المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 7 ص -125-       بَابُ الْمَوَاقِيتِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَمِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ، وَمِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنُ، وَمِيقَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنَ" قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: "وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ" وأما: أَهْلُ الْعِرَاقِ فَمِيقَاتُهُمْ ذَاتُ عِرْقٍ، وَهَلْ هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ؟ أَوْ مُجْتَهَدٌ فِيهِ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله في "الأم": هُوَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَمَّا فُتِحَ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ رضي الله عنه قَالُوا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ، وَإِنَّا إذَا أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ قَرْنَ شَقَّ عَلَيْنَا، قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ قَالَ: فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ" وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَمَذْهَبُهُ مَا ثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يُهِلُّ أَهْلُ الْمَشْرِقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ" وَرَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ" قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَلَوْ أَهَلَّ أَهْلُ الْمَشْرِقِ مِنْ الْعَقِيقِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ" وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ فَكَانَ أَفْضَلَ.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْأَوَّلُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ هَكَذَا، وَرَوَيَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، قَالَ: هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ مَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "
فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ حَتَّى أَهْلِ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا" وأما حديث ابْنِ عُمَرَ الثَّانِي: "لَمَّا فُتِحَ الْمِصْرَانِ" إلَخْ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في "صحيحه".
وأما حديث جَابِرٍ فِي ذَاتِ عِرْقٍ فَضَعِيفٌ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه"، لَكِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ "سَمِعَ جَابِرًا يَسْأَلُ عَنْ الْمُهَلِّ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَحْسَبُهُ رُفِعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
مُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ" فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِرَفْعِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ بِمُجَرَّدِ هَذَا، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْجُوزِيِّ1 - بِضَمِّ الْجِيمِ الْمُعْجَمَةِ - بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا ضبطه الإمام النووي بالجيم وهو خطأ لأنه منسوب إلى الخوز بالخاء المعجمة وهو شعب بمكة وليس منسوبا إلى خوزستان قال في "الميزان": إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي عن طاوس وعطاء وعدة وعنه وكيع وزيد بن الحباب وجماعة، قال أحمد والنسائي: متروك وقال ابن معين: ليس بثقة وقال البخاري سكتوا عنه ا هـ. ومثل هذا قال ابن حجر في "التقريب" و"التهذيب" وقال في "اللسان": إبراهيم بن يزيد غير منسوب روى ابن عدي: حدثنا إبراهيم ابن سلام المكي عن إبراهيم بن يزيد بن سليمان عن طاوس عن ابن عباس رفعه "للسائل حق وإن جاء على فرس" قال ابن عدي: إبراهيم هذا مجهول ولعله سرقه منه إبراهيم بن عبد السلام والظاهر أنه إبراهيم بن يزيد الخوزي إلى أن قال: قال ابن القطان: إن كان إبراهيم بن يزيد هو الخوزي وإلا فهو مجهول قلت: هو الخوزي لا ريب فيه مما يظهر لي والله يعلم ا هـ "المطيعي".

 

ج / 7 ص -126-       مَرْفُوعًا بِغَيْرِ شَكٍّ لَكِنَّ الْجُوزِيَّ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَا شَكٍّ أَيْضًا، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ عَدِيٍّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَنْكَرَ عَلَى أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ رِوَايَتَهُ هَذِهِ، وَانْفِرَادَهُ بِهِ أَنَّهُ ثِقَةٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ. وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو السَّهْمِيِّ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، وَعَطَاءٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الِاحْتِجَاجُ بِمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ إذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ منها: أَنْ يَقُولَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا قَدْ اتَّفَقَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَوَاهُ مُرْسَلًا، قَالَ: قَدْ رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ مُتَّصِلًا، وَالْحَجَّاجُ ظَاهِرُ الضَّعْفِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ.
وأما أَلْقَابُ الْفَصْلِ وَأَلْفَاظِهِ، فَقَوْلُهُ: ذُو الْحُلَيْفَةِ هُوَ - بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ - وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ1 بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نَحْوُ سِتَّةِ أَمْيَالٍ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوُ عَشْرِ مَرَاحِلَ فَهُوَ أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ مِنْ مَكَّةَ وأما: الْجُحْفَةُ فَبِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ - وَيُقَالُ لَهَا: مَهْيَعَةُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ مَعَ سُكُونِ الْهَاءِ بَيْنَهُمَا - وَهِيَ قَرْيَةٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى نَحْوِ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ سُمِّيَتْ جُحْفَةُ؛ لِأَنَّ السَّيْلَ جَحَفَهَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي.
وأما يَلَمْلَمُ - بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ، وَاللَّامَيْنِ - وَقِيلَ لَهُ: أَلَمْلَمُ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ - وَحُكِيَ صَرْفُهُ وَتَرْكُ صَرْفِهِ وَهُوَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ وأما: قَرْنُ - فَبِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ - بِلا خِلافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَالتَّوَارِيخِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ، وَيُقَالُ لَهُ: قَرْنُ الْمُبَارَكِ2 وأما: قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ: إنَّهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَأَنَّ أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَغَلَطٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَلَطٌ فِيهِ فِي شَيْئَيْنِ فَتْحُ رَائِهِ وَنِسْبَةُ أُوَيْسٍ إلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ رضي الله عنه إلَى قَرْنَ قَبِيلَةٍ مِنْ مُرَادٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
"أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرْنِ" وقوله: صلى الله عليه وسلم: "يُهِلُّ" مَعْنَاهُ يُحْرِمُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ.
وأما ذَاتُ عِرْقٍ - فَبِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ - وَهِيَ قَرْيَةٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَقَدْ خَرِبَتْ. وأما: الْعَقِيقُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ في "تهذيب اللغة: "يُقَالُ لِكُلِّ مَسِيلِ مَاءٍ شَقَّهُ السَّيْلُ فَأَنْهَرَهُ وَوَسَّعَهُ عَقِيقٌ، قَالَ: وَفِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَرْبَعَةُ أَعِقَّةٍ وَهِيَ أَوْدِيَةٌ عَادِيَّةٌ منها: عَقِيقٌ يَدْفُقُ مَاؤُهُ فِي غَوْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا لمكان يعرف الآن عند العامة باسم "آبار علي" (ط).
2 جمع مبرك مكان بروك المطايا (ط).

 

ج / 7 ص -127-       تِهَامَةَ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَوْ أَهَلُّوا مِنْ الْعَقِيقِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ وَقَوْلُهُ: لَمَّا فُتِحَ الْمِصْرَانِ - يَعْنِي الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ - وَمَعْنَى فُتِحَا نَشَآ أَوْ أُنْشِئَا، فَإِنَّهُمَا أُنْشِئَا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَهُمَا مَدِينَتَانِ إسْلَامِيَّتَانِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُمَا فِي "تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ".
أَمَّا الأَحْكَامُ: فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: مِيقَاتُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ زَمَانِيٌّ وَمَكَانِيٌّ أما: الزَّمَانِيُّ فَسَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وأما: الْمَكَانِيُّ فَالنَّاسُ فِيهِ ضَرْبَانِ: أحدهما: الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ مَكِّيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَفِي مِيقَاتِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِ وَجْهَانِ، وَغَيْرِهِ قَوْلَانِ: أصحهما: نَفْسُ مَكَّةَ، وَهُوَ مَا كَانَ دَاخِلًا مِنْهَا، والثاني مَكَّةُ وَسَائِرُ الْحَرَمِ، وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: دَلِيلُ الْأَصَحِّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقُ لِأَنَّ مَكَّةَ وَالْحَرَمَ فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ فَارَقَ بُنْيَانَ مَكَّةَ وَأَحْرَمَ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مُسِيءٌ يَلْزَمُهُ الدَّمُ إنْ لَمْ يَعُدْ، كَمُجَاوَزَةِ سَائِرِ الْمَوَاقِيتِ، وَعَلَى الثَّانِي حَيْثُ أَحْرَمَ فِي الْحَرَمِ لَا إسَاءَةَ.
أَمَّا: إذَا أَحْرَمَ خَارِجَ الْحَرَمِ فَمُسِيءٌ بِلَا خِلَافٍ، فَيَأْثَمُ وَيَلْزَمُهُ الدَّمُ إلَّا أَنْ يَعُودَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ إلَى مَكَّةَ عَلَى الْأَصَحِّ أَوْ إلَى الْحَرَمِ عَلَى الثَّانِي. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجُوزُ الْإِحْرَامُ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَكَّةَ بِلَا خِلَافٍ، لِعُمُومِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ: أحدهما: أَنْ يَتَهَيَّأَ لِلْإِحْرَامِ وَيُحْرِمُ مِنْ الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْ الْكَعْبَةِ، إمَّا تَحْتَ الْمِيزَابِ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ وأصحهما: أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ بَابِ دَارِهِ، وَيَأْتِيَ الْمَسْجِدَ مُحْرِمًا، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ" وأما: الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لِلْمَكِّيِّ فَهُوَ كَغَيْرِهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي الْبَابِ قَبْلُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: غَيْرُ الْمَكِّيِّ وَهُوَ صِنْفَانِ: أحدهما: مِنْ مَسْكَنِهِ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ، فَمِيقَاتُهُ الْقَرْيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا أَوْ الْحِلَّةُ الَّتِي يَنْزِلُهَا الْبَدَوِيُّ، فَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهَا إلَى مَكَّةَ فَمُسِيءٌ بِلَا خِلَافٍ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الصِّنْفُ الثَّانِي: مِنْ مَسْكَنِهِ فَوْقَ الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ، وَيُسَمَّى هَذَا الْأُفُقِيُّ1 بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا - فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَالْمَوَاقِيتُ الشَّرْعِيَّةُ خَمْسَةٌ: أحدها: ذُو الْحُلَيْفَةِ وَهُوَ مِيقَاتُ مَنْ تَوَجَّهَ مِنْ الْمَدِينَةِ والثاني الْجُحْفَةُ مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ مِنْ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، هَكَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ، وَأَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ مِصْرَ فِي التنبيه الثالث: يَلَمْلَمُ مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ، مِنْ الْيَمَنِ الرَّابِعُ: قَرْنٌ مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ مِنْ نَجْدِ الْيَمَنِ وَنَجْدِ الْحِجَازِ، هَكَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر" وَالْأَصْحَابُ، وَلَمْ يُنَبِّهْ الْمُصَنِّفُ عَلَى إيضَاحِهِ الْخَامِسُ: ذَاتُ عِرْقٍ مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ مِنْ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "لسان العرب": قال ثعلب: ورجل أفقي وأفقي منسوب إلى الآفاق أو إلى الأفق الأخيرة من شاذ النسب وفي "التهذيب": رجل أفقي بفتح الهمزة والفاء إذا كان من آفاق الأرض أي نواحيها، وبعضهم يقول: أفقي بضمهما وهو القياس، قال الكميت:
الفائقون الرائقون الآفقون على المعاشر
ويقال تآفق إذا جاءنا من أفق وهم حديث لقمان بن عاد حين وصف أخاه قال: صعاق آفاق. (ط).

 

ج / 7 ص -128-       قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: مِيقَاتُ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ، أَيْ مِيقَاتُ تِهَامَةَ الْيَمَنُ لَا كُلَّ الْيَمَنِ، فَإِنَّ الْيَمَنَ تَشْمَلُ نَجْدًا وَتِهَامَةَ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَالْأَرْبَعَةُ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ نَصَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَا خِلَافٍ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِلْأَحَادِيثِ، وَفِي ذَاتِ عِرْقٍ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: أحدهما: وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ في "الأم" كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، اجْتَهَدَ فِيهِ عُمَرُ رضي الله عنه لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ: "لَمَّا فُتِحَ الْمِصْرَانِ" والثاني وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه"، وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ "الْمَجْمُوعِ" و"التجريد"، وَصاحب "الحاوي"، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَصاحب "الشامل" وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ كَوْنَهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ، مِنْهُمْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَطَعَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي "الوسيط"، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الصَّحِيحُ أَنَّ عُمَرَ وَقَّتَهُ قِيَاسًا عَلَى قَرْنِ وَيَلَمْلَمَ، قَالَ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ التَّعْوِيلُ أَنَّهُ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ قَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَاتِ عِرْقٍ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَفِي مَوْضِعٍ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ طَاوُسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ، وَمِمَّنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرُهُ. وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
واحتج مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "لَمَّا فُتِحَ الْمِصْرَانِ" واحتج الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُ مُفْرَدَاتِهَا ضَعِيفَةً، فَمَجْمُوعُهَا يُقَوِّي بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَصِيرُ الْحَدِيثُ حَسَنًا، وَيُحْتَجُّ بِهِ، وَيُحْمَلُ تَحْدِيدُ عُمَرَ رضي الله عنه بِاجْتِهَادِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ تَحْدِيدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّدَهُ بِاجْتِهَادِهِ فَوَافَقَ النَّصَّ، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ نَصَّيْهِ السَّابِقَيْنِ: إنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، وَقَدْ اجْتَمَعَتْ طُرُقُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَقَوِيَ وَصَارَ حَسَنًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر" وَالْمُصَنَّفُ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: لَوْ أَحْرَمَ أَهْلُ الْمَشْرِقِ مِنْ الْعَقِيقِ كَانَ أَفْضَلَ، وَهُوَ وَادٍ وَرَاءَ ذَاتِ عِرْقٍ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَالِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا فِي الْعَقِيقِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ، قِيلَ: وَفِيهِ سَلَامَةٌ مِنْ الْتِبَاسٍ وَقَعَ فِي ذَاتِ عِرْقٍ لِأَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ قَرْيَةٌ خَرِبَتْ وَحُوِّلَ بِنَاؤُهَا إلَى جِهَةِ مَكَّةَ، فَالِاحْتِيَاطُ الْإِحْرَامُ قَبْلَ مَوْضِعِ بِنَائِهَا الْآنَ، قَالُوا: وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَتَى مِنْ جِهَةِ الْعِرَاقِ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَطْلُبَ آثَارَ الْقَرْيَةِ الْعَتِيقَةِ. وَيُحْرِمَ حِينَ يَنْتَهِي إلَيْهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمِنْ عَلَامَاتِهَا الْمَقَابِرُ الْقَدِيمَةُ، فَإِذَا انْتَهَى إلَيْهَا أَحْرَمَ، وَاسْتَأْنَسَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ فِي ذَلِكَ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ بِحَدِيثِ تَوْقِيتِ الْعَقِيقِ السَّابِقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: أَعْيَانُ، هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ لَا تُشْتَرَطُ، بَلْ الْوَاجِبُ عَيْنُهَا أَوْ حَذْوُهَا، قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ الْمِيقَاتِ، وَهُوَ الطَّرَفُ الْأَبْعَدُ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى لَا يَمُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُسَمَّى مِيقَاتًا غَيْرَ مُحْرِمٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ الطَّرَفِ الْأَقْرَبِ إلَى مَكَّةَ جَازَ بِلَا خِلَافٍ لِحُصُولِ الِاسْمِ.

 

ج / 7 ص -129-       فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: الِاعْتِبَارُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ لَا بِاسْمِ الْقَرْيَةِ وَالْبِنَاءِ، فَلَوْ خَرِبَ بَعْضُهَا وَنُقِلَتْ عِمَارَتُهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ قَرِيبٍ مِنْهُ وَسُمِّيَ بِاسْمِ الْأَوَّلِ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحُكْمُ، بَلْ الِاعْتِبَارُ بِمَوْضِعِ الْأَوَّلِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَهَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلِكُلِّ مَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَقَالَ:
هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلِكُلِّ مَنْ أَتَى عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دَارُهُ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ يُنْشِئُ، ثُمَّ كَذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ وَلَفْظُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَرَّ شَامِيٌّ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ أَوْ الْمَدِينَةِ، أَوْ عِرَاقِيٌّ مِنْ طَرِيقِ الْيَمَنِ، فَمِيقَاتُهُ مِيقَاتُ الْإِقْلِيمِ الَّذِي مَرَّ بِهِ، وَهَكَذَا عَادَةُ حَجِيجِ الشَّامِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِالْمَدِينَةِ فَيَكُونُ مِيقَاتُهُمْ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ إلَى الْجُحْفَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا لَا مِيقَاتَ فِيهِ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ فَمِيقَاتُهُ إذَا حَاذَى أَقْرَبَ الْمَوَاقِيتِ إلَيْهِ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا اجْتَهَدَ فِي مِيقَاتِ أَهْلِ الْعِرَاقِ اعْتَبَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ".
الشرح: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجْتَهِدُ فَيُحْرِمُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ حَذْوُ أَقْرَبِ الْمَوَاقِيتِ إلَيْهِ، قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَظْهِرَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ قَدْ حَاذَى الْمِيقَاتَ أَوْ فَوْقَهُ، وَأَشَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" إلَى وُجُوبِ هَذَا الِاسْتِظْهَارِ، وَالْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وأما: إذَا أَتَى مِنْ نَاحِيَةٍ وَلَمْ يَمُرَّ بِمِيقَاتٍ وَلَا حَاذَاهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي تَوْقِيتِهِ ذَاتَ عِرْقٍ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ سَلَكَ طَرِيقًا لَا مِيقَاتَ فِيهِ لَكِنْ حَاذَى مِيقَاتَيْنِ طَرِيقُهُ بَيْنَهُمَا - فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْمَسَافَةِ إلَى مَكَّةَ - فَمِيقَاتُهُ مَا يُحَاذِيهِمَا، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِيهِمَا وَتَسَاوَيَا فِي الْمَسَافَةِ إلَى طَرِيقِهِ فَوَجْهَانِ: أحدهما: يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ أَحْرَمَ مِنْ الْمُحَاذِي لِأَبْعَدِ الْمِيقَاتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ لِأَقْرَبِهِمَا وأصحهما: يَتَعَيَّنُ مُحَاذَاةُ أَبْعَدِهِمَا، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مُحَاذَاةُ مِيقَاتَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ بِانْحِرَافِ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَالْتِوَائِهِ، أَوْ لِوُعُورَةٍ وَغَيْرِهَا، فَيُحْرِمُ مِنْ الْمُحَاذَاةِ، وَهَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى أَبْعَدِ الطَّرِيقَيْنِ أَوْ أَقْرَبِهِمَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، قَالَ: وَفَائِدَتُهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ مَوْضِعَ الْمُحَاذَاةِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَانْتَهَى إلَى مَوْضِعٍ يُفْضِي إلَيْهِ طَرِيقَا الْمِيقَاتَيْنِ، وَأَرَادَ الْعَوْدَ لِرَفْعِ الْإِسَاءَةِ، وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَ الْمُحَاذَاةِ هَلْ يَرْجِعُ إلَى هَذَا الْمِيقَاتِ؟ أَمْ إلَى ذَاكَ؟ وَلَوْ تَفَاوَتَ الْمِيقَاتَانِ فِي الْمَسَافَةِ إلَى مَكَّةَ وَإِلَى طَرِيقِهِ فَهَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْقُرْبِ إلَيْهِ؟ أَمْ إلَى مَكَّةَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَمَنْ كَانَتْ دَارُهُ فَوْقَ الْمِيقَاتِ فَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ فَوْقِ الْمِيقَاتِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالَا: "إتْمَامُهُمَا أَنْ

 

ج / 7 ص -130-       تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ" وَفِي الْأَفْضَلِ أحدهما: أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَلَمْ يُحْرِمْ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ بَلَدِهِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَرْتَكِبَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَإِذَا أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ أَمِنَ ذَلِكَ. فَكَانَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلَ، والثاني أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دَارِهِ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ".
الشرح: حَدِيثُ إحْرَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ مُسْتَفِيضٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وأما حديث أُمِّ سَلَمَةَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ، وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وأما: الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ1 وَاعْلَمْ: أَنَّهُ وَقَعَ فِي "المهذب" فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ
"وَغُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ" بِالْوَاوِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالصَّوَابُ "أَوْ وَجَبَتْ" بِأَوْ وَهُوَ شَكٌّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُحَنَّسَ أَحَدُ رُوَاتِهِ، هَكَذَا هُوَ بِأَوْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ ابْنَ يُحَنَّسَ هُوَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ، وَيُحَنَّسَ - بِمُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ نُونٌ مَكْسُورَةٌ وَمَفْتُوحَةٌ ثُمَّ سِينٌ مُهْمَلَةٌ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ فَأَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ وَمِمَّا فَوْقَهُ، وَحَكَى الْعَبْدَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ مِمَّا فَوْقَ الْمِيقَاتِ وَأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِمَّا قَبْلَهُ لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَرْجِعَ وَيُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ، وأما: الْأَفْضَلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أحدهما: الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ، والثاني مِمَّا فَوْقَهُ أَفْضَلُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَتَيْ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْإِحْرَامَ أَفْضَلُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهِيَ قَوْلُ الْقَفَّالِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ غَرِيبَةٌ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ إنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَنْصُوصَانِ في الجديد نَقَلَهُمَا الْأَصْحَابُ عَنْ الْجَدِيدِ: أحدهما: الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ في"الإملاء"، والثاني الْأَفْضَلُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ نَصَّ عَلَيْهِ "البويطي" و"الْجَامِعِ الْكَبِيرِ" لِلْمُزَنِيِّ.
وأما الْغَزَالِيُّ فَقَالَ فِي "الوسيط: "لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ أَفْضَلُ، قَطَعَ بِهِ فِي "الْقَدِيمِ"، وَقَالَ في "الجديد": هُوَ مَكْرُوهٌ وَهُوَ مُتَأَوَّلٌ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَتَوَقَّى الْمِخْيَطَ وَالطِّيبَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، وَكَذَا نَقَلَ الْفُورَانِيُّ في الإبانة أَنَّهُ كَرِهَ في "الجديد" الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، وَكَأَنَّ الْغَزَالِيَّ تَابَعَ الْفُورَانِيَّ فِي هَذَا النَّقْلِ، وَهُوَ نَقْلٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِمَا، وَنَسَبَهُ صَاحِبُ "البحر" إلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْفُورَانِيَّ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ "البحر": هَذَا النَّقْلُ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَهَذَا الَّذِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل والسقط كلمة: قوي. وذلك لأن الحديث أخرجه الشافعي في "الأم" عن عمر والحاكم في "المستدرك" عن علي وإسنادهما قوي. (ط).

 

ج / 7 ص -131-       قَالَهُ صَاحِبُ البحر مِنْ التَّغْلِيطِ هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الَّذِي كَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ في "الجديد" أَنَّهُ هُوَ التَّجَرُّدُ عَنْ الْمِخْيَطِ لَا الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، بَلْ نَصَّ في "الجديد" عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ كَرِهَ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَصَحِّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَصَحَّحَتْ طَائِفَةٌ الْإِحْرَامَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "المجرد" وَالرُّويَانِيُّ فِي "البحر" وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَصَحَّحَ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ تَفْضِيلَ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي "التنبيه" وَآخَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِ المختصراتِ، مِنْهُمْ أَبُو الْفَتْحِ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ قي: "الكفاية"، وَالْمَاوَرْدِيُّ في "الإقناع"، وَالْمَحَامِلِيُّ فِي "المقنع"، وَأَبُو الْفَتْحِ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ في"الكافي"، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ طُرُقٍ: أصحها: عَلَى قَوْلَيْنِ، والثاني الْقَطْعُ بِاسْتِحْبَابِهِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، والثالث: أَنَّ مَنْ [خَشِيَ] عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَدُوَيْرَةُ أَهْلِهِ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَالْمِيقَاتُ.
والأصح: عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ، لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ فِي حَجَّتِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ" وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَلَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَهَا "وَأَحْرَمَ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ الْمَدِينَةِ ذِي الْحُلَيْفَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في "صحيحه" فِي كِتَابِ "الْمَغَازِي"، وَكَذَلِكَ أَحْرَمَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْعُمْرَةِ الْمَذْكُورَةِ أَصْحَابُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَهَكَذَا فَعَلَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَأَهْلُ الْفَضْلِ، فَتَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِحْرَامَ مِنْ مَسْجِدِهِ الَّذِي صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا شَكٌّ فِي أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ.
فإن قيل: إنَّمَا أَحْرَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمِيقَاتِ لِيُبَيِّنَ جَوَازَهُ، فالجواب: مِنْ أَوْجُهٍ: أحدهما: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَيَّنَ الْجَوَازَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ"، الثاني: أَنَّ بَيَانَ الْجَوَازِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَكَرَّرُ فِعْلُهُ، فَفَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ يَسِيرَةً عَلَى أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ بَيَانًا لِلْجَوَازِ، وَيُدَاوِمُ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ، كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَدَاوَمَ عَلَى الثَّلَاثِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ الثالث: أَنَّ بَيَانَ الْجَوَازِ إنَّمَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ اُشْتُهِرَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ بِحَيْثُ يُخَافُ أَنْ يُظَنَّ وُجُوبُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا.
وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ دَلِيلٍ صَرِيحٍ صَحِيحٍ فِي مُقَابِلَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَإِنَّ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ قَدْ سَبَقَ أَنَّ إسْنَادَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَرْبَعِ أَجْوِبَةٍ: أحدها: أَنَّ إسْنَادَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، الثاني: أَنَّ فِيهِ بَيَانَ فَضِيلَةِ الْإِحْرَامِ مِنْ فَوْقِ الْمِيقَاتِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ فَوْقِ الْمِيقَاتِ فِيهِ فَضِيلَةٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فإن قيل: هَذَا الْجَوَابُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فالجواب: أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً، وَهِيَ تَبْيِينُ قَدْرَ الْفَضِيلَةِ فِيهِ، الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ

 

ج / 7 ص -132-       هَذَا مُعَارِضٌ لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَكَرِّرِ فِي حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ، فَكَانَ فِعْلُهُ الْمُتَكَرِّرُ أَفْضَلَ، الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ جَاءَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِأَنَّ لَهُ مَزَايَا عَدِيدَةً مَعْرُوفَةً، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ، وَرَجَّحَ آخَرُونَ دُوَيْرَةَ أَهْلِهِ الْمَشْهُورَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي إِسْحَاقَ يَعْنِي السَّبِيعِيِّ - وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ سَبَقَ بَيَانُهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَهَلَّ مِنْ إِيلِيَّا وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ.
فرع: إنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مِيقَاتِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ؟ حَيْثُ جَازَ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى مِيقَاتِ الْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ؟ فَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ، فِي "الْمُعَايَاةِ" أَنَّ مِيقَاتَ الْمَكَانِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، بِخِلَافِ مِيقَاتِ الزَّمَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَمَنْ كَانَ دَارُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ فَمِيقَاتُهُ مَوْضِعُهُ. وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَاصِدًا إلَى مَوْضِعٍ قِبَلَ مَكَّةَ ثُمَّ أَرَادَ النُّسُكَ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، كَمَا إذَا دَخَلَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ ثُمَّ أَرَادَ الْإِحْرَامَ كَانَ مِيقَاتُهُ مِنْ مَكَّةَ".
الشرح: مَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ بَيْنَ، مَكَّةَ وَالْمِيقَاتِ فَمِيقَاتُهُ مَوْضِعُهُ بِلَا خِلَافٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا كَانَ فِي قَرْيَةٍ بَيْنَ، مَكَّةَ وَالْمِيقَاتِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الطَّرَفِ الْأَبْعَدِ مِنْهَا إلَى مَكَّةَ فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ الطَّرَفِ الْأَدْنَى إلَى مَكَّةَ جَازَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ. فَإِنْ خَرَجَ مِنْ قَرْيَتِهِ وَفَارَقَ الْعُمْرَانَ إلَى جِهَةِ مَكَّةَ ثُمَّ أَحْرَمَ كَانَ آثِمًا وَعَلَيْهِ الدَّمُ لِلْإِسَاءَةِ فَإِنْ عَادَ إلَيْهَا سَقَطَ الدَّمُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ خِيَامٍ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِ أَطْرَافِ الْخِيَامِ إلَى مَكَّةَ، وَيَجُوزُ مِنْ الطَّرَفِ الْأَدْنَى إلَى مَكَّةَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَهَا إلَى جِهَةِ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ.
وَإِنْ كَانَ فِي وَادٍ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَيْهِ مُحْرِمًا، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ الطَّرَفِ الْأَقْرَبِ إلَى مَكَّةَ جَازَ، فَإِنْ كَانَ فِي بَرِّيَّةٍ سَاكِنًا مُنْفَرِدًا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمِيقَاتِ أَحْرَمَ مِنْ مَنْزِلِهِ، لَا يُفَارِقُهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ، هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا التَّفْصِيلَ كُلَّهُ أَصْحَابُنَا فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": لَوْ كَانَ مَسْكَنُهُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمِيقَاتِ فَتَرَكَهُ وَقَصَدَ الْمِيقَاتَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ، جَازَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، كَالْمَكِّيِّ إذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْ مَكَّةَ، بَلْ خَرَجَ إلَى مِيقَاتٍ فَأَحْرَمَ مِنْهُ جَازَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ.
المسألة الثانية: إذَا مَرَّ الْآفَاقِيُّ بِالْمِيقَاتِ غَيْرَ مُرِيدٍ نُسُكًا - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا نَحْوَ الْحَرَمِ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ قَصْدُ النُّسُكِ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ - فَمِيقَاتُهُ حَيْثُ عَنَّ لَهُ هَذَا الْقَصْدُ، وَإِنْ كَانَ قَاصِدًا الْحَرَمَ لِحَاجَةٍ فَعَنَّ لَهُ النُّسُكُ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ، فإن قلنا: مَنْ أَرَادَ الْحَرَمَ لِحَاجَةٍ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ، فَهَذَا يَأْثَمُ بِمُجَاوَزَتِهِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَهُوَ كَمَنْ قَصَدَ النُّسُكَ وَجَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فَهُوَ كَمَنْ جَاوَزَهُ غَيْرَ قَاصِدٍ دُخُولَ الْحَرَمِ.

 

ج / 7 ص -133-       فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ مَنْ مَسْكَنُهُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمِيقَاتِ فَمِيقَاتُهُ مَوْضِعُهُ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقُ أما: إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُرِيدٍ نُسُكًا ثُمَّ أَرَادَهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إلَى الْمِيقَاتِ.
فرع: حَكَى الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ الْفُرْعِ - بِضَمِّ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ - وَهُوَ بِلَادٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، بَيْنَ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَيْنَ مَكَّةَ، فَتَكُونُ دُونَ مِيقَاتِ الْمَدَنِيِّ، وَابْنُ عُمَرَ مَدَنِيٌّ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الموطأ" بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ، وَتَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا تَأْوِيلَيْنِ: أحدهما: أَنْ يَكُونَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْفُرْعِ لِحَاجَةٍ وَلَمْ يَقْصِدْ مَكَّةَ، ثُمَّ أَرَادَ النُّسُكَ فَإِنَّ مِيقَاتَهُ مَكَانُهُ، والثاني أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فَرَجَعَ قَاصِدًا إلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا بَلَغَ الْفُرْعَ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ فَمِيقَاتُهُ مَكَانُهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَرَادَ الْحَجَّ فَمِيقَاتُهُ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِيقَاتُهُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، وَالْأَفْضَلُ أَنَّهُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ مِنْهَا، فَإِنْ أَخْطَأَهَا فَمِنْ التَّنْعِيمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ".
الشرح: أَمَّا إحْرَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْجِعْرَانَةِ فَصَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" مِنْ رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه وَرَوَاهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُخَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ الْخُزَاعِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ: وَلَا يُعْرَفُ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُحَرِّشٌ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَبَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ - هَذَا أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي ضَبْطِهِ، وَلَا يَذْكُرُ ابْنُ مَاكُولَا وَجَمَاعَةٌ إلَّا هَذَا، والثاني مِحْرَشٌ - بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ والثالث: بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ - مِمَّنْ حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ فِيهِ أَبُو عُمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما حديث أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأَمَّا الْجِعْرَانَةُ - فَبِكَسْرِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ - وَكَذَا الْحُدَيْبِيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِمَا، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ: هُمَا بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ، وَالصَّحِيحُ تَخْفِيفُهُمَا، وَالتَّنْعِيمُ أَقْرَبُ أَطْرَافِ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ، وَالتَّنْعِيمُ - بِفَتْحِ التَّاءِ - وَهُوَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ عَنْ يَمِينِهِ جَبَلاً يُقَالُ لَهُ: نَعِيمٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ نَاعِمٌ، وَالْوَادِي نُعْمَانُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: مِيقَاتُ الْمَكِّيِّ بِالْحَجِّ نَفْسُ مَكَّةَ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ مَكَّةُ وَسَائِرُ الْحَرَمِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَاضِحَةً بِفُرُوعِهَا وَالْمُرَادُ بِالْمَكِّيِّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَوْطِنَهَا أَوْ عَابِرَ سَبِيلٍ المسألة الثانية: إذَا كَانَ بِمَكَّةَ مُسْتَوْطِنًا أَوْ عَابِرَ سَبِيلٍ وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِيقَاتُهُ أَدْنَى الْحِلِّ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَكْفِيهِ الْحُصُولُ فِي الْحِلِّ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيْ الْجِهَاتِ كَانَ جِهَاتُ الْحِلِّ، هَذَا هُوَ الْمِيقَاتُ الْوَاجِبُ.

 

ج / 7 ص -134-       وأما الْمُسْتَحَبُّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر": أُحِبُّ أَنْ يَعْتَمِرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ مِنْهَا فَإِنْ أَخْطَأَهُ مِنْهَا فَمِنْ التَّنْعِيمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا وَهِيَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى الْبَيْتِ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنْ الْحُدَيْبِيَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهَا، وَأَفْضَلُهَا مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَبَعْدَهَا فِي الْفَضِيلَةِ التَّنْعِيمُ ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ كَمَا نُصَّ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهَذَا فِي كُلِّ الطُّرُقِ وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ قَالَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّ الِاعْتِمَارَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَلُ مِنْ التَّنْعِيمِ، فَقَدَّمَ الْحُدَيْبِيَةَ عَلَى التَّنْعِيمِ.
وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي "التنبيه: "الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنْ التَّنْعِيمِ فَغَلَطٌ وَمُنْكَرٌ لَا يُعَدُّ مِنْ الْمَذْهَبِ إلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَفْضَلَ أَدْنَى الْحِلِّ التَّنْعِيمَ، فَإِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: خَرَجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ التَّنْعِيمِ، فَالِاعْتِذَارُ عَنْهُ بِهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ أَحْسَنُ مِنْ تَخْطِئَتِهِ، وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ خَفِيَّةً أَوْ غَرِيبَةً لِيُعْذَرَ فِي الْغَلَطِ فِيهَا، وَاسْتَدَلَّ، الشَّافِعِيُّ لِلْإِحْرَامِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ التَّنْعِيمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهَا وَأَرَادَ الْمَدْخَلَ لِعُمْرَتِهِ مِنْهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ في "الصحيحين" وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّ مُحَقِّقُو الْأَصْحَابِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَال هُوَ الصَّوَابُ.
وأما: قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي "الْبَسِيطِ"، وَقَوْلُ غَيْرِهِ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم هَمَّ بِالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فَغَلَطٌ صَرِيحٌ، بَلْ ثَبَتَ في "صحيح البخاري" فِي كِتَابِ "لْمَغَازِي" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فإن قيل: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَلُ مِنْ التَّنْعِيمِ، فَكَيْفَ أَعْمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ؟ فالجواب: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَعْمَرَهَا مِنْهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى أَبْعَدَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهَا إلَى التَّنْعِيمِ عِنْدَ رَحِيلِ الْحَاجِّ وَانْصِرَافِهِمْ، وَوَاعَدَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى مَوْضِعٍ فِي الطَّرِيقِ، هَكَذَا ثَبَتَ في "الصحيحين"، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا بَيَانُ الْجَوَازِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يُحْرِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَا يُقَدِّمُ الْإِحْرَامَ قَبْلَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ، فَيُحْرِمُ قَبْلَ الْيَوْمِ السَّادِسِ، مِنْ ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى يُمْكِنَهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ السَّابِقِ فِي أَحْكَامِ التَّمَتُّعِ فِي فَرْعٍ مُسْتَقِلٍّ، وَذَكَرْنَا فِيهِ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ وَدَلِيلَ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَمَنْ بَلَغَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ لَمْ يَجُزْ أَنَّهُ يُجَاوِزُهُ حَتَّى يُحْرِمَ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَإِنْ جَاوَزَهُ وَأَحْرَمَ دُونَهُ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ بِأَنْ يَخْشَى أَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ، أَوْ الطَّرِيقُ مَخُوفٌ - لَمْ يَعُدْ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ شَيْئًا لَزِمَهُ أَنْ يَعُودَ لِأَنَّهُ نُسُكٌ وَاجِبٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَإِنْ رَجَعَ نَظَرْتَ - فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِنُسُكٍ - سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَافَةَ بِالْإِحْرَامِ وَزَادَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَمَا وَقَفَ أَوْ بَعْدَمَا طَافَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ. لِأَنَّهُ عَادَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ، كَمَا لَوْ دَفَعَ مِنْ الْمَوْقِفِ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ".
الشرح: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا انْتَهَى الْآفَاقِيُّ إلَى الْمِيقَاتِ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ

 

ج / 7 ص -135-       الْقِرَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ مُجَاوَزَتُهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ جَاوَزَهُ فَهُوَ مُسِيءٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا. كَالشَّامِيِّ يَمُرُّ بِمِيقَاتِ الْمَدِينَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمَتَى جَاوَزَ مَوْضِعًا يَجِبُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ أَثِمَ وَعَلَيْهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ وَالْإِحْرَامُ مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ كَخَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ انْقِطَاعٍ عَنْ رُفْقَتِهِ أَوْ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَوْ مَرَضٍ شَاقٍّ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَمَضَى وَعَلَيْهِ دَمٌ إذَا لَمْ يَعُدْ فَقَدْ أَثِمَ بِالْمُجَاوَزَةِ، وَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الرُّجُوعِ، فَإِنْ عَادَ فَلَهُ حَالَانِ: أحدهما: يَعُودُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَيُحْرِمُ مِنْهُ فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجَمَاهِيرُ لَا دَمَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ دَخَلَ مَكَّةَ أَمْ لَا.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: إنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ الْمِيقَاتِ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ سَقَطَ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ دُخُولِ مَكَّةَ وَجَبَ وَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَوْدِ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَقَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ فَوَجْهَانِ: أصحهما: يَسْقُطُ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ شَاذٌّ مُنْكَرٌ.
الحال الثاني: أَنْ يُحْرِمَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا فَطَرِيقَانِ: أحدهما: فِي سُقُوطِ الدَّمِ وَجْهَانِ وَقِيلَ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَصاحب "الشامل" وَآخَرُونَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هُمَا قَوْلَانِ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ وَجْهَانِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ قَوْلَانِ، وَسَوَاءٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ رَجَعَ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا رُجُوعَهُ قَبْلَ تَلَبُّسِهِ بِنُسُكٍ والطريق الثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُفَصَّلُ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِنُسُكٍ سَقَطَ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ سَوَاءٌ كَانَ النُّسُكُ رُكْنًا كَالْوُقُوفِ وَالسَّعْيِ أَوْ سُنَّةً كَطَوَافِ الْقُدُومِ وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلتَّلَبُّسِ بِالسُّنَّةِ فَيَسْقُطُ بِالْعَوْدِ بَعْدُ، حَكَاهُ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ، كَمَا لَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ مِمَّا دُونَ الْمِيقَاتِ وَعَادَ إلَيْهِ بَعْدَ طَوَافِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِالْعَوْدِ بِلَا خِلَافٍ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَيُخَالِفُ الْمُعْتَمِرَ، فَإِنَّهُ عَادَ بَعْدَ فِعْلِهِ مُعْظَمَ أَفْعَالِ النُّسُكِ. وَالْحَاجُّ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ النُّسُكِ الْوَاجِبَةِ فَسَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْأَصْحَابِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِزَوَالِ الْإِسَاءَةِ بِالْعَوْدِ، وَقَدْ قَالَ صاحب "البيان": وَهَلْ يَكُونُ مُسِيئًا بِالْمُجَاوَزَةِ إذَا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ حَيْثُ سَقَطَ الدَّمُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي الْفُرُوعِ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسِيئًا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ مُحْرِمًا، والثاني يَصِيرُ مُسِيئًا؛ لِأَنَّ الْإِسَاءَةَ حَصَلَتْ بِنَفْسِ الْمُجَاوَزَةِ فَلَا يَسْقُطُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا فَرْقَ فِي لُزُومِ الدَّمِ فِي كُلِّ هَذَا بَيْنَ الْمُجَاوِزِ لِلْمِيقَاتِ عَامِدًا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا لَكِنْ يَفْتَرِقُونَ فِي الْإِثْمِ، فَلَا إثْمَ عَلَى النَّاسِي وَالْجَاهِلِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا: وَيُخَالِفُ مَا لَوْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ، وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ عِنْدَنَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ كَالْأَكْلِ وَالصَّوْمِ وَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وأما: الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَمَأْمُورٌ بِهِ وَالْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يُجْعَلُ عُذْرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما إذَا مَرَّ بِالْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، ثُمَّ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ أَدْخَلَ النُّسُكَ الْآخَرَ عَلَيْهِ بِأَنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ أَوْ عَكْسُهُ - وَجَوَّزْنَاهُ - فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ: أحدهما: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ وَأَحْرَمَ بَعْدَهُ والثاني: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُحْرِمًا فَصَارَ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْمِيقَاتِ إحْرَامًا مُبْهَمًا، فَلَمَّا جَاوَزَ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -136-       فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ فَأَحْرَمَ دُونَهُ أَثِمَ فَإِنْ عَادَ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالنُّسُكِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، سَوَاءٌ عَادَ مُلَبِّيًا أَمْ غَيْرَ مُلَبٍّ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَزُفَرُ وَأَحْمَدُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِالْعَوْدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ عَادَ مُلَبِّيًا سَقَطَ الدَّمُ وَإِلَّا فَلَا وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَى الْمُجَاوِزِ مُطْلَقًا، قَالَ: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ عَطَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: يَقْضِي حَجَّتَهُ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَا حَجَّ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ صاحب "البيان": سَمِعْتُ الشَّرِيفَ الْعُثْمَانِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: إذَا جَاوَزَ الْمَدَنِيُّ ذَا الْحُلَيْفَةِ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَهُوَ مُرِيدٌ لِلنُّسُكِ، فَبَلَغَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى مِيقَاتِ بَلَدٍ آخَرَ كَذَاتِ عِرْقٍ أَوْ يَلَمْلَمَ وَأَحْرَمَ مِنْهُ. فَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مُجَاوَزَةِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِإِرَادَتِهِ النُّسُكَ لَمَّا بَلَغَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ" فَصَارَ كَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَقُلْنَا: يَجِبُ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهَا لَا دَمَ عَلَيْهِ، هَذَا نَقْلُ صاحب "البيان"، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَفِيهِ نَظَرٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ نَذَرَ الْإِحْرَامَ مِنْ مَوْضِعٍ فَوْقَ الْمِيقَاتِ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ، فَإِنْ جَاوَزَهُ وَأَحْرَمَ دُونَهُ كَانَ كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَأَحْرَمَ دُونَهُ فِي وُجُوبِ الْعَوْدِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ الْإِحْرَامُ مِنْهُ كَمَا وَجَبَ [الْإِحْرَامُ] مِنْ الْمِيقَاتِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمِيقَاتِ، وَإِنْ مَرَّ كَافِرٌ بِالْمِيقَاتِ مُرِيدًا لِلْحَجِّ فَأَسْلَمَ دُونَهُ وَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ النُّسُكِ فَأَشْبَهَ إذَا مَرَّ بِهِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِلنُّسُكِ، ثُمَّ أَسْلَمَ دُونَهُ وَأَحْرَمَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَهُوَ مُرِيدٌ لِلنُّسُكِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ كَالْمُسْلِمِ. وَإِنْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ صَبِيٌّ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَوْ عَبْدٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَبَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِحْرَامَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ، والثاني لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ كَالْحُرِّ الْبَالِغِ.
الشرح: أما: مَسْأَلَةُ النَّذْرِ فَهِيَ كَمَا قَالَهَا الْمُصَنِّفُ، وأما: مَسْأَلَةُ الْكَافِرِ وَمَسْأَلَةُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ فَقَدْ سَبَقَتَا وَاضِحَتَيْنِ بِفُرُوعِهِمَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْحَجِّ عِنْدَ إحْرَامِ الصَّبِيِّ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَخَرَجَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ وَأَحْرَمَ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى وَقَفَ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَكِّيِّ إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى خَارِجِ الْبَلَدِ وَأَحْرَمَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ وَالْحَرَمَ فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ، والثاني يَلْزَمُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمِيقَاتَ هُوَ الْبَلَدُ، وَقَدْ تَرَكَهُ فَلَزِمَهُ الدَّمُ، وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ فَأَحْرَمَ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ نَظَرْتَ، فَإِنْ خَرَجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ الْحَرَمَ مُحْرِمًا فَأَشْبَهَ إذَا أَحْرَمَ أَوَّلًا مِنْ الْحِلِّ، وَإِنْ طَافَ وَسَعَى وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحِلِّ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا يُعْتَدُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ عَنْ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْحَرَمَ بِإِحْرَامٍ، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، والثاني أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ بِالطَّوَافِ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ

 

ج / 7 ص -137-       الْمِيقَاتَ كَغَيْرِ الْمَكِّيِّ إذَا جَاوَزَ مِيقَاتَ بَلَدِهِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى".
الشرح: أَمَّا إحْرَامُ الْمَكِّيِّ بِالْحَجِّ فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مُسْتَوْفًى وَأَمَّا إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ، فَقَدْ ذقَدَّمْنَا أَنَّ مِيقَاتَهُ الْوَاجِبَ فِيهَا أَدْنَى الْحِلِّ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ وَالْمُسْتَحَبُّ إحْرَامُهُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ، فَإِنْ فَاتَهُ فَالتَّنْعِيمُ ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ، فَإِنْ خَالَفَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ لَهُ حَالَانِ: أحدهما: أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ بَلْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ فَهَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ وَتَصِحُّ عُمْرَتُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا في "الأم" وَذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: يُجْزِئُهُ وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ الْوَاجِبِ، والثاني لَا يُجْزِئُهُ، بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَجْمَعَ فِي عُمْرَتِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَمَا يَجْمَعُ الْحَاجُّ فِي حَجِّهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ وُقُوفُهُ بِعَرَفَاتٍ وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَهُمَا فِي الْحَرَمِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَوْ وَطِئَ بَعْدَ الْحَلْقِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْوَطْءُ وَاقِعًا قَبْلَ التَّحَلُّلِ، لَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُتَحَلِّلٌ فَيَكُونُ كَجِمَاعِ النَّاسِي، وَفِي كَوْنِهِ مُفْسِدًا الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُفْسِدًا لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ بِأَنْ يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ وَيَعُودَ فَيَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَكَفَّارَةُ الْجِمَاعِ وَدَمُ الْحَلْقِ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ.
وإن قلنا: بِالْأَصَحِّ: إنَّ جِمَاعَ النَّاسِي لَا يَفْسُدُ، فَعُمْرَتُهُ عَلَى حَالِهَا. فَلَزِمَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ وَيَرْجِعَ فَيَطُوفَ وَيَحْلِقَ وَقَدْ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ الْجِمَاعِ، وَأَمَّا دَمُ الْحَلْقِ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي حَلْقِ النَّاسِي: أصحهما: يَجِبُ، الحال الثاني: أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ فَيَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ، فَيُعْتَدَّ بِذَلِكَ وَتَتِمَّ عُمْرَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي سُقُوطِ دَمِ الْإِسَاءَةِ عَنْهُ طَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ سُقُوطُهُ، والثاني عَلَى طَرِيقَيْنِ: أصحهما: الْقَطْعُ بِسُقُوطِهِ، والثاني أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فإذا قلنا: بِالْمَذَاهِبِ فَالْوَاجِبُ خُرُوجُهُ إلَى الْحِلِّ قَبْلَ الْأَعْمَالِ إمَّا فِي ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ وَإِمَّا بَعْدَهُ، وإن قلنا: لَا يَسْقُطُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْخُرُوجُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ تعليقه: قَالَ الشَّافِعِيُّ: أُحِبُّ لِمَنْ أَحْرَمَ فِي بَلَدِهِ أَنْ يَخْرُجَ مُتَوَجِّهًا فِي طَرِيقِ حَجِّهِ عَقِبَ إحْرَامِهِ، وَلَا يُقِيمَ بَعْدَ إحْرَامِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَذَا لَوْ كَانَ إحْرَامُهُ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ صَحِيحٌ، فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَحْرَمَ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجَ عَقِبَ إحْرَامِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إحْرَامُ الْمَكِّيِّ عِنْدَ إرَادَتِهِ التَّوَجُّهَ إلَى مِنًى وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا بَيَانُ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.