَلْزَمُهُ، وَوَجْهُهُ مَعَ شِدَّةِ ضَعْفِهِ أَنَّ نِيَّةَ الْقِرَانِ وُجِدَتْ، وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلدَّمِ إلَّا أَنَّا لَمْ نَعْتَدَّ بِالْعُمْرَةِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي الدَّمِ وُجُوبُهُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال أَحْسَنُ مِنْ اسْتِدْلَالِ الْمُصَنِّفِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ قَوْلَ الْأَصْحَابِ: يَجْعَلُ نَفْسَهُ قَارِنًا. وَقَوْلَ الْمُصَنِّفِ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِجَمِيعِهِ تَحَتُّمَ وُجُوبِ الْقِرَانِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ نِيَّةُ الْحَجِّ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الْقِرَانَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، بَلْ ذَكَرَهُ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ الشَّاكُّ التَّحَلُّلَ مَعَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ النُّسُكَيْنِ، قَالَ: فَلَوْ اقْتَصَرَ بَعْدَ النِّسْيَانِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَأَتَى بِأَفْعَالِهِ حَصَلَ التَّحَلُّلُ قَطْعًا، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ الْحَجِّ، وَلَا تَبْرَأُ مِنْ الْعُمْرَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ ابْتِدَاءً بِالْحَجِّ، وَكَذَا قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ لَمْ يَنْوِ الْقِرَانَ، وَلَكِنْ قَالَ: صَرَفْتُ إحْرَامِي إلَى الْحَجِّ حُسِبَ لَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَقَدْ حُدِّدَ إحْرَامًا بِهِ فَلَا يَضُرُّهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْلَ الطَّوَافِ، قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرِيقَ دَمًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ إحْرَامَهُ كَانَ بِعُمْرَةٍ فَيَكُونُ قَارِنًا.
قَالَ: وَلَوْ قَالَ: صَرَفْتُ إحْرَامِي إلَى عُمْرَةٍ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهَا، وَإِذَا أَتَى بِأَعْمَالِهَا لَا تُحْسَبُ لَهُ الْعُمْرَةُ

 

ج / 7 ص -156-       وَلَا يَتَحَلَّلُ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِحَجٍّ أَوْ قِرَانٍ، أَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ وَأَتَى بِأَعْمَالِ الْقِرَانِ فَيَحْصُلُ لَهُ التَّحَلُّلُ بِلَا شَكٍّ، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ الْعُمْرَةِ إنْ قُلْنَا بِجَوَازِ إدْخَالِهَا عَلَى الْحَجِّ، وَإِلَّا فَلَا تَبْرَأُ مِنْهَا، وَلَا يَبْرَأُ مِنْ الْحَجِّ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِعُمْرَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ لَمْ يُجَدِّدْ إحْرَامًا بَعْدَ النِّسْيَانِ، بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى عَمَلِ الْحَجِّ حُصِلَ التَّحَلُّلُ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ الْحَجِّ وَلَا مِنْ الْعُمْرَةِ لِشَكِّهِ فِيمَا أَتَى بِهِ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى عَمَلِ عُمْرَةٍ لَمْ يَحْصُلْ التَّحَلُّلُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَلَمْ يُتِمَّ أَعْمَالَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الحال الثاني: أَنْ يَعْرِضَ الشَّكُّ بَعْدَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ النُّسُكِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْرِضَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَيُجْزِئُهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْرِمًا بِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ فَقَدْ أَدْخَلَهُ عَلَيْهَا قَبْلَ الطَّوَافِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا تُجْزِئُهُ الْعُمْرَةُ إذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ إدْخَالُهَا عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ فَأَمَّا إنْ قُلْنَا بِجَوَازِ إدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، فَيَحْصُلُ لَهُ الْعُمْرَةُ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَهُ لِأَنَّ تَقْسِيمَهُ يَقْتَضِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ فِيمَا سَبَقَ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ إدْخَالِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِهِ وَحَصَلَتْ الْعُمْرَةُ وَجَبَ دَمُ الْقِرَانِ، وَإِلَّا فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي الْكِتَابِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُمَا قَرِيبًا فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ: أصحهما: لَا دَمَ، والثاني يَجِبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا كَانَ وَقْتُ الْوُقُوفِ بَاقِيًا عِنْدَ مَصِيرِهِ قَارِنًا ثُمَّ وَقَفَ مَرَّةً ثَانِيَةً وَإِلَّا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ فَلَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ الْوُقُوفُ عَنْ الْحَجِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَتْهُ مِنْ تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ وَقْتُ الْوُقُوفِ بَاقِيًا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ صاحب "البيان" فِي كِتَابَيْهِ "الْبَيَانِ" و"مُشْكِلَاتِ المهذب"، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ أَيْضًا الرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ وَالْمَحَامِلِيِّ في "المجموع" وَالْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمْ إطْلَاقُهُمْ الْمَسْأَلَةَ مِنْ غَيْرِ تَنْبِيهٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَأَنَّهُمْ اسْتَغْنَوْا عَنْ ذِكْرِهِ بِوُضُوحِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مِنْ سِيَاقِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
والضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْرِضَ الشَّكُّ بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ الْوُقُوفِ، فَإِذَا نَوَى الْقِرَانَ وَأَتَى بِأَعْمَالِ الْقَارِنِ لَمْ يُجْزِئْهُ الْحَجُّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، فَيَمْتَنِعُ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا بَعْدَ الطَّوَافِ، وأما: الْعُمْرَةُ فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ إدْخَالِهَا عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ الطَّوَافِ أَجْزَأَتْهُ، وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ حِيلَةً لِتَحْصِيلِ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُتَمِّمَ أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ بِأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، ثُمَّ يَسْعَى، ثُمَّ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، وَيَأْتِيَ بِأَفْعَالِهِ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا صَحَّ حَجُّهُ وَأَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ لَمْ يَضُرَّهُ الْإِحْرَامُ بِهِ ثَانِيًا. وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ فَقَدْ تَحَلَّلَ مِنْهَا وَأَحْرَمَ بَعْدَهَا بِالْحَجِّ، وَصَارَ مُتَمَتِّعًا فَأَجْزَأَهُ الْحَجُّ، وَلَا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَلَمْ يُدْخِلْ الْعُمْرَةَ عَلَيْهِ، إذْ لَمْ يَنْوِ الْقِرَانَ، هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْحَدَّادِ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ فَالْحُكْمُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ قَالُوا: وَكَذَا إنْ كَانَ فَقِيهًا وَفَعَلَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ بِاجْتِهَادِهِ، فَالْحُكْمُ مَا سَبَقَ، وَأَمَّا إذَا اسْتَفْتَانَا فَهَلْ نُفْتِيهِ بِذَلِكَ؟ فِيهِ

 

ج / 7 ص -157-       وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ.
قال: الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ: لَا نُفْتِيهِ بِجَوَازِ الْحَلْقِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ أَوْ قَارِنٌ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ قَبْلَ وَقْتِهِ، هَذَا كَلَامُ أَبِي زَيْدٍ وَبِهِ قَالَ صاحب "التقريب" وَالْقَفَّالُ وَالْمَرْوَزِيُّ وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا، قَالُوا: وَهَذَا كَمَا لَوْ ابْتَلَعَتْ دَجَاجَةُ إنْسَانٍ جَوْهَرَةً لِغَيْرِهِ لَا يُفْتَى صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِذَبْحِهَا وَأَخْذِ الْجَوْهَرَةِ، وَلَكِنْ لَوْ ذَبَحَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا التَّفَاوُتُ بَيْنَ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً وَحَيَّةً، قَالُوا: وَكَذَا لَوْ تَقَابَلَتْ دَابَّتَانِ لِشَخْصَيْنِ عَلَى شَاهِقٍ وَتَعَذَّرَ مُرُورُهُمَا لَا يُفْتِي أَحَدُهُمَا بِإِهْلَاكِ دَابَّةِ الْآخَرِ، لَكِنْ لَوْ فَعَلَ وَخَلَّصَ دَابَّتَهُ لَزِمَهُ قِيمَةُ دَابَّةِ صَاحِبِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: نُفْتِيهِ بِمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ.
وَيَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ فِي الْحَالِ الَّذِي يَكُونُ حَرَامًا مُحَقِّقًا لِلْحَاجَةِ فَاسْتَبَاحَهُ هُنَا. وَلَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ مُحْرِمٌ أَوَّلًا، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ أَيْضًا لِيَحْسِبَ لَهُ فِعْلَهُ وَإِلَّا فَتَلْغُوَهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَصاحب "الشامل" وَآخَرُونَ، وَرَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ رحمه الله: قَالَ: طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ فَذَكَرَ إعَادَةَ الطَّوَافِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَ الْأَصْحَابُ وَخِلَافُ الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا الطَّوَافَ، بَلْ قَالُوا: يَسْعَى وَيَحْلِقُ فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَةِ الطَّوَافِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَى بِهِ أَوَّلًا، وَقَدْ ذَكَرَ صاحب "البيان" فِي كِتَابَيْهِ "الْبَيَانِ" و"مُشْكِلَاتِ المهذب" مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الطَّوَافُ لَا مَعْنَى، لَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ طَافَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ أَفْتَيْنَاهُ بِمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ وَمُوَافِقُوهُ أَمْ لَا نُفْتِهِ بِهِ فَفَعَلَهُ، لَزِمَهُ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ فَقَدْ حَلَقَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَإِنْ كَانَ بِعُمْرَةٍ فَقَدْ تَمَتَّعَ، فَيُرِيقُ دَمًا عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَيِّنُ الْجِهَةَ، كَمَا يُكَفِّرُ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ دَمًا وَلَا طَعَامًا صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كَصَوْمِ التَّمَتُّعِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دَمَ التَّمَتُّعِ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ دَمَ الْحَلْقِ أَجْزَأَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَيَقَعُ الْبَاقِي تَطَوُّعًا، وَلَا يُعَيِّنُ الْجِهَةَ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ، وَيَجُوزُ تَعْيِينُ التَّمَتُّعِ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى صَوْمِ ثَلَاثَةٍ هَلْ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ؟ قَالَ الرَّافِعِيُّ: مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ لَا تَبْرَأُ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَبْرَأَ، وَعَبَّرَ الْغَزَالِيُّ فِي "الوسيط" عَنْ هَذَيْنِ بِوَجْهَيْنِ، وَيُجْزِئُهُ الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِ الْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلطَّعَامِ فِي التَّمَتُّعِ وَفِدْيَةُ الْحَلْقِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلَوْ أَطْعَمَ هَلْ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ؟ فِيهِ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَالْإِمَامِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا اسْتَجْمَعَ الرَّجُلُ شُرُوطَ وُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجْمِعْهَا كَالْمَكِّيِّ لَمْ يَجِبْ الدَّمُ؛ لِأَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ مَقْصُودٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ وُجُوبِ دَمِ الْحَلْقِ، وَإِذَا جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ أَوَّلًا بِالْقِرَانِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ آخَرُ مَعَ الدَّمِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ الصحيح: لَا يَلْزَمُهُ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْرِضَ الشَّكُّ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ فَإِنْ أَتَى بِبَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ، أما: الْحَجُّ فَلِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ فَلَا يَنْفَعُهُ الْوُقُوفُ، وأما: الْعُمْرَةُ فَلِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ

 

ج / 7 ص -158-       مُحْرِمًا بِحَجٍّ، وَلَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْعُمْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ نَوَى الْقِرَانَ وَأَتَى بِأَعْمَالِ الْقَارِنِ فَإِجْزَاءُ الْعُمْرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ إدْخَالُهَا عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ؟ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقِيَاسُ الْمَذْكُورِ فِي الضَّرْبِ السَّابِقِ أَنَّهُ لَوْ أَتَمَّ أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَأَتَى بِأَعْمَالِهِ مَعَ الْوُقُوفِ أَجْزَأَهُ الْحَجُّ، وَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا سَبَقَ، وَلَوْ أَتَمَّ أَعْمَالَ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَتَى بِأَعْمَالِهَا أَجْزَأَتْهُ الْعُمْرَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَطَافَ لِلْحَجِّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ذَلِكَ وَلَا سَعْيُهُ بَعْدَهُ وَبَانَ أَنَّ حَلْقَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَيَصِيرُ بِإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ مُدْخِلًا لِلْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَيَصِيرُ قَارِنًا وَيُجْزِئُهُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ فِي الْحَجِّ عَنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِلْقِرَانِ وَدَمٌ لِلْحَلْقِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْحَجِّ تَوَضَّأَ وَأَعَادَ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دَمُ التَّمَتُّعِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ، وَلَوْ شَكَّ فِي أَيْ الطَّوَافَيْنِ كَانَ حَدَثُهُ لَزِمَهُ إعَادَةُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَإِذَا أَعَادَهُمَا صَحَّ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ قَارِنٌ أَوْ مُتَمَتِّعٌ وَيَنْوِي بِإِرَاقَتِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَلَا يُعَيِّنُ الْجِهَةَ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَجِدْ الدَّمَ فَصَامَ.
وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُرِيقَ دَمًا آخَرَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَالِقٌ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَلَوْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْعُمْرَةِ وَقُلْنَا: الْحَلْقُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ تَبَيُّنِ الْحَدَثِ فِي أَطْوَافِ الْعُمْرَةِ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَكِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُفَرَّعُ عَلَى أَصْلَيْنِ: أحدهما: جِمَاعُ النَّاسِي، هَلْ يُفْسِدُ النُّسُكَ وَيُوجِبُ الْفِدْيَةَ كَالْعَمْدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَصْلُ الثَّانِي إذَا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ بِجِمَاعٍ ثُمَّ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا هَلْ يُدْخِلُ وَيَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي فَصْلِ الْقِرَانِ: أصحهما: عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ الْحَجُّ صَحِيحًا مُجْزِئًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: نَعَمْ، وأصحهما: لَا، وَعَلَى هَذَا يَنْعَقِدُ صَحِيحًا؟ أَمْ يَفْسُدُ؟ أَمْ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، إذْ لَوْ انْعَقَدَ صَحِيحًا لَمْ يَفْسُدْ، إذْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ انْعِقَادِهِ مُفْسِدٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقِرَانِ مَبْسُوطَةً.
فإن قلنا: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ، مَضَى فِي النُّسُكَيْنِ وَقَضَاهُمَا، وإن قلنا: يَنْعَقِدُ صَحِيحًا مُجْزِئًا وَلَا يَفْسُدُ، قَضَى الْعُمْرَةَ دُونَ الْحَجِّ، وَعَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَلَا يَجِبُ لِلْإِفْسَادِ إلَّا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ إذَا حَكَمْنَا بِانْعِقَادِ حَجِّهِ فَاسِدًا: أحدهما: يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ أُخْرَى لِفَسَادِ الْحَجِّ، والثاني يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ لِلْعُمْرَةِ وَشَاةٌ لِلْحَجِّ، كَمَا لَوْ جَامَعَ ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيًا.
إذَا عَرَفْتَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَإِنْ قَالَ: كَانَ الْحَدَثُ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَاسِدَانِ، وَالْجِمَاعُ وَاقِعٌ قَبْلَ التَّحَلُّلِ، وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ، فَهَلْ يَكُونُ كَالنَّاسِي؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: نَعَمْ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ والثاني لَا: فَإِنَّهُ لَمْ تَفْسُدْ الْعُمْرَةُ، وَبِهِ صَارَ قَارِنًا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْقِرَانِ وَدَمٌ لِلْحَلْقِ قَبْلَ وَقْتِهِ إنْ كَانَ حَلَقَ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ أَفْسَدْنَا الْعُمْرَةَ فَعَلَيْهِ لِلْإِفْسَادِ بَدَنَةٌ وَلِلْحَلْقِ شَاةٌ، وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَدْ أَدْخَلَهُ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ نُدْخِلْهُ فَهُوَ فِي عُمْرَتِهِ كَمَا كَانَ فَيَتَحَلَّلُ مِنْهَا وَيَقْضِيهَا وَإِنْ أَدْخَلْنَاهُ وَقُلْنَا بِفَسَادِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْإِفْسَادِ وَدَمٌ لِلْحَلْقِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَدَمٌ لِلْقِرَانِ، وَيَمْضِي

 

ج / 7 ص -159-       فِي فَاسِدِهِمَا، ثُمَّ يَقْضِيهِمَا، وَإِنْ قَالَ: كَانَ الْحَدَثُ فِي طَوَافِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَقَدْ صَحَّ نُسُكَاهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دَمُ التَّمَتُّعِ، فَإِنْ قَالَ: لَا أَدْرِي فِي أَيْ الطَّوَافَيْنِ كَانَ، أَخَذَ فِي كُلِّ حُكْمٍ بِالْيَقِينِ وَلَا يَتَحَلَّلُ مَا لَمْ يُعِدْ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدَثَهُ كَانَ فِي طَوَافِ الْحَجِّ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إنْ كَانَا وَاجِبَيْنِ عَلَيْهِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَتَأْثِيرُ الْجِمَاعِ فِي إفْسَادِ النُّسُكَيْنِ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا فَسَادَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ إمَّا لِلتَّمَتُّعِ إنْ كَانَ الْحَدَثُ فِي طَوَافِ الْحَجِّ، وَإِمَّا لِلْحَلْقِ إنْ كَانَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْ الْعُمْرَةَ، لَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ ذَبْحُ بَدَنَةٍ وَشَاةٍ إذَا جَوَّزْنَا إدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صَارَ قَارِنًا بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ التَّلْبِيَةِ، وَيُلَبِّي عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّفَاقِ، وَفِي كُلِّ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي إذَا رَأَى رَكْبًا أَوْ صَعِدَ أَكَمَةً أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَفِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَةِ وَآخِرِ اللَّيْلِ" وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ تَرْتَفِعُ الْأَصْوَاتُ وَيَكْثُرُ الضَّجِيجُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ" وَيُسْتَحَبُّ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَمِنًى وَعَرَفَاتٍ، وَفِيمَا عَدَاهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ، قال: فِي "الْقَدِيمِ: "لَا يُلَبِّي، وقال: في "الجديد": يُلَبِّي لِأَنَّهُ مَسْجِدٌ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ فَاسْتُحِبَّ فِيهِ التَّلْبِيَةُ كَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ. وَفِي حَالِ الطَّوَافِ قال: فِي "الْقَدِيمِ: "يُلَبِّي وَيَخْفِضُ صَوْتَهُ وقال: في "الجديد": لَا يُلَبِّي؛ لِأَنَّ لِلطَّوَافِ ذِكْرًا يَخْتَصُّ بِهِ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَاجِّ1" وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ لَمْ تَرْفَعْ الصَّوْتَ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهَا الِافْتِتَانُ.
وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ" قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فَإِنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَلَا بَأْسَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَزِيدُ فِيهَا: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَةُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ" وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ قَالَ: لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ. لِمَا رُوِيَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يُصْرَفُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا هُمْ فِيهِ فَقَالَ: لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ" وَالْمُسْتَحَبُّ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ شُرِعَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتعالى، فَشُرِعَ فِيهِ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَالْأَذَانِ، ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ تعالى رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَيَسْتَعِيذُ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ، لِمَا رَوَى خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش و ق والذي في "سنن ابن ماجه" (فإنها من شعار الحج) وفي بعض نسخ "المهذب" من شعار الحاج (ط).

 

ج / 7 ص -160-       "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سَأَلَ اللَّهَ تعالى رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا أَحَبَّ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ الَّتِي زَادَهَا ابْنُ عُمَرَ مِنْ كَلَامِهِ، وَهَذَا لَفْظُ الْجَمِيعِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ" قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ1 فِيهَا: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَةُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وأما حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "جَامِعِهِ" فَقَالَ: رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ خَلَّادِ2 بْنِ السَّائِبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يَصِحُّ هَذَا، قَالَ: وَالصَّحِيحُ عَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ وَالتَّلْبِيَةِ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالنِّيَّةِ دُونَ التَّلْبِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما حَدِيثُ:
"أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ" فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه مَرْفُوعًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي "جَامِعِهِ: "مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ ضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ عَنْ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه مَرْفُوعًا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو السَّوَّاقُ عَنْ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي مُرْسَلٌ، مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ قلت: فَمَنْ ذَكَرَ فِيهِ سَعِيدًا قَالَ: هُوَ خَطَأٌ لَيْسَ فِيهِ سَعِيدٌ. قلت: ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ وَغَيْرُهُ رَوَى عَنْ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالُوا: عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي حَرِيزٍ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ فِي آخِرِهِ - وَاسْمُهُ سَهْلٌ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا بَلَغْنَا الرَّوْحَاءَ حَتَّى سَمِعْتُ عَامَّةَ النَّاسِ قَدْ بُحَّتْ أَصْوَاتُهُمْ مِنْ التَّلْبِيَةِ" فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ، قَالَ: أَبُو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الترمذي: قال الشافعي: وإن زاد في التلبية شيئا من تعظيم الله فلا بأس إن شاء الله وأحب إلى أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 ثبت في ش و ق خلاد بالتحية جلاد في المواضع كلها والصواب خلاد بالفوقية كما أثبتناه (ط).

 

ج / 7 ص -161-       حَرِيزٍ هَذَا ضَعِيفٌ. قَالَ: وَرَوَاهُ عُمَرُ بْنُ صَهْبَانَ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وأما حديث: "لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ" فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُظْهِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ - فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ، قَالَ: حَتَّى إذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يُصْرَفُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا هُمْ فِيهِ فَزَادَ فِيهَا - لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ" قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَحَسِبْت أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ. هَكَذَا رَوَيَاهُ مُرْسَلًا.
وأما حَدِيثُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ سَأَلَ اللَّهَ تعالى مَغْفِرَتَهُ، وَرِضْوَانَهُ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ" قَالَ صَالِحٌ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: وَكَانَ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَصَالِحُ بْنُ عُمَرَ هَذَا ضَعِيفٌ صَرَّحَ بِضِعْفِهِ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما أَلْفَاظُ الْفَصْلِ فَالرِّفَاقُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - جَمْعُ رُفْقَةٍ - بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا - لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرِّفَاقُ جَمْعُ رُفْقَةٍ - بِضَمِّ الرَّاءِ، وَكَسْرِهَا - وَهِيَ الْجَمَاعَةُ يَتَرَافَقُونَ فَيَنْزِلُونَ مَعًا، وَيَرْحَلُونَ مَعًا، وَيَرْتَفِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، تَقُولُ: رَافَقْتُهُ، وَتَرَافَقْنَا، وَهُوَ رَفِيقٌ، وَمُرَافِقِي، وَجَمْعُ رَفِيقٍ رُفَقَاءُ. وأما: قَوْلُهُ فِي كُلِّ صَعُودٍ وَهُبُوطٍ، فَالصَّعُودُ وَالْهُبُوطُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا - اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُصْعَدُ فِيهِ وَيُهْبَطُ مِنْهُ وَبِضَمِّهِمَا وَيَصِحُّ أَنْ يُقْرَأَ هُنَا بِالْوَجْهَيْنِ وأما: الْأَكَمَةُ - فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ - وَهِيَ دُونَ الرَّابِيَةِ وأما: الْعَجُّ فَرَفْعُ الصَّوْتِ وَالثَّجُّ إرَاقَةُ الدِّمَاءِ وقوله: فِي كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ "وَالرَّغْبَةُ إلَيْكَ" كَذَا وَقَعَ فِي "المهذب" "وَالرَّغْبَةُ" وَاَلَّذِي في "الصحيحين" وَغَيْرِهِمَا: "وَالرَّغْبَاءُ" وَفِيهَا لُغَتَانِ الرَّغْبَاءُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ - وَالرُّغْبَى - بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْقَصْرِ وَمَعْنَاهَا الرَّغْبَةُ، وَقَوْلُهُ: الْعَيْشُ عَيْشُ الْآخِرَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَيَاةَ الْهَنِيَّةَ الْمَطْلُوبَةَ الدَّائِمَةَ هِيَ حَيَاةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وأما: لَفْظُ التَّلْبِيَةِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: التَّلْبِيَةُ مُثَنَّاةٌ لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ وَمَعْنَاهُ إجَابَةً بَعْدَ إجَابَةٍ وَلُزُومًا لِطَاعَتِكَ فَثَنَّى لِلتَّوْكِيدِ لَا تَثْنِيَةً حَقِيقِيَّةً بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ قوله تعالى: "بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" أَيْ نِعْمَتَاهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْيَدِ بِالنِّعْمَةِ هُنَا، وَنِعَمُ اللَّهِ تعالى لَا تُحْصَى.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ الْبَصْرِيُّ: لَبَّيْكَ اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُثَنًّى قَالَ: وَأَلِفُهُ إنَّمَا انْقَلَبَتْ يَاءً لِاتِّصَالِهَا بِالضَّمِيرِ كَلَدَيَّ وَعَلَيَّ وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ مُثَنًّى بِدَلِيلِ قَلْبِهَا يَاءً مَعَ الْمُظْهَرِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: ثَنَّوْا لَبَّيْكَ كَمَا ثَنَّوْا حَنَانَيْكَ أَيْ تَحَنُّنًا بَعْدَ تَحَنُّنٍ، وَأَصْلُ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ فَاسْتَثْقَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ ثَلَاثِ بَاءَاتٍ فَأَبْدَلُوا مِنْ الثَّلَاثَةِ يَاءً كَمَا قَالُوا مِنْ الظَّنِّ تَظَنَّيْتُ وَالْأَصْلُ تَظَنَّنْت وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى لَبَّيْكَ وَاشْتِقَاقِهَا فَقِيلَ: مَعْنَاهَا اتِّجَاهِي وَقَصْدِي إلَيْكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَارِي تَلِبُّ دَارَكَ أَيْ تُوَاجِهُهَا، وقيل: مَعْنَاهَا مَحَبَّتِي لَكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ لَبَّةٌ إذَا كَانَتْ مُحِبَّةً وَلَدَهَا عَاطِفَةً عَلَيْهِ، وقيل: إخْلَاصِي لَكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حُبٌّ لُبَابٌ إذَا كَانَ خَالِصًا مَحْضًا وَمِنْ ذَلِكَ لُبُّ الطَّعَامِ وَلُبَابُهُ، وقيل: مَعْنَاهَا أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ وَإِجَابَتِك مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَبَّ الرَّجُلُ بِالْمَكَانِ وَأَلَبَّ إذَا أَقَامَ فِيهِ وَلَزِمَهُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَبِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ.
قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ هَذِهِ الْإِجَابَةُ لقوله تعالى لِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]

 

ج / 7 ص -162-       قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي مَعْنَى لَبَّيْكَ: أَيْ قُرْبًا مِنْكَ وَطَاعَةً وَالْإِلْبَابُ الْقُرْبُ قَالَ: أَبُو نَصْرٍ: مَعْنَاهُ أَنَا مُلَبٍّ بَيْنَ يَدَيْكَ أَيْ خَاضِعٌ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي قوله: لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ يُرْوَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ إنَّ وَفَتْحِهَا - وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ الْجُمْهُورُ: وَالْكَسْرُ أَجْوَدُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفَتْحُ رِوَايَةُ الْعَامَّةِ، قَالَ ثَعْلَبٌ: الِاخْتِيَارُ الْكَسْرُ وَهُوَ أَجْوَدُ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَسَرَ جَعَلَ مَعْنَاهُ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَمَنْ فَتَحَ قَالَ: لَبَّيْكَ لِهَذَا السَّبَبِ.
وَقَوْلُهُ: وَالنِّعْمَةَ لَكَ الْمَشْهُورُ فِيهِ نَصْبُ النِّعْمَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيَجُوزُ رَفْعُهَا مَعَ الِابْتِدَاءِ وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ خَبَرَ إنَّ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: إنَّ الْحَمْدَ لَكَ وَالنِّعْمَةَ مُسْتَقِرَّةٌ لَكَ وَقَوْلُهُ: وَسَعْدَيْكَ قَالَ الْقَاضِي: إعْرَابُهَا وَتَثْنِيَتُهَا مَا سَبَقَ فِي لَبَّيْكَ وَمَعْنَاهَا مُسَاعَدَةً لِطَاعَتِكَ بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ وَقَوْلُهُ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ أَيْ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللَّهِ تعالى وَمِنْ فَضْلِهِ وَقَوْلُهُ: الرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ مَعْنَاهُ الطَّلَبُ وَالْمَسْأَلَةُ إلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَمَلِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ الله تعالى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّلْبِيَةِ وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا فِي دَوَامِ الْإِحْرَامِ وَيُسْتَحَبُّ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا وَمَاشِيًا وَجُنُبًا وَحَائِضًا وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهَا فِي كُلِّ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ وَحُدُوثِ أَمْرٍ مِنْ رُكُوبٍ أَوْ نُزُولٍ أَوْ اجْتِمَاعِ رُفْقَةٍ أَوْ فَرَاغٍ مِنْ صَلَاةٍ وَعِنْدَ إقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَوَقْتِ السَّحَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَغَايُرِ الْأَحْوَالِ نَصَّ عَلَى هَذَا كُلِّهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا فِي الْمَسْجِدِ وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى وَمَسْجِدِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ نُسُكٍ وَفِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ قَوْلَانِ: الأصح: الْجَدِيدُ يُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ، و"القديم" لَا يُلَبِّي لِئَلَّا يُهَوِّشَ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَالْمُتَعَبِّدِينَ، ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: وَالْقَوْلَانِ فِي أَصْلِ التَّلْبِيَةِ فَإِنْ اسْتَحْبَبْنَاهَا اسْتَحْبَبْنَا رَفْعَ الصَّوْتِ بِهَا وَإِلاَّ فَلا وَجَعَلَهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ ثُمَّ قَالَ: لَمْ يُسْتَحَبَّ رَفْعُهُ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فَفِي الرَّفْعِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَجْهَانِ: "وَالْمَذْهَبُ" الْأَوَّلُ.
وَهَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ؟ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَهُمَا مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا الْأَصَحُّ الْجَدِيدُ: لَا يُلَبِّي وَالْقَدِيمُ يُلَبِّي وَلَا يَجْهَرُ وَلَا يُلَبِّي فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالْوَدَاعِ بِلَا خِلَافٍ لِخُرُوجِ وَقْتِ التَّلْبِيَةِ وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ رَفْعُ صَوْتِهِ بِالتَّلْبِيَةِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَلَا تَجْهَرُ بِهَا امْرَأَةٌ بَلْ تَقْتَصِرُ عَلَى سَمَاعِ نَفْسِهَا قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَإِنْ رَفَعَتْ صَوْتَهَا لَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ هَذَا كَلَامُ الرُّويَانِيِّ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ: لَا يَحْرُمُ لَكِنْ يُكْرَهُ صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَيَخْفِضُ الْخُنْثَى صَوْتَهُ كَالْمَرْأَةِ ذَكَرَهُ صاحب "البيان" وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقِبَ التَّلْبِيَةِ دُونَ صَوْتِهِ بِهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ يُكَرِّرَهَا وَهُوَ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ". قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِنْ زَادَ لَمْ يُكْرَهْ لِمَا سَبَقَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ صاحب "البيان": قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَغَلِطُوا بَلْ لَا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ

 

ج / 7 ص -163-       وَلَا تُسْتَحَبُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسْتَحَبُّ إذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ وَيُسْتَحَبُّ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تعالى رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ النَّارِ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا أَحَبَّ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ تَلْبِيَتِهِ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَكِنْ لَوْ سُلِّمَ عَلَيْهِ رَدَّ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في "الإملاء" وَتَابَعَهُ الْأَصْحَابُ وَيُكْرَهُ التَّسْلِيمُ عَلَيْهِ فِي حَالِ تَلْبِيَتِهِ وَمَنْ لَا يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ يُلَبِّي بِلِسَانِهِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ أَتَى بِهَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إذَا لَمْ يُحْسِنْ التَّلْبِيَةَ أُمِرَ بِالتَّعْلِيمِ وَفِي مُدَّةِ التَّعْلِيمِ يُلَبِّي بِلِسَانِ قَوْمِهِ وَهَلْ يَجُوزُ بِلُغَةٍ أُخْرَى مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّلْبِيَةِ؟ حُكْمُهُ حُكْمُ التَّسْبِيحَاتِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": تُكْرَهُ التَّلْبِيَةُ فِي مَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ.
فرع: قَالَ صاحب "الحاوي": قَالَ الشَّافِعِيُّ في "الأم": وَإِذَا لَبَّى فَأَسْتَحِبُّ أَنْ يُلَبِّيَ ثَلَاثًا قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدها: أَنْ يُكَرِّرَ قَوْلَهُ: لَبَّيْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، والثاني يُكَرِّرُ قَوْلَهُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، والثالث: يُكَرِّرُ جَمِيعَ التَّلْبِيَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ هَذَا كَلَامُهُ وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الصَّحِيحُ أَوْ الصَّوَابُ وَالْأَوَّلَانِ فَاسِدَانِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا تَغْيِيرًا لِلَّفْظِ التَّلْبِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّلْبِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ وَقَالَ صاحب "الحاوي": حُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَاجِبَةٌ قَالَ: وَزَعَمَا أَنَّهُمَا وَجَدَا لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا دَلَّ عَلَيْهِ قَالَ: وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا كَلَامُ صاحب "الحاوي"، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ قَالَ الطَّبَرِيُّ - يَعْنِي أَبَا عَلِيٍّ الطَّبَرِيَّ: لِلشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، قَالَ: وَبِهِ قَالَ ابْنُ خَيْرَانَ وَالْمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
فرع: مَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ التَّلْبِيَةِ فِي كُلِّ مَكَان وَفي"الأم"صَارِ وَالْبَرَارِيِّ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: إظْهَارُ التَّلْبِيَةِ في"الأم"صَارِ وَمَسَاجِدِهَا لَا يُكْرَهُ وَلَيْسَ لَهَا مَوْضِعٌ تَخْتَصُّ بِهِ، قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، قَالَ: وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ مَسْنُونٌ فِي الصَّحَارِي، قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُلَبِّيَ فِي الْمِصْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ حَرُمَ عَلَيْهِ حَلْقُ الرَّأْسِ لقوله تعالى:
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَيَحْرُمُ حَلْقُ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ "حَلْقٌ" يَتَنَظَّفُ بِهِ وَيَتَرَفَّهُ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ كَحَلْقِ الرَّأْسِ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا} [البقرة: 196] وَلِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ اُنْسُكْ شَاةً" وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ إلَى الْحَلَالِ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُعَمِّمَهُ أَوْ يُطَيِّبَهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ يَنْمِي وَفِي قَطْعِهِ تَرْفِيهٌ وَتَنْظِيفٌ فَمُنِعَ الْإِحْرَامُ مِنْهُ كَحَلْقِ الشَّعْرِ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ.

 

ج / 7 ص -164-       الشرح: حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَوَامُّ الرَّأْسِ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ - الْقُمَّلُ وَقَوْلُهُ: حَلْقٌ يَتَنَظَّفُ بِهِ احْتِرَازٌ مِنْ الشَّعْرِ النَّابِتِ فِي عَيْنِهِ وَقَالَ الْقَلَعِيُّ: هُوَ احْتِرَازٌ مِنْ قَلْعِهِ شَعْرَ الْحَلَالِ، وَقَوْلُهُ: جُزْءٌ يَنْمِي، قَالَ الْقَلَعِيُّ: هُوَ احْتِرَازٌ مِنْ قَطْعِ الْأُصْبُعِ الْمُتَآكِلَةِ وَجِلْدَةِ الْخِتَانِ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: فِي قَطْعِهِ تَرْفِيهٌ وَتَنْظِيفٌ احْتِرَازٌ مِنْ قَطْعِ الشَّجَرِ أَوْ الْحَشِيشِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ هَذَا كَلَامُهُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ قَطْعِ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ فَإِنَّهُ قَطْعُ جُزْءٍ يَنْمِي وَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَرْفِيهٌ وَلَا تَنْظِيفٌ، قَالَ: وَجَمْعُهُ بَيْنَ التَّرْفِيهِ وَالتَّنْظِيفِ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلِاحْتِرَازِ بَلْ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَفَاهُ، وَقَوْلُهُ: جُزْءٌ يَنْمِي هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُقَالُ: يَنْمُو لُغَتَانِ الْأُولَى أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ، نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ وَسَوَاءٌ فِي تَحْرِيمِهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الصَّبِيِّ الْمُحْرِمِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إزَالَةِ شَعْرِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَمْكِينُ الصَّبِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ إزَالَتِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِالْحَلْقِ وَلَا بِالرَّأْسِ بَلْ تَحْرُمُ إزَالَةُ الشَّعْرِ قَبْلَ وَقْتِ التَّحَلُّلِ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ شَعْرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَالْإِبْطِ وَالْعَانَةِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ وَسَوَاءٌ الْإِزَالَةُ بِالْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ وَالْإِبَانَةُ بِالنَّتْفِ أَوْ الْإِحْرَاقِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا كُلِّهِ عِنْدَنَا قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِزَالَةُ الظُّفْرِ كَإِزَالَةِ الشَّعْرِ سَوَاءٌ قَلَّمَهُ أَوْ كَسَرَهُ أَوْ قَطَعَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ مُوجِبٌ لِلْفِدْيَةِ سَوَاءٌ كُلُّ الظُّفْرِ وَبَعْضُهُ،.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ أَوْ بَعْضَ أَصَابِعِهِ وَعَلَيْهَا شَعْرٌ وَظُفْرٌ فَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُمَا تَابِعَانِ غَيْرُ مَقْصُودَيْنِ وَشَبَّهَ أَصْحَابُنَا هَذَا بِمَا لَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ صَغِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَلَزِمَ الْأُمَّ مَهْرُهَا وَلَوْ قَتَلَتْهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الْمَهْرُ لِانْدِرَاجِ الْبُضْعِ فِي الْقَتْلِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا: وَلَوْ كَشَطَ الْمُحْرِمُ جِلْدَةَ الرَّأْسِ فَلَا فِدْيَةَ وَالشَّعْرُ تَابِعٌ وَلَوْ افْتَدَى كَانَ أَفْضَلَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ مَشَطَ لِحْيَتَهُ فَنَتَفَ شَعَرَاتٍ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ فَلَوْ شَكَّ هَلْ كَانَ مُتَقَلِّعًا أَمْ اُنْتُتِفَ بِالْمُشْطِ؟ فَوَجْهَانِ وَقِيلَ قَوْلَانِ: أصحهما: لَا فِدْيَةَ لِلِاحْتِمَالِ مَعَ أَصْلِ الْبَرَاءَةِ، والثاني تَجِبُ الْفِدْيَةُ لِلظَّاهِرِ هَذَا كُلُّهُ فِي الْحَلْقِ وَالْقَلْمِ بِلَا عُذْرٍ فَإِنْ حَلَقَ لِعُذْرٍ أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ إنْ شَاءَ الله تعالى وَلَوْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ الْحَلَالِ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فرع فِي مَسَائِلَ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْحَلْقِ وَالْقَلْمِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا يُحَرِّمُ حَلْقَ جَمِيعِ شُعُورِ الْبَدَنِ وَالرَّأْسِ وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا فِدْيَةَ فِي شَعْرٍ غَيْرَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ دَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، ومنها: لَوْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ الْحَلَالِ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وقال: أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ فَعَلَ قَالَ: فَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ، دَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ومنها: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ قَلْمُ أَظْفَارِهِ وَيَجْرِي مَجْرَى حَلْقَ الرَّأْسِ هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ قَلَمَ أَظْفَارَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِكَمَالِهَا لَزِمَهُ فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ وَإِنْ قَلَّمَ مِنْ كُلِّ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَرْبَعَةَ أَظْفَارٍ أَوْ دُونَهُ لَزِمَهُ صَدَقَةٌ وَقَالَ مَالِكٌ: حُكْمُ الْأَظْفَارِ حُكْمُ الشَّعْرِ يَتَعَلَّقُ الدَّمُ بِمَا يُمِيطُ الْأَذَى وَقَالَ دَاوُد: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَلْمُ أَظْفَارِهِ كُلِّهَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ هَكَذَا نَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ عَنْهُ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ

 

ج / 7 ص -165-       الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِ قَلْمِ الظُّفْرِ فِي الْإِحْرَامِ فَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَعْتَدُّوا بِدَاوُد وَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ خِلَافٌ سَبَقَ مَرَّاتٍ.وأما حَكُّ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ فَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي إبَاحَتِهِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ جَوَازَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَاب1.
أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا لَكِنْ قَالُوا: بِرِفْقٍ لِئَلَّا يُنْتَتَفَ شَعْرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَ رَأْسَهُ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ: "
لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا" وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ مُحْرِمٍ فِي الْإِحْرَامِ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ كَالْحَالِقِ وَيَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ السِّتْرُ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُ الْمُحْدِثُ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ فِي عَيْبَةِ الْمَتَاعِ حِينَ لَمْ يَقْصِدْ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الرَّأْسِ فِي الْمَسْحِ فَعُفِيَ عَنْهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ الْقَمِيصِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمُحْرِمِ: "لَا يَلْبَس الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْخُفَّ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَيَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ" وَلَا يَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ فِي الْإِحْرَامِ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ كَالْحَلْقِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْبَسُهُ مِنْ الْخِرَقِ أَوْ الْجُلُودِ أَوْ اللُّبُودِ أَوْ الْوَرَقِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَخِيطًا بِالْإِبْرَةِ أَوْ مُلْصَقًا بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَخِيطِ وَالْعَبَاءَةُ وَالدُّرَّاعَةُ كَالْقَمِيصِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَمِيصِ.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى وَالتُّبَّانُ2 وَالرَّانُ كَالسَّرَاوِيلِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى السَّرَاوِيلِ وَإِنْ شَقَّ الْإِزَارَ وَجَعَلَ لَهُ ذَيْلَيْنِ وَشَدَّهُمَا عَلَى سَاقَيْهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا كَالسَّرَاوِيلِ وَمَا عَلَى السَّاقَيْنِ كَالْبَابكين وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ إزَارَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَهُ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ وَلَا يَعْقِدُ الرِّدَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَغْرِزَ طَرَفَيْهِ فِي إزَارِهِ وَإِنْ جَعَلَ لِإِزَارِهِ حُجْزَةً وَأَدْخَلَ فِيهَا التِّكَّةَ وَاتَّزَرَ بِهِ جَازَ وَإِنْ اتَّزَرَ وَشَدَّ فَوْقَهُ تِكَّةً جَازَ. قَالَ في"الإملاء": وَإِنْ زَرَّهُ أَوْ خَاطَهُ أَوْ شَوَّكَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمَخِيطِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا جَازَ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:
"مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ" فَإِنْ لَمْ يَجِدْ رِدَاءً لَمْ يَلْبَسْ الْقَمِيصَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْتَدِيَ بِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِالسَّرَاوِيلِ فَإِنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ ثُمَّ وَجَدَ الْإِزَارَ لَزِمَهُ خَلْعُهُ".
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ لِلْخَبَرِ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْحَلْقِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ بَعْدَ أَنْ يَقْطَعَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْكَعْبَيْنِ لِلْخَبَرِ فَإِنْ لَبِسَ الْخُفَّ مَقْطُوعًا


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ولعله "أصحاب الرأي وهو ظاهر مذهبهم" المطيعي.
2 سراويل من الجلد قصيرة فوق الركبة غالبا (المطيعي).

 

ج / 7 ص -166-       مِنْ أَسْفَلِ الْكَعْبِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالنَّعْلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَهَذَا خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَخِلَافُ السُّنَّةِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَسْحِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ إلَّا أَنَّهُ يَتَرَفَّهُ بِهِ فِي دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْأَذَى وَلِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْخُفِّ الْمُخَرَّقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُمْنَعُ مِنْ لُبْسِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ فَأَشْبَهَ الْخُفَّ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ سَتْرُ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ: "وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ" فَخَصَّ الرَّأْسَ بِالنَّهْيِ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُ الْوَجْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهْي النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنْ الثِّيَابِ" وَلْيَلْبَسْنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا اُخْتِيرَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ قَمِيصٍ أَوْ خُفٍّ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَسْتُرَ مِنْ وَجْهِهَا مَا لَا يُمْكِنُ سَتْرُ الرَّأْسِ إلَّا بِسَتْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ سَتْرُ الرَّأْسِ إلَّا بِسَتْرِهِ فَعُفِيَ عَنْ سَتْرِهِ فَإِنْ أَرَادَتْ سَتْرَ وَجْهِهَا عَنْ النَّاسِ سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا شَيْئًا لَا يُبَاشِرُ الْوَجْهَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمَاتٍ فَإِذَا حَاذَوْنَا سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابِهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَا" وَلِأَنَّ الْوَجْهَ مِنْ الْمَرْأَةِ كَالرَّأْسِ مِنْ الرَّجُلِ ثُمَّ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ سَتْرُ الرَّأْسِ مِنْ الشَّمْسِ بِمَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ فِي الْوَجْهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا لُبْسُ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَلِأَنَّ جَمِيعَ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ إلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ فَجَازَ لَهَا سَتْرُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَهَلْ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ يَجُوزُ لَهَا سَتْرُهُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ فَجَازَ لَهَا سَتْرُهُ بِالْمِخْيَطِ كَالرَّجُلِ، والثاني لَا يَجُوزُ لِلْخَبَرِ وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنْهَا فَتَعَلَّقَ بِهِ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ فِي اللُّبْسِ كَالْوَجْهِ.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأما حديث ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا يَلْبَسْ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْخُفَّ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا يَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَكَذَا وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ فِيهِ "وَلَا يَلْبَسُ الْقَبَاءَ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ مَحْفُوظَةٌ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما عَنْهُمَا وأما حديث ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنْ الثِّيَابِ وَلْيَلْبَسْنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حَرِيرٍ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ قَمِيصٍ أَوْ خُفٍّ" فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ الْمَغَازِي إلَّا أَنَّهُ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَكْثَرُ مَا أُنْكِرَ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ التَّدْلِيسُ وَإِذَا قَالَ الْمُدَلِّسُ: حَدَّثَنِي اُحْتُجَّ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ.
وأما حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمَاتٍ فَإِذَا

 

ج / 7 ص -167-       حَاذَوْنَا سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابًا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ". فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وأما: لُغَاتُ الْفَصْلِ وَأَلْفَاظُهُ فَتَخْمِيرُ الرَّأْسِ تَغْطِيَتُهُ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ فِي الْإِحْرَامِ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ احْتَرَزْنَا بِالْإِحْرَامِ عَنْ الْغِيبَةِ فِي الصِّيَامِ وَنَحْوِهَا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: مُحَرَّمُ الْإِحْرَامِ لِيَحْتَرِزَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي الْإِحْرَامِ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ. وأما: الْمِكْتَلُ - فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ - وَهُوَ الزِّنْبِيلُ وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا الزَّنْبِيلُ - بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْقُفَّةُ وَالْعَرَقُ، وَالْعَرَقُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا - وَالسَّفِيفَةُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ وَقَوْلُهُ: لَا يُمْنَعُ الْمُحْدِثُ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ فِي عَيْبَةِ الْمَتَاعِ - هِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ وِعَاءٌ يُجْعَلُ فِيهِ الثِّيَابُ وَجَمْعُهَا عِيَبٌ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْيَاءِ - كَبَدْرَةٍ وَبِدَرٍ، وَعِيَابٌ وَعِيَبَاتٌ ذَكَرَهُنَّ الْجَوْهَرِيُّ.
وأما الْبُرْنُسُ - فَبِضَمِّ الْبَاءِ وَالنُّونِ - قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَصَاحِبُ "الْمُحْكَمِ" وَغَيْرُهُمَا: الْبُرْنُسُ كُلُّ ثَوْبٍ رَأْسُهُ مِنْهُ مُلْتَزِقٌ بِهِ دُرَّاعَةٌ كَانَتْ أَوْ جُبَّةً أَوْ مِمْطَرًا وَالْمِمْطَرُ - بِكَسْرِ الْأُولَى وَفَتْحِ الطَّاءِ - مَا يُلْبَسُ فِي الْمَطَرِ يُتَوَقَّى بِهِ، وأما: الْوَرْسُ فَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ زَكَاةِ الثِّمَارِ، وقوله: مَخِيطًا بِالْإِبَرِ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ - جَمْعُ إبْرَةٍ، وأما: الْقَبَاءُ فَمَمْدُودٌ وَجَمْعُهُ أَقْبِيَةٌ وَيُقَالُ: تَقَبَّيْت الْقَبَاءَ، قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: قِيلَ: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ: وَقِيلَ: عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَبْوِ وَهُوَ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ وَأَمَّا الدُّرَّاعَةُ فَمِثْلُ الْقَمِيصِ لَكِنَّهَا ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ وَهِيَ لَفَظَّةٌ غَرِيبَةٌ وَأَمَّا التُّبَّانُ - فَبِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ مُشَدَّدَةٌ - وَهُوَ سَرَاوِيلُ قَصِيرَةٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْكَفَنِ، وأما: الرَّانّ فَكَالْخَفِّ لَكِنْ لَا قَدَمَ لَهُ وَهُوَ أَطْوَلُ مِنْ الْخُفِّ.
وقوله: وَإِنْ جَعَلَ لِإِزَارِهِ حُزَّةً وَأَدْخَلَ فِيهَا التِّكَّةَ وَاتَّزَرَ بِهِ جَازَ التِّكَّةُ - بِكَسْرِ التَّاءِ - مَعْرُوفَةٌ، وَقَوْلُهُ: حُزَّةً كَذَا وَقَعَ فِي "المهذب" وَهُوَ صَحِيحٌ يُقَالُ: حُزَّةُ السَّرَاوِيلِ وَحُجْزَةُ السَّرَاوِيلِ بِحَذْفِ الْجِيمِ وَإِثْبَاتِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ "الْمُجْمَلِ" و"الصِّحَاحِ" وَآخَرُونَ وَهِيَ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا التِّكَّةُ وَقَوْلُهُ: إنْ زَرَّهُ أَوْ خَاطَهُ أَوْ شَوَّكَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمَخِيطِ فَشَوَّكَهُ - بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ - مَعْنَاهُ خَلَّهُ بِشَوْكٍ أَوْ بِمِسَلَّةٍ وَنَحْوِهَا، وأما: الْقُفَّازَانِ فَبِقَافِ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ فَاءٌ مُشَدَّدَةٌ وَبِالزَّايِ - وَهِيَ شَيْءٌ يُعْمَلُ لِلْيَدَيْنِ يُحْشَى بِقُطْنٍ وَيَكُونُ لَهُ أَزْرَارٌ تُزَرُّ عَلَى الْكَفَّيْنِ وَالسَّاعِدَيْنِ مِنْ الْبَرْدِ وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَالْحَرَامُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ اللِّبَاسِ فِي الْإِحْرَامِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّأْسِ وَضَرْبٌ بِبَاقِي الْبَدَنِ وأما: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ سَتْرُ رَأْسِهِ لَا بِمَخِيطٍ كَالْقَلَنْسُوَةِ وَلَا بِغَيْرِهِ كَالْعِمَامَةِ وَالْإِزَارِ وَالْخِرْقَةِ وَكُلُّ مَا يُعَدُّ سَاتِرًا فَإِنْ سَتَرَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَلَوْ تَوَسَّدَ وِسَادَةً أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ انْغَمَسَ فِي مَاءٍ أَوْ اسْتَظَلَّ بِمَحْمَلِ هَوْدَجٍ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ سَوَاءٌ مَسَّ الْمَحْمَلُ رَأْسَهُ أَمْ لَا وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إذَا مَسَّ الْمَحْمَلُ رَأْسَهُ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا أَوْ بَاطِلٌ قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَمْ أَرَهُ هُنَا لِغَيْرِهِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاتِرًا وَلَوْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ زِنْبِيلًا أَوْ حِمْلًا

 

ج / 7 ص -168-       فَطَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ يَجُوزُ وَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ السَّتْرَ كَمَا لَا يُمْنَعُ الْمُحْدِثُ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ فِي مَتَاعٍ، والثاني حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ قَوْلَانِ: أصحهما: هَذَا، والثاني يَحْرُمُ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا الْبَغَوِيّ وَمِمَّنْ قَطَعَ بِتَحْرِيمِهِ أَبُو الْفَتْحِ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ في "الكفاية" وَالْمَذْهَبُ الْجَوَازُ.
وَقَالَ صاحب "الشامل": حَكَى الشَّافِعِيُّ في "الأم" عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِحَمْلِ الْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَلَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ قَالَ: وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي "الْأَشْرَافِ" عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ قَالَ صاحب "الشامل": قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا لَا نَعْرِفُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه" أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ عَلَى وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ وَحَكَى الْبَنْدَنِيجِيُّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ عَنْ نَصِّهِ في "الإملاء" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إذَا طَلَى رَأْسَهُ بِطِينٍ أَوْ حِنَّاءٍ أَوْ مَرْهَمٍ أَوْ نَحْوِهَا فَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَسْتُرُ فَلَا فِدْيَةَ وَإِنْ كَانَ ثَخِينًا سَاتِرًا فَوَجْهَانِ: الأصح: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ؛ لِأَنَّهُ سَتْرٌ وَلِهَذَا لَوْ سَتَرَ عَوْرَتَهُ بِذَلِكَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، والثاني لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاتِرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ سَتْرُ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ فِدْيَةِ الْحَلْقِ الِاسْتِيعَابُ بَلْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِسَتْرِ قَدْرٍ يُقْصَدُ سَتْرُهُ لِغَرَضٍ كَشَدِّ عِصَابَةٍ وَإِلْصَاقِ لُصُوقٍ لِشَجَّةٍ وَنَحْوِهَا هَكَذَا ضَبَطَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَدَّ خَيْطًا عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يَضُرَّهُ وَلَا فِدْيَةَ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا يَنْقُصُ مَا ضَبَطَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فَإِنْ سَتَرَ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَحْوِيهِ الْخَيْطُ قَدْ يُقْصَدُ لِمَنْعِ الشَّعْرِ مِنْ الِانْتِشَارِ وَغَيْرِهِ فَالْوَجْهُ الضَّبْطُ بِتَسْمِيَتِهِ سَاتِرَ كُلِّ الرَّأْسِ أَوْ بَعْضِهِ هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَلَا يُنْتَقَضُ مَا قَالَاهُ بِمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُمَا قَالَا: قَدْ يَقْصِدُ سَتْرَهُ وَالْخَيْطُ لَيْسَ بِسَاتِرٍ.
وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْخَيْطِ حَيْثُ جَازَ شَدُّ الرَّأْسِ بِهِ وَالْعِصَابَةِ الْعَرِيضَةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ بِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاتِرًا بِخِلَافِ الْعِصَابَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ مَا يُعْتَادُ السَّتْرُ بِهِ وَمَا لَا يُعْتَادُ كَقَلَنْسُوَةِ مُقَوَّرَةٍ وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ بِتَغْطِيَةِ الْبَيَاضِ الَّذِي وَرَاءَ الْآذَانِ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَوْ غَطَّى رَأْسَهُ بِكَفِّ غَيْرِهِ فَلَا فِدْيَةَ كَمَا لَوْ غَطَّاهُ بِكَفِّ نَفْسِهِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَذَكَرَ صَاحِبَا "الْحَاوِي" و"البحر" فِيهِ وَجْهَيْنِ: الصحيح: هَذَا، والثاني وَجَبَ الْفِدْيَةُ لِجَوَازِ السُّجُودِ عَلَى كَفِّ غَيْرِهِ بِخِلَافِ كَفِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: فِي غَيْرِ الرَّأْسِ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْمُحْرِمِ سَتْرُ مَا عَدَا الرَّأْسَ مِنْ بَدَنِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَسَنُوضِحُ تَفْصِيلَهُ إنْ شَاءَ الله تعالى قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ الْمَخِيطِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا هُوَ عَلَى قَدْرِ عُضْوٍ مِنْ الْبَدَنِ فَيَحْرُمُ كُلُّ مِخْيَطٍ بِالْبَدَنِ أَوْ بِعُضْوٍ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مَخِيطًا بِخِيَاطَةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَمَا سَنُوضِحُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى قَالَ أَصْحَابُنَا: فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَالدُّرَّاعَةِ وَالْخُفِّ وَالرَّانِّ وَنَحْوِهَا فَإِنْ لَبِسَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُخْتَارًا عَامِدًا أَثِمَ وَلَزِمَهُ

 

ج / 7 ص -169-       الْمُبَادَرَةُ إلَى إزَالَتِهِ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ قَصُرَ الزَّمَانُ أَمْ طَالَ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْبُرْنُسِ وَالْخُفِّ وَلَوْ لَبِسَ الْقَبَاءَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ أَمْ لَا، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَقْبِيَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ فِي "الْحَاوِي" وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ أَقْبِيَةِ خُرَاسَانَ ضَيِّقُ الْأَكْمَامِ قَصِيرُ الذَّيْلِ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي كُمِّهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْبِيَةِ الْعِرَاقِ وَاسِعُ الْكُمِّ طَوِيلُ الذَّيْلِ لَمْ تَجِبْ حَتَّى يُدْخِلَ يَدَيْهِ كُمَّيْهِ وَهَذَا الْوَجْهُ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: إذَا طَرَحَ الْقَبَاءَ عَلَى كَتِفَيْهِ وَأَدْخَلَهُمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: فِيهِ قَوْلَانِ وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ مُطْلَقًا وَلَوْ أَلْقَى عَلَى بَدَنِهِ قَبَاءً أَوْ فَرْجِيَّة وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنْ صَارَ عَلَى بَدَنِهِ بِحَيْثُ لَوْ قَامَ عُدَّ لَابِسَهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ قَامَ أَوْ قَعَدَ لَمْ يَسْتَمْسِكْ عَلَيْهِ إلَّا بِمَزِيدِ أَمْرٍ فَلَا فِدْيَةَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَاللُّبْسُ الْحَرَامُ الْمُوجِبُ لِلْفِدْيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُعْتَادُ فِي كُلِّ مَلْبُوسٍ فَلَوْ الْتَحَفَ بِقَمِيصٍ أَوْ ارْتَدَى بِهِمَا أَوْ اتَّزَرَ بِسَرَاوِيلَ فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لُبْسًا لَهُ فِي الْعَادَةِ فَهُوَ كَمَنْ لَفَّقَ إزَارًا مِنْ خِرَقٍ وَطَبَّقَهَا وَخَاطَهَا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لَوْ الْتَحَفَ بِقَمِيصٍ أَوْ بِعَبَاءَةٍ أَوْ إزَارٍ وَنَحْوِهَا وَلَفَّهَا عَلَيْهِ طَاقًا أَوْ طَاقَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا فِدْيَةَ وَسَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ فِي النَّوْمِ أَوْ الْيَقَظَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْمُصْحَفَ وَحَمَائِلَ السَّيْفِ وَأَنْ يَشُدَّ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ فِي وَسَطِهِ وَيَلْبَسَ الْخَاتَمَ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ هَذَا كُلِّهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا ابْنَ عُمَرَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَكَرِهَهُمَا وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ مَوْلَاهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّحْرِيمُ وَالْفِدْيَةُ عَلَى الْمَخِيطِ بَلْ سَوَاءٌ الْمَخِيطُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَضَابِطُهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ كُلُّ مَلْبُوسٍ مَعْمُولٍ عَلَى قَدْرِ الْبَدَنِ أَوْ قَدْرِ عُضْوٍ مِنْهُ بِحَيْثُ يُحِيطُ بِهِ بِخِيَاطَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ دِرْعُ الزَّرْدِ وَالْجَوْشَنُ وَالْجَوْرَبُ وَاللِّبْدُ وَالْمُلَزَّقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ سَوَاءٌ الْمُتَّخَذُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا كُلِّهِ.
فرع: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الْإِزَارَ وَيَشُدَّ عَلَيْهِ خَيْطًا وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِثْلَ الْحُجْزَةِ وَيُدْخِلَ فِيهَا التِّكَّةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْإِزَارِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَمْسِكُ إلَّا بِنَحْوِ ذَلِكَ هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِمْ وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في "الأم" وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْإِزَارِ حُجْزَةً وَيُدْخِلَ فِيهَا التِّكَّةَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالسَّرَاوِيلِ وَهَذَا نَقْلٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي "الْأَشْرَافِ" عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَعْقِدُ عَلَى إزَارِهِ وَهَذَا نَقْلٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْمَعْرُوفِ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَطُرُقِ الْأَصْحَابِ قَالَ الشَّافِعِيُّ في"الأم": وَيَعْقِدُ الْمُحْرِمُ عَلَيْهِ إزَارَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَلَاحِ الْإِزَارِ قَالَ: وَالْإِزَارُ مَا كَانَ مَعْقُودًا هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَأَوَّلَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَقْدِ الْعَقْدُ بِالْخِيَاطَةِ فَهَذَا حَرَامٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ وَالْأَصْحَابُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَهُ غَرْزُ رِدَائِهِ فِي طَرَفِ إزَارِهِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ؛

 

ج / 7 ص -170-       لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِاسْتِمْسَاكِ.
وأما عَقْدُ الرِّدَاءِ فَحَرَامٌ وَكَذَلِكَ خَلُّهُ بِخِلَالٍ أَوْ بِمِسَلَّةٍ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ رَبْطُ طَرَفِهِ إلَى طَرَفِهِ الْآخَرِ بِخَيْطٍ وَنَحْوِهِ وَكُلُّهُ حَرَامٌ مُوجِبٌ لِلْفِدْيَةِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ في "الأم" عَلَى تَحْرِيمِ عَقْدِ الرِّدَاءِ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ وَفَرَّقَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ بَيْنَ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ حَيْثُ جَازَ عَقْدُ الْإِزَارِ دُونَ الرِّدَاءِ بِأَنَّ الْإِزَارَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْعَقْدِ دُونَ الرِّدَاءِ فَعَلَى هَذَا إذَا عَقَدَهُ أَوْ رَدَّهُ أَوْ خَلَّهُ بِخَلَالٍ أَوْ مِسَلَّةٍ أَوْ جَعَلَ لَهُ شَرْجًا وَعُرًى وَرَبَطَ الشَّرْجَ بِالْعُرَى لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْجُمْهُورُ وَهُوَ مُقْتَضَى النَّصِّ السَّابِقِ فِي تَحْرِيمِ عَقْدِ الرِّدَاءِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا يَحْرُمُ عَقْدُ الرِّدَاءِ كَمَا لَا يَحْرُمُ عَقْدُ الْإِزَارِ وَبِهَذَا قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي "الْبَسِيطِ" وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ إلَّا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ قَالَ: يُكْرَهُ عَقْدُهُ فَإِنْ عَقَدَهُ فَلَا فِدْيَةَ وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَخِيطًا وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَخِيطِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسْتَمْسِكٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ عَلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ تَجْوِيزَهُ عَقْدَ الرِّدَاءِ قَالَ: وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَحَكَى صاحب "البيان" عَنْ الشَّيْخِ أَبِي نَصْرٍ صَاحِبِ "الْمُعْتَمَدِ" مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ: لَا فِدْيَةَ فِي عَقْدِ الرِّدَاءِ وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ تَحْرِيمُ عَقْدِهِ وَوُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا شَقَّ الْإِزَارَ نِصْفَيْنِ وَجَعَلَ لَهُ ذَيْلَيْنِ وَلَفَّ عَلَى كُلِّ سَاقٍ نِصْفًا وَشَدَّهُ فَوَجْهَانِ: الصحيح: الْمَنْصُوصُ في "الأم" نَصًّا صَرِيحًا وُجُوبُ الْفِدْيَةِ وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَنَقَلُوهُ أَيْضًا عَنْ نَصِّهِ في "الأم" وَتَابَعُوهُ عَلَيْهِ وَأَطْبَقَ الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ وَقَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ قَالُوا: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَثِمَ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَهَكَذَا نَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي "الْبَسِيطِ" عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالُ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: الَّذِي نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّهُ كَالسَّرَاوِيلِ قَالَ: وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا فِدْيَةَ بِمُجَرَّدِ اللَّفِّ وَعَقْدِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ إنْ كَانَتْ خِيَاطَةً أَوْ شَرْجًا وَعُرًى وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِخَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ اللَّفِّ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً كَمَا لَوْ الْتَحَفَ بِإِزَارٍ وَقَمِيصٍ وَعَبَاءَةٍ وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ شَابَهَ السَّرَاوِيلَ فِي الصُّورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ في "الإملاء": وَإِنْ زَرَّ الْإِزَارَ أَوْ شَوَّكَهُ أَوْ خَاطَهُ لَمْ يَجُزْ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ خَالَفَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ لِمَا سَبَقَ مِنْ الدَّلِيلِ.
فرع: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ بِلَا خِلَافٍ وَفِي الْمَرْأَةِ خِلَافٌ سَنُوضِحُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى وَلَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ لِسَاعِدِهِ أَوْ لِعُضْوٍ آخَرَ شَيْئًا مَخِيطًا أَوْ لِلِحْيَتِهِ خَرِيطَةً يُعَلِّقُهَا بِهَا إذَا خَضَبَهَا فَالْمَذْهَبُ تَحْرِيمُهُ وَوُجُوبُ الْفِدْيَةِ وَبِهَذَا قَطَعَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ وَالْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقُفَّازِ وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي تَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْرِيمُ الْمَلَابِسِ الْمُعْتَادَةِ وَهَذَا لَيْسَ مُعْتَادًا.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لُبْسَ الْخُفِّ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْخُفُّ

 

ج / 7 ص -171-       صَحِيحًا أَوْ مُخَرَّقًا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ، وأما: لُبْسُ الْمَدَاسِ وَالْحِمْحِمِ وَالْخُفِّ الْمَقْطُوعِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ الصحيح: بِاتِّفَاقِهِمْ تَحْرِيمُهُ وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ: "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ صاحب"البيان": قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: إذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ إلَى سَاقَيْ خُفَّيْهِ أَوْ أَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ إلَى قَرَارِ الْخُفِّ دُونَ الْأُخْرَى فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَابِسَ خُفَّيْنِ هَذَا كَلَامُهُ فأما: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ إدْخَالُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ إلَى قَرَارِ الْخُفِّ فَغَلَطٌ صَرِيحٌ بَلْ الصَّوَابُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِلَا خِلَافٍ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَصَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْمُتَوَلِّي لَوْ لَبِسَ الْخُفَّ فِي إحْدَى رِجْلَيْهِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ لِوُجُودِ مُخَالَفَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَحُصُولِ السَّتْرِ هَذَا كَلَامُ الْمُتَوَلِّي وَكَلَامُ غَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَرَامِ الْمُوجِبِ لِلْفِدْيَةِ بَيْنَ مَا يَسْتَوْعِبُ الْعُضْوَ أَوْ بَعْضَهُ كَمَا لَوْ سَتَرَ بَعْضَ رَأْسِهِ أَوْ لَبِسَ الْقَمِيصَ إلَى سُرَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِلَا خِلَافٍ وأما: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي بَابِ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ فِيمَا إذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ إلَى سَاقِ الْخُفِّ ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهَا فِي الْقَدَمِ هَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ أَمْ لَا؟ الأصح: لَا يَجُوزُ فَلَا يَكُونُ لُبْسًا فَلَا فِدْيَةَ والثاني يَجُوزُ الْمَسْحُ فَيَكُونُ لُبْسًا فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ كَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ جِرَاحَةٌ فَشَدَّ عَلَيْهَا خِرْقَةً فَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ فَلَا فِدْيَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الرَّأْسِ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ فِي الرَّأْسِ الْمَخِيطُ وَغَيْرُهُ لَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ.
فرع: قَالَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ: لَوْ لَفَّ وَسَطَهُ بِعِمَامَةٍ أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي كُمِّ قَمِيصٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَلَا فِدْيَةَ لَهُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ اللُّبْسُ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ وَسَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالصَّبِيُّ لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَا يَأْثَمُ وَيَجِبُ الْفِدْيَةُ وَهَلْ تَجِبُ فِي مَالِهِ أَمْ مَالِ الْوَالِي؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
فرع: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ عُذْرٌ فِي اللُّبْسِ فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ إحداهما: إذَا احْتَاجَ إلَى سَتْرِ رَأْسِهِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ لِعُذْرٍ كَحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ مُدَاوَاةٍ أَوْ احْتَاجَتْ الْمَرْأَةُ إلَى سَتْرِ الْوَجْهِ جَازَ السَّتْرُ وَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ لقوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الْآيَةَ.
الثانية: إذَا لَمْ يَجِدْ رِدَاءً لَمْ يَجُزْ لَهُ لُبْسُ الْقَمِيصِ بَلْ يَرْتَدِي بِهِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا وَوَجَدَ سَرَاوِيلَ نُظِرَ إنْ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ إزَارٌ لِصِغَرِهِ أَوْ لِعَدَمِ آلَةِ الْخِيَاطَةِ أَوْ لِخَوْفِ التَّخَلُّفِ عَنْ الْقَافِلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَهُ لُبْسُهُ وَلَا فِدْيَةَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ وَإِنْ تَأَتَّى مِنْهُ إزَارٌ وَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِلَا ضَرَرٍ فَهَلْ يَجُوزُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ عَلَى حَالِهِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ جَوَازُهُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ

 

ج / 7 ص -172-       وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ والثاني حَكَاهُ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: هَذَا والثاني لَا يَجُوزُ بَلْ يَتَعَيَّنُ جَعْلُهُ إزَارًا فَإِنْ لَبِسَهُ سَرَاوِيلَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الْفُورَانِيُّ وَوَجَّهَهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى السَّرَاوِيلِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّ فِي تَكْلِيفِ قَطْعِهِ مَشَقَّةً وَتَضْيِيعَ مَالٍ هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِالسَّرَاوِيلِ عَلَى هَيْئَتِهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ لَمْ يَجُزْ لُبْسُهُ عَلَى صِفَتِهِ فَإِنْ لَبِسَهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلَّيْ وَغَيْرُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ فَقَدَ الرِّدَاءَ وَوَجَدَ الْقَمِيصَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ بَلْ يَرْتَدِي بِهِ كَمَا سَبَقَ.
وَحَيْثُ جَوَّزْنَا لُبْسَ السَّرَاوِيلِ لِعَدَمِ الْإِزَارِ فَلَبِسَهُ فَلَا فِدْيَةَ وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ فَلَوْ وَجَدَ الْإِزَارَ لَزِمَهُ نَزْعُهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ أَخَّرَ أَثِمَ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ إنْ كَانَ عَالِمًا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَجَدَ السَّرَاوِيلَ وَوَجَدَ إزَارًا يُبَاعُ وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ أَوْ كَانَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ جَازَ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ قَالَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ وُهِبَ لَهُ الْإِزَارُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ بَلْ لَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ لِمَشَقَّةِ الْمِنَّةِ فِي قَبُولِهِ وَكَذَا لَوْ وُهِبَ لَهُ ثَمَنُهُ فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ وَلَدَهُ فَفِي وُجُوبِ قَبُولِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ لِبَذْلِ الْوَالِدِ الْمَالَ لِلْمَغْصُوبِ وَسَبَقَ فِي بَذْلِ ثَمَنِ الْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ مِثْلُهُ.
قَالَ الدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ: لَوْ أُعِيرَ إزَارًا لَمْ يَجُزْ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَقَدْ سَبَقَ فِي وُجُوبِ قَبُولِهِ عَارِيَّةَ الثَّوْبِ لِمَنْ يُصَلِّي فِيهِ وَجْهَانِ: الصحيح: وُجُوبُهُ وَهُنَا أَوْلَى بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ كَطُولِ زَمَانِ لُبْسِهِ هُنَا فِي الْعَادَةِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ سَرَاوِيلُ قِيمَتُهُ قِيمَةُ إزَارٍ فَقَدْ أَطْلَقَ الدَّارِمِيُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ إزَارًا إذَا أَمْكَنَهُ وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" قَالَ: إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُضِيِّ زَمَانٍ تَظْهَرُ فِيهِ عَوْرَتُهُ لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ جَازَ لُبْسُ الْمَدَاسِ وَهُوَ الْمُكَعَّبُ وَلُبْسُ خُفَّيْنِ مَقْطُوعَيْنِ مِنْ أَسْفَلِ الْكَعْبَيْنِ وَلَا فِدْيَةَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ لِفَقْدِ النَّعْلَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ النَّعْلَيْنِ وَجَبَ نَزْعُهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ أَخَّرَ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ كَمَا قُلْنَا فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ بَعْدَ وُجُودِ الْإِزَارِ والثاني يَجُوزُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي جَوَازِ لُبْسِ الْمَدَاسِ وَالْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى النَّعْلَيْنِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ الْإِبَاحَةِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَسْحِ يُنْتَقَضُ بِالْخُفِّ الْمُخَرَّقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَعَ تَحْرِيمِ لُبْسِهِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا جَازَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ لَمْ يَضُرَّ اسْتِتَارُ ظَهْرِ الْقَدَمَيْنِ بِبَاقِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْمُرَادُ بِعَقْدِ الْإِزَارِ وَالْخُفِّ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ لِعَقْدِهِ أَوْ لِعَدَمِ بَذْلِ مَالِكِهِ أَوْ عَجْزٍ عَنْ ثَمَنِهِ وَأُجْرَتِهِ وَلَوْ بِيعَ بِغَبْنٍ أَوْ نَسِيئَةٍ أَوْ وُهِبَ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَم.
فرع: هَذَا الَّذِي سَبَقَ كُلُّهُ فِي أَحْكَامِ الرِّجَالِ أما: الْمَرْأَةُ فَالْوَجْهُ فِي حَقِّهَا كَرَأْسِ الرَّجُلِ فَيَحْرُمُ سَتْرُهُ بِكُلِّ سَاتِرٍ كَمَا سَبَقَ فِي رَأْسِ الرَّجُلِ وَيَجُوزُ لَهَا سَتْرُ رَأْسِهَا وَسَائِرِ بَدَنِهَا بِالْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ كَالْقَمِيصِ وَالْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ وَتَسْتُرُ مِنْ الْوَجْهِ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ الَّذِي يَلِي الرَّأْسَ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الرَّأْسِ

 

ج / 7 ص -173-       وَاجِبٌ لِكَوْنِهِ عَوْرَةً وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ سَتْرِهِ إلَّا بِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى سَتْرِ الرَّأْسِ بِكَمَالِهِ لِكَوْنِهِ عَوْرَةً أَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَشْفِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْوَجْهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَهَا أَنْ تَسْدُلَ عَلَى وَجْهِهَا ثَوْبًا مُتَجَافِيًا عَنْهُ بِخَشَبَةٍ وَنَحْوِهَا سَوَاءٌ فَعَلَتْهُ لِحَاجَةٍ كَحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ خَوْفِ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا أَمْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنْ وَقَعَتْ الْخَشَبَةُ فَأَصَابَتْ الثَّوْبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا وَرَفَعَتْهُ فِي الْحَالِ فَلَا فِدْيَةَ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا أَوْ اسْتَدَامَتْهُ لَزِمَتْهَا الْفِدْيَةُ.
وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَحْرِيمُهُ وَهُوَ نَصُّهُ في "الأم" و"الْإِمْلَاءِ" وَيَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ والثاني لَا يَحْرُمُ وَلَا فِدْيَةَ وَلَوْ اخْتَضَبَتْ وَلَفَّتْ عَلَى يَدِهَا خِرْقَةً فَوْقَ الْخِضَابِ أَوْ لَفَّتْهَا بِلَا خِضَابٍ فَالْمَذْهَبُ لَا فِدْيَةَ وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إنْ لَمْ تَشُدَّ الْخِرْقَةَ فَلَا فِدْيَةَ وَإِلَّا فَالْقَوْلَانِ وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً فِي أَوَائِلِ هَذَا الْبَابِ عِنْدَ اسْتِحْبَابِ الْحِنَّاءِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ.
فرع: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي إحْرَامِ الْمَرْأَةِ وَلُبْسِهَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي"تعليقه": هَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ حُكْمُ الْحُرَّةِ فأما: الْأَمَةُ فَفِي عَوْرَتِهَا وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهَا كَالرَّجُلِ فَعَوْرَتُهَا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا والثاني جَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ إلَّا رَأْسَهَا وَيَدَيْهَا وَسَاقَيْهَا قَالَ: فَعَلَى هَذَا الثَّانِي فِيهِمَا وَجْهَانِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: هِيَ كَالْحُرَّةِ فِي الْإِحْرَامِ فَيَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْحُرَّةِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: وَفِي سَاقَيْهَا وَرَأْسِهَا وَجْهَانِ كَالْقُفَّازَيْنِ لِلْحُرَّةِ قَالَ: وَإِنْ قُلْنَا هِيَ كَالرَّجُلِ فَوَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهَا كَالرَّجُلِ فِي حُكْمِ الْإِحْرَامِ والثاني كَالْمَرْأَةِ قَالَ: وَإِنْ كَانَ نِصْفُهَا حُرًّا وَنِصْفُهَا رَقِيقًا فَهَلْ هِيَ كَالْأَمَةِ أَوْ كَالْحُرَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَهُوَ شَاذٌّ وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ.
فرع: أما: الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ سَتَرَ وَجْهَهُ فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ وَإِنْ سَتَرَ رَأْسَهُ فَلَا فِدْيَةَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ وَإِنْ سَتَرَهُمَا وَجَبَتْ لِتَيَقُّنِ سَتْرِ مَا لَيْسَ لَهُ سَتْرُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفُتُوحِ: فَإِنْ قَالَ: أَكْشِفُ رَأْسِي وَوَجْهِي قُلْنَا: فِيهِ تَرْكٌ لِلْوَاجِبِ قَالَ: وَلَوْ قِيلَ يُؤْمَرُ بِكَشْفِ الْوَجْهِ كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَكَشْفُ وَجْهِهِ لَا يُؤْثِرُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَهُوَ الْوَاجِبُ قَالَ صاحب"البيان": وَعَلَى قِيَاسَيْ قَوْلِ أَبِي الْفُتُوحِ إذَا لَبِسَ الْخُنْثَى قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ خُفًّا فَلَا فِدْيَةَ لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَسْتُرَ بِالْقَمِيصِ وَالْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ رَجُلًا وَيُمْكِنُهُ سَتْرُ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ هَكَذَا ذَكَرَ حُكْمَ الْخُنْثَى جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": لَا خِلَافَ أَنَّا نَأْمُرُهُ بِالسَّتْرِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ كَمَا نَأْمُرُهُ فِي صَلَاتِهِ أَنْ يَسْتَتِرَ كَالْمَرْأَةِ قَالَ: وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: لَا لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ والثاني يَلْزَمُهُ احْتِيَاطًا كَمَا يَلْزَمُهُ السَّتْرُ فِي صَلَاتِهِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -174-       وَسَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ يَقُولُ: "السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَالْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ" يَعْنِي الْمُحْرِمَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ السَّابِقَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ إلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَنْ حَدِيثَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ وَخَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُجْمَلٌ فَوَجَبَ تَرْجِيحُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ حَافِظَانِ عَدْلَانِ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا لَكِنَّ أَحَدَهُمَا زِيَادَةٌ فَوَجَبَ قَبُولُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا جَازَ لَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ وَلَا فِدْيَةَ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ وَإِنْ عَدِمَ الْإِزَارَ فَإِنْ لَبِسَهُ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَقَالَ الرَّازِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ لُبْسُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَدَلِيلُنَا حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْفَرْعِ وَالْقِيَاسُ عَلَى مَنْ عَدِمَ النَّعْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْقَمِيصِ إذَا لَمْ يَجِدْ الرِّدَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ فَلَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْإِزَارِ فَإِنَّهُ يَجِبُ لُبْسُهُ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ عَدَلَ إلَى السَّرَاوِيلِ وَلِأَنَّ السَّرَاوِيلَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَرْتَدِيَ بِالْقَمِيصِ وَإِذَا قُلْنَا: لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِالسَّرَاوِيلِ لَمْ يَجُزْ لُبْسُهُ كَمَا سَبَقَ إيضَاحُهُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُ الْقَبَاءِ سَوَاءٌ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ أَمْ لَا فَإِنْ لَبِسَهُ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِمَعْنَاهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْخِرَقِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: يَجُوزُ لُبْسُهُ إذَا لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ دَلِيلُنَا عَلَى تَحْرِيمِهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَجُلًا أَتَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْقَبَاءَ وَلَا ثَوْبًا يَمَسُّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ "الصَّحِيحِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ ذِكْرُ الْقَبَاءِ صَحِيحَةٌ مَحْفُوظَةٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْأَقْبِيَةِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَالْخُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلِأَنَّهُ مَخِيطٌ فَكَانَ مُحَرَّمًا مُوجِبًا لِلْفِدْيَةِ كَالْجُبَّةِ أما: تَشْبِيهُهُمْ إيَّاهُ بِمَنْ الْتَحَفَ بِقَمِيصٍ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى لُبْسًا فِي الْقَمِيصِ وَيُسَمَّى لُبْسًا فِي الْقَبَاءِ وَلِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي الْقَبَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ فِي الْمَحْمَلِ بِمَا شَاءَ رَاكِبًا وَنَازِلًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ" وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ تَحْتَ خَيْمَةٍ أَوْ سَقْفٍ جَازَ وَوَافَقُونَا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الزَّمَانُ يَسِيرًا فِي

 

ج / 7 ص -175-       الْمَحْمَلِ فَلَا فِدْيَةَ وَكَذَا لَوْ اسْتَظَلَّ بِيَدِهِ وَوَافَقُونَا أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ وَقَدْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِ1 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ: "صَحِبْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَمَا رَأَيْتُهُ مُضْطَرِبًا فُسْطَاطًا حَتَّى رَجَعَ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَعَنْ عُمَرَ "أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا عَلَى بَعِيرِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَدْ اسْتَظَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ فَقَالَ: اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا مِنْ مُحْرِمٍ يَضْحَى لِلشَّمْسِ حَتَّى تَغْرُبَ إلَّا غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أُمِّ الْحُصَيْنِ رضي الله عنها قَالَتْ: "حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه" وَلِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى لُبْسًا وأما حديث جَابِرٍ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ وَكَذَا فِعْلُ عُمَرَ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ وَلَوْ كَانَ فَحَدِيثُ أُمِّ الْحُصَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْمُحْرِمِ سَتْرُ وَجْهِهِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ كَرَأْسِهِ وَاحْتُجَّ لَهُمَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ:
"وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "مَا فَوْقَ الذَّقَنِ مِنْ الرَّأْسِ فَلَا يُخَمِّرْهُ الْمُحْرِمُ" رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَانُوا يُخَمِّرُونَ وُجُوهَهُمْ وَهُمْ حُرُمٌ" وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَلَكِنَّ الْقَاسِمَ لَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ وَأَدْرَكَ مَرْوَانَ وَاخْتَلَفُوا فِي إمْكَانِ إدْرَاكِهِ زَيْدًا وَرَوَى مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: "رَأَيْتُ عُثْمَانَ بِالْعَرْجِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ قَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِقَطِيفَةِ أُرْجُوَانٍ" والجواب: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ لِصِيَانَةِ رَأْسِهِ لَا لِقَصْدِ كَشْفِ وَجْهِهِ فَإِنَّهُمْ لَوْ غَطَّوْا وَجْهَهُ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يُغَطُّوا رَأْسَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَقُولَانِ: لَا يَمْتَنِعُ مِنْ سَتْرِ رَأْسِ الْمَيِّتِ وَجْهَهُ وَالشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ يَقُولُونَ: يُبَاحُ سَتْرُ الْوَجْهِ دُونَ الرَّأْسِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ وأما: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فَمُعَارَضٌ بِفِعْلِ عُثْمَانَ وَمُوَافِقِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا تَحْرِيمُ لُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَلَّدَ السَّيْفَ وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كَرَاهَتَهُ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبد الله هو ابن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث ثقة من الطبعة الرابعة من التابعين (المطيعي).

 

 

ج / 7 ص -176-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَلَا يَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ" وَيَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مُبَخَّرًا بِالطِّيبِ وَلَا ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالطِّيبِ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ قِيَاسًا عَلَى مَا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ وَإِنْ عَلِقَ بِخُفِّهِ طِيبٌ وَجَبَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ فَهُوَ كَالثَّوْبِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَهُ وَلَا أَنْ يَكْتَحِلَ بِهِ وَلَا أَنْ يَسْتَعِطَ بِهِ وَلَا يَحْتَقِنَ بِهِ فَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ ذَلِكَ فِيمَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي الثِّيَابِ فَلَأَنْ يَجِبُ فِيمَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي بَدَنِهِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الطِّيبُ فِي طَعَامٍ نَظَرْتَ فَإِنْ ظَهَرَ فِي طَعْمِهِ أَوْ رَائِحَتِهِ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي لَوْنِهِ وَصُبِغَ بِهِ اللِّسَانُ مِنْ غَيْرِ طَعْمٍ وَلَا رَائِحَةٍ فَقَدْ قَالَ فِي "المختصر" و"الْأَوْسَطِ" مِنْ الْحَجِّ: لَا يَجُوزُ وَقَالَ في "الأم" و"الْإِمْلَاءِ": يَجُوزُ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ فِي الْأَوْسَطِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ لَهُ رَائِحَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اللَّوْنَ إحْدَى صِفَاتِ الطِّيبِ فَمُنِعَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ كَالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ والثاني يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ بِالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَقَوْلُهُ: قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ إنَّمَا قَاسَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ السَّابِقِ وَقَوْلُهُ: وَإِنْ عَلِقَ بِخُفِّهِ طِيبٌ قَالَ الْفَارِقِيُّ: "وَفَرْضُ هَذَا فِي النَّعْلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّعْلَ يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ وَالْخُفُّ يَحْرُمُ لُبْسُهُ قَالَ: وَيُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ لَبِسَهُ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ" وَعَلِقَ بِهِ الطِّيبُ فَيَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ هَذَا كَلَامُهُ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ فِي النَّعْلِ وَفِي الْخُفِّ كَمَا ذَكَرَهُ وَفِيمَا لَوْ لَبِسَ خُفًّا مَقْطُوعًا لِلْعَجْزِ عَنْ النَّعْلَيْنِ وَفِيمَا لَوْ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ جَاهِلًا تَحْرِيمَهُمَا وَعَلِقَ بِهِ طِيبٌ وَهُوَ يَعْلَمُ تَحْرِيمَهُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ هُوَ أَنْ يَلْصَقَ الطِّيبُ بِبَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فِي ذَلِكَ الطِّيبِ فَلَوْ طَيَّبَ جُزْءًا مِنْ بَدَنِهِ بِغَالِيَةٍ أَوْ مِسْكٍ مَسْحُوقٍ أَوْ مَاءِ وَرْدٍ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ الْإِلْصَاقُ بِظَاهِرِ الْبَدَنِ أَوْ بَاطِنِهِ بِأَنْ أَكَلَهُ أَوْ احْتَقَنَ بِهِ أَوْ اسْتَعَطَ أَوْ اكْتَحَلَ أَوْ لَطَخَ بِهِ رَأْسَهُ أَوْ وَجْهَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ بَدَنِهِ أَثِمَ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْحُقْنَةَ وَالسَّعُوطَ فَفِيهِمَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالْمَشْهُورُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مُبَخَّرًا بِالطِّيبِ أَوْ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالطِّيبِ أَوْ عَلِقَ بِنَعْلِهِ طِيبٌ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَلَوْ عَبِقَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ دُونَ عَيْنِهِ بِأَنْ جَلَسَ فِي دُكَّانِ عَطَّارٍ أَوْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُبَخَّرُ أَوْ فِي بَيْتٍ يُبَخِّرُ سَاكِنُوهُ فَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ ثُمَّ إنْ لَمْ يَقْصِدْ الْمَوْضِعَ لِاشْتِمَامِ الرَّائِحَةِ لَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ قَصَدَ لِاشْتِمَامِهَا فَفِي كَرَاهَتِهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أصحهما: يُكْرَهُ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ وَهُوَ نَصُّهُ في "الإملاء" و"الثاني" لَا يُكْرَهُ وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِالْكَرَاهَةِ وَقَالَ: إنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ

 

ج / 7 ص -177-       وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ وَقَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْقُرْبُ مِنْ الْكَعْبَةِ لِشَمِّ الطِّيبِ قَالَ: وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي غَيْرِهَا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ الْمَذْهَبُ طَرْدُ الْخِلَافِ فِي الْجَمِيعِ وَلَوْ احْتَوَى عَلَى مِجْمَرَةٍ فَتَبَخَّرَ بِالْعُودِ بَدَنُهُ أَوْ ثِيَابُهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ اسْتِعْمَالًا وَلَوْ مَسَّ طِيبًا يَابِسًا كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالذَّرِيرَةِ فَإِنْ عَلِقَ بِيَدِهِ لَوْنُهُ وَرِيحُهُ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ هَكَذَا يَكُونُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ عَيْنِهِ لَكِنْ عَبِقَتْ بِهِ الرَّائِحَةُ فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ قَوْلَانِ: الأصح: عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ هُوَ نَصُّهُ فِي "الْأَوْسَطِ" لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهَا عَنْ مُجَاوِرَةٍ فَأَشْبَهَ مَنْ قَعَدَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُبَخَّرُ والثاني تَجِبُ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَهُوَ في "الأم" و"الْإِمْلَاءِ" وَالْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهَا عَنْ مُبَاشَرَةٍ.
وَإِنْ كَانَ الطِّيبُ رَطْبًا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ رَطْبٌ وَقَصَدَ مَسَّهُ فَعَلِقَ بِيَدِهِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَابِسٌ فَمَسَّهُ فَعَلِقَ بِيَدِهِ فَقَوْلَانِ: أحدهما: تَجِبُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مَسَّهُ قَاصِدًا فَصَارَ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ رَطْبٌ والثاني لَا؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَصَارَ كَمَنْ رُشَّ عَلَيْهِ مَاءُ وَرْدٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِي نَصُّهُ في "الجديد" وَالْأَوَّلُ هُوَ "الْقَدِيمُ" وَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ صاحب "التقريب" قَالَ الرَّافِعِيُّ: رَجَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ الْوُجُوبَ وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ عَدَمَ الْوُجُوبِ قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ نَصُّهُ في "الجديد" وَلِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ فِي اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ نَاسِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ شَدَّ مِسْكًا أَوْ كَافُورًا أَوْ عَنْبَرًا فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ أَوْ جُبَّتِهِ أَوْ لَبِسَتْهُ الْمَرْأَةُ حَشْوًا بِشَيْءٍ مِنْهَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُهُ وَلَوْ شَدَّ الْعُودَ فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَطَيُّبًا بِخِلَافِ شَدِّ الْمِسْكِ وَلَوْ شَمَّ الْوَرْدَ فَقَدْ تَطَيَّبَ وَلَوْ شَمَّ مَاءَ الْوَرْدِ فَلَا بَلْ اسْتِعْمَالُهُ أَنْ يَصُبَّهُ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ وَلَوْ حَمَلَ مِسْكًا أَوْ طِيبًا فِي كِيسٍ أَوْ خِرْقَةٍ مَشْدُودًا أَوْ قَارُورَةٍ مُصَمَّمَةِ الرَّأْسِ أَوْ حَمَلَ الْوَرْدَ فِي وِعَاءٍ فَلَا فِدْيَةَ نَصَّ عَلَيْهِ في "الأم" وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَشُمُّ قَصْدًا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلَوْ حَمَلَ مِسْكًا فِي قَارُورَةٍ غَيْرِ مَشْقُوقَةٍ فَلَا فِدْيَةَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَنَقَلَهُ عَنْ الْأَصْحَابِ وَلَوْ كَانَتْ الْقَارُورَةُ مَشْقُوقَةً أَوْ مَفْتُوحَةَ الرَّأْسِ قَالَ الْأَصْحَابُ: وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ طِيبًا وَلَوْ جَلَسَ عَلَى فِرَاشٍ مُطَيَّبٍ أَوْ أَرْضٍ مُطَيَّبَةٍ أَوْ نَامَ عَلَيْهَا مُفْضِيًا إلَيْهَا بِبَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلَوْ فَرَشَ فَوْقَهُ ثَوْبًا ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ لَمْ تَجِبْ الْفِدْيَةُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في "الأم" وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. لَكِنْ إنْ كَانَ الثَّوْبُ رَقِيقًا كُرِهَ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ دَاسَ بِنَعْلِهِ طِيبًا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ.
فرع: لَوْ خَفِيَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ أَوْ الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ لِمُرُورِ الزَّمَانِ أَوْ لِغُبَارٍ وَغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَاحَتْ رَائِحَتُهُ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَلَوْ انْغَمَرَ شَيْءٌ مِنْ الطِّيبِ فِي غَيْرِهِ كَمَاءِ وَرْدٍ انْمَحَقَ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ تَجِبْ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فَلَوْ انْغَمَرَتْ الرَّائِحَةُ وَبَقِيَ اللَّوْنُ أَوْ الطَّعْمُ فَفِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى فِي الطَّعَامِ الْمُطَيَّبِ أما: إذَا أَكَلَ طَعَامًا فِيهِ زَعْفَرَانٌ أَوْ طِيبٌ آخَرُ أَوْ اسْتَعْمَلَ مَخْلُوطًا بِالطِّيبِ لَا لِجِهَةِ الْأَكْلِ

 

ج / 7 ص -178-       فَيُنْظَرُ إنْ اُسْتُهْلِكَ الطِّيبُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ رِيحٌ وَلَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ فَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ بَقِيَتْ الرَّائِحَةُ فَقَطْ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ طِيبًا وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَحْدَهُ فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ: أصحهما: عَلَى قَوْلَيْنِ: أصحهما: لَا فِدْيَةَ وَهُوَ نَصُّهُ في "الأم" و"الْإِمْلَاءِ" و"الْقَدِيمِ" والثاني يَجِبُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْأَوْسَطِ" والطريق الثاني: لَا فِدْيَةَ قَطْعًا.
وَإِنْ بَقِيَ الطَّعْمُ فَقَطْ فَثَلَاثُ طُرُقٍ ذَكَرَهَا صاحب "الشامل" و"الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُمَا أصحهما: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ قَطْعًا وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ كَالرَّائِحَةِ والثاني فِيهِ طَرِيقَانِ: والثالث: لَا فِدْيَةَ وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ. وَحَكَى الْبَنْدَنِيجِيُّ طَرِيقًا رَابِعًا لَا فِدْيَةَ قَطْعًا وَلَوْ أَكَلَ الحليحلتين الْمُرَبَّى فِي الْوَرْدِ نُظِرَ فِي اسْتِهْلَاكِ الْوَرْدِ فِيهِ وَعَدَمِهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَجِيءُ فِيهِ هَذَا التَّفْصِيلُ أَطْلَقَ الدَّارِمِيُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ وَرْدٌ ظَاهِرٌ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: لَوْ أَكَلَ الْعُودَ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَطْيِيبًا إلَّا بِالتَّبَخُّرِ بِهِ بِخِلَافِ الْمِسْكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ كَانَ الْمُحْرِمُ أَخَشْمَ لَا يَجِدُ رَائِحَةً فَاسْتَعْمَلَ الطِّيبَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ فَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ كَمَا لَوْ نَتَفَ شَعْرَ لِحْيَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ شُعُورِهِ الَّتِي لَا يَنْفَعُهُ نَتْفُهَا وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ الْمُتَوَلِّي وَصَاحِبَا "الْعِدَّةِ" و"الْبَيَانِ".
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": قَالَ الشَّافِعِيُّ في "الأم": وَإِنْ لَبِسَ إزَارًا مُطَيَّبًا لَزِمَتْهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِلطِّيبِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْإِزَارِ مُبَاحٌ قَالَ: وَإِنْ جَعَلَ عَلَى رَأْسِهِ الْغَالِيَةَ لَزِمَهُ فِدْيَتَانِ إحْدَاهُمَا لِلطِّيبِ وَالثَّانِيَةُ لِتَغْطِيَتِهِ رَأْسَهُ وَهُمَا جِنْسَانِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ هَذَا نَقْلُ الْقَاضِي وَكَذَا نَقَلَهُ غَيْرُهُ قَالَ الدَّارِمِيُّ: لَوْ لَبِسَ إزَارًا غَيْرَ مُطَيَّبٍ وَلَبِسَ فَوْقَهُ إزَارًا آخَرَ مُطَيَّبًا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِيهِ وَجْهَانِ يَعْنِي هَلْ تَجِبُ فِيهِ فِدْيَةٌ أَمْ فِدْيَتَانِ؟ الْأَصَحُّ فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْإِزَارِ مُبَاحٌ وَلَوْ طَبَّقَ أُزُرًا كَثِيرَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ جَازَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالطِّيبُ كُلُّ مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ وَالصَّنْدَلِ وَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَفِي الرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَالْمَرْزَنْجُوشِ وَاللِّينُوفَرِ وَالنَّرْجِسِ قَوْلَانِ: أحدهما: يَجُوزُ شَمُّهَا لِمَا رَوَى عُثْمَانُ رضي الله عنه "أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحْرِمِ يَدْخُلُ الْبُسْتَانَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ"؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَهَا رَائِحَةٌ إذَا كَانَتْ رَطْبَةً فَإِذَا جَفَّتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَائِحَةٌ والثاني لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلرَّائِحَةِ فَهُوَ كَالْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانِ وأما: الْبَنَفْسَجُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ هُوَ بِطِيبٍ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هُوَ طِيبٌ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ تُشَمُّ رَائِحَتُهُ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الدُّهْنُ فَهُوَ كَالْوَرْدِ وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمُرَبَّبِ بِالسُّكَّرِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ بِطِيبٍ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلتَّدَاوِي وَلَا يُتَّخَذُ مِنْ يَابِسِهِ طِيبٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ كَالنِّرْجِسِ وَالرِّيحَانِ وَفِيهِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ يُشَمُّ رَطْبُهُ وَلَا يُتَّخَذُ مِنْ يَابِسِهِ طِيبٌ.

 

ج / 7 ص -179-       وأما: الْأُتْرُجُّ فَلَيْسَ بِطِيبٍ [لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلْأَكْلِ فَهُوَ كَالتُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ1 وَأَمَّا الْعُصْفُرُ فَلَيْسَ بِطِيبٍ] لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "وَلِيَلْبَسْنَ مَا أَحْبَبْنَ مِنْ الْمُعَصْفَرِ"؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلَّوْنِ فَهُوَ كَاللَّوْنِ2 وَالْحِنَّاءُ لَيْسَ بِطِيبٍ لِمَا رُوِيَ: "أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ" وَلِأَنَّهُ يُرَادُ لِلَّوْنِ فَهُوَ كَالْعُصْفُرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْأَدْهَانَ الْمُطَيِّبَةَ كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالزَّنْبَقِ وَدُهْنِ الْبَانِ الْمَنْشُوشِ وَتَجِبُ بِهَا الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلرَّائِحَةِ وأما: غَيْرُ الْمُطَيِّبِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالْبَانِ غَيْرِ الْمَنْشُوشِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ وَلَا تَزْيِينٌ وَلَا3 يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا فِي شَعْرِ اللِّحْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يُرَجِّلُ الشَّعْرَ وَيُزَيِّنُهُ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ فَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ أَصْلَعُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَزْيِينٌ وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ مَحْلُوقٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُحَسِّنُ الشَّعْرَ إذَا نَبَتَ وَيَجُوزُ أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَ الْعَطَّارِ وَفِي مَوْضِعٍ يُبَخَّرُ؛ لِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَطَيُّبٍ مَقْصُودٍ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَقَّى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ قُرْبَةٍ كَالْجُلُوسِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجَمَّرُ فَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ عِنْدَهَا قُرْبَةٌ فَلَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهَا لِأَمْرٍ مُبَاحٍ وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ الطِّيبَ فِي خِرْقَةٍ أَوْ قَارُورَةٍ وَالْمِسْكَ فِي نَافِجَةٍ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دُونَهُ حَائِلًا وَإِنْ مَسَّ طِيبًا فَعَبِقَتْ بِهِ رَائِحَتُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رَائِحَةٌ مِنْ مُجَاوَرَةٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمٌ كَالْمَاءِ إذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ بِجِيفَةٍ بِقُرْبِهِ والثاني يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الطِّيبِ هُوَ الرَّائِحَةُ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَأَرَادَ غَسْلَهُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ غَسْلَهُ حَتَّى لَا يُبَاشِرَهُ بِيَدِهِ فَإِنْ غَسَلَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ غَسْلَهُ تَرْكٌ لَهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ كَمَا لَوْ دَخَلَ دَارَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ وَإِنْ حَصَلَ عَلَيْهِ طِيبٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ بِغَيْرِ الْمَاءِ وَهُوَ مُحْدِثٌ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِي الطِّيبَ وَالْوُضُوءَ غَسَلَ بِهِ الطِّيبَ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَهُ بَدَلٌ وَغَسْلُ الطِّيبِ لَا بَدَلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ وَالطِّيبُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْحَجِّ.
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ "وَلْيَلْبَسْنَ مَا أَحْبَبْنَ" فَسَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي فَصْلِ تَحْرِيمِ اللِّبَاسِ وأما: الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُثْمَانَ فَغَرِيبٌ وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ في "صحيحه" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ تَعْلِيقًا بِغَيْرِ إسْنَادٍ أَنَّهُ قَالَ: "يَشُمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَتَدَاوَى بِأَكْلِ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ الْمُتَّصِلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا لِلْمُحْرِمِ بِشَمِّ الرَّيْحَانِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَكْسَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ فَرَوَى بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ أحدهما: عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ شَمَّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ والثاني عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَسْأَلُ عَنْ الرَّيْحَانِ أَيَشُمُّهُ الْمُحْرِمُ وَالطِّيبِ وَالدُّهْنِ؟ فَقَالَ: لَا وأما قَوْلُهُ: إنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُنَّ يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ" فَغَرِيبٌ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي "الْأَشْرَافِ" بِغَيْرِ إسْنَادٍ وَإِنَّمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الْحِنَّاءِ وَالْخِضَابِ فَقَالَتْ: "كَانَ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم لَا يُحِبُّ رِيحَهُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهِ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَ بِطِيبٍ فَقَدْ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الطِّيبَ وَلَا يُحِبُّ رِيحَ الْحِنَّاءِ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط).
2 في بعض نسخ "المهذب" فهو كالنيل.
3 كذا في ش و ق والواضح من كلام الشارح وبعض نسخ "المهذب" حذف (لا) لثبوت الحرمة (ط).

 

ج / 7 ص -180-       أَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْل: فَالْيَاسَمِينُ وَالْيَاسَمُونُ إنْ شِئْتَ أَعْرَبْتَهُ بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْإِعْرَابَ فِي النُّونِ وأما: الْوَرْسُ فَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ زَكَاةِ الثِّمَارِ وأما: الرَّيْحَانُ الْفَارِسِيُّ فَهُوَ الضُّمَيْرَانُ وأما: الْمَرْزَنْجُوشُ - فَمِيمٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ رَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ زَايٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ نُونٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ جِيمٌ مَضْمُومَةٌ ثُمَّ وَاوٌ ثُمَّ شِينٌ مُعْجَمَةٌ - وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الطِّيبِ يُشْبِهُ الْغِسْلَةَ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ - وَالْعَوَامُّ يُصَحِّفُونَهُ وأما: اللِّينُوفَرُ فَهَكَذَا هُوَ فِي "المهذب" - بِلَامَيْنِ - وَذَكَرَ أَبُو حَفْصِ بْنُ مَكِّيٍّ الصَّقَلِّيُّ الْإِمَامُ فِي كِتَابِهِ "تَثْقِيفُ اللِّسَانِ" أَنَّهُ إنَّمَا يُقَالُ: نَيْلَوْفَر - بِفَتْحِ النُّونِ وَاللَّامِ وَنَيْنَوْفَر بِنُونَيْنِ مَفْتُوحَيْنِ وَلَا يُقَالُ نَيْنَوْفَر - بِكَسْرِ النُّونِ - وَجَعَلَهُ مِنْ لَحْنِ الْعَوَامّ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَهَا رَائِحَةٌ إذَا كَانَتْ رَطْبَةً فَإِذَا جَفَّتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَائِحَةٌ يَعْنِي فَلَا يَكُونُ طِيبًا؛ لِأَنَّ الطِّيبَ هُوَ مَا قُصِدَ بِهِ الطِّيبُ رَطْبًا وَيَابِسًا وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّ رَائِحَتَهَا تَخْتَصُّ بِحَالِ الرُّطُوبَةِ.
قَوْلُهُ: وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ - هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالشِّينِ - قَوْلُهُ: الْأُتْرُجُّ هُوَ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ إسْكَانِ التَّاءِ بَيْنَهُمَا وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ - وَيُقَالُ تُرُنْجٌ حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ وَآخَرُونَ وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَأَمَّا الْحِنَّاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَالْوَاحِدَةُ حِنَّاءَةٌ كَقِثَّاءٍ وَقِثَّاءَةٍ قَوْلُهُ: كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالزَّنْبَقِ هُوَ - بِفَتْحِ الزَّايِ ثُمَّ نُونٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ قَافٌ - وَهُوَ دُهْنُ الْيَاسَمِينِ الْأَبْيَضِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي "صِحَاحِهِ": هُوَ دُهْنُ الْيَاسَمِينِ فَلَمْ يَخُصَّهُ بِالْأَبْيَضِ وَهُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ قَوْلُهُ: دُهْنُ الْبَانِ الْمَنْشُوشِ هُوَ - بِالنُّونِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْمُكَرَّرَةِ وَمَعْنَاهُ الْمَغْلِيُّ بِالنَّارِ وَهُوَ يُغْلَى بِالْمِسْكِ قَوْلُهُ: الْكَعْبَةُ وَهِيَ تُجَمَّرُ - بِالْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ - أَيْ تَبَخَّرُ قَوْلُهُ: الْمِسْكُ فِي نَافِجَةٍ هِيَ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ وَالْجِيمِ - وَهِيَ وِعَاؤُهُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي تُلْقِيهِ الظَّبْيَةُ قَوْلُهُ: عَبِقَتْ رَائِحَتُهُ هُوَ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - أَيْ فَاحَتْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا - رحمهم الله -: يُشْتَرَطُ فِي الطِّيبِ الَّذِي يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمُ الْغَرَضِ مِنْهُ الطِّيبَ وَاتِّخَاذَ الطِّيبِ مِنْهُ أَوْ يَظْهَرَ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ هَذَا ضَابِطُهُ ثُمَّ فَصَّلُوهُ فَقَالُوا: الْأَصْلُ فِي الطِّيبِ الْمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ وَالْكَافُورُ وَالْعُودُ وَالصَّنْدَلُ وَالذَّرِيرَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَالْكَافُورُ صَمْغُ شَجَرٍ مَعْرُوفٍ وَأَمَّا النَّبَاتُ الَّذِي لَهُ رَائِحَةٌ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يُطْلَبُ لِلتَّطْيِيبِ وَاتِّخَاذِ الطِّيبِ مِنْهُ كَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْخَيْرِيِّ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ وَنَحْوِهَا فَكُلُّ هَذَا طِيبٌ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا شَاذًّا فِي الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْخَيْرِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ طِيبًا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: نَصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ عَلَى الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ وَنَبَّهْنَا بِهِمَا عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُمَا وَمَا فَوْقَهُمَا. كَالْمِسْكِ ومنها: مَا يُطْلَبُ لِلْأَكْلِ أَوْ لِلتَّدَاوِي غَالِبًا كَالْقُرُنْفُلِ وَالدَّارَصِينِيّ وَالْفُلْفُلِ وَالْمَصْطَكَى وَالسُّنْبُلِ وَسَائِرِ الْفَوَاكِهِ كُلُّ هَذَا وَشِبْهُهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فَيَجُوزُ أَكْلُهُ وَشَمُّهُ وَصَبْغُ الثَّوْبِ بِهِ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ سَوَاءٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إلَّا الْقُرُنْفُلِ فَإِنَّ صاحب "البيان" حَكَى فِيهِ وَجْهَيْنِ: أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ والثاني قَوْلُ الصَّيْمَرِيِّ أَنَّهُ طِيبٌ قَالَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ومنها مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُرَادُ لِلطِّيبِ كَنَوْرِ أَشْجَارِ الْفَوَاكِهِ كَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالْكُمَّثْرَى

 

ج / 7 ص -181-       وَالسَّفَرْجَلِ وَكَالشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَشَقَائِقِ النُّعْمَانِ وَالْإِذْخِرِ وَالْخُزَامِي وَسَائِرِ أَزْهَارِ الْبَرَارِيِّ فَكُلُّ هَذَا لَيْسَ بِطِيبٍ فَيَجُوزُ أَكْلُهُ وَشَمُّهُ وَصَبْغُ الثَّوْبِ بِهِ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ ومنها: مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ كَالنِّرْجِسِ وَالْمَرْزَنْجُوشِ وَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَالْآسِ وَسَائِرِ الرَّيَاحِينِ فَفِيهَا طَرِيقَانِ حَكَاهَا الْبَنْدَنِيجِيُّ: أصحهما: عِنْدَهُ أَنَّهَا طِيبٌ قَوْلًا وَاحِدًا والطريق الثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرهمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا الصحيح "الْجَدِيدُ" أَنَّهَا طِيبٌ مُوجِبَةٌ لِلْفِدْيَةِ "والقديم" لَيْسَتْ بِطِيبٍ وَلَا فِدْيَةَ وَمِمَّنْ ذَكَرَ كُلَّ الرَّيَاحِينِ فِي هَذَا النَّوْعِ وَحَكَى فِيهَا الْقَوْلَيْنِ الْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصاحب "البيان".
وأما اللِّينُوفَرُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَالنِّرْجِسِ فَيَكُونُ فِيهِ الْقَوْلَانِ: "الجديد" تَحْرِيمُهُ "والقديم" إبَاحَتُهُ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ والثاني أَنَّهُ طِيبٌ قَوْلًا وَاحِدًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَقَطَعَ الْمُصَنِّفُ فِي التنبيه بِأَنَّهُ لَيْسَ1 بِطِيبٍ وَهُوَ شَاذٌّ وَضَعِيفٌ وأما: الْبَنَفْسَجُ فَفِيهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ مَشْهُورَةٍ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ: أصحها: أَنَّهُ طِيبٌ والثاني أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ فِي "التنبيه" والثالث: فِيهِ قَوْلَانِ فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّهُ طِيبٌ فَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ الَّذِي حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ تَأْوِيلَيْنِ: أحدهما: مَحْمُولٌ عَلَى الْمُرَبَّى بِالسُّكَّرِ الَّذِي ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ والثاني أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَنَفْسَجِ الْبَرِّيِّ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عَادَةُ كُلِّ بَلَدٍ فِيمَا يُتَّخَذُ طِيبًا قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ وَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ.
فرع: الْحِنَّاءُ وَالْعُصْفُرُ لَيْسَا بِطِيبٍ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا وَلَا فِدْيَةَ فِيهَا كَيْفَ اسْتَعْمَلَهُمَا وَقَالَ صَاحِبُ "الْإِبَانَةِ": قَالَ الشَّافِعِيُّ، لَوْ اخْتَضَبَتْ الْمَرْأَةُ بِالْحِنَّاءِ وَلَفَّتْ عَلَى يَدِهَا خِرْقَةً فَعَلَيْهَا2 الْكَفَّارَةُ قَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَيْسَ بِطِيبٍ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي لَفِّ الْخِرْقَةِ كَالْقَوْلَيْنِ فِي الْقُفَّازَيْنِ هَذَا كَلَامُهُ وَكَذَا قَالَ شَارِحُ الْإِبَانَةِ هُوَ وَصَاحِبُ "الْعِدَّةِ": الْحِنَّاءُ هَلْ هُوَ طِيبٌ أَمْ لَا؟ قِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ وَقِيلَ: لَيْسَ بِطِيبٍ قَطْعًا وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي حَكَيَاهُ غَلَطٌ وَالْمَشْهُورُ وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الْخِرَقِ الْمَلْفُوفَةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي أَنْوَاعٍ مِنْ النَّبَاتِ غَرِيبَةٍ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْأَصْحَابِ منها: الْكَاذِي - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ طِيبٌ قَوْلًا وَاحِدًا كَالْمِسْكِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ نَبَاتٌ يُشْبِهُ السَّوْسَنَ وَمِمَّنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ طِيبٌ الْمَاوَرْدِيُّ وَصاحب "البيان" ومنها: اللُّفَّاحُ ذَكَرَ الْمَحَامِلِيُّ وَالْقَاضِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال المصنف في "التنبيه": ومحرم عليه الطيب في ثيابه وبدنه ويحرم عليه شم الأدهان المطيبة وأكل ما فيه من طيب ظاهر وشم الرياحين كالورد والياسمين والورس والزعفران ويجوز له شم النيلوفر والبنفسج وفي الريحان الفارسي قولان ا هـ فأنت ترى أنه لم يذكر النرجس ولعله سقط من النسخة المطبوعة الآن في الأسواق وهذه إحدى رزايا طبع الكتب بغير تحقيق من أهل هذا الفن (ط).
2 كذا بالأصل فليحرر ونرى أن السقط: الكفارة لأنه أشبه القفاز قال: وأما - والقول هنا لصاحب "الإبانة" - الحناء فمنهم الخ (ط).

 

ج / 7 ص -182-       أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "الْعِدَّةِ" أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَالنِّرْجِسِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلَانِ فِي النَّمَّامِ - بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ - وَهُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ قَالَ: وَيَجْرِيَانِ فِي السَّوْسَنِ وَالْبَرَمِ وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: النَّمَّامُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَالنِّرْجِسِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ قَطْعًا كَالْبُقُولِ قَالَ الدَّارِمِيُّ: الْأُتْرُجُّ وَالنَّارِنْجُ لَيْسَا بِطِيبٍ قَالَ: وَأَمَّا قُشُورُهُمَا فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَتْ بِطِيبٍ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فِيهِ قَوْلَانِ كَالرَّيْحَانِ هَذَا كَلَامُهُ وَهُوَ غَرِيبٌ وَالصَّوَابُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ طِيبًا.
فرع: حَبُّ الْمَحْلَبِ قَالَ الدَّارِمِيُّ: لَيْسَ هُوَ بِطِيبٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا وَفِيمَا قَالَهُ احْتِمَالٌ.
فرع: الْأَدْهَانُ ضَرْبَانِ: أحدهما: دُهْنٌ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلَا فِيهِ طِيبٌ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ وَالزُّبْدِ وَدُهْنِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَنَحْوِهَا فَهَذَا لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ إلَّا فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَوْ كَانَ أَصْلَعَ لَا تُنْبِتُ رَأْسُهُ شَعْرًا فَدَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ أَمْرَدَ فَدَهَنَ ذَقَنَهُ فَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مَحْلُوقَ الرَّأْسِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَةِ خُرَاسَانَ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الْعِرَاقِيِّينَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني لَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ بِهِ شَعَثٌ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالْفُورَانِيِّ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ هَذَا الدُّهْنِ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ غَيْرَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ سَوَاءٌ شَعْرُهُ وَبَشَرُهُ وَعَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَجَّةٌ فَجَعَلَ هَذَا الدُّهْنَ فِي دَاخِلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ شَعْرًا فَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَصاحب "الشامل" وَآخَرُونَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ طَلَى شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِلَبَنٍ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ وَإِنْ اُسْتُخْرِجَ مِنْهُ السَّمْنُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدُهْنٍ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ قَالَ: وَأَمَّا الشَّحْمُ وَالشَّمْعُ إذَا أُذِيبَا فَهُمَا كَالدُّهْنِ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ تَرْجِيلُ شَعْرِهِ بِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: دُهْنٌ هُوَ طِيبٌ فَمِنْهُ دُهْنُ الْوَرْدِ وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وقيل: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَأَشَارَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمِنْهُ دُهْنُ الْبَنَفْسَجِ فَإِنْ لَمْ تَجِبْ الْفِدْيَةُ فِي نَفْسِ الْبَنَفْسَجِ فَدُهْنُهُ أَوْلَى وَإِلَّا فَكَدُهْنِ الْوَرْدِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: ثُمَّ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ مَا طُرِحَ فِيهِ الْوَرْدُ وَالْبَنَفْسَجُ فَهُوَ دُهْنُهُمَا وَلَوْ طُرِحَا عَلَى السِّمْسِمِ فَأَخَذَ رَائِحَتَهُ ثُمَّ اُسْتُخْرِجَ مِنْهُ الدُّهْنُ قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا فِدْيَةَ فِيهِ وَخَالَفَهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فَأَوْجَبَهَا.
وَمِنْهُ الْبَانُ وَدُهْنُهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طِيبٌ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِطِيبٍ وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ خِلَافًا مُحَقَّقًا بَلْ هُمَا مَحْمُولَانِ عَلَى تَفْصِيلٍ حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَذْهَبِ" و"التَّهْذِيبِ" وَهُوَ أَنَّ دُهْنَ الْبَانِ الْمَنْشُوشِ وَهُوَ الْمَغْلِيُّ فِي الطِّيبِ طِيبٌ وَغَيْرُ الْمَنْشُوشِ لَيْسَ بِطِيبٍ هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَقَدْ قَالَ: بِالتَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ "المهذب" و"التَّهْذِيبِ" جَمَاعَاتٌ غَيْرُهُمَا مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَصاحب "البيان" وَآخَرُونَ وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَمِنْهُ دُهْنُ الزَّنْبَقِ وَالْخَيْرِيِّ وَالْكَاذِي وَهَذَا كُلُّهُ طِيبٌ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما دُهْنُ الْأُتْرُجِّ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: أحدهما: أَنَّهُ طِيبٌ وَبِهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ؛

 

ج / 7 ص -183-       لِأَنَّ قِشْرَهُ يُرْبَى بِهِ الدُّهْنُ كَالْوَرْدِ والثاني لَيْسَ بِطِيبٍ؛ لِأَنَّ الْأُتْرُجَّ لَيْسَ بِطِيبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَأْكُولٌ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ.
فرع: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْلِسَ الْمُحْرِمُ عِنْدَ عَطَّارٍ وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ يُبَخَّرُ وَالْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَسَبَقَ فِيهِ أَيْضًا حُكْمُ حَمْلِ الطِّيبِ فِي قَارُورَةٍ وَخِرْقَةٍ وَحَمْلِ نَافِجَةِ الْمِسْكِ وَسَبَقَ فِيهِ أَيْضًا بَيَانُ الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ مَسَّ طِيبًا فَعَلِقَتْ بِهِ رَائِحَتُهُ وَأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: مَتَى لَصِقَ الطِّيبُ بِبَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ بِأَنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ أَلْقَتْهُ رِيحٌ عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْمُبَادَرَةُ بِإِزَالَتِهِ بِأَنْ يُنَحِّيَهُ أَوْ يَغْسِلَهُ أَوْ يُعَالِجَهُ بِمَا يَقْطَعُ رِيحَهُ قَالَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ لَوْ حَتَّهُ حَتَّى ذَهَبَ أَثَرُهُ كَفَاهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ الْأَصْحَابُ: الْأَوْلَى يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِإِزَالَتِهِ وَلَا يُبَاشِرُهُ بِنَفْسِهِ فَإِنْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَإِنْ أَخَّرَ إزَالَتَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ فَإِنْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ فَلَا فِدْيَةَ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى التَّطَيُّبِ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَلَوْ لَصِقَ بِهِ طِيبٌ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ لَزِمَهُ أَيْضًا الْمُبَادَرَةُ إلَى إزَالَتِهِ فَإِنْ أَخَّرَهُ عَصَى وَلَا تَتَكَرَّرُ بِهِ الْفِدْيَةُ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَا يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ أَوْ إزَالَةِ الطِّيبِ وَلَا يَكْفِيه لَهُمَا وَهُوَ مُحْدِثٌ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَةُ الطِّيبِ بِغَيْرِ الْمَاءِ غَسَلَ الطِّيبَ؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ وَيَتَيَمَّمُ هَكَذَا أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ الْمَسْأَلَةَ وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ وَيَجْمَعَهُ ثُمَّ يَغْسِلَ بِهِ الطِّيبَ فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَجَبَ فِعْلُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً فِي بَابِ التَّيَمُّمِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَطِيبٌ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا غَسْلُ أَحَدِهِمَا غَسَلَ النَّجَاسَةَ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ شِرَى الطِّيبِ كَمَا لَا يُكْرَهُ شِرَى الْمَخِيطِ وَالْجَارِيَةِ.
فرع: يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَحَّلَ بِمَا فِيهِ طِيبٌ فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ جَازَ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَلَهُ الِاكْتِحَالُ بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وأما: الْكَرَاهَةُ فَنَقَلَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَنَصَّ في "الإملاء" عَلَى كَرَاهَتِهِ فَقِيلَ قَوْلَانِ والأصح: أَنَّهُ عَلَى حَالَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ كَالتُّوتِيَاءِ الْأَبْيَضِ لَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِينَةٌ كَالْإِثْمِدِ كُرِهَ إلَّا لِحَاجَةٍ كَرَمَدٍ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الطِّيبَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَبَخَّرَ أَوْ يَجْعَلَهُ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا يَنْفُضُ الطِّيبَ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَبَخَّرَ بِالْعُودِ وَالنِّدِّ وَلَا يَجُوزُ أَنَّ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى ظَهْرِ ثَوْبِهِ فَإِنْ جَعَلَهُ فِي بَاطِنِهِ - وَكَانَ الثَّوْبُ لَا يَنْفُضُ - فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَنْفُضُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ دَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ مَا يَنْفُضُ وَغَيْرَهُ.
فرع: الْحِنَّاءُ لَيْسَ بِطِيبٍ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ وَلَا فِدْيَةَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: طِيبٌ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ.

 

ج / 7 ص -184-       فرع: إذَا لَبِسَ ثَوْبًا مُعَصْفَرًا فَلَا فِدْيَةَ وَالْعُصْفُرُ لَيْسَ بِطِيبٍ هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ وَعَطَاءٍ قَالَ: وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمِمَّنْ تَبِعَهُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ نَفَضَ عَلَى الْبَدَنِ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ وَإِلاَّ وَجَبَتْ صَدَقَةٌ دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
فرع: إذَا حَصَلَ الطِّيبُ فِي مَطْبُوخٍ أَوْ مَشْرُوبٍ - فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ - فَلَا فِدْيَةَ فِي أَكْلِهِ وَإِنْ بَقِيَتْ رَائِحَتُهُ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِأَكْلِهِ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا فِدْيَةَ وَدَلِيلُنَا أَنَّ مَقْصُودَ الطِّيبِ هُوَ التَّرَفُّهُ بَاقٍ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الزَّيْتَ وَالشَّيْرَجَ وَالسَّمْنَ وَالزُّبْدَ وَنَحْوَهَا مِنْ الْأَدْهَانِ غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَدَنِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ وَشَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْهُنَ بِهَا أَعْضَاءَهُ الظَّاهِرَةَ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَيَجُوزُ دَهْنُ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ مَا يُوَارَى بِاللِّبَاسِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كَقَوْلِنَا فِي السَّمْنِ وَالزُّبْدِ وَخَالَفَنَا فِي الزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ فَقَالَ: يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ وَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ فَلَا فِدْيَةَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ سَوَاءٌ يَدَيْهِ وَرَأْسِهِ وَقَالَ دَاوُد: يَجُوزُ دَهْنُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَبَدَنِهِ بِدُهْنٍ غَيْرِ مُطَيِّبٍ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ الزَّاهِدِ رحمه الله عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ادَّهَنَ بِزَيْتٍ غَيْرِ مُقَتَّتٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَفَرْقَدٌ غَيْرُ قَوِيٍّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ فَرْقَدٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَقَوْلُهُ: غَيْرِ مُقَتَّتٍ أَيْ غَيْرِ مُطَيَّبٍ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَى حَدِيثٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي جَاءَ الشَّرْعُ بِهِ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُ فَلَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَنْ حَرَّمَهُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ أما: مَنْ أَبَاحَهُ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ فِي تَحْرِيمِ الرَّيَاحِينِ قَوْلَيْنِ: الأصح: تَحْرِيمُهُ وَوُجُوبُ الْفِدْيَةِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَقُولَانِ: يَحْرُمُ وَلَا فِدْيَةَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتُلِفَ فِي الْفِدْيَةِ عَنْ عَطَاءٍ وَأَحْمَدَ وَمِمَّنْ جَوَّزَهُ - وَقَالَ: هُوَ حَلَالٌ لَا فِدْيَةَ فِيهِ - عُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُ جُلُوسِ الْمُحْرِمِ عِنْدَ الْعَطَّارِ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: وَأَوْجَبَ عَطَاءٌ فِيهِ الْفِدْيَةَ وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ.
فرع: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ الزَّيْتَ وَالشَّحْمَ وَالشَّيْرَجَ وَالسَّمْنَ قَالَ: وَأَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَهُ دَهْنُ بَدَنِهِ بِالزَّيْتِ وَالشَّحْمِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -185-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَأَنْ يُزَوِّجَ غَيْرَهُ بِالْوَكَالَةِ وَبِالْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ فَإِنْ تَزَوَّجَ أَوْ زَوَّجَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِمَا رَوَى عُثْمَانُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ" وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُحَرِّمُ الطِّيبَ فَحَرَّمَتْ النِّكَاحَ كَالْعِدَّةِ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَ بِوِلَايَةِ الْحُكْمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَ بِالْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ والثاني يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ آكَدُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ أَنْ يُزَوِّجَ الْمُسْلِمَةَ وَالْكَافِرَةَ وَلَا يَمْلِكَ ذَلِكَ بِالْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ فِي النِّكَاحِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالْوَلِيِّ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ[هُوَ]الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالشَّاهِدُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَتُكْرَهُ لَهُ الْخِطْبَةُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ فَكُرِهَتْ الْخِطْبَةُ لَهُ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَ الزَّوْجَةَ فِي الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ كَاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَتَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ الرَّجْعَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ فَلَمْ يَمْنَعْ الْإِحْرَامُ مِنْهُ كَالْبَقَاءِ عَلَى الْعَقْدِ".
الشرح: حَدِيثُ عُثْمَانَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ: لَا يَنْكِحُ - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ - أَيْ لَا يَتَزَوَّجُ والثاني بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يُزَوِّجُ غَيْرَهُ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"وَلَا يَخْطِبُ" مَعْنَاهُ لَا يَخْطِبُ الْمَرْأَةَ وَهُوَ طَلَبُ زَوَاجِهَا هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً وأما: قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِقِيِّ فِي كِتَابِهِ "فَوَائِدُ الْمَذْهَبِ" الْمُرَادُ بِهِ الْخُطْبَةُ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْ الْعَقْدِ وَهِيَ الْحَمْدُ لِلَّهِ إلَخْ فَغَلَطٌ صَرِيحٌ وَخَطَأٌ فَاحِشٌ وَلَا أَدْرِي مَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا الَّذِي تَعَسَّفَهُ وَتَجَاسَرَ عَلَيْهِ لَوْلَا خَوْفِي مِنْ اعْتِرَاضِ بَعْضِ الْمُتَفَقِّهِينَ بِهِ لِمَا اسْتَجَزْتُ حِكَايَتَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَ مَوْلِيَّتَهُ بِالْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ الْعُصُوبَةُ وَالْوَلَاءُ وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَوْ الزَّوْجَةُ أَوْ الْوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُ الزَّوْجِ أَوْ وَكِيلُ الْوَلِيِّ مُحْرِمًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَوْ الْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ؟ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحها: لَا يَجُوزُ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ دُونَ الْقَاضِي وَحَكَاهُ أَيْضًا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالدَّارِمِيُّ وَآخَرُونَ.
وَهَلْ يَجُوزُ كَوْنُ الْمُحْرِمِ شَاهِدًا فِي الْعَقْدِ؟ وَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: الصحيح: بِاتِّفَاقِ الْمُصَنِّفِينَ يَجُوزُ وَيَنْعَقِدُ بِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ في "الأم" وَقَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ والثاني لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْعَقِدُ قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ بِرِوَايَةٍ جَاءَتْ: "
لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَشْهَدُ" وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَلِيِّ وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً وَعَنْ الْقِيَاسِ بِالْفَرْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّ الْوَلِيَّ مُتَعَيَّنٌ كَالزَّوْجِ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ والثاني أَنَّ الْوَلِيَّ لَهُ فِعْلٌ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَجُوزُ لَهُ خِطْبَةُ الْمَرْأَةِ لَكِنْ يُكْرَهُ لِلْحَدِيثِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قُلْتُمْ: يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ وَالتَّزْوِيجُ وَتُكْرَهُ الْخِطْبَةُ وَقَدْ قَرَنَ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي الْحَدِيثِ؟ قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ مِثْلُ ذَلِكَ قوله تعالى:
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَالْأَكْلُ مُبَاحٌ وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ قَالَ

 

ج / 7 ص -186-       الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَيُكْرَهُ أَيْضًا لِلْحَلَالِ خِطْبَةُ مُحْرِمَةٍ لِيَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ إحْلَالِهَا وَلَا تَحْرُمُ بِخِلَافِ خِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ وَفَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُحْرِمَةَ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ تَعْجِيلِ تَحَلُّلِهَا فِي وَقْتِهِ وَالْمُعْتَدَّةُ لَا يُمْكِنُهَا تَعْجِيلٌ فَرُبَّمَا غَلَبَتْهَا الشَّهْوَةُ فَأَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ: وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطِبَ لِغَيْرِهِ قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: وَيَجُوزُ أَنْ تُزَفَّ إلَيْهِ امْرَأَةٌ عَقَدَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَتُزَفُّ الْمُحْرِمَةُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُحْرِمُ الْمُحْرِمَةَ وَالْمُحِلَّةَ سَوَاءٌ أَطَلَّقَهَا فِي الْإِحْرَامِ أَوْ قَبْلَهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْعِرَاقِيُّونَ وَذَكَرَ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهَيْنِ أصحهما هَذَا والثاني: أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِي تَأْثِيرِ الْإِحْرَامِ وَجْهَانِ أحدهما: سَلْبُ الْوِلَايَةِ وَنَقْلِهَا إلَى الْأَبْعَدِ كَمَا لَوْ جُنَّ وأصحهما: مُجَرَّدُ الِامْتِنَاعِ دُونَ زَوَالِ الْوِلَايَةِ لِبَقَاءِ الرُّشْدِ وَالنَّظَرِ فَعَلَى هَذَا يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ وَالْقَاضِي كَمَا لَوْ غَابَ الْوَلِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَسْتَوِي فِي هَذَا كُلِّهِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَالْإِحْرَامُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ نَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في "الأم" وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ غَيْرِهِمْ وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّ الْفَاسِدَ لَا يَمْنَعُ.
فرع: مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ هَلْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ أصحها: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ.
فرع: إذَا وَكَّلَ حَلَالٌ حَلَالًا فِي التَّزْوِيجِ ثُمَّ أَحْرَمَ أَحَدُهُمَا أَوْ الْمَرْأَةُ فَفِي انْعِزَالِ الْوَكِيلِ وَجْهَانِ: أصحهما: لَا يَنْعَزِلُ فَيَتَزَوَّجُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ في "الأم" وَفَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيِّ إذَا وَكَّلَ فِي تَزْوِيجِهِ ثُمَّ بَلَغَ فَزَوَّجَهُ الْوَكِيلُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَهُ عِبَادَةٌ وَإِذْنٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ الْحَلَالِ أَنْ يُزَوِّجَ قَبْلَ تَحْلِيلِ الْمُوَكِّلِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَكِيلِ فِي الْوَجِيزِ فِيهِ وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ غَلَطٌ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ وَلَا لَهُ فِي "الوسيط" أما: إذَا وَكَّلَهُ فِي إحْرَامِ الْوَكِيلِ أَوْ الْمُوَكِّلِ أَوْ الْمَرْأَةِ نُظِرَ إنْ وَكَّلَهُ لِيَعْقِدَ فِي الْإِحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِيمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَإِنْ قَالَ: أَتَزَوَّجُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ أَوْ أُطَلِّقُ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ دُونَ الْإِذْنِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمَنْ أَلْحَقَ الْإِحْرَامَ بِالْجُنُونِ لَمْ يُصَحِّحْهُ وَلَوْ قَالَ: إذَا حَصَلَ التَّحَلُّلُ فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فَهَذَا تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ وَفِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ إنْ صَحَّحْنَاهُ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذْنُ الْمَرْأَةِ فِي حَالِ إحْرَامِهَا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْوَكِيلِ وَلَوْ وَكَّلَ حَلَالٌ مُحْرِمًا لِيُوَكِّلَ حَلَالًا بِالتَّزْوِيجِ فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ وَبِهِ قَطَعَ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ سَفِيرٌ مَحْضٌ لَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الْعَقْدِ شَيْءٌ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَصِحُّ تَزْوِيجُ وَكِيلِ الْمُصَلِّي بِخِلَافِ وَكِيلِ الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْمُحْرِمِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَعِبَارَةَ الْمُصَلِّي صَحِيحَةٌ وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَهَا فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا صَحَّ النِّكَاحُ وَالصَّلَاةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": لَوْ أَحْرَمَ رَجُلٌ ثُمَّ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التَّزْوِيجِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمَرْزُبَانِ: قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الْإِذْنُ بَاطِلٌ وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ إلَّا بِإِذْنِ

 

ج / 7 ص -187-       سَيِّدِهِ وَسَيِّدُهُ لَا يَصِحُّ تَزَوُّجُهُ وَلَا تَزْوِيجُهُ فِي حَالِ إحْرَامِهِ فَلَمْ يَصِحَّ إذْنُهُ قِيلَ لِابْنِ الْقَطَّانِ فَلَوْ أَذِنَتْ مُحْرِمَةٌ لِعَبْدِهَا فِي النِّكَاحِ؟ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ كَالرَّجُلِ قَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ: وَعِنْدِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ نَظَرٌ هَذَا آخِرُ نَقْلِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَحَكَى الدَّارِمِيُّ كَلَامَ ابْنِ الْقَطَّانِ ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي الْجَوَازُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.
فرع: إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ وَأَحْرَمَ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ فِي إحْرَامِهِ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ نِكَاحًا هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ وَأَوْضَحَ الْخِلَافَ فِيهَا.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَالَ مَنْصُورُ1 بْنُ إسْمَاعِيلَ الْفَقِيهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ "الْمُسْتَعْمَلُ": إذَا وَكَّلَ الْمُحْرِمُ رَجُلًا لِيُزَوِّجَهُ إذَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ صَحَّ ذَلِكَ وَصَحَّ تَزَوُّجُهُ بَعْدَ إحْلَالِهِ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا لِيُزَوِّجَهُ إذَا طَلَّقَ إحْدَى زَوْجَاتِهِ الْأَرْبَعِ أَوْ إذَا طَلَّقَ فُلَانٌ زَوْجَتَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَهُ لَمْ يَصِحَّ قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَكِيلِ الْمُحْرِمِ أَنَّ وَكِيلَ الْمُحْرِمِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقْدِ مَانِعٌ سِوَى الْإِحْرَامِ وَمُدَّتُهُ مَعْلُومَةٌ وَغَايَتُهُ مَعْرُوفَةٌ وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقْدِ مُدَّةٌ لَيْسَ لَهَا غَايَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ عِنْدِي فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الْجَمِيعِ أَوْ لَا يَصِحُّ فِي الْجَمِيعِ هَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فأما: مَسْأَلَةُ الْإِحْرَامِ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِيهَا الصِّحَّةُ وَبِهَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَأَمَّا الْمَسْأَلَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ فَفِيهَا وَجْهَانِ سَنُوضِحُهُمَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ إنْ شَاءَ الله تعالى أصحهما: بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ وَالْإِذْنِ وَلَا يَصِحُّ التَّزْوِيجُ.
فرع: إذَا تَزَوَّجَ بِنَفْسِهِ أَوْ تَزَوَّجَ لَهُ وَكِيلُهُ وَأَحْرَمَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ هَلْ كَانَ النِّكَاحُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَمْ قَبْلَهُ؟ فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةٌ عُمِلَ بِهَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَقَعَ الْعَقْدُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَادَّعَتْ وُقُوعَهُ فِي الْإِحْرَام فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّجُلِ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ وَإِنْ ادَّعَتْ وُقُوعَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَادَّعَى الرَّجُلُ وُقُوعَهُ فِي الْإِحْرَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ وَسَائِرِ مُؤَنِ النِّكَاحِ وَيُحْكَمُ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِتَحْرِيمِهَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَإِلَّا فَجَمِيعُهُ وَهَذَا كُلُّهُ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَصاحب "الشامل" وَخَلَائِقُ.
قَالَ صَاحِبَا "الشَّامِلِ" و"الْبَيَانِ" وَآخَرُونَ: فَلَوْ لَمْ يَدَّعِ الزَّوْجَانِ شَيْئًا وَشَكَّا هَلْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي الْإِحْرَامِ أَمْ قَبْلَهُ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: النِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ فَلَهُمَا الْبَقَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّتُهُ قَالَ: وَالْوَرَعُ أَنْ يُفَارِقَهَا بِطَلْقَةٍ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ فِي الْإِحْرَامِ وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُطَلِّقُهَا طَلْقَةً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو الحسن التيمي الفقيه الشاعر الضرير المصري أخذ الفقه عن أصحاب أصحابه الشافعي وعن أصحابه وله غير المستعمل (الواجب) و (المسافر) و (الهداية) وهو صاحب البيتين:

عاب التفقه قوم لا عقول لهم                             وما عليه إذا عابوه من ضرر

ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة                ألا يرى ضوءها من ليس ذا بصر

توفي سنة 306 (ط).

 

ج / 7 ص -188-       لِتَحِلَّ لِغَيْرِهِ بِيَقِينٍ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ هَذَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ ثُمَّ قَالَ: وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا قَوْلًا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ مَنْ قَدَّ مَلْفُوفًا وَفِيهَا قَوْلَانِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ: وَقَعَ الْعَقْدُ فِي الْإِحْرَامِ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي حُكِمَ بِبُطْلَانِهِ لِإِقْرَارِهِ وَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَدَّعِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَزَوُّجُ الْمُحْرِمِ وَلَا تَزْوِيجُهُ وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ بَشَّارٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ الْحَكَمُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيُزَوِّجَ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ عَلَى الْخُلْعِ وَالرَّجْعَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَشِرَاءِ الْجَارِيَةِ وَتَزْوِيجِ السُّلْطَانِ فِي إحْرَامِهِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ فالجواب: مِنْ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَالْأَصْحَابُ: أحدها: أَنَّ اللَّفْظَ إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ عُرْفُ اللُّغَةِ وَعُرْفُ الشَّرْعِ قُدِّمَ عُرْفُ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ طَارِئٌ وَعُرْفُ الشَّرْعِ أَنَّ النِّكَاحَ الْعَقْدُ - لقوله تعالى:
{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء:25]، {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ} [البقرة: 232]، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا" وَفِي الصَّحِيحِ: "انْكِحِي أُسَامَةَ" وَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَشَبَهِهَا الْعَقْدُ دُونَ الْوَطْءِ وأما قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] فَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَطْءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ".
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ حَمْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"وَلَا يَنْكِحُ" عَلَى الْوَطْءِ فَإِنْ قَالُوا: الْمُرَادُ لَا يَطَأُ وَلَا يُمَكِّنُ غَيْرَهُ مِنْ الْوَطْءِ قُلْنَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُمَكِّنَ غَيْرَهُ مِنْ الْوَطْءِ وَهُوَ إذَا زَوَّجَ بِنْتَه حَلَالًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُمَكِّنَ الزَّوْجَ مِنْ الْوَطْءِ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
"لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ" وَالْخِطْبَةُ تُرَادُ لِلْعَقْدِ وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ وَقَالُوا: يُحْمَلُ "وَلَا يَخْطُبُ" عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْطُبُ الْوَطْءَ بِالطَّلَبِ أَوْ الِاسْتِدْعَاءِ والجواب: أَنَّ الْخِطْبَةَ الْمَقْرُونَةَ بِالْعَقْدِ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا إلَّا الْخِطْبَةَ الْمَشْهُورَةَ وَهِيَ طَلَبُ التَّزْوِيجِ.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ طَلْحَةَ ابْنَةَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ فَأَرْسَلَ إلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ لِيَحْضُرَ ذَلِكَ وَهُمَا مُحْرِمَانِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبَانُ وَقَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه" وَهَذَا السَّبَبُ وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْهُمْ وَسُكُوتُهُمْ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَعَنْ أَبِي غَطَفَانَ بْنِ طَرِيفٍ الْمُرِّيِّ "أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نِكَاحَهُ" رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الموطأ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ "أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ وَهُوَ

 

ج / 7 ص -189-       مُحْرِمٌ فَأَجْمَع أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا" وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ لَا يُعْقِبُهُ اسْتِبَاحَةُ الْوَطْءِ وَلَا الْقُبْلَةِ فَلَمْ يَصِحَّ كَنِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْنَعُ الْإِحْرَامُ مِنْ مَقْصُودِهِ فَمَنَعَ أَصْلَهُ كَشِرَاءِ الصَّيْدِ.
وأما الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نِكَاحِ مَيْمُونَةَ فَمِنْ أَوْجُهٍ: أحدهما: أَنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ فِي نِكَاحِ مَيْمُونَةَ فَرَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ عَنْ مَيْمُونَةَ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ تَعَيَّنَ التَّرْجِيحُ فَرَجَّحْنَا رِوَايَةَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ حَلَالًا الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرِّوَايَاتِ تَعَارَضَتْ فَتَعَيَّنَ الْجَمْعُ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ تَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: مُحْرِمًا أَيْ فِي الْحَرَمِ فَتَزَوَّجَهَا فِي الْحَرَمِ وَهُوَ حَلَالٌ أَوْ تَزَوَّجَهَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَهَذَا شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَيَتَعَيَّنُ التَّأْوِيلُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الثالث: التَّرْجِيحُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا مِنْ جِهَةِ مَيْمُونَةَ وَهِيَ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ وَأَبِي رَافِعٍ كَانَ السَّفِيرَ بَيْنَهَا فَهُمَا أَعْرَفُ فَاعْتِمَادُ رِوَايَتِهِمَا أَوْلَى الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي "الخصائص" مِنْ أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ.
وأما الْجَوَابُ عَنْ أَقْيِسَتِهِمْ كُلِّهَا فَهُوَ أَنَّهَا كُلَّهَا لَيْسَتْ نِكَاحًا وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ النِّكَاحِ وَعَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْإِمَامِ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَلَّا يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا وإن قلنا: بِالضَّعِيفِ: إنَّهُ يَجُوزُ فَالْفَرْقُ بِقُوَّةِ وِلَايَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِقَةَ الْأَبَدَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَجِبُ تَطْلِيقُهَا لِتَحِلَّ لِغَيْرِهِ بِيَقِينٍ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ دَلِيلُنَا أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فَلَا يُحْتَاجُ فِي إزَالَتِهِ إلَى فَسْخٍ كَالْبَيْعِ الْفَاسِد وَغَيْرِهِ وَفِي هَذَا جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِهِمْ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِنَا صِحَّةُ رَجْعَةِ الْمُحْرِمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْعُلَمَاءُ إلَّا أَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ دَلِيلُنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَإِنَّمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْ النِّكَاحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ لقوله تعالى:
{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ: الرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِيهِ الْكَفَّارَةَ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَلْقِ فَلَأَنْ تَجِبَ فِي الْجِمَاعِ أَوْلَى".
الشرح: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْرَامُ صَحِيحًا أَمْ فَاسِدًا وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَالْقَضَاءُ إذَا كَانَ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الْآتِي إنْ شَاءَ الله تعالى إيضَاحُ ذَلِكَ بِفُرُوعِهِ حَيْثُ ذَكَرَهُ

 

ج / 7 ص -190-       الْمُصَنِّفُ وَسَوَاءٌ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَسَوَاءٌ وَطْءُ الزَّوْجَةِ وَالزِّنَا وأما: إتْيَانُ الْبَهِيمَةِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَوَطْءِ الْمَرْأَةِ وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ تَفْرِيعًا عَلَى وُجُوبِ التَّعْزِيرِ فِيهِ وأما: الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ وَالْإِيلَاجُ فِيهِ فَإِنْ أَوْلَجَ غَيْرُهُ فِي دُبُرِهِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ يَفْسُدُ حَجُّهُ وَيَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَوْلَجَ غَيْرُهُ فِي قُبُلِهِ أَوْ أَوْلَجَ هُوَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَفْسُدْ وَلَا كَفَّارَةَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عُضْوٌ زَائِدٌ فَإِنْ أَوْلَجَ فِي دُبُرِ رَجُلٍ وَأَوْلَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي قُبُلِهِ فَسَدَ حَجُّهُمَا وَلَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ وَلَوْ لَفَّ الرَّجُلُ عَلَى ذَكَرِهِ خِرْقَةً وَأَوْلَجَهُ فَفِي فَسَادِ الْحَجِّ بِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كَمَا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي بَابِ الْغُسْلِ: الأصح: فَسَادُ الْحَجِّ وَوُجُوبُ الْغُسْلِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ فَلَأَنْ تَحْرُمَ الْمُبَاشَرَةُ وَهِيَ أَدْعَى إلَى الْوَطْءِ أَوْلَى وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَبَّلَ امْرَأَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلْيُهْرِقْ دَمًا" وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ فِي الْإِحْرَامِ فَوَجَبَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْجِمَاعِ".
الشرح: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ كَالْمُفَاخَذَةِ وَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِالْيَدِ بِشَهْوَةٍ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ وَفِيمَا بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا يَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ الله تعالى وَمَتَى ثَبَتَ التَّحْرِيمُ فَبَاشَرَ عَمْدًا بِشَهْوَةٍ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَهِيَ شَاةٌ أَوْ بَدَلُهَا مِنْ الْإِطْعَامِ أَوْ الصِّيَامِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا وَإِنَّمَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ فِي الْجِمَاعِ وَلَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ بِشَهْوَةٍ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا هَذَا كُلُّهُ إذَا بَاشَرَ عَالِمًا بِالْإِحْرَامِ فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ مَحْضٌ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ مَعَ النِّسْيَانِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ بِخِلَافِ جِمَاعِ النَّاسِي عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِهْلَاكِ وَلَوْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ ثُمَّ جَامَعَ هَلْ تَنْدَرِجُ الشَّاةُ أَمْ يَجِبَانِ مَعًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
وأما اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ بِلَا خِلَافٍ وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ كَوْنُهُ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَكَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ هُوَ فِي "التنبيه" وأما: قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي "الوسيط" و"الْوَجِيزِ": تَحْرُمُ كُلُّ مُبَاشَرَةٍ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَغَلَّطُوهُ فِيهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ سَهْوٌ وَلَيْسَ وَجْهًا وَسَبَبُ التَّغْلِيطِ أَنَّهُ قَالَ: مُبَاشَرَةٍ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُبَاشَرَةُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً بِلَا خِلَافٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ فَحَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ فَفِي الْإِحْرَامِ أَوْلَى فَإِنْ اسْتَمْنَى الْمُحْرِمُ فَأَنْزَلَ فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الصحيح: الْمَشْهُورُ لُزُومُهَا وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهَا وَقَطَعَ بِهِ أَيْضًا الْمُصَنِّفُ فِي "التنبيه" وَآخَرُونَ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ فَأَشْبَهَ مُبَاشَرَةَ الْمَرْأَةِ والثاني لَا فِدْيَةَ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ حِكَايَةِ الْعِرَاقِيِّينَ وَحَكَاهُ أَيْضًا الْفُورَانِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ يَنْفَرِدُ بِهِ فَأَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالنَّظَرِ فَإِنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِ قَالَ الْبَغَوِيّ: وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي تَقْبِيلِ الْغُلَامِ بِالشَّهْوَةِ: الأصح: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ والثاني لَا قُلْتُ: وَالصَّوَابُ فِي الْغُلَامِ الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ لِغَيْرِهِ وَهِيَ حَرَامٌ فَأَشْبَهَتْ مُبَاشَرَةَ الْمَرْأَةِ بِخِلَافِ الِاسْتِمْنَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُبَاشَرَةٌ لِغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -191-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ الْمَأْكُولُ مِنْ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] فَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ أَخْذِهِ لِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ كَمَا لَوْ غَصَبَ مَالَ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ لِآدَمِيٍّ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُبَاحِ وَجَبَ إرْسَالُهُ فِي مَوْضِعٍ يَمْتَنِعُ عَلَى مَنْ يَأْخُذهُ؛ لِأَنَّ مَا حَرُمَ أَخْذُهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ إذَا أَخَذَهُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَإِنْ هَلَكَ عِنْدَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ حَرَامٌ أَخْذِهِ لِحَقِّ الْغَيْرِ فَضَمِنَهُ بِالْبَدَلِ كَمَالِ الْآدَمِيِّ فَإِنْ خَلَّصَ صَيْدًا مِنْ فَمِ سَبْعٍ فَدَاوَاهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الصَّلَاحَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَلَوْ قِيلَ: يَضْمَنُ لِأَنَّ تَلَفَهُ فِي يَدِهِ كَانَ مُحْتَمَلًا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُهُ فَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ - لقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ مَا ضُمِنَ عَمْدُهُ بِالْمَالِ ضُمِنَ خَطَؤُهُ كَمَالِ الْآدَمِيِّ وَلِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِالْقَتْلِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْخَطَأُ وَالْعَمْدُ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ.
وَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ مَمْلُوكًا لِآدَمِيٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَالْقِيمَةُ وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ فِي صَيْدِ الْمَمْلُوكِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إيجَابِ بَدَلَيْنِ عَنْ مُتْلَفٍ وَاحِدٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنَّهُ كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِالْقَتْلِ فَوَجَبَتْ بِقَتْلِ الْمَمْلُوكِ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ جَرْحُهُ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ إتْلَافِهِ لِحَقِّ الْغَيْرِ مُنِعَ مِنْ إتْلَافِ أَجْزَائِهِ كَالْآدَمِيِّ فَإِنْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْهُ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ مَا ضِمْنَ جَمِيعُهُ بِالْبَدَلِ ضُمِنَتْ أَجْزَاؤُهُ كَالْآدَمِيِّ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَنْفِيرُ الصَّيْدِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَكَّةَ:
"لا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا" وَإِذَا حَرُمَ ذَلِكَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ فِي الْإِحْرَامِ فَإِنْ نَفَّرَهُ فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ فَهَلَكَ أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ دَخَلَ دَارَ النَّدْوَةِ فَعَلَّقَ رِدَاءَهُ فَوَقَعَ عَلَيْهِ طَائِرٌ فَخَافَ أَنْ يُنَجِّسَهُ فَطَيَّرَهُ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فَقَالَ: طَيْرٌ طَرَدْتُهُ حَتَّى نَهَشَتْهُ الْحَيَّةُ فَسَأَلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَحْكُمُوا عَلَيْهِ بِشَاةٍ" وَلِأَنَّهُ هَلَكَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَأَشْبَهَ إذَا حَفَرَ لَهُ بِئْرًا أَوْ نَصَبَ أُحْبُولَةً فَهَلَكَ بِهَا.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِهِ بِدَلَالَةٍ أَوْ إعَارَةِ آلَةٍ؛ لِأَنَّ مَا حَرُمَ قَتْلُهُ حَرُمَتْ الْإِعَانَةُ عَلَى قَتْلِهِ كَالْآدَمِيِّ وَإِنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ بِدَلَالَةٍ أَوْ إعَانَةِ آلَةٍ فَقُتِلَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ لَا يَضْمَنُهُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى إتْلَافِهِ كَمَالِ الْغَيْرِ.
الشرح: أَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي مَكَّةَ:
"وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وأما: الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِي إسْنَادِهِ رَجُلٌ مَسْتُورٌ وَالرَّجُلَانِ اللَّذَانِ حَكَمَا عَلَى عُمَرَ هُمَا عُثْمَانُ وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ الصَّحَابِيُّ قَوْلُهُ: مَا مُنِعَ مِنْ أَخْذِهِ لِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ قَالَ الْقَلَعِيُّ: قَوْلُهُ: لِحَقِّ الْغَيْرِ احْتِرَازٌ مِمَّنْ رَأَى صَيْدًا فِي لُجَّةٍ البحر أَوْ فِي مَهْلَكَةٍ أُخْرَى بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالَجَ أَخْذَهُ لَهَلَكَ دُونَهُ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهِ فَلَوْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ وَأَخَذَهُ مَلَكَهُ قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةٌ بِمَنْ سَبَقَ إلَى مَعْدِنٍ ظَاهِرٍ أَوْ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مُزَاحَمَتُهُ فِيهِ قَبْلَ قَضَاءِ وَطَرِهِ فَإِنْ زَاحَمَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَأَخَذَهُ مَلَكَهُ بِالْأَخْذِ مَعَ كَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ أَخْذِهِ لِحَقِّ الْغَيْرِ.

 

ج / 7 ص -192-       قوله: لِأَنَّ مَا حَرُمَ أَخْذُهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ إذَا أَخَذَهُ وَجَبَ رَدُّهُ كَالْمَغْصُوبِ قَالَ الْقَلَعِيُّ: قَوْلُهُ: لِحَقِّ الْغَيْرِ يُحْتَرَزُ مِمَّنْ غَصَبَ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى قَصْدِ شُرْبِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا لِحَقِّ اللَّهِ تعالى لَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ ثُمَّ لَا يَجِبُ رَدُّهَا عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَلْ تَجِبُ إرَاقَتُهَا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مَالٌ حَرَامٌ أَخْذُهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ فَضَمِنَهُ بِالْبَدَلِ كَمَالِ الْآدَمِيِّ احْتِرَازٌ مِمَّنْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ فِي أَخْذِ صَيْدٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْهَلَاكُ إذَا عَالَجَ أَخْذَهُ بِأَنْ كَانَ فِي مَسْبَعَةٍ أَوْ لُجَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَخْذُهُ لِحَقِّ نَفْسِهِ لَا لِحَقِّ غَيْرِهِ فَإِذَا أَخَذَهُ مَلَكَهُ وَلَا يَضْمَنُهُ وَمَعَ هَذَا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةٌ بِالْحَرْبِيِّ إذَا أَتْلَفَ مَالَ مُسْلِمٍ وَبِالْعَبْدِ إذَا أَخَذَ مَالَ سَيِّدِهِ فَأَتْلَفَهُ فَإِنَّهُ مَا حَرُمَ أَخْذُهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَلَا يَضْمَنُهُ بِالْبَدَلِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَالْأَخْذُ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ فِي حَقِّهِ لِيَحْتَرِزَ مِنْ الْحَرْبِيِّ وَالْعَبْدِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مِثْلَ هَذَا فِي أَوَّلِ بَابِ الْغَصْبِ. قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا ضُمِنَ عَمْدُهُ بِالْمَالِ ضُمِنَ خَطَؤُهُ احْتَرَزَ بِالْمَالِ مِنْ ضَمَانِ الْقِصَاصِ وَمَعَ هَذَا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةٌ بِمَنْ قَتَلَ مَنْ تَتَرَّسَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالْكَفَّارَةِ إنْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَلَا يَضْمَنُ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً.
قوله: لِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِالْقَتْلِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْخَطَأُ وَالْعَمْدُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: بِالْقَتْلِ مِنْ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي الْعَمْدِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِمَنْ تَتَرَّسَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الِاحْتِرَازِ الَّذِي قَبْلَهُ قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا ضُمِنَ جَمِيعُهُ بِالْبَدَلِ ضُمِنَتْ أَجْزَاؤُهُ احْتَرَزَ بِالْبَدَلِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِقَتْلِ النَّفْسِ دُونَ قَطْعِ الطَّرَفِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِالْعَارِيَّةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَهَا بِالْبَدَلِ وَلَا يَضْمَنُ أَجْزَاءَهَا النَّاقِصَةَ بِالِاسْتِعْمَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَمَا ضُمِنَ جَمِيعُهُ بِالْبَدَلِ وَلَمْ يُؤْذَنْ فِي إتْلَافِ أَجْزَائِهِ ضُمِنَتْ أَجْزَاؤُهُ قَوْلُهُ: وَإِذَا حَرُمَ ذَلِكَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ فِي الْإِحْرَامِ يَعْنِي لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الِاصْطِيَادِ وَالْإِحْرَامُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ آكَدُ وَلِهَذَا يَحْرُمُ فِيهِ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ وَالنِّكَاحُ وَغَيْرُهَا بِخِلَافِ الْحَرَمِ.
قَوْلُهُ: دَخَلَ دَارَ النَّدْوَةِ هِيَ - بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ - وَهِيَ دَارٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَكَّةَ كَانَتْ مَنْزِلَ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ جَدِّ جَدِّ أَبِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ ثُمَّ صَارَتْ قُرَيْشٌ تَجْتَمِعُ فِيهَا لِلْمُشَاوِرَةِ وَنَحْوِهَا إذَا عَرَضَ لَهُمْ أَمْرٌ مُهِمٌّ قَالَ الْأَزْرَقِيُّ فِي "تَارِيخِ مَكَّةَ": سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّدِيِّ فِيهَا يَتَشَاوَرُونَ وَيُبْرِمُونَ أَمْرَهُمْ وَالنَّدِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ - الْجَمَاعَةُ يَنْتَدُونَ - أَيْ يَتَحَدَّثُونَ - قَالَ الْأَزْرَقِيُّ وَالْحَازِمِيُّ وَغَيْرُهُمَا: وَقَدْ صَارَتْ دَارُ النَّدْوَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهِيَ فِي جَانِبِهِ الشِّمَالِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ": أَوَّلُ دَارٍ بُنِيَتْ بِمَكَّةَ دَارُ النَّدْوَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: نَصَبَ أُحْبُولَةً هِيَ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ - وَهِيَ الْمِصْيَدَةُ - بِكَسْرِ الْمِيمِ - وَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ فِيهَا حِبَالَةٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَقَوْلُهُ: بِدَلَالَةٍ هِيَ - بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا - وَيُقَالُ: دُلُولَة - بِضَمِّهَا - ثَلَاثُ لُغَاتٍ سَبَقَ بَيَانُهُنَّ قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا لَا يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ لَا يَضْمَنُهُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى إتْلَافِهِ احْتِرَازٌ مِنْ الْوَدِيعَةِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلَيْهَا ضَمِنَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي فُرُوعٍ مِنْهُ

 

ج / 7 ص -193-       وَدَلَائِلُهُ نَصُّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ صَيْدٍ بَرِّيٍّ مَأْكُولٍ أَوْ فِي أَصْلِهِ مَأْكُولٌ وَحْشِيًّا كَانَ أَوْ فِي أَصْلِهِ وَحْشِيٌّ هَذَا ضَابِطُهُ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِصَيْدٍ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّرْعُ الصَّيْدَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ الدَّجَاجَةُ الْحَبَشِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا وَحْشِيَّةٌ تَمْتَنِعُ بِالطَّيَرَانِ وَإِنْ كَانَتْ رُبَّمَا أَلِفَتْ الْبُيُوتَ قَالَ الْقَاضِي: وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالدَّجَاجِ قَالَ: وَتُسَمَّى بِالْعِرَاقِ سِنْدِيَّةً فَإِنْ أَتْلَفَهَا لَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
"وأما": مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ وَلَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا وَهُنَاكَ نُوَضِّحُهُ بِدَلَائِلِهِ وَفُرُوعِهِ إنْ شَاءَ الله تعالى أما: صَيْدُ البحر فَحَلَالٌ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ قال الله تعالى: {
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْمُرَادُ بِصَيْدِ البحر الَّذِي هُوَ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ مَا لَا يَعِيشُ إلَّا فِي البحر سَوَاءٌ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ أما: مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالبحر فَحَرَامٌ كَالْبَرِّيِّ تَغْلِيبًا لِجِهَةِ التَّحْرِيمِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُتَوَلِّدِ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ وأما: الطُّيُورُ الْمَائِيَّةُ الَّتِي تَغُوصُ فِي الْمَاءِ وَتَخْرُجُ مِنْهُ فَبَرِّيَّةٌ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ.
وأما الْجَرَادُ فَبَرِّيٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ وَفِيهِ قَوْلٌ وَاهٍ سَنُوضِحُهُ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنْ شَاءَ الله تعالى أَنَّهُ بَحْرِيٌّ غَيْرُ مَضْمُونٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا كَانَ أَكْثَرُ عَيْشِهِ فِي الْمَاءِ فَكَانَ فِي بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ وَادٍ أَوْ مَاءِ مُسْتَنْقَعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَسَوَاءٌ وَهُوَ مُبَاحٌ صَيْدُهُ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمِ قَالَ: فَأَمَّا طَائِرُهُ فَإِنَّمَا يَأْوِي إلَى أَرْضٍ فَهُوَ صَيْدُ بَرٍّ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ هَذَا نَصُّهُ وَتَابَعُوهُ عَلَيْهِ.
وأما الْمُتَوَلِّدُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ أَوْ مِنْ وَحْشِيٍّ وَإِنْسِيٍّ كَمُتَوَلِّدٍ بَيْنَ ظَبْيٍ وَشَاةٍ أَوْ بَيْنَ يَعْفُورٍ وَدَجَاجَةٍ فَيَحْرُمَانِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَيَجِبُ فِيهِمَا الْجَزَاءُ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى بَعْدَهَا حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي وأما: الصَّيْدُ الْمُحَرَّمُ الَّذِي سَبَقَ ضَبْطُهُ فَيَحْرُمُ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ صَغِيرُهُ وَكَبِيرُهُ وَحْشُهُ وَطَيْرُهُ وَسَوَاءٌ الْمُسْتَأْنِسُ مِنْهُ وَغَيْرُهُ وَالْمَمْلُوكُ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الْمُزَنِيّ لَا جَزَاءَ فِي الْمَمْلُوكِ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الدَّلِيلَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَضْمَنُ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ الْمَمْلُوكَ بِالْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ فَيَجِبُ الْجَزَاءُ لِلَّهِ تعالى يُصْرَفُ إلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَالْقِيمَةُ لِمَالِكِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ ذَبْحٍ فَعَلَيْهِ لِلْآدَمِيِّ كَمَالُ الْقِيمَةِ وَعَلَيْهِ لِلَّهِ تعالى الْجَزَاءُ وَإِنْ ذَبَحَهُ. فإن قلنا: ذَبِيحَةُ الْمُحْرِمِ مَيْتَةٌ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ فَعَلَيْهِ أَيْضًا الْقِيمَةُ بِكَمَالِهَا وإن قلنا: تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ لَزِمَهُ مَعَ الْجَزَاءِ لِمَالِكِهِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَذْبُوحًا وَحَيًّا إذَا رَدَّهُ إلَيْهِ مَذْبُوحًا وَإِذَا أَتْلَفَهُ أَوْ ذَبَحَهُ وَقُلْنَا: هُوَ مَيْتَةٌ فَجِلْدُهُ لِمَالِكِهِ لَا لِلْمُحْرِمِ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ تَوَحَّشَ حَيَوَانٌ إنْسِيٌّ كَشَاةٍ وَبَعِيرٍ وَدَجَاجَةٍ وَنَحْوِهَا لَمْ يَحْرُمْ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَحْرُمُ قَتْلُ الصَّيْدِ وَأَخْذُهُ وَجُرْحُهُ وَإِتْلَافُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَتَنْفِيرُهُ وَالتَّسَبُّبُ فِي

 

ج / 7 ص -194-       ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِآدَمِيٍّ لَزِمَهُ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا وَجَبَ إرْسَالُهُ فِي مَوْضِعٍ يَمْتَنِعُ عَلَى مَنْ يَقْصِدُهُ فَإِنْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَ عِنْدَهُ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِآدَمِيٍّ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ أَوْ الْقِيمَةِ كَمَا سَبَقَ وَدَلِيلُ هَذَا كُلُّهُ فِي الْكِتَابِ وَلَوْ خَلَّصَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مِنْ فَمِ سَبُعٍ أَوْ هِرَّةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَأَخَذَهُ لِيُدَاوِيَهُ ثُمَّ يُرْسِلُهُ أَوْ رَآهُ مَجْرُوحًا فَأَخَذَهُ لِيُدَاوِيَهُ ثُمَّ يُرْسِلُهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَفِي ضَمَانِهِ الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَهُمَا مَشْهُورَانِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الصَّلَاحَ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ "السِّلْسِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ" طَرِيقَيْنِ: أحدهما: عَلَى الْقَوْلَيْنِ والثاني لَا يَضْمَنُ قَوْلًا وَاحِدًا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَفَرَّعَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ انْتَزَعَ إنْسَانٌ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ مِنْ غَاصِبِهَا لِيَرُدَّهَا إلَى مَالِكِهَا فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِلَا تَفْرِيطٍ هَلْ يَضْمَنُ فِيهِ الطَّرِيقَانِ كَالصَّيْدِ؟
فرع: لَوْ حَصَلَ تَلَفُ الصَّيْدِ بِسَبَبِ شَيْءٍ فِي يَدِ الْمُحْرِمِ بِأَنْ كَانَ رَاكِبَ دَابَّةٍ أَوْ سَائِقَهَا أَوْ قَائِدَهَا فَتَلِفَ صَيْدُ بَعْضِهَا أَوْ رَفَسَهَا أَوْ بَالَتْ فِي الطَّرِيقِ فَزَلِقَ بِهِ صَيْدٌ فَهَلَكَ بِهِ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فَضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْهُ أَوْ تَلِفَ بِسَبَبِهَا كَمَا لَوْ أَتْلَفَ آدَمِيًّا وَمَالًا أما: إذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ الْمُحْرِمِ فَأَتْلَفَتْ صَيْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عَلَى هَذَا الْفَرْعِ كُلِّهِ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ كَانَ مَعَ الدَّابَّةِ ثَلَاثَةٌ سَائِقٌ وَقَائِدٌ وَرَاكِبٌ فَأَتْلَفَتْ صَيْدًا فَوَجْهَانِ: أحدهما: يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الثَّلَاثَةِ والثاني عَلَى الرَّاكِبِ وَحْدَهُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: جِهَاتُ ضَمَانِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ ثَلَاثٌ الْمُبَاشَرَةُ وَالْيَدُ وَالتَّسَبُّبُ فأما: الْمُبَاشَرَةُ فَمَعْرُوفَةٌ وأما: الْيَدُ فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَضْعُ يَدِهِ عَلَى الصَّيْدِ وَلَا يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ وَيَضْمَنُهُ إنْ تَلِفَ وَقَدْ سَبَقَ هَذَا قَرِيبًا وَاضِحًا وَمِنْ هَذَا مَا إذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبِ دَابَّةٍ فِي يَدِهِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا وَأَمَّا - إذَا سَبَقَتْ الْيَدُ عَلَى الْإِحْرَامِ أَوْ كَانَتْ يَدًا قَهْرِيَّةً كَالْإِرْثِ أَوْ يَدَ مُعَاقَدَةٍ كَشِرَاءٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِهَا فَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا وَسَنُوضِحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وأما: التَّسَبُّبُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إحداها:
لَوْ نَصَبَ الْحَلَالُ شَبَكَةً أَوْ فَخًّا أَوْ حِبَالَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ أَوْ نَصَبَهَا الْمُحْرِمُ حَيْثُ كَانَ فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ وَهَلَكَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ نَصَبَهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ مَوَاتٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فأما: إذَا نَصَبَهَا وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَوَقَعَ بِهَا صَيْدٌ فَلَا يَضْمَنُهُ بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ وَصَرَّحَ بِهِ الْقَفَّالُ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْأَصْحَابُ.
الثانية: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ اسْتِصْحَابُ الْبَازِي وَكُلِّ صَائِدٍ مِنْ كَلْبٍ وَغَيْرِهِ فَإِنْ حَلَّهُ فَأَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَلَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يُؤْذِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ لَكِنْ يَأْثَمُ كَمَا لَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَخْطَأَهُ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِالرَّمْيِ لِقَصْدِهِ الْحَرَامَ وَلَا ضَمَانَ لِعَدَمِ الْإِتْلَافِ وَلَوْ انْفَلَتَ بِنَفْسِهِ فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ فِيهِ الْكَلْبُ وَالْبَازِي وَغَيْرُهُمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَسَوَاءٌ فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا وأما: إذَا أَرْسَلَ الْكَلْبَ عَلَى الصَّيْدِ أَوْ حَلَّ رِبَاطَهُ وَهُنَاكَ صَيْدٌ وَلَمْ يُرْسِلْهُ فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ صَيْدٌ وَانْحَلَّ

 

ج / 7 ص -195-       رِبَاطُ الْكَلْبِ لِتَقْصِيرِ الْمُحْرِمِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَضْمَنُهُ وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَيْدٌ فَأَرْسَلَ الْكَلْبَ أَوْ حَلَّ رِبَاطَهُ فَظَهَرَ صَيْدٌ ضَمِنَهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فإن قيل: قُلْتُمْ هُنَا: إنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ الْكَلْبَ عَلَى الصَّيْدِ ضَمِنَهُ وَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى آدَمِيٍّ فَقَتَلَهُ لَا ضَمَانَ فَالْفَرْقُ أَنَّ الْكَلْبَ مُعَلَّمٌ لِلِاصْطِيَادِ فَإِذَا صَادَ بِإِرْسَالِهِ كَانَ كَصَيْدِهِ بِنَفْسِهِ فَضَمِنَهُ وَلَيْسَ هُوَ مُعَلَّمًا قَتْلَ الْآدَمِيِّ فَإِذَا أَغْرَاهُ عَلَى آدَمِيٍّ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُغْرِي بَلْ إلَى اخْتِيَارِ الْكَلْبِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ قَالَ: وَمِثَالُهُ فِي الصَّيْدِ أَنْ يُرْسِلَ كَلْبًا غَيْرَ مُعَلَّمٍ عَلَى صَيْدٍ فَيَقْتُلَهُ فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعَلَّمِ لَا يُنْسَبُ فِعْلُهُ إلَى الْمُرْسِلِ بَلْ إلَى اخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا لَا يُؤْكَلُ مَا اصْطَادَهُ بَعْدَ الْإِرْسَالِ كَمَا لَا يُؤْكَلُ مَا صَادَهُ الْمُسْتَرْسَلُ بِنَفْسِهِ هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فِيهِ نَظَرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ بِإِرْسَالِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: إذَا نَفَّرَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَعَثَرَ وَهَلَكَ بِالْعِثَارِ أَوْ أَخَذَهُ فِي مَغَارَةِ سَبُعٍ أَوْ انْصَدَمَ بِشَجَرَةٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ قَصَدَ تَنْفِيرَهُ أَمْ لَا قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَزَالُ الْمُنَفَّرُ فِي عُهْدَةِ ضَمَانِ التَّنْقِيرِ حَتَّى يَعُودَ الطَّيْرُ إلَى عَادَتِهِ فِي السُّكُونِ فَإِنْ عَادَ ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ هَلَكَ فِي حَالِ هَرَبِهِ وَنِفَارِهِ قَبْلَ سُكُونِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ قَالُوا: أَصَحُّهُمَا لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلَفْ فِي يَدِهِ وَلَا بِسَبَبِهِ وَالثَّانِي يَضْمَنُهُ لِاسْتِدَامَةِ أَثَرِ النِّفَارِ.
الرابعة: لَوْ صَاحَ الْمُحْرِمُ عَلَى صَيْدٍ فَمَاتَ بِسَبَبِ صِيَاحِهِ أَوْ صَاحَ حَلَالٌ عَلَى صَيْدِ فِي الْحَرَمِ فَمَاتَ بِهِ: فَوَجْهَانِ: حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ أحدهما: يَضْمَنُهُ كَمَا لَوْ صَاحَ عَلَى صَبِيٍّ فَمَاتَ تَجِبُ دِيَتُهُ والثاني لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يَمُوتُ بِالصِّيَاحِ فَهُوَ كَمَا لَوْ صَاحَ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ مُتَيَقِّظٍ فَمَاتَ لَا ضَمَانَ وَلَمْ يُرَجِّحْ وَاحِدًا مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَالظَّاهِرُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ.
الْخَامِسَةُ: إذَا حَفَرَ الْمُحْرِمُ بِئْرًا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ أَوْ حَفَرَهَا حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ فَهَلَكَ فِيهَا صَيْدٌ لَزِمَهُمَا الضَّمَانُ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ حَفَرَهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ مَوَاتٍ فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أصحهما: يَضْمَنُ فِي الْحَرَمِ دُونَ الْإِحْرَامِ و"الثاني" يَضْمَنُ والثالث: لَا يَضْمَنُ فِيهِمَا والرابع: إنْ حَفَرَهَا لِلصَّيْدِ ضَمِنَ وَإِلَّا فَلَا وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّهُ إنْ قَصَدَ الِاصْطِيَادَ لَا يَضْمَنُ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ.
السَّادِسَةُ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَوْ رَمَى صَيْدًا فَنَفَذَ فِيهِ السَّهْمُ وَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ فَقَتَلَهُمَا لَزِمَهُ جَزَاؤُهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا عَمْدٌ وَالْآخَرُ خَطَأٌ أَوْ بِسَبَبِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُضَمَّنٌ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ صَيْدًا فَوَقَعَ الصَّيْدُ عَلَى صَيْدٍ آخَرَ أَوْ عَلَى فِرَاخِهِ وَبَيْضِهِ ضَمِنَ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ.
السَّابِعَةُ: لَوْ رَمَى حَلَالٌ إلَى صَيْدٍ ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا الأصح: يَضْمَنُ وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ عَدَمَ الضَّمَانِ وَصَحَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه" وَالرَّافِعِيُّ الضَّمَانَ قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ رَمَى إلَى حَرْبِيٍّ أَوْ

 

ج / 7 ص -196-       مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ فَقَتَلَهُ قَالَ: لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَاكَ لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ إلَى الْحَرْبِيِّ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَامْتَنَعَ مِنْ رَمْيِهِ خَوْفًا مِنْ إسْلَامِهِ وأما: الْمُحْرِمُ فَيُمْكِنُهُ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ إلَى مَا بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَلَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ الْحَلْقُ فَقَصَّرَ شَعْرَهُ بَعْدَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ بَعْدَ فَرَاغِ التَّقْصِيرِ - وَهُوَ حَلَالٌ - فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ: أحدهما: لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ فِي حَالٍ لَا يُضْمَنُ فِيهَا فَأَشْبَهَ مَنْ رَمَى إلَى مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ أَوْ ذِمِّيٍّ فَنَقَضَ الْعَهْدَ ثُمَّ أَصَابَهُ لَا ضَمَانَ والثاني يَجِبُ لِأَنَّ الرَّمْيَ جِنَايَةٌ وُجِدَتْ فِي الْإِحْرَامِ وَيُخَالِفُ الْمُرْتَدُّ وَالذِّمِّيُّ فَإِنَّهُمَا مُقَصِّرَانِ بِمَا أَحْدَثَا مِنْ إهْدَارِهِمَا.
الثَّامِنَةُ: إذَا دَلَّ الْحَلَالُ مُحْرِمًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَلَالِ سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ أَمْ لَا لَكِنَّهُ يَأْثَمُ وَلَوْ دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِ الْمُحْرِمِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ حِفْظَهُ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْمُودَعِ إذَا دَلَّ السَّارِقَ عَلَى الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ يَأْثَمُ الْمُحْرِمُ بِدَلَالَتِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَضْمَنْ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ حِفْظَهُ وَلَوْ دَلَّ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا فَقَتَلَهُ أَوْ دَلَّ الْحَلَالُ حَلَالًا أَوْ مُحْرِمًا عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ وَلَوْ أَعَانَ الْمُحْرِمُ حَلَالًا أَوْ مُحْرِمًا فِي قَتْلِ صَيْدٍ بِإِعَارَةِ آلَتِهِ أَوْ أَمَرَهُ بِإِتْلَافِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَأَتْلَفَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعِينِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لَكِنْ يَأْثَمُ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحِلِّ أَوْ الْحَرَمِ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: الْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ وَهُوَ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ فِي ضَمَانِ الصَّيْدِ سَوَاءٌ فَيَضْمَنُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْجَزَاءِ وَلَكِنْ يَأْثَمُ الْعَامِدُ دُونَ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَطُرُقُ الْأَصْحَابِ وَقِيلَ: فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى النَّاسِي قَوْلَانِ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا الْفَصْلِ وَحَكَاهُ الْأَصْحَابُ وَسَنُوضِحُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ الله تعالى وَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ صَيْدًا فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا: أَقْيَسُهُمَا الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغَرَامَاتِ وَالْمَجْنُونُ كَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ والأصح: أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الصَّيْدِ تَعَبُّدٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِينَ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ هَذَا الْفَصْلِ بِقَلِيلٍ وَلَوْ أُكْرِهَ الْمُحْرِمُ عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ أَوْ أُكْرِهَ حَلَالٌ عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: أحدهما: يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْآمِرِ والثاني يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْآمِرِ كَمَا لَوْ حَلَقَ الْحَلَالُ شَعْرَ الْمُحْرِمِ مُكْرَهًا وَهَذَا الثَّانِي أَصَحُّ وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: هُوَ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ آدَمِيٍّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْلُ مَا صِيدَ لَهُ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّيْدُ حَلَالٌ لَكُمْ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَاد لَكُمْ" وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْلُ مَا أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ بِدَلَالَةٍ أَوْ إعَارَةٍ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ قال: "كَانَ أَبُو قَتَادَةَ فِي قَوْمٍ مُحْرِمِينَ وَهُوَ حَلَالٌ فَأَبْصَرَ حِمَارَ وَحْشٍ فَاخْتَلَسَ مِنْ بَعْضِهِمْ سَوْطًا فَضَرَبَهُ بِهِ حَتَّى صَرَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
"هَلْ أَشَارَ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَلَمْ يَرَ بِأَكْلِهِ بَأْسًا" فَإِنْ أَكَلَ مَا صِيدَ لَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؟ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ كَقَتْلِ الصَّيْدِ والثاني لَا يَجِبُ؛

 

ج / 7 ص -197-       لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَامٍ وَلَا يَئُولُ إلَى النَّمَاءِ فَلَا يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ كَالشَّجَرِ الْيَابِسِ وَالْبَيْضِ الْمَذِرِ.
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو وَالْمَدَنِيُّ مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبِ عَنْ جَابِرٍ وَإِسْنَادُهُ إلَى عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو صَحِيحٌ وأما: عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو فَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ هُوَ بِقَوِيٍّ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَكَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ هُوَ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وَقَدْ أَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: لَا يُعْرَفُ لِلْمُطَّلِبِ سَمَاعٌ مِنْ جَابِرٍ فَأَمَّا تَضْعِيفُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فَغَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا رَوَيَا لَهُ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" وَاحْتَجَّا بِهِ وَهُمَا الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ وَرَوَى عَنْهُ وَهُوَ الْقُدْوَةُ وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي فِي كِتَابِهِ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيهِ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هُوَ ثِقَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنْهُ وَلَا يَرْوِي مَالِكٌ إلَّا عَنْ صَدُوقٍ ثِقَةٍ.
قلت: وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْجَرْحَ لَا يَثْبُتُ إلَّا مُفَسَّرًا وَلَمْ يُفَسِّرْهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ يُثْبِتُ تَضْعِيفَهُ وأما: إدْرَاكُ الْمُطَّلِبِ لِجَابِرٍ فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرَوَى عَنْ جَابِرٍ قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَهُ هَذَا كَلَامُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فَحَصَلَ شَكٌّ فِي إدْرَاكِهِ وَمَذْهَبُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ الَّذِي ادَّعَى فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ الْإِجْمَاعَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي اتِّصَالِ الْحَدِيثِ اللِّقَاءُ بَلْ يَكْفِي إمْكَانُهُ وَالْإِمْكَانُ حَاصِلٌ قَطْعًا وَمَذْهَبُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ اشْتِرَاطُ ثُبُوتِ اللِّقَاءِ فَعَلَى مَذْهَبِ مُسْلِمٍ الْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ يَكُونُ مُرْسَلًا لِبَعْضِ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مُرْسَلَ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَنَا إذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ أَوْ قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ وَقَدْ اعْتَضَدَ هَذَا الْحَدِيثُ فَقَالَ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَنْ سَنَذْكُرُهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ الله تعالى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ كَوْنُهُ جَعَلَهُ مُرْسَلًا فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ أَبُو قَتَادَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ في "الصحيحين" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ مُتَّصِلٌ فَغَيَّرَهُ الْمُصَنِّفُ وقوله: فِي حَدِيثِ جَابِرٍ:
"مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ" هَكَذَا الرِّوَايَةُ فِيهِ يُصَادُ بِالْأَلِفِ وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى لُغَةٍ وَمِنْهُ قوله تعالى: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنمِي1

وَقَدْ غَيَّرَ الْمُصَنِّفُ أَلْفَاظًا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فَلَفْظُهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ فَبَصُرَ أَصْحَابُنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إلَى بَعْضٍ فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من بيت لامرئ القيس وبقيته: بما لاقت لبون بني زياد (ط).

 

 

ج / 7 ص -198-       فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَلَمْ يُعِينُونِي فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثُمَّ لَحِقْت بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا صِدْنَا حِمَارَ وَحْشٍ وَإِنَّ عِنْدَنَا فَاضِلَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَهُمْ مُحْرِمُونَ" وَفِي رِوَايَةٍ: "فَرَأَيْتُ أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ فَوَقَعَ السَّوْطُ فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إنَّا مُحْرِمُونَ فَتَنَاوَلْتُهُ فَأَخَذْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ الْحِمَارَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَعَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَأْكُلُوا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَمَامَنَا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كُلُوهُ حَلَالٌ" وَفِي رِوَايَةٍ: "هُوَ حَلَالٌ فَكُلُوهُ".
وَفِي رِوَايَةٍ في "الصحيحين" فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ؟" وَفِي رِوَايَةٍ: "أَنَّهُ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضُهُمْ فَأَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قال: "كُنْتُ جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي فَلَمْ يُؤْذِنُونِي بِهِ وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقَالُوا: لَا وَاَللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتهمَا ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فَوَقَعُوا عَلَيْهِ يَأْكُلُونَهُ ثُمَّ إنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ شَيْءٍ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا حَتَّى تَعَرَّقَهَا1 وَهُوَ مُحْرِمٌ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَقال:
"هَلْ مَعَكُمْ شَيْءٌ؟ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا ثُمَّ تَعَرَّقَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَقَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَقَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا" هَذِهِ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ وَإِنَّمَا أَخَذَ صلى الله عليه وسلم مَا أَخَذَهُ وَأَكَلَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ فِي إبَاحَتِهِ وَمُبَالَغَةً فِي إزَالَةِ الشُّبْهَةِ عَنْهُمْ وَالشَّكِّ فِيهِ لِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَقَالَ الْقَلَعِيُّ: احْتَرَزَ بِفِعْلٍ عَنْ عَقْدٍ وَبِقَوْلِهِ: مُحَرَّمٌ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَبِقَوْلِهِ: فِي الْإِحْرَامِ عَنْ ذَبْحِ شَاةِ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: لَيْسَ بِنَامٍ احْتِرَازٌ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَقَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ وَقَوْلُهُ: وَلَا يَئُولُ إلَى النَّمَاءِ احْتِرَازٌ مِنْ كَسْرِ بَيْضِ الصَّيْدِ وَقَوْلُهُ: الْبَيْضِ الْمَذِرِ هُوَ - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - أَيْ الْفَاسِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُ صَيْدٍ صَادَهُ هُوَ أَوْ أَعَانَ عَلَى اصْطِيَادٍ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ بِدَلَالَةٍ أَوْ إعَارَةِ آلَةٍ سَوَاءٌ دَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً وَسَوَاءٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقال: عرقت العظم وتعرقته وأعرقته إذا أخذت اللحم عنه نهشاً بأسنانك وعظم معروق إذا ألقي عنه لحمه (ط).

 

ج / 7 ص -199-       إعَارَةٌ مَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْقَاتِلُ أَمْ لَا وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لَحْمُ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ الْمُحْرِمُ وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ أَمْ لَا وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَيْضًا وأما: إذَا صَادَ الْحَلَالُ شَيْئًا وَلَمْ يَقْصِدْ اصْطِيَادَهُ لِلْمُحْرِمِ وَلَا كَانَ مِنْ الْمُحْرِمِ فِيهِ إعَانَةٌ وَلَا دَلَالَةٌ فَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ بِلَا خِلَافٍ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ مِمَّا صَادَهُ الْحَلَالُ لَهُ أَوْ بِإِعَانَتِهِ أَوْ دَلَالَتِهِ فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: الأصح: "الْجَدِيدُ" لَا جَزَاءَ و"القديم" وُجُوبُ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْقِيمَةُ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ هَكَذَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ تَفْرِيعًا عَلَى "الْقَدِيمِ".
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ عَلَى "الْقَدِيمِ" ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أحدها: يَضْمَنُ مِثْلَهُ لَحْمًا مِنْ لُحُومِ النَّعَمِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ والثاني يَضْمَنُ مِثْلَهُ مِنْ النَّعَمِ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ النَّعَمِ فَإِنْ أَكَلَ عُشْرَ لَحْمِهِ لَزِمَهُ عُشْرٌ مِثْلُهُ والثالث: يَضْمَنُ قِيمَةُ مَا أَكَلَ دَرَاهِمَ فَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا دَرَاهِمَ وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ هَذَا نَقْلُ الْمَاوَرْدِيُّ وَعَلَى مُقْتَضَى الثَّالِثِ أَنَّهُ إنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا أما: إذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ مَا ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِأَكْلِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ شَيْءٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا كَمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ بَعْدَ الذَّبْحِ شَيْءٌ آخَرُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَزَاءُ قَتْلِهِ فَقَطْ هَذَا مَذْهَبُنَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ جَزَاءٌ آخَرُ وَوَافَقَنَا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فَلِهَذَا قَاسَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ وَقَاسُوهُ أَيْضًا عَلَى مَنْ ذَبَحَ شَاةً لِآدَمِيٍّ ثُمَّ أَكَلَهَا فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا صِيدَ لَهُ أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ فَلَأَنْ يَحْرُمَ مَا ذَبَحَهُ أَوْلَى وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ قال في "الجديد": يَحْرُمُ لِأَنَّ مَا حَرُمَ عَلَى الذَّابِحِ أَكْلُهُ حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ وقال: فِي الْقَدِيمِ: لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ مَا حَلَّ بِذَكَاتِهِ غَيْرُ الصَّيْدِ حَلَّ بِذَكَاتِهِ الصَّيْدُ كَالْحَلَالِ فَإِنْ أَكَلَ مَا ذَبَحَهُ لَمْ يَضْمَنْ بِالْأَكْلِ؛ لِأَنَّ مَا ضَمِنَهُ بِالْقَتْلِ لَمْ يَضْمَنْهُ بِالْأَكْلِ كَشَاةِ الْغَيْرِ.
الشرح: إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا حَرُمَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ "الجديد" تَحْرِيمُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": صَحَّحَ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذَا "الْقَدِيمَ" وَقَالَ الْقَاضِي أَيْضًا فِي كِتَابِهِ "المجرد": وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "الْقَدِيمُ"1 هُنَا هَذَا كَلَامُهُ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ "الْجَدِيدُ" وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ وإن قلنا: "بِالْجَدِيدِ" فَأَكَلَهُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ صَيْدًا فَهُوَ كَمَنْ أَكَلَ مَيْتَةً أُخْرَى صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ فَعَلَى "الْجَدِيدِ" ذَبِيحَةُ الْمُحْرِمِ مَيْتَةٌ وَعَلَى "الْقَدِيمِ" لَيْسَتْ مَيْتَةٌ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَامِ.
فَلَوْ تَحَلَّلَ وَاللَّحْمُ بَاقٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ؟ إن قلنا: يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَوْلَى وَإِلَّا فَطَرِيقَانِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالنسخة بين أيدينا ولعل العبارة وقال أصحابنا القديم هنا لا يحرم هذا كلامه. المطيعي.

 

ج / 7 ص -200-       حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: أحدهما: الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ أَبَحْنَاهُ لَهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ جُعِلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى إدْخَارِهِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الْمَرَاوِزَةُ والطريق الثاني: فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: تَحْرِيمُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. والثاني إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلْإِحْرَامِ وَقَدْ زَالَ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: زَيَّفُوا وَجْهَ الْإِبَاحَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا حُكْمُ ذَبِيحَةِ الْمُحْرِمِ فأما: إذَا ذَبَحَ الْحَلَالُ صَيْدًا حَرَمِيًّا فَفِيهِ طَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا: أصحهما: أَنَّهُ كَذَبِيحَةِ الْمُحْرِمِ "فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ الْقَوْلَانِ: الأصح: تَحْرِيمُهُ والثاني إبَاحَتُهُ والطريق الثاني: وَصَحَّحَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَبِيحَةِ الْمُحْرِمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مُحَرَّمٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ والثاني أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ بِخِلَافِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا أَكَلَ مَا ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ فِي الْحَرَمِ أَوْ الْإِحْرَامِ لَا يَلْزَمُهُ بِالْأَكْلِ جَزَاءٌ إنَّمَا يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ بِسَبَبِ الذَّبْحِ وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ قَرِيبًا وَاضِحَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما إذَا كَسَرَ الْمُحْرِمُ بَيْضَ صَيْدٍ وَقَلَاهُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ طَرِيقَانِ: أشهرهما: وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا وَكَثِيرُونَ وَبِهَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَنَقَلَهَا صَاحِبُ "البحر" عَنْ الْأَصْحَابِ مُطْلَقًا أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَاللَّحْمِ "الجديد" تَحْرِيمُهُ و"القديم" إبَاحَتُهُ وَالطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ: الْقَطْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَاخْتَارَهَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَحَّحَهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ فِي "البحر" وَغَيْرُهُمْ وَقَطَعَ بِهَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه" الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجَهِلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَكَى فِي تَحْرِيمِهِ قَوْلَيْنِ قَالَ: وَهَذَا جَهْلٌ قَبِيحٌ وَالصَّوَابُ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ وَفَرَّقَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْبَيْضِ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا بِذَكَاةٍ وَالْمُحْرِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا بِخِلَافِ الْبَيْضِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ بِكُلِّ حَالٍ وَيُبَاحُ مِنْ غَيْرِ قَلْيٍ وَلَوْ كَسَرَهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ قَلَاهُ حَلَّ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ الْبَيْضُ مَنْزِلَةَ ذَبِيحَةٍ حَلَالٍ1، فَمَنْ حَلَّ لَهُ أَكْلُ صَيْدٍ ذَبَحَهُ لَهُ حَلَالٌ حَلَّ لَهُ هَذَا الْبَيْضُ قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ حَلَبَ لَبَنَ صَيْدٍ أَوْ قَتَلَ جَرَادَةً فَهُوَ كَكَسْرِهِ الْبَيْضَ؛ لِأَنَّ الْجَرَادَةَ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَهَا مَجُوسِيٌّ حَلَّتْ وَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْجَرَادَ إذَا قَتَلَهُ مُحْرِمٌ حَلَّ لِلْحَلَالِ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ أَخَذَ إنْسَانٌ بَيْضَ صَيْدِ الْحَرَمِ فَكَسَرَهُ أَوْ قَلَاهُ فَطَرِيقَانِ: أحدهما: أَنَّهُ كَلَحْمِ صَيْدِ الْحَرَمِ وأصحهما: أَنَّا إنْ قُلْنَا: صَيْدُ الْحَرَمِ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ فَالْبَيْضُ حَلَالٌ وَإِنْ قُلْنَا: مَيْتَةٌ فَفِي الْبَيْضِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا صَيْدَ الْحَرَمِ كَحَيَوَانٍ لَا يَحِلُّ لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا عَلَى الْعُمُومِ وَبَيْضُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَا يَحِلُّ والثاني يَحِلُّ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْبَيْضِ وَقَلْيَهُ لَيْسَ سَبَبَ الْإِبَاحَةِ بِخِلَافِ ذَبْحِ الصَّيْدِ قَالَ: وَحُكْمُ ابْنِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَحُكْمُ جَرَادِهِ حُكْمُ الْبَيْضِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ بَيْضَ صَيْدِ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى كَاسِرِهِ وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِكَسْرِهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضاف ومضاف إليه أي ذبيحة إنسان غيرمحرم (ط).

 

 

ج / 7 ص -201-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّيْدَ أَوْ يَتَّهِبَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: "إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ" وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَمَلَّكُ بِهِ الصَّيْدُ فَلَمْ يَمْلِكْ بِهِ مَعَ الْإِحْرَامِ كَالِاصْطِيَادِ وَإِنْ مَاتَ مَنْ يَرِثَهُ وَلَهُ صَيْدٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْمَلَكِ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ الصَّيْدَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ والثاني أَنَّهُ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ وَيَمْلِكُ بِهِ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ صَيْدٌ فَأَحْرَمَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ فَلَا يَزُولُ بِالْإِحْرَامِ كَمِلْكِ الْبُضْعِ والثاني يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُرَادُ لِلْبَقَاءِ يَحْرُمُ [عَلَى الْمُحْرِمِ] ابْتِدَاؤُهُ فَحَرُمَتْ اسْتِدَامَتُهُ كَلُبْسِ الْمَخِيطِ.
فإن قلنا: لا يَزُولُ مِلْكُهُ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ فَإِنْ قَتَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ تَجِبُ لِلَّهِ تعالى فَجَازَ أَنْ تَجِبَ عَلَى مَالِكِهِ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وإن قلنا: يَزُولُ مِلْكُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى مَاتَ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى تَحَلَّلَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ زَوَالِ الْمِلْكِ هُوَ الْإِحْرَامُ وَقَدْ زَالَ فَعَادَ الْمِلْكُ كَالْعَصِيرِ إذَا صَارَ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ خَلًّا والثاني أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ وَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ مُتَعَدِّيَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يُزِيلَهَا.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ: منها: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "مِنْ لَحْمِ حِمَارِ وَحْشٍ" وَفِي رِوَايَةٍ: "رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ" وَفِي رِوَايَةٍ: "عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ يَقْطُرُ دَمًا" وَفِي رِوَايَةٍ: "شِقَّ حِمَارِ وَحْشٍ" وَفِي رِوَايَةٍ: "عُضْوًا مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ" هَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"، وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ إذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يَقْبَلْ ثُمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: حِمَارًا وَحْشِيًّا فَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى أَنَّ هَذَا الْحِمَارَ كَانَ حَيًّا وَحَكَى هَذَا أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ اسْتِدْلَالِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ.
فَالصَّوَابُ: أَنَّهُ إنَّمَا أَهْدَى بَعْضَ لَحْمِ صَيْدٍ لِأَكْلِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: حِمَارًا وَحْشِيًّا وَحِمَارَ وَحْشٍ مَجَازًا أَيْ بَعْضَ حِمَارٍ وَيَكُونُ رَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ أَوْ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ اصْطَادَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ الِاصْطِيَادَ لَهُ لَقَبِلَهُ مِنْهُ فَإِنَّ لَحْمَ الصَّيْدِ الَّذِي صَادَهُ الْحَلَالُ إنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا صِيدَ لَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا فإن قيل: فَإِنَّمَا عَلَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ حُرُمٌ قلنا: لَا تَمْنَعُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ كَوْنَهُ صِيدَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ الصَّيْدُ عَلَى الْإِنْسَانِ إذَا صِيدَ لَهُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُحْرِمًا فَبَيَّنَ الشَّرْطَ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ وَسَأَبْسُطُ الْكَلَامَ فِي إيضَاحِ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيَانِ طُرُقِهِ وَمَا يُوَافِقُهُ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْهُ إنْ شَاءَ الله تعالى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما قَوْلُهُ: الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ فَالصَّعْبُ - بِفَتْحِ الصَّادِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَجَثَّامَةُ - بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ ثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مُشَدَّدَةٍ - وقوله: صلى الله عليه وسلم:
"لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ" هُوَ - بِرَفْعِ الدَّالِ - عَلَى الصَّوَابِ الْمَعْرُوفِ لِأَهْلِ

 

ج / 7 ص -202-       الْعَرَبِيَّةِ وَغَلَبَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ فَتْحُهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي "التَّهْذِيبِ" و"شَرْحِ مُسْلِمٍ" وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَمَلَّكُ بِهِ الصَّيْدُ إنَّمَا قَالَ: يُتَمَلَّكُ وَلَمْ يَقُلْ: يُمْلَكُ لِيَحْتَرِزَ عَنْ الإِرْثِ فَإِنَّهُ يُمْلَكُ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُمْلَكُ بِهِ الصَّيْدُ وَلَا يُقَالُ فِي الْإِرْثِ: يُتَمَلَّكُ إنَّمَا يُقَالُ: يُمْلَكُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ قَهْرِيٌّ قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُرَادُ لِلْبَقَاءِ يَحْرُمُ ابْتِدَاؤُهُ فَحَرُمَتْ اسْتِدَامَتُهُ كَلُبْسِ الْمَخِيطِ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: لَا يُرَادُ لِلْبَقَاءِ مِنْ النِّكَاحِ وَبِقَوْلِهِ: يَحْرُمُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ لُبْسِ مَا سِوَى الْمَخِيطِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةٌ بِالطِّيبِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِدَامَتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَفِيهَا مَسَائِلُ: إحداها: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ شِرَاءُ الصَّيْدِ وَقَبُولُ هِبَتِهِ وَهَدِيَّتِهِ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ وَبِهِ فَإِنْ اشْتَرَاهُ أَوْ قَبِلَ الْهِبَةَ أَوْ الْهَدِيَّةَ أَوْ الْوَصِيَّةَ فَهَلْ يَمْلِكُهُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ لَا يَمْلِكُهُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني طَرِيقَةُ الْقَفَّالِ وَمُعْظَمِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ صَيْدٌ فَأَحْرَمَ فإن قلنا: يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ لَمْ يَمْلِكْ الصَّيْدَ بِالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ وَإِلَّا فَقَوْلَانِ كَشِرَاءِ الْكَافِرِ عَبْدًا مُسْلِمًا أصحهما: لَا يَمْلِكُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فإن قلنا بِالْمَذْهَبِ: إنَّهُ يَمْلِكُ فَلَيْسَ لَهُ الْقَبْضُ فَإِنْ قَبَضَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَزِمَهُ إرْسَالُهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ: لَزِمَهُ إرْسَالُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَمْلِكُهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهُ مَلَكَهُ مَا أَمَرَهُ بِإِرْسَالِهِ وَمَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُهُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَطَائِفَةٌ الْمُرَادُ بِإِرْسَالِهِ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ إرْسَالَهُ فِي الْبَرِّيَّةِ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَضْيِيعُهُ وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ صاحب "الشامل" وَآخَرُونَ: يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيُحْمَلُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجِبُ إرْسَالُهُ بِحَيْثُ يَتَوَحَّشُ وَيَصِيرُ مُمْتَنِعًا فِي الْبَرِّيَّةِ وَيُدْفَعُ إلَى مَالِكِهِ الْقِيمَةُ.
قَالُوا: وَيَجُوزُ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَالِكِ مِنْ عَيْنٍ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي حُصُولِهِ فِي يَدِ الْمُحْرِمِ حَتَّى وَجَبَ إرْسَالُهُ فَانْتَقَلَ حَقُّهُ إلَى الْبَدَلِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيَصِيرُ الْمُحْرِمُ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ طَعَامِ غَيْرِهِ فَيَأْكُلُهُ وَيَغْرَمُ بَدَلَهُ وَيَكُونُ الِاضْطِرَارُ عُذْرًا فِي إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَذَا هُنَا هَذَا مُخْتَصَرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَزِمَهُ إرْسَالُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُحْرِمِ قَبْلَ إرْسَالِهِ وَرَدِّهِ إلَى مَالِكِهِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ تعالى يُدْفَعُ إلَى الْمَسَاكِينِ وَيَلْزَمُهُ لِمَالِكِهِ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ قَبَضَهُ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ مَضْمُونٌ وَفِي وَقْتِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ فِيمَنْ تَلِفَ عِنْدَهُ الْمَقْبُوضُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا لَزِمَهُ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ تعالى وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِمَالِكِهِ الْوَاهِبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُلِّ مَا قُبِضَ بِهِبَةٍ فَاسِدَةٍ هَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا أَمْ لا؟: أصحهما: لا يَكُونُ مَضْمُونًا؛ لأَنَّ حُكْمَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ حُكْمُ الصَّحِيحَةِ فِي الضَّمَانِ فَمَا ضُمِنَ صَحِيحُهُ ضُمِنَ فَاسِدُهُ وَمَا لَا يُضْمَنُ

 

ج / 7 ص -203-       صَحِيحُهُ لَا يُضْمَنُ فَاسِدُهُ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مَشْهُورَةٌ سَنُوَضِّحُهَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ وَالشَّرِكَةِ وَالْهِبَةِ إنْ شَاءَ الله تعالى.
وَمِمَّا ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا هُنَا الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابه "الْجَامِعِ" وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَصاحب "البيان" وَآخَرُونَ هُنَا بِالْأَصَحِّ وَهُوَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ وَأَشَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ إلَى الْقَطْعِ بِالضَّمَانِ وَقَدْ اغْتَرَّ الرَّافِعِيُّ بِهَذَا فَوَافَقَ إشَارَتَهُمْ فَقَطَعَ هُنَا بِالضَّمَانِ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ هَذَا كُلُّهُ إذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُحْرِمِ. أما: إذَا أَتْلَفَهُ فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَصاحب "الشامل" وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ كَمَا لَوْ تَلِفَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أما: إذَا رَدَّهُ إلَى مَالِكِهِ فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْقِيمَةُ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْآدَمِيِّ سَوَاءٌ كَانَ قَبَضَهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ تعالى إلَّا بِإِرْسَالِهِ.
وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ مَالِكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ الْمُحْرِمَ الْجَزَاءُ وَإِنْ أَرْسَلَهُ مَالِكُهُ سَقَطَ عَنْ الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَقَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ بِأَنَّهُ إذَا مَا قَبَضَهُ بِالْبَيْعِ إلَى بَائِعِهِ زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَلَوْ قَبَضَهُ بِالْهِبَةِ فَرَدَّهُ إلَى وَاهِبِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ الضَّمَانُ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُتَّهَبَ كَانَ يُمْكِنُهُ إرْسَالُهُ وَلَا يَكُونُ ضَامِنًا لِوَاهِبِهِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا الْحُكْمُ وَالْفَرْقُ ضَعِيفَانِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإِنْ صَحَّحَنَا الشِّرَاءَ فَبَاعَهُ الْمُحْرِمُ حَرُمَ الْبَيْعُ وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي إرْسَالُهُ فَإِذَا أَرْسَلَهُ فَهَلْ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَنْ بَاعَ عَبْدًا مُرْتَدًّا فَقُتِلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَإِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ قَالَ: قَالَ الْأَئِمَّةُ: إذَا بَاعَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَمَرْنَاهُ بِإِطْلَاقِهِ1، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي إرْسَالُهُ قَالَ فَإِنْ اسْتَبْعَدَ الْفَقِيهُ ذَلِكَ فَهُوَ كَتَصْحِيحِنَا مِنْ الْمُشْتَرِي شِرَاءَهُ مَعَ أَمْرِنَا إيَّاهُ بِإِرْسَالِهِ ثُمَّ إذَا أَرْسَلَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ قَبْضِهِ اتَّصَلَ هَذَا بِالتَّفْرِيعِ فِيمَنْ اشْتَرَاهُ مُرْتَدًّا فَقُتِلَ فِي يَدِهِ بِالرِّدَّةِ فَمِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ قَالَ: وَلَعَلَّ الْوَجْهَ الْقَطْعُ هُنَا بِإِرْسَالِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّا قَدْ نَقُولُ: الْمُرْتَدُّ قَدْ يُقْتَلُ لِرِدَّةٍ حَالَّةٍ وَالْخَطَرَاتُ تَتَجَدَّدُ وَالسَّبَبُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ وُجُوبَ الْإِرْسَالِ دَائِمٌ لَا تَجَدُّدَ فِيهِ قَالَ: ثُمَّ قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ تَلِفَ الصَّيْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ يَدِ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُ وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ كَيْفَ تَنَاسَخَتْ الْأَيْدِي؟ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ أَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ إلَى إثْبَاتِ هَذِهِ الْأَيْدِي وَلِلسَّبَبِ فِي الْمَضْمُونَاتِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَمُرَادُهُ بِالضَّمَانِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ ضَمَانُ الْجَزَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثانية: إذَا مَاتَ لِلْمُحْرِمِ قَرِيبٌ يَمْلِكُ صَيْدًا فَهَلْ يَرِثُهُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَجْهَانِ: أصحهما: يَرِثُهُ والثاني لَا، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ والطريق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل واو العطف هنا زائدة لتكون وجب جواب إذا الشرطية وإلا فأين جواب إذا (ط).

 

ج / 7 ص -204-       الثاني: وَبِهِ قَطَعَ الْقَفَّالُ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْدَلَانِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ: يَرِثُهُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ قَهْرِيٌّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِتَوْرِيثِهِ عَلَى قَوْلِنَا إنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الصَّيْدِ فأما: إذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْآخَرِ: إنَّهُ يُزِيلُهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِالْإِرْثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَكْسَهُ فَقَالَ: قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ إذَا قُلْنَا: الْإِحْرَامُ يَقْطَعُ دَوَامَ الْمِلْكِ فَفِي الْإِرْثِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِاسْتِمْرَارِ الْمِلْكِ عَلَى الدَّوَامِ فَإِذَا كَانَ الْإِحْرَامُ يُنَافِي دَوَامَ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ يُنَافِي الْمِلْكَ الْمُتَجَدِّدَ الْمُشَبَّهَ بِالدَّوَامِ والثاني يَحْصُلُ الْمِلْكُ بِالْإِرْثِ وَيُزِيلُهُ فَإِنَّا نَضْطَرُّ إلَى الْجَرْيِ عَلَى قِيَاسِ التَّوْرِيثِ فَلْنُجْرِ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثُمَّ نَحْكُمُ بَعْدَهُ بِالزَّوَالِ.
هَذَا كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ لِمَا قَالَهُ وَهَذَا النَّقْلُ الَّذِي أَضَافَهُ الْإِمَامُ إلَى الْعِرَاقِيِّينَ غَرِيبٌ فِي كُتُبِهِمْ وأما: الْمُتَوَلِّي فَقَالَ: إنْ قُلْنَا: تَزُولُ مِلْكُهُ فِي الصَّيْدِ لَمْ يَرِثْهُ وَإِلَّا فَيَرِثُهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَإِنْ قُلْنَا: يَرِثُ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ يَزُولُ مِلْكُهُ عَقِبَ ثُبُوتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَزُولُ عَنْ الصَّيْدِ بِالْإِحْرَامِ قَالَ: وَفِي "التَّهْذِيبِ" وَغَيْرِهِ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا وَرِثَهُ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ فَإِنْ بَاعَهُ صَحَّ بَيْعُهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ الْجَزَاءِ حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ إذَا أَرْسَلَهُ الْمُشْتَرِي هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَهَذَا الَّذِي أَضَافَهُ إلَى "التَّهْذِيبِ" وَغَيْرِهِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ وَآخَرُونَ.
قَالَ الْمَحَامِلِيُّ في "المجموع": إذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالْإِرْثِ كَانَ مِلْكًا لَهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ إلَّا الْقَتْلَ وَالْإِتْلَافَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: إذَا قُلْنَا: لَا يَرِثُ فَفِي حُكْمِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي يَكُونُ مِلْكُ الصَّيْدِ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ وَيَكُونُ إحْرَامُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّيْدِ مَانِعًا مِنْ مَوَانِعِ الْإِرْثِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْمَيِّتِ حَتَّى يَتَحَلَّلَ الْمُحْرِمُ مِنْ إحْرَامِهِ فَإِنْ تَحَلَّلَ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تعليقه وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْجَامِعِ" وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ "الْمَجْمُوعِ" و"التجريد" وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد" وَصاحب "الحاوي" وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه" وَأَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ وَصَاحِبُ "الْعِدَّةِ" و"الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُمْ قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَإِنْ مَاتَ الْوَارِثُ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثالثة: إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ صَيْدٌ فَأَحْرَمَ فَفِي زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمَا في "الأم" وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا نَصَّ في "الإملاء" عَلَى أَنَّهُ لَا يَزُولُ: مِمَّنْ حَكَى هَذَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ والأصح: وَفِي الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَزُولُ مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَفِي "المجرد" وَالْعَبْدَرِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَخَالَفَهُمْ الْجُرْجَانِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ "التحرير" الْأَصَحُّ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَالْمَشْهُورُ تَصْحِيحُ زَوَالِ مِلْكِهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَلْ يَلْزَمُهُ

 

ج / 7 ص -205-       إرْسَالُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَظْهَرُ: يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ وقيل: لَا يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ قَوْلًا وَاحِدًا بَلْ يُسْتَحَبُّ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ لَمْ نُوجِبْ الْإِرْسَالَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ لَهُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ فَإِنْ قَتَلَهُ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ أَوْ قَتَلَهُ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ لِلْمَالِكِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَالِكِ وَإِنْ أَوْجَبْنَا إرْسَالَهُ فَهَلْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أصحهما: يَزُولُ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ أَوْ قَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَرْسَلَهُ الْمُحْرِمُ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ قَبْلَ اصْطِيَادِهِ أَوَّلًا وَلَوْ لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى تَحَلَّلَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: يَلْزَمُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ وَاتَّفَقُوا عَلَى تَصْحِيحِهِ والثاني لَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ بِنَفْسِ الْإِحْرَامِ أَمْ الْإِحْرَامُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْإِرْسَالَ فَإِذَا أَرْسَلَ زَالَ حِينَئِذٍ. وَالْأَوَّلُ: مِنْهُمَا أَصَحُّ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ وَصَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ.
وإن قلنا: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ فَلَوْ أَخَذَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَوْ قَتَلَهُ ضَمِنَهُ وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ بَعْدَ إمْكَانِ الْإِرْسَالِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْعَانِ عَلَى وُجُوبِ الْإِرْسَالِ وَهُوَ مُقَصِّرٌ بِالْإِمْسَاكِ وَلَوْ مَاتَ الصَّيْدُ قَبْلَ إمْكَانِ الْإِرْسَالِ وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَلَا يَجِبُ فِي الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ في "تعليقه" والبندنيجي وصاحب "البيان"، وَمِمَّنْ صَحَّحَ الْأَوَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ وَإِذَا لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ: الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِرْسَالُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَقَتَلَهُ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: أحدهما: لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ وَهُوَ حَلَالٌ وأصحهما: وُجُوبُ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ بِالْيَدِ فِي الْإِحْرَامِ فَلَا يَزُولُ الضَّمَانُ إلَّا بِالْإِرْسَالِ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْإِرْسَالِ عَلَى الْإِحْرَامِ مِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْأَصْحَابُ: مَتَى أَمَرَ بِإِرْسَالِ الصَّيْدِ فَأَرْسَلَهُ زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَصَارَ الصَّيْدُ مُبَاحًا فَمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ حَلَالٌ مَلَكَهُ وَكَذَا لَوْ أَخَذَهُ الْمُحْرِمُ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مَلَكَهُ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ وَكَغَيْرِهِ مِنْ الصَّيُودِ.
فرع: لَوْ اشْتَرَى صَيْدًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا وَقَدْ أَحْرَمَ الْبَائِعُ فَإِنْ قُلْنَا لِلْمُحْرِمِ: أَنْ يَمْلِكَ الصَّيْدَ بِالْإِرْثِ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَصاحب"البيان" وَآخَرُونَ: أحدهما: لَا يَرُدُّ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَدْخُلُ الصَّيْدُ فِي مِلْكِهِ والثاني يَرُدُّ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الرَّدِّ إضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي قَالَ الْمُتَوَلِّي: فإن قلنا: لَا يَرُدُّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَرَهَنَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا وَهُوَ مَرْهُونٌ وَقَالَ صاحب"البيان" إذَا قُلْنَا: لَا رَدَّ فَمَاذَا يَصْنَعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَرُدُّ عَلَيْهِ الْبَائِعُ الثَّمَنَ وَيُوقَفُ الصَّيْدُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَذَّرَ هُوَ رَدُّ الصَّيْدِ دُونَ رَدِّ الثَّمَنِ وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُوقِفَ حَتَّى يَتَحَلَّلَ الْبَائِعُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَرْشِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي لَزَالَ مِلْكُهُ عَنْ الصَّيْدِ إلَى الْبَائِعِ وَلَوَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْعِوَضَانِ لِلْمُشْتَرِي قلت: هَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ إنَّمَا هُوَ احْتِمَالٌ ذَكَرَهُ فِي

 

ج / 7 ص -206-       "تعليقه"، وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ اشْتَرَى الْحَلَالُ صَيْدًا ثُمَّ أَفْلَسَ بِالثَّمَنِ وَالْبَائِعُ مُحْرِمٌ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الصَّيْدِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ "التَّفْلِيسِ" وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ هُنَا في "المجموع" عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَصَاحِبُ الْعِدَّةِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ والطريق الثاني: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَوَجْهُ الْجَوَازِ رَفْعُ الضَّرَرِ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هُنَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالِاخْتِيَارِ فَلَمْ يُجْزِئُ مَعَ الْإِحْرَامِ كَالْمُشْتَرِي بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَإِنَّهُ مُجْزِئٌ وَبِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى وَجْهٍ فَإِنَّهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامِهِ.
فرع: لَوْ اسْتَعَارَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ لِلَّهِ تعالى وَالْقِيمَةِ لِلْمُعِيرِ وَلَيْسَ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهُ فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَالْقِيمَةُ فَإِنْ أَرْسَلَهُ عَصَى وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ لِلْمَالِكِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْجَزَاءُ وَإِنْ رَدَّهُ إلَى الْمَالِكِ بَرِيءَ مِنْ حَقِّ الْمَالِكِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْجَزَاءُ مَا لَمْ يُرْسِلْهُ الْمَالِكُ هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا الْفَرْعَ أَصْحَابُنَا فِي الطَّرِيقَتَيْنِ وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ إعَارَةِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَحْرِيمَ الْإِعَارَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْعَارِيَّةِ وأما: إذَا أَوْدَعَ الصَّيْدَ عِنْدَ الْمُحْرِمِ فَوَجْهَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ هُنَا أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ كَمَا لَوْ اسْتَعَارَهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَوْدَعَ مَالًا مَغْصُوبًا.
فَعَلَى هَذَا إنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَلَا تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِلْمَالِكِ إلَّا أَنْ يُفَرِّطَ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تُضْمَنُ إلَّا بِالتَّفْرِيطِ وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي"تعليقه": يَضْمَنُهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَإِنْ أَرْسَلَهُ عَصَى وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ لِلْمَالِكِ وَإِنْ رَدَّهُ إلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجَزَاءُ مَا لَمْ يُرْسِلْهُ الْمَالِكُ الثاني: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَحَكَاهُ عَنْهُ صاحب "البيان" فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْسِكْهُ لِنَفْسِهِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ تُنْتَقَضُ بِالْمَغْصُوبِ إذَا أُودِعَ عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ هُنَا: فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَ الْحَلَالُ صَيْدًا مِنْ مُحْرِمٍ فَتَلِفَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ مِلْكُ الْمُحْرِمِ عَنْ الصَّيْدِ بِالْإِحْرَامِ وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْيَدِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَا جَزَاءَ وَلَا قِيمَةَ أما: الْجَزَاءُ فَلِأَنَّهُ حَلَالٌ وأما: الْقِيمَةُ فَلِأَنَّ الْمُعِيرَ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْمُحْرِمِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَضْمَنُهُ إلَّا بِالْجِنَايَةِ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لِلْمَالِكِ؛ لِأَنَّهَا عَارِيَّةٌ مَمْلُوكَةٌ فَوَجَبَ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: حَيْثُ صَارَ الصَّيْدُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْجَزَاءِ - فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ فَإِنْ قَتَلَهُ حَلَالٌ فِي يَدِهِ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَإِنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ: أحدهما: الْجَزَاءُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ صَيْدٍ وأصحهما: يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ وَيَكُونُ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ

 

ج / 7 ص -207-       فرع: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ صَيْدٌ مَمْلُوكٌ لَهُمَا فَأَحْرَمَ أَحَدُهُمَا وَقُلْنَا: يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ إرْسَالُ الصَّيْدِ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَالْإِرْسَالُ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَأَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَ نَفْسِهِ عَنْهُ قَالَ: وَلَمْ يُوجِبْ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ السَّعْيَ فِي تَحْصِيلِ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ لِيُطْلِقَهُ وَلَكِنْ تَرَدَّدُوا فِي أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ هَلْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ حِصَّتِهِ؟ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ إطْلَاقُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ غَيْرَ مَأْكُولٍ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ كَالسِّمْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَالْحِمَارِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ حِمَارِ الْوَحْشِ وَحِمَارِ الْأَهْلِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا يُؤْكَلُ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِهِ وَوُجُوبِ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جِهَةُ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ كَمَا غَلَبَتْ جِهَةُ التَّحْرِيمِ فِي أَكْلِهِ وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا لَا يُؤْكَلُ وَلَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِمَّا يُؤْكَلُ فَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِيهِ وَاحِدٌ لقوله تعالى:
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] فَحَرَّمَ مِنْ الصَّيْدِ مَا يُحَرَّمُ بِالْإِحْرَامِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يُؤْكَلُ وَهَلْ يُكْرَهُ قَتْلُهُ أَوْ لَا يُكْرَهُ؟ يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ كَالذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْبَقِّ وَالْبُرْغُوثِ وَالْقَمْلِ وَالْقِرْقِشِ وَالزُّنْبُورِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ ضَرَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ وَيُسْتَضَرُّ بِهِ كَالْفَهْدِ وَالْبَازِي فَلَا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ كَالْخَنَافِسِ وَالْجِعْلَانِ وَبَنَاتِ وَرْدَانَ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ قَتْلُهُ وَلَا يَحْرُمُ.
الشرح: السِّمْعُ - بِكَسْرِ السِّينِ - وَالضَّبُعُ اسْمٌ لِلْأُنْثَى وأما: الذَّكَرُ فَيُقَالُ لَهُ ضِبْعَانُ - بِكَسْرِ الضَّادِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ - وَالْفَأْرَةُ مَهْمُوزَةٌ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ وَالْحِدَأَةُ - بِكَسْرِ الْحَاءِ - وَبَعْدَ الدَّالِ هَمْزَةٌ وَجَمْعُهُمَا حِدَأٌ كَعِنَبَةٍ وَعِنَبٍ وَالْبُرْغُوثُ - بِضَمِّ الْبَاءِ - وَالْقِرْقِشُ - بِقَافَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ - قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْبَعُوضُ الصِّغَارُ قَالَ: وَيُقَالُ: الْجِرْجِسُ - بِجِيمَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ - وَقِيلَ: إنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْبَقِّ وأما: الْبَازِي فَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ - تَخْفِيفُ الْيَاءِ وَتَشْدِيدُهَا - وَالثَّالِثَةُ بَازٍ بِغَيْرِ يَاءٍ أَفْصَحُهُنَّ الْبَازِي بِالْيَاءِ الْمُخَفَّفَةِ وَلُغَةُ التَّشْدِيدِ غَرِيبَةٌ وَمِمَّنْ حَكَاهَا ابْنُ مَكِّيٍّ وَأَنْكَرَهَا الْأَكْثَرُونَ وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ جَمْعِ1 الْكَلِمَةِ وَتَصْرِيفِهَا فِي "تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ".
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَنُمَهِّدُ قَبْلَهَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "فَيُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَامِ" وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِيّهُ رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "خَمْسٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال رضي الله عنه: قال أبو حاتم السجستاني في كتابه "المذكر والمؤنث" الباز مذكر لا اختلاف فيه يقال: البازي قال في االتثنية بازبان والجمع بزاة يقال: البزاة والشواهين ا هـ "التهذيب" الجزء الأول من القسم الثاني.

 

ج / 7 ص -208-       مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ" وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ مَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنْ الدَّوَابِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: حَدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْفَأْرِ وَالْعَقْرَبِ وَالْغُرَابِ وَالْحَيَّةِ" قَالَ: وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ قَالَ:
"الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفُوَيْسِقَةُ وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْحِدَأَةُ وَالسَّبُعُ الْعَادِي" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ قَوْلُهُ: وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَأَكَّدُ نَدْبُ قَتْلِهِ كَتَأَكُّدِهِ فِي الْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "الْوَزَغُ فُوَيْسِقٌ وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَمَرَ الْمُحْرِمَ بِقَتْلِ الزُّنْبُورِ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْجُبَيْرِ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُقَرِّدُ بَعِيرًا لَهُ فِي طِينٍ بِالسُّقْيَا وَهُوَ مُحْرِمٌ" رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الموطأ" وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: مَا لَيْسَ مَأْكُولًا مِنْ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ ضَرْبَانِ: أحدهما: مَا لَيْسَ فِي أَصْلِهِ مَأْكُولًا والثاني مَا أَحَدُ أَصْلَيْهِ مَأْكُولٌ فَالْأَوَّلُ لَا يَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ بِالْإِحْرَامِ فَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ قَتْلُهُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ فِي الْحَرَمِ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الضَّرْبُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أحدها: مَا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الْمُؤْذِيَاتُ كَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالدُّبِّ وَالنَّسْرِ وَالْعُقَابِ وَالْبُرْغُوثِ وَالْبَقِّ وَالزُّنْبُورِ وَالْقُرَادِ واللكة والقرقش وَأَشْبَاهِهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا فِيهِ نَفْعٌ وَمَضَرَّةٌ كَالْفَهْدِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهَا فَلَا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهَا وَلَا يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَالَ الْقَاضِي: نَفْعُ هَذَا الضَّرْبِ أَنَّهُ يُعَلَّمُ لِلِاصْطِيَادِ وَضَرَرُهُ أَنَّهُ يَعْدُو عَلَى النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ.
الثالث: مَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ كَالْخَنَافِسِ وَالدُّودِ وَالْجِعْلَانِ وَالسَّرَطَانِ وَالْبُغَاثَةِ وَالرَّخَمَةِ والعضاء واللحكاء وَالذُّبَابِ وَأَشْبَاهِهَا فَيُكْرَهُ قَتْلُهَا وَلَا يَحْرُمُ هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُ الطُّيُورِ دُونَ الْحَشَرَاتِ وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ عَبَثٌ بِلَا حَاجَةٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا" إلَى آخِرِهِ وَلَيْسَ مِنْ الْإِحْسَانِ قَتْلُهَا عَبَثًا وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ يُكْرَهُ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ مَا لَا يَضُرُّهُ" قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النَّحْلِ وَالنَّمْلِ وَالْخَطَّافِ وَالضُّفْدَعِ وَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ أَكْلِهِمَا إنْ جَازَ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا

 

ج / 7 ص -209-       وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى الله تعالى إلَيْهِ أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ"1. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: الْكَلْبُ الَّذِي لَيْسَ بِعَقُورٍ فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فَقَتْلُهُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُ وَقِيلَ: يُكْرَهُ وَالْأَمْرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ مَنْسُوخٌ وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَسَنُعِيدُهَا وَاضِحَةً إنْ شَاءَ الله تعالى حَيْثُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَادَّتَهَا فِي بَابِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ أما: الْقَمْلُ فَقَتْلُهُ مُسْتَحَبٌّ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.
وَأَمَّا: فِي حَالِ الْإِحْرَامِ فَإِنْ ظَهَرَ عَلَى ثِيَابِ الْمُحْرِمِ أَوْ بَدَنِهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ تَنْحِيَتُهُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُهُ فَإِنْ قَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَأْكُولًا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُفَلِّيَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ فَإِنْ فَعَلَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا قَمْلَةً وَقَتَلَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَصَدَّقَ وَلَوْ بِلُقْمَةٍ قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: هَذَا التَّصَدُّقُ مُسْتَحَبٌّ.
وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه" وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا أَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَذَى عَنْ الرَّأْسِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: وَلَوْ جَعَلَ الزَّيْتَ فِي رَأْسِهِ فَمَاتَ الْقَمْلُ وَالصِّئْبَانُ فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ هَذَا إذَا جَعَلَهُ فِي شَعْرِ رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: قَالُوا جَمِيعًا: فَإِنْ جَعَلَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلَا فِدْيَةَ قَطْعًا لَا وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِلصِّئْبَانِ حُكْمُ الْقَمْلِ وَهُوَ بَيْضُ الْقَمْلِ لَكِنَّ فِدْيَتَهُ أَقَلُّ مِنْ فِدْيَةِ الْقَمْلِ لِكَوْنِهِ أَصْغَرَ مِنْهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحَقِيقَةُ الْفِدْيَةِ لَيْسَتْ لِلْقَمْلِ بَلْ لِلتَّرَفُّهِ بِإِزَالَةِ الْأَذَى عَنْ الرَّأْسِ فَأَشْبَهَ حَلْقَ شَعْرِ الرَّأْسِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا فِي أَصْلِهِ مَأْكُولٌ كَالْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ ذِئْبٍ وَضَبُعٍ أَوْ حِمَارِ وَحْشٍ وَإِنْسٍ فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ وَيَجِبُ الْجَزَاءُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَيَلْحَقُ بِهَذَا الضَّرْبِ مَا تَوَلَّدَ مِنْ صَيْدٍ وَحَيَوَانٍ أَهْلِيٍّ كَمُتَوَلَّدٍ بَيْنَ ضَبُعٍ وَشَاةٍ وَدَجَاجَةٍ وَيَعْفُورٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ التَّعَرُّضُ لَهُ وَيَضْمَنُهُ بِالْجَزَاءِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ أَتْلَفَ حَيَوَانًا وَشَكَّ هَلْ هُوَ مَأْكُولٌ أَمْ لَا؟ أَوْ شَكَّ هَلْ خَالَطَهُ وَحْشِيٌّ مَأْكُولٌ أَمْ لَا؟ لَمْ يَجِبْ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ احْتِيَاطًا وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى هَذَا وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ كَالْحَيَوَانِ عِنْدَ الشَّكِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعلى منهج الإمام النووي في أنه يكتفي بذكر "الصحيحين" إذا كان الحديث فيهما ولا يذكر غيرهما مع وروده وإلا فهذا الحديث أخرجه أبو داود في "الأدب" والنسائي في الصيد ولم يرد ذكر البخاري ومسلم في "الفهرس" الذي صنعه المستشرقون فنسنك ورفاقة فكم في ذلك الفهرست من أخطاء.

 

ج / 7 ص -210-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَمَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ مِنْ الصَّيْدِ حَرُمَ عَلَيْهِ بَيْضُهُ وَإِذَا كَسَرَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَقَالَ الْمُزَنِيّ رحمه الله: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا رُوحَ فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ ثَمَنُهُ" وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الصَّيْدِ يُخْلَقُ مِنْهُ مِثْلُهُ فَضَمِنَ بِالْجَزَاءِ كَالْفَرْخِ فَإِذَا كَسَرَ بَيْضًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ وَهَلْ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ كَالصَّيْدِ وَقَالَ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ رحمه الله: فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا رُوحَ فِيهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ وَإِنْ كَسَرَ بَيْضًا مَذِرًا لَمْ يَضْمَنْهُ مِنْ غَيْرِ النَّعَامَةِ؛ لِأَنَّ لَا قِيمَةَ لَهُ وَيَضْمَنُهُ مِنْ النَّعَامَةِ؛ لِأَنَّ لِقِشْرِ بَيْضِ النَّعَامَةِ قِيمَةً".
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْمُهَزِّمِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو الْمُهَزِّمِ هَذَا ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ وَبَالَغُوا فِي تَضْعِيفِهِ حَتَّى قَالَ شُعْبَةُ: وَلَوْ أَعْطَوْهُ فَلْسًا لَحَدَّثَهُمْ سَبْعِينَ حَدِيثًا وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَآثَارًا وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الصَّيْدِ احْتِرَازٌ مِنْ بَيْضِ الدَّجَاجِ وَقَوْلُهُ: يُخْلَقُ مِنْهُ مِثْلُهُ احْتِرَازٌ مِنْ الْبَيْضِ الْمَذِرِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: كُلُّ صَيْدٍ حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ حَرُمَ عَلَيْهِ بَيْضُهُ وَإِذَا كَسَرَهُ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا الْمُزَنِيَّ وَدَاوُد فَقَالَا: هُوَ حَلَالٌ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْبَيْضَ الْمَذِرَ لَا يَحْرُمُ وَلَا جَزَاءَ فِي إتْلَافِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْضَ نَعَامَةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ قِشْرَهَا يُنْتَفَعُ بِهِ مُتَقَوِّمٌ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ إلَّا إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ كَسَرَ بَيْضَةً لِلنَّعَامَةِ مَذِرَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ: وَإِنْ قُدِّرَتْ قِيمَتُهُ فَهِيَ لِلْقِشْرِ وَلَيْسَ هُوَ مَضْمُونًا كَمَا لَا يُضْمَنُ الرِّيشُ الْمُنْفَصِلُ مِنْ الطَّائِرِ هَذَا كَلَامُهُ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ نَفَّرَ صَيْدًا عَنْ بَيْضَتِهِ الَّتِي حَضَنَهَا فَفَسَدَتْ لَزِمَهُ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِسَبَبِهِ وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ دَجَاجَةٍ فَأَحْضَنَهُ صَيْدًا فَلَمْ يَقْعُدْ الصَّيْدُ عَلَى بَيْضِ نَفْسِهِ فَفَسَدَ أَوْ قَعَدَ عَلَى بَيْضِهِ وَبَيْضِ الدَّجَاجَةِ فَفَسَدَ بَيْضُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فَسَادَهُ بِسَبَبِ ضَمِّ بَيْضِ الدَّجَاجَةِ إلَيْهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الْقُعُودِ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ صَيْدٍ وَأَحْضَنَهُ دَجَاجَةً فَهُوَ فِي ضَمَانِهِ حَتَّى يَخْرُجَ الْفَرْخُ وَيَسْعَى وَيَسْتَقِلَّ فَإِنْ خَرَجَ وَمَاتَ قَبْلَ الِامْتِنَاعِ لَزِمَهُ مِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ وَإِنْ تَلِفَ الْبَيْضُ تَحْتَ الدَّجَاجَةِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ وَلَوْ كَسَرَ بَيْضَةَ صَيْدٍ فِيهَا فَرْخٌ لَهُ رُوحٌ فَطَارَ وَسَلِمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ وَلَوْ نَزَا دِيكٌ عَلَى يَعْفُورَةٍ أَوْ يَعْفُورٌ عَلَى دَجَاجَةٍ فَبَاضَتْ فَالْبَيْضُ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُتَوَلَّدِ مِنْ الدَّجَاجَةِ وَالْيَعْفُورِ إذَا صَارَ فَرْخًا فَإِنْ أَتْلَفَهُ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَبَيْضُ الْجَرَادِ حَرَامٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ وأما: بَيْضُ السَّمَكِ فَمُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ كَالسَّمَكِ وَلَا جَزَاءَ فِيهِمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ رَأَى الْمُحْرِمُ عَلَى فِرَاشِهِ بَيْضَ السَّمَكِ فَأَزَالَهُ عَنْهُ فَفَسَدَ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ قَالَ: فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ بِفِعْلِهِ والثاني لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -211-       فرع: إذَا كَسَرَ الْمُحْرِمُ بَيْضَ صَيْدٍ أَوْ قَلَاهُ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ بِلَا خِلَافٍ وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَى الْحَلَالِ طَرِيقَانِ: أحدهما: فِيهِ قَوْلَانِ كَلَحْمِ الصَّيْدِ والطريق الثاني: لَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَلَالِ قَوْلًا وَاحِدًا وَهَذَا الطَّرِيقُ أَصَحُّ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الطَّرِيقَيْنِ وَالْقَائِلِينَ بِهِمَا وَبَيَانُ التَّرْجِيحِ وَمَا يَتَفَرَّع عَلَيْهِمَا وَبَيْضُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَلَبَنُهُ وَبَيْضُ الْجَرَادِ أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا فِي مَسْأَلَةِ لَحْمِ صَيْدٍ ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا حَلَبَ الْمُحْرِمُ لَبَنَ صَيْدٍ ضَمِنَهُ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ أَبُو الْعَلَاءِ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ وَصاحب "الشامل" وَصاحب "البيان" وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ الرُّويَانِيُّ لَا يَضْمَنهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ نَقَصَ الصَّيْدُ بِذَلِكَ ضَمِنَهُ وَإِلَّا فَلَا وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْضِ وَالرِّيشِ هَكَذَا اسْتِدْلَالُ صاحب "الشامل" وَغَيْرِهِ.
فرع: يَجِبُ فِي شَعْرِ الصَّيْدِ الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْأَصْحَابُ قَالَ الْقَاضِي: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْرَاقِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ جَزَّ الشَّعْرِ يَضُرُّ الْحَيَوَانَ وَبَقَاءَهُ يَنْفَعُهُ بِخِلَافِ الْوَرِقِ.
فرع: إذَا رَمَى الْحَصَاةَ السَّابِعَةَ ثُمَّ رَمَى صَيْدًا قَبْلَ وُقُوعِ الْحَصَاةِ فِي الْجَمْرَةِ قَالَ الدَّارِمِيُّ: قَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ: يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ رَمَاهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ إلَّا بِوُقُوعِ الْحَصَاةِ فِي الْجَمْرَةِ قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الرَّمْيِ مُتَوَسِّطٌ فِي الْحَرَمِ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَرْمِيَ مِنْهُ إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَسَوَاءٌ رَمَى الصَّيْدَ قَبْلَ رَمْيِ الْحَصَاةِ أَوْ بَعْدَهُ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ رَمَى صَيْدًا فِي الْحَرَمِ هَذَا كَلَامُ الدَّارِمِيِّ وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ وَالصَّوَابُ قَوْلُ ابْنِ الْمَرْزُبَانِ وَالصُّورَةُ مَقْصُورَةٌ فِيمَا إذَا رَمَى إلَى صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِلْمَالِكِ وَلَوْ كَانَ رَمْيُهُ لِهَذَا الصَّيْدِ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَصَاةِ فِي الْجَمْرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ مَمْلُوكٌ وَالْحَلَالُ إذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً إنْ شَاءَ الله تعالى فِي أَوَاخِرِ بَابِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ: إحداها: إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إنْ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَلَا جَزَاءَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ عَمْدًا ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ إلَّا مُجَاهِدًا فَقَالَ: إنْ تَعَمَّدَهُ ذَاكِرًا فَلَا جَزَاءَ وَإِنْ نَسِيَ وَأَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ مُجَاهِدًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ خِلَافُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ قَالَ: وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَاحْتَجَّ مُجَاهِدٌ بِقَوْلِهِ تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} [المائدة: 95] قَالَ: وَالْمُرَادُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ بِدَلِيلِ قوله تعالى فِي آخِرِ الْآيَةِ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}[المائدة:95] فَعَلَّقَ الِانْتِقَامَ بِالْعَوْدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِالْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ عَامِدًا ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ لَأَثِمَ وَاحْتَجَّ

 

ج / 7 ص -212-       عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَامِدِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَامِدِ الْقَتْلِ ذَاكِرًا لِلْإِحْرَامِ وَعَامِدِ الْقَتْلِ نَاسِيَ الْإِحْرَامِ فَكَانَتْ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً عُمُومَ الْأَحْوَالِ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَتَغَلَّظُ بِحَسَبِ الْإِثْمِ فَإِذَا وَجَبَتْ فِي الْخَطَأِ فَالْعَمْدُ أَوْلَى.
والجواب: عَنْ الْآيَةِ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: مَعْنَى قوله تعالى:
{وَمَنْ} [المائدة: 95] أَيْ عَادَ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ: لِأَنَّ مَا قَبْلَ نُزُولِهَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّا نَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَنُوجِبُ الْجَزَاءَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَامِدَ يَضْمَنُ دُونَ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي بِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] فَعَلَّقَهُ بِالْعَمْدِ وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" وَهُوَ حَدِيثٌ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَلِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فِي الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ فِي الْعَمْدِ دُونَ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَبِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي "الموطأ" عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: "أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: إنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي فَرَسَيْنِ لَنَا نَسْتَبِقُ إلَى ثُغْرَةٍ فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِعَنْزٍ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ وَالرَّجُلُ الَّذِي دَعَاهُ عُمَرُ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَهَذَا الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى قَتْلِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي قَتْلِهِ عَمْدًا وَخَطَأً.
والجواب: عَنْ الْآيَةِ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: ذَكَرَ الله تعالى فِيهَا التَّعَمُّدَ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا وَلَمَّا ذَكَرَ - سُبْحَانَهُ وَتعالى الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ خَطَأً فَقَالَ تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهَا بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْخَطَأِ فَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْآيَتَيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى حُكْمٍ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأُخْرَى وأما: الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ فَهُوَ حَمْلُهُ هُنَا عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْغَرَامَاتِ وَيَسْتَوِي فِيهَا الْعَامِدُ وَالنَّاسِي وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِيهَا فِي الْإِثْمِ والجواب: عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ أَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ فَافْتَرَقَ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ وَقَتْلُ الصَّيْدِ إتْلَافٌ فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي الْغَرَامَةِ كَإِتْلَافِ مَالِ الْآدَمِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثانية: إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَلَزِمَهُ جَزَاؤُهُ ثُمَّ قَتَلَ صَيْدًا آخَرَ لَزِمَهُ لِلثَّانِي جَزَاءٌ آخَرُ هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً إلَّا مَنْ سَنَذْكُرُهُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ: يَجِبُ الْجَزَاءُ بِالصَّيْدِ الْأَوَّلِ دُونَ مَا بَعْدَهُ وَحَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ دَاوُد قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ دَاوُد: لَوْ قَتَلَ مِائَةَ صَيْدٍ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِالْأَوَّلِ فَقَطْ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَأَحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] فَعَلَّقَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَى لَفْظِ مَنْ قَالُوا وَمَا عُلِّقَ عَلَى لَفْظِ {مَنْ} قالوا: وما علق على لفظ من لَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ أَوْ مَنْ

 

ج / 7 ص -213-       دَخَلَتْ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ فَإِذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا دِرْهَمًا بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ وَإِذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهَا لَا يَقَعُ إلَّا طَلْقَةٌ بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَى الْعَوْدِ غَيْرَ الِانْتِقَامِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تعالى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} [المائدة:95] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَنَا دَلَالَتَانِ: إحداهما: أَنَّ لَفْظَ الصَّيْدِ إشَارَةٌ إلَى الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَدْخُلَانِ لِلْجِنْسِ أَوْ الْعَهْدِ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْهُودٌ فَتَعَيَّنَ الْجِنْسُ وَأَنَّ الْجِنْسَ يَتَنَاوَلُ الْجُمْلَةَ وَالْأَفْرَادَ فَقَوْلُهُ تعالى{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] يَعُودُ إلَى جُمْلَةِ الْجِنْسِ وَآحَادِهِ "وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ" أَنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَحَقِيقَةُ الْمُمَاثَلَةِ أَنْ يَفْدِيَ الْوَاحِدَ بِوَاحِدٍ وَالِاثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ وَالْمِائَةَ بِمِائَةٍ وَلَا يَكُونُ الْوَاحِدُ مِنْ النِّعَمِ مِثْلًا لِجَمَاعَةِ صُيُودٍ وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ تُضْمَنُ بِالْكَفَّارَةِ فَتَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ الْقَتْلِ كَقَتْلِ الْآدَمِيِّينَ وَلِأَنَّهَا غَرَامَةُ مُتْلَفٍ فَتَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ الْإِتْلَافِ كَإِتْلَافِ أَمْوَالِ الْآدَمِيِّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ صَيْدَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَزِمَهُ جَزَاءَانِ فَإِذَا تَكَرَّرَ بِقَتْلِهِمَا مَعًا وَجَبَ تَكَرُّرُهُ بِقَتْلِهِمَا مُرَتَّبًا كَالْعِيدَيْنِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ.
والجواب: عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ لَفْظَ
{مَنْ} لَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ الثَّانِي وَاقِعًا فِي مَحَلِّ الْأَوَّلِ فأما: إذَا وَقَعَ الثَّانِي فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْأَوَّلِ فَإِنَّ تَكْرَارَهُ يُوجِبُ تَكْرَارَ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ فَإِذَا دَخَلَ دَارًا لَهُ ثُمَّ دَارًا لَهُ اسْتَحَقَّ دِرْهَمَيْنِ فَكَذَلِكَ الصَّيْدُ لَمَّا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ والجواب: عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ عَادَ} [المائدة: 95] أَنَّ الْمُرَادَ وَمَنْ عَادَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَتَلَ صَيْدًا؛ لِأَنَّ قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95] أَيْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
َالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَة: مَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ صَادَهُ لَهُ حَلَالٌ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ كَانَ مِنْ الْمُحْرِمِ فِيهِ إشَارَةٌ أَوْ دَلَالَةٌ أَوْ إعَانَةٌ بِإِعَارَةِ آلَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَلَحْمُهُ حَرَامٌ عَلَى هَذَا الْمُحْرِمِ فَإِنْ صَادَهُ حَلَالٌ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ الْمُحْرِمَ ثُمَّ أَهْدَى مِنْهُ لِلْمُحْرِمِ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ فَهُوَ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ أَيْضًا هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا صِيدَ لَهُ بِغَيْرِ إعَانَةٍ مِنْهُ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ وَقَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقُولُونَ: لِلْمُحْرِمِ كُلُّ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ قَالَ: وَقَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَأْكُلُهُ إلَّا مَا صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ وَرُوِيَ بِمَعْنَاهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: ثُمَّ اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَنْ أَكَلَ مَا صِيدَ لَهُ فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ قَالَ: وَفِيهِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَحْرُمُ مُطْلَقًا فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ لَا يَرَيَانِ لِلْمُحْرِمِ أَكْلَ الصَّيْدِ وَكَرِهَ ذَلِكَ طَاوُسٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالثَّوْرِيُّ قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ قَوْلًا رَابِعًا قَالَا: مَا ذُبِحَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْك وَاحْتَجَّ مَنْ حَرَّمَهُ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تعالى:
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدُ وَبِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ السَّابِقِ "أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا

 

ج / 7 ص -214-       أَنَّا حُرُمٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ طُرُقِهِ وَأَنَّهُ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ أَهْدَى لَحْمَ الْحِمَارِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ السَّابِقِ أَنَّهُ "لَمَّا صَادَ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِلْمُحْرِمِينَ:
"كُلُوا"، وَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ" كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَبِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَسَبَقَ بَيَانُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ اصْطَادَ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ: "فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ وَإِنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَك فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ قوله: إنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَك وَقَوْلُهُ: لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ مَعْمَرٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ غَرِيبَةٌ وَاَلَّذِي في "الصحيحين" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْإِسْنَادَانِ صَحِيحَيْنِ هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ قلت: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَرَى لِأَبِي قَتَادَةَ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ قَضِيَّتَانِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا صَرِيحٌ فِي "الْفَرْقِ" وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ وَرَدٌّ لِمَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَذْهَبَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُمْ بِاصْطِيَادِهِ وَحَدِيثُ الصَّعْبِ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَهُمْ بِاصْطِيَادِهِ وَيُحْمَلُ قوله تعالى:
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] عَلَى الِاصْطِيَادِ وَعَلَى لَحْمِ مَا صِيدَ لِلْمُحْرِمِ لِلْأَحَادِيثِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ. (فإن قيل): فَقَدْ عَلَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ حِينَ رَدَّهُ بِأَنَّهُ مُحْرِمٌ وَلَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّكَ صِدْتَهُ لَنَا فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا يَمْنَعُ أَنَّهُ صَادَهُ لَهُ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ الصَّيْدُ عَلَى الْإِنْسَانِ إذَا صِيدَ لَهُ بِشَرْطِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ فَبَيَّنَ الشَّرْطَ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ وَدَلِيلُنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَمُوَافِقِيهِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ مَا صِيدَ لَهُ وَحَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ.
وأما: حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ قَالَ: "كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ حُرُمٌ فَأُهْدِي لَهُ طَيْرٌ وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ فَمِنَّا مَنْ أَكَلَ وَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ وَقَالَ: أَكَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَرَّ بِالْعَرْجِ فَإِذَا هُوَ بِحِمَارٍ عَقِيرٍ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ1 فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ: هَذِهِ رَمِيَّتِي فَشَأْنُكُمْ بِهَا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ" رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر الباجي أن البهزي المبهم في هذه الروايات هو زيد بن كعب السلمي، حكاه السيوطي في شرح "الموطأ"، (المطيعي).

 

ج / 7 ص -215-       قَالَ: "إنَّمَا نَهَيْتُ أَنْ تَصْطَادَهُ لِي وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ لَحْمِ الصَّيْدِ يُهْدِيهِ الْحَلَالُ لِلْمُحْرِمِ فَقَالَ: كَانَ عُمَرُ يَأْكُلُهُ" وَفِي "مُوَطَّأِ" مَالِكٍ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدَهُ نَاسٌ مُحِلُّونَ أَيَأْكُلُونَهُ؟ فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ؟ قُلْتُ أُفْتِيهِمْ بِأَكْلِهِ قَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ" وَبِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ فِي "الموطأ" أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَامّ "كَانَ يَتَزَوَّدُ لَحْمَ الظِّبَاءِ1 فِي الْإِحْرَامِ" فَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يُصَدْ لِلْمُحْرِمِ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدِهِمْ الصَّحِيحَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: "رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه بِالْعَرْجِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِقَطِيفَةِ أُرْجُوَانٍ ثُمَّ أَتَى بِلَحْمِ صَيْدٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا قَالُوا: أَلَا تَأْكُلُ أَنْتَ؟ قَالَ إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي بَيَانِ أَمْرِ مُهِمٍّ وَهُوَ حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَدْ ثَبَتَ في "الصحيحين" أَنَّهُ "أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ:
إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ". وَذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا حَيْثُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَ أَلْفَاظِ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ جَاءَتْ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" أَنَّهُ "أَهْدَى لَحْمَ حِمَارٍ" أَوْ "شِقَّ حِمَارٍ" وذكرنا هناك أنه يتأول قوله حماراً أي بعض لحم حمار، أو شق حمار أَوْ عَجُزَ حِمَارٍ يَقْطُرُ دَمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ أَهْدَى لَحْمَ حِمَارٍ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَالْمُصَنِّفَ وَسَائِرَ أَصْحَابِنَا احْتَجُّوا بِهِ فِي هَدِيَّةِ الصَّيْدِ الْحَيِّ وَجَعَلُوهُ حِمَارًا حَيًّا.
وَكَذَا تَرْجَمَ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: بَابٌ لَا يَقْبَلُ الْمُحْرِمُ مَا يُهْدَى لَهُ مِنْ الصَّيْدِ حَيًّا ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّهُ "أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا". وَكَذَا رَوَاهُ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حِمَارَ وَحْشٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ اللَّيْثُ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانِ وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلْقَمَةَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ حِمَارًا وَحْشِيًّا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَخَالَفَهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ فَقَالَ: لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنْبِتٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَلَى الصِّحَّةِ كَمَا رَوَاهُ سَائِرُ النَّاسِ عَنْ الزُّهْرِيِّ ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ حِمَارَ وَحْشٍ ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحُمَيْدِيِّ قَالَ: كَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ فِي لَحْمِ حِمَارِ وَحْشٍ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ يَقْطُرُ دَمًا وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْ قَالَ: وَكَانَ سُفْيَانُ فِيمَا خَلَا وَرُبَّمَا قَالَ: حِمَارُ وَحْشٍ ثُمَّ صَارَ إلَى لَحْمٍ حَتَّى مَاتَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ:
لَوْلَا أَنَّا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ مِنْك" رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي كُرَيْبٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِإِسْنَادِهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواية "الموطأ": كان يتزود صفيف الظباء قال مالك: والصفيف القديد (المطيعي).

 

ج / 7 ص -216-       قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَكَذَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ حَبِيبٍ وَخَالَفَهُ شُعْبَةُ فَرَوَاهُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شِقُّ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: وَخَالَفَهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حَبِيبٍ كَمَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ" ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ أَيْضًا عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ عَجُزَ حِمَارٍ فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْطُرُ دَمًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ حَدِيثُ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَجُزَ حِمَارٍ وَحَدِيثُهُ عَنْ حَبِيبٍ حِمَارَ وَحْشٍ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَقَدْ رَوَاهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَحَدُهُمَا: عَجُزَ حِمَارٍ وَقَالَ الْآخَرُ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ".
ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ بِإِسْنَادِهِ كَذَلِكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَإِذَا كَانَتْ الرِّوَايَةُ هَكَذَا وَافَقَتْ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْ حَبِيبٍ رِوَايَةَ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبٍ وَوَافَقَتْ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ رِوَايَةَ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُنْفَرِدًا بِذِكْرِ اللَّحْمِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ فَرَدَّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ الْمُعْتَمِرِ وَرَوَاهُ1 الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ: فَإِنْ كَانَ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحِمَارَ حَيًّا فَلَيْسَ لِمُحْرِمٍ ذَبْحُ حِمَارِ وَحْشٍ حَيٍّ وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَهُ لَحْمًا فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَإِيضَاحُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي:
"صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ" قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَدِيثُ مَالِكٍ أَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ حَدَّثَ أَنَّهُ أَهْدَى لَحْمَ حِمَارٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ "أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَجُزَ حِمَارٍ وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ الْقَوْمُ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَكَأَنَّهُ رَدَّ الْحِمَارَ وَقَبِلَ اللَّحْمَ ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ طَاوُسٍ قال: "قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَرَقْمَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: تَتَذَكَّرُ كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ فَقَالَ:
إنَّا لَا نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه" ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ صَنَعَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ طَعَامًا وَصَنَعَ فِيهِ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَافِيرِ وَلُحُومِ الْوَحْشِ فَبَعَثَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَجَاءَهُ فَقَالُوا لَهُ: كُلْ فَقَالَ أَطْعِمُوهُ قَوْمًا حَلَالًا فَإِنَّا حُرُمٌ ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ أَشْجَعَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله وروى البيهقي عن الشافعي فليحرر.

 

ج / 7 ص -217-       رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى إلَيْهِ رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَتَأْوِيلُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ مَنْ رَوَى فِي قِصَّةِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ لَحْمَ حِمَارٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَمَّا عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُهُ مُطْلَقًا وَخَالَفَهُمَا عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُمْ وَمَنَعَهُمْ حَدِيثُ ابْنِ قَتَادَةَ وَجَابِرٍ ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ لَحْمِ الصَّيْدِ يُهْدِيه الْحَلَالُ لِلْمُحْرِمِ فَقَالَتْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَرَ بَعْضُهُمْ بِهِ بَأْسًا وَلَا بَأْسَ بِهِ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرابعة: إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فِي الْحِلِّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ قَوْلَانِ سَبَقَا: الأصح: التَّحْرِيمُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَيَكُونُ مَيْتَةً وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالَ: وَقَالَ الْحَكَمُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ مُذَكًّى كَذَبِيحَةِ السَّارِقِ وَسَبَقَ دَلِيلُ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الْكِتَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَأَكَلَ مِنْهُ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ بِالذَّبْحِ وَلَا يَلْزَمُهُ بِالْأَكْلِ شَيْءٌ فِيهِ هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِ جَزَاءَانِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِالذَّبْحِ وَعَلَيْهِ مَا أَكَلَ وَوَافَقَنَا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ وَأَكَلَهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ دَلِيلُنَا الْقِيَاسُ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ وَلِأَنَّهُ أَكَلَ مَيْتَةً فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَيْتَاتِ.
السَّادِسَةُ: إذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ أَثِمَ الدَّالُّ وَلَا جَزَاءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا فَقَتَلَهُ فَالْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الدَّالِّ هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَرْبُ1 الْعُكْلِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إذَا دَلَّ مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا جَزَاءٌ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِ وَالْآمِرِ وَالدَّالِّ وَالْمُشْتَرِي جَزَاءٌ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: "إذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا فَقَتَلَهُ لَزِمَ الْمُحْرِمَ الْجَزَاءُ" وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ قَالَ: وَعِنْدِي لَا شَيْءَ عَلَيْهِ دَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْقَاتِلِ فَلَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ.
السَّابِعَةُ: إذَا قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى وَقِيمَتُهُ لِلْمَالِكِ هَذَا مَذْهَبُنَا قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ دَاوُد وَقَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ غَيْرَهُ قَالَ: وَحُكِيَ عَنْهُ خِلَافُ هَذَا وَهُوَ غَلَطٌ وَقَالَ الْمُزَنِيّ: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِمَالِكِهِ وَلَا جَزَاءَ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل والصحيح أنه الحارث بن يزيد العكلي كوفي ثقة (المطيعي).

 

ج / 7 ص -218-       أَصْحَابِ دَاوُد؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَأَشْبَهَ الْأَنْعَامَ دَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقَّانِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ فَوَجَبَ بَدَلُهُ كَمَا لَوْ أَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا لَزِمَهُ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ وَكَمَا لَوْ وَطِئَ زَوْجَةَ أَبِيهِ بِشُبْهَةٍ لَزِمَهُ مَهْرَانِ مَهْرٌ لَهَا وَمَهْرٌ لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ نِكَاحَهُ وَفَوَّتَ عَلَيْهِ الْبُضْعَ وَيُخَالِفُ الْأَنْعَامَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَيْدًا وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْجَزَاءِ فِي الصَّيْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّامِنَةُ: إذَا قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ تَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ جَزَاءَانِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْصَ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فَوَجَبَ جَزَاءَانِ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُفْرِدُ فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ دَلِيلُنَا أَنَّ الْمَقْتُولَ وَاحِدٌ فَوَجَبَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ وَافَقَنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ مَعَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ حُرْمَتَانِ وأما: مَا قَاسَ عَلَيْهِ فَالْمَقْتُولُ هُنَاكَ اثْنَانِ.
التَّاسِعَةُ: يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِإِتْلَافِ الْجَرَادِ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَافَّةً إلَّا أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ فَقَالَ: لَا جَزَاءَ فِيهِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالُوا: هُوَ مِنْ صَيْدِ البحر فَلَا جَزَاءَ فِيهِ وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي الْمُهَزِّمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "أَصَبْنَا سِرْبًا مِنْ جَرَادٍ فَكَانَ رَجُلٌ يَضْرِبُ بِسَوْطِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
إنَّمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ البحر" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ لِضَعْفِ أَبِي الْمُهَزَّمِ وَهُوَ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْهَاءِ - بَيْنَهُمَا وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ سُفْيَانَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ وَسَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا عِنْدَ ذِكْرِ الْبَيْضِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد عَنْ مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ البحر" قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأَبُو الْمُهَزِّمِ ضَعِيفٌ وَالرِّوَايَتَانِ جَمِيعًا وَهْمٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: مَيْمُونُ بْنُ جَابَانَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ1 وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ أَوْ الْحَسَنِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: "أَقْبَلْتُ مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي أُنَاسٍ مُحْرِمِينَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِعُمْرَةٍ حَتَّى إذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَكَعْبٌ عَلَى نَارٍ يَصْطَلِي فَمَرَّتْ بِهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَأَخَذَ جَرَادَتَيْنِ قَتَلَهُمَا وَنَسِيَ إحْرَامَهُ ثُمَّ ذَكَرَ إحْرَامَهُ فَأَلْقَاهُمَا فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ دَخَلَ الْقَوْمُ عَلَى عُمَرَ وَدَخَلْتُ مَعَهُمْ فَقَصَّ كَعْبٌ قِصَّةَ الْجَرَادَتَيْنِ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: مَا جَعَلْتَ عَلَى نَفْسِكَ يَا كَعْبُ؟ قَالَ دِرْهَمَيْنِ قَالَ: بَخٍ دِرْهَمَانِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ جَرَادَةٍ اجْعَلْ مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ" وَبِإِسْنَادِ الشَّافِعِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ الصَّحِيحِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: "كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ جَرَادَةٍ قَتَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِيهَا قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ وَلَتَأْخُذُنَّ بِقَبْضَةٍ مِنْ جَرَادَاتٍ وَلَكِنْ وَلَوْ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ميمون بن جابان بالجيم البصري أبو الحكم وثقة حماد بن سلمة وحماد بن زيد

 

ج / 7 ص -219-       قَالَ الشَّافِعِيُّ قَوْلُهُ: وَلَتَأْخُذُنَّ بِقَبْضَةٍ جَرَادَاتٍ أَيْ إنَّمَا فِيهَا الْقِيمَةُ وَقَوْلُهُ: وَلَوْ يَقُولُ: تَحْتَاطُ فَتُخْرِجُ أَكُثْرَ مِمَّا عَلَيْكَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمْتُكَ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْكَ.
وَبِإِسْنَادِهِمَا الصَّحِيحِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ صَيْدِ الْجَرَادِ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ: لَا نُهِيَ عَنْهُ قَالَ فَإِمَّا1 قُلْتُ لَهُ وَإِمَّا رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: فَإِنَّ قَوْمَكَ يَأْخُذُونَهُ وَهُمْ مُخْتَبِئُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: لَا يَعْلَمُونَ وَفِي رِوَايَةٍ مُنْحَنُونَ" قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا أَصْوَبُ كَذَا رَوَاهُ الْحُفَّاظُ مُنْحَنُونَ - بِنُونَيْنِ بَيْنَهُمَا الْحَاءُ الْمُهْمَلَةُ - والجواب: عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْجَرَادِ أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ البحر أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ وَدَعْوَى أَنَّهُ بَحْرِيٌّ لَا تُقْبَلُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَقَدْ دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْإِجْمَاعُ أَنَّهُ مَأْكُولٌ فَوَجَبَ جَزَاؤُهُ كَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَاشِرَةُ: كُلُّ طَائِرٍ وَصَيْدٍ حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَيْضُهُ فَإِنْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَآخَرُونَ مِمَّنْ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ دَاوُد: لَا جَزَاءَ فِي الْبَيْضِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَضْمَنُهُ بِعُشْرِ ثَمَنِ أَصْلِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفُوا فِي بَيْضِ الْحَمَامِ فَقَالَ عَلِيٌّ وَعَطَاءٌ فِي كُلِّ بَيْضَتَيْنِ دِرْهَمٌ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَبُو ثَوْرٍ: فِيهِ قِيمَتُهُ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ فِيهِ عُشْرُ مَا يَجِبُ فِي أُمِّهِ قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْضِ النَّعَامِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: يَجِبُ فِيهِ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ جَنِينٌ مِنْ الْإِبِلِ وَقَالَ مَالِكٌ: فِيهِ عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ كَمَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهُ عُشْرُ دِيَةِ الْأُمِّ قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ عَنْ عَطَاءٍ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: كَقَوْلِ الْحَسَنِ والثاني فِيهَا كَبْشٌ والثالث: دِرْهَمٌ2 دَلِيلُنَا أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الصَّيْدِ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ الَّتِي لَا مِثْلَ لَهَا وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِيهِ بَابًا فِيهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ وَلَيْسَ فِيهَا ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا أَحْرَمَ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَلَكِنْ تَجِبُ إزَالَةُ يَدِهِ الظَّاهِرَةِ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ مُمْسِكًا لَهُ فِي يَدِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَهُ فِي بَيْتِهِ وَقَفَصِهِ وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ عَلَيْهِ إرْسَالُ مَا كَانَ فِي مَنْزِلِهِ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ كَانَ فِي يَدِهِ صَيْدٌ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ لَيْسَ عَلَيْهِ إرْسَالُ مَا فِي يَدِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَهَذَا صَحِيحٌ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَيْدَ البحر مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القائل هنا عطاء يتردد خاطرة بين أن يكون هو القائل وأما رجل من القوم ومقول القول: إن قومك يأخذونه الخ. (المطيعي).
2 كذا بالأصل وانظر أين الرابع والخامس؟ فنقول لعلهما هكذا (الرابع) فيه صيام يوم (والخامس) فيه إطعام مسكين وهو قول أبي عبيدة وأبي موسى الأشعري، (المطيعي).

 

ج / 7 ص -220-       وَأَكْلُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ: هُوَ مَا لَفَظَهُ"البحر" وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: صَيْدُهُ مَا اصْطَدْت وَطَعَامُهُ مَا تَزَوَّدْت مَمْلُوحًا قُلْتُ: وَأَمَّا طَيْرُ الْمَاءِ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَإِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: الْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ أَهْلِيٌّ وَوَحْشِيٌّ فَالْأَهْلِيُّ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ إجْمَاعًا وَالْوَحْشِيُّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إتْلَافُهُ إنْ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مُتَوَلَّدًا مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ وَلَيْسَ مُتَوَلِّدًا مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ فَلَا هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ إلَّا فِي الذِّئْبِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْإِحْرَامِ الْغُرَابُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْحِدَأَةُ" قَالَ: فَأَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ غَيْرَ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَذْكُرْ الْفَأْرَةَ قَالَ: وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ قَالَ: فَأَمَّا مَا لَا يَعْدُو مِنْ السِّبَاعِ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ قَالَ: وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ ابْتَدَأَهُ السَّبُعُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ ابْتَدَأَ الْمُحْرِمُ السَّبُعَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ إلَّا الْكَلْبَ وَالذِّئْبَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ ابْتَدَأَهُمَا قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ قَالَ: وَأَبَاحَ أَكْثَرُهُمْ قَتْلَ الْغُرَابِ فِي الْإِحْرَامِ مِنْهُمْ أَبُو عُمَرَ1 وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: إنَّمَا يُبَاحُ الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ دُونَ سَائِرِ الْغِرْبَانِ.
وأما: الْفَأْرَةُ فَأَبَاحَ الْجُمْهُورُ قَتْلَهَا وَلَا جَزَاءَ فِيهَا وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ قَتْلِهَا قَالَ: وَهَذَا لَا مَعْنَى فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وَقَوْلِ الْعُلَمَاءِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُو عَلَى أَنَّ السَّبُعَ إذَا بَدَرَ الْمُحْرِمَ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ بَدَأَ السَّبُعَ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَقْتُلُهُ وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ عَدَا عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَعْدُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ فِي الْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الذُّبَابِ وَالذَّرِّ وَالْقَمْلِ إذَا قَتَلَهُنَّ: أَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَكْرَهُ قَتْلَ النَّمْلَةِ وَلَا يَرَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهَا شَيْئًا، قَالَ فَأَمَّا الزُّنْبُورُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَأَحْمَدُ: لَا جَزَاءَ فِيهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُطْعِمُ شَيْئًا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَمَّا الْقَمْلُ إذَا قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَتَصَدَّقُ بِحَفْنَةٍ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "أَهْوَنُ مَقْتُولٍ. أَيْ لَا شَيْءَ فِيهَا". وَقَالَ عَطَاءُ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَمِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ حَفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ يُطْعِمُ شَيْئًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ: تَمْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: مَا تَصَدَّقَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعله ابن عمر، (المطيعي).

 

 

ج / 7 ص -221-       بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَقْتُلُهَا وَيُكَفِّرُ إذَا كَرِهَ وَقَالَ1 طَاوُسٌ وَعَطَاءُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو ثَوْرٍ يَقُولُونَ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ قَتَلَهَا مِنْ رَأْسِهِ افْتَدِي بِلُقْمَةٍ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي جَسَدِهِ فَقَتَلَهَا فَلَا فِدْيَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا شَيْءَ فِيهَا وَلَيْسَ لِمَنْ أَوْجَبَ فِيهَا شَيْئًا حُجَّةٌ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ قَتْلِ الْقُرَادِ فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: يَجُوزُ عِنْدَنَا لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُقَرِّدَ بَعِيرَهُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقَرِّدُهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَمِمَّنْ أَبَاحَ تَقْرِيدَ بَعِيرِهِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ قُرَادًا يَتَصَدَّقُ بِتَمْرَةٍ أَوْ تَمْرَتَيْنِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ. وَدَلِيلُنَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ قَرِيبًا حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ قَبْلَ مَا لَا يُؤْكَلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ احْتَاجَ الْمُحْرِمُ إلَى اللُّبْسِ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ احْتَاجَ إلَى الطِّيبِ لِمَرَضٍ أَوْ إلَى حَلْقِ الرَّأْسِ لِلْأَذَى أَوْ شَدَّ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ لِجِرَاحَةٍ عَلَيْهِ أَوْ إلَى ذَبْحِ الصَّيْدِ لِلْمَجَاعَةِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لقوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَلِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. فَثَبَتَ الْحَلْقُ بِالنَّصِّ، وَقِسْنَا عَلَيْهِ مَا سِوَاهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَإِنْ نَبَتَ فِي عَيْنِهِ شَعْرَةٌ فَقَلَعَهَا أَوْ نَزَلَ شَعْرُ الرَّأْسِ عَلَى عَيْنِهِ [فَغَطَّاهَا] فَقَطَعَ مَا غَطَّى الْعَيْنَ أَوْ انْكَسَرَ شَيْءٌ مِنْ ظُفْرِهِ فَقَطَعَ مَا انْكَسَرَ مِنْهُ، أَوْ صَالَ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ جَازَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْمَنْعُ أَلْجَأَهُ إلَى إتْلَافِهِ وَيُخَالِفُ إذَا آذَاهُ الْقَمْلُ فِي رَأْسِهِ فَحَلَقَ الشَّعْرَ، لِأَنَّ الْأَذَى لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ الشَّعْرِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْمَنْعُ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ افْتَرَشَ الْجَرَادُ فِي طَرِيقِهِ فَقَتَلَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَأَشْبَهَ إذَا قَتَلَهُ لِلْمَجَاعَةِ، والثاني لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْجَرَادَ أَلْجَأَهُ إلَى قَتْلِهِ فَأَشْبَهَ إذَا صَالَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ فَقَتَلَهُ لِلدَّفْعِ. وَإِنْ بَاضَ صَيْدٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَقَلَهُ وَلَمْ يَحْضُنْهُ الصَّيْدُ، فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عَنْ عَطَاءٍ رحمه الله: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَضْمَنَ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَحَصَلَ فِيهِ قَوْلَانِ كَالْجَرَادِ. وَإِنْ كَشَطَ مِنْ2 يَدِهِ جِلْدًا وَعَلَيْهِ شَعْرٌ أَوْ قَطَعَ كَفَّهُ وَفِيهِ أَظْفَارٌ لَمْ تَلْزَمْهُ فِدْيَةٌ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَحَلِّهِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ تَبَعًا لِمَحَلِّهِ كَالْأَطْرَافِ مَعَ النَّفْسِ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ.
الشرح: قوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] فِيهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَتَقْدِيرُهُ: فَحَلَقَهُ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَالْمَجَاعَةُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - شِدَّةُ الْجُوعِ وَحَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ، قوله: افْتَرَشَ الْجَرَادُ هُوَ بِرَفْعِ الْجَرَادِ وَهُوَ فَاعِلُ افْتَرَشَ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: افْتَرَشَ الشَّيْءُ إذَا انْبَسَطَ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَكَمَةُ مُفْتَرَشَةٌ أَيْ دَكَّاءُ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ وَأَوْضَحْته لِأَنِّي رَأَيْتُ بَعْضَ الْكِبَارِ يَغْلَطُ فِيهِ قوله: وَلَمْ يَحْضُنْهُ هُوَ - بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الصواب: وكان طاوس وعطاء الخ العبارة فليتأمل. (الطيعي).
2 ما بين المعقوفين ليست في ش و ق وفي بعض نسخ "المهذب" (وإن كشط من بدنه جلداً) (ط).

 

 

ج / 7 ص -222-       الضَّادِ - قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ حَضَنَ الطَّائِرُ بِيضَهُ يَحْضُنُهُ إذَا ضَمَّهُ إلَى نَفْسِهِ تَحْتَ جُنَاحِهِ قوله: أَوْ قَطَعَ كَفَّهُ وَفِيهِ أَظْفَارٌ هَكَذَا فِي النَّسْخِ وَفِيهِ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَفِيهَا، لِأَنَّ الْكَفَّ مُؤَنَّثَةٌ (وَيُجَابُ) عَنْهُ بِأَنَّهُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْنَى، فَعَادَ الضَّمِيرُ إلَى مَعْنَى الْكَفِّ، وَهُوَ الْعُضْوِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ: إحداها: إذَا احْتَاجَ الْمُحْرِمُ إلَى اللُّبْسِ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ قِتَالِ صَائِلٍ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ أَوْ إلَى الطِّيبِ لِمَرَضٍ أَوْ إلَى حَلْقِ الشَّعْرِ مِنْ رَأْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ لِأَذًى فِي رَأْسِهِ مِنْ قَمْلٍ أَوْ وَسَخٍ أَوْ حَاجَةٍ أُخْرَى فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْبَدَنِ، أَوْ إلَى شَدِّ عِصَابَةٍ عَلَى رَأْسِهِ لِجِرَاحَةٍ أَوْ وَجَعٍ وَنَحْوِهِ أَوْ إلَى ذَبْحِ صَيْدٍ لِلْمَجَاعَةِ أَوْ إلَى قَطْعِ ظُفْرٍ لِلْأَذَى أَوْ مَا فِي مَعْنَى هَذَا كُلِّهِ جَازَ فِعْلُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا.
الثانية: إذَا نَبَتَ فِي عَيْنِهِ شَعْرَةٌ أَوْ شَعَرَاتٌ دَاخِلَ الْجَفْنِ وَتَأَذَّى بِهَا جَازَ قَلْعُهَا بِلَا خِلَافٍ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "النِّهَايَةِ" عَنْ الْأَئِمَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ في "شرح التلخيص" فِيهِ طَرِيقِينَ: أصحهما: هَذَا، والثاني تَخْرِيجُ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَرَادِ إذَا افْتَرَشَ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا فِي الْمَعْنَى فَهُوَ بَعِيدٌ فِي النَّقْلِ وَذَكَرَ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابَيْهِ "التحرير" و"الْمُعَايَاةِ" فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أصحهما: لَا ضَمَانَ، والثاني يَضْمَنُ وَالْمَذْهَبُ لَا ضَمَانَ قَطْعًا. وَلَوْ طَالَ شَعْرُ حَاجِبِهِ أَوْ رَأْسِهِ فَغَطَّى عَيْنَهُ فَلَهُ قَطْعُ الْمُغَطِّي بِلَا خِلَافٍ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْإِمَامُ وَسَلَكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه" طَرِيقَةً عَجِيبَةً، فَقَطَعَ بِأَنَّهُ إذَا نَبَتَ الشَّعْرُ فِي عَيْنِهِ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ بِقَلْعِهِ. قَالَ: وَلَوْ انْعَطَفَ هُدْبُهُ إلَى عَيْنِهِ فَآذَاهُ فَنَتَفَهُ أَوْ قَطَعَهُ فَلَا فِدْيَةَ وَفَرَّقَ بِأَنَّ هَذَا كَالصَّائِلِ بِخِلَافِ شَعْرِ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِي الْجَمِيعِ كَمَا سَبَقَ.
وَلَوْ انْكَسَرَ بَعْضُ ظُفْرٍ فَتَأَذَّى بِهِ قَطَعَ الْمُنْكَسِرَ وَحْدَهُ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَكَى الْإِمَامُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ حَكَى فِيهِ الطَّرِيقَيْنِ كَشَعْرِ الْعَيْنِ، أما: إذَا قَطَعَ الْمَكْسُورَ وَشَيْئًا مِنْ الصَّحِيحِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِمَا يُضْمَنُ بِهِ الظُّفْرُ بِكَمَالِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَكَذَا كُلُّ مَنْ أَخَذَ بَعْضَ ظُفْرٍ أَوْ بَعْضَ شَعْرٍ فَهُوَ كَالظُّفْرِ الْكَامِلِ وَالشَّعْرَةِ الْكَامِلَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ إنْ أَخَذَ أَعْلَى الظُّفْرِ - وَلَكِنَّهُ دُونَ الْمُعْتَادِ - وَجَبَ مَا يَجِبُ فِي جَمِيعِ الظُّفْرِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ بَعْضُ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ جَانِبٍ دُونَ جَانِبٍ وَجَبَ بِقِسْطِهِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الْآتِي إنْ شَاءَ الله تعالى.
الثَّالِثَةُ: لَوْ صَالَ عَلَيْهِ صَيْدٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ لِلدَّفْعِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا. وَلَوْ رَكِبَ إنْسَانٌ صَيْدًا وَصَالَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَوْ الْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ لِلدَّفْعِ فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْجَزَاءِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَالْأَكْثَرُونَ، لِأَنَّ الْأَذَى لَيْسَ مِنْ الصَّيْدِ، والطريق الثاني: حَكَاهُ الْقَفَّالُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ وَلَا يُطَالَبُ بِهِ الْمُحْرِمُ، والثاني يُطَالَبُ الْمُحْرِمُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاكِبِ، وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْخِلَافَ قَوْلَيْنِ، قَالَ: وَكَذَا نَقَلَ الْقَفَّالُ

 

ج / 7 ص -223-       الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا فِيمَنْ رَكِبَ دَابَّةً مَعْضُوبَةً وَقَصَدَ إنْسَانًا فَقَتَلَ الْمَقْصُودُ الدَّابَّةَ فِي ضَرُورَةِ الدَّفْعِ: أحدهما: الْغَرَامَةُ عَلَى الرَّاكِبِ وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَى الدَّافِعِ، والثاني يُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْقَرَارُ عَلَى الرَّاكِبِ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ.
الرابعة: إذَا انْبَسَطَ الْجَرَادُ فِي طَرِيقِهِ وَعَمّ الْمَسَالِكَ فَلَمْ يَجِدْ عَنْهُ مَعْدِلًا، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ إلَّا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ فِي مُرُورِهِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أصحهما: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ، وَحَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ وَجْهَيْنِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا، والثاني الْقَطْعُ بِأَنَّ لَا ضَمَانَ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ والأصح: مِنْ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا ضَمَانَ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي "التحرير" وَالْفَارِقِيُّ فِي "الْفَوَائِدِ" وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَطَعَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ فِي "المقنع"، وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إيجَابَ الضَّمَانِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ: وَسَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ هَذَا الْخِلَافِ جَرَادُ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: إذَا بَاضَ صَيْدٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَقَلَهُ عَنْهُ فَلَمْ يَحْضُنْهُ الصَّيْدُ حَتَّى فَسَدَ أَوْ تَقَلَّبَ عَلَيْهِ فِي نَوْمِهِ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِيهِ الْقَوْلَانِ، كَالْجَرَادِ الْمُفْتَرِشِ، هَكَذَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ، قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ وَضَعَ الصَّيْدُ الْفَرْخَ عَلَى فِرَاشِ الْمُحْرِمِ فَنَقَلَهُ فَتَلِفَ أَوْ تَقَلَّبَ عَلَيْهِ جَاهِلًا فَتَلِفَ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ.
السَّادِسَةُ: إذَا قَطَعَ الْمُحْرِمُ يَدَهُ وَعَلَيْهَا شَعْرٌ، أَوْ كَشَطَ جِلْدَةً مِنْهَا عَلَيْهَا شَعْرٌ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ وَعَلَيْهَا أَظْفَارٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِدْيَةٌ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمِمَّنْ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: وَكَذَا لَوْ كَشَطَ جِلْدَةَ الرَّأْسِ الَّتِي عَلَيْهَا شَعْرٌ فَلَا فِدْيَةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ هَذَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ افْتَدَى كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدًا صَالَ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ أَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ أَوْ نَاسِيًا لِلْإِحْرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ، لِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: "أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَهُوَ مُصَفِّرٌ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ وَأَنَا كَمَا تَرَى، فَقَالَ: اغْسِلْ عَنْكَ الصُّفْرَةَ وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ" وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِدْيَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَاهِلَ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْجَاهِلِ ثَبَتَ فِي النَّاسِي، لِأَنَّ النَّاسِيَ يَفْعَلُ وَهُوَ يَجْهَلُ تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ ذَكَرَ مَا فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ عَلِمَ مَا فَعَلَهُ جَاهِلًا نَزَعَ اللِّبَاسَ وَأَزَالَ الطِّيبَ، لِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إزَالَةِ الطِّيبِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى تَرْكِهِ فَلَمْ تَلْزَمْهُ فِدْيَةٌ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّطَيُّبِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إزَالَتِهِ وَاسْتَدَامَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ تَطَيَّبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَأَشْبَهَ إذَا ابْتَدَأَ بِهِ وَهُوَ عَالَمٌ بِالتَّحْرِيمِ.
وَإِنْ مَسَّ طِيبًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَابِسٌ فَكَانَ رَطْبًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّهُ

 

ج / 7 ص -224-       قَصَدَ مَسَّ الطِّيبِ، والثاني لَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ جَهِلَ تَحْرِيمَهُ، فَأَشْبَهَ إذَا جَهِلَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ. وَإِنْ حَلَقَ الشَّعْرَ أَوْ قَلَّمَ الظُّفْرَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّهُ إتْلَافٌ، فَاسْتَوَى فِي ضَمَانِهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ "كَإِتْلَافِ مَالِ الْآدَمِيِّ" وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ مُخَرَّجٌ أَنَّهُ لَا تَجِبُ. لِأَنَّهُ تُرْفَةٌ وَزِينَةٌ، فَاخْتَلَفَ فِي فِدْيَتِهِ السَّهْوُ وَالْعَمْدُ كَالطِّيبِ. وَإِنْ قَتَلَ صَيْدًا نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْمَالِ فَاسْتَوَى فِيهِ السَّهْوُ وَالْعَمْدُ، وَالْعِلْمُ وَالْجَهْلُ، كَضَمَانِ مَالِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنْ أَحْرَمَ ثُمَّ جُنَّ وَقَتَلَ صَيْدًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، والثاني لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ تَعَبُّدٌ، وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّعَبُّدِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَقَلَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إلَى النَّاسِي، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قال: في "الجديد": لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَاخْتَلَفَ فِي الْوَطْءِ فِيهَا الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ كَالصَّوْمِ، وقال فِي "الْقَدِيمِ": يَفْسُدُ حَجُّهُ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ قَضَاءُ الْحَجِّ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ كَالْفَوَاتِ.
الشرح: حَدِيثُ يَعْلَى صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" وَسَبَقَ بَيَانُ الْجِعْرَانَةِ فِي بَابِ الْمَوَاقِيتِ. قَوْلُهُ: "وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ" أَيْ مُخَرَّجٌ مِنْ الطِّيبِ، قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ تُرْفَةٌ وَزِينَةٌ احْتِرَازٌ مِنْ إتْلَافِ مَالِ الْآدَمِيِّ، وَمَنْ إتْلَافِ الصَّيْدِ، قَوْلُهُ: "لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ" احْتِرَازٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ. قَوْلُهُ: "يَتَعَلَّقُ بِهِ قَضَاءُ الْحَجِّ" احْتِرَازٌ مِنْ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ. قَوْلُهُ: لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْمَالِ يَعْنِي أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ قَتْلِ الْآدَمِيِّ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ: إحداها: إذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَوْ نَاسِيًا الْإِحْرَامَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ إلَّا الْمُزَنِيَّ فَأَوْجَبَهَا. دَلِيلُ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ ذَكَرَ مَا فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ عَلِمَ مَا فَعَلَهُ جَاهِلًا، لَزِمَهُ الْمُبَادَرَةُ بِإِزَالَةِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَلَهُ نَزْعُ الثَّوْبِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، وَلَا يُكَلَّفُ شَقُّهُ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُ السَّلَفِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ شَرَعَ فِي الْإِزَالَةِ وَطَالَ زَمَانُهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ أَخَّرَ الْإِزَالَةَ مَعَ إمْكَانِهَا لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ طَالَ الزَّمَانُ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِلَا عُذْرٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ إزَالَةُ الطِّيبِ أَوْ اللِّبَاسِ بِأَنْ كَانَ أَقْطَعَ أَوْ بِيَدِهِ عِلَّةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، أَوْ عَجَزَ عَمَّا يُزِيلُ بِهِ الطِّيبَ فَلَا فِدْيَةَ مَا دَامَ الْعَجْزُ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمَتَى تَمَكَّنَ وَلَوْ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، لَزِمَهُ الْمُبَادَرَةُ بِالْإِزَالَةِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ وَجَهِلَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ، وَهُوَ كَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ سَرَقَ عَالِمًا تَحْرِيمَ ذَلِكَ، جَاهِلًا وُجُوبَ الْحَدِّ، فَيَجِبُ الْحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا لَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ وَجَهِلَ كَوْنَ الْمَمْسُوسِ طِيبًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ فِي وُجُوبِهَا وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ وَلَكِنَّهُ اعْتَقَدَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الطِّيبِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ،

 

ج / 7 ص -225-       فَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ لِتَقْصِيرِهِ أما: إذَا مَسَّ طِيبًا يَظُنُّهُ يَابِسًا فَكَانَ رَطْبًا فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا "الجديد": لَا فِدْيَةَ "القديم": وُجُوبُهَا وَسَبَقَ بَيَانُهُمَا وَاخْتِلَافُ الْأَصْحَابِ فِي الْأَصَحِّ مِنْهُمَا فِي فَصْلِ تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ الطَّيِّبِ، أما: إذَا أُكْرِهَ عَلَى التَّطَيُّبِ فَلَا فِدْيَةَ بِالِاتِّفَاقِ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي قِيَاسِهِ الْمَذْكُورِ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة: إذَا حَلَقَ الشَّعْرَ أَوْ قَلَّمَ الظُّفْرَ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ أَوْ جَاهِلًا تَحْرِيمَهُ فَوَجْهَانِ: الصحيح: الْمَنْصُوصُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، والثاني مُخَرَّجٌ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ. وَقَالَ كَثِيرُونَ مُخَرَّجٌ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ أَوْ قَلَّمَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الصَّيْدَ نَصَّ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ إذَا أَزَالُوا فِي إحْرَامِهِمْ شَعْرًا أَوْ ظُفْرًا، هَلْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ فِيهِ قَوْلَانِ: الأصح: لَا فِدْيَةَ بِخِلَافِ الْعَاقِلِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إلَى تَقْصِيرٍ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
الثَّالِثَةُ: إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ أَوْ جَاهِلًا تَحْرِيمَهُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أحدهما: الْقَطْعُ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَآخَرِينَ، والثاني هَلْ الْخِلَافُ فِي الْحَلْقِ وَالْقَلْمِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ الْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، وأما: الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ قَتْلِهِمْ الصَّيْدَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَذَكَرْنَاهُ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا فِي أَوَائِلِ فَصْلِ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ.
الرابعة: إذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ أَوْ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْحَجِّ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ أَوْ جَاهِلًا تَحْرِيمَهُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: الأصح: "الْجَدِيدُ" لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ وَلَا كَفَّارَةَ، والقديم فَسَادُهُ وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَحَلَقَ، ثُمَّ جَامَعَ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ رَمَى قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَأَنَّ التَّحَلُّلَ لَمْ يَحْصُلْ فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ: أصحهما: كَالنَّاسِي فَيَكُونُ فِيهِ الْقَوْلَانِ والثاني يَفْسُدُ حَجُّهُ قَوْلًا وَاحِدًا لِتَقْصِيرِهِ. وَلَوْ أُكْرِهَتْ الْمُحْرِمَةُ عَلَى الْوَطْءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي النَّاسِي وَلَوْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي تَصَوُّرِ إكْرَاهِهِ عَلَى الْوَطْءِ فِي الزِّنَا وَغَيْرِهِ: أحدهما: أَنَّ إكْرَاهَهُ لَا يُتَصَوَّرُ، فَيَكُونُ مُخْتَارًا فَيَفْسُدُ نُسُكُهُ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ والثاني أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ فَيَكُونُ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى النَّاسِي كَمَا قُلْنَا فِي الْمَرْأَةِ والأصح: لَا يَفْسُدُ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ تَصَوُّرُ إكْرَاهِهِ. وَلَوْ أَحْرَمَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَجَامَعَ فِي جُنُونِهِ أَوْ إغْمَائِهِ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ كَالنَّاسِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ فِي ضَابِطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: إذَا فَعَلَ الْمُحْرِمُ مَحْظُورًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، فَإِنْ كَانَ إتْلَافًا كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَالْقَلْمِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ سَبَقَ بَيَانُهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتِمْتَاعًا مَحْضًا كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَدَهْنِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَسَائِرِ الْمُبَاشَرَاتِ بِالشَّهْوَةِ مَا عَدَا الْجِمَاعَ فَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ كَانَ جِمَاعًا فَلَا فِدْيَةَ فِي الْأَصَحِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -226-       فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ أَوْ جَاهِلًا تَحْرِيمَهُ فَلَا فِدْيَةَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَقَاسُوهُ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ، وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ إتْلَافٌ وأما: إذَا وَطِئَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ وَلَا كَفَّارَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَفْسُدُ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَوَافَقَنَا دَاوُد فِي النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَ الْمَذْهَبَيْنِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ حَلَقَ رَجُلٌ رَأْسَهُ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ أَزَالَ شَعْرَهُ بِسَبَبٍ لَا عُذْرَ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ إذَا حَلَقَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ حَلَقَهُ وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مُكْرَهٌ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: تَجِبُ عَلَى الْحَالِقِ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهُ كَالْوَدِيعَةِ إذَا أَتْلَفَهَا غَاصِبٌ، والثاني تَجِبُ عَلَى الْمَحْلُوقِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَرَفَّهَ بِالْحَلْقِ فَكَانَتْ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ (فإن قلنا): تَجِبُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ فَلِلْمَحْلُوقِ مُطَالَبَتُهُ بِإِخْرَاجِهَا، لِأَنَّهَا تَجِبُ بِسَبَبِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْحَالِقُ أَوْ أُعْسِرَ بِالْفِدْيَةِ لَمْ تَجِبْ عَلَى الْمَحْلُوقِ الْفِدْيَةُ (وإن قلنا): تَجِبُ عَلَى الْمَحْلُوقِ أَخْذُهَا مِنْ الْحَالِقِ بَعْدَ إخْرَاجهَا وَإِنْ افْتَدَى الْمَحْلُوقُ نُظِرَتْ - فَإِنْ افْتَدَى بِالْمَالِ - رَجَعَ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الشَّاةِ، أَوْ ثَلَاثَةِ آصُعٍ، وَإِنْ أَدَّاهَا بِالصَّوْمِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بِهِ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَرْجِعُ بِثَلَاثَةِ أَمْدَادٍ، لِأَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ مُقَدَّرٌ بِمُدٍّ وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: أَنَّهُ كَالنَّائِمِ وَالْمُكْرَهِ، لِأَنَّ السُّكُوتَ لَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِذْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ رَجُلٌ مَالَهُ فَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ إذْنًا فِي إتْلَافِهِ والثاني أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَالْمَنْعُ مِنْ حَلْقِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ جُعِلَ سُكُوتُهُ كَالْإِذْنِ فِيهِ كَالْمُوَدِّعِ إذَا سَكَتَ عَنْ إتْلَافِ الْوَدِيعَةِ.
الشرح: قَوْلُهُ "أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الشَّاةِ أَوْ ثَلَاثَةِ آصُعٍ" هَكَذَا اسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَالْأَجْوَدُ حَذْفُ الْأَلِفِ، فَيُقَالُ: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الشَّاةِ وَثَلَاثَةِ آصُعٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي "تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ" وَفِي "أَلْفَاظِ التنبيه" وَقَوْلُهُ: يَجْرِي مَجْرَى هُوَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - وَقَوْلُهُ: سَكَتَ عَنْ إتْلَافِ الْوَدِيعَةِ، يُقَالُ: سَكَتَ عَنْهُ وَعَلَيْهِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لِلْحَالِقِ وَالْمَحْلُوقِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أحدها: أَنْ يَكُونَا حَلَالَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، الثاني: أَنْ يَكُونَ الْحَالِقُ مُحْرِمًا وَالْمَحْلُوقُ حَلَالًا فَلَا مَنْعَ مِنْهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا مُحْرِمَيْنِ، الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوقُ مُحْرِمًا دُونَ الْحَالِقِ، وَفِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ يَأْثَمُ الْحَالِقُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْحَلْقُ بِإِذْنِ الْمَحْلُوقِ أَثِمَ أَيْضًا، وَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عَلَى الْمَحْلُوقِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الْحَالِقُ مُحْرِمًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ دَلِيلُنَا أَنَّهُ آلَةٌ لِلْمَحْلُوقِ فَوَجَبَتْ إضَافَةُ الْحَلْقِ إلَى الْمَحْلُوقِ دُونَهُ أَمَّا إذَا حَلَقَ الْحَلَالُ أَوْ الْمُحْرِمُ شَعْرَ مُحْرِمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ كَانَ نَائِمًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ أحدهما: طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، الثاني: أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أحدهما: أَنَّ الْفِدْيَةَ عَلَى الْحَالِقِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْقَدِيمِ" و"الْإِمْلَاءِ"، والثاني يَجِبُ عَلَى الْمَحْلُوقِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْحَالِقِ، نَصَّ عَلَيْهِ في "البويطي" فِي "مُخْتَصَرِ الْحَجِّ الْأَوْسَطِ" وَقَالَهُ ابْنُ

 

ج / 7 ص -227-       الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ فِي "المختصر الْكَبِيرِ".
والطريق الثاني: طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْحَالِقِ ابْتِدَاءً قَوْلًا وَاحِدًا، فَمَا دَامَ مُوسِرًا حَاضِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَحْلُوقِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ إذَا غَابَ الْحَالِقُ أَوْ أُعْسِرَ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْمَحْلُوقَ إخْرَاجُ الْفِدْيَةِ؟ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْحَالِقِ إذَا حَضَرَ وَأُيْسِرَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ، وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي الرَّاجِحِ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي": الصَّحِيحُ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَبِهَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، فَصَحَّحُوا طَرِيقَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ مِمَّنْ صَحَّحَهَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ "الْمَجْمُوعِ" و"التجريد" وَصاحب "البيان" وَآخَرُونَ، وَنَقَلَهَا صاحب "البيان" عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ عَلَى رَأْسِ الْمُحْرِمِ هَلْ هُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ؟ أَمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ فَإِنْ قُلْنَا: عَارِيَّةٌ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عَلَى الْمَحْلُوقِ، ثُمَّ يُرْجَعُ بِهَا عَلَى الْحَالِقِ، كَمَا لَوْ تَلِفَتْ الْعَارِيَّةُ فِي يَدِهِ وإن قلنا: وَدِيعَةٌ وَجَبَتْ عَلَى الْحَالِقِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَحْلُوقِ، كَمَا لَوْ تَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ عِنْدَهُ بِلَا تَفْرِيطٍ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا: فِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ: وَقِيلَ وَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّهُ عَارِيَّةٌ، والثاني وَدِيعَةٌ وَمِمَّنْ نَقَلَ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْخِلَافَ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ صاحب "الشامل" وَالشَّاشِيُّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالشَّامِلِي وَغَيْرُهُمْ: الأصح: أَنَّهُ كَالْوَدِيعَةِ، قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْعَارِيَّةِ انْتِفَاعُ الْمُسْتَعِيرِ بِهَا وَالْمُحْرِمُ لَا يَنْتَفِعُ بِكَوْنِ الشَّعْرِ عَلَى رَأْسِهِ، وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُ فِي إزَالَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَعَّطَ بِالْمَرَضِ لَمْ يَضْمَنْهُ بِلَا خِلَافٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَالْوَدِيعَةِ، وَلَوْ كَانَ كَالْعَارِيَّةِ لَضَمِنَهُ كَالْعَارِيَّةِ التَّالِفَةِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ.
قَالَ الْقَاضِي: فإن قيل: إنَّمَا لَمْ يَضْمَنْ إذَا تَمَعَّطَ بِالْمَرَضِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَارِيَّةِ هُوَ الَّذِي أَتْلَفَهُ وَهُوَ الله تعالى فالجواب: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ إذَا حَلَقَهُ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى هُوَ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْحَلْقِ وَلَا مُحْدِثَ لِلْأَفْعَالِ سِوَاهُ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرِّقَ بِأَنَّ الْحَلْقَ اكْتَسَبَهُ الْعَبْدُ فَضَمِنَهُ، وَالتَّمَعُّطَ بِالْمَرَضِ لَيْسَ بِكَسْبٍ فَلَمْ يَضْمَنْهُ. هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَنَقَلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي "الشَّامِلِ" أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ قَالَ: ذِكْرُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ وَدِيعَةٌ وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ الْقَاضِي فِي "تعليقه"، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْخِلَافَ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ خَطَأٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ فِي أَنَّ الْأَصَحَّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْحَالِقِ، وَلَا يُطَالَبُ الْمَحْلُوقُ أَبَدًا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي "شَرْحِهِ" وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ "التَّعْلِيقِ" و"المجرد" وَالْمَحَامِلِيُّ في "المجموع" وَصاحب "الحاوي" وَالْجُرْجَانِيُّ فِي "التحرير" وَالْبَغَوِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَصاحب "البيان" وَالْفَارِقِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، لِأَنَّ الْمَحْلُوقَ مَعْذُورٌ وَلَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ بِخِلَافِ النَّاسِي وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ الْآخَرِ، إنَّهُ تَرَفُّهٌ بِالْحَلْقِ، فَقَالُوا: هَذَا يَنْتَقِضُ بِمَنْ عِنْدَهُ شَرَابٌ وَدِيعَةً فَجَاءَ إنْسَانٌ فَأَوْجَرَهُ فِي حَلْقِ الْمُودِعِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَإِنَّ

 

ج / 7 ص -228-       الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ دُونَ الْمُودِعِ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِي جَوْفِهِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فإن قلنا: الْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا مَعَ قُدْرَتِهِ فَلِلْمَحْلُوقِ مُطَالَبَتُهُ بِإِخْرَاجِهَا هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَهُوَ مُشْكِلٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا التَّعْوِيلُ عَلَى النَّقْلِ وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ هَذَا عَنْ الْأَصْحَابِ ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ وَأَنْكَرَهُ عَلَى الْأَصْحَابِ كَمَا اسْتَشْكَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَ الْمُتَوَلِّي عَنْ الْأَصْحَابِ كُلِّهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لِلْمَحْلُوقِ مُطَالَبَةُ الْحَالِقِ بِإِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْإِمَامِ بِالِاسْتِيفَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ لَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْإِخْرَاجِ ضَرَرٌ، لِأَنَّ الْحَالِقَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالْإِخْرَاجِ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ لِأَنَّ فِي الْقَطْعِ غَرَضًا وَهُوَ الزَّجْرُ لِصِيَانَةِ مِلْكِهِ. هَذَا كَلَامُ الْمُتَوَلِّي، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ: الصحيح: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ، والثاني لَا، وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ لِلْمَشْهُورِ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ، قَالَ الْفَارِقِيّ: وَلِأَنَّ حَجَّ الْمَحْلُوقِ يُتِمُّ بِإِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِإِخْرَاجِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَإِذَا قُلْنَا: يَجِبُ عَلَى الْحَالِقِ فَمَاتَ أَوْ أُعْسِرَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَحْلُوقِ وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَحْلُوقُ الْفِدْيَةَ إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْحَالِقِ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ أَدَّى زَكَاتَهُ وَكَفَّارَتَهُ بِإِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ: الأصح: لَا يُجْزِئُ كَمَا لَوْ أَخْرَجَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ وَجْهًا وَاحِدًا وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ شَبِيهَةٌ بِالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْعِبَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما: إذَا قُلْنَا: تَجِبُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْمَحْلُوقِ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: إنْ كَانَ الْحَالِقُ حَاضِرًا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلِلْمَحْلُوقِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْحَالِقِ وَيُخْرِجُهَا لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِلْزَامِ الْمَحْلُوقِ بِإِخْرَاجِهَا ثُمَّ الرُّجُوعُ عَلَى الْحَالِقِ مَعَ إمْكَانِ الْأَخْذِ مِنْ الْحَالِقِ هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ: هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْحَالِقِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ بِالْهَدْيِ أَوْ الْإِطْعَامِ دُونَ الصِّيَامِ هَكَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ لِأَنَّهُ مُتَحَمِّلٌ لِهَذِهِ الْفِدْيَةِ عَنْ غَيْرِهِ وَالصَّوْمُ لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّحَمُّلُ. وَإِنْ غَابَ الْحَالِقُ أَوْ أَعُسِرَ لَزِمَ الْمَحْلُوقَ أَنْ يَفْدِيَ لِيُخَلِّصَ نَفْسَهُ مِنْ الْفَرْضِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَهُ هُنَا أَنْ يَفْدِيَ بِالْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ، أَطْلَقَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ بِالْإِطْعَامِ وَالْهَدْيِ وَالصِّيَامِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ وُجُودِ الْحَالِقِ وَعَدَمِهِ، وَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصِّيَامُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مُتَحَمِّلٌ. وَإِذَا فَدَى الْمَحْلُوقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نُظِرَتْ فَإِنْ فَدَى بِالطَّعَامِ أَوْ الْهَدْيِ رَجَعَ بِأَقَلِّهِمَا قِيمَةً لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالزِّيَادَةِ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا فَعُدُولُهُ إلَى أَكْثَرِهِمَا تَبَرُّعٌ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ، وَيَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجَمَاهِيرُ.

 

ج / 7 ص -229-       وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ: أحدهما: هَذَا والثاني أَنَّهُ إذَا فَدَى بِأَكْثَرِهِمَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْحَالِقِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ غَارِمٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يُسْقِطَ الْغُرْمَ بِأَقَلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَدَلَ إلَى الْأَكْثَرِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِذَلِكَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ فَدَى بِالصِّيَامِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أصحها: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، والثاني يَرْجِعُ لِكُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، والثالث: يَرْجِعُ لِكُلِّ يَوْمٍ بِصَاعٍ، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي لِأَنَّ الشَّرْعَ عَادَلَ بَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَثَلَاثَةِ آصُعٍ، والرابع: حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" عَنْ ابْنِ الْقَطَّانِ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ يَرْجِعُ بِمَا يَرْجِعُ بِهِ لَوْ فَدَى بِالْهَدْيِ أَوْ الْإِطْعَامِ.
وَلَوْ أَرَادَ الْحَالِقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَفْدِيَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ بِالصَّوْمِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ بِالْهَدْيِ أَوْ الْإِطْعَامِ - فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمَحْلُوقِ - جَازَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: أصحهما: لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالرَّافِعِيُّ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ أُكْرِهَ إنْسَانًا عَلَى إتْلَافِ مَالٍ، وَقُلْنَا: إنَّ الْمُكْرَهَ الْمَأْمُورَ يَضْمَنُ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ فَأَدَّاهُ الْآمِرُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَأْمُورِ، يَبْرَأُ الْمَأْمُورُ، لِأَنَّ الْفِدْيَةَ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَصْدِهَا مِمَّنْ لَاقَاهُ الْوُجُوبُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا حَلَقَ إنْسَانٌ رَأْسَ الْمُحْرِمِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ عَاقِلٌ غَيْرُ مُكْرَهٍ، لَكِنَّهُ سَاكِتٌ فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: أَنَّهُ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِإِذْنِهِ فَتَكُونُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْمَحْلُوقِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَى الْحَالِقِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الشَّعْرَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إذَا أُتْلِفَتْ الْعَارِيَّةُ أَوْ الْوَدِيعَةُ وَهُوَ سَاكِتٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْمَنْعِ يَكُونُ ضَامِنًا فِي الطَّرِيقِ الثَّانِي، كَمَا أَنَّهُ لَوْ حَلَقَ نَائِمًا أَوْ مُكْرَهًا فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ.
فرع: لَوْ أَمَرَ حَلَالٌ حَلَالًا بِحَلْقِ رَأْسِ مُحْرِمٍ نَائِمٍ فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْآمِرِ إنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحَالِقُ الْحَالَ، فَإِنْ عَرَفَهُ فَوَجْهَانِ: الأصح: أَنَّهَا عَلَيْهِ، قَالَ الدَّارِمِيُّ وَلَوْ أَكْرَهَ إنْسَانٌ مُحْرِمًا عَلَى حَلْقِ رَأْسِ نَفْسِهِ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، كَمَا لَوْ حَلَقَهُ مُكْرَهًا وَلَوْ أُكْرِهَ رَجُلًا عَلَى حَلْقِ الْمُحْرِمِ فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْآمِرِ.
فرع: إذَا سَقَطَ شَعْرُ الْمُحْرِمِ بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْآفَاتِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ آدَمِيٍّ فَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ طَارَتْ إلَيْهِ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُ، فَقَدْ قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ فِي "البحر": إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إطْفَاؤُهَا فَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ سَقَطَ بِالْمَرَضِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ فَهُوَ كَمَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ السَّابِقَانِ وَأَطْلَقَ الدَّارِمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَوْ أُحْرِقَ بِالنَّارِ لَا فِدْيَةَ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه": قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَا فِدْيَةَ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ إنْ قُلْنَا: إنَّ الشَّعْرَ كَالْعَارِيَّةِ ضَمِنَهُ، وَإِنْ قُلْنَا وَدِيعَةً فَلَا، وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيِّ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِ الْعِرَاقِيِّينَ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِطْفَاءُ، وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ حُجَّةً لِسُقُوطِ الْفِدْيَةِ عَنْ الْمَحْلُوقِ النَّائِمِ وَالْمُكْرَهِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الِاحْتِجَاجُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَلَالَ إذَا حَلَقَ رَأْسَ الْمُحْرِمِ مُكْرِهًا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي الثَّانِي تَجِبُ عَلَى الْمَحْلُوقِ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْحَالِقِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَمْ تَخْتَلِفْ الْأَئِمَّةُ فِي

 

ج / 7 ص -230-       إيجَابِ الْفِدْيَةِ، قَالَ: وَأَقْرَبُ مَسْلَكٍ فِيهِ أَنَّ الشَّعْرَ فِي حَقِّ الْحَلَالِ كَصَيْدِ الْحَرَمِ وَشَجَرِهِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ لَوْ حَلَقَ مُحْرِمٌ رَأْسَ حَلَالٍ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ. دَلِيلُنَا أَنَّهُ حَلَقَ شَعْرًا لا حُرْمَةَ لَهُ بِخِلَافِ شَعْرِ الْمُحْرِمِ، وَلَوْ حَلَقَ حَلَالٌ شَعْرَ مُحْرِمٍ نَائِمٍ أَوْ مُكْرَهٍ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَى الْحَالِقِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ عَلَى الْمَحْلُوقِ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْحَالِقِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِ الْمُحْرِمِ فَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحُكَّ شَعْرَهُ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى لَا يَنْتَثِرَ شَعْرُهُ، فَإِنْ انْتَثَرَ مِنْهُ شَعْرُهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَيُكْرَهُ أَنْ يُفَلِّيَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، فَإِنْ فَلَّى وَقَتَلَ قَمْلَةً اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَأَيُّ شَيْءٍ فَدَاهَا بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، فَإِنْ ظَهَرَ الْقَمْلُ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يُنَحِّيَهُ لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَكْتَحِلَ بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ، لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَالْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ لَمْ يُكْرَهْ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُكْرَهْ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْحَلْقِ وَالطِّيبِ لِلْحَاجَةِ، فَلَأَنْ لَا يُكْرَهَ مَا يَحْرُمُ أَوْلَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ، لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ وَهُوَ مُحْرِمٌ" وَيَجُوزُ أَنْ يَغْسِلَ شَعْرَهُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ:
"اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ" وَيَجُوزُ أَنْ يَحْتَجِمَ مَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ" وَيَجُوزُ أَنْ يَفْتَصِدَ أَيْضًا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجِمَ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَظِلَّ سَائِرًا وَنَازِلًا، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ أَنْ تُضْرَبَ لَهُ بِنَمِرَةَ" وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ ذَلِكَ بِالْحَرِّ نَازِلًا وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ سَائِرًا قِيَاسًا عَلَيْهِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الثِّيَابَ الْمُصْبَغَةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رَأَى عَلَى طَلْحَةَ ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ وَهُوَ حَرَامٌ، فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّهْطُ أَنْتُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ، وَلَوْ أَنَّ جَاهِلًا رَأَى عَلَيْكَ ثَوْبَيْكَ لَقَالَ: قَدْ كَانَ طَلْحَةُ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصْبَغَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَا يَلْبَسُ أَحَدُكُمْ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ فِي الْإِحْرَامِ شَيْئًا".
وَيُكْرَهُ أَنْ يَحْمِلَ بَازًا أَوْ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِأَنَّهُ يُنَفِّرُ بِهِ الصَّيْدَ، وَرُبَّمَا انْفَلَتَ فَقَتَلَ صَيْدًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزِّهَ إحْرَامَهُ مِنْ الْخُصُومَةِ وَالشَّتْمِ وَالْكَلَامِ الْقَبِيحِ، لقوله تعالى:
{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفُسُوقُ الْمُنَابَذَةُ بِالْأَلْقَابِ، وَتَقُولُ لِأَخِيكَ: يَا ظَالِمُ يَا فَاسِقُ، وَالْجِدَالُ أَنْ تُمَارِيَ صَاحِبَكَ حَتَّى تُغْضِبَهُ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الشرح: حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُ رِوَايَتِهِمَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ وَهُوَ مُحْرِمٌ" وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ وَحَدِيثُهُ فِي الْحِجَامَةِ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأما حديث جَابِرٍ فِي الْقُبَّةِ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد فِي جُمْلَةِ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، الَّذِي اسْتَوْعَبَ فِيهِ صِفَةَ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ

 

ج / 7 ص -231-       الصَّحَابِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: "حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه". وأما حديث عُمَرَ وَقَوْلُهُ لِطَلْحَةَ فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الموطأ" بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وأما حديث أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأما: تَفْسِيرُ قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَوْلُهُ: يُكْرَهُ أَنْ يَفْلِيَ رَأْسَهُ هُوَ - بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ.
أَمَّا الأَحْكَامُ: فَفِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ: إحداها: يُكْرَهُ حَكُّ الشَّعْرِ فِي الْإِحْرَامِ بِالْأَظْفَارِ لِئَلَّا يَنْتِفَ شَعْرًا، وَلَا يُكْرَهُ بِبُطُونِ الْأَنَامِلِ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: يُكْرَهُ أَنْ يَحُكَّ شَعْرَهُ بِأَظْفَارِهِ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ بِأَنَامِلِهِ وَيُكْرَهُ مَشْطُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى نَتْفِ الشَّعْرِ، فَإِنْ حَكَّ أَوْ مَشَطَ فَنَتَفَ بِذَلِكَ شَعْرَةً أَوْ شَعَرَاتٍ لَزِمَهُ فِدْيَةٌ فَإِنْ سَقَطَ شَعْرٌ وَشَكَّ هَلْ نَتَفَهُ بِفِعْلِهِ؟ أَمْ كَانَ يَغْتَسِلُ1 بِنَفْسِهِ؟ فَوَجْهَانِ وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَمِمَّنْ حَكَاهُمَا قَوْلَيْنِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ حِكَايَتِهِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصاحب "البيان": لَا فِدْيَةَ، لِأَنَّهُ مُحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَالْأَصْلُ بَرَاءَتُهُ فَلَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ بِالشَّكِّ، والثاني تَلْزَمُهُ إحَالَةً عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ نَظِيرٌ مَنْ ضَرَبَ بَدَنَ امْرَأَةٍ فَأَجْهَضَتْ جَنِينًا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ الْإِجْهَاضُ بِسَبَبٍ آخَرَ، هَذَا كُلُّهُ فِي حَكِّ الشَّعْرِ. وأما: حَكُّ الْجَسَدِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي "الموطأ" عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّهَا سُئِلَتْ أَيَحُكُّ الْمُحْرِمُ جَسَدَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَلْيَحُكَّهُ وَلْيَشْدُدْ".
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ دَلْكُ الْبَدَنِ وَإِزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ، لَا يَفْعَلُهُ، فَإِنْ فَعَلَهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ. دَلِيلُنَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يُمْنَعُ فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الدَّلَالَةِ، وأما: مَا يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُنَا مِنْ رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامًا وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِنَا شَيْئًا" فَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْد الْمُحَدِّثِينَ.
المسألة الثانية: يُكْرَهُ أَنْ يُفَلِّيَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، فَإِنْ فَلَّى وَقَتَلَ قَمْلَةً تَصَدَّقَ وَلَوْ بِلُقْمَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَفِي نَصٍّ آخَرَ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ فَدَاهَا بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهَا كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ بِمَعْنَى الأَوَّلِ وَهَذَا التَّصَدُّقُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَأْكُولَةً فَأَشْبَهَتْ قَتْلَ الْحَشَرَاتِ وَالسِّبَاعِ الَّتِي لا تُؤْكَلُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّ التَّصَدُّقَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إزَالَةَ الأَذَى عَنْ الرَّأْسِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ قَتْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ، حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ ظَهَرَ الْقَمْلُ فِي بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ فَلَهُ إزَالَتُهُ وَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ لا وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً، بِخِلَافِ قَمْلِ الرَّأْسِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إزَالَةَ الْأَذَى مِنْ الرَّأْسِ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّ الصِّئْبَانَ لَهَا حُكْمُ الْقَمْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انتسل الشعر والصوف نسولاً: سقط (ط).

 

ج / 7 ص -232-       الثَّالِثَةُ: يَحْرُمُ الِاكْتِحَالُ بِكُحْلٍ فِيهِ طِيبٌ كَمَا سَبَقَ فِي فَصْلِ الطِّيبِ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ لِدَوَاءٍ جَازَ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وأما: الِاكْتِحَالُ بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ فَقَدْ سَبَقَ فِي آخِرِ فَصْلِ تَحْرِيمِ الطِّيبِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ؟ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي كَرَاهَتِهِ نَصَّانِ فَقِيلَ قَوْلَانِ، وَقِيلَ عَلَى حَالَيْنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ زِينَةٌ كَالْإِثْمِدِ وَنَحْوِهِ كُرِهَ إلَّا لِحَاجَةٍ كَرَمَدٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ كَالتُّوتْيَا لَمْ يُكْرَهْ، وَبِهَذَا التَّفْصِيلُ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْجُمْهُورُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ: إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُحَسِّنُ الْعَيْنَ كَالتُّوتْيَا فَلَا كَرَاهَةَ وَإِنْ كَانَ يُحَسِّنُهَا كَالْإِثْمِدِ فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَنَصَّ في "الإملاء" أَنَّهُ يُكْرَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ في "الأم"، قَالَ: فَإِنْ صَحَّ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِلَّا فَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِهِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَالْمَذْهَبُ التَّفْصِيلُ.
قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ: وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمَةِ الِاكْتِحَالُ بِالْإِثْمِدِ أَشَدُّ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِلرِّجَالِ، لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ الزِّينَةِ أَكْثَرُ مِنْ الرَّجُلِ، فَإِنْ اكْتَحَلَ بِهِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمُحْرِمِ: "يَعْنِي يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ قَالَ:
يُضَمِّدُهَا بِالصَّبِرِ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شُمَيْسَةَ قَالَتْ: "اشْتَكَتْ عَيْنَيْ وَأَنَا مُحْرِمَةٌ فَسَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها عَنْ الْكُحْلِ، فَقَالَتْ: اكْتَحِلِي بِأَيِّ كُحْلٍ شِئْتِ غَيْرِ الْإِثْمِدِ، أَوْ قَالَتْ: غَيْرِ كُلِّ كُحْلٍ أَسْوَدَ، أَمَا إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ، وَنَحْنُ نَكْرَهُهُ وَقَالَتْ إنْ شِئْتِ كَحَّلْتُكِ بِصَبِرٍ فَأَبَيْتُ".
فرع: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ تَضْمِيدِ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا لِلْمُحْرِمِ بِالصَّبِرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَيْسَ بِطِيبٍ وَلَا فِدْيَةَ فِي ذَلِكَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى مَا فِيهِ طِيبٌ جَازَ فِعْلُهُ. وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَكْتَحِلَ بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَلَا فِدْيَةَ، وَأَمَّا الِاكْتِحَالُ لِلزِّينَةِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَنَا عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَبَقَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِكُلِّ كُحْلٍ لَا طِيبَ فِيهِ، قَالَ: وَرَخَّصَ فِي الْكُحْلِ لَهُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ غَيْرَ أَنَّ إِسْحَاقَ وَأَحْمَدَ قَالَا: لَا يُعْجِبُنَا ذَلِكَ لِلزِّينَةِ، وَكَرِهَهُ مُجَاهِدٌ، وَكَرِهَ الْإِثْمِدَ لِلْمُحْرِمِ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُكْرَهُ.
المسألة الرابعة: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ، وَيَنْغَمِسَ فِي الْمَاءِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَهُ إزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ "قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقِيلَ: يُكْرَهُ عَلَى "الْقَدِيمِ"، وَلَهُ غَسْلُ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَوْفًا مِنْ انْتِتَافِ الشَّعْرِ، وَلِأَنَّهُ تَرَفُّهٌ وَنَوْعُ زِينَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمْهُورُ كَرَاهَتَهُ بَلْ اقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّهُ خِلَافُ الْأُولَى وَصَرَّحَ الْبَنْدَنِيجِيُّ بِكَرَاهَتِهِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَذَكَرَ الْحَنَّاطِيُّ كَرَاهَتَهُ في "الْقَدِيمِ". قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا غَسَلَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفُقَ لِئَلَّا يَنْتِفَ شَعْرَهُ. هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اغْتِسَالُ الْمُحْرِمِ بِالْمَاءِ وَالِانْغِمَاسُ فِيهِ فَجَائِزٌ، لَا يُعْرَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِيهِ، لِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ السَّابِقِ فأما: دُخُولُ الْحَمَّامِ وَإِزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ نَفْسِهِ فَجَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَنَا. وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِإِزَالَةِ الْوَسَخِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِخَطْمِي لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ

 

ج / 7 ص -233-       ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ عَنْ بَعِيرِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَرِهَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمَالِكٌ غَسْلَ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو1 يَعْقُوبَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ مُبَاحٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ وَيَفْتَصِدَ وَيَقْطَعَ الْعِرْقَ مَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ هَذَا مَذْهَبُنَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَسْرُوقٌ وَعَطَاءٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ الْحِجَامَةُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إنْ فَعَلَهُ2 دَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْحِجَامَةِ وَنَحْوِهَا وَلَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِقَطْعِ شَعْرٍ قَطَعَهُ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ.
السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ سَائِرًا وَنَازِلًا لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلِحَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ. هَذَا مَذْهَبُنَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ رَبِيعَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانِ وَعَطَاءٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُهْدِي: لَا أَسْتَظِلُّ، قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ" قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدِي لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ خَبَرًا ثَابِتًا يَمْنَعُ مِنْهُ، وَمَا كَانَ لِلْحَلَالِ فِعْلُهُ كَانَ لِلْمُحْرِمِ فِعْلُهُ إلَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ. قَالَ: كُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّاكِبُ وَمَنْ عَلَى الْأَرْضِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ السَّابِقَيْنِ فِي حَدِيثِ ضَرْبِ الْقُبَّةِ بِنَمِرَةَ، وَحَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَجُوزُ الِاسْتِظْلَالُ لِلنَّازِلِ، وَلَا يَجُوزُ لِلسَّائِرِ، فَإِنْ اسْتَظَلَّ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ وَوَافَقْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ زَمَنُ اسْتِظْلَالِهِ يَسِيرًا فَلَا فِدْيَةَ، وَكَذَا لَوْ اسْتَظَلَّ بِيَدِهِ وَنَحْوِهَا، دَلِيلُنَا الْحَدِيثَانِ السَّابِقَانِ، وأما: مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "أَبْصَرَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا عَلَى بَعِيرِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَدْ اسْتَظَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ فَقَالَ لَهُ: أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ" فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وقوله: أَضْحِ أَيْ اُبْرُزْ إلَى الشَّمْسِ وأما حديث جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا مِنْ مُحْرِمٍ يَضْحَى لِلشَّمْسِ حَتَّى تَغْرُبَ إلَّا غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ، حَتَّى يَعُودَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: هُوَ إسْنَادٌ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ لِلْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِظْلَالِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَلَا فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ سَائِرٍ وَنَازِلٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: الِاسْتِظْلَالُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَالْبُرُوزُ لِلشَّمْسِ أَفْضَلُ مِنْهُ لِلرَّجُلِ، مَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا، وَالسِّتْرُ لِلْمَرْأَةِ أَفْضَلُ.
السَّابِعَةُ: قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُ الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. فَإِنْ لَبِسَهَا فَلَا فِدْيَةَ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَصْبُوغُ بِالنِّيلِ وَالْمَغْرَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَيْسَ بِطِيبٍ.
الثَّامِنَةُ: يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ بَازِيًا أَوْ كَلْبًا مُعَلَّمًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ جَوَارِحِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله أبو يوسف.
2 هكذا بالأصل والسقط هو (فعليه الفدية)، المطيعي.

 

ج / 7 ص -234-       لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَتَابَعَهُ الْأَصْحَابُ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ بِفُرُوعِهَا فِي فَصْلِ الصَّيْدِ.
التَّاسِعَةُ: قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: يَنْبَغِي أَنْ يُنَزِّهَ إحْرَامَهُ مِنْ الشَّتْمِ وَالْكَلَامِ الْقَبِيحِ وَالْخُصُومَةِ وَالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ، وَمُخَاطَبَةِ النِّسَاءِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ وَالْقُبْلَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَكَذَا ذِكْرُهُ بِحَضْرَةِ الْمَرْأَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَكَلَامُ الْحَلَالِ بِذِكْرِ اللَّهِ تعالى وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْكَلَامِ الْمَنْدُوبِ، كَتَعْلِيمٍ وَتَعَلُّمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِحَدِيثَيْ[أَبِي شُرَيْحٍ1 الْخُزَاعِيِّ]وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".
وَلَا بَأْسَ عَلَيْهِمَا بِالْكَلَامِ الْمُبَاحِ مِنْ شِعْرٍ وَغَيْرِهِ لِحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشِّعْرُ كَلَامٌ حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ هَكَذَا مُرْسَلًا عَنْ عُرْوَةَ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه غَنَّى وَهُوَ مُحْرِمٌ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَاشِرَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا لَا بَأْسَ بِنَظَرِ الْمُحْرِمِ فِي الْمِرْآةِ وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْجَامِعِ": لَا بَأْسَ بِنَظَرِ الْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ إلَى وَجْهِهِ فِي الْمِرْآةِ قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "سُنَنِ حَرْمَلَةَ": يُكْرَهُ لَهُمَا ذَلِكَ هَذَا كَلَامُ الْبَنْدَنِيجِيِّ. وَقَالَ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ": قَالَ الشَّافِعِيُّ في "الأم" لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ فِي "سُنَنِ حَرْمَلَةَ": يُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ زِينَةٌ. وَقَالَ صاحب "البيان" قَالَ: صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ لَا يُكْرَهُ قَالَ: وَنَقَلَ صَاحِبُ "الْفُرُوعِ" عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ نَصَّ في "الإملاء" أَنَّهُ يُكْرَهُ فَحَصَلَ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: الأصح: لَا يُكْرَهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَطَاوُسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ. لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ. قَالَ: وَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: أحدهما: يُكْرَهُ والثاني لَا بَأْسَ بِهِ وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْرِمُ فِي الْمِرْآةِ إلَّا مِنْ وَجَعٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ2 ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (أبي سريج عن الخزاعي) وهو خطأ واضح، وأبو شريح الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو أسلم عام الفتح له عشرون حديثا اتفق الشيخان على حديثين مات 68.
2 كذا في ش و ق وفي العبارة نظر، لأن المجال هنا هو في سوق قولين لعطاء الفقيه وليس في تقدير عطاء الرواية، ولعل الضعف إنما يلحق قوله الأول بالكراهة، ويكون قوله الثاني موافقا للأصح من قولي الشافعي. وعطاء هذا هو ابن أبي مسلم الخرساني قائد جيوش العباسية ومؤسس دولتهم، وهو من كبار العلماء، وهو من أهل سمرقند، وقيل: من أهل بلخ، وولاؤه للمهلب بن أبي صفرة، ورحل وطوف وسكن الشام، ورواياته عن ابن عباس وابن عمر فمرسلة وهو كثير الإرسال وممن روى عنهم أنس وسعيد بن المسيب وعكرمة وعروة وعنه ابنه عثمان والأوزاعي ومعمر وشعبة وسفيان ويحيى بن حمزة وإسماعيل بن عياش قال يحيى بن معين: عطاء قالوا ابن أبي مسلم وقالوا: ابن أبي ميسرة، وقال مالك: عطاء بن عبد الله ا هـ. وقال البخاري عطاء بن عبد الله هو ابن أبي مسلم سألت عبد الله بن عثمان عن عطاء فقال: نحن من أهل بلخ ا هـ. وقد فرق مسلم والنسائي بينهما فجعلاهما اثنين وقال ابن عساكر: وهما واحد ا هـ. من "الميزان" ملخصاً (ط). 

 

ج / 7 ص -235-       الْحَادِيَةَ عَشَرَ: أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي كَلَامِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَغَيْرِهِ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَوْنُ الْحَاجِّ أَشْعَثَ، وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَدَلِيلُهُ قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَقُولُ لَهُمْ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ "المختصر": الْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا أُمِرَتْ بِهِ مِنْ السِّتْرِ، فَأَسْتَرُ لَهَا أَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَلَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْقَمِيصَ وَالْقَبَاءَ، إلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَشَرَحَ الْأَصْحَابُ هَذَا الْكَلَامَ فَأَحْسَنُهُمْ شَرْحًا صاحب "الحاوي" قَالَ: أما: أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي هَيْئَاتِ الْإِحْرَامِ، فَهِيَ تُخَالِفُهُ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: أحدها: أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ كَالْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ، وَمَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا، لِأَنَّ عَلَيْهَا سَتْرُ جَمِيعِ بَدَنِهَا غَيْرَ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، وَالرَّجُلُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْمَخِيطِ وَتَلْزَمُهُ بِهِ الْفِدْيَةُ، الثاني: أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ صَوْتِهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَالرَّجُلُ مَأْمُورٌ بِرَفْعِهِ؛ لِأَنَّ صَوْتَهَا يَفْتِنُ: الثالث: أَنَّ إحْرَامَهَا فِي وَجْهِهَا فَلَا تُغَطِّيهِ، فَإِنْ سَتَرَتْهُ لَزِمَهَا الْفِدْيَةُ، وَلِلرَّجُلِ سَتْرُهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، الرَّابِعُ: لَيْسَ لِلرَّجُلِ لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ بِلَا خِلَافٍ وَفِي الْمَرْأَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، الْخَامِسُ: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَخْتَضِبَ لِإِحْرَامِهَا بِحِنَّاءٍ، وَالرَّجُلُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ.
قلت: وَتُخَالِفُهُ فِي شَيْءٍ سَادِسٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ أَنَّ كَرَاهَةَ الِاحْتِكَالِ فِي حَقِّهَا أَشَدُّ مِنْ الرَّجُلِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَفِي سَابِعٍ وَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا مَسُّ وَجْهِهَا عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ بِشَيْءٍ مِنْ الْحِنَّاءِ لِتَسْتَتِرَ بَشَرَتُهُ عَنْ الْأَعْيُنِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا وَاضِحًا فِي أَوَائِلِ هَذَا الْبَابِ قَالَ الْأَصْحَابُ: وَفِي أَشْيَاءَ مِنْ هَيْئَاتِ الطَّوَافِ: أَحَدُهَا وَالثَّانِي: الرَّمَلُ وَالِاضْطِبَاعُ يُشْرَعَانِ لِلرَّجُلِ دُونَهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هِيَ مَنْهِيَّةٌ عَنْهُمَا، بَلْ تَمْشِي عَلَى هِينَتِهَا، وَتَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهَا غَيْرَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، الثالث: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَطُوفَ لَيْلًا لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَالرَّجُلُ يَطُوفُ لَيْلًا وَنَهَارًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تَدْنُوَ مِنْ الْكَعْبَةِ فِي الطَّوَافِ إنْ كَانَ هُنَاكَ رِجَالٌ1 وَإِنَّمَا تَطُوفُ فِي حَاشِيَةِ النَّاسِ، وَالرَّجُلُ بِخِلَافِهَا، قَالَ السَّرَخْسِيُّ وَهَكَذَا يُسْتَحَبُّ لَهَا فِي الطَّرِيقِ أَنْ لَا تُخَالِطُ النَّاسَ وَتَسِيرُ عَلَى حَاشِيَتِهِمْ تَحَرُّزًا عَنْهُمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتُخَالِفُهُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ هَيْئَاتِ السَّعْيِ: أحدها: أَنَّهَا تَمْشِي جَمِيعَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لَا تَسْعَى فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ، والثاني ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الصور التى شاهدناها النسوة الأفريقيات التكروريات وهن حاسرات الأذرع والصدور يزاحمن الرجال يدافعنهم ليصلن إلى استلام الحجر الأسود فأين حاشية الناس من هذا الالتصاق الذي تتعمده إحداهن في طوافها وشقها الزحام بلا مبالاة ولا خجل (ط).

 

ج / 7 ص -236-       السَّعْيِ رَاكِبَةً، وَالرَّجُلُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، والثالث: ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا أَنَّهَا تَمْتَنِعُ مِنْ صُعُودِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالرَّجُلُ يُؤْمَرُ بِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَتُخَالِفُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ هَيْئَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ: أحدها: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَقِفَ نَازِلَةً لَا رَاكِبَةً، لِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهَا وَأَسْتَرُ، وَالرَّجُلُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا عَلَى الْأَصَحِّ، والثاني يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَكُونَ جَالِسَةً وَالرَّجُلُ قَائِمًا، والثالث: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي حَاشِيَةِ الْمَوْقِفِ وَأَطْرَافِ عَرَفَاتٍ، وَالرَّجُلُ يُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ السُّودِ بِوَسَطِ عَرَفَاتٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَتُخَالِفُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ هَيْئَاتِ بَاقِي الْمَنَاسِكِ: أحدها: يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ رَفْعُ يَدِهِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ، والثاني يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ نُسُكَهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ، والثالث: الْحَلْقُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ، وَتَقْصِيرُهَا هِيَ أَفْضَلُ مِنْ حَلْقِهَا، بَلْ حَلْقِهَا مَكْرُوهٌ، قَالَ: وَمَا سِوَى الْمَذْكُورِ فَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِيهِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.