المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 9 ص -164-       باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: الْأَعْيَانُ ضَرْبَانِ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ، فَأَمَّا النَّجِسُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ نَجِسٌ فِي نَفْسِهِ وَنَجِسٌ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، فَأَمَّا النَّجِسُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَالسِّرْجِينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ" وَرَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ1 وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، فَنَصَّ عَلَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَقِسْنَا عَلَيْهَا سَائِرَ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ.
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا طَوِيلًا وَلَفْظُهُ فِيهِمَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ"سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:
"قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ" فَقَالَ حَمَلَهُ - بِالْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ - أَحْمَلَهُ أَيْ أَدَامَهُ وأما حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ الْأَنْصَارِيِّ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا وَلَفْظُهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ"وأما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ وَاسْمُ أَبِي مَسْعُودٍ عَمْرُو بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ. قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَزْوَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْبَدْرِيُّ لِأَنَّهُ سَكَنَ بَدْرًا وَلَمْ يَشْهَدْهَا، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ إمَامُ الْمَغَازِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ إمَامُ الْمَغَازِي وَغَيْرُهُمَا، وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ فِي صَحِيحِهِ: إنَّهُ شَهِدَهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مَعَ السَّبْعِينَ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ رُوِيَ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِائَةُ حَدِيثٍ وَحَدِيثَانِ، اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى تِسْعَةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا، وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثٍ وَمُسْلِمٌ بِسَبْعَةٍ، سَكَنَ الْكُوفَةَ وَتُوُفِّيَ بِهَا، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ رضي الله عنه.
وأما السِّرْجِينُ - فَبِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا وَبِالْجِيمِ - وَيُقَالُ بِالْقَافِ - بَدَلَهَا وَسَبَقَ إيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ شُرُوطَ الْبَيْعِ خَمْسَةٌ: أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، مُنْتَفَعًا بِهِ، مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، مَعْلُومًا، مَمْلُوكًا لِمَنْ وَقَعَ الْعَقْدُ لَهُ، فَبَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ فَقَالَ: النَّجِسُ ضَرْبَانِ نَجِسٌ فِي نَفْسِهِ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ وَالسِّرْجِينِ وَالْعَذِرَةِ وَدُهْنِ الْمَيْتَةِ وَعَصَبِهَا وَشَعْرِهَا - إذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ إنَّهُ نَجِسٌ - وَكَذَا رِيشُهَا وَلَبَنُ مَا لَا يُؤْكَلُ إذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ إنَّهُ نَجِسٌ وَسَائِرُ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِلَا خِلَافٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخة المطبوعة من المهذب (ابن مسعود) وهو خطأ (ط).

 

ج / 9 ص -165-       عِنْدَنَا، وَسَوَاءٌ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُهُ، وَسَوَاءٌ الْخَمْرُ الْمُحْتَرَمَةُ وَغَيْرُهَا. وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: الْفَيْلَجُ - بِالْفَاءِ وَالْجِيمِ - هُوَ الْقَزُّ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ وَآخَرُونَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي بَاطِنِ الدُّودِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ مِنْ مَصَالِحِهِ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي فِي جَوْفِ الْحَيَوَانِ، قَالُوا: وَسَوَاءٌ بَاعَهُ وَزْنًا أَوْ جُزَافًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الدُّودُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: فِي بَيْعِ فَأْرَةِ الْمِسْكِ أَوْ بَيْضِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَدُودَةِ الْقَزِّ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى طَهَارَتِهَا وَنَجَاسَتِهَا أصحهما: الطَّهَارَةُ وَجَوَازُ الْبَيْعِ وأما دُودُ الْقَزِّ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ فِي حَيَاتِهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُنْتَفَعُ بِهِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ وَسَبَقَ إيضَاحُهَا فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ، هَذَا مَذْهَبُنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَزْرِ الْقَزِّ وَلَا دُودِهِ. دَلِيلُنَا أَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الطَّاهِرِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ.
فرع: فِي حُكْمِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ: ذَكَرْنَا فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: وَأَشْهُرُهَا أَنَّهُ نَجِسٌ والثاني: طَاهِرٌ يَحِلُّ شُرْبُهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ قُلْنَا: إنَّهُ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَالَ الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ: وإن قلنا: طَاهِرٌ يَحِلُّ شُرْبُهُ جَازَ بَيْعُهُ وإن قلنا: طَاهِرٌ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ جَازَ بَيْعُهُ وَإِلَّا فَلَا.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ بَاعَهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ تَبَايَعَهَا ذِمِّيَّانِ، أَوْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا فِي شِرَائِهَا لَهُ، فَكُلُّهُ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا فِي بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَهَذَا فَاسِدٌ مُنَابِذٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ.
فرع: بَيْعُ الْخَمْرِ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ فِيهَا حَرَامٌ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمُتَوَلِّي: الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ مَعْرُوفٍ فِي الْأُصُولِ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ عِنْدَنَا مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ، وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ.
فرع: لَوْ أَتْلَفَ لِغَيْرِهِ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ سِرْجِينًا أَوْ ذَرْقَ حَمَامٍ أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ قَبْلَ دِبَاغِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ، لَمْ تَلْزَمْهُ قِيمَتُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ لَا قِيمَةَ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ كَلْبًا مُعَلَّمًا، حَتَّى قَالَ بِهِ مَالِكٌ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ، سَوَاءٌ كَانَ مُعَلَّمًا أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ جِرْوًا أَوْ كَبِيرًا، وَلَا قِيمَةَ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهُ، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادِ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ بَيْعُ جَمِيعِ الْكِلَابِ الَّتِي فِيهَا نَفْعٌ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ جَوَازَ بَيْعِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ، وَتَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ، وَإِنْ كَانَ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةً وَعَنْهُ رِوَايَةٌ كَمَذْهَبِنَا، وَرِوَايَةٌ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ لِمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ

 

ج / 9 ص -166-       بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ". وَفِي رِوَايَةٍ "ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ سُحْتٌ" فَذَكَرَ "كَسْبَ الْحَجَّامِ، وَمَهْرَ الْبَغِيِّ، وَثَمَنَ الْكَلْبِ، إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ" وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه "أَنَّهُ غَرَّمَ رَجُلًا عَنْ كَلْبٍ قَتَلَهُ عِشْرِينَ بَعِيرًا" وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ "أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَقَضَى فِي كَلْبِ مَاشِيَةٍ بِكَبْشٍ".
وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَأَشْبَهَ الْفَهْدَ، وَلِأَنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْحِمَارَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِهِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ، فَمِنْ الْأَحَادِيثِ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَعَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: "سَأَلْتُ جَابِرًا رضي الله عنه عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ فَقَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَقَالَ إنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِيًا عِنْدَ الرُّكْنِ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ ثَلَاثًا، إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَجِسٌ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْخِنْزِيرِ.
وأما: الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَهَكَذَا وَضَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ ضَعْفَهَا، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِهِ، بَلْ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ الْجَمِيعِ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الضَّعِيفَةُ فَارِقَةٌ بَيْنَهُمَا، وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْفَهْدِ وَنَحْوِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ بِخِلَافِ الْكَلْبِ، وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ فِيهَا مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي غَيْرِهَا، وَلِهَذَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ وَالْآبِقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا مَعْنَى لِمَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَنَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْكِلَابِ، قَالَ: وَلَا يُعْلَمُ خَبَرٌ عَارَضَ الْأَخْبَارَ النَّاهِيَةَ، يَعْنِي خَبَرًا صَحِيحًا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْإِسْنَادُ الْمَذْكُورُ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ لَيْسَ ثَابِتًا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: بَيْعُ الْهِرَّةِ الْأَهْلِيَّةِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا إلَّا مَا حَكَاهُ الْبَغَوِيّ فِي كِتَابِهِ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ عَنْ ابْنِ الْقَاصِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَهَذَا شَاذٌّ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، وَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ، وَبِهِ قَالَ

 

ج / 9 ص -167-       جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَهُ جَائِزٌ، وَرَخَّصَ فِي بَيْعِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، قَالَ: وَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ بَيْعَهُ، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا فَجَائِزٌ، وَهَذَا كَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَهُ بِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ "سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ فَقَالَ: "زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَوَجَدَ فِيهِ جَمِيعَ شُرُوطِ الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: جَوَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيِّ وَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ الْهِرَّةُ الْوَحْشِيَّةُ فَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ الْقَائِلِ بِجَوَازِ أَكْلِهَا والثاني: أَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَلَى الْعَادَةِ بِتَسَامُحِ النَّاسِ فِيهِ، وَيَتَعَاوَرُونَهُ فِي الْعَادَةِ، فَهَذَانِ الْجَوَابَانِ هُمَا الْمُعْتَمَدَانِ وأما مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ فَغَلَطٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ: إنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَغَلَطٌ أَيْضًا. فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، فَهَذَانِ ثِقَتَانِ رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَشِرَائِهَا، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي الِانْتِفَاعِ بِشنِ1 الْخَمْرِ فَمَنَعَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ.
فرع: مَذْهَبُنَا الْمَشْهُورُ أَنَّ عَظْمَ الْفِيلِ نَجِسٌ سَوَاءٌ أُخِذَ مِنْهُ بَعْدَ ذَكَاتِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّ عِظَامَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْآنِيَةِ وَسَبَقَ فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّ الْفِيلَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَعَلَى هَذَا إذَا ذُكِّيَ كَانَ عَظْمُهُ طَاهِرًا، وَالْمَذْهَبُ نَجَاسَتُهُ مُطْلَقًا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَحِلُّ ثَمَنُهُ، وَبِهَذَا قَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَرَخَّصَ فِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: مَذْهَبُ مَنْ حَرَّمَ هُوَ الْأَصَحُّ.
فرع: بَيْعُ سِرْجِينِ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ وَغَيْرِهَا وَذَرْقِ الْحَمَامِ بَاطِلٌ، وَثَمَنُهُ حَرَامٌ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْجِينِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا. وَهَذَا عَامٌّ إلَّا مَا خُرِّجَ بِدَلِيلٍ كَالْحِمَارِ وَالْعَبْدِ وَغَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْعَذِرَةِ فَإِنَّهُمْ وَافَقُوا عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِهَا مَعَ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا وأما الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ فَهُوَ مَا أَجَابَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ظروف الخمر ينتفع بها عندنا ويبدو أن السن لكونه جلدا يشرب الخمر ويتخلله لذا جاء متقطع من هنا (ط).

 

ج / 9 ص -168-       بَيْعَهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ وَالْأَرْذَالُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وأما قَوْلُهُمْ: إنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَأَشْبَهَ غَيْرَهُ، فَالْفَرْقُ أَنَّ هَذَا نَجِسٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
فَرْعٌ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَدَلِيلُ الْمَذْهَبَيْنِ نَحْوُ مَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ، وَمِمَّنْ حَكَى بُطْلَانَ بَيْعِهِ عَنْ الْجُمْهُورِ الْعَبْدَرِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ كِلَابٌ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ كَكَلْبِ الصَّيْدِ وَالزَّرْعِ فَمَاتَ قُسِّمَتْ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، كَمَا يُقَسَّمُ السِّرْجِينُ وَجُلُودُ الْمَيْتَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا.
فرع: الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، وَالسِّرْجِينِ وَنَحْوِهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي إجَارَةِ الْكَلْبِ وَهِبَتِهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: الْبُطْلَانُ، وَسَنُوَضِّحُ كُلَّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُورَثُ الْكَلْبُ بِلَا خِلَافٍ، وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ الدَّارِمِيُّ.
فرع: قَالَ الدَّارِمِيُّ: يَجُوزُ قِسْمَةُ الْكِلَابِ وَلَيْسَتْ بَيْعًا، وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: إذَا مَاتَ وَخَلَفَ كِلَابًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يُقَسَّمُ بِالْقِيمَةِ، وَقَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ والثاني: يُقَسَّمُ عَلَى طَرِيقِ الِانْتِفَاعِ، وَقِيلَ: عَلَى طَرِيقِ نَقْلِ الْيَدِ والثالث: لَا يُقَسَّمُ بَلْ يُتْرَكُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ كَمَا لَوْ خَلَفَ وَرَثَةً وَجَوْهَرَةً لَا تُقَسَّمُ، بَلْ تُتْرَكُ بَيْنَهُمْ، هَذَا مَا حَكَاهُ الْبَغَوِيّ وَالْأَصَحُّ: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهَا عِنْدَمَا يُرَى لَهَا قِيمَةٌ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَأَمَّا اقْتِنَاؤُهَا فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْعَذِرَةِ لَمْ يَجُزْ اقْتِنَاؤُهَا لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: "سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ تُصْنَعُ خَلًّا؟ فَكَرِهَهُ وَقَالَ: أَهْرِقْهَا"وَلِأَنَّ اقْتِنَاءَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ سَفَهٌ، فَلَمْ يَجُزْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ كَالْكَلْبِ جَازَ اقْتِنَاؤُهُ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ، لِمَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ" وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ" وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْكَلْبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَجَازَ أَقْتِنَاؤُهُ، وَهَلْ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لِحِفْظِ الدُّرُوسِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَجُوزُ لِلْخَبَرِ والثاني: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ حِفْظُ مَالٍ فَأَشْبَهَ الزَّرْعَ وَالْمَاشِيَةَ. وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ لَا يَصْطَادُ أَنْ يَقْتَنِيَهُ لِيَصْطَادَ بِهِ إذَا أَرَادَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يَجُوزُ لِلْخَبَرِ والثاني: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ، وَهَلْ يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْجِرْوِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ يُحْتَاجُ إلَيْهَا والثاني: يَجُوزُ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ اقْتِنَاؤُهُ لِلصَّيْدِ جَازَ اقْتِنَاؤُهُ لِتَعْلِيمِ ذَلِكَ وأما السِّرْجِينُ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اقْتِنَاؤُهُ وَتَرْبِيَةُ الزَّرْعِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ.
الشرح:
أَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِمَعْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا فَقَالَ: "لَا"وَفِي الصَّحِيحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَرِيحَةٌ فِي إرَاقَةِ الْخَمْرِ مِنْهَا: حَدِيثٌ لِأَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا

 

ج / 9 ص -169-       فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ"، قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبُهُ وَلَا يَبِيعُهُ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِوَايَةَ خَمْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟" قَالَ لَا فَسَارَرَ إنْسَانًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بِمَ سَارَرْتَهُ؟"  قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا فَقَالَ: "إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا"، فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ "أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ أَمَرَهُ أَبُو طَلْحَةَ أَنْ يُرِيقَ الْخَمْرَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ فَأَرَاقَهَا" وَعَنْ أَنَسٍ "أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا قَالَ: "أَهْرِقْهَا"، قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: "لَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ.
وأما حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا: "نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ"وَفِي بَعْضِهَا: قِيرَاطٌ، قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ: وَالْقِيرَاطُ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءٍ مِنْ عَمَلِهِ قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ يَنْقُصُ مِنْ مَاضِي عَمَلِهِ وَقِيلَ مِنْ مُسْتَقْبَلِهِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي مَحِلِّ نَقْصِ الْقِيرَاطَيْنِ فَقَالَ: قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ، وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ الْفَرْضِ، وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّفْلِ، هَذَا كَلَامُهُ.
وأما اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي قِيرَاطٍ وَقِيرَاطَيْنِ فَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِنَوْعَيْنِ مِنْ الْكِلَابِ أَحَدُهُمَا أَشَدُّ ضَرَرًا، أَوْ لِمَعْنًى فِيهِمَا، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ، فَيَكُونُ الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِزِيَادَةِ فَضْلِهَا، وَالْقِيرَاطُ فِي غَيْرِهَا، أَوْ الْقِيرَاطَانِ فِي الْقُرَى وَالْقِيرَاطُ فِي الْبَرَارِيِّ، أَوْ أَنَّهُ فِي زَمَنَيْنِ، فَذَكَرَ الْقِيرَاطَ ثُمَّ زَادَ التَّغْلِيظَ فَذَكَرَ قِيرَاطَانِ وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا مَعَ سَبَبِ النَّقْصِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ رضي الله عنه، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَسَالِمٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم وَالْجِرْوُ - بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا - وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ ضَمَّهَا.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ:
إحْدَاهَا: لَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْخِنْزِيرِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ عَدْوَى تَعْدُو النَّاسَ أَمْ لَمْ يَكُنْ لَكِنْ إنْ كَانَ فِيهِ عَدْوَى وَجَبَ قَتْلُهُ قَطْعًا، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أحدهما: يَجِبُ قَتْلُهُ والثاني: يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَيَجُوزُ إرْسَالُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ كِتَابِ السِّيَرِ، وَهُنَاكَ نَبْسُطُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا اقْتِنَاؤُهُ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ.
الثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ اقْتِنَاءُ الْعَذِرَةِ وَالْمَيْتَةِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَمَنْ تَابَعَهُ: لَا يَجُوزُ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي بَابِ الِاسْتِطَابَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِيَمِينِهِ.
الثالثة: الْخَمْرُ ضَرْبَانِ مُحْتَرَمَةٌ وَغَيْرُهَا وَسَبَقَ بَيَانُهَا فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَالْمُحْتَرَمَةُ يَجُوزُ إمْسَاكُهَا، وَغَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ يَحْرُمُ إمْسَاكُهَا، وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ وَدَلِيلُهُ فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ.

 

ج / 9 ص -170-       الرَّابِعَةُ: يُكْرَهُ اقْتِنَاءُ السِّرْجِينِ وَالْوُقُودُ بِهِ وَتَرْبِيَةُ الزَّرْعِ وَالْبُقُولِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَأَشَارَ الرُّويَانِيُّ إلَى وَجْهٍ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَا مَكْرُوهٌ وَسَبَقَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بَيَانُ حُكْمِ الزَّرْعِ وَالْبَقْلِ وَالنَّابِتِ مِنْهُ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازَهُ، دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ أَوْ الزَّرْعِ أَوْ الْمَاشِيَةِ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَفِي جَوَازِ إيجَادِهِ لِحِفْظِ الدُّورِ وَالدُّرُوبِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: الْجَوَازُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْمُخْتَصَرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ إلَّا لِلصَّيْدِ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا. هَذَا نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ وَفِي جَوَازِ إيجَادِهِ فِي السَّفَرِ لِلْحِرَاسَةِ الْوجهان أصحهما: الْجَوَازُ. وَفِي جَوَازِ تَرْبِيَةِ الْجِرْوِ لِلصَّيْدِ أَوْ الزَّرْعِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُبَاحُ اقْتِنَاءُ الْكَبِيرِ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: الْجَوَازُ.
وَلَوْ أَرَادَ إيجَادَ الْكَلْبِ لِيَصْطَادَ بِهِ إذَا أَرَادَ وَلَا يَصْطَادُ بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ لِيَحْفَظَ الزَّرْعَ أَوْ الْمَاشِيَةَ إذَا سَارَا لَهُ فَوجهان أصحهما: الْجَوَازُ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ الْكَبِيرِ لِتَعَلُّمِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي الْجِرْوِ أَمَّا: إذَا اقْتَنَى كَلْبَ صَيْدٍ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَصْطَادَ بِهِ فِي الْحَالِ وَلَا فِيمَا بَعْدُ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ الْقَطْعُ بِتَحْرِيمَةِ ذَكَرَ صَاحِبُ الشَّامِلِ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ حَكَى عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ فِيهِ وَجْهَيْنِ أحدهما: يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَلْبُ صَيْدٍ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ"وأصحهما: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اقْتِنَاءٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَأَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنْ الْكِلَابِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ إلَّا كَلْبًا يَصْطَادُ بِهِ، وَمِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَيْنِ صَاحِبُ الْبَيَانِ أَيْضًا.
فرع: أَمَّا اقْتِنَاءُ وَلَدِ الْفَهْدِ فَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ كَالْقِرْدِ وَالْفِيلِ وَغَيْرِهِمَا، وَحَكَى صَاحِبُ الْبَحْرِ فِيهِ طَرِيقَيْنِ الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِجَوَازِهِ والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْكَلِبُ يُقْتَلَانِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، مِنْهَا الْكَلْبُ الْعَقُورُ" قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكَلْبُ عَقُورًا وَلَا كَلِبًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ أَسْوَدَ أَمْ لَا، وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ كُلُّهُ مَنْسُوخٌ، فَلَا يَحِلُّ قَتْلُ شَيْءٍ مِنْهَا الْيَوْمَ لَا الْأَسْوَدُ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا الْكَلْبَ الْعَقُورَ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا النَّجِسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ الْأَعْيَانُ الطَّاهِرَةُ إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ، فَيُنْظَرُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا كَالثَّوْبِ وَغَيْرِهِ جَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتَنَاوَلُ الثَّوْبَ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنَّمَا جَاوَرَتْهُ النَّجَاسَةُ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَطْهُرُ كَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ - لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ نَجِسٌ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ، وَإِنْ كَانَ مَاءً، فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ والثاني: يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَاءِ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ. فَإِنْ كَانَ دُهْنًا فَهَلْ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ؟

 

ج / 9 ص -171-       فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَطْهُرُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَطْهُرْ كَالْخَلِّ والثاني: يَطْهُرُ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ فَهُوَ كَالثَّوْبِ فإن قلنا: لَا يَطْهُرُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْخَلِّ وإن قلنا: يَطْهُرُ فَفِي بَيْعِهِ وَجْهَانِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي السِّرَاجِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ.
الشرح: قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَطْهُرْ كَالْخَلِّ، هَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ طَهَارَةِ الْخَلِّ وَنَحْوِهِ وَالدُّهْنِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَذُّرِ الْعَصْرِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَصْرُ فِي طَهَارَةِ الْمَغْسُولِ مِنْ النَّجَاسَةِ، بَلْ التَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ:
إحْدَاهَا: إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ مُتَنَجِّسَةً بِعَارِضٍ وَهِيَ جَامِدَةٌ كَالثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ وَالسِّلَاحِ وَالْجُلُودِ وَالْأَوَانِي وَالْأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، جَازَ بَيْعُهَا بِلَا خِلَافٍ ; لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَنَقَلُوا فِيهِ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ تَسَتَّرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنَّجَاسَةِ الْوَارِدَةِ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ.
الثَّانِيَةُ: إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ الطَّاهِرَةُ الْمُتَنَجِّسَةُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ مَائِعَةً فَيُنْظَرُ إنْ كَانَتْ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَالدِّبْسِ وَالْعَسَلِ وَالْمَرَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَنَقَلُوا فِيهِ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الصِّبْغُ النَّجِسُ فَالْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخَلِّ وَنَحْوِهِ وَشَذَّ الْمُتَوَلِّي فَحَكَمَ فِيهِ طَرِيقَيْنِ أحدهما: هَذَا والثاني: أَنَّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ طَرِيقَتَيْنِ كَالزَّيْتِ النَّجِسِ أصحهما: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ بِخِلَافِ الزَّيْتِ عَلَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِجَوَازِ بَيْعِهِ وَإِنَّمَا يَصْبُغُ النَّاسُ بِهِ ثُمَّ يَغْسِلُونَ الثَّوْبَ، وَمِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَ الشَّاذَّ فِي جَوَازِ بَيْعِ الصِّبْغِ النَّجِسِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالرُّويَانِيُّ وَطَرَدَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي الْخَلِّ الْمُتَنَجِّسِ قَالَ لِأَنَّهُ يُصْبَغُ بِهِ.
الثالثة: هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَاءِ النَّجِسِ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَفِيهِ طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ الْجَزْمُ بِبُطْلَانِ بَيْعِهِ لِأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بَلْ يَسْتَحِيلُ بِبُلُوغِهِ قُلَّتَيْنِ مِنْ صِفَةِ النَّجَاسَةِ إلَى الطَّهَارَةِ كَالْخَمْرِ يَتَخَلَّلُ.
الرَّابِعَةُ: الدُّهْنُ النَّجِسُ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ نَجِسُ الْعَيْنِ كَوَدَكِ الْمَيْتَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مُتَنَجِّسٌ بِالْمُجَاوَرَةِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ وَدُهْنِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ. فَهَذَا كُلُّهُ هَلْ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أحدهما: يَطْهُرُ كُلُّهُ والثاني: لَا يَطْهُرُ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَطْهُرُ الزَّيْتُ وَنَحْوُهُ، وَلَا يَطْهُرُ السَّمْنُ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَهُوَ شَاذٌّ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْ الْأَدْهَانِ بِالْغَسْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ والوجه الثاني: يَطْهُرُ الْجَمِيعُ بِالْغَسْلِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ.

 

ج / 9 ص -172-       قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ قُلْنَا: يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ. أصحهما: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، وَقَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيّ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ. والوجه الثاني: يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهَذَا الْوَجْهُ خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ بَيْعِ الثَّوْبِ النَّجِسِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: هَذَا تَخْرِيجٌ بَاطِلٌ وَمُخَالِفٌ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ إنْ قُلْنَا: يُطَهِّرُ الدُّهْنَ الْغَسْلُ - جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ الْغَسْلِ وَجْهًا وَاحِدًا كَالثَّوْبِ وإن قلنا: لَا يُطَهِّرُ فَوَجْهَانِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ غَلَطٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَمُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ وَلِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَلِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ مُنْفَرِدَانِ بِهِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا يَغْتَرَّنَّ بِقَوْلِهِمَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: إذَا قُلْنَا بِالضَّعِيفِ: إنَّ الدُّهْنَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: طَرِيقُهُ أَنْ يُرَاقَ الدُّهْنُ فِي قُلَّتَيْنِ مِنْ الْمَاءِ وَيُحَرَّكُ أَشَدَّ تَحْرِيكٍ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْجُمْهُورُ لِاشْتِرَاطِ الْقُلَّتَيْنِ وَالصَّوَابُ" أَنَّهُ إنْ أَوْرَدَ الدُّهْنَ عَلَى الْمَاءِ اُشْتُرِطَ كَوْنُ الْمَاءِ قُلَّتَيْنِ، وَإِنْ أَوْرَدَ الْمَاءَ لَمْ يُشْتَرَطْ كَوْنُهُ قُلَّتَيْنِ، بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْغَلَبَةُ لِلدُّهْنِ كَمَا فِي غَسْلِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ.
فرع: مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ لِلْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ الدُّهْنَ الْمُتَنَجِّسَ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ الْحَدِيثُ فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْغَسْلِ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.
فرع: نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: - فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَذَكَرَ أَكْثَرُ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِي جَوَازِهِ قَوْلَيْنِ أصحهما: جَوَازُهُ والثاني: تَحْرِيمُهُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مُلَابَسَتِهِ وَمُلَابَسَةِ دُخَانِهِ، وَدُخَانُهُ نَجِسٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ جَارٍ فِي الزَّيْتِ النَّجِسِ وَالسَّمْنِ وَالشَّيْرَجِ وَسَائِرِ الْأَدْهَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ بِعَارِضٍ، وَفِي وَدَكِ الْمَيْتَةِ أَيْضًا وَالصَّحِيحُ: فِي الْجَمِيعِ جَوَازُ الِاسْتِصْبَاحِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً فِي آخِرِ بَابِ مَا يَجُوزُ لُبْسُهُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَطْلَقَ الْأَئِمَّةُ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ عِنْدِي فَإِنْ كَانَ السِّرَاجُ الَّذِي فِيهِ الدُّهْنُ النَّجِسُ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُلْقِي دُخَانَهُ الْمُتَنَجِّسَ بِهِ فَلَسْتُ أَرَى لِتَحْرِيمِ هَذَا وَجْهًا، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجَاسَاتِ لَا يُمْنَعُ، وَكَيْفَ يُمْنَعُ مَعَ تَجْوِيزِ تَزْبِيلِ الْأَرْضِ وَتَدْمِيلِهَا بِالْعَذِرَةِ.
قَالَ: وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ نَاشِئٌ مِنْ لُحُوقِ الدُّخَانِ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرهُ أَمَّا: رَمَادُ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ فَنَجَسٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ وأما دُخَانُ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ إذَا أُحْرِقَتْ وَقُلْنَا: رَمَادُهَا نَجِسٌ فَفِي دُخَانِهَا وجهان أصحهما: نَجِسٌ، وَبِهِ كَانَ يَقْطَعُ شَيْخِي وأما الدُّهْنُ النَّجِسِ فِي عَيْنِهِ كَوَدَكِ الْمَيْتَةِ فَفِي دُخَانِهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وأما الدُّهْنُ الْمُتَنَجِّسُ بِعَارِضٍ فَدُخَانُهُ أَجْزَاءُ الدُّهْنِ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ وَنَجَّسَهُ لَا يَخْتَلِطُ بِالدُّخَانِ فَيَظْهَرُ فِي هَذَا الدُّخَانِ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ، فَإِنَّ الَّذِي خَالَطَ الدُّهْنَ يَتَخَلَّفُ قَطْعًا وَالدُّخَانُ مَحْضُ أَجْزَاءِ الدُّهْنِ، قَالَ: وَلَا يُمْنَعُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَطَّرِدَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ، وَإِنْ بَعُدَ السِّرَاجُ، لِأَنَّ هَذَا مُمَارَسُ نَجَاسَةٍ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، بِخِلَافِ التَّزْبِيلِ فَإِنَّهُ لَا

 

ج / 9 ص -173-       يَسُدُّ مَسَدَّهُ شَيْءٌ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الضَّرُورَةِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي بَيْعِ الزَّيْتِ النَّجِسِ وَالسَّمْنِ النَّجِسِ. ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يُمْكِنُ غَسْلُهُ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ غَسْلِهِ كَالثَّوْبِ النَّجَسِ، وَكَمَا يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ، وَالصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ، وَقَالَ دَاوُد: يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ دُونَ السَّمْنِ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ قَرِيبًا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْكَلْبِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، وَبِحَدِيثِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَإِيضَاحُ طُرُقِهِ فِي آخِرِ بَابِ الْأَطْعِمَةِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى اللَّبَنِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِمَا إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ وَالْجَوَابُ: عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الثَّوْبِ أَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ الدُّهْنِ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالثَّوْبِ هِيَ اللُّبْسُ، وَهُوَ حَاصِلٌ مَعَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَالْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالزَّيْتِ الْأَكْلُ، وَهُوَ حَرَامٌ. وأما جَوَازُ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْبَيْعِ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ إطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْجَوَارِحِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وأما الْوَصِيَّةُ بِهِ فَمَبْنَاهَا عَلَى الرِّفْقِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَلِهَذَا احْتَمَلَتْ أَنْوَاعًا مِنْ الْغَرَرِ وأما الصَّدَقَةُ فَكَالْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ إنْ صَحَّحْنَاهَا. وَفِيهَا خِلَافٌ سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا مُتَّصِلًا بِهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ هِبَةُ الزَّيْتِ النَّجِسِ وَلَا التَّصَدُّقُ بِهِ، قَالَ: وَأَرَادُوا بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ فأما: عَلَى سَبِيلِ نَقْلِ الْيَدِ فَيَجُوزُ كَمَا قُلْنَا فِي الْكَلْبِ. هَذَا كَلَامُ الرُّويَانِيِّ وأما قَوْلُهُ: بِجَوَازِ نَقْلِ الْيَدِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ خِلَافٌ وَأَمَّا تَمَلُّكُهُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْكَلْبِ، وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا الْأَعْيَانُ الطَّاهِرَةُ فَضَرْبَانِ ضَرْبٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَضَرْبٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فأما: مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ كَالْحَشَرَاتِ وَالسِّبَاعِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ، وَالطُّيُورِ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ وَلَا تَصْطَادُ، كَالرَّخَمَةِ وَالْحِدَأَةِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الْغُرَابِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِأَنَّ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَأَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَبَذْلُ الْعِوَضِ فِيهِ مِنْ السَّفَهِ.
الشرح:
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ شُرُوطَ الْمَبِيعِ خَمْسَةٌ إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ سَبَبَانِ أحدهما: الْقِلَّةُ كَالْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُعَدُّ مَالًا، قَالُوا: وَلَا يُنْظَرُ إلَى حُصُولِ النَّفْعِ بِهِ إذَا ضُمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا إلَى مَا قَدْ يُفْرَضُ مِنْ وَضْعِ الْحَبَّةِ فِي فَخٍّ يُصْطَادُ بِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ لَا تُقْصَدُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا فَرْقَ فِي هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ زَمَنِ الرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ هَذِهِ الْحَبَّةِ مِنْ صُبْرَةِ الْغَيْرِ، فَإِنْ أَخَذَهَا كَانَ عَاصِيًا وَلَزِمَهُ رَدُّهَا، فَإِنْ تَلِفَ فَوَجْهَانِ الصحيح: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهَا إذْ لَا مَالِيَّةَ لَهَا والثاني: وَهُوَ قَوْلُ الْقَفَّالِ: يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مِثْلِهَا لِأَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ بُطْلَانِ بَيْعِ الْحَبَّةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِقِلَّتِهِ هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ فِي كُلِّ الطُّرُقِ وَشَذَّ الْمُتَوَلِّي فَحَكَى وَجْهًا ضَعِيفًا أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ السَّبَبُ الثَّانِي: الْحَيَّةُ كَالْحَشَرَاتِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا.

 

ج / 9 ص -174-       قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَيَوَانُ الطَّاهِرُ الْمَمْلُوكُ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ قِسْمَانِ قِسْمٌ: يُنْتَفَعُ بِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالظِّبَاءِ وَالْغِزْلَانِ وَالصُّقُورِ وَالْبُزَاةِ وَالْفُهُودِ وَالْحَمَامِ وَالْعَصَافِيرِ وَالْعُقَابِ، وَمَا يُنْتَفَعُ بِلَوْنِهِ كَالطَّاوُسِ، أَوْ صَوْتِهِ كَالزُّرْزُورِ وَالْبَبَّغَاءِ وَالْعَنْدَلِيبِ، وَكَذَلِكَ الْقِرْدُ وَالْفِيلُ وَالْهِرَّةُ وَدُودُ الْقَزِّ وَالنَّحْلِ، فَكُلُّ هَذَا وَشَبَهُهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ بَيْعِ النَّحْلِ هُوَ إذَا شَاهَدَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدَا جَمِيعَهُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجُوزُ بَيْعُ الْجَحْشِ الصَّغِيرِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الْمَنْفَعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ الْحَيَوَانِ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَذَلِكَ كَالْخَنَافِسِ وَالْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ وَالدِّيدَانِ وَالْفَأْرَةِ وَالنَّمْلِ وَسَائِرِ الْحَشَرَاتِ وَنَحْوِهَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا نَظَرَ إلَى مَنَافِعِهَا الْمَعْدُودَةِ مِنْ خَوَاصِّهَا لِأَنَّهَا. مَنَافِعُ تَافِهَةٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِي مَعْنَاهُ السِّبَاعُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ وَلَا الْقِتَالِ عَلَيْهَا، وَلَا تُؤْكَلُ كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالدُّبِّ وَأَشْبَاهِهَا فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُنْظَرُ إلَى اقْتِنَاءِ الْمُلُوكِ لَهَا لِلْهَيْبَةِ وَالسِّيَاسَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَجُمْهُورُ الْخُرَاسَانِيِّينَ. وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ السِّبَاعِ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ وَالِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا بِالدِّبَاغِ مُتَوَقَّعٌ، وَضَعَّفُوا هَذَا الْوَجْهَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْحَالِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَمَنْفَعَةُ الْجِلْدِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجِلْدِ النَّجِسِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ مُمْكِنًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَنَقَلَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ رحمه الله وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ النَّمْلِ فِي "عَسْكَرِ مُكْرَمٍ" وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْمَشْرِقِ، قَالَ: لِأَنَّهُ يُعَالَجُ بِهِ السُّكَّرُ وَبِنَصِيبَيْنِ لِأَنَّهُ يُعَالَجُ بِهِ الْعَقَارِبُ الطَّيَّارَةُ، وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ ضَعِيفٌ وأما الْحِدَأَةُ وَالرَّخَمَةُ وَالنَّعَامَةُ وَالْغُرَابُ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ كَانَ فِي أَجْنِحَةِ بَعْضِهَا فَائِدَةٌ جَاءَ فِيهَا الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي بَيْعِ السِّبَاعِ لِجُلُودِهَا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنْكَارًا عَلَى الْإِمَامِ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ الْجُلُودَ تُدْبَغُ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَطْهِيرِ الْأَجْنِحَةِ قلت: وَجْهُ الْجَوَازِ عَلَى ضَعْفِهِ الِانْتِفَاعُ بِرِيشِهَا فِي النَّبْلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ قُلْنَا: بِنَجَاسَتِهِ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي النَّبْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْيَابِسَاتِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: الْعَلَقُ وَهُوَ هَذَا الدُّودُ الْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ الْمَاءِ، وَعَادَتُهُ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ غَلَبَةُ الدَّمِ فَيَمُصُّ دَمَهُ. هَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ وَآخَرُونَ يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ غَرَضًا مَقْصُودًا وَهُوَ امْتِصَاصُهُ الدَّمَ مِنْ الْعُضْوِ الْمُتَأَلِّمِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ وَمِمَّنْ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي أصحهما: وَيَجُوزُ والثاني: لَا، لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُؤْذٍ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْعَبْدِ الزَّمِنِ، لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى عِتْقِهِ بِلَا خِلَافٍ وأما الْحِمَارُ الزَّمِنُ وَالْبَغْلُ الزَّمِنُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ وَحَكَى

 

ج / 9 ص -175-       الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَهُوَ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي بَيْعِ السِّبَاعِ الَّتِي لَا تَصْطَادُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِ دَارٍ لَا طَرِيقَ لَهَا أَوْ بَيْعِ بَيْتٍ مِنْ دَارٍ لَا طَرِيقَ إلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ طَرِيقٌ فَيُنْتَفَعَ بِهِ فَيَصِحَّ بَيْعُهُ.
الشرح:
هَذَانِ الْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: صِحَّةُ الْبَيْعِ. قَالَ أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُّونَ: لَوْ بَاعَ أَرْضًا مُعَيَّنَةً مَحْفُوفَةً بِمِلْكِ الْبَائِعِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ - فَإِنْ شَرَطَ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الْمَمَرِّ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ - لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِالْمَمَرِّ، وَإِنْ شَرَطَ الْمَمَرَّ مِنْ جَانِبٍ مُعَيَّنٍ صَحَّ الْبَيْعُ فَإِنْ قَالَ: بِعْتُهَا بِحُقُوقِهَا صَحَّ الْبَيْعُ، وَثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْمَمَرِّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا كَانَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَإِنْ أَطْلَقَ بَيْعَهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَمَرِّ فَوجهان أصحهما: يَصِحُّ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَهَا بِحُقُوقِهَا والثاني: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْمَمَرَّ، فَعَلَى هَذَا هُوَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْمَمَرِّ، وَفِيهِ وجهان أصحهما: بُطْلَانُ الْبَيْعِ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ فِي الْحَالِ والثاني: الصِّحَّةُ لِإِمْكَانِ تَحْصِيلِ الْمَمَرِّ.
وَقَالَ الْبَغَوِيّ إنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ مَمَرٍّ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا، قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ الْمَبِيعَةُ مُلَاصِقَةً لِلشَّارِعِ صَحَّ الْبَيْعُ، وَمَرَّ الْبَائِعُ إلَيْهَا مِنْ الشَّارِعِ، وَلَيْسَ لَهُ سُلُوكُ مِلْكِ الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِهَا الدُّخُولُ مِنْ الشَّارِعِ، فَحُمِلَ الْإِطْلَاقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُلَاصِقَةً مِلْكَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ الْمُرُورُ فِيمَا بَقِيَ لِلْبَائِعِ، بَلْ يَدْخُلُ الْمُشْتَرِي مِنْ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ الْمُلَاصِقِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ احْتِمَالًا قَالَ: وَالصُّورَةُ فِيمَا إذَا أَطْلَقَ الْبَيْعَ أَمَّا: إذَا قَالَ بِحُقُوقِهَا فَلَهُ الْمَمَرُّ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ.
أَمَّا: إذَا بَاعَ دَارًا وَاسْتَثْنَى لِنَفْسِهِ بَيْتًا فَلَهُ الْمَمَرُّ، لِأَنَّ الْمَمَرَّ كَانَ ثَابِتًا فَبَقِيَ، فَإِنْ شَرَطَ نَفْيَ الْمَمَرِّ - نُظِرَ إنْ أَمْكَنَ إيجَادُ مَمَرٍّ - صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِلَّا فَوجهان أصحهما: بُطْلَانُ الْبَيْعِ، وَبِهِ قَطَعَ بَعْضُهُمْ، كَمَنْ بَاعَ ذِرَاعًا مِنْ ثَوْبٍ تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بِقَطْعِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحُرِّ مِنْهُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"قَالَ رَبُّكُمْ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ إلَّا قَوْلَهُ: وَمَنْ "كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ" وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَوَاهَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَمَعْنَى أَعْطَى بِي عَاهَدَ إنْسَانًا بِي، وَبَيْعُ الْحُرِّ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ"وَلِأَنَّهُ أَسْتَقَرَّ لَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ [وَفِي بَيْعِهَا إبْطَالُ ذَلِكَ فَلَمْ يَجُزْ].

 

ج / 9 ص -176-       الشَّرْحُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ1
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَا هِبَتُهَا وَلَا رَهْنُهَا وَلَا الْوَصِيَّةُ بِهَا، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَ الْخُرَاسَانِيُّونَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَثَّلَ الْقَوْلَ فِي بَيْعِهَا فِي الْقَدِيمِ فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ اخْتِلَافُ قَوْلٍ وَإِنَّمَا مَثَّلَ الْقَوْلَ إشَارَةً إلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَالصَّيْدَلَانِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَوَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ، فَعَلَى هَذَا الْقَدِيمِ هَلْ تَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا، وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وأصحهما: نَعَمْ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا كَالْمُدَبَّرِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَعْتِقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعْتِقَ مِنْ الثُّلُثِ، قُلْتُ: الْأَقْوَى مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لِتَأَكُّدِ حَقِّهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَقَضَى قَاضٍ بِجَوَازِهِ فَطَرِيقَانِ أحدهما: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ فِي نَقْضِ قَضَائِهِ وَجْهَيْنِ والثاني: أَنَّهُ يُنْقَضُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ كُلِّهِمْ، وَلَمْ يُحْكَ غَيْرُهُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْآنَ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ خِلَافٍ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ فَقَدْ ارْتَفَعَ وَصَارَ الْآنَ مُجْمَعًا عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ دَاوُد جَوَازَ بَيْعِهَا مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى بُطْلَانِهِ الْآنَ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِ دَاوُد وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَلَا خِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُمْ نَفَوْا الْقِيَاسَ، وَشَرْطُ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْقِيَاسِ وَقَالَتْ الشِّيعَةُ أَيْضًا بِجَوَازِ بَيْعِهَا، وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه "أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ" وَإِجْمَاعُ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهَا. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الْخِلَافِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ، وَحِينَئِذٍ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الثَّابِتِ عَنْ عُمَرَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى نَسْخِ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ: "بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ نَهَانَا فَانْتَهَيْنَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ:"كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَّنَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ، لَا يَرَى بِذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض يالأصل وأول حديث ابن عمر أخرج مغناه مالك في "الموطأ" موقوفا على عمر وهو لا يخلو من أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بلفظ: عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: أيما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبعها ولا يهبها ولا يورثها وهن يستمتع منها فإذا مات فهي حرة" رواه الدارمي عن ابن عباس مرفوعا "إذا ولدت أمة الرجل منه معقتة عن دبر منه أو بعده" ورواه  أحمد ابن ماجه والحاكم والبيهقي وفيه الحسين بن عبد الله ضعيف جدا, وقد رجح بعض الحفاظ وقفه على عمر وروى ابن ماجه والحاككم عن ابن عباس"ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"أعتقها ولدها" وإسناد ضعيف لكن له طريق عند قاسم بن أصبغ إسنادها جيد وفي "كنز العمال" نحو ثلاثة أحاديث قولية وعشرة من أفعال الصحابة. (المطيعي)

 

ج / 9 ص -177-       بَأْسًا" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ بَيْعَهَا كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ النَّهْيُ إلَى زَمَنِ عُمَرَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ النَّهْيُ نَهَاهُمْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلًا دَبَّرَ غُلَامًا لَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟" فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمٌ [النَّحَّامُ]".
الشَّرْحُ:
حَدِيثُ جَابِرٍ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ عَنْ جَابِرٍ"أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ غُلَامٌ غَيْرَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ"وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ "مَاتَ عَامَ أَوَّلَ فِي وِلَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَاعَ الْمُدَبَّرَ قوله:نُعَيْمٌ هُوَ - بِضَمِّ النُّونِ وقوله: النَّحَّامُ - هُوَ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُهَذَّبِ نُعَيْمٌ فَقَطْ، وَفِي بَعْضِهَا نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ، قَالُوا: وَهُوَ غَلَطٌ، وَصَوَابُهُ نُعَيْمٌ النَّحَّامُ، فَالنَّحَّامُ هُوَ نُعَيْمٌ، وَمَعْنَى النَّحَّامِ السَّعَّالُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْعُلُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "سَمِعْتُ نَحْمَتَكَ فِي الْجَنَّة أَيْ سُعْلَتَكَ" وَقِيلَ: هِيَ النَّحْنَحَةُ، وَكُلُّ هَذَا صِفَةٌ لِنُعَيْمٍ لَا لِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَسْلَمَ نُعَيْمٌ قَدِيمًا بَعْدَ عَشَرَةِ أَنْفُسٍ، وَقِيلَ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ جَوَادًا، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أَجْنَادِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَاسْمُ هَذَا الْغُلَامِ الْمُدَبَّرِ: يَعْقُوبُ، وَاسْمُ سَيِّدِهِ مُدَبِّرِهِ أَبُو مَذْكُورٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَمَذْهَبُنَا جَوَازُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ثَمَنِهِ أَمْ لَا، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى سَيِّدِهِ دَيْنٌ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: يَجُوزُ إذَا احْتَاجَ إلَى ثَمَنِهِ سَيِّدُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَإِنْ كَانَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِأَنْ يَقُولَ: إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ جَازَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْكُوفَةِ. وَاحْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْعِتْقُ بِقَوْلِ السَّيِّدِ وَحْدَهُ، فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْمُدَبَّرِ، وَفِي الْمُكَاتَبِ قَوْلَانِ قَالَ: فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ عِتْقَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَالْخَارِجِ مِنْ مِلْكِهِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:أَصَابَ عُمَرُ رضي الله عنه أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ:

 

ج / 9 ص -178-       إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا", قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ صَدَقَةً لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وقوله: ثَبَتَ لَهُ الْعِتْقُ بِقَوْلِ السَّيِّدِ احْتِرَازٌ مِنْ فِعْلِهِ وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ وقوله: وَحْدَهُ احْتِرَازٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ، وَفِي الْفَصْلِ ثَلَاثَ مسائل:
إحداها: بَيْعُ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ عَلَى صِفَةٍ صَحِيحٌ لَا خِلَافَ فِيهِ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِنَّمَا قَاسَهُ عَلَى الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ النَّصَّ ثَبَتَ فِي الْمُدَبَّرِ وَإِلَّا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِبُطْلَانِ بَيْعِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ عَلَى صِفَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الصِّفَةُ مُحَقَّقَةَ الْوُجُودِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ، أَوْ مُحْتَمَلَةً كَدُخُولِ الدَّارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: بَيْعُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ.
الثالثة: فِي بَيْعِ السَّيِّدِ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا الصحيح: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ بُطْلَانُهُ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَالْقَدِيمُ: صِحَّتُهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْقَوْلَانِ جَارِيَانِ فِي الْهِبَةِ فإن قلنا: بِالْجَدِيدِ فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ النُّجُومَ إلَى الْمُشْتَرِي فَهَلْ يَعْتِقُ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ بَاعَ السَّيِّدُ النُّجُومَ إلَى الْمُشْتَرِي فَهَلْ يَعْتِقُ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ بَاعَ السَّيِّدُ النُّجُومَ الَّتِي عَلَى الْمُكَاتَبِ وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ فَأَدَّاهَا الْمُكَاتَبُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصَّانِ نَصٌّ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّهُ يَعْتِقُ بِدَفْعِهَا إلَى الْمُشْتَرِي وَنَصٌّ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ، وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ طَرِيقَانِ الْمَذْهَبُ: وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ أحدهما: يَعْتِقُ لِأَنَّ السَّيِّدَ سُلْطَةٌ عَلَى الْقَبْضِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ وأصحهما: لَا يَعْتِقُ، لِأَنَّهُ يَقْبِضُ زَاعِمًا أَنَّهُ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ، حَتَّى لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: النَّصَّانِ عَلَى حَالَتَيْنِ، فَإِنْ قَالَ بَعْدَ الْبَيْعِ: خُذْهَا مِنْهُ أَوْ قَالَ لِلْمُكَاتَبِ: ادْفَعْهَا إلَيْهِ صَارَ وَكِيلًا وَعَتَقَ بِقَبْضِهِ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَيْعِ فَلَا، وَقِيلَ: إنَّ أَبَا إِسْحَاقَ عَرَضَ هَذَا الْفَرْقَ عَلَى شَيْخِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ فَلَمْ يَرْتَضِهِ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ، وَقَالَ: هُوَ وَإِنْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ فَإِنَّمَا يَأْذَنُ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ لَا الْوَكَالَةِ.
فإن قلنا: لَا يَعْتِقُ، فَمَا يَأْخُذُهُ الْمُشْتَرِي يُسَلِّمُهُ إلَى السَّيِّدِ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ كَوَكِيلِهِ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَعْتِقُ طَالَبَ السَّيِّدُ الْمُكَاتَبَ بِالنُّجُومِ، وَاسْتَرَدَّهَا الْمُكَاتَبُ مِنْ الْمُشْتَرِي، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ: إنَّ بَيْعَ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ بَاطِلٌ، فَاسْتَخْدَمَهُ الْمُشْتَرِي مُدَّةً، لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمُكَاتَبِ، وَهَلْ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُمْهِلَهُ قَدْرَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ فِيمَا إذَا اسْتَخْدَمَهُ السَّيِّدُ أَوْ حَبَسَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
أَمَّا إذَا قُلْنَا: بِالْقَدِيمِ: وَإِنَّ بَيْعَ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ، فَفِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصحيح: الَّذِي قَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَبْقَى وَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي مَكَانُهَا، فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِ النُّجُومَ عَتَقَ وَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُشْتَرِي، جَمْعًا بَيْنَ الْحُقُوقِ والثاني: يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْبَائِعِ،

 

ج / 9 ص -179-       وَيَكُونُ انْتِقَالُهُ بِالشَّرْيِ كَانْتِقَالِهِ بِالْإِرْثِ والثالث: تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَيَنْتَقِلُ غَيْرَ مُكَاتَبٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ قَالَ أَجْنَبِيٌّ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ: أَعْتِقْ مُكَاتَبَكَ عَلَى أَلْفٍ، أَوْ أَعْتِقْهُ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، أَوْ مَجَّانًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ الْعِتْقُ، وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ افْتِدَاءً مِنْهُ كَاخْتِلَاعِ الْأَجْنَبِيِّ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ مُسْتَوْلَدَتَكَ. وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً مَعَ نَظَائِرِهِمْ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ عَقِيبَ كِتَابِ الظِّهَارِ حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ بَيْعُ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَمَا لَا يُعْتِقُ عَبِيدَهُ وَلَا يُزَوِّجُ إمَاءَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ.
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا بُطْلَانُ بَيْعِهَا سَوَاءٌ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ حَاكِمٌ أَوْ لَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، فَقَالَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ حَاكِمٌ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي بَيْعِ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مَذْهَبِنَا بُطْلَانُهُ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَاحْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ "أَنَّهَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً فَاشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ رضي الله عنها بِإِذْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا لِلْمَنْعِ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ بِأَنَّهَا رَضِيَتْ هِيَ وَأَهْلَهَا بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ بَاعُوهَا.
فرع: ضَبَطُوا مَا بِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ، فَكُلُّ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ الْمَآلِ، لَيْسَ بِحُرٍّ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لَازِمٌ، يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاحْتَرَزُوا بِالطَّاهِرِ عَنْ النَّجِسِ، وَبِالْمَنْفَعَةِ عَنْ الْحَشَرَاتِ، وَنَحْوِهَا، وَالْحِمَارِ الزَّمِنِ وَالسِّبَاعِ، وَبِالْمَآلِ كَالْجَحْشِ الصَّغِيرِ، وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ احْتِرَازٌ مِنْ الْمَرْهُونِ وَالْمَوْقُوفِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْجَانِي، وَقَوْلُهُمْ لَازِمٌ احْتِرَازٌ مِنْ الْمُدَبَّرِ، وَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ، وَالْمُوصَى بِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَشْمُومِ وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ بِالرُّكُوبِ وَالْأَكْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالصَّيْدِ وَالصُّوفِ، وَمَا يَقْتَنِيهِ النَّاسُ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي وَالْأَرَاضِي وَالْعَقَارِ. لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ، وَلَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ مَا كَانَ فِي الْحَرَمِ مِنْ الدُّورِ وَغَيْرِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه "أَمَرَ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِمَكَّةَ لِلسَّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَاشْتَرَاهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ" وَلِأَنَّهُ أَرْضٌ حَيَّةٌ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَجَازَ بَيْعُهَا كَغَيْرِ الْحَرَمِ.

 

ج / 9 ص -180-       الشرح: هَذَا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ مَشْهُورٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَافِعٌ هَذَا صَحَابِيٌّ، وَهَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَنْكَرَ الْوَاقِدِيُّ صُحْبَتَهُ وَالصَّوَابُ الْمَشْهُورُ صُحْبَتُهُ، وَهُوَ خُزَاعِيٌّ أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَفِيهِمَا سَادَاتُ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَبُو وَهْبٍ، وَقِيلَ: أَبُو أُمَيَّةَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ خُزَامَةَ بْنِ جُمَحٍ الْقُرَشِيُّ الْجُمَحِيُّ الْمَكِّيُّ أَسْلَمَ بَعْدَ شُهُودِهِ حُنَيْنًا كَافِرًا، وَكَانَ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ، وَشَهْدَ الْيَرْمُوكَ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَقِيلَ: عَامَ الْجَمَلِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وقوله: لِأَنَّهُ أَرْضٌ حَيَّةٌ، هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى الْبَيْعِ وقوله: أَرْضٌ حَيَّةٌ احْتِرَازٌ مِنْ الْمَوَاتِ وقوله: لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ مُؤَبَّدَةٌ احْتِرَازٌ مِنْ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْأَعْيَانَ الطَّاهِرَةَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا الَّتِي لَيْسَتْ حُرًّا وَلَا مَوْقُوفًا وَلَا أُمَّ وَلَدٍ وَلَا مُكَاتَبَةً وَلَا مَرْهُونًا وَلَا غَائِبًا وَلَا مُسْتَأْجَرَةً يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْإِجْمَاعِ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ سَوَاءٌ الْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ وَالْمَلْبُوسُ وَالْمَشْمُومُ وَالْحَيَوَانُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ، بِرُكُوبِهِ أَوْ صَوْتِهِ أَوْ صُوفِهِ أَوْ دَرِّهِ أَوْ نَسْلِهِ كَالْعَنْدَلِيبِ وَالْبَبَّغَاءِ أَوْ بِحِرَاسَتِهِ كَالْقِرْدِ، أَوْ بِرُكُوبِهِ كَالْفِيلِ أَوْ بِامْتِصَاصِهِ الدَّمَ وَهُوَ الْعَلَقُ، وَفِي مَعْنَاهُ دُودُ الْقَزِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ، فَكُلُّ هَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ.
والثانية: يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ وَيَجُوزُ إجَارَتُهَا وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِأَصْحَابِهَا يَتَوَارَثُونَهَا وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْمِلْكِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ وَإِجَارَتِهَا وَرَهْنِهَا، مَذْهَبُنَا جَوَازُهُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا أَمْ عَنْوَةً؟ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، فَتَبْقَى عَلَى مِلْكِ أَصْحَابِهَا فَتُورَثُ وَتُبَاعُ وَتُكْرَى وَتُرْهَنُ، وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: من الآية25] وَقَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ جَمِيعُ الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الاسراء: من الآية1] أَيْ مِنْ بَيْتِ خَدِيجَةَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: من الآية91] قَالُوا: وَالْمُحَرَّمُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَبِحَدِيثِ إسْمَاعِيلَ1 بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَكَّةُ مُبَاحٌ لَا تُبَاعُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق مهاجر بن عبد الله خطأ وإنما هو إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجني الكوفي وهو ضعيف وأبوه فيه لين من قبل حفظه (المطيعي).

 

ج / 9 ص -181-       رِبَاعُهَا وَلَا تُؤَجَّرُ بُيُوتُهَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَبْنِي لَكَ بَيْتًا أَوْ بِنَاءً يَظِلُّكَ مِنْ الشَّمْسِ؟ قَالَ: لَا إنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَكَّةُ حَرَامٌ، وَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَحَرَامٌ أَجْرُ بُيُوتِهَا" وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْكِنَانِيِّ قَالَ: "كَانَتْ بُيُوتُ مَكَّةَ تُدْعَى السَّوَائِبَ لَمْ تُبَعْ رِبَاعُهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ، مِنْ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَبِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنًى مُبَاحٌ لِمَنْ سَبَقَ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ فِي بَابِ الدَّفْنِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ الْحَرَمِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا كَنَفْسِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لِمَذْهَبِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: من الآية8] وَالْإِضَافَةُ تَقْتَضِي الْمِلْكَ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَكُونُ الْإِضَافَةُ لِلْيَدِ وَالسُّكْنَى لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}[الأحزاب: من الآية33]  فَالْجَوَابُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ حُكِمَ بِمِلْكِهَا لِزَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ السُّكْنَى وَالْيَدَ لَمْ يُقْبَلْ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: "أَيْنَ تَنْزِلُ مِنْ دَارِكَ فِي مَكَّةَ؟ فَقَالَ: هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ؟ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إرْثِ دُورِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ: "فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَبِالْأَثَرِ الْمَشْهُورِ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرِهِ "أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارَ السِّجْنِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ" وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بَاعَ دَارَ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: يَا أَبَا خَالِدٍ بِعْتَ مَأْثُرَةَ قُرَيْشٍ وَكَرِيمَتِهَا؟ فَقَالَ هَيْهَاتَ ذَهَبَتْ الْمَكَارِمُ، فَلَا مَكْرُمَةَ الْيَوْمَ إلَّا الْإِسْلَامُ، فَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي الدَّرَاهِمَ" وَمِنْ الْقِيَاسِ أَنَّهَا أَرْضٌ حَيَّةٌ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً فَجَازَ بَيْعُهَا كَغَيْرِهَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيِّ قَالَ: "رَأَيْتُ الشَّافِعِيَّ بِمَكَّةَ يُفْتِي النَّاسَ، وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ حَاضِرَيْنِ فَقَالَ أَحْمَدُ لِإِسْحَاقَ: تَعَالَ حَتَّى أُرِيَكَ رَجُلًا لَمْ تَرَ عَيْنَاكَ مِثْلَهُ، فَقَالَ إِسْحَاقُ: لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ؟ فَقَالَ نَعَمْ: فَجَاءَ بِهِ فَوَقَفَهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ إلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ تَقَدَّمَ إِسْحَاقُ إلَى مَجْلِسِ الشَّافِعِيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ كِرَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ عِنْدَنَا جَائِزٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ"؟ فَقَالَ إِسْحَاقُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ وَعَطَاءٌ وَطَاوُوسٌ لَمْ يَكُونَا يَرَيَانِ ذَلِكَ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِبَعْضِ مَنْ عَرَفَهُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ الْحَنْظَلِيُّ الْخُرَاسَانِيُّ، فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: أَنْتَ الَّذِي

 

ج / 9 ص -182-       يَزْعُمُ أَهْلُ خُرَاسَانَ أَنَّكَ فَقِيهُهُمْ؟ قَالَ إِسْحَاقُ: هَكَذَا يَزْعُمُونَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا أَحْوَجَنِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُكَ فِي مَوْضِعِكَ فَكُنْتُ آمُرُ بِفِرَاكِ أُذُنَيْهِ، أَنَا أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتَ تَقُولُ قَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ، هَؤُلَاءِ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ؟ وَهَلْ لِأَحَدٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةٌ؟ وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا.
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} أَفَتُنْسَبُ الدِّيَارُ إلَى مَالِكِينَ أَوْ غَيْرِ مَالِكِينَ؟ فَقَالَ إِسْحَاقُ: إلَى مَالِكِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ الْأَقَاوِيلِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"، وَقَدْ اشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه دَارَ الْحَجَّامِينَ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ لَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: "سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ"، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وَالْمُرَادُ الْمَسْجِدُ خَاصَّةً، وَهُوَ الَّذِي حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُ لَكَانَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْشُدَ فِي دُورِ مَكَّةَ وَفِجَاجِهَا ضَالَّةً، وَلَا يَنْحَرَ فِيهَا اُلْبُدْنَ، وَلَا يُلْقِيَ فِيهَا الْأَرْوَاثَ، وَلَكِنْ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ خَاصَّةً فَسَكَتَ إِسْحَاقُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَسَكَتَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ.
وأما الْجَوَابُ عَنْ أَدِلَّتِهِمْ فَالْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى:
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} سَبَقَ الْآنَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وأما قوله تعالى: {هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} فَمَعْنَاهُ حَرَّمَ صَيْدَهَا، وَشَجَرَهَا، وَخَلَاهَا، وَالْقِتَالَ فِيهَا، كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْهَا مَعَ كَثْرَتِهَا فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ دُورِهَا وأما حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ أَبِيهِ فَضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِ إسْمَاعِيلَ وَأَبِيهِ إبْرَاهِيمَ وأما حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَإِنْ صَحَّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَوَاتِ مِنْ الْحَرَمِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وأما حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: ضَعْفُ إسْنَادِهِ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي زِيَادٍ هَذَا ضَعِيفٌ والثاني: أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ عِنْدَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَالُوا: رَفْعُهُ وَهْمٌ، هَكَذَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وأما حَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: جَوَابُ الْبَيْهَقِيّ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ والثاني: جَوَابُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضًا وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ عَادَتِهِمْ فِي إسْكَانِهِمْ مَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُ مِنْ بُيُوتِهِمْ بِالْإِعَارَةِ تَبَرُّعًا وُجُودًا، وَقَدْ أَخْبَرَ مَنْ كَانَ أَعْلَمَ بِشَأْنِ مَكَّةَ مِنْهُ بِأَنَّهُ جَرَى الْإِرْثُ وَالْبَيْعُ فِيهَا وأما حَدِيثُ مِنًى مُبَاحٌ لِمَنْ سَبَقَ" فَمَحْمُولٌ عَلَى مَوَاتِهَا وَمَوَاضِعِ نُزُولِ الْحَجِيجِ مِنْهَا وأما الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى نَفْسِ الْمَسْجِدِ فَمَرْدُودٌ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ مُحَرَّمَةٌ مُحَرَّرَةٌ، لَا تُلْحَقُ بِهَا الْمَنَازِلُ الْمَسْكُونَةُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهَا، وَلِهَذَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ يَجُوزُ بَيْعُ الدُّورِ دُونَ الْمَسَاجِدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ فِي بَابِ بَيْعِ الْكِلَابِ: لَا يُكْرَهُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الْمِلْكِ الطَّلْقِ إلَّا أَرْضَ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا لِلْخِلَافِ وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ غَرِيبٌ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا نَهْيٌ.
فرع: قَالَ الرُّويَانِيُّ وَالْأَصْحَابُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحَرَمِ هُوَ فِي بَيْعِ نَفْسِ الْأَرْضِ فأما: الْبِنَاءُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَا خِلَافٍ.

 

ج / 9 ص -183-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ الْأَدَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ يَأْخُذُونَ أُجُورَ أَيْدِيهِمْ، وَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ"
الشرح: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ وَشِرَائِهِ وَإِجَارَتِهِ وَنَسْخِهِ بِالْأُجْرَةِ، ثُمَّ إنَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ وَالدَّارِمِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ الرُّويَانِيُّ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ بَيْعَهُ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ السُّنَنِ الْكَبِيرِ، وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ، وَالصَّيْمَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْإِيضَاحِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ، فَقَالَ: يُكْرَهُ بَيْعُهُ، قَالَ: وَقِيلَ: يُكْرَهُ الْبَيْعُ دُونَ الشِّرَاءِ، هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ شَرْيَ الْمُصْحَفِ وَبَيْعَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ بِهَذَا، بَلْ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَى بَأْسًا بِالشِّرَاءِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَنَحْنُ نَكْرَهُ بَيْعَهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَافِ: اخْتَلَفُوا فِي شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَبَيْعِهِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ شَدَّدَ فِي بَيْعِهِ، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ الْأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ، قَالَ: وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ كَرَاهَةَ ذَلِكَ، قَالَ: وَكَرِهَ بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا عَلْقَمَةُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَشُرَيْحٌ وَمَسْرُوقٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَرَخَّصَ جَمَاعَةٌ فِي شِرَائِهَا، وَكَرِهُوا بَيْعَهَا، رُوِّينَا هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أَحْمَدُ: الشَّرْيُ أَهْوَنُ، وَمَا أَعْلَمُ فِي الْبَيْعِ رُخْصَةً قَالَ: وَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَكَمُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ لِلتِّجَارَةِ فَقَالَا: لَا نَرَى أَنْ نَجْعَلَهُ مُتَّجَرًا وَلَكِنْ مَا عَمِلْتَ بِيَدَيْكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْمُصْحَفِ وَشِرَائِهِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: "اشْتَرِ الْمُصْحَفَ وَلَا تَبِعْهُ" وَبِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ "اشْتَرِهِ وَلَا تَبِعْهُ" وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ يَمُرُّ بِأَصْحَابِ الْمَصَاحِفِ فَيَقُولُ: بِئْسَ التِّجَارَةُ" وَبِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ التَّابِعِيِّ الْمُجْمَعِ عَلَى جَلَالَتِهِ وَتَوْثِيقِهِ قَالَ: "وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ عَلَى وَجْهِ التَّنْزِيهِ تَعْظِيمًا لِلْمُصْحَفِ عَنْ أَنْ يُبْذَلَ بِالْبَيْعِ، أَوْ يُجْعَلَ مُتَّجَرًا قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ التَّرْخِيصُ فِيهِ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ اشْتَرِ الْمُصْحَفَ وَلَا تَبِعْهُ، إنْ صَحَّ عَنْهُ، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ بَيْعُ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَالشِّعْرِ الْمُبَاحِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ وَكُتُبِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كُتُبِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ بَلْ يَجِبُ إتْلَافُهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ السِّيَرِ. وَهَكَذَا كُتُبُ التَّنْجِيمِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُلُومِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ، فَبَيْعُهَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 9 ص -184-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِ بَيْضِ دُودِ الْقَزِّ وَبَيْضِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطُّيُورِ الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا، كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ طَاهِرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ نَجِسٌ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي طَهَارَةِ مَنِيِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَنَجَاسَتِهِ فإن قلنا: إنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ جَازَ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، فَهُوَ كَبَيْضِ الدَّجَاجِ وإن قلنا: إنَّهُ نَجِسٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ عَيْنٌ نَجِسَةٌ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.
الشرح: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ دُودِ الْقَزِّ، لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، فَهُوَ كَالْعُصْفُورِ وَالنَّحْلِ وَغَيْرِهِمَا وأما بَيْضُ دُودِ الْقَزِّ وَبَيْضُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطُّيُورِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: صِحَّةُ الْبَيْعِ والثاني: بُطْلَانُهُ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، وَفِيهَا وَجْهَانِ كَمَنِيِّ مَا لَا يُؤْكَلُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَأَنَّ الْأَصَحَّ طَهَارَتُهُ وأما قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مِنْ الطُّيُورِ الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا فَزِيَادَةٌ لَا تُعْرَفُ لِلْأَصْحَابِ بَلْ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالرَّخَمَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْجَمِيعِ الْوجهان أصحهما: جَوَازُ بَيْعِهِ لِأَنَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ - عَلَى طَهَارَةِ هَذَا الْبَيْضِ وَنَجَاسَتِهِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ شَامِلٌ لِمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَغَيْرُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ وَلَا بَيْضِهِ.
فُرُوعٌ فِي مَسَائِلَ مُهِمَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ

فُرُوعٌ فِي مَسَائِلَ مُهِمَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ
فرع: بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ إلَّا الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيَّ وَالرُّويَانِيَّ فَحَكَوْا وَجْهًا شَاذًّا عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنَّمَا يُرَبَّى بِهِ الصَّغِيرُ لِلْحَاجَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَالصَّوَابُ جَوَازُ بَيْعِهِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ قَالَ: وَلَا نَصَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، هَذَا مَذْهَبُنَا. وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ فِي الْعَادَةِ، وَبِأَنَّهُ فَضْلَةُ آدَمِيٍّ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْمُخَاطِ، وَبِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُتَّصِلًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَصِلًا، كَشَعْرِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُمَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِهَا كَالْأَتَانِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ لَبَنٌ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ كَلَبَنِ الشَّاةِ، وَلِأَنَّهُ غِذَاءٌ لِلْآدَمِيِّ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْخُبْزِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُنْتَقَضٌ بِدَمِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ غِذَاءٌ لِلْجَنِينِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا يَتَغَذَّى الْجَنِينُ بِدَمِ الْحَيْضِ، بَلْ يُولَدُ وَفَمُهُ مَسْدُودٌ لَا طَرِيقَ فِيهِ لِجَرَيَانِ الدَّمِ، وَعَلَى وَجْهِهِ الْمَشِيمَةُ، وَلِهَذَا أَجِنَّةُ الْبَهَائِمِ تَعِيشُ فِي الْبُطُونِ وَلَا حَيْضَ لَهَا، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَحِلُّ شُرْبُهُ فَجَازَ بَيْعُهُ كَلَبَنِ الشَّاةِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فَإِنْ قِيلَ: يُنْتَقَضُ بِالْعَرَقِ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ بَلْ يَحِلُّ شُرْبُهُ وأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا يُبَاعُ فِي الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ بَيْعِهِ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يَصِحَّ بَيْعُهُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضِ الْعَصَافِيرِ، وَبَيْعُ الطِّحَالِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاعُ فِي الْعَادَةِ وَالْجَوَابُ: عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْمُخَاطِ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا بِخِلَافِ اللَّبَنِ وَعَنْ الْبَيْضِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِخِلَافِ اللَّبَنِ، وَعَنْ لَبَنِ الْأَتَانِ بِأَنَّهُ نَجِسٌ بِخِلَافِ الْآدَمِيَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 9 ص -185-       فرع: فِي بَيْعِ الْقَيْنَةِ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ الْمُغَنِّيَةُ، فَإِذَا كَانَتْ تُسَاوِي أَلْفًا بِغَيْرِ غِنَاءٍ وَأَلْفَيْنِ مَعَ الْغِنَاءِ، فَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفٍ صَحَّ الْبَيْعُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أصحهما: يَصِحُّ بَيْعُهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَزْدِيُّ لِأَنَّهَا عَيْنٌ طَاهِرَةٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا فَجَازَ بَيْعُهَا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ والثاني: لَا يَصِحُّ، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْمَحْمُودِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لِأَنَّ الْأَلْفَ تَصِيرُ فِي مَعْنَى الْمُقَابِلِ لِلْغِنَاءِ والثالث: إنْ قَصْدَ الْغِنَاءَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ الْمَرُّوذِيُّ: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْقِيَاسُ السَّدِيدُ هُوَ الْجَزْمُ بِالصِّحَّةِ ذَكَرَهُ فِي فُرُوعٍ مَبْتُورَةٍ عِنْدَ كِتَابِ الصَّدَاقِ وأما الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ" وَفِي مِثْلِ هَذَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: من الآية6] رَوَاهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَسَائِرُ الْحُفَّاظِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ هُوَ ثِقَةً، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، أَحَادِيثُهُ مُنْكَرَةٌ وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: هُوَ وَاهِي الْحَدِيثِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْرِفُهُ1 إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَضَعَّفَهُ. وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ التِّرْمِذِيِّ يَعْنِي مِنْ كِتَابِ الْعِلَلِ لَهُ قَالَ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْ عَائِشَةَ وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ وَخَلَطَ فِيهِ لَيْثٌ.
فَرْعٌ: الْكَبْشُ الْمُتَّخَذُ لِلنِّطَاحِ، وَالدِّيكُ الْمُتَّخَذُ لِلْهِرَاشِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ حُكْمُهُ فِي الْبَيْعِ حُكْمُ الْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ فَإِنْ بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ سَاذَجًا جَازَ، وَإِنْ زَادَ بِسَبَبِ النِّطَاحِ وَالْهِرَاشِ فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ أَصَحُّهَا: صِحَّةُ بَيْعِهِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَآخَرُونَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبَيْعِ: "فِي بَيْعِ الْقَيْنَةِ وَالْكَبْشِ الَّذِي يَصْلُحُ لِلنِّطَاحِ كَلَامٌ سَنَذْكُرُهُ" فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْوَسِيطِ، وَكَأَنَّهُ نَوَى أَنْ يَذْكُرَهُ حَيْثُ ذَكَرَهُ شَيْخُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عِنْدَ كِتَابِ الصَّدَاقِ ثُمَّ نَسِيَهُ حِينَ وَصَلَهُ.
فرع: بَيْعُ إنَاءِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ صَحِيحٌ قَطْعًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَيْنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْآنِيَةِ.
فرع: بَيْعُ الْمَاءِ الْمَمْلُوكِ صَحِيحٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَسَتَأْتِي تَعَارِيفُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ. فَإِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَ الْمَاءِ فَفِي بَيْعِهِ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ النَّهْرِ وَبَيْعِ التُّرَابِ فِي الصَّحْرَاءِ وَبَيْعِ الْحِجَارَةِ بَيْنَ الشِّعَابِ الْكَبِيرَةِ وَالْأَحْجَارِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أصحهما: جَوَازُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِيهِ جَمِيعُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش و ق الذي في "سنن الترمذي" بتحقيق محمد فؤاد عبد البلقي رحمه الله وفي غيرها هكذا قال أبو عبسى: حديث أبي أمامة إنما نعرفه مثل هذا من الوجه وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه وهو شامي (ط).

 

 

ج / 9 ص -186-       شَرَائِطِ الْمَبِيعِ، وَإِنَّمَا الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ لِكَثْرَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ والثاني: بُطْلَانُهُ، لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِيهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ سَفَهٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: السُّمُّ إنْ كَانَ يَقْتُلُ كَثِيرُهُ وَيَنْفَعُ قَلِيلُهُ كَالسَّقَمُونْيَا وَالْأَفْيُونِ جَازَ بَيْعُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قَتَلَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُ بَيْعِهِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَمَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَوَالِدُهُ إلَى الْجَوَازِ لِيُدَسَّ فِي طَعَامِ الْكَافِرِ1.
فَرْعٌ: آلَاتُ الْمَلَاهِي كَالْمِزْمَارِ وَالطُّنْبُورِ وَغَيْرِهِمَا إنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تُعَدُّ بَعْدَ الرَّضِّ وَالْحَلِّ مَالًا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ شَرْعًا، وَهَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ إلَّا الْمُتَوَلِّيَ وَالرُّويَانِيَّ فَحَكَيَا فِيهِ وَجْهًا فِيهِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَهُوَ شَاذٌّ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ رُضَاضُهَا يُعَدُّ مَالًا فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهَا وَبَيْعِ الْأَصْنَامِ وَالصُّوَرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهُ" الْبُطْلَانُ وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ والثاني: الصِّحَّةُ والثالث: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْمُتَوَلِّي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ أَنَّهُ إنْ اُتُّخِذَ مِنْ جَوْهَرٍ نَفِيسٍ صَحَّ بَيْعُهَا، وَإِنْ اُتُّخِذَ مِنْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ فَلَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ وَالْمَذْهَبُ الْبُطْلَانُ مُطْلَقًا، قَالَ: وَبِهِ قَطَعَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ: يُكْرَهُ بَيْعُ الشِّطْرَنْجِ قَالَ الْمُتَوَلِّي. وَأَمَّا الْخَرَزُ فَإِنْ صَلُحَ لِبَيَادِقِ2 الشِّطْرَنْجِ فَكَالشِّطْرَنْجِ وَإِلَّا فَكَالْمِزْمَارِ.
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي لَبَنُ الْأُضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْحَالِ وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهُ قَالَ وَكَذَا لَبَنُ صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا أَبَحْنَا لِلْفُقَرَاءِ شُرْبَهُ وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ
فرع: يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ كَنِصْفٍ مِنْ عَبْدٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ خَشَبَةٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ شَجَرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَمْ لَا، كَالْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ لِلْإِجْمَاعِ فَلَوْ بَاعَ بَعْضًا شَائِعًا مِنْ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَدَارٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَبَاعَ النِّصْفَ الَّذِي لَهُ بِالنِّصْفِ الَّذِي لِصَاحِبِهِ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أحدهما: لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وأصحهما: يَصِحُّ وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي لِوُجُودِ شَرَائِطِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ مِنْ سِكَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ صَاعًا بِصَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ النِّصْفَ الَّذِي كَانَ لِصَاحِبِهِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا: لَوْ كَانَا جَمِيعًا أَوْ أَحَدُهُمَا قَدْ مَلَكَ نَصِيبَهُ بِالْهِبَةِ مِنْ وَالِدِهِ انْقَطَعَتْ سُلْطَةُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السموم اليوم ومشتقاتها تستعمل في أمراض كثرة لمصلحة الإنسان فمنها ما يستعمل لتداوي من الظاهر ومنها ما يستعمل للنظافة وإزالة إزلة الأوساخ كالمساحيق المنظفة, ومنها ما يستعمل لإبادة الهوام والحشرات المؤذية والتي تنقل الجراثيم والمواد القدرة على الطعام والشراب فهي مباحة من حيث الصناعة والبيع والشراء.
2 بيادق الشطرنج عساكره صغرى قطعة المتحركة وأبطؤها وأما كراهة بيعه فلكراهة لعبه وهو إذا أفضى إلى التلهي عن واجب في الدين أو مهم من الدنيا وقد يكون حراما إذا تفاحش اللهو به أما إذا استعمل لترويض الذهن على التركيز والتنظيم فلا بأس وقد يستعمله اطباء النفس في العللج فيكون مستحبا وقد كان بعض الصحابة كأبي هريرة وغير يشطرجون وكان من التابعين سعيد بن جبير يلعبه مستديرا (ط).

 

 

ج / 9 ص -187-       لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ.
ومنها: لَوْ مَلَكَهُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بَعْدَ هَذَا التَّصَرُّفِ لَمْ يَمْلِكْ الرَّدَّ عَلَى بَائِعِهِ.
ومنها: لَوْ مَلَكَهُ بِالصَّدَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ.
ومنها: لَوْ اشْتَرَى النِّصْفَ وَلَمْ يُؤَدِّ ثَمَنَهُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ هَذَا التَّصَرُّفِ لَوْ بَاعَ النِّصْفَ الَّذِي لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَفِي الصِّحَّةِ الْوجهان أصحهما: الصِّحَّةُ، وَيَصِيرُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَالْمُتَوَلِّي وَاسْتَبْعَدَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَنْذُورِ إعْتَاقُهُ كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.