المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

التكملة الثانية

المجموع شرح المهذب

الجزء الثالث عشر

دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع

(13/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ الله:

باب بيع المرابحة

(من اشترى سلعة جاز له بيعها برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه، لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " ويجوز أن يبيعها مرابحة، وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح بأن يقول: ثمنها مائة، وقد بعتكها برأس مالها وربح درهم في كل عشرة، لما روى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كان لا يرى بأسا بده يازده وده دوازده (1) ولانه ثمن معلوم فجاز البيع به، كما لو قال: بعتك بمائة وعشرة ويجوز أن يبيعها مواضعة بأن يقول: رأس مالها مائة، وقد بعتك برأس ماله ووضع درهم (2) من كل عشرة لانه ثمن معلوم فجاز البيع به، كما لو قال: بعتك بمائة إلا عشره، ويجوز أن يبيع بعضه مرابحة، فان كان مما لا تختلف أجزاؤه كالطعام والعبد الواحد قسم الثمن على أجزائه وباع ما يريد بيعه منه بحصته، وإن كان مما يختلف كالثوبين والعبدين قومهما وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما ثم باع ما شاء منهما بحصته من الثمن، لان الثمن ينقسم على المبيعين على قدر قيمتهما، ولهذا لو اشترى سيفا وشقصا بألف قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، ثم أخذ الشفيع الشقص بما يخصه من الثمن على قدر قيمته.
__________
(1) قوله " لا يرى بأسا بده يازده وده دوازده " ده عشرة بالفارسية، ويازده أحد عشر ودوازده اثنا عشر، أي لا يرى بأسا أن يبيع ما اشتراه بعشرة بأحد عشر أو بإثنى عشر (2) قوله " ووضع درهم " أي حط درهم.
يقال وضع له في البيع من الثمن أي حط عنه

(13/3)


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد
فيقول محمد نجيب المطيعى عفا الله عنه بهذا القيل:
(الشرح) الحديث أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة ابن الصامت بلفظ " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إذَا كَانَ يَدًا بيد " ورواه أبو داود بنحوه وفى آخره " وَأُمِرْنَا أَنْ نَبِيعَ الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يدا بيد كيف شئنا " وحديث عبد الله بن مسعود سبق تخريجه، وابن مسعود هو سادس من أسلم روى لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 84 حديثا اتفق الشيخان على 64 منها وانفرد البخاري ب 20 ومسلم ب 35 وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في سمته وهديه، ولى القضاء بالكوفة وبيت مالها في خلافة عمر وصدرا من خلافة عثمان أما أحكام الفصل فإن المرابحة بصورتها المعروفة جائزة بالاتفاق، ولكن كره ذلك ابن عباس وابن عمر، ولم يجوزها اسحاق بن راهويه، واتفقوا على أنه إذا اشترى بثمن مؤجل لم يجز بمطلق بل يجب البيان.
وقال الاوزاعي: يلزم العقد
إذا أطلق ويثبت الثمن في ذمته مؤجلا، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يثبت للمشترى الخيار إذا لم يعلم بالتأجيل، ووجه هذه المسائل بواعث مختلفة بينهم بين مشدد ومخفف على البائع أو على المشترى بحسب مداركهم فالشافعى يجيز بيع السلعة برأس مالها أو أقل منه أو أكثر من البائع وغيره قبل نقد الثمن وبعده.
وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد لا يجوز بيعها من بائعها بأقل من الثمن الذى ابتاعها به قبل نقد الثمن في المبيع الاول، ويجوز أن يبيع ما اشتراه مرابحة بالاتفاق، وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح قال في مجمع الابحر " المرابحة بيع ما شراه بما شراه به وزيادة، والتولية بيعه بلا زيادة ولا نقص، والوضيعة بيعه بأنقص منه " قلت ويجوز أن يضيف إلى الثمن الاول نفقات الصناعة والطراز والنقل مع بيانها وإيضاحها لمن يبتاعها

(13/4)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يخبر إلا بالثمن الذى لزم به البيع، فإن اشترى بثمن ثم حط البائع عنه بعضه، أو ألحق به زيادة، نظرت فإن كان بعد لزوم العقد لم يلحق ذلك بالعقد، ولم يحط في بيع المرابحة ما حط عنه، ولا يخبر بالزيادة فيما زاد، لان البيع استقر بالثمن الاول، فالحط والزيادة تبرع لا يقابله عوض فلم يتغير به الثمن، وإن كان ذلك في مدة الخيار لحق بالعقد وجعل الثمن ما تقرر بعد الحط والزيادة.
وقال أبو على الطبري: إن قلنا إن المبيع ينتقل بنفس العقد لم يلحق به لان المبيع قد ملكه بالثمن الاول فلم يتغير بما بعده، والمذهب الاول لانه وإن كان قد انتقل المبيع إلا أن البيع لم يستقر، فجاز أن يتغير الثمن بما يلحق به.
وإن اشترى ثوبا بعشرة وقصره بدرهم ورفاه بدرهم وطرزه بدرهم، قال هو على
بثلاثة عشر، أو قام على بثلاثة عشرة وما أشبه ذلك، ولا يقول اشتريت بثلاثة عشر، ولا يقول ثمنه ثلاثة عشر، لان ذلك كذب وإن قال رأس مالى ثلاثة عشر ففيه وجهان " أحدهما " لا يجوز أن يقول لان رأس المال هو الثمن، والثمن عشرة " والثانى " يجوز لان رأس المال ما وزن فيه، وقد وزن فيه ثلاثة عشر، وإن عمل فيه ذلك بيده قال: اشتريته بعشرة، وعملت فيه ما يساوى ثلاثة.
ولا يقول هو على بثلاثة عشر، لان عمله لنفسه لا أجرة له.
ولا يتقوم عليه وإن اشترى عينا بمائة ووجد بها عيبا وحدث عنده عيب آخر فرجع بالارش وهو عشرة دراهم.
قال هي على بتسعين أو تقوم على بتسعين، ولا يجوز أن يقول الثمن مائة، لان الرجوع بالارش استرجاع جزء من الثمن، فخرج عن أن يكون الثمن مائة، ولا يقول اشتريتها بتسعين، لانه كذب، وإن كان المبيع عبدا فجنى ففداه بأرش الجناية لم يضف ما فداه به إلى الثمن، لان الفداء جعل لاستبقاء الملك فلم يضف إلى الثمن كعلف البهيمة، وإن جنى عليه فأخذ الارش ففيه وجهان:
(أحدهما)
انه لا يحط من الثمن قدر الارش، لانه كما لا يضيف ما فدى به

(13/5)


الجناية إلى الثمن لا يحط ما أخذ عن أرش الجناية عن الثمن
(والثانى)
أنه يحط لانه عوض عن جزء تناوله البيع فحط من الثمن كأرش العيب وإن حدثت من العين فوائد في ملكه كالولد واللبن والثمرة لم يحط ذلك من الثمن لان العقد لم يتناوله، وان أخذ ثمرة كانت موجودة عند العقد أو لبنا كان موجودا حال العقد حط من الثمن، لان العقد تناوله وقابله يقسط من الثمن، فأسقط ما قابله، وان أخذ ولدا كان موجودا حال العقد، فإن قلنا ان الحمل له
حكم فهو كاللبن والثمرة، وان قلنا لا حكم له لم يحط من الثمن شيئا، وان ابتاع بثمن مؤجل لم يخبر بثمن مطلق، لان الاجل يأخذ جزءا من الثمن، فإن باعه مرابحة ولم يخبره بالاجل ثم علم المشترى بذلك ثبت له الخيار لانه دلس عليه بما يأخذ جزءا من الثمن.
فثبت له الخيار، كما لو باعه شيئا وبه عيب ولم يعلمه بعيبه.
وإن اشترى شيئا بعشرة وباعه بخمسة، ثم اشتراه بعشرة أخبر بعشرة ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن، فإن اشترى عشرة وباع بخمسة عشر، ثم اشتراه بعشرة أخبر بعشرة، ولا يحط ما ربح من الثمن، لان الثمن ما ابتاع به في العقد الذى هو مالك به، وذلك عشرة، وإن اشترى بعشرة ثم واطأ غلامه فباع منه ثم اشتراه منه بعشرين ليخبر بما اشتراه من الغلام كره ما فعله، لانه لو صرح بذلك في العقد فسد العقد، فإذا قصده كره، فان أخبر بالعشرين في بيع المرابحة جاز لان بيعه من الغلام كبيعه من الأجنبي في الصحة فجاز أن يخبر بما اشترى به منه، فان علم بذلك المشترى لم يثبت له الخيار، لان شراءه بعشرين صحيح (الشرح) قوله " لان ذلك كذب " هذا جريا على قاعدة " تبايعا وقولوا لا خلابة " وحديث ابن مسعود " لا تحل الخلابة لمسلم " وعلى هذا يقول أبو حنيفة: لا يقول شريته بكذا، وانما يقول قام على بكذا.
وقال في مجمع الابحر " ولا يضم نفقته ولا أجر الراعى أو الحارس أو بيت الحفظ فان ظهر للمشترى خيانة في المرابحة خير في أخذه بكل ثمنه، وعند أبى يوسف يحط من الثمن قدر الخيانة مع حصتها من الربح وعند محمد يخير.
اه

(13/6)


وقد عنى شيخ الاسلام ابن تيمية في فتاواه الكبرى بهذا النوع من الخديعة فأبطل العقد وحمل على مجيزيه بالرأى والقياس
وفى الترغيب في الصدق عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ " رواه الدارمي وقال: لا علم لى به أن الحسن سمع من أبى سعيد.
وقال أبو حمزة: هذا هو صاحب ابراهيم بن ميمون الاعور.
ورواه الحاكم والترمذي وحسنه.
وفى هذا الحديث بحث طويل سنعرض له في كنز العمال إن شاء الله تعالى قوله " ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن " كذا هو مقرر في المذهب أنه لا يرابح إلا على الثمن الاخير، وعند أبى حنيفة تمتنع المرابحة إذا شراه ثانية بأقل مما باعه أولا، وعند الصاحبين محمد وأبى يوسف موافقة المصنف من جواز المرابحة على الثمن الاخير.
(فائدة) إذا اشترى مديون مأذون بعشرة وباعه من سيده بخمسة عشر أو بالعكس، فإنه يرابح على عشرة، لان العقد بينهما وإن كان صحيحا ولكن له شبهة العدم، لان العبد ملكه، وما في يده لا يخلو عن حقه، فصار كأنه اشتراه للمولى بعشرة فيعتبر هذا لا غير.
وقولنا " مديون " فمن باب أولى أن يرابحه مع عدم الدين لوجود ملك المولى فيه بالاجماع، والمكاتب كالعبد المأذون له.
أما المضارب بالنصف لو شرى بعشرة وباع من رب المال بخمسة عشر يرابح رب المال اثنى عشر ونصف، ويرابح بلا بيان لو اعورت المبيعة أو وطئت وهى ثيب، أو أصاب الثوب قرض فأرة أو حرق نار، فلا يجب عليه البيان عند أبى حنيفة.
أي لا يجب أن يقول إنى شريتها سليمة بكذا فأعورت في يدى، أو أصاب الثوب قرض فأرة مثلا، لان جميع ما يقابله الثمن قائم، لان الفائت وصف فلا يقابله شئ من الثمن إذا فات بلا صنع أحد.
هذا فيما يتعلق ببيان الثمن قبل العيب.
أما العيب نفسه فيجب بيانه بالكتاب والسنة والاجماع لحديث
العداء بن خالد الذى رواه الجماعة، كتب لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(13/7)


" هذا ما باع مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ لَا داء ولا خبثة ولا غائلة " فيجب بيان العيب بغير أن يبين أنه اشتراه سليما بكذا من الثمن ثم أصابه العيب، وهذا كله فيما إذا كان العيب يسيرا.
أما إذا كان العيب كبيرا كبرا يتغابن الناس فيه فإنه لا يجوز بيعه مرابحة.
أما إذا وطئت وهى بكر أو تكسر الثوب من طيه ونشره لزم البيان، وإن اشترى بنسيئة ورابح بلا بيان خير المشترى، فان أتلفه ثم علمه لزم كل ثمنه، وكذا التولية.
وهو أن يقول: ولنى ما اشتريته بالثمن، فقال وليتك، صح إذا كان الثمن معلوما لهما فإن جهله أحدهما لم يصح (فائدة) لو اشترى ثوبين صفقة كلا بخمسة لا يجوز بيع أحدهما مرابحة بخمسة بلا بيان، لانه لو كان واحدا جاز بيع نصفه مرابحة اتفاقا، ولو باع بالزائد على الخمسة لا يجوز.
ولا يصح بيع المقول قبل قبضه، ويصح في العقار، خلافا لمحمد بن الحسن من أصحاب ابى حنيفة.
ومن اشترى كيليا لا يجوز له بيعه ولا أكله حتى يكيله، ويكفى كيل البائع بعد العقد بحضرة المشترى لا في غيبته، ومثل ذلك الوزنى والعددي لا المذروع ولا المقيس بالامتار أو الياردة، فقد مر في كلام السبكى رحمه الله في عدم وجوب ذلك في الاثواب المنضدة المختومة لما يترتب على قياسها من تكسير وإتلاف ويتعلق الاستحقاق بكل ذلك فيرابح ويولى على كل ذلك إن زيد، وعلى ما بقى إن حط، قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قال رأس المال مائة وقد بعتكه برأس المال وربح درهم في كل عشرة أو بربح ده يازده، فالثمن مائة وعشرة، وان قال بعتك برأس المال ووضع ده يازده، فالثمن أحد وتسعون درهما إلا جزءا من أحد عشر جزءا من درهم لان معناه بعتك بمائة على أن أضع درهما من كل أحد عشر درهما، فسقط من تسعة وتسعين درهما تسعة دراهم، لانها تسع مرات أحد عشر ويبقى من رأس

(13/8)


المال درهم فيسقط منه جزء من أحد عشر جزءا، فيكون الباقي أحدا وتسعين درهما إلا جزءا من أحد عشر جزءا من درهم.
وإن قال بعتك على وضع درهم من كل عشرة ففى الثمن وجهان " أحدهما " أن الثمن أحد وتسعون درهما إلا جزءا من أحد عشر جزءا من درهم، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله " والثانى " أن الثمن تسعون درهما، وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب الطبري، وهو الصحيح، لان المائة عشر مرات عشرة، فإذا وضع من كل عشرة درهما بقى تسعون (الشرح) هذه الصور التى عرض لها المصنف تناولنا حكمها في الفائدة السابق ذكرها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا أخبر أن رأس المال مائة وباع على ربح درهم في كل عشرة ثم قال: أخطأت أو قامت البينة أن الثمن كان تسعين فالبيع صحيح.
وحكى القاضى أبو حامد وجها آخر أن البيع باطل، لانه بان أن الثمن كان تسعين وأن ربحها تسعة، وهذا كان مجهولا حال العقد، فكان العقد باطلا، والمذهب الاول، لان البيع عقد على ثمن معلوم، وانما سقط بعضه بالتدليس، وسقوط بعض الثمن لا يفسد البيع كسقوط بعض الثمن بالرجوع بأرش العيب.
وأما الثمن
الذى يأخذه به ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه مائة وعشرة، لان المسمى في العقد مائة وعشرة، فإذا بان تدليس من جهة البائع لم يسقط من الثمن شئ، كما لو باعه شيئا بثمن فوجد به عيبا.

(والثانى)
أن الثمن تسعة وتسعون، وهو الصحيح، لانه نقل ملك يعتبر فيه الثمن الاول، فإذا أخبر بزيادة وجب حط الزيادة كالشفعة والتولية، ويخالف العيب، فإن هناك الثمن هو المسمى في العقد، وههنا الثمن هو رأس المال وقدر الربح، وقد بان أن رأس المال تسعون والربح تسعة

(13/9)


فإن قلنا ان الثمن مائة وعشرة فهو بالخيار بين أن يمسك المبيع بالثمن وبين أن يفسخ، لانه دخل على أن يأخذ المبيع برأس المال.
وهذا أكثر من رأس فثبت له الخيار.
وان قلنا ان الثمن تسعة وتسعون فهل يثبت له الخيار؟ اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان
(أحدهما)
أن له الخيار، لانه ان كان قد أخطأ في الخبر الاول لم يأمن أن يكون قد أخطأ في الثاني، وأن الثمن غيره، وان كان قد خان في الاول فلا يأمن أن يكون قد خان في الثاني، فثبت له الخيار (والقول الثاني) وهو الصحيح أنه لا خيار له، لان الخيار انما يثبت لنقص وضرر، وهذا زيادة ونفع، لانه دخل على أن الثمن مائه وعشرة وقد رجع إلى تسعة وتسعين، فلا وجه للخيار.
ومنهم من قال: ان ثبتت الخيانة بإقرار البائع لزم المشترى تسعة وتسعون ولا خيار له، وان ثبتت بالبينة فهل له الخيار أم لا؟ فيه قولان، لانه إذا ثبتت بالاقرار دل على أمانته، فلم يتهم في خيانة أخرى.
وإذا ثبتت بالبينة كان متهما
في خيانة أخرى فثبت له الخيار.
قال أصحابنا: القولان إذا كانت العين باقية، فأما إذا تلفت العين فانه يلزم البيع بتسعة وتسعين قولا واحدا، لانا لو جوزنا له فسخ البيع مع تلف العين رفعنا الضرر عنه وألحقناه بالبائع، والضرر لا يزول بالضرر، ولهذا لو هلك المبيع عنده ثم علم به عيبا لم يملك الفسخ، فإن قلنا لا خيار له، أو قلنا له الخيار فاختار البيع فهل يثبت للبائع الخيار؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يثبت له الخيار، لانه لم يرض الا الثمن المسمى وهو مائة وعشرة، ولم يسلم ذلك
(والثانى)
لا خيار له لانه رضى برأس المال وربحه وقد حصل له ذلك (الشرح) قوله " فالبيع صحيح " هذا قول عند الاصحاب أو وجه، وعند الحنابلة كراهة بعض ما مر جوازه عند الشافعية وأصحاب أبى حنيفة.
قال ابن قدامة في المغنى: وان قال بعتك برأس مالى فيه، وهو مائة، وأربح في كل عشرة درهما.
أو قال: ده يازده أو ده داوزده فقد كرهه أحمد، وقد رويت كراهته

(13/10)


عن ابن عمر وابن عباس ومسروق والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار.
وقال إسحاق: لا يجوز لان الثمن مجهول حال العقد فلم يجز، كما لو باعه بما يخرج به في الحساب.
قال ورخص فيه سعيد بن المسيب وابن سيرين وشريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأى وابن المنذر، ولان رأس المال معلوم فأشبه ما لو قال وربح عشرة دراهم.
ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه ولم نعلم لهما في الصحابة مخالفا، ولان فيه نوعا من الجهالة، والتحرز عنها أولى.
وهذه كراهة تنزيه والعقد صحيح، والجهالة يمكن إزالتها بالحساب: كما لو باعه صبرة كل قفيز بدرهم.
وأما ما يخرج به في الحساب فمجهول في الجملة والتفصيل إذا ثبت هذا فنقول: متى باع شيئا برأس ماله وربح عشرة ثم علم بتنبيه أو
إقرار أن رأس ماله تسعون فالبيع صحيح، لانه زيادة في الثمن، فلم يمنع صحه العقد كالعيب وللمشترى الرجوع على البائع بما زاد في رأس المال وهو عشرة وحطها من الربح وهو درهم فيبقى على المشترى بتسعة وتسعين درهما، وبهذا قال الشافعي في الجديد، وبه قال الثوري وابن أبى ليلى وقال أبو حنيفة: هو مخير بين الاخذ بكل الثمن أو يترك قياسا على المعيب وحكى الشافعي في أحد قوليه أنه إذا باعه برأس ماله وما قدره من الربح، فإذا بان رأس ماله قدرا كان مبيعا به، وبالزيادة التى اتفقا عليها، والمعيب كذلك عند الحنابلة فإن له أخذ الارش، ثم المعيب لم يرض به إلا بالثمن المذكور، وههنا رضى فيه برأس المال والربح المقرر.
وهل للمشترى خيار؟ فعند الشافعي في أحد قوليه نعم لان المشترى لا يأمن الخيانة في هذا الثمن أيضا، ولانه ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن بعينه لكونه حالفا أو وكيلا أو غير ذلك.
والمنصوص عن أحمد أن المشترى مخير بين أخذ المبيع برأس ماله وحصته من الربح، وبين تركه قولا واحدا.
نقله حنبل قال في المغنى: وظاهر كلام الخرقى أنه لا خيار له (قلت) وهو مخالف للامام كما قاله حنبل والقول الآخر عند الشافعية لا، لانه رضيه بمائة وعشرة فإذا حصل له بتسعة

(13/11)


وتسعين فقد زاده خيرا، فلم يكن له خيار، كما لو اشتراه على أنه معيب فبان صحيحا، أو أمي فبان صانعا، أو كاتبا، أو وكل في شراء معين بمائة فاشتراه بتسعين.
وأما البائع فلا خيار له، لانه باعه برأس ماله وحصته من الربح وقد حصل له ذلك.
وإذا اشترى سلعة وأراد بيعها فحط له بائعها من ثمنها بعد لزوم العقد أخبر
بثمنها قبل أن يحط البائع منها.
قال الشافعية وأصحاب أحمد وأبى حنيفة: له أن يخبر بالثمن الاول لا غير، ولان ذلك هبة من أحدهما للآخر لا يكون عوضا وقال أبو حنيفة: يلحق بالعقد ويخبر به في المرابحة أما إذا كان هذا الحط في مدة الخيار وقبل لزوم العقد وجب الاخبار به في المرابحة باتفاق.
وفى تغيير السلعة بنقص، كأن تتغير بتلف بعضها أو بولادة أو عيب أو أخذ البائع بعضها كالصوف واللبن الموجود ونحو ذلك فإنه يخبر بالحال على وجهه، وإن أخذ أرش العيب أو الجناية أخبر بذلك على وجهه.
وقال أبو الخطاب من الحنابلة يحط أرش العيب من الثمن ويخبر بالباقي، لان أرش العيب عوض ما فات به، فكان ثمن الموجود هو ما بقى، وفى أرش الجناية وأرش العيب، قال الشافعي يحطهما من الثمن ويقول تقوم على بكذا، لانه صادق فيما أخبر به، فأشبه ما لو أخبر بالحال على وجهه فأما ان جنى المبيع ففداه المشترى لم يلحق ذلك بالثمن ولم يخبر به في المرابحة لان هذا الارش لم يزد به المبيع قيمة، فأشبه الدواء المزيل لمرضه الحادث عند المشترى، وانما هو مزيل لنقصه بالجناية، والعيب الحاصل بتعلقها برقبته فأشبه الدواء كما قلنا.
وأما ال؟ ؟ ير بالزيادة فكالزيادة في نمائها وسمنها أو تعلم صنعة أو ولادة أو ثمرة مجتناة، أو كسب عمل يدوى، فهذا إن أراد أن يبيعها مرابحة أخبر بالثمن من غير زيادة لانه القدر الذى اشتراها به.
وان أخذ النماء المنفصل كالولد أو الثمرة المجتناة أو استخدم الامة أو وطئ الثيب أخبر برأس المال ولم يلزمه تبيين الحال لان ذلك بمثابة الخدمة.
وروى

(13/12)


ابن المنذر عن احمد أنه يلزمه تبيين ذلك كله.
وهو قول اسحاق.
وقال أصحاب
الرأى في الغلة يأخذها: لا بأس أن يبيع مرابحة، وفى الولد والثمرة لا يبيع مرابحة حتى يبين ولانه موجب العقد.
وعند ابن قدامة من الحنابلة أنه إن كان صادقا من غير تغرير جاز، كما لو لم يزد، ولان الولد والثمرة نماء منفصل فلم يمنع من بيع المرابحة بدون ذكره كالغلة.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن أخبر أن الثمن مائة وربحه عشرة، ثم قال أخطأت والثمن مائة وعشرة لم يقبل قوله، لانه رجوع عن إقرار متعلق به حق آدمى فلم يقبل، كما لو أقر له بدين.
وإن قال: لى بينة على ذلك لم تسمع، لانه كذب بالاقرار السابق بينته فلم تقبل.
فإن قال أحلفوا لى المشترى أنه لا يعلم أن الثمن مائة وعشرة، ففيه طريقان
(أحدهما)
أنه إن قال ابتعته بنفسى لم يحلف المشترى لان إقراره يكذبه، وإن قال ابتاعه وكيل لى فظننت أنه ابتاع بمائة وقد بان لى أنه ابتاع بمائة وعشرة حلف لانه الآن لا يكذبه إقراره.

(والثانى)
أنه يبنى على القولين في يمين المدعى مع نكول المدعى عليه، فإن قلنا إنه كالبينة لم يعرض اليمين، لانه إذا نكل حصلنا على بينه، والبينة لا تسمع.
وإن قلنا: انه كالاقرار عرضنا اليمين، لانه إذا نكل حصلنا على الاقرار، وإقراره مقبول (الشرح) ثم انتقل المصنف رحمه الله إلى التغير بالزيادة: ومن التغير بالزيادة أن يعمل فيها عملا، كأن يقصرها تجميلا لها أو يرفوها أو يحيكها، فهذه متى أراد أن يبيعها مرابحة أخبر بالحال على وجهه.
وإن اشترى شيئين صفقة واحدة ثم أراد بيع أحدهما مرابحة، أو اشترى
اثنان شيئا فتقاسماه وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة بالثمن الذى أداه فيه،

(13/13)


فذلك قسمان
(أحدهما)
أن يكون المبيع من المتقومات التى لا ينقسم الثمن عليها بالاجزاء، كالثياب والحيوان والشجرة المثمرة وأشباه هذا، فهذا لا يجوز بيع بعضه مرابحة حتى يخبر بالحال على وجهه.
هكذا نص عليه أحمد فقال: كل بيع اشتراه جماعة ثم اقتسموه، لا يبيع احدهم مرابحة إلا أن يقول: اشتريناه جماعة ثم اقتسمناه.
وهذا مذهب الثوري وإسحاق وأصحاب الرأى قال الشافعي: يجوز بيعه بحصته من الثمن، لان الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته، بدليل ما لو كان المبيع شقصا وسيفا أخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن.
ولو اشترى شيئين فوجد أحدهما معيبا رده بحصته من الثمن.
وذكر ابن أبى موسى فيما اشتراه اثنان فتقاسماه رواية أخرى عن أحمد أنه يجوز بيعه مرابحة بما اشتراه لان ذلك ثمنه فهو صادق فيما أخبر به قال ابن قدامة: ولنا أن قسمة الثمن على المبيع طريقه الظن والتخمين، وأحتمال الخطأ فيه كثير وبيع المرابحة أمانة فلم يجز هذا فيه، فصار هذا كالخرص الحاصل بالظن لا يجوز أن يباع به ما يجب التماثل فيه، وانما أخذ الشفيع بالقيمة للحاجة الداعية إليه.
وكونه لا طريق له سوى التقويم، ولانه لو لم يأخذ بالشفعة لاتخذه الناس طريقا لاسقاطها فيؤدى إلى تفويتها بالكلية، وههنا له طريق وهو الاخبار بالحال على وجهه أو بيعه مساومة.
هكذا ملخصا من السبكى وابن الرفعة وشارح المنهاج من الشافعية وابن قدامة وابن عساكر والخرقى من الحنابلة ومجمع الابحر ومراقي الفلاح من الحنفية، والبغية والكفاية والشرحين الكبير والصغير من المالكية، ونيل الاوطار وفتح الباري وشرح القسطلانى على البخاري والفتاوى الكبرى
لابن تيمية والمحلى لابن حزم من كتب المحدثين

قال المصنف رحمه الله:

(باب النجش والبيع على بيع أخيه، وبيع الحاضر للبادى، وتلقى الركبان والتسعير، والاحتكار)
ويحرم النجش، وهو أن يزيد في الثمن ليغر غيره، والدليل عليه ما روى

(13/14)


ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نهى عن النجش، ولانه خديعة ومكر، فإن اغتر الرجل بمن ينجش فابتاع فالبيع صحيح، لان النهى لا يعود إلى البيع فلم يمنع صحته، كالبيع في حال النداء، فإن علم المبتاع بذلك نظرت فإن لم يكن للبائع فيه صنع لم يكن للمبتاع الخيار لانه ليس من جهة البائع تدليس.
وإن كان النجش بمواطأة من البائع ففيه قولان.

(أحدهما)
أن له الخيار بين الامساك والرد، لانه دلس عليه فثبت له الرد، كما لو دلس عليه بعيب
(والثانى)
لا خيار له، لان المشترى فرط في ترك التأمل وترك التفويض إلى من يعرف ثمن المتاع الشرح: - هذا الباب يشتمل على الانواع الآتية: (النجش) وهو في اللغة بفتح النون وسكون الجيم بعدها شين معجمة، وهو تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد.
يقال: نجشت الصيد أنجشه - من باب نصر - وفى الشرع الزيادة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الاثم، ويقع ذلك بغير علم المشترى، فيستفيد الناجش، وقد يختص به البائع، كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما
اشتراها به ليغر بذلك غيره.
قال الشافعي: النجش أن يحضر السلعة بتاع فيعطى بها الشئ وهو لا يريد شراءها ليقتدى به السوام، فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يسمعوا سومه.
وقال ابن قتيبة " النجش الختل والخديعة " ومنه قيل للصائد ناجش، لانه يختل الصيد (1)
__________
(1) في حاشية الاصل " الناجش الذى يحوش الصيد.
والنجش أن تزيد في البيع ليقع غيرك وليس من حاجتك، وفى الحديث لا تناجشوا

(13/15)


قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع إذا وقع على ذلك، وهو قول أهل الظاهر، ورواية عن مالك وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان بمواطأة البائع أو صنعته، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار وهو قول الحنفية، وقد اتفق أكثر العلماء على تفسير النجش في الشرع بما تقدم، وقد فسره ابن عبد البر وابن حزم وابن العربي بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل ووافقهم على ذلك لبعض المتأخرين من الشافعية وهو تقييد للنص بغير مقتض للتقييد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)
ويحرم أن يبيع على بيع أخيه، وهو أن يجئ إلى من اشترى شيئا في مدة الخيار فيقول: افسخ فإنى أبيعك أجود منه بهذا الثمن، أو أبيعك مثله بدون هذا الثمن، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولان في هذا إفسادا وإنجاشا فلم يحل، فإن قبل منه وفسخ البيع واشترى منه صح البيع، لما ذكرناه في النجش.
(الشرح) أما حديث ابن عمر فقد رواه البخاري ومسلم.
وأما حديث أبى هريرة فهو متفق عليه، وللنسائي: من طريق ابن عمر " لا يبع أحدكم على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر ".
وفى رواية أحمد عن ابن عمر " لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له " وقد تتابعت أحاديث النهى عن أبى هريرة عند الشيخين وعن عقبة بن عامر عند مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يبع، الاكثر بإثبات الياء على أن لا نافية، ويحتمل أن يكون استثناء من الحكمين، ويحتمل أن يختص بالاخير، والخلاف في ذلك وبيان الراجح مستوفى في الاصول.
ويدل على الثاني في خصوص هذا المقام رواية البخاري التى ذكرناها

(13/16)


(قوله) " لا يخطب الرجل إلخ " وسيأتى الكلام على الخطبة في المناكحات إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ الله تعالى:
(فصل)
ويحرم أن يدخل على سوم أخيه، وهو أن يجئ إلى رجل أنعم لغيره في بيع سلعة بثمن فيزيده ليبيع منه، أو يجئ إلى المشترى فيعرض عليه مثل السلعة بدون ثمنها أو أجود منها بذلك الثمن، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسم على سوم أخيه، ولان في ذلك إفسادا أيضا وإنجاشا فلم يحل، فأما إذا جاء إليه فطلب منه متاعا فلم ينعم له، جاز لغيره أن يطلبه، لانه لم يدخل على سومه وإن طلبه منه فسكت ولم يظهر منه رد ولا إجابة ففيه قولان.
أحدهما: يحرم والثانى: لا يحرم، كالقولين في الخطبة على خطبة أخيه،
وأما إذا عرضت السلعة في النداء جاز لمن شاء أن يطلبها ويزيد في ثمنها، لما روى أنس رضى الله عنه عن رجل من الانصار أنه أصابه جهد شديد هو وأهل بيته، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ دلك له فقال.
ما عندي شئ، اذهب فأتني بما كان عندك، فذهب فجاء بحلس وقدح، فقال يا رسول الله هذا الحلس والقدح، فقال من يشترى هذا الحلس والقدح، فقال رجل أنا آخذهما بدرهم، فقال من يزيد على درهم، فسكت القوم.
قال من يزيد على درهم، فقال رجل أنا آخذهما بدرهمين، قال: هما لك، ثم قال ان المسألة لا تحل إلا لثلاثة لذى دم موجع، أو فقر مدقع، أو غرم مفظع، ولان في النداء لا يقصد رجلا بعينه، فلا يؤدى إلى النجش والافساد.
(الشرح) قوله " ولا يسوم " صورته أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول المالك رده لابيعك خير منه بثمنه، أو يقول للمالك.
استرده لاشتريه منك بأكثر، وإنما يمنع من ذلك بعد استقرار الثمن، وركون أحدهما إلى الآخر.
فان كان ذلك

(13/17)


تصريحا فقد قال في فتح الباري: لا خلاف في التحريم، وان كان ظاهرا ففيه وجهان في المذهب.
وقال ابن حزم: إن لفظ الحديث لا يدل على اشتراط الركون، وتعقب بأنه لابد من أمر مبين لموضع التحريم في السوم لان السوم في السلعه التى تباع فيمن يزيد لا يحرم اتفاقا كما حكاه في الفتح عن ابن عبد البر فتعين أن السوم المحرم ما وقع فيه قدر زائد على ذلك، وأما صورة البيع على البيع، والشراء على الشراء فهو ان يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لابيعك بأنقص، أو يقول للبائع افسخ لاشتري منك بأزيد.
قال في فتح الباري: وهذا مجمع عليه.
وقد اشترط بعض الشافعية في التحريم أن لا يكون المشترى مغبونا غبنا
فاحشا وإلا جاز البيع على البيع، والسوم على السوم لحديث: الدين النصيحة.
وأجيب عن ذلك بأن النصيحة لا تنحصر في البيع على البيع والسوم على السوم لانه يمكن أن يعرفه ان قيمتها كذا فيجمع بذلك بين المصلحتين كذا في الفتح.
قال الشوكاني: وقد عرفت أن أحاديث النصيحة أعم مطلقا من الاحاديث القاضية بتحريم أنواع من البيع فيبنى العام على الخاص.
واخلفوا في صحة البيع المذكور فذهب الجمهور إلى صحته مع الاثم وذهبت الحنابلة والمالكية إلى فساده في إحدى الروايتين عنهم وبه جزم ابن حزم في المحلى وابن تيمية في فتاواه الكبرى.
والخلاف يرجع إلى ما تقرر في الاصول من أن النهى المقتضى للفساد هو النهى عن الشئ لذاته، ولو صف ملازم لا لخارج.
وأما حديث أنس فقد رواه احمد والترمذي وحسنه وقال لا نعرفه إلا من حديث الاخضر بن عجلان عن أبى بكر الحنفي عنه، وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي، وأعله ابن القطان بجهل حال أبى بكر الحنفي، ونقل عن البخاري أنه قال لم يصح حديثه، ولفظ الحديث عند أبى داود وأحمد " أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه، فقال رجل هما على بدرهم، ثم قال آخرهما على بدرهمين " وفيه " إن المسأله لا تحل إلا لاحد ثلاثة ".

(13/18)


والحلس بكسر الحاء المهملة وسكون اللام كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير قاله الجوهرى، والحلس البساط أيضا ومنه حديث كن حلس بيتك حتى يأتيك يد خاطئة أو ميتة قاضية " كذا في النهاية لابن الاثير قوله " فيمن يزيد " فيه دليل على جواز بيع المزايدة وهو البيع على الصفة التى فعلها النبي صلى الله عليه وسلم.
وحكى البخاري عن عطاء أنه قال أدركت الناس لا يرون بأسا في بيع المغانم فيمن يزيد، ووصله ابن أبى شيبة عن عطاء ومجاهد وروى هو وسعيد بن منصور عن مجاهد قال لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الاخماس.
وقال الترمذي عقب حديث أنس المذكور: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لم يروا بأسا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث.
قال ابن العربي: لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث فإن الباب واحد والمعنى مشترك.
قال الامام الشوكاني: ولعلهم جعلوا تلك الزيادة التى زادها ابن خزيمة وابن الجارود والدارقطني قيدا لحديث أنس المذكور ولكن لم ينقل أن الرجل الذى باع عنه صلى الله عليه وسلم القدح والحلس كانا معه من ميراث أو غنيمة فالظاهر الجواز مطلقا، إما لذلك، وإما لالحاق غيرهما بهما ويكون ذكرهما خارجا مخرج الغالب لانهما الغالب على ما كانوا يعتادون البيع فيه مزايدة، وممن قال باختصاص الجواز بهما الاوزاعي وإسحاق.
ثم قال الشوكاني رحمه الله تعالى: وروى عن النخعي أنه كره بيع المزايدة، واحتج بحديث جابر الثابت في الصحيح أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مدبر " مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ الله بثمانمائة درهم " واعترضه الاسماعيلي فقال ليس في قصة المدبر بيع المزايدة، فإن بيع المزايدة أن يعطى به واحد ثمنا ثم يعطى به غيره زيادة عليه، نعم يمكن الاستدلال له بما أخرجه البزار من حديث سفيان بن وهب قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن بيع المزايدة لكن في اسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.

(13/19)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويحرم أن يبيع حاضر لباد، وهو أن يقدم رجل ومعه متاع يريد بيعه ويحتاج الناس إليه في البلد، فإذا باع اتسع، وإذا لم يبع ضاق، فيجئ إليه سمسار فيقول " لا تبع حتى أبيع لك قليلا قليلا، وأزيد في ثمنها " لما روى ابن طاوس عن أبيه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يبع حاضر لباد " قلت ما لا يبع حاضر لباد؟ قال " لا يكون سمسارا " وروى جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " فإن خالف وباع له صح البيع، لما ذكرناه في النحش، فإن كان البلد كبيرا لا يضيق على أهله بترك البيع ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز للخبر
(والثانى)
يجوز لان المنع لخوف الاضرار بالناس، ولا ضرر ههنا.
(الشرح) حديث ابن طاوس عن أبيه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم الخ.
أخرجه الجماعة إلا الترمذي.
وقوله " حاضر لباد " الحاضر ساكن الحضر والبادى ساكن البادية.
قال في القاموس: الحاضر والحاضرة والحضارة وتفتح خلاف البادية، والحضارة الاقامة في الحضر، وتبدى أقام في البادية، والنسبة بداوى وبدوي، وبدا القوم خرجوا إلى البادية وأما حديث جابر فقد رواه الجماعة الا البخاري، وفى مسند أحمد من طريق عطاء بن السائب عن عكيم بالعين المهملة ابن أبى يزيد عن أبيه حدثنى أبى قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل فلينصح له " ورواه البيهقى من حديث جابر مثله قال الشافعي في الام بعد سوق الحديثين، حديث ابن عمر وحديث جابر " وليس في النهى عن بيع حاضر لباد بيان معنى " والله أعلم لم نهى عنه، الا أن أهل البادية يقدمون جاهلين بالاسواق، ولحاجة الناس إلى ما قدموا به.
ومستثقلي
المقام فيكون أدنى إلى ما يبيع الناس من سلعهم، ولا بالاسواق فيرخصوها لهم، فنهوا - والله أعلم - لئلا يكون سببا لقطع ما يرجى من رزق المشترى من أهل

(13/20)


البادية لما وصفت من إرخاصه منهم.
فأى حاضر باع لباد فهو عاص إذا علم الحديث، والبيع لازم غير مفسوخ بدلالة الحديث نفسه، لان البيع لو كان مفسوخا لم يكن في بيع الحاضر للبادى إلا الضرر على البادى من أن يحبس سلعته ولا يجوز فيها بيع غيره حتى يلى هو أو باد مثله بيعها، فيكون كسدا لها، وأحرى أن يرزق مشتريه منه بإرخاصه إياها بإكسادها بالامر الاول من رد البيع وغرة البادى الآخر، فلم يكن ههنا معنى يمنع أن يرزق بعض الناس من بعض فلم يجز فيه - والله أعلم - إلا ما قلت من ان بيع الحاضر للبادى جائز غير مردود، والحاضر منهى عنه.
اه والشوكانى يرى أن أحاديث الفصل تدل على أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للبادى من غير فرق بين أن يكون البادى قريبا له أو أجنبيا، وسواء كان في زمن الغلاء أو لا، وسواء كان يحتاج إليه أهل البلد أم لا، وسواء باعه له على التدريج أم دفعة واحدة.
وقالت الحنفية: انه يختص المنع من ذلك بزمن الغلاء وبما يحتاج إليه أهل المصر.
وقالت الشافعية ووافقهم الحنابلة أن الممنوع إنما هو أن يجئ البلد بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال فيأتيه الحاضر فيقول: ضعه عندي لابيعه لك على التدريح بأغلى من هذا السعر.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري " فجعلوا الحكم منوطا بالبادى ومن شاركه في معناه قالوا وانما ذكر البادى في الحديث لكونه الغالب فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين، وجعلت المالكية البداوة قيدا.
وعن مالك لا يلتحق بالبدوى في ذلك الا من كان يشبهه، فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والاسواق فليسوا داخلين في ذلك.
وحكى ابن المنذر عن الجمهور أن النهى للتحريم إذا كان البائع عالما، والمبتاع مما تعم الحاجة إليه، ولم يعرضه البدوى على الحضرى، ولا يخفى أن تخصيص العموم بمثل هذه الامور من التخصيص بمجرد الاستنباط.
وقد ذكر ابن دقيق العبد فيه تفصيلا حاصله أنه يجوز التخصيص به حيث يظهر المعنى لا حيث يكون خفيا على أن الشوكاني رحمه الله من مجتهدي الهادوية يتردد في قبول هذه القاعدة

(13/21)


التى أخذ بها الجمهور فيقول: فاتباع اللفظ أولى ولكنه - أي الاستنباط - لا يطمئن الخاطر إلى التخصيص به مطلقا، ثم يقول: فالبقاء على ظواهر النصوص الاولى فيكون بيع الحاضر للبادى محرما على العموم، وسواء كان بأجرة أم لا.
وروى عن البخاري أنه حمل النهى على البيع بأجرة لا بغير أجرة، فإنه من باب النصيحة.
وروى عن عطاء ومجاهد وأبى حنيفة أنه يجوز بيع الحاضر للبادى مطلقا، وتمسكوا بأحاديث النصيحة.
وروى مثل ذلك عن الهادى وقالوا: إن أحاديث الباب منسوخة.
واستظهروا على الجواز بالقياس عن توكيل البادى للحاضر فإنه جائز، وردد الشوكاني رفضه لهذا الجواز بقوله ويجاب عن تمسكهم بأحاديث النصيحة بأنها عامة مخصصة بأحاديث ثم قال: فإن قيل إن أحاديث النصيحة وأحاديث الباب بينها عموم وخصوص من وجه، لان بيع الحاضر للبادى قد يكون على غير وجه النصيحة، فيحتاج حينئذ إلى الترجيح من خارج كما هو شأن الترجيح بين العمومين المتعارضين، فيقال المراد بيع الحاضر للبادى - الذى جعلناه أخص مطلقا - هو البيع الشرعي بيع المسلم للمسلم الذى بينه الشارع للامة، وليس بيع الغش والخداع داخلا في مسمى هذا البيع الشرعي، كما أنه لا يدخل فيه بيع الربا وغيره مما لا يحل شرعا، فلا يكون البيع باعتبار ما ليس بيعا شرعيا أعم من وجه حتى يحتاج إلى طلب مرجح بين العمومين، لان ذلك ليس هو البيع الشرعي ويجاب عن دعوى النسخ بأنها انما تصح عند العلم بتأخر الناسخ، ولم ينقل ذلك، ويرفض الشوكاني القياس لانه فاسد الاعتبار لمصادمته النص، ثم يجعل حكم البيع حكم الشراء مستندا إلى ما أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن ابن سيرين قال: لقيت أنس بن مالك فقلت لا يبع حاضر لباد، أنهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟ قال نعم، قال محمد " صدق " انها كلمة جامعة على أن الشافعي رضى الله عنه في تصحيحه للبيع مع الاثم يستدل بالحديث نفسه ولا يستدل بقياس أو قرينة فيقول، فأى حاضر باع لباد فهو عاص إذا علم الحديث، والبيع لازم غير مفسوخ بدلالة الحديث نفسه.
لان البيع لو كان يكون

(13/22)


مفسوخا لم يكن في بيع الحاضر للبادى الا الضرر على البادى من أن يحبس سلعته إلى آخر ما أورد في الام، وسبق نقله
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويحرم تلقى الركبان، وهو أن يتلقى القافلة ويخبرهم بكساد ما معهم من المتاع ليغبنهم، لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تتلقى السلع حتى يهبط بها الاسواق، ولان هذا تدليس وغرر فلم يحل، فإن خالف واشترى صح البيع لما ذكرناه في النجش، فإن دخلوا البلد فبان لهم الغبن كان لهم الخيار لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لا تلقوا الجلب، فمن تلقاها واشترى منهم فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق " ولانه غرهم ودلس عليهم فثبت لهم الخيار كما لو دلس عليهم بعيب.
وان بان لهم أنه لم يغبنهم ففيه وجهان " أحدهما " أن لهم الخيار للخبر " والثانى " لا خيار لهم لانه ما غر ولا دلس، وان خرج إلى خارج البلد لحاجة غير التلقى فرأى القافلة فهل يجوز أن يبتاع منهم؟ فيه وجهان " أحدهما " يجوز، لانه لم يقصد التلقى " والثانى " لا يجوز، لان المنع من التلقى للبيع، وهذا المعنى موجود وان لم يقصد التلقى فلم يجز (الشرح) أما فصل تحريم تلقى الركبان فان حديث ابن عمر رواه الشيخان وروياه أيضا من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بلفظ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تلقى البيوع " ورواه الجماعة الا الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بلفظ " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يتلقى الجلب، فان تلقاه انسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق " وقد ذكره الشافعي في الام بسنده.
أما لغات الفصل فقوله " بكساد " من باب قتل كسادا لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد، ويتعدى بالهمزة فيقال أكسده الله، وكسدت السوق فهى كاسد بغير هاء في الصحاح، وبالهاء في التهذيب، ويقال أصل الكساد الفساد.

(13/23)


قوله " الجلب " بفتح اللام مصدر بمعنى اسم المفعول المجلوب، يقال جلب الشئ جاء به من بلد إلى بلد للتجارة.
قوله " الركبان " جمع راكب، والمراد قافلة التجارة التى تجلب الارزاق والبضائع.
وذكر الركبان خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكونون عددا ركبانا، ولا مفهوم له، بل لو كان الجالب عددا مشاة أو واحدا، راكبا أو ماشيا لم يختلف الحكم.
أما الاحكام ففى هذه الاحاديث دليل على أن التلقى محرم، وقد اختلف في هذا النهى هل يقتضى الفساد أم لا؟ فقيل يقتضى الفساد وقيل لا، وهو الظاهر وقد عقب الشيخ مجد الدين أبو البركات ابن تيمية (الجد) في كتابه المنتقى على حديث أبى هريرة بقوله: وفيه دليل على صحة البيع قال الشوكاني رحمه الله تعالى: لان النهى ههنا لامر خارج، وهو لا يقتضيه كما تقرر في الاصول، وقد قال بالفساد المرادف للبطلان بعض المالكية وبعض الحنابلة، وقال بعضهم بعدم الفساد لما سلف.
قال الشافعي في الام: وقد سمعت في هذا الحديث - يعنى حديث أبى هريرة بعد أن ساقه أخبرنا مالك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لا تلقوا السلع - فمن تلقى فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق، وبهذا نأخذ إن كان ثابتا.
ففى هذا دليل على أن الرجل إذا تلقى السلعة فاشتراها فالبيع جائز، غير أن لصاحب السلعة بعد أن يقدم السوق الخيار لان تلقيها حين يشترى من البدوى قبل أن يصير إلى موضع المساومين من الغرر له يوجد النقص من الثمن، فإذا قدم صاحب السلعة فهو بالخيار بين انفاذ البيع ورده ولا خيار للمتلقى لانه هو الغار لا المغرور.
اه قال العلامة ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية " ومن المنكرات تلقى السلع قبل أن تجئ إلى السوق، فان النبي صلى عليه وسلم نهى عن ذلك لما فيه من تغرير البائع، فانه لا يعرف السعر فيشترى منه المشترى بدون القيمة، ولذلك أثبت لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَارَ إذا دخل السوق، ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن.
وأما ثبوته بلا غبن ففيه عن أحمد روايتان

(13/24)


(إحداهما) يثبت وهو قول الشافعي لظاهر الحديث (والثانية) لا يثبت
لعدم الغبن، ولذلك ثبت الخيار للمشترى المسترسل إذا غبن، وفى الحديث " غبن المسترسل ربا " وفى تفسيره قولان
(أحدهما)
أنه الذى لا يعرف قيمة السلعة
(والثانى)
وهو المنصوص عن أحمد أنه الذى لا يماكس، بل يسترسل إلى البائع ويقول: أعطني هذا.
وليس لاهل السوق أن يبيعوا المماكس بسعر ويبيعوا المسترسل بغيره.
وهذا مما يجب على والى الحسبة إنكاره، وهذا بمنزلة تلقى السلع، فان القادم جاهل بالسعر.
ثم قال ابن القيم: ومن هذا تلقى سوقة الحجيج الجلب من الطريق، وسبقهم إلى المنازل يشترون الطعام والعلف ثم يبيعونه كما يريدون فيمنعهم والى الحسبة من التقدم لذلك حتى يقدم الركب، لما في ذلك من مصلحة الركب ومصلحة الجالب، ومتى اشتروا شيئا من ذلك منعهم من بيعه بالغبن الفاحش ومن ذلك نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْ يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " قيل لابن عباس: ما معنى قوله " لا يبيع حاضر لباد؟ " قال " لا يكون له سمسارا ".
وهذا النهى لما فيه من ضرر المشترى فان المقيم إذا وكله القادم في بيع سلعة يحتاج الناس إليها، والقادم لا يعرف السعر أضر ذلك بالمشترى كما أن النهى عن تلقى الجلب لما فيه من الاضرار بالبائعين، اه (قلت) وقد ذهب إلى الاخذ بظاهر الحديث الجمهور فقالوا: لا يجوز تلقى الركبان، واختلفوا هل هو محرم أو مكروه فقط.
وحكى ابن المنذر عن أبى حنيفة أنه أجاز التلقى وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن الذى في كتب الحنفية أنه يكره التلقى في حالتين (الاولى) أن يضر بأهل البلد (والثانية) أن يلبس السعر على الواردين.
والتنصيص على الركبان في بعض الروايات خرج مخرج الغالب، وحكم الماشي حكم الراكب من غير فرق.
دليلنا حديث أبى هريرة المذكور فان فيه النهى
عن تلقى الجلب من غير فرق.
وكذلك حديث ابن مسعود المذكور، فان فيه النهى عن تلقى البيوع.
وقد أوضحنا في الخيار قول ابن القيم، ونزيدك إيضاحا بما قاله الشوكاني.
قال:

(13/25)


اختلفوا هل يثبت له الخيار مطلقا أو بشرط أن يقع له في البيع غبن، ذهبت الحنابلة إلى الاول وهو الاصح عند الشافعية هو الظاهر، وظاهره أن النهى لاجل صنعة البائع، وإزالة الضرر عنه، وصيانته ممن يخدعه.
قال ابن المنذر: وحمله مالك على نفع أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى ذلك جنح الكوفيون والاوزاعي، قال: والحديث حجة للشافعي لانه أثبت الخيار للبائع لا لاهل السوق اه.
وقد احتج مالك ومن معه بما وقع في رواية من النهى عن تلقى السلع حتى تهبط الاسواق، وهذا لا يكون دليلا لمدعاهم لانه يمكن أن يكون ذلك رعاية لمنفعة البائع، لانها إذا هبطت الاسواق عرف مقدار السعر فلا يخدع ولا مانع من أن يقال: العلة في النهى مراعاة نفع البائع، ونفع أهل السوق.
واعلم أنه لا يجوز تلقيهم للبيع منهم، كما لا يجوز للشراء منهم لان العلة التى هي مراعاة نفع الجالب أو أهل السوق أو الجميع حاصلة في ذلك، ويدل على ذلك ما رواه البخاري بلفظ " لا يبع " فإنه يتناول البيع لهم والبيع منهم، وظاهر النهى المذكور في الباب عدم الفرق بين أن يبتدئ المتلقى الجالب بطلب الشراء أو البيع أو العكس، وشرط بعض الشافعية في النهى أن يكون المتلقى الجالب بطلب الشراء أو البيع أو العكس، وشرط بعض الشافعية في النهى أن يكون المتلقى هو الطالب، وبعضهم اشترط أن يكون المتلقى قاصدا لذلك، فلو خرج للسلام على الجالب أو للفرجة أو لحاجة أخرى، فوجدهم فبايعهم لم يتناوله النهى
ومن نظر إلى المعنى لم يفرق، وهو الاصح عهد الشافعي، وشرط امام الحرمين في النهى أن يكذب المتلقى في سعر البلد ويشترى منهم بأقل من ثمن المثل.
وشرط المتولي من الاصحاب (1) أن يخبرهم بكثرة المئونة عليهم في الدخول، وشرط المصنف رحمه الله تعالى أن يخبرهم بكساد ما معهم.
قال الشوكاني: والكل من هذه الشروط لا دليل عليه، والظاهر من النهى أيضا أنه يتناول المسألة القصيرة والطويلة، وهو ظاهر إطلاق الاصحاب.
__________
(1) إذا قلت: الاصحاب أو اصحابنا في عزو الاقوال قصدت الائمة من فقهاء المذهب.

(13/26)


وقال بعض المالكية: ميل، وقال بعضهم أيضا: فرسخان، وقال بعضهم يومان، وقال بعضهم: مسافة قصر، وبه قال الثوري، وأما ابتداء التلقى فقيل الخروج من السوق، وإن كان في البلد، وقيل الخروج من البلد وهو قول أصحابنا، وبالاول قال أحمد وإسحاق والليث والمالكية.
وقول المصنف رحمه الله تعالى " ولان هذا تدليس وغرر " قلت: التدليس كنم البائع عيب السلعة من المشترى وإخفائه ويقال أيضا: دلس دلسا من باب ضرب والتشديد أشهر في الاستعمال، قال الازهرى: سمعت أعرابيا يقول: ليس لى في الامر ولس ولا دلس: أي لا خيانة ولا خديعة، والدلسة بالضم الخديعة أيضا، وقال ابن فارس وأصله من الدلس وهو الظلمة.
أما التدليس عند المحدثين فهو إما تدليس في الاسناد وهو بأن يروى عن معاصر ما لم يحدثه به ويأتى بلفظ يوهم إتصالا كعن، وأن وقال فإذا قال الراوى عن فلان فإن كان يروى ذلك عن شخص لم يعاصره أو عاصره وثبت أنه لم يلاقه جزمنا بأن روايته منقطعة، وإن كان معاصرا له - ولم نعلم ان كان لقيه أو لا،
أو علمنا أنه لقيه ولكن كان الراوى مدلسا توقفنا في روايته ولم نحكم لها بالاتصال الا إذا ثبت اللقاء والتحديث.
وأما تدليس الاشياخ أن يسمى شيخه أو شيخ شيخه باسم أو كنية أو لقب غير ما اشتهر به وعرف وذلك لستر ضعفه وفى ذلك تفصيل عند المحدثين.
أما الغرر فهو في اللغة الخطر، وغرته الدنيا غرورا أي خدعته فهى غرور مثل رسول اسم فاعل مبالغة، وفى اصطلاح الفقهاء كل بيع يحتمل فيه غبن المبتاع لحديث أبى هريرة الذى رواه الجماعة الا البخاري " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر " وحديث ابن مسعود عند أحمد وفى روايته يزيد بن أبى زياد عن المسيب بن رافع، وقال البيهقى.
فيه ارسال بين المسيب وعبد الله والصحيح وقفه على ابن مسعود كما قال ذلك الدارقطني في العلل والخطيب وابن الجوزى ولفظه " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر " وقد روى أبو بكر بن أبى عاصم عن عمران بن حصين حديثا مرفوعا وفيه النهى عن بيع السمك في الماء وهو شاهد لهذا.

(13/27)


وقد مر في أول البيوع من شرح المهذب تفسير وتفصيل بيع الحصاة، وهو أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَابِ مَا وقعت عليه هذه الحصاة ويرمى الحصاة أو في الارض ما انتهت إليه الحصاة.
والغرر ثبت النهى عنه في أحاديث منها المذكور عن أبى هريرة وابن مسعود ومنها عن ابن عمر عند أحمد وابن حبان، ومنها عن ابن عباس عند ابن ماجه، ومنها عن سهل بن سعد عند الطبراني، ومن جملة بيع الغرر بيع السمك في الماء، وبيع الطير في الهواء، وبيع المعدوم، وبيع المجهول، وبيع الغائب، وبيع الآبق وكل ما دخل فيه الغرر بوجه من الوجوه.
قال النووي النهى عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جدا، ويستثنى من بيع الغرر أمران.
أحدهما ما يدخل في المبيع تبعا بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، والثانى ما يتسامح بمثله، اما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه ومن جملة ما يدخل تحت هذين الامرين بيع أساس البناء واللبن في ضرع الدابة والحمل في بطنها والقطن المحشو في الجبة اه.
(قلت) ومن جملة الغرر بيع حبل الحبلة فقد نَهَى عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أخرجه أحمد ومسلم والترمذي من حديث ابن عمر، وفى رواية عند أبى داود لفظها أكثر تفصيلا منهم حيث فيها " نهى عن بيع حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التى نتجت " وعند الشيخين رواية أكثر تفصيلا من أبى داود لفظها " كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم يحمل التى نتجت فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
والاحاديث المذكورة تقضى ببطلان البيع لان النهى يستلزم ذلك كما تقرر في الاصول.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية الحفيد: ومن القواعد التى أدخلها قوم من العلماء في الغرر المنهى عنه أنواع من الايجارات والمشاركات، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك.
فذهب قوم من الفقهاء إلى أن المساقاة والمزارعة حرام باطل، بناء على أنها نوع من الاجارة، لانها عمل بعوض، والاجارة لابد أن يكون فيها الاجر معلوما لانها كالثمر.

(13/28)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يحل للسلطان التسعير، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: غلا السعر عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال الناس: يا رسول الله سعر
لنا، فقال عليه السلام: إن الله هو القابض والباسط والرازق والمسعر، وإنى لارجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال (الشرح) أما فصل تحريم التسعير على السلطان فإن حديث أنس رواه أبو داود والترمذي وصححه.
أما لغات الفصل فإن التسعير جعل سعر معلوم ينتهى إليه ثمن الشئ وأسعرته بالالف لغة، ويقال له سعر إذا زادت قيمته، وليس له سعر إذا أفرط رخصه والجمع أسعار مثل حمل وأحمال.
أما أحكام الفصل فقد قال العلامة ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية: وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب فأما القسم الاول فمثل رواية أنس (التى ساقها المصنف) فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم.
وقد ارتفع السعر - إما لقلة الشئ - وإما لكثرة الخلق - فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها، إكراه بغير حق وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فالتسعير ههنا إلزام بالعدل الذى ألزمهم الله به.

(13/29)


قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ومن ذلك أن يلزم ألا يبيع الطعام أو غيره من الاصناف إلا ناس معروفون فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب: فهذا من البغى في الارض والفساد، والظلم الذى يحبس به قطر السماء وهؤلاء يجب التسعير عليهم، وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لانه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا، كان ذلك ظلما للناس، ظلما للبائعين، الذين يريدون بيع تلك السلع: وظلما للمشترين منهم.
فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته الزامهم بالعدل ومنعهم من الظلم، وهذا كما أنه لا يجوز الاكراه على البيع تغير حق، فيجوز أو يجب الاكراه عليه بحق، مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب، والنفقة الواجبة، ومثل البيع للمضطر إلى طعام أو لباس.
ومثل الغراس والبناء الذى في ملك الغير فان لرب الارض أن يأخذه بقيمة المثل، ومثل الاخذ بالشفعة، فان للشفيع أن يمتلك الشقص بثمنه قهرا.
وكذلك السراية في العتق، فانها تخرج الشقص من ملك الشريك قهرا، وتوجب على المعتق المعاوضة عليها قهرا.
وكل من وجب عليه شئ من الطعام واللباس والرقيق والمركوب - بحج أو كفارة أو نفقة - فمتى وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه.
وأجبر على ذلك، ولم يكن له أن يمتنع حتى يبذل له مجانا، أو بدون ثمن المثل.
ثم عقد ابن القيم فصلا آخر قال: ومن ههنا منع غير واحد من العلماء كأبى حنيفة وأصحابه القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالاجرة أن يشتركوا، فانهم إذا اشتركوا، والناس يحتاجون إليهم، أغلوا عليهم الاجرة، ثم قال: (قلت) وكذلك ينبغى لوالى الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من
الاشتراك، لما في ذلك من إغلاء الاجرة عليهم، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم، كالشهود والدلالين وغيرهم، على أن في شركة الشهود مبطلا

(13/30)


آخر، فإن عمل كل واحد منهم متميز عن عمل الآخر، لا يمكن الاشتراك فيه، فان الكتابة متميزة والتحمل متميز والاداء متميز، لا يقع في ذلك اشتراك ولا تعاون، فبأى وجه يستحق أحدهما أجرة عمل صاحبه؟ وهذا بخلاف الاشتراك في سائر الصنائع فانه يمكن أحد الشريكين أن يعمل بعض العمل والآخر بعضه، ولهذا إذا اختلفت الصنائع لم تصح الشركة على أحد الوجهين، لتعذر اشتراكهما في العمل، ومن صححها نظر إلى أنهما يشتركان فيما تتم به صناعة كل واحد منهما من الحفظ والنظر إذا خرج لحاجة، فيقع الاشتراك فيما يتم به عمل كل واحد منهما، وإن لم يقع في عين العمل.
وأما شركة الدالالين ففيها أمر آخر، وهو أن الدلال وكيل صاحب السلعة في بيعه، فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلا له فيما وكل فيه، فان قلنا ليس للوكيل أن يوكل، لم تصح الشركة، وان قلنا له أن يوكل صحت.
فعلى والى الحسبة أن يعرف هذه الامور ويراعيها، ويراعى مصالح الناس، وهيهات وهيهات، ذهب ما هنالك.
والمقصود أنه إذا منع القسامون ونحوهم من الشركة: لما فيها من التواطؤ على إغلاء الاجرة، فمنع البائعين الذين تواطئوا على ألا يبيعوا إلا بثمن مقدر أولى وأحرى.
وكذلك يمنع والى الحسبة المشترين من الاشتراك في شئ لا يشتريه غيرهم، لما في ذلك من ظلم البائع.
وأيضا فإذا كانت الطائفة التى تشترى نوعا من السلع أو تبيعها، قد تواطأوا على أن يهضموا ما يشترونه، يشتروه بدون ثمن المثل، ويبيعوا ما يبيعونه
بأكثر من ثمن المثل، ويقتسموا ما يشتركون فيه من الزيادة.
كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان، وقد قال تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " ثم قال ابن القيم رضى الله عنه: ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقى السلع، وبيع الحاضر للبادى، ومن النجش ثم عقد ابن القيم فصلا لتسعير الاجور خلص منه إلى أن الناس يحتاجون

(13/31)


إلى صناعة طائفة متخصصة، كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك، فلولى الامر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك.
والمقصود أن هذه الاعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرضا معينا عليه، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صارت هذه الاعمال مستحقة عليهم، يجبرهم ولى الامر عليها بعوض لمثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم.
وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها، ألز؟ الجند بأن لا يظلموا الفلاح.
كما يلزم الفلاح بأن يفلح.
ولو اعتمد الجند والامراء مع الفلاحين ما شرعه الله ورسوله وجاءت به السنة وفعله الخلفاء الراشدون، لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولفتح الله عليهم بركات من السماء والارض، وكان الذى يحصل لهم من المغل أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان، ولكن يأبى جهلهم وظلمهم الا أن يرتكبوا الظلم والاثم، فيمنعوا البركة وسعة الرزق، فيجتمع لهم عقوبة الآخرة ونزع البركة في الدنيا (فإن قيل) وما الذى شرعه الله ورسوله، وفعله الصحابة، حتى يفعله من وفقه الله؟
قيل المزارعة العادلة التى يكون فيها المقطع والفلاح على حد سواء من العدل لا يختص أحدهما عن الآخر بشئ من هذه الرسوم التى ما أنزل الله بها من سلطان (1) وهى التى خربت البلاد، وأفسدت العباد، ومنعت الغيث وأزالت البركات، وعرضت أكثر الجند والامراء لاكل الحرام.
وإذا نبت الجسد على الحرام فالنار أولى به.
__________
(1) يصف الفقيه ابن القيم حال البلاد الشامية والمصرية على عهد أمراء المماليك حين يسخرون الفلاحين في خدمة الارض ويستغل المقطعون أو ذووا الاقطاعات جهود الفلاحين أسوأ استغلال، تمنص الارض عرقهم، ويأكلون هم وطبقتهم ثمرات هذا العرق، حتى ألهم الله ابن القيم أن يلهب ظهورهم بسوط الشرع كما ألهبوا ظهور الفلاحين بسياط الجيروت، فمرحى لابن القيم مرحى؟ " المطيعى "

(13/32)


ومضى ابن القيم في هذا الاستطراد من أمور المساقاة والمزارعة والجعالة ما ندعه لسوقه في موطنه، لانه يقول: وهذه المسألة ذكرت استطرادا، والا فالمقصود أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب الصناعات - كالفلاحين وغيرهم - اجبروا على ذلك بأجرة المثل، وهذا من التسعير الواجب، فهذا تسعير في الاعمال.
وأما التسعير في الاموال، فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلات فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل ولا يمكنوا من حبسه الا بما يريدونه من الثمن، والله تعالى قد أوجب الجهاد بالنفس والمال، فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذله بقيمته؟ ومن أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير فقوله ظاهر التناقض.
وهذا أحد الروايتين عن أحمد وهو الصواب
ثم قال الفقيه العلامة مستطردا
(فصل)
وانما لم يقع التسعير فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة لانهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينا وخبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم، وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجالبين، ولهذا جاء الحديث " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " وكذلك لم يكن في المدينة حائك، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما فيشترونها ويلبسونها.
ثم قال (فصل في التسعير) وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين (احداهما) إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك فإنه يمنع من ذلك عند مالك، وهل يمنع من النقصان؟ على قولين واحتج مالك رحمه الله بما رواه في موطئه عن يونس بن نسيف عن سعيد بن المسيب " أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبى بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق.
فقال له عمر " اما أن تزيد في السعر واما أن ترفع من سوقنا "

(13/33)


قال مالك: لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس، لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس وإما رفعت، وأما أن يقول للناس كلهم: لا تبيعوا إلا بسعر كذا فليس ذلك بالصواب، وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل الابلة، حين حط سعرهم لمنع البحر، فكتب: " خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله ".
قال ابن رشد في كتاب البيان: أما الجلابون فلا خلاف في أنه لا يسعر عليهم شئ مما جلبوه، وإنما يقال
لمن شذ منهم فباع بأغلى مما يبيع به العامة: اما أن تبيع بما تبيع به العامة، واما أن ترفع من السوق كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبى بلعة، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال له " اما أن تزيد في السعر واما أن ترفع من سوقنا " لانه كان يبيع بالدرهم الواحد أقل مما كان يبيع به أهل السوق.
وأما أهل الحوانيت والاسواق الذين يشترون ممن الجلابين وغيرهم جملة، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا مثل اللحم.
والادم، والفواكه، فقيل: انهم كالجلابين، لا يسعر لهم شئ من بياعانهم، وانما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور: اما أن تبيع كما يبيع الناس واما أن ترفع من السوق، وهو قول مالك في هذه الرواية.
وممن روى عنه ذلك من السلف عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
وسالم ابن عبد الله قيل انهم في هذا بخلاف الجالبين، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا أغلوا على الناس، ولم يقتنعوا من الربح بما يشبه.
وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته أن يعرف ما يشترون به، فيجعل لهم من الربح ما يشبه، وينهاهم أن يزيدوا على ذلك.
ويتفقد السوق (1) أبدا، فيمنعهم
__________
(1) في كلام ابن رشد هنا ما يرسم صورة صادقه لما يقوم به مفتشو وزارة التموين في القضاء على السوق السوداء واختزان السلع وحجبها عن محتاجها لاغلاء سعرها واحتكارها وهى ظاهرة يظنون أنها حضارية عصرية وهم في الحقيقة لم يبلغوا شاو الاسلام في رسم أسباب العدل والرحمة ويا حبذا لو أخذ الناس في طرائق العيش اخذ أسلافهم لانعدم الجشع الاشعبى بين التجار.

(13/34)


من الزيادة على الربح الذى جعل لهم فمن خالف أمره عاقبه وأخرجه من السوق وهذا قول مالك في رواية أشهب، واليه ذهب ابن حبيب.
وقال به ابن المسيب
ويحيى بن سعيد، والليث وربيعة، ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم لا تبيعوا الا بكذا وكذا، ربحتم أو خسرتم، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه لا تبيعوه الا بكذا وكذا، مما هو مثل الثمن أو أقل.
وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون، لم يتركهم أن يغلوا في الشراء وان لم يزيدوا في الربح على القدر الذى حدد لهم، فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا علموا أن الربح لا يفوتهم.
وأما الشافعي فإنه عارض ذلك بما رواه عن الدراوردى عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر رضى الله عنه " أنه مر بحاطب بن أبى بلتعة بسوق المصلى، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فقال له: مدين لكل درهم، فقال له عمر: قد حدثت بعير جاءت من الطائف تحمل زبيبا، وهم يغترون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر واما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه، ثم أتى حاطبا في داره فقال: ان الذى قلت لك ليس عزمة منى، ولا قضاء انما هو شئ أردت به الخير لاهل البلد فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع ".
قال الشافعي: وهذا الحديث مستقصى وليس بخلاف لما رواه مالك.
ولكنه روى بعض الحديث أو رواه عنه من رواه.
وهذا أتى بأول الحديث وآخره وبه أقول.
لان الناس مسلطون على أموالهم.
ليس لاحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم الا في المواضع التى تلزمهم.
وهذا ليس منها.
وعلى قول مالك فقال أبو الوليد الباجى: الذى يؤمر به من حط عنه أن يلحق به.
هو السعر الذى عليه جمهور الناس.
فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمر باللحاق بسعر الناس أو ترك البيع فان زاد في السعر واحد أو عدد يسير.
لم يؤمروا باللحاق بسعره.
لان المراعى حال الجمهور.
وبه تقوم
المبيعات.
وهل يقام من زاد في السوق - أي في قدر المبيع بالدراهم - كما يقام من نقص منه؟

(13/35)


قال ابن القصار من المالكية: اختلف أصحابنا في قول مالك " ولكن من حط سعرا " فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية، وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية، والناس يبيعون خمسة فيفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدى إلى الشغف والخصومة.
قال: وعندي أن الامرين جميعا ممنوعان، لان من باع ثمانية - والناس يبيعون خمسة - أفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدى إلى الشغب والخصومة فمنع الجميع مصلحة.
قال أبو الوليد الباجى: ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق.
وأما الجالب، ففى كتاب محمد - يعنى ابن الحسن - لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس.
وقال ابن حبيب: ما عدا القمح والشعير يسعر الناس وإلا رفعوا، وأما جالب القمح والشعير، فيبيع كيف شاء، الا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، ان أرخص بعضهم تركوا، وان أرخص أكثرهم، قيل لمن بقى اما أن تبيع كبيعهم، واما أن ترفعوا.
قال ابن حبيب: وهذا في المكيل والموزون، مأكولا كان أو غيره، دون مالا يكال ولا يوزن، لانه لا يمكن تسعيره، لعدم التماثل فيه.
قال أبو الوليد: هذا إذا كان المكيل والموزون متساويا، فإذا اختلف لم يؤمر صاحب الجيد أن يبيعه بسعر الدون.
وأما المسألة الثانية التى تنازعوا فيها من التسعير، فهى أن يحد لاهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب فهذا منع منه الجمهور.
حتى مالك نفسه
في المشهور عنه.
ونقل المنع أيضا عن ابن عمر وسالم والقاسم بن محمد.
وروى أشهب عن مالك في صاحب السوق يسعر على الجزارين: لحم الضأن بكذا ولحم الابل بكذا.
والا أخرجوا من السوق.
قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به.
ولكن أخاف أن يقوموا من السوق.
واحتج أصحاب هذا القول بأن في هذا مصلحة للناس بالمنع من اغلاء السعر عليهم ولا يجبر الناس على البيع.
وانما يمنعون من البيع بغير السعر الذى يحده ولى الامر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشترى.

(13/36)


وأما الجمهور فاحتجوا بما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " جاء رجل إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل أدعو الله، ثم جاءه رجل فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال بل الله يرفع ويخفض، وإنى لارجو أن ألقى الله وليست لاحد عندي مظلمة " قالوا ولان إجبار الناس على ذلك ظلم.
وأما صفة ذلك عند من جوزه، فقال ابن حبيب: ينبغى للامام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشئ وحضر غيرهم، استظهارا على صدقهم، فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون: فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا به، ولا يجبرهم على التسعير ولكن عن رضى.
قال أبو الوليد الباجى: ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا، بما لا ربح لهم فيه، أدى ذلك إلى فساد الاسعار وإخفاء الاقوات وإتلاف أموال الناس
قال شيخ الاسلام (1) ابن تيمية (الحفيد) فهذا الذى تنازعوا فيه، وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ويعاقبون على تركه، وكذلك كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع.
قال ابن القيم: ومن احتج على منع التسعير مطلقا بقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّ اللَّهَ هو المسعر القابض الباسط، وإنى لارجو أن ألقى الله وليس لاحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال " قيل له هذه قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه، ومعلوم أن الشئ إذا قل رغب
__________
(1) قصدنا بالحفيد شيخ الاسلام واسمه أحمد، لقبه تقى الدين، كنيته أبو العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام وهو ابن تيمية الجد فاسمه عبد السلام، كنيته أبو البركات، لقبه مجد الدين

(13/37)


الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبه - كما جرت به العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه - فهنا لا يسعر عليهم وقد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك فقال: من أعتق شركا له في عبد - وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد " فلم يمكن المالك أن يساوم المعتق بالذى يريد فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذى لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد، قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل ويعطيه قسطه من القيمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة، لا في قيمة النصف عند الجمهور وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك، ويجبر الممتنع على البيع.
وحكى بعض المالكية
ذلك إجماعا.
وصار ذلك أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يريد من الثمن.
وصار ذلك أصلا في جواز اخراج الشئ من ملك صاحبه قهرا بثمنه للمصلحة الراجحة كما في الشفعة، وأصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن.
والمقصود أنه إذا كان الشارع يوجب اخراج الشئ عن ملك مالكه بعوض المثل، لمصلحة تكميل العتق، ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم، وهم إليها أعوز؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره.
وهذا الذى أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تقويم الجميع قيمة المثل، هو حقيقة التسعير.
كذلك سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشترى بثمنه الذى ابتاعه به لا بزيادة عليه لاجل مصلحة التكميل لواحد فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ فإذا جوز له انتزاعه منه بالثمن الذى وقع عليه العقد لا بما شاء المشترى من الثمن لاجل هذه المصلحة الجزئية، فكيف إذا اضطر إلى ما عنده من طعام وشراب ولباس وآلة حرب؟ وكذلك إذا اضطر الحاج إلى ما عند الناس من آلات السفر وغيرها، فعلى

(13/38)


ولى الامر أن يجبرهم على ذلك بثمن المثل، لا بما يريدونه من الثمن، وحديث العتق أصل في ذلك كله.
ثم عقد ابن القيم فصلا نختم به بحثنا في التسعير قال:
(فصل)
فإذا قدر أن قوما اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه، أو النزول في خان مملوك، أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن، أو دلو لنزع الماء، أو قدر أو فأس أو غير ذلك، وجب على صاحبه
بذله بلا نزاع، لكن هل له أن يأخذ عليه أجرا، فيه قولان للعلماء، وهما وجهان لاصحاب أحمد.
ومن جوز له أخذ الاجرة حرم عليه أن يأخذ زيادة على أجرة المثل قال شيخنا - يعنى شيخ الاسلام ابن تيمية -: والصحيح أنه يجب عليه بذل ذلك مجانا، كما دل عليه الكتاب والسنة.
قال تعالى (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون، ويمنعون الماعون) قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة: هو إعارة القدر والدلو والفأس ونحوها، وفى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الخيل - قال " هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر.
فأما الذى هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، وأما الذى هي له ستر، فرجل ربطها تغنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها، ولا في ظهورها " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا " من حق الابل إعارة دلوها، وإطراق فحلها " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ عسب الفحل " أي عن أخذ الاجرة عليه، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " لَا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره " ويمضى شيخ الاسلام ابن تيمية فيقول كما يحكيه عنه تلميذه وصنو حياته وعلمه: ولو احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره من غير ضرر لصاحب الارض، فهل يجبر على ذلك.
روايتان عن أحمد، والاجبار قول عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله عنهم.
وقد قال جماعة من الصحابة والتابعين " إن زكاة الحلى عاريته، فإذا لم يعره فلابد من زكاته " وهذا وجه في مذهب أحمد.

(13/39)


قال ابن القيم عقب هذا
(قلت) وهو الراجح، وانه لا يخلو الحلى من زكاة أو عارية والمنافع التى يجب بذلها نوعان، منها ما هو حق المال كما ذكرنا في الخيل والابل والحلى، ومنها ما يجب لحاجة الناس.
وأيضا فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة، كتعليم العلم، وإفتاء الناس، وأداء الشهادة والحكم بينهم والجهاد، والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وغير ذلك من منافع الابدان.
وكذلك من أمكنه إنجاء إنسان من مهلكة وجب عليه أن يخلصه، فإن ترك ذلك - مع قدرته - أثم وضمنه، فلا يمتنع وجوب بذل منافع الاموال للمحتاح.
وقد قال تعالى (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب) وقال تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال، وهى أربعة أوجه في مذهب أحمد (أحدها) أنه لا يجوز مطلقا
(والثانى)
أنه يجوز عند الحاجة (والثالث) أنه لا يجوز الا أن يتعين عليه (والرابع) أنه يجوز، فإن أخذه عند التحمل لم يأخذ عند الاداء.
والمقصود أن ما قدره النبي صلى الله عليه وسلم من الثمن في سراية العتق هو لاجل تكميل الحرية، وهو حق الله تعالى وما احتاج إليه الناس حاجة عامة، فالحق فيه لله.
وذلك في الحقوق والحدود.
قال ابن القيم " فأما الحقوق فمثل حقوق المساجد ومال الفئ والوقف على أهل الحاجات، وأموال الصدقات والمنافع العامة، وأما الحدود فمثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر المسكر وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية، لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق، ولو لم

(13/40)


يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر، فإنه يطلب ما شاء، وهنا عموم الناس يشترون الطعام والثياب لانفسهم وغيرهم.
فلو مكن من عنده سلع يحتاج الناس إليها أن يبيع بما شاء كان ضرر الناس أعظم، ولهذا قال الفقهاء " إذا اضطر الانسان إلى طعام الغير، وجب عليه بذله له بثمن المثل " وأبعد الائمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الانسان إلى طعامه أن يبذله له بثمن المثل، وتنازع أصحاب الشافعي في جواز تسعير الطعام إذا كان بالناس إليه حاجة، ولهم فيه وجهان.
وقال أصحاب أبى حنيفة: لا ينبغى للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإذا رفع إلى القاضى أمر المحتكر ببيع ما فضل من قوته وقوت أهله، على اعتبار السعر في ذلك، ونهاه عن الاحتكار، فإن أبى حبسه وعزره على مقتضى رأيه، زجرا له ودفعا للضرر عن الناس قالوا فإن تعدى أرباب الطعام وتجاوزوا القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضى عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، سعره حينئذ بمشورة أهل الرأى والبصيرة.
وهذا على أصل أبى حنيفة ظاهر حيث لا يرى الحجر على الحر ومن باع منهم بما قدره الامام صح لانه غير مكره عليه قالوا: وهل يبيع القاضى على المحتكر طعامه من غير رضاه.
على الخلاف المعروف في بيع مال المدين وقيل يبيع ههنا بالاتفاق، لان أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام والسعر لما غلا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلبوا منه التسعير فامتنع، لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كان يبيع الطعام
إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، ولكن نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يبيع حاضر لباد، أي أن يكون له سمسارا.
وقال " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض "

(13/41)


فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادى الجالب للسلعة، لانه إذا توكل له - مع خبرته بحاجة الناس - أغلى الثمن على المشترى فنهاه عن التوكل له، مع أن جنس الوكالة مباح لما في ذلك من زيادة السعر على الناس، ونهى عن تلقى الجلب وجعل للبائع إذا هبط السوق الخيار، ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع هنا، فإذا لم يكن قد عرف السعر، وتلقاه المتلقى قبل إتيانه إلى السوق اشتراه المشترى بدون ثمن المثل فغبنه، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لهذا البائع الخيار.
ثم فيه عن أحمد روايتان كما تقدم، إحداهما: أن الخيار يثبت له مطلقا، سواء غبن أو لم يغبن وهو ظاهر مذهب الشافعي.
والثانية: أنه إنما يثبت عند الغبن وهى ظاهر مذهب الحنابلة.
وقالت طائفة: بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشترى إذا تلقاه المتلقى فاشترى منه، ثم باعه، وفى الجملة.
قد نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ البيع والشراء الذى جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر، وهو ثمن المثل، ويعلم المشترى بالسلعة.
وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشترى أن يشترى حيث شاء، وقد اشترى من البائع كما يقول، فله أن يتوكل للبائع الحاضر وغير الحاضر، ولكن الشارع راعى المصلحة العامة، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل، فيكون المشترى غارا له.
وألحق أحمد ومالك بذلك كل مسترسل، فإنه بمنزلة الجالب الجاهل بالسعر فتبين أنه يجب على الانسان ألا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف، وهو ثمن المثل، وإن لم يكونوا محتاجين إلى الابتياع منه، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو غير مماكسين، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى، وقد لا يرضى، فإذا علم أنه غبن ورضى فلا بأس بذلك.
وفى السنن " أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الارض يتضرر بدخول صاحب الشجرة، فَشَكَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره أن يقبل

(13/42)


بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل فأذن لصاحب الارض أن يقلعها، وقال لصاحب الشجرة: إنما انت مضار ".
وصاحب القياس الفاسد يقول: لا يجب عليه أن يبيع شجرته ولا يتبرع بها ولا يجوز لصاحب الارض أن يقلعها، لانه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإجبار على المعاوضة عليه، وصاحب الشرع أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها لما في ذلك من مصلحة صاحب الارض بخلاصه من تأذنه بدخول صاحب الشجرة، ومصلحة صاحب الشجرة بأخذ القيمة، وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير، فضرر صاحب الارض ببقائها في بستانه أعظم، فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما، فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة، وإن أباه من أباه.
والمقصود: أن هذا دليل على وجوب البيع عند حاجة المشترى.
وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام وغيره؟ والحكم في المعاوضة على المنافع إذا احتاج الناس إليها - كمنافع الدور.
والطحن والخبز، وغير ذلك..حكم المعاوضة على الاعيان.
وبعد فقد استعرضنا ملخصا وافيا مركزا لما عرض له ابن القيم وشيخه.
قال ابن القيم: وجماع الامر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير.
سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط.
وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
وبالله التوفيق.
وقد قال الشوكاني في المنتقى في باب النهى عن التسعير: وقد استدل بالحديث وما ورد في معناه على تحريم التسعير، وأنه مظلمة، ووجهه أن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم والامام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشترى برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن وإذا تقابل الامران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لانفسهم وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بمالا يرضى به مناف لقوله تَعَالَى (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ منكم) والى هذا ذهب جمهور العلماء.
وروى عن مالك أنه يجوز للامام التسعير وأحاديث الباب ترد عليه.
ثم قال يشرح وجهة نظره في منع التسعير: وفى وجه

(13/43)


للشافعية جواز التسعير في حالة الغلاء.
وهذا الرأى في نظره مردود وما أوردناه فيه القول الفصل الذى يجعل التسعير يدور مع المصلحة حيث دارت ويقيد ولى الامر بمراعاة طرفي المتبايعين واحقاق العدل بينهما وعدم تغليب طرف على آخر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويحرم الاحتكار في الاقوات، وهو أن يبتاع في وقت الغلاء ويمسكه ليزداد في ثمنه.
ومن أصحابنا من قال: يكره ولا يحرم، وليس بشئ.
لِمَا رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " وروى معمر العدوى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يحتكر الا خاطئ " فدل على أنه حرام.
فأما إذا ابتاع في وقت الرخص أو جاءه من ضيعته طعام فأمسكه ليبيعه إذا غلا فلا يحرم ذلك لانه في معنى الجالب
وقد رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " وروى أبو الزناد قال: قلت لسعيد بن المسيب: بلغني عنك أنك قلت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال.
لا يحتكر بالمدينة الا خاطئ، وأنت تحتكر؟ قال ليس هذا الذى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالى بها، فأما أن يأتي الشئ وقد اتضع فيشتريه، ثم يضعه فإن احتاج الناس إليه أخرجه، فذلك خير وأما غير الاقوات فيجوز احتكاره، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يحتكر الطعام، فدل على أن غيره يجوز، ولانه لا ضرر في احتكار غير الاقوات فلم يمنع منه.
(الشرح) أما فصل الاحتكار فحديث عمر رضى الله عنه، رواه ابن ماجه بلفظ " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والافلاس " وفى اسناده الهيثم بن رافع، قال أبو داود روى حديثا منكرا قال الحافظ الذهبي: هو الذى خرجه ابن ماجه، يعنى هذا، وفى اسناده أيضا أبويحيى المكى، وهو مجهول.

(13/44)


وللحديث شواهد أخرى أقوى منه وأصح، كحديث سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوى " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يحتكر إلا خاطئ " رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم.
وحديث معقل بن يسار قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: من دخل في شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة رواه أحمد والطبراني في معجميه الكبير والاوسط، وفى إسناده زيد بن مرة أبو المعلى، قال في مجمع الزوائد: ولم أجد من ترجمه وبقية رجاله رجال الصحيح.
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: من احتكر حكرة يريد أن يغلى بها على المسلمين هو خاطئ " رواه أحمد والحاكم وزاد " وقد برئت منه ذمة الله " وفى إسناده أبو معشر، وهو ضعيف، وقد وثقه بعضهم.
وحديث ابن عمر مرفوعا " الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون " رواه ابن ماجه والحاكم وإسحاق بن راهويه والدارمى وأبو يعلى والعقيلي في الضعفاء وضعف إسناده الحافظ ابن حجر.
ومنها حديث آخر عند ابن عمر عند أحمد والحاكم وابن أبى شيبة والبزار وأبى يعلى بلفظ " من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه " زاد الحاكم " وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله " وفى إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة، والاول مختلف فيه والثانى قال ابن حزم إنه مجهول، وقال غيره: معروف، ووثقه ابن سعد، وروى عنه جماعة، واحتج به النسائي.
قال الحافظ ابن حجر: ووهم ابن الجوزى فأخرج هذا الحديث في الموضوعات وحكى ابن أبى حاتم عن أبيه أنه منكر اه.
أما أحكام الفصل: فهذه الاحاديث بمجموعها لا شك أنها تنتهض حجة للاستدلال على عدم جواز الاحتكار لو فرض عدم ثبوت شئ منها، وأخذت بمجموعها، فكيف وحديث معمر المذكور في صحيح مسلم، والتصريح بأن المحتكر خاطئ كاف في إفادة عدم الجواز، لان الخاطئ هو المذنب العاصى وهو

(13/45)


فاعل من خطئ من باب علم إذا أثم في فعله قاله أبو عبيدة وقال: سمعت الازهرى يقول: خطئ إذا تعمد، وأخطأ إذا لم يتعمد.
قال الاصحاب من الشافعية: إن المحرم إنما هو احتكار الاقوات خاصة لا
غيرها، ولا مقدار الكفاية منها، وإلى ذلك ذهب الزيدية أيضا.
وذهب الشوكاني إلى أن الاحاديث ظاهرها يحرم الاحتكار من غير فرق بين قوت الآدمى والدواب، وبين غيره، والتصريح (بالطعام) في بعض الروايات لا يصلح لتقييد بقية الروايات المطلقة، ويمكن الرد عليه بأن المقرر في قواعد الاصول أن المطلق يحمل على المقيد وأن العام يحمل على الخاص الا أن الشوكاني يخرج من هذا المأزق بقوله انه من باب التنصيص على فرد من الافراد التى يطلق عليها المطلق، وذلك لان نفى الحكم عن غير الطعام انما هو لمفهوم اللقب، وهو غير معمول به عند الجمهور، وما كان كذلك لا يصلح للتقييد على ما تقرر في الاصول أيضا.
ويفرق العلماء بين الاحتكار والادخار، فالاحتكار اختزان السلعة وحبسها عن طلابها حتى يتحكم المختزن في رفع سعرها لقلة المعروض منه أو انعدامه، فيتسنى له أن يغليها حسبما يشاء وهذا حرام بالاجماع في ضرورات الحياة.
مكروه في كمالياتها.
ويمكن أن يلحق بالاقوات ما يترتب على احتكاره من تلف وهلاك يصيب الناس، كاحتكار الثياب في وقت البرد الشديد مع حاجة الناس إليه، وحبس وسائل النقل للجند في ابان الجهاد لما في ذلك من اضعاف لقوة المسلمين واتاحة الفرصة لتفوق العدو عليهم وغلبته.
أما الادخار فقد قال ابن رسلان في شرح السنن ولا خلاف في أن ما يدخره الانسان من قوت وما يحتاجون إليه من سمن وعسل وغير ذلك جائز لا بأس به اه.
ويقول الشوكاني نقلا عن أئمة الشافعية: انما المحرم هو احتكار الاقوات خاصة لا غيرها ولا مقدار الكفاية منها، ويدل على ذلك ما ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يعطى كل واحدة من زوجاته مائة وسق من خيبر.

(13/46)


قال ابن رسلان في شرح السنن: وقد كان رسول الله صلى عليه وسلم يدخر لاهله قوت سنتهم من تمر وغيره.
قال أبو داود: قيل لسعيد - يعنى ابن المسيب - فإنك تحتكر.
قال ومعمر كان يحتكر.
وكذا في صحيح مسلم: قال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا - يعنى ابن المسيب ومعمرا - يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه.
وكذلك حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون.
قال الشوكاني: ويدل على اعتبار الحاجة وقصد إغلاء السعر على المسلمين قوله في حديث معقل " من دخل في شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم " وقوله في حديث أبى هريرة " يريد أن يغلى بها على المسلمين " قال أبو داود: سألت أحمد بن حنبل ما الحكرة.
قال ما فيه عيش الناس، أي حياتهم وقوتهم.
وقال الاثرم: سمعت أبا عبد الله - يعنى أحمد بن حنبل - يسئل عن أي شئ الاحتكار، فقال إذا كان من قوت الناس فهو الذى يكره.
وهذا قول عمر وقال الاوزاعي، المحتكر من يعترض السوق، أي ينصب نفسه للتردد إلى الاسواق ليشترى منها الطعام الذى يحتاجون إليه ليحتكره.
قال السبكى " الذى ينبغى أن يقال في ذلك أنه إن منع غيره من الشراء وحصل به ضيق حرم.
وإن كانت الاسعار رخيصة وكان القدر الذى يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنى " قال القاضى حسين والرويانى " وربما يكون هذا حسنة لانه ينفع به الناس " وقطع المحاملى في المقنع باستحبابه.
قال أصحاب الشافعي " الاولى بيع الفاضل عن الكفاية " قال السبكى " أما إمساكه
حالة استغناء أهل البلد عنه رغبة في أن يبيعه إليهم وقت حاجتهم إليه فينبغي أن لا يكره، بل يستحب.
قال الشوكاني " والحاصل أن العلة إذا كانت هي الاضرار بالمسلمين لم يحرم الاحتكار الا على وجه يضر بهم، ويستوى في ذلك القوت وغيره لانهم يتضررون بالجميع " وقال الغزالي في الاحياء " ما ليس بقوت ولا معين عليه فلا يتعدى النهى

(13/47)


إليه وان كان مطعوما وما يعين على القوت كاللحم والفواكه وما يسد مسد شئ من القوت في بعض الاحوال، وان كان لا يمكن المداومة عليه فهو في محل النظر فمن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت وما يجرى مجراه.
وقال السبكى " إذا كان في وقت قحط كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها اضرار، فينبغي أن يقضى بتحريمه، وإذا لم يكن اضرار فلا يخلو احتكار الاقوات عن كراهة.
وقال القاضى حسين " إذا كان الناس يحتاجون الثياب ونحوها لشدة البرد أو لستر العورة فكره لمن عنده ذلك امساكه " قال السبكى " ان أراد كراهة تحريم فظاهر، وان أراد كراهة تنزيه فبعيد.
وحكى أبو داود عن قتادة أنه قال " ليس في التمر حكرة " وحكى أيضا عن سفيان أنه سئل عن كبس القت فقال " كانوا يكرهون الحكرة " والكبس بفتح الكاف واسكان الباء الموحدة، والقت بفتح القاف وتشديد التاء الفوقية، وهو اليابس من القضب.
قال الطيبى " ان التقييد بالاربعين يشير إلى حديث ادخار الطعام أربعين يوما، اليوم غير مراد به التحديد " قال الشوكاني " ولم أجد من ذهب إلى العمل بهذا العدد " ونختم هذا الفصل بما أورد الامام النووي رضى الله عنه في شرحه لصحيح
مسلم عند حديث معمر بن عبد الله مرفوعا " من احتكر فهو خاطئ " قال النووي قال اهل اللغة " الخاطئ بالهمز هو العاصى الآثم " وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار في الاقوات خاصة، وهو أن يشترى الطعام في وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلو ثمنه.
فأما إذا جاءه من قريته أو اشتراه في وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار ولا تحريم فيه.
قال وأما غير الاقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال، هذا تفصيل مذهبنا قال العلماء " والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس، كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند انسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعا للضرر عن الناس.

(13/48)


وأما ما ذكر في الكتاب - يعنى في صحيح مسلم - عن سعيد بن المسيب ومعمر راوي الحديث أنهما كانا يحتكران، فقال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء، وكذا حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون.
وهو الصحيح وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع)
" إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن، ولم تكن بينة تحالفا، لما روى ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه قال " لو أن الناس أعطوا بدعاويهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن اليمين على المدعى عليه " فجعل اليمين على المدعى عليه والبائع مدعى عليه بيع بألف والمشترى مدعى عليه بيع بألفين، فوجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين لان كل واحد منهما
مدعى عليه ولا بينة فتحالفا، كما لو ادعى رجل على رجل دينارا وادعى الآخر على المدعى درهما "
(فصل)
قال الشافعي رحمه الله في البيوع: يبدأ بيمين البائع.
وقال في الصداق: إذا اختلف الزوجان يبدأ بيمين الزوج، والزوج كالمشترى.
وقال في الدعوى والبينات إن بدأ بالبائع خير المشترى، وإن بدأ بالمشترى خير البائع، وهذا يدل على أنه مخير بين أن يبدأ بالبائع وبين أن يبدأ بالمشترى، فمن أصحابنا من قال فيها ثلاثة أقوال (أحدها) يبدأ بالمشترى، لان جنبته أقوى، لان المبيع على ملكه فكان بالبداية أولى
(والثانى)
يبدأ بمن شَاءَ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الآخر في الدعوى فتساويا، كما لو تداعيا شيئا في يديهما (والثالث) أنه يبدأ بالبائع وهو الصحيح، لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البائع، والمبتاع بالخيار " فبدأ بالبائع ثم خير المبتاع، ولان جنبته أقوى لانه إذا تحالفا رجع المبيع إليه فكانت البداية به أولى.
ومن أصحابنا من قال هي على قول واحد أنه يبدأ بالبائع ويخالف

(13/49)


الزوج في الصداق لان جنبته أقوى من جنبة الزوجة، لان البضع بعد التحالف على ملك الزوج فكان بالتقديم أولى، وها هنا جنبة البائع أقوى لان المبيع بعد التحالف على ملك البائع فكان البائع بالتقديم أولى، والذى قال في الدعوى والبينات ليس بمذهب له، وإنما حكى ما يفعله الحاكم باحتهاده لانه موضع اجتهاد فقال: إن حلف الحاكم البائع باجتهاده خير المشترى، وإن حلف المشترى خير البائع " (الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رواه مسلم في صحيحه بلفظ " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى "
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى باليمين على المدعى عليه.
هكذا روى هذا الحديث البخاري ومسلم في صحيحيهما مرفوعا من رواية ابن عباس.
وهكذا ذكره أصحاب السنن وغيرهم قال الامام النووي رضى الله عنه في شرح مسلم: قال القاضى عياض رضى الله عنه، قال الاصيلى: لا يصح مرفوعا، إنما هو قول ابن عباس، كذا رواه أيوب ونافع الجمحى عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ القاضى قد رواه البخاري ومسلم من رواية ابن جريج مرفوعا هذا كلام القاضى.
قال النووي (قلت) وقد رواه أبو داود والترمذي بأسانيدهما عن نافع بن عمر الجمحى عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مرفوعا.
قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وجاء في رواية البيهقى وغيره بإسناد حسن أو صحيح زيادة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعى، واليمين على من أنكر " اه أما حديث ابن مسعود رضى الله عنه فقد أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بلفظ " إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان " وزاد ابن ماجه " والبيع قائم بعينه " وكذلك أحمد في رواية " والسلعة كما هي " وللدارقطني عن أبى وائل عن عبد الله قال " إذا اختلف البيعان والبيع مستهلك فالقول قول البائع " قال ابن تيمية الجد.
ورفع الْحَدِيثِ إلَى النَّبِيِّ

(13/50)


صلى الله عليه وسلم.
ولاحمد والنسائي عن أبى عبيدة: وأتاه رجلان تبايعا سلعة فقال " هذا أخذت كذا وكذا.
وقال هذا بعت بكذا وكذا، فقال أبو عبيدة: أتى عبد الله في مثل هذا فقال: حضرت النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا فأمر بالبائع أن يستحلف ثم يخير المبتاع إن شاء أخذ وإن شاء ترك "
وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا الشافعي من طريق سعيد بن سالم عن ابن جريح عن اسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عمير عن أبى عبيدة عن أبيه عبد الله ابن مسعود، وقد اختلف فيه على اسماعيل بن أمية.
ثم على ابن جريج، وقد اختلف في صحة سماع أبى عبيدة من أبيه.
ورواه من طريق أبى عبيدة أحمد والنسائي والدارقطني، وقد صححه الحاكم وابن السكن، ورواه أيضا الشافعي من طريق سفيان ابن عجلان عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عن ابن مسعود، وفيه أيضا انقطاع، لان عونا لم يدرك ابن مسعود.
ورواه الدارقطني من طريق القاسم بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عن جده.
وفيه اسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة.
ورواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الاشعث بن قيس عن أبيه عن جده عن ابن مسعود وأخرجه أيضا من طريق محمد بن أبى ليلى عن القاسم بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عن عبد الله بن مسعود، ومحمد بن أبى ليلى لا يحتج به وعبد الرحمن لم يسمع من أبيه.
ورواه ابن ماجه والترمذي، من طريق عون بن عبد الله أيضا عن ابن مسعود، وهو منقطع قال العلامة ابن القيم: وأما الحديث المشهور على ألسنة الفقهاء " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " فهذا قد روى ولكن ليس له إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أصحاب السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الامة، إلا طائفة من فقهاء الكوفة مثل أبى حنيفة وغيره فإنهم يرون دائما اليمين في جانب المنكر، حتى في القسامة يحلفون المدعى عليه ولا يقضون بالشاهد واليمين، ولا يردون اليمين على المدعى عند النكول، واستدلوا بعموم الحديث.

(13/51)


ثم ساق ابن القيم نماذج من أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم توافق معنى هذا الحديث في المعاملات: ولا نأخذ به في الجنايات.
قال البيهقى: وأصح إسناد روى في هذا الباب رواية أبى العميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الاشعث بن قيس عن أبيه عن جده، ورواه أيضا الدارقطني من طريق القاسم بن عبد الرحمن، قال الحافظ ابن حجر: ورجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن اختلف في سماعه من أبيه.
ورواية التراد رواها أيضا مالك بلاغا والترمذي وابن ماجه بإسناد منقطع ورواه أيضا الطبراني بلفظ " البيعان إذا اختلفا في البيع ترادا " قال الحافظ ابن حجر: رواته ثقات لكن اختلف في عبد الرحمن بن صالح يعنى الراوى له عن فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: وما أظنه حفظه، فقد جزم الشافعي أن طرق هذا الحديث عن ابن مسعود ليس فيها شئ موصول.
ورواه أيضا النسائي والبيهقي والحاكم من طريق عبد الرحمن ابن قيس بالاسناد الذى رواه عنه أبو داود كما سلف، وصححه من هذا الوجه الحاكم، وحسنه البيهقى، ورواه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن جده بلفظ: إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، ولا بينة لاحدهما تحالفا " ورواه من هذا الوجه الطبراني والدارمى، وقد انفرد بقوله: والسلعة قائمة، محمد بن أبى ليلى وهو ضعيف لسوء حفظه.
قال الخطابى: إن هذه اللفظة يعنى: والسلعة قائمة، لا تصح من طريق النقل مع احتمال أن يكون ذكرها من التغليب، لان أكثر ما يعرض النزاع حال قيام السلعة، كقوله تعالى (في حجوركم) ولم يفرق أكثر الفقهاء بين القائم والتالف انتهى.
قال ابن عبد البر إن هذا الحديث منقطع إلا أنه مشهور الاصل عند جماعة تلقوه بالقبول، وبنوا عليه كثيرا من فروعه، وأعله ابن حزم بالانقطاع وتابعه عبد الحق، وأعله ابن القطان بالجهالة في عبد الرحمن وأبيه وجده.

(13/52)


وقال الخطابى: هذا حديث قد اصطلح الفقهاء على قبوله، وذلك يدل على أن له أصلا وإن كان في إسناده مقال، كما اصطلحوا على قبول: لا وصيه لوارث وإسناده فيه ما فيه اه.
أما لغات الفصل: فقوله (جنبته) أي جانبه، و (البضع) بضم الباء الموحدة وسكون الضاد المعجمة وجمعه أبضاع مثل قفل وأقفال يطلق على الفرج والجماع وقيل البضع مصدر أيضا مثل السكر والكفر.
وأبضعت المرأة إبضاعا زوجتها وتستأمر النساء في أبضاعهن، ويقال ملك بضعها أي جماعها، والبضاع الجماع وزنا ومعنى، وهو اسم من باضعها مباضعة.
أما أحكام الفصل.
فقد اتفق الائمة الاربعة على أنه إذا حصل بين المتبايعين اختلاف في قدر الثمن ولا بينة تحالفا، هذا ما وجدته من مسائل الاتفاق في هذا الفصل.
وأما ما اختلفوا فيه، فمن ذلك قول الامام الشافعي إنه يبدأ بيمين البائع، وهو ما عبر عنه المصنف بقوله.
ولان جنبته أقوى، أما أبو حنيفة وبعض الاصحاب من الشافعية أنه يبدأ بيمين المشترى.
ويبدو أن اختلاف المتبايعين يجعل كل واحد منهما يريد أن يكون له الحظ الاوفر من حكم القاضى لنفسه دون أخيه ومثل ذلك أنه إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، فقال البائع بعتك بعشرين، وقال المشترى بل بعشرة ولاحدهما بينة حكم بها وإن لم يكن لهما بينة تحالفا وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك
في رواية عنه، وشريح، وفى رواية عن مالك القول قول المشترى مع يمينه وبه قال أبو ثور وزفر، لان البائع يدعى عشرة زائدة ينكرها المشترى، والقول قول المنكر.
وقال الشعبى القول قول البائع أو يترادان.
قال ابن قدامة في المغنى ويحتمل أن يكون معنى القولين واحدا، وأن القول قول البائع مع يمينه، فإذا حلف فرضى المشترى بذلك أخذ به، وان أبى حلف أيضا وفسخ البيع بينهما، لان في ألفاظ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، ولا بينة لاحدهما تحالفا " ولان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فان البائع يدعى عقدا بعشرين ينكره المشترى،

(13/53)


والمشترى يدعى عقدا بعشرة ينكره البائع، والعقد بعشرة غير العقد بعشرين فشرعت اليمين في حقهما.
قال الرملي في نهاية المحتاج شرح المنهاج عند الاختلاف في قدر الثمن أو صفة المبيع: والاصح تصديق البائع أو الاجل بأن أثبته المشترى ونفاه البائع أو قدره كشهر أو شهرين، أو قدر المبيع كمد من هذه الصبرة، مثلا بدرهم، فيقول: بل مدين ولا بينة لاحدهما يعول عليها، فشمل ما لو أقام كل بينة وتعارضنا لاطلاقهما أو إطلاق أحدهما فقط، أو لكونهما أرختا بتاريخين متفقين تحالفا، لخبر مسلم (اليمين على المدعى) وكل منهما مدع ومدعى عليه اه.
وأما ما استند إليه القائلون بعدم التحالف كابن المقرى في بعض نسخ الروض من إمكان الفسخ في زمنه فقد رد بأن التحالف لم يوضع للفسخ بل عرضت اليمين رجاء أن ينكل الكاذب فيتقرر العقد بيمين الصادق.
فإذا اختلفا في الصحة أو العقد هل هو بيع أو هبة فلا تحالف كما سيأتي من كلام المصنف، فإذا كان لاحدهما بينة قضى بها، فإن كان لهما بينتان مؤرختان
بتاريخين مختلفين فإنه يقضى بالاولى منهما، ولو اختلفا في الثمن أو المبيع بعد القبض مع الاقالة أو التلف الذى ينفسخ به العقد فلا تحالف، بحلف مدعى النقص، لانه غارم، ولهذا زاد بعضهم قيدا، وهو بقاء العفد إلى وقت التنازع احترازا عما ذكر.
وأورد على الضابط اختلافهما في عين المبيع والثمن معا مثل: بعتك هذه السيارة الركوب بمائة دينار فيقول: بل النقل بمائتي دينار فلا تحالف جزما إذا لم يتواردا على شئ واحد، مع أنهما اتفقا على بيع صحيح واختلفا في كيفيته فيحلف كل على نفى ما ادعى عليه على الاصل.
قال الشافعي في مختصر المزني بعد أن أورد حديث ابن مسعود من طريقي سفيان ومالك الذى رواه مالك بلاغا - يعنى قال: بلغني عن ابن مسعود إلخ.
قال الشافعي " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه " فإذا تبايعا عبدا فقال البائع: بألف والمشترى بخمسمائة فالبائع

(13/54)


يدعى فضل الثمن، والمشترى يدعى السلعة بأقل من الثمن، فيتحالفان، فان حلفا معا قيل للمشترى: أنت بالخيار في أخذه بألف أو رده، ولا يلزمك ما لا تقر به، فأيهما نكل عن اليمين وحلف صاحبه حكم له.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم وهما متصادقان على البيع ومختلفان في الثمن بنقض البيع، ووجدنا الفائت في كل ما نقض فيه القائم منتقضا فعلى المشترى رده إن كان قائما أو قيمته إن كان فائتا، كانت أقل من الثمن أو أكثر.
قال المزني: يقول: صارا في معنى من لم يتبايع، فيأخذ البائع عبده قائما أو قيمته متلفا، قال: فرجع محمد بن الحسن إلى ما قلنا وخالف صاحبيه - يعنى أبا حنيفة وأبا يوسف - وقال: لا أعلم ما قالا إلا خلاف القياس والسنة.
قال والمعقود إذا تناقضاه والسلعة قائمة تناقضاه وهى فائتة، لان الحكم أن يفسخ العقد فقائم وفائت سواء.
قال المزني، ولو لم يختلفا وقال كل واحد منهما: لا أدفع حتى أقبض فالذي أحب الشافعي من أقاويل وصفها أن يؤمر البائع بدفع السلعة، ويجبر المشترى على دفع الثمن من ساعته، فان غاب وله مال أشهد على وقف ماله وأشهد على وقف السلعة، فإذا دفع أطلق عنه الوقف، وإن لم يكن له مال فهذا مفلس والبائع أحق بسلعته ولا يدع الناس يتمانعون الحقوق وهو يقدر على أخذها منهم اه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)
ويجب أن يجمع كل واحد منهما في اليمين بين النفى والاثبات، لانه يدعى عقد وينكر عقدا، فوجب أن يحلف عليهما، ويجب أن يقدم النفى على الاثبات.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: يقدم الاثبات على النفى كما قدمنا الاثبات على النفى في اللعان، والمذهب الاول.
لان الاصل في اليمين أن يبدأ بالنفى، وهى يمين المدعى عليه، فوجب أن يبدأ ههنا أيضا بالنفى، ويخالف اللعان فانه لا أصل له في البداية بالنفى، وهل يجمع بين النفى والاثبات بيمين واحدة أم لا؟ فيه وجهان.

(13/55)


أحدهما: يجمع بينهما بيمين واحدة، وهو المنصوص في الام، لانه أقرب إلى فصل القضاء فعلى هذا يحلف البائع أنه لم يبع بألف، ولقد باع بألفين ويحلف المشترى أنه ما اشترى بألفين ولقد اشترى بألف، فان نكل المشترى قضى للبائع وإن حلف فقد تحالفا.
والثانى أنه يفرد النفى بيمين والاثبات بيمين، لانه دعوى عقد وإنكار عقد
فافتقر إلى يمينين، ولانا إذا جمعنا بينهما بيمين واحدة حلفنا البائع على الاثبات قبل نكول المشترى عن يمين النفى، وذلك لا يجوز.
فعلى هذا يحلف البائع أنه ما باع بألف، ثم يحلف المشترى أنه ما ابتاع بألفين، فان نكل المشترى حلف البائع أنه باع بألفين، وقضى له، فان حلف المشترى حلف البائع أنه باع بألفين ثم يحلف المشترى أنه ابتاع بألف.
فان نكل قضى للبائع، وان حلف فقد تحالفا (الشرح) هذا الفصل بين كيفية اليمين ومضمونها لان كل واحد من المتبايعين ينطوى موقفه على حالتى اثبات ونفى ومن ثم ينبغى أن يكون حلفه مشتملا على أركان الدعوى من اثبات ونفى فمثلا المبتدئ باليمين يحلف ما بعته بعشرة وانما بعته بعشرين، فان شاء المشترى أخذه بما قال البائع، والا يحلف ما اشتريته بعشرين، وانما اشتريته بعشرة وبهذا قال الشافعي في الام.
وقال أبو حنيفة يبتدئ بيمين المشترى لانه منكر واليمين في جنبته أقوى ولانه يقضى بنكوله وينفصل الحكم، وما كان أقرب إلى فصل الخصومة كان أولى.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فالقول ما قال البائع " وفى لفظ " ما قال البائع.
والمشترى بالخيار " رواه أحمد ومعناه أن شاء أخذ وان شاء حلف ولان البائع اقوى جنبة.
لانهما إذا تحالفا عاد المبيع إليه.
فكان أقوى كصاحب اليد وقد بينا أن كل واحد منهما منكر من وجه فيتساويان في هذا الوجه.
والبائع إذا نكل فهو بمنزلة نكول المشترى يحلف الآخر ويقضى له فهما سواء.
وإذا حلف البائع فنكل المشترى عن اليمين قضى عليه.
وان نكل البائع حلف المشترى وقضى له.
وان حلفا جميعا لم ينفسخ البيع لان العقد صحيح.

(13/56)


والتحالف لا يفسخ العقد، كما لو أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه، لكن إن
رضى أحدهما بما قال صاحبه أقر العقد بينهما، وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما الخيار.
أما على المذاهب تفصيلا فهل يستحب الحلف من البائع أو لا أم المشترى على أربعة أقوال (أصحها) يبدأ في اليمين بالبائع لان جانبه أقوى بعود المبيع الذى هو المقصود بالذات إليه بالفسخ الناشئ عن التحالف، ولان ملكه على الثمن قد تم بالعقد، وملك المشترى على المبيع لا يتم إلا بالقبض، ولانه يأتي بصورة العقد، وصورة المسألة أن المبيع معين والثمن في الذمة، ومن ثم بدئ بالمشترى في عكس ذلك لانه أقوى حينئذ، ويخبر الحاكم بالبداءة بأيهما أداه إليه اجتهاده فيما إذا كانا معينين أو في الذمة.
والزوج في الصداق كالبائع، فيبدأ به لقوة جانبه ببقاء التمتع له، ولان أثر التحالف يظهر في الصداق إلا في البضع وهو باذله فكان كبائعه، والخلاف في الاستحباب لحصول المقصود بكل تقدير (الثاني) يبدأ في اليمين بالمشترى لقوة جانبه بالمبيع، وهو قول أبى حنيفة ووجه عند الاصحاب باعتبار أن رب السلعة في الحال هو المشترى، وللحديث: فالقول ما يقول رب السلعة.
(الثالث) يتساويان لان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فلا ترجيح فيتخير الحاكم فيم يبدأ به منهما (الرابع) يقرع بينهما فمن قرع بدئ به.
وذلك لان القرعة سبيل لحسم النزاع عند التشاح.
قال الغزالي في الوجيز: أما كيفية اليمين فالبداءة بالبائع، وفى السلم بالسلم إليه وفى الكتابة بالسيد، لانهما في رتبة البائع، وفى الصداق بالزوج لانه في رتبة بائع الصداق، وأثر التحالف يظهر فيه لا في البضع.
وقيل انه يبدأ بالمشترى وهو مخرج، وقيل يتساويان فيقدم بالقرعة أو برأى القاضى.
اه وفى كيفية اليمين أقوال:
(أحدها) أن يجمع بين النفى والاثبات بيمين واحدة مطلقا، والصيغة التى اتفقوا عليها أن يقول: والله ما بعت بكذا ولقد بعت بكذا.
ويقول المشترى: والله ما اشتريت بكذا، ولقد اشتريت بكذا، أو يأتي بلفظ (وإنما) بدل (ولقد)

(13/57)


وأباه بعضهم لما فيه من إبهام اشتراط الحصر، وفى رأى شمس الدين الرملي - وهو الملقب بالشافعي الصغير - لا يكفى قوله ما بعت إلا بكذا، لان الايمان لا يكتفى فيها باللوازم، بل لابد من الصريح.
لان فيها نوعا من التعبد، ومن هنا كان قولا ثانيا وهو: (ثانيها) أن يبدأ بالنفى ثم الاثبات بيمين واحدة لكليهما (ثالثها) أن يبدأ بالاثبات ثم بالنفى بيمين واحدة لكليهما، لانه دعوى عقد وإنكار عقد فافتقر إلى يمينين (رابعها) أن يبدأ بالنفى بيمين ثم بالاثبات بيمين أخرى، وهو المستحب في قول الرملي في نهاية المحتاج (خامسها) أن يبدأ بالاثبات بيمين ثم بالنفى بيمين أخرى (سادسها) أن يبدأ بما شاء منهما بيمين والآخر بيمين أخرى والصواب أن يبدأ القاضى - إذا ترافعا إليه أو أحدهما - بيمين البائع وحسبه في ذلك أن يقول والله ما بعت بكذا ولقد بعت بكذا، والله تعالى أعلم على أن الاختلاف يشمل المبيع والثمن، لان قوله إذا اختلف المتبايعان مع حذف المتعلق مشعر بالتعميم في مثل هذا المقام، على ما قرره علماء المعاني، فيعم الاختلاف في المبيع وفى الثمن وفى كل أمر فرجع اليهما، وفى سائر الشروط المعتبرة، والتصريح بالاختلاف في الثمن في بعض الروايات، كما وقع في أحاديث الباب لا ينافى هذا العموم المستفاد من الحذف وفى حديث ابن مسعود عند أحمد " فالقول ما يقول صاحب السلعة " وصاحب
السلعة هو البائع كما وقع التصريح به في سائر الروايات، فلا وجه لما روى عن البعض من أن رب السلعة في الحال هو المشترى والاختلاف بين المتبايعين في أمر من أمور العقد لا علاج له إلا يمين البائع فإذا حلف المشترى فقد تحالفا ولا يكون لهما خلاص من هذا النزاع إلا التفاسخ على أن سبب الاختلاف بين الفقهاء هو قوله صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه " لانه يدل بعمومه، على أن اليمين على المدعى عليه والبينة على المدعى من غير فرق بين أن يكون أحدهما بائعا والآخر مشتريا

(13/58)


أو لا.
وحديث ابن مسعود يدل على أن القول قول البائع مع يمينه والبينة على المشترى من غير فرق بين أن يكون البائع مدعيا أو مدعى عليه، فبين الحديثين عموم وخصوص من وجه، فيتعارضان باعتبار مادة الاتفاق.
وهى حيث يكون البائع مدعيا فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى الامور الخارجية، وحديث " أن اليمين على المدعى عليه " رواه أحمد ومسلم، وهو أيضا في صحيح البخاري في الرهن وفى باب اليمين على المدعى عليه.
وفى تفسير آل عمران.
وأخرجه الطبراني بلفظ " البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه " وأخرجه الاسماعيلي بلفظ: ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب.
وأخرجه البيهقى بلفظ " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر " وهذه الالفاظ كلها في حديث ابن عباس ممن رام الترجيح بين الحديثين لا يصعب عليه ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا تحالفا وجب فسخ البيع لانه لا يمكن إمضاء العقد مع التحالف وهل ينفسخ بنفس التحالف أم لا.
فيه وجهان
(أحدهما)
أنه ينفسخ
بنفس التحالف كما ينفسخ النكاح في اللعان بنفس التحالف، ولان بالتحالف صار الثمن مجهولا والبيع لا يثبت مع جهالة العوض فوجب أن ينفسخ
(والثانى)
أنه لا ينفسخ إلا بالفسخ بعد التحالف وهو المنصوص لان العقد في الباطن صحيح لانه وقع على ثمن معلوم فلا ينفسخ بتحالفهما، ولان البينة أقوى من اليمين.
ثم لو أقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه لم ينفسخ البيع، فلان لا ينفسخ باليمين أولى.
وفى الذى يفسخه وجهان
(أحدهما)
أنه يفسخه الحاكم لانه مجتهد فيه فافتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعيب
(والثانى)
انه ينفسخ بالمتعاقدين لانه فسخ لاستدراك الظلامة فصح من المتبايعين كالرد بالعيب (الشرح) قوله " وإذا تحالفا وجب فسخ البيع " لسبق قولنا إنه يشجب التراضي المنصوص عليه في قوله عز وجل " عن تراض منكم " ولقولنا: والاختلاف بين المتبايعين في أمر من أمور العقد لا علاج له إلا يمين البائع،

(13/59)


فإذا حلف البائع ثم حلف المشترى فلا يكون لهما مناص من التفاسخ ليخرجا من محارج النزاع.
ولكن هل ينفسخ بنفس التحالف أم لا؟ وجهان
(أحدهما)
أنه ينفسخ بنفس التحالف لانه ذروة النزاع المفضى إلى الفسخ كما ينفسخ النكاح في اللعان بنفس التحالف، واللعان من العقود التى تفسخ بالتحالف فيقع الفسخ ظاهرا وباطنا، لانه فسخ لاستدراك الظلامة، ولان الثمن بعد التحالف صار مترددا بين ادعاءى كل من المتبايعين مما يسبغ عليه جهالة تخل بالعقد خللا ينقضه، لان الثمن حينئذ يصير مجهلا لا مجهولا، لانه معلوم عندهما باطنا، ولكن عراه التجهيل باختلافهما عليه إن كان الاختلاف في مقدار الثمن.
وكذلك اختلافهما في مقدار المبيع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولان الثمن عوض عن المبيع فلا يثبت العقد مع جهالة الثمن

(والثانى)
أنه لا ينفسخ بمجرد التحالف ولكن بفسخه قصدا بعده، وهو المنصوص في الذهب.
قال المزني في المختصر في باب اختلاف المتبايعين: والمعقول إذا تناقضاه والسلعة قائمة تناقضاه وهى فائتة لان الحكم أن يفسخ العقد فقائم وفائت سواء.
ولنا أن العقد لا ينفسخ بنفس الحالف، لان كل واحد منهما يقصد بيمينه إثبات الملك فلم يجز أن تكون موجبة لفسخ الملك لانهما ضدان فعلى هذا لو فسخه المتبايعان فأيهما فسخ صح اعتبارا بفسخ العيوب التى تكون موقوتة على المتعاقدين دون غيرهما والوجه الثاني: أن الفسخ لا يقع إلا بفسخ الحاكم كالفسخ بالعنة وعيوب الزوجين لانها عن اجتهاد.
فعلى هذا لو فسخه المتبايعان لم ينفسخ حتى يفسخه عليهما الحاكم بعد تحالفهما عنده، وتخيير كل منهما في قبول قول الآخر، فإن قبل صح البيع قال الشافعي في الام فيما يتعلق باختلاف المتبايعين: " وإذا تبايع الرجلان عبدا وتفرقا بعد البيع ثم اختلفا، فقال البائع: بعتك على أنى بالخيار ثلاثا.
وقال المشترى بعتني ولم تشترط خيارا تحالفا، وكان المشترى بالخيار في فسخ البيع، أو يكون للبائع الخيار وهذا والله أعلم كاختلافهما

(13/60)


في الثمن، نحن ننقض البيع باختلافهما بالثمن وننقضه بادعاء هذا أن يكون له الخيار، وأنه لم يقر بالبيع إلا بخيار، وكذلك لو ادعى المشترى الخيار كان القول فيه هكذا.
اه ومرادنا من سوق هذا النص: قوله رضى الله عنه: نحن ننقض البيع باختلافهما بالثمن.
والنقض هنا نقض الظاهر، أما النقض في الباطن فلا، لانه يمكن
أن يتراضيا بغير عقد جديد فيمضى العقد على سننه.
وذلك هو قول المصنف (لان العقد في الباطن صحيح) قوله " ولان البينة أقوى من اليمين " لانها مقدمة عليه ولانه بقيامها لا يسوغ اليمين لان وسائل الاثبات إذا كانت كتابية وممهورة بخاتم أو توقيع البائع أو المشترى أو كليهما كان لا محل لليمين هنا ولان العقد وقع بين المتبايعين بالقواعد العامة المقررة شرعا من التراضي بين ذوى أهلية للتعاقد، ويكفينا أن نقول: انه يجب أن يقع التراضي على الامور الثلاثة وهى: ماهية العقد، والمبيع، والثمن فيجب لانعقاد البيع أن تتجه الارادتان إلى البيع والشراء، أما إذا لم تتقابل الارادتان في هذا المعنى بأن قصد أحد المتبايعين البيع والثانى عقدا آخر لم ينعقد عقد بيع ولا عقد آخر، وإذا قصدا معا إلى عقد آخر غير البيع طبقت أحكام هذا العقد ولو سمياه بيعا.
ومن هنا كان اتفاق الارادتين على الشئ المبيع ذاته، كان العقد صحيحا باطنا وظاهرا، فإذا اختلفا فقد أخلا بظاهره دون باطنه لسبق التقاء إرادتيهما على عقده.
أما إذا كانت هناك بينة ثم اختلفا وترافعا إلى القاضى، فإن القاضى يفسر بحكمه إرادة المتعاقدين، فإذا تعذر على القاضى ذلك لعدم توفر الخصائص الذاتية المميزة للتعاقد بموجب البينة المقدمة إليه، كما لو كانت وثيقة مزورة، أو شهادة مفتعلة، أو أمارات لا ينتهض لاقناعه بتوفر العناصر الاساسية للعقد واستحال على القاضى إعطاء الوصف الشرعي لصحة العقد أمر بفسخه، وهل يأمر بفسخه على الفور؟ أم على التراخي؟ الصحيح أنه إذا خشى تلف المبيع، أو فوات مصلحة تتعلق بنفوقه أو كساده كان قضاؤه على الفور.
أما إذا ترتب على التراخي عدم ما ذكرنا مع توقع تقدم أحد

(13/61)


طرفي النزاع أو كليهما بالبينة أو (المستندات) كان له إصدار الحكم مع توقيت حينه بتأجيل النطق به إلى الوقت المناسب مناسبة مطابقة لجميع الاحوال مع اتقاء المضارة.
وغنى عن البيان أن عوض المبيع لا يشترط أن يكون نقدا مع الرجوع إلى أحكام الربويات التى مرت للمصنف والشارحين النووي والسبكي رحمهما الله.
ورجح ابن الرفعة أن لا يكون فسخ القاضى على الفور، ولا يشكل عليه ما مر من إلحاقه بالعيب وبقاء المنازعة، فقد يفرق بأن التأخير غير مشعر بالرضا للاختلاف في وجود المقتضى بخلافه.
ومنازعة الاسنوى في قياس ما تقرر على الاقالة الذى نقله المزني والبويطى وأقراه.
بأن كلا لو قال - ولو بحضور صاحبه بعد البيع: فسخته، لم ينفسخ ولم يكن إقالة، إذ لا تحصل الا ان صدرت بإيجاب وقبول، بشرطه المار مردودة بأن تمكين كل بعد التحالف من الفسخ كتراضيهما به.
أي بلفظ الاقالة، فالقياس صحيح، وأن لكل الابتداء بالفسخ، وبه صرح الرافعى على ما سيأتي قال الرملي في النهاية، وهو الملقب بالشافعي الصغير، رحمه الله تعالى: وإذا تحالفا فالصحيح أن العقد لا ينفسخ بنفس التحالف، لان البينة أقوى من اليمين.
وللخبر الثاني فإن تخييره فيه بعد الحلف صريح في عدم الانفساخ به ولو أقام كل منهما بينة لم ينفسخ، فبالتحالف أولى.
بل ان أعرضا عن الخصومة أعرض عنهما ولا ينفسخ، وان تراضيا على ما قال أحدهما أقر العقد وينبغى للحاكم ندبهما للتوافق ما أمكن.
ولو رضى أحدهما بدفع ما طلبه صاحبه أجبر الآخر عليه.
والا بأن لم يتفقا على شئ واستمرا على النزاع، فيفسخانه أو أحدهما، لانه فسخ لاستدراك الظلامة، فأشبه الفسخ بالعيب، أو الحاكم لقطع المنازعة.
ثم فسخ الحاكم والصادق منهما ينفذ ظاهرا وباطنا كالاقالة، وغيره
ينفذ ظاهرا فقط.
ورجح ابن الرفعة عدم وجوب الفور هنا، ولا يشكل عليه ما مر من إلحاقه

(13/62)


بالعيب، فقد يفرق بأن التأخير غير مشعر بالرضا للاختلاف في وجود المقتضى ثم.
قال: وقيل انما يفسخه الحاكم لانه مجتهد فيه كالفسخ بالعنة، وكأنهم اقتصروا في الكتابة على فسخ الحاكم احتياطا لسبب العتق المتشوف إليه الشارع وبعده أيضا على أوجه الوجهين لبقاء ملكه، بل قضية تعليلهم جوازه بعد الفسخ إذا لم يزل به ملك المشترى وهو كذلك على أن لليمين فوائد: (منها) تخويف المدعى عليه سوء عاقبة الحلف الكاذب، فيحمله ذلك على الاقرار بالحق.
(ومنها) القضاء عليه بنكوله عنها على ما قدمنا من القضاء عليه إذا نكل عن اليمين.
(ومنها) انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، وتخليص كل من الخصمين من ملازمة الآخر، ولكنها لا تسقط الحق، ولا تبرئ الذمة باطنا ولا ظاهرا فلو أقام المدعى بينة بعد حلف المدعى عليه، سمعت وقضى بها، وكذا لو ردت اليمين على المدعى فنكل (1) ، ثم أقام المدعى بينة، سمعت وحكم بها (ومنها) اثبات الحق بها إذا ردت على المدعى أو أقام شاهدا واحدا.
(ومنها) تعجيل عقوبة الكاذب المنكر لما عليه من الحق، فإن اليمين الغموس تدع الديار بلاقع، فيشتفى بذلك المظلوم عوض ما ظلمه بإضاعة حقه.
__________
(1) نكل عن الشئ امتنع عنه خوفا أو جبنا، ومشروعية اليمين هنا لحكمة
كبرى، وهى اعطاء المتخاصمين فرصة من الوقت يراجع فيها ضميره إذا كان على غير الحق.

(13/63)


ومنها أن تشهد قرائن الحال بكذب المدعى، فمذهب مالك أنه لا يلتفت إلى دعواه، ولا يحلف له، وهذا اختيار الاصطخرى من الشافعية، ويخرج على مذهب أحمد مثله، وذلك مثل أن يدعى الدنئ استئجار أمير أو ذى هيئة وقدر لعلف دوابه، وكنس بابه، ونحو ذلك.
وروى عن شيخ الاسلام ابن تيمية أنه كان عند نائب السلطان في دمشق (1) يجلس إلى جانبه، فادعى بعض الحاضرين أن له قبل ابن تيمية وديعة، وسأل اجلاسه معه واحلافه فقال لقاضي المالكية - وكان حاضرا - أتسوغ هذه الدعوى؟ وتسمع، فقال: لا، فقال ابن تيمية: فما مذهبك في مثل ذلك، قال تعزير المدعى.
قال ابن تيمية: فاحكم بمذهبك، فأقيم المدعى وأخرج.
(فرع)
إذا أقيمت الدعوى وقدمت البينة لا ينفسخ العقد الا بصدور حكم القاضى بالفسخ وهنا كان عدم انفساخه باليمين أولى.
وقوله: وفى الذى يفسخه وجهان، وعند الحنابلة طريقان.
اولهما: وهو الاصح عند الشافعي وأصحابه أن الذى يفسخه هو الحاكم لانه مجتهد فيه، أعنى لان أمر النزاع محل اجتهاد فافتقر إلى من يبذل وسعه، ومن يبلغ بعلمه واحاطته تغطية عناصر النزاع، ومن هنا افتقر أمر الفسخ إلى الحاكم كما يفتقر فسخ النكاح بالعيب إليه.
قال ابن قدامة في المغنى:
ويحتمل ان يقف الفسخ على الحاكم، وهو ظاهر مذهب الشافعي، لان العقد صحيح وأحدهما ظالم، وانما يفسخه الحاكم لتعذر امضائه في الحكم،
__________
(1) كانت مصر والشام والحجاز واليمن يحكمها سلطان واحد مقره في القلعة بمصر وله نائب على دمشق ونائب علن حلب ونائب على الحجاز ونائب على اليمن وذلك على عهد المماليك الايوبيه وهم أبناء قلاوون.

(13/64)


فأشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان، وجهل السابق منهما اه.
وأما الوجه الثاني على المذهب أو الطريق الاصح عند أحمد فهو أن يفسخه المتعاقدان، لانه يقع منهما صحيحا كالرد بالعيب، وكل ما كان فيه استدراك للظلامة وهو ظاهر الحديث واذعان له " أو يترادان البيع " وظاهره استقلالهما بذلك، وفى قصة بيع ابن مسعود الاشعث بن قيس رقيقا من رقيق الامارة، فقال عبد الله: بعتك بعشرين ألفا.
فقال الاشعث اشتريت منك بعشرة آلاف فقال عبد الله سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول " إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة، والمبيع قائم بعينه، فالقول قول البائع، أو يترادان البيع " قال فإنى أرد البيع، رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن ابن أبى ليلى عن عبد الرحمن ابن القاسم عن ابن مسعود، ومن هنا لا يتوقف ذلك على فسخ الحاكم، الا إذا لجأ أحدهما إلى المرافعة لديه.
وحديث عبد الملك بن عبيدة قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع، ثم كان المشترى بالخيار، ان شاء أخذ وان شاء ترك " وهذا ظاهر عند الحنابلة في أنه يفسخ من غير حاكم، لانه جعل الخيار إليه، فأشبه من له خيار الشرط أو الرد بالعيب، ولانه هنا لا يشبه النكاح لان لكل واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق.
ويمكن أن يرد على مفهوم هذين الخبرين على هذا النحو بما يأتي: أولا: ان متعلق النزاع بين ابن مسعود والاشعث هو رقيق الامارة، والامارة كانت لعبد الله بن مسعود، فكان هو بمثابة القاضى الذى طبق النص، وأوضحه لصاحبه، إذ لم يكن بهما من حاجة إلى حاكم وصاحب الشأن، حاكم ثقة يحمل الدليل اللاحب فلا يفيد الخبر استقلال المتبايعين بالفسخ عند التحالف وليس نصا قاطعا في هذا المفهوم.
ثانيا: خبر عبد الملك بن عبيده لا يفيد ذلك أيضا - أعنى ليس دليلا على استقلال المتبايعين بالفسخ دون الرجوع إلى القاضى - فان الخبر ينص بمنطوقه ومفهومه أيضا على عكس ذلك، فقوله (استحلف) دليل على طلب الحلف

(13/65)


المستفاد من السين والتاء، ولا يكون الطلب إلا من غيرهما، وليس سوى الحاكم هو الذى يستحلف البائع والله أعلم.
(مسألة) قال الشافعي في باب المكاتب: إذا اختلف الزوجان في المهر وتحالفا بدأت بالزوج اه.
قلت: وهذا مخالف لقاعدة البدء بالبائع لان الزوج يحل محل المشترى.
وقال الشافعي في كتاب الدعوى والبينات وآداب القضاه: إن بدأ البائع باليمين خير المشترى، وإن بدأ بها المشترى خير البائع.
قلت: وهذا يدل على أن للحاكم تقديم أيهما شاء.
ولعل أقوال الشافعي في الام جعلت الاصحاب يخرجون المسألة على الاقاويل الثلاثة المعروفة.
أحدها: ان يبدأ الحاكم بإحلاف البائع لانه أقوى جانبا.
والثانى: بإحلاف المشترى لانه أقوى جانبا لمشابهته الزوج.
والثالث: وهو أصح الاقوال عند الاصحاب أن الحاكم يبدأ بإحلاف البائع
قبل المشترى ويمكن أن يجاب عن اختلاف الاقاويل بأن ظاهر النص في البيوع بإحلاف البائع قبل المشترى وظاهر النص في الصداق بإحلاف الزوج قبل الزوجة، والفرق بينهما أن تحالفهما في البيع برد المبيع إلى يد بائعه فبدئ بإحلافه، وتحالفهما في المهر لا يرفع ملك الزوج عن البضع، وهو بعد التحالف على ملكه فبدئ بإحلافه.
وأما ما قاله الشافعي في الدعوى والبينات فإنما أراد به أن الحاكم إن أداه اجتهاده إلى تقديم المشترى جاز، وإن أداه اجتهاده إلى تقديم البائع جاز، لان تقديم أحدهما طريقه الاجتهاد دون النص، فجاز أن يؤدى الاجتهاد إلى تقديم كل واحد منهما، وليس كاللعان الذى ورد النص بتقديم الزوج ولا يجوز خلافه فإذا ثبت أن يبدأ بيمين البائع على ما شرحنا من المذهب فهل تقديمه في اليمين من طريق الاولى إلى طريق الاستحقاق؟ على وجهين.
أحدهما: أن تقديمه على طريق الاستحقاق، فإن قدم عليه المشترى لم يجز الا أن يؤدى اجتهاد الحاكم إلى ذلك.

(13/66)


والوجه الثاني: تقديمه على طريق الاولى، فإن قدم عليه المشترى جاز وان لم يؤده اجتهاده إليه ولما كان الحاكم منصوبا لاستيفاء الحقوق وقطع التخاصم، ولانه مجتهد، يجب تسليم المبيع والثمن إليه حتى إذا قضى بينهما سلم المبيع اما إلى المشترى واما رده إلى بائعه وسلم الثمن اما إلى البائع واما رده إلى المشترى.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا فسخ أو انفسخ فهل ينفسخ ظاهرا وباطنا أم لا فيه ثلاثة أوجه، أحدها ينفسخ ظاهرا وباطنا لانه فسخ بالتحالف فوقع ظاهرا وباطنا كفسخ النكاح باللعان، ولانه فسخ بيع لاستدراك الظلامة فصح ظاهرا وباطنا كالرد بالعيب.
والثانى: أنه ينفسخ في الظاهر دون الباطن، لان سبب الفسخ هو الجهل بالثمن، والثمن معلوم في الباطن مجهول في الظاهر، فلما اختصت الجهالة بالظاهر دون الباطن اختص البطلان بالظاهر دون الباطن.
والثالث: أنه ان كان البائع هو الظالم وقع الفسخ في الظاهر دون الباطن، لانه يمكنه أن يصدق المشترى، ويأخذ منه الثمن، ويسلم إليه المبيع، فإذا لم يفعل كان ممتنعا من تسليم المبيع بظلم، فلم ينفسخ البيع، وان كان البائع مظلوما انفسخ ظاهرا وباطنا، لانه تعذر عليه أخذ الثمن، ووجد عين ماله فجاز له أن يفسخ ويأخذ عين ماله، كما لو أفلس المشترى ووجد البائع عين ماله.
فإن قلنا: ان الفسخ يقع في الظاهر والباطن عاد المبيع إلى ملك البائع والى تصرفه.
وان قلنا: ان الفسخ في الظاهر دون الباطن نظرت، فان كان البائع هو الظالم لم يجز له قبض المبيع والتصرف فيه، بل يلزمه أن يأخذ ما أقر به المشترى من الثمن ويسلم المبيع إليه، وان كان مظلوما لم يجز له التصرف في المبيع بالوطئ والهبة، لانه على ملك المشترى، ولكن يستحق البايع الثمن في ذمة المشترى، ولا يقدر على أخذه منه فيبيع من المبيع بقد حقه، كما تقول فيمن له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه ووجد شيئا من ماله.

(13/67)


(الشرح) العقد له ظاهر وهو الايجاب والقبول والتقابض من الماديات الظاهرة أما الباطن فهو التقاء ارادة كل من المتبايعين، ووجود العلم بحقيقة النزاع ولكن في ضمير كل منهما.
ومن هنا إذا انفسخ العقد بصورة مما أسلفنا فهل ينفسخ ظاهرا وباطنا؟ أم ظاهرا فقط؟ على ثلاثة أوجه عند الشافعية، ووجهان عند أصحاب أحمد، ووجه عند أحمد.
أولها: ينفذ الفسخ ظاهرا وباطنا بهذا التحالف، كفسخ النكاح باللعان.
ولانه فسخ بيع لاستدراك الظلامة فوقع ظاهرا وباطنا وهو كالر بالعيب.
أو فسخ عقد بالتحالف.
وهذا الوجه هو ظاهر كلام أحمد بن حنبل.
ثانيها: ينفذ الفسخ في الظاهر دون الباطن لان سبب الفسخ هو الجهل بالثمن والثمن معلوم في ضميرهما مجهول في الظاهر.
ولان انفساخ العقد سببه الجهالة بالثمن.
ولان الجهالة قاصرة على الظاهر دون الباطن انحصر الانفساخ في ظاهر العقد واختص البطلان بالظاهر.
وكان العقد في الباطن صحيحا.
وكان القاضى الذى يحاسب المتبايعين على هذا التحالف والنزاع هو الله رب العالمين.
وكأى عقد من العقود التى في ذمة المسلم واجبة الوفاء يكون للعقد طرفان ظاهران وطرف آخر في الباطن يعلمه الذى لا تخفى عليه خافية.
ولقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " وهو الذى يتولى جزاء الناكثين والناقضين بغير حق يسوغ لهم النقض.
ولانه لو أراد أحد طرفي النزاع أن يوافق الآخر على رأيه ويتنازل عن دعواه.
فانهما لا يفتقران إلى عقد جديد أو ايجاب وقبول آخرين.
ومن هنا يتحرك العقد المنقدح من ضميرهما إلى تنفيذ وامضاء في الظاهر ولانه يحرم عليه أمام الله التصرف في المبيع ان كان ظالما لصاحبه.
وهذا الوجه هو وجه عند أصحاب أحمد أيضا.
قال أبو الخطاب من الحنابلة: ان كان البايع ظالما لم ينفسخ القد في الباطن لانه كان يمكنه امضاء العقد واستيفاء حقه فلا ينفسخ العقد في الباطن ولا يباح له التصرف في المبيع لانه غاصب.
فان كان المشترى ظالما انفسخ البيع ظاهرا وباطنا لعجز البايع عن استيفاء حقه.
فكان له الفسخ.
كما لو أفلس المشترى.

(13/68)


قال الماوردى في الحاوى (1) في المجلد الخامس من النسخة الخطية بمصر، وهى ذات الاربعة والعشرين مجلدا بالخزانة العربية: لا يفسخ العقد بنفس التحالف
لان كل واحد منهما يقصد بيمينه إثبات الملك لانهما ضدان، فعلى هذا بماذا يكون الفسخ بعد التحالف؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أن الفسخ يكون لكل واحد من المتبايعين، فأيهما فسخ صح اعتبارا بفسخ العيوب التى تكون موقوفة على المتعاقدين دون غيرها والوجه الثاني أن الفسخ لا يقع إلا بفسخ الحاكم كالفسخ بالعنة وعيوب الزوجين، لانها عن اجتهاد، فعلى هذا لو فسخه المتبايعان لم ينفسخ حتى يفسخه عليهما الحاكم، ولا يجوز للحاكم أن يفسخه بغير تحالفهما بعد عرض ذلك على كل واحد منهما، كما يعرض على الثاني بعد تخيير الاول، ثم يفسخه بينهما حينئذ، فلو تراضيا بعد تحالفهما صح البيع وهل يقع الفسخ ظاهرا أو باطنا؟ ويقع في الظاهر دون الباطن، على ثلاثة أوجه (أحدها) أن الفسخ قد وقع ظاهرا وباطنا، سواء كان البائع ظالما أو مظلوما، كالفسخ باللعان، وكالفسخ عند تحالف الزوجين في نكاح الولى.
فإن ذلك يقع ظاهرا وباطنا، كذلك في البيع، فعلى هذا إذا عادت السلعة إلى البائع كان له ان يتصرف فيها بما شاء من أنواع التصرف كما يفعل في سائر أحواله وإن كانت جارية جاز أن يطأها والوجه الثالث: أن الفسخ يقع في الظاهر دون الباطن، سواء كان البائع ظالما أو مظلوما لانهما يتفقان مع الاختلاف على صحة العقد وانتقال الملك، وحكم الحاكم لا يحيل الامور عما هي عليه في الباطن لقوله صلى الله عليه وسلم " إنما أحكم بالظاهر ويتولى الله السرائر " فعلى هذا إذا عاد المبيع إلى البائع قيل له: إن كنت تعلم فيما بينك وبين الله
__________
(1) المجلد الخامس من النسخة الخطية بدار الكتب تحت رقم 82 فقه شافعي على أن هناك نسخة خطية أخرى تقع في أربعة عشر مجلدا تحت رقم 83
وهى غير كاملة.

(13/69)


أنك كاذب، وأن المشترى صادق، فليس لك أن تتصرف في المبيع بوجه لانه ملك لغيرك، وأنت غير ممنوع من ثمنه فإن تصرفت فيه كنت كمن تصرف في ملك غيره متعديا، وإن كنت تعلم أنك صادق وأن المشترى كاذب فالمبيع للمشترى وأنت ممنوع من ثمنه فليس لك أن تطأه إن كان المبيع جارية وأن لا تهب، وتكون كمن له مال على غيره لا يقدر على أخذه منه أو أي شئ من ماله فيتبع السلعة لتصل إلى حقك من ثمنها وفى المتولي لبيعها، والثانى تولاه الحاكم، فإذا بيعت فإن كان الثمن بقدر حقك فلك أخذ حقك، وإن كان أكثر من حقك فعليك رد الباقي، وإن كان الثمن أقل من حقك فالباقي دين لك في ذمة المشترى والوجه الثالث: ان كان البائع مظلوما والمشترى ظالما وقع الفسخ في الظاهر والباطن.
وقد أشار إلى هذا الوجه أبو إسحاق المروزى تعلقا بأن الملك للمشترى بالعقد، وان كان لم ينتقل ملكه.
وان كان ظالما صار بالظلم مانعا من ثمنها فصار أسوأ حالا من الجنس الذى يزال ملكه بالاولى لتعذر الثمن.
فكذلك هذا يزال ملكه بالظلم لتعذر الوصول إلى الثمن.
فعلى هذا إن كان البائع مظلوما فقد وقع الفسخ ظاهرا وباطنا وجاز للبائع إذا عادت السلعة إليه أن يتصرف كيف شاء.
اه قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة في يد المشترى، تحالفا وفسخ البيع بينهما، لان التحالف يثبت لرفع الضرر واستدراك الظلامة، وهذا المعنى موجود بعد هلاك السلعة، فوجب ان يثبت التحالف، فإذا تحالفا رجع بقيمته ومتى تعتبر قيمته؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تجب قيمته يوم التلف
(والثانى)
تجب
قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف، وقد ذكرنا دليل الوجهين في هلاك السلعة في البيع الفاسد، فإن زادت القيمة على ما ادعاه البائع من الثمن وجب ذلك.
وحكى عن أبى على بن خيران أنه قال: ما زاد على الثمن لا يجب، لان البائع لا يدعيه فلم يجب، كما لو أقر لرجل بمالا يدعيه، والمذهب الاول.
لانه بالفسخ سقط اعتبار السلعة، فالقول قول المشترى لانه غارم.
فكان

(13/70)


القول قوله كالغاصب، فإن تقايلا أو وجد بالمبيع عيبا فرده واختلفا في الثمن.
فقال البائع الثمن ألف، وقال المشترى الثمن ألفان فالقول قول البائع، لان البيع قد انفسخ، والمشترى مدع، والبائع منكر، فكان القول قوله (الشرح) إذا هلكت السلعة في يد المشترى واختلفا في الثمن تحالفا، ولا اعتبار باليد، إلا أن يكون تلفها قبل القبض.
أما إذا كان تلفها بعد القبض وتلفت في يد المشترى فأبو حنيفه يرى أنه إذا تلف المبيع في خيار الثلاث بعد لزوم العقد فالقول قول المشترى ولا تحالف لان تلف السلعة يمنع من التحالف ويوجب قبول قول المشترى لما روى عن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذَا اختلف المتبايعان ولا بينة لواحد منهما والسلعة قائمة تحالفا أو ترادا.
فشرط التحالف بقاء السلعة فاقتضى عدم قيام التحالف مع تلف السلعة.
قال ولانه فسخ ثبت مع نقل المبيع، فوجب أن يسقط مع تلفه كالرد بالعيب.
قال ولانه تلف عن عقد صحيح فوجب أن يبقى عند الفسخ قال: إذا تلف المبيع في خيار الثلاث بعد لزوم العقد، فهل يستمر العقد أو ينفسخ؟ قال ولان المبيع أقبض وصار في يد المشترى فهو مضمون على مشتريه بالثمن، فلو جاز تحالفهما بعد الثمن لصار مضمونا عليه بالقيمة دون الثمن.
وهذا مما ينافى ضمان العقد.
ولنا أن الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه من تحالفهما مع نقل السلعة وتلفها ما روى في الخبر: " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " وقد مر لنا بيان طرقه ودرجته وتقعيد العمل به، وكل واحد من المتبايعين منكر ومدع، لان البائع يقول بعت بألف ولم أبع بخمسمائة، ويقول المشترى عكس ذلك، فكل واحد منهما يجوز أن يقيم البينة والبينة إنما تسمع من المدعى دون المنكر، فدل على أن كل واحد منهما مدع منكر فوجب أن يتحالفا، لان التحالف يثبت لرفع الضرر واستدراك الظلامة، وهذا المعنى موجود بعد هلاك السلعة، فوجب أن يثبت التحالف

(13/71)


ويدل على ذلك أيضا الحديث الذى رواه الشافعي وغيره عن ابن مسعود " إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار " ولم يفرق بين بقاء السلعة وتلفها.
فإن قيل: فقد شرط بقاء السلعة في التحالف في الخبر الآخر، فصار هذا الاطلاق محمولا على ذلك التقييد، كما حملتم إطلاق العتق في كفارة الظهار على تقييد العتق في كفارة القتل، قيل: هذا ليس من المقيد الذى يحمل إطلاق جنسه عليه لان إطلاق خبر ربما يوجب تحالفهما مع بقاء السلعة وتلفها فصار قوله: إذا اختلفا والسلعة قائمة تحالفا مع استواء الحكم في قيامها وتلفها، قيل: يحتمل وجوها: أحدها: البينة على حكم التحالف مع التلف، لان بقاء السلعة يمكن معه اعتبار قيمتها، فيغلب به قول من كانت دعواه أقرب إليه، ومع التلف لا يمكن فلما سقط اعتبار هذا وأوجب التحالف مع قيام السلعة، كان وجوب التحالف مع تلفها أولى.
والثانى: أنه نص على بقاء السلعة، إسقاطا لاعتبار اليد، بخلاف مالك، حتى إذا تحالفا مع وجوب اليد كان تحالفهما مع زوال السلعة، لان تلفها قد يكون مكملا للعقد - كان قبل القبض - وبقاؤها ليس يبطل العقد معه، فيتحالفان مع بقائها، ولا يتحالفان مع تلفها.
فإن قيل: فلا دلالة لكم في هذا الخبر لانه جعل القول قول البائع، وأنتم لا تقولون به، قيل قد جعل المشترى بعده بالخيار، ومن جعل القول قول البايع على الاطلاق لم يجعل للمشترى خيارا، وإذا ثبت خيار المشترى بعد يمين البائع فخياره في قبول السلعة بما حلف عليه البائع، أو يحلف بعده، ويفسخ البيع، وكذا نقول في تحالفهما.
وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم البائع بالذكر لانه المبتدئ باليمين ويدل عليه المسألة من طريق المعنى أنه اختلاف في صفة عقد بيع صحيح فاقتضى أن يوجب التحالف فإذا كانت السلعة قائمة، ولان ما يوجب فسخ العقد يستوى فيه الباقي والتالف كالاستحقاق، ولانه فسخ لا يفتقر إلى تراضيهما.
فإذا صح مع تراد الاعيان صح مع تراد القيم.

(13/72)


وإذا اشترى عبدا بجارية وتقابضا ثم تلفت الجارية فوجد بالعبد عيبا فله رده بالعيب واسترجاع قيمة الجارية لفسخ العقد بعد تلفها كما كان له فسخه مع بقائها.
وأما الجواب عن استدلال أبى حنيفة بحديث ابن مسعود فقد مضى في معارضته الخبر الذى رواه الشافعي.
وأما الجواب عن قياسه على الرد بالعيب فالمعنى فيه أن العيب مما تلف يقدر على استدراك ظلامته بالاوفق فلم يفسخ، وليس كذلك في اختلافهما، لان كل
واحد منهما لا يقدر على استدراك ظلامته إلا بالتحالف، فجاز أن يتحالفا مع التلف، ولا وجه لقوله: إن السلعة بعد تلفها لا تقبل الفسخ، كما لا تقبل ابتداء العقد.
وإن إقالة العبد الآبق لا تصح ولا تقبل الاقالة، كما لا يقبل ابتداء العقد، لانه يقول فيمن ابتاع عبدا وقتل في يد البائع إن المشترى بالخيار بين أن يفسخ ويسترجع الثمن، أو يقيم على البيع ويأخذ من القاتل قيمة العبد، فقد جعل العقد بعد التلف قابلا للفسخ كذلك فيما جعلناه أصلا معه من بيع العبد بالجارية إذا تلفت ووجد بالعبد عيبا أن له رده بالعيب واسترجاع قيمة الجارية فجعل العقد بعد التلف قابلا للفسخ كما قبل التلف.
وأما الجواب عن قياسهم على خيار الثلاث فحكم الاصل غير مسلم فلم نسلم.
وأما الجواب عن قولهم ان المقبوض عن البيع الصحيح مضمون بالثمن دون القيمة فهو أن هذا الاستدلال باطل بمبتاع العبد بالجارية إذا تلفت ووجد بالعبد عيبا لان الجارية قد كانت مضمونة بالعبد الذى هو الثمن، ثم صارت بعد الفسخ بالعيب مضمونة بالقيمة دون الثمن.
ومقصد الفصل أن المتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن بعد هلاك المبيع في يد المشترى تحالفا وفسخ البيع ورجع بقيمة المبيع ان كان متقوما، وان كان مثليا وجب على المشترى مثله.
وهذا هو قول الشافعي، ومالك وأحمد في احدى روايتيهما " ومتى تعتبر قيمته، وهل يقوم من حين قبضه، أم يقوم من حين هلاكه؟ وجهان.

(13/73)


أحدهما: يقوم، وتجب قيمته يوم التلف.
وقد مر بيان ذلك في هلاك السلعة في البيع الفاسد.
فإذا زادت القيمة على ما ادعاه البائع من الثمن وجب ذلك خلافا لابي على بن
خيران بناء على قاعدة عدم إعطاء البائع ما ليس يدعيه وليس بمذهب.
(مسألة) إذا كان الهلاك معنويا بأن وقف المشترى المبيع أو أعتقه أو باعه أو تعلق به حق لازم ككتابة صحيحه - كما سيأتي في المكاتبة إن شاء الله تعالى - أو كان حسيا كأن مات لزمه قيمته إن كان متقوما، وكثيرا ما يعبرون بالقيمة ويريدون بها البدل شرعا، ولو تلف بعضه رد الباقي وبدل التالف وهذه القيمة هي قيمة يوم التلف في أظهر الاقوال كما رجحه الرملي في نهاية المحتاج، وإن كان المصنف رحمه الله ذكر قولا ثانيا وهو وجوب قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف.
وموضوع الفسخ العين، والقيمة بدل عنها، ثم تعتبر عند فوات أصلها، وفارق اعتبارها بما ذكر اعتبارها لمعرفة الارش بأقل قيمتي العقد والقبض، والنظر إليها هناك لا للغرم بل ليعرف منها الارش، وهنا المغروم القيمة فكان اعتبار حالة الاتلاف أليق.
قاله الرافعى.
وجعل الرملي القول الاول للمصنف قولا ثانيا عنده فقال: والثانى: قيمة يوم القبض لانه يوم دخوله في ضمانه.
والثالث: أقل القيمتين يوم العقد والقبض.
وجعل الرملي القول الثاني للمصنف قولا رابعا فقال: والرابع: أقصى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف لان يده يد ضمان فتعتبر أعلى القيم.
ان تعيب - أي أصابه عيب - رده مع أرشه وهو ما نقص من قيمته لان الكل مضمون على المشترى بالقيمة، فكان بعضه مضمونا ببعضها.
(مسألة) فرق بين اعتبار قيمة يوم التلف هنا وبين ما لو باع عينا فردت عليه بعيب وقد تلف الثمن المتقوم بيد البائع فانه يضمنه بالاقل من العقد إلى القبض بأن سبب الفسخ هنا حلف البائع، فنزل منزلة إتلافه فتعين النظر ليوم التلف.

(13/74)


وثم الموجب للقيمة هو مجرد ارتفاع العقد من غير نظر لفعل أحد، فتعين النظر لقضية العقد وما بعده إلى القبض.
(مسألة) وطئ الثيب ليس بعيب فلا أرش له، وإن كان قد رهنه أي المبيع خير البائع بين أخذ قيمته أو انتظار فكاكه، ولا ينافى ذلك ما ذكر في الصداق أنه لو طلقها قبل الوطئ وكان الصداق مرهونا، وقال: أنتظر الفكاك للرجوع فلها إجباره على قبول نصف القيمة لما عليها من خطر الضمان، فقياسه هنا إجباره على أخذ القيمة، لانا نقول: المطلقة قد حصل لها كسر بالطلاق، فناسب جبرها بإجابتها بخلاف المشترى وذلك للرفق بها ودفع ما أصابها من الكسر.
وإن كان قد أجره رجع فيه مؤجرا، ولا ينتزعه من يد المكترى حتى تنقضي المدة والمسمى للمشترى، وعليه للبائع أجرة المثل للمدة الباقية من وقت الفسخ إلى انقضاءها، ولو كان زكاة معجلة - وتعيب - فلا أرش أو جعله المشترى مثلا - صداقا - وتعيب في يد الزوجة واختار الرجوع إلى الشطر فلا أرش فيه، ولو دبره المشترى لم يمنع رجوع البائع أخذا مما ذكره المصنف في الفلس على ما سيأتي من أنه لا يمنع فيه.
قال في الحاوى: إذا فسخ البيع وجب رد السلعة على بائعها سواء قيل: إن الفسخ قد وقع ظاهرا وباطنا، أو قد وقع في الظاهر دون الباطن، فإن كانت السلعة تالفة فلا يخلو حالها من أحد أمرين إما أن تكون مما لها مثل أو مما لا مثل لها، فإن كانت مما لا مثل لها وجب رد قيمتها وفى اعتبار القيمة وجهان.
أحدهما: وقت التلف.
والثانى: مما كانت قيمته من وقت القبض إلى وقت التلف، فإن اختلفا في قدر القيمة فالقول قول المشترى مع يمينه اعتبارا بها في
ذمته، وسواء كانت القيمة أكثر مما ادعاه البائع أو أقل لبطلان ما ادعاه واستحقاق المبيع، وإن كانت السلعة المبيعة مما له مثل كالحنطة والشعير ففيه وجهان.
أحدهما: عليه رد مثله كالمغصوب.
والثانى وهو الاصح أن عليه غرم قيمته لانه لم يضمنه وقت القبض بالمثل، وإنما ضمنه بالعوض دون المثل بخلاف الغصب

(13/75)


قال: فأما ما أخذه المشترى من المبيع قبل الفسخ من غلة أو ثمرة أو نتاج فكله على ملك المشترى لا يلزمه رد شئ منه على البائع، لانه كان مالكا حين استغله، وإنما زال ملكه بما حدث من الفسخ.
اه وإن تقايلا، وأعفى كل منهما صاحبه من التزامه، أخذ البائع سلعته وأخذ المشترى ثمنه، فإذا اختلفا في الثمن، فقال البائع: الثمن ألف، وقال المشترى ألفان فالقول قول البائع، لانه لا يربطهما عقد لانفساخ البيع، فيكون المشترى بمجرد فسخ البيع مدعيا عليه البينة، فان أتى بالبينة كان القول قوله، فان لم تكن له بينة كان القول قول البائع لانه منكر بيمينه.
ومثل؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ل الرد بالعيب، وذلك إذا اختلفا في الثمن، فان العقد بمجرد الرد بالعيب يعد منسوخا وينسحب على كل منهما من الوصف ما ذكرناه في التقايل فالمشترى مدع عليه البينة والمشترى منكر.
قال ابن قدامة رحمه الله: وإذا اختلفا في ثمن السلعة بعد تلفها فعن أحمد فيها روايتان.
إحداهما: يتحالفان مثل ما لو كانت قائمة، وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك والاخرى قول المشترى مع يمينه اختارها أبو بكر، وهذا قول النخعي والثوري والاوزاعي وأبى حنيفة لقوله عليه السلام في الحديث " والسلعة قائمة ".
فمفهومه أنه لا يشرع التحالف عند تلفها، ولانهما اتفقا على نقل السلعة إلى
المشترى، واستحقاق عشرة في ثمنها، واختلفا في عشرة زائدة، البائع يدعيها والمشترى ينكرها، والقول قول المنكر، وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة للحديث الوارد فيه، ففيما عداه يبقى على القياس.
ووجه الرواية الاولى عموم قوله " إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع.
والمشترى بالخيار ".
وقال أحمد: ولم يقل فيه والمبيع قائم إلا يزيد بن هرون، قال أبو عبد الله وقد أخطأ رواة الحلف عن المسعودي، لم يقولوا هذه الكلمة، ولكنها في حديث معن، ولان كل واحد منهما مدع ومنكر، فيشرع اليمين كحال لقيام السلعة،

(13/76)


وما ذكروه من المعنى يبطل بحال قيام السلعة، فإن ذلك لا يختلف بقيام السلعة وتلفها.
وقولهم تركناه للحديث.
قلنا ليس في الحديث تحالفا.
وليس ذلك بثابت في شئ من الاخبار قال ابن المنذر.
وليس في هذا الباب حديث يعتمد عليه.
اه، وعلى أنه إذا خولف الاصل لمعنى وجب تعديته بتعدى ذلك المعنى فنقيس عليه، بل يثبت الحكم بالبينة، فإن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه يمكن معرفة ثمنها للمعرفة بقيمتها فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة، فمع تعذر ذلك أولى فإذا تحالفا فإن رضى أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ العقد لعدم الحاجة إلى فسخه، وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما فسخه، كما له ذلك في حال بقاء السلعة، ويرد الثمن الذى قبضه البائع إلى المشترى، ويدفع المشترى قيمة السلعة إلى البائع فإن كانا من جنس واحد وتساويا بعد التقابض تقاصا وينبغى أن لا يشرع التحالف ولا الفسخ فيما إذا كانت قيمة السلعة مساوية للثمن الذى ادعاه المشترى ويكون القول قول المشترى مع يمينه، لانه لا فائدة
من يمين البائع ولا فسخ البيوع، لان الحاصل بذلك الرجوع إلى ما ادعاه المشترى وإن كانت القيمة أقل فلا فائدة للبائع في الفسخ فيحتمل أن لا يشرع له اليمين ولا الفسخ لان ذلك ضرر عليه من غير فائدة ويحتمل أن يشرع لتحصيل الفائدة للمشترى، ومتى اختلفا في قيمة السلعة رجعا إلى قيمة مثلها موصوفا بصفاتها، فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشترى مع يمينه لانه غارم، والقول قول الغارم وان تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض البائع الثمن ثم اختلفا في قدره فالقول قول البائع لانه منكر لما يدعيه المشترى بعد انفساخ العقد، فأشبه ما لو اختلفا في القبض.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان مات المتبايعان فاختلف ورثتهما تحالفوا لانه يمين في المال فقام الوارث فيها مقام الموروث كاليمين في دعوى المال، وان كان البيع بين وكيلين

(13/77)


واختلفا في الثمن، ففيه وجهان
(أحدهما)
يتحالفان لانهما عاقدان فتحالفا لمالكين
(والثانى)
لا يتحالفان لان اليمين تعرض حتى يخاف الظالم منهما فيرجع.
والوكيل إذا أقر ثم رجع لم يقبل رجوعه فلا تثبت اليمين في حقه (الشرح) اعلم أن هذا الفصل يتضمن ما يقع من الاختلاف بين من يحل محل المتبايعين والحال محل المتبايعين اما أن يكون وارثا واما أن يكون وكيلا وفى هذه الحال يقوم الوارث مقام الموروث قولا واحدا أما الوكيلان فوجهان
(أحدهما)
يتحالفان كالمالكين والوارثين
(والثانى)
لا يتحالفان لعدم وقوع الظلم من أحدهما للآخر وقد يموت أحد المتبايعين وله وكيل فيجرى عليه الوجهان، أو وارث فهو
حال محل الموروث في الظلامة والتحالف، فكما أن الوارث يأخذ مال موروثه فله أن يأخذ ما عساه يكون حقا له، ويلزمه ما عساه يصير لازما عليه قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان إختلفا المتبايعان في قدر المبيع تحالفا لما ذكرنا في الثمن.
وان اختلفا في عين المبيع بأن قال البائع " بعتك هذا العبد بألف.
وقال المشترى بل اشتريت هذه الجارية بألف " ففيه وجهان
(أحدهما)
يتحالفان لان كل واحد منهما يدعى عقدا يتكره الآخر، فأشبه إذا اختلفا في قدر المبيع
(والثانى)
أنهما لا يتحالفان، بل يحلف البايع أنه ما باعه الجارية ويحلف المشترى أنه ما اشترى العبد.
وهو اختيار أبى حامد الاسفراينى رحمه الله، لانهما اختلفا في أصل العقد في العبد والجارية، فكان القول فيه قول من ينكر كما لو ادعى أحدهما على الآخر عبدا والآخر جارية من غير عقد، فإن أقام البائع بينة أنه باعه العبد وجب على المشترى الثمن، فإن كان العبد في يده أقر في يده، وان كان في يد البائع ففيه وجهان (احدهما) يجبر المشترى على قبضه، لان البينة قد شهدت له بالملك
(والثانى)
لا يجبر لان البينة شهدت له بمالا يدعيه، فلم يسلم إليه، فعلى هذا يسلم إلى الحاكم ليحفظه

(13/78)


(فصل)
وإن اختلفا في شرط الخيار أو الاجل أو الرهن أو في قدرها تحالفا لما ذكرناه في الثمن، فإن اختلفا في شرط يفسد البيع ففيه وجهان، بناء على القولين في شرط الخيار في الكفالة.
أحدهما: أن القول قول من يدعى الصحة، لان الاصل عدم ما يفسد.
والثانى: أن القول قول من يدعى الفساد، لان الاصل عدم العقد فكان
القول قول من يدعى ذلك، فإن اختلفا في الصرف بعد التفرق، فقال أحدهما: تفرقنا قبل القبض، وقال الآخر: تفرقنا بعد القبض، ففيه وجهان، أحدهما أن القول قول من يدعى التفرق قبل القبض، لان الاصل عدم القبض، والثانى أن القول قول من يدعى التفرق بعد القبض، لان الاصل صحة العقد، وإن اختلفا بعد التفرق فقال أحدهما تفرقنا عن تراض، وقال الآخر تفرقنا عن فسخ البيع ففيه وجهان.
أحدهما أن القول قول من يدعى التراضي، لان الاصل عدم الفسخ وبقاء العقد، والثانى أن القول قول من يدعى الفسخ لان الاصل عدم اللزوم ومنع المشترى من التصرف، فأما إذا اختلفا في عيب المبيع ومثله يجوز أن يحدث فقال البائع عندك حدث العيب وقال المشترى بل حدث عندك، فالقول قول البائع، لان الاصل عدم العيب فان اختلفا في المردود بالعيب فقال المشترى هو المبيع، وقال البائع: الذى بعتك غير هذا فالقول قول البايع لان الاصل سلامة المبيع، وبقاء العقد، فكان القول قوله، فان اشترى عبدين فتلف أحدهما ووجد بالآخر عيبا فرده وقلنا إنه يجوز أن يرد أحدهما واختلفا في قيمة التالف ففيه قولان، أحدهما وهو الصحيح أن القول قول البايع.
لانه ملك جميع الثمن فلا يزال ملكه إلا عن القدر الذى يقر به كالمشترى والشفيع إذا اختلفا في الثمن.
فان القول قول المشترى، لانه ملك الشقص فلا يزال إلا بما يقر به، والثانى.
أن القول قول المشترى لانه كالغارم فكان القول قوله فان باعه عشرة أقفزة من صبرة وسلمها بالكيل فادعى المشترى أنها دون حقه ففيه قولان.
أحدهما: أن القول قول المشترى، لان الاصل أنه لم يقبض جميعه.

(13/79)


والثانى: أن القول قول البايع، لان العادة فيمن يقبض حقه بالكيل أن
يستوفى جميعه فجعل القول قول البايع.
(الشرح) اعلم أن اختلاف المتبايعين على ضربين، أحدهما أن يختلفا في أصل العقد، والثانى في صفته، فإن كان اختلافهما في أصل العقد مثل أن يقول البائع بعتك هذا الشئ بألف فيقول الآخر ما اشتريت، أو يقول المشترى: اشتريت منك هذا الشئ بألف، ويقول المالك: ما بعت، فالقول قول منكر العقد مع يمينه بائعا كان أو مشتريا إلا أن يقيم مدعى العقد بينة ولا تحالف بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم " البينة على من ادعى ".
وإن كان اختلافهما في صفة العقد، كاختلافهما في قدر الثمن أو صفته أو في قدر المثمن أو في صفته.
والضرب الثاني أن يكون اختلافهما مما قد يخلو من العقد كاختلافهما في الاجل وفى قدره أو في الخيار أو في قدره أو في الرهن أو في التمييز أو في عينه.
فأما الضرب الاول وهو أن يكون اختلافهما مما يكون يخلو منه العقد من قدر الثمن أو صفته فقد مر تفصيل ذلك في الفصول السابقة، وأما ما يكون من اختلاف في قدر المثمن أو صفته، فالاختلاف في صفة المثمن أن يقول البائع، بعتك عبدا، ويقول المشترى.
بل جارية، فان كان اختلافهما فيما ذكرنا وشبهه فقد اختلف الفقهاء في العقد على خمسة مذاهب قد جئنا عليها في الفصول السابقة قال في نهاية المحتاج ما حاصله: وإن اختلفا في الاجل بأن أثبته المشترى ونفاه البائع، أو قدره كشهر أو شهرين، أو قدر المبيع كمد من هذه الصبرة مثلا بدرهم، فيقول.
بل مدين به ولا بينة لاحدهما يعول عليها، فشمل ما لو أقام كل بينة وتعارضتا لاطلاقهما أو إطلاق أحدهما فقط أو لكونهما أرختا بتاريخين متفقين تحالفا لخبر مسلم " اليمين على المدعى عليه " ولا يشكل الخبران المتقدمان لانه عرف من هذا الخبر زيادة
عليهما وهى حلف المشترى أيضا فأخذنا بها وشمل كلامه ما لو وقع الاختلاف في زمن الخيار فيتحالفان، وهو كذلك كما صرح به ابن يونس والنسائي والاذرعى

(13/80)


وغيرهم، وقد قال الشافعي والاصحاب بالتحالف في الكتابة مع جوازها في حق الرقيق، وفى القراض والجعالة مع جوازهما من الجهتين، وأما ما استند إليه القائل بعدم التحالف كابن المقرى في بعض نسخ الروض من إمكان الفسخ في زمنه رد بأن التحالف لم يوضع للفسخ، بل عرضت اليمين رجاء أن ينكل الكاذب فيتقرر العقد بيمين الصادق.
والاختلاف في الاجل أو الرهن أو في قدرهما أو في شرط الخيار أو غير ذلك من الشروط لصحيحة ففيها للفقهاء طريقان.
أحدهما: وهو قول الشافعي يتحالفان، لانهما اختلفا في صفة العقد فوجب أن يتحالفا قياسا على الاختلاف في الثمن.
والثانى: القول قول من ينفى ذلك مع يمينه، وهو أبى حنيفه، لان الاصل عدمه، فالقول قول من ينفيه، كأصل العقد لانه منكر، والقول قول المنكر، فإن اختلفا في شرط يفسد العقد فقال: بعتك بخمر، أو خيار مجهول، فقال: بعتني بنقد معلوم أو خيار ثلاث، فالقول قول من يدعى الصحة مع يمينه، لان ظهور تعاطى المسلم الصحيح أكثر من تعاطيه للفاسد، وإن قال بعتك مكرها، فأنكره فالقول قول المشترى، لان الاصل عدم الاكراه وصحة البيع، وإن قال بعتك وأنا صبى فالقول قول المشترى، كل ذلك قول الشافعي وأحمد والثوري وإسحاق، إلا أن الشافعي يسوى بين المسلم والكافر في تعاطى الصحة.
قالوا: لان المتبايعين اتفقا على أصل العقد، واختلفا فيما يفسده، فكان القول قول مدعى الصحة.
ويحتمل أن يقبل قول من يدعى الصغر لانه الاصل.
وهو قول بعض أصحاب الشافعي، ويفارق ما إذا اختلفا في شرط فاسد أو إكراه لوجهين: أحدهما: أن الاصل عدمه، وههنا الاصل بقاؤه.
والثانى: أن الظاهر من المكلف أنه لا يتعاطى إلا الصحيح، وها هنا ما ثبت أنه كان مكلفا، وإن قال.
بعتك وأنا مجنون.
فإن لم يعلم له حال جنون فالقول قول المشترى.
لان الاصل عدمه.
وإن ثبت أنه كان مجنونا فهو لصبى.

(13/81)


قال شمس الدين الرملي: ولو ادعى أحد العاقدين صحة البيع أو غيره من العقود وادعى الآخر فساده لانتفاء ركن، أو شرط على المعتمد، كأن ادعى أحدهما رؤيته وأنكرها الآخر على المعتمد أيضا، كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى خلافا لما في فتاوى الشيخ، فالاصح تصديق مدعى الصحة بيمينه غالبا، مسلما كان أو كافرا، لان الظاهر في العقود الصحة، وأصل عدم العقد الصحيح يعارضه عدم الفساد في الجملة.
ومن غير الغالب ما لو باع ذراعا من أرض معلومة الذرع ثم ادعى إرادة ذراع معين ليفسد البيع، وادعى المشترى شيوعه فيصدق البائع بيمينه أيضا لان ذلك لا يعلم إلا من جهته، وما لو زعم أحد متصالحين وقوع صلحهما على إنكار فيصدق بيمينه أيضا لانه الغالب، وما لو زعم أنه عقد وبه نحو صبا وأمكن، أو جنون أو حجر وعرف له ذلك فيصدق بيمينه أيضا كما ذكره الرويانى.
ثم قال: وأما كلام الاصحاب في الجنايات والطلاق فليس من الاختلاف في صحة العقد وفساده، وفارق ما ذكرناه ما سيأتي في الضمان بأن المعاوضات يحتاط فيها غالبا، والظاهر أنها تقع بشروطها وفى البيان للعمراني: لو أقر بالاحتلام لم يقبل رجوعه عنه، ويؤخذ من
ذلك أن من وهب في مرضه شيئا فادعت ورثته غيبة عقله حال الهبة لم يقبلوا إلا إن علم له غيبة قبل الهبة وادعوا استمرارها إليها وجزم بعضهم بأنه لابد في البينة بغيبة العقل - إن تبين ما غاب به - أي لئلا تكون غيبته بما يؤاخذ به كسكر تعدى به، وما لو قال المرتهن: أذنت في البيع بشرط رهن الثمن.
وقال الراهن بل مطلقا، فالمصدق المرتهن، كما قاله الزركشي وغيره.
وهو كما قال، ولكن ليس هذا مما نحن فيه، لان الاختلاف المذكور لم يقع من العاقدين ولا نائبهما ولو أتى المشترى بخمر أو بما فيه فأرة وقال قبضته كذلك فأنكر القبض كذلك صدق بيمينه، ولو أتى المشترى بخمر أو بما فيه فأرة وقال قبضته كذلك فأنكر القبض صدق بيمينه، ولو صبه في ظرف المشترى فظهرت فيه فأرة فادعى كل أنها من عند الآخر صدق البائع لدعواه الصحة، ولان الاصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن، والاصل أيضا براءة البائع كما في نظيره من السلم إذا اختلفا

(13/82)


هل قبض المسلم إليه رأس المال قبل التفرق أو بعده؟ فلو أقاما في المسئلين بينتين قدمت بينة مدعى الصحة.
وقول ابن أبى عصرون إن كان مال كل بيده حلف المنكر وإلا فصاحبه مردود.
وقال الرملي: ولو اشترى عبدا مثلا معينا وقبضه فجاء بعبد معيب ليرده فقال البائع " ليس هذا المبيع " صدق البائع بيمينه، لان الاصل السلامة وبقاء العقد، وفى مثله في المبيع في الذمة والسلم بأن قبض المشترى أو المسلم المدفوع عما في الذمة ثم أحضر معيبا ليرده، فقال البائع أو المسلم إليه ليس هذا المقبوض يصدق المشترى والمسلم بيمينه في الاصح أنه المقبوض عملا بأصل بقاء شغل ذمة البائع والمسلم إليه إلى وجود قبض صحيح، ويجرى ذلك في الثمن، فيحلف المشترى في المعين، والبائع فيما في الذمة، ومقابل الاصح يصدق المسلم إليه كالبيع
ولو قبض المبيع مثلا بالكيل أو الوزن ثم ادعى نقصه فإن كان قدر ما يقع مثله في الكيل أو الوزن عادة صدق بيمينه لاحتماله مع عدم مخالفته الظاهر وإلا فلا لمخالفته الظاهر ولانهما اتفقا على القبض والقابض يدعى الخطأ فعليه البينة كما لو اقتسما ثم جاء أحدهما وادعى الخطأ فيه تلزمه البينة، ولو باع شيئا فظهر كونه لابنه أو موكله فوقع اختلاف، كأن قال الابن " باع أبى مالى في الصغر لنفسه متعديا " وقال الموكل " باع وكيلى مالى متعديا " وقال المشترى " لم يتعد الولى ولا الوكيل " صدق المشترى بيمينه، لان كلا من الاب والوكيل أمين ولا يتهم إلا بحجة.
انتهى أما لغات الفصل فالشقص القطعة من الارض والطائفه من الشئ.
قوله فإن باعه عشرة أقفزة من صبرة فالقفيز مكيال.
قال في الصحاح هو ثمانية مكاكيك والجمع أقفزة وقفزان، قال والمكوك مكيال هو ثلاث كيلجات.
والكيلجة منا وسبعة أثمان منا، والمنا رطلان، ويمكن بهذا أن نعرف أن الكيلجه هي الكيلو بلغة العصر فيكون القفيز أربعة وعشرين كيلو جراما تقريبا بالوزن، وقد مر في قاعدة مد عجوة أن الوزن مقدم على الكيل لانه أدق وأعدل إلا ما كان اطراد الكيل فيه لخفته تجعله غير صالح للوزن، فينطبق عليه قاعدة الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن.

(13/83)


قال الشافعي في باب جماع السلف في الوزن: والميزان مخالف للمكيال في بعض معانيه والميزان أقرب من الاحاطة وأبعد من أن يختلف فيه أهل العلم من المكيال، لان ما يتجافى ولم يتجاف في الميزان سواء: لانه إنما يصار فيه كله إلى أن يوجد بوزنه، والمتجافي في المكيال يتباين تباينا بينا فليس في شئ مما يوزن اختلاف في الوزن، ثم قال الشافعي: فَإِنْ قَالَ
قَائِلٌ: كَيْفَ كَانَ يُبَاعُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْنَا: الله أعلم، أما الذي أدركنا المتبايعين به عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا قَلَّ مِنْهُ فَيُبَاعُ كَيْلًا والجملة الكثيرة تُبَاعُ وَزْنًا، وَدَلَالَةُ الْأَخْبَارِ عَلَى مِثْلِ مَا أدركنا الناس عليه.
قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا آكُلُ سَمْنًا مَا دام يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ، وَتُشْبِهُ الْأَوَاقِي أَنْ تَكُونَ كَيْلًا.
اه قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
إذا باعه سلعة بثمن في الذمة ثم اختلفا فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثَّمَنَ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي.
لَا أُسَلِّمُ الثَّمَنَ حَتَّى أقبض المبيع، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ.
فيه ثلاثة أقوال.
أحدها يجبر البائع على إحضار المبيع، والمشترى على احضار الثمن، ثم يسلم إلى كل واحد منهما ماله دفعة واحدة، لان التسليم واجب على كل واحد منهما، فإذا امتنعا أجبرا كما لو كان لاحدهما على الآخر دراهم، وللآخر عليه دنانير.
والثانى.
لا يجبر واحد منهما، بل يقال من يسلم منكما ما عليه أجبر الآخر على تسليم ما عليه، لان على كل واحد منهما حقا في مقابلة حق له، فإذا تمانعا لم يجبر واحد منهما، كما لو نكل المدعى عليه فردت اليمين على المدعى فنكل.
والثالث.
أنه يجبر البائع على تسليم المبيع، ثم يجبر المشترى وهو الصحيح، لان حق المشترى متعلق بعين، وحق البائع في الذمة، فقدم ما تعلق بعين كأرش الجناية مع غيرها من الديون، ولان البائع يتصرف في الثمن في الذمة، فوجب أن يجبر البائع على التسليم ليتصرف المشترى في المبيع، ومن أصحابنا من قال.
المسأله على قول واحد، وهو أنه يجبر البائع على تسليم المبيع كما ذكرناه، وما سواه من الاقوال ذكره الشافعي عن غيره، ولم يختره، فعلى هذا ينظر فيه

(13/84)


فان كان المشترى موسرا نظرت، فان كان ماله حاضرا أجبر على تسليمه في الحال
وان كان في داره أو دكانه حجر عليه في المبيع، وفى سائر أمواله، إلى أن يدفع الثمن لانه إذا لم يحجر عليه لم نأمن أن يتصرف فيه، فيضر بالبائع.
وان كان غائبا منه على مسافة يقصر فيها الصلاة فللبائع أن يفسخ البيع ويرجع إلى عين ماله، لان عليه ضررا في تأخير الثمن، فجاز له الرجوع إلى عين ماله، كما لو أفلس المشترى، وان كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ففيه وجهان.
أحدهما ليس له أن يختار عين ماله، لانه في حكم الحاضر.
والثانى له أن يختار عين ماله لانه يخاف عليه الهلاك فيما قرب كما يخاف عليه فيما بعد، وان كان المشترى معسرا ففيه وجهان.
أحدهما.
تباع السلعة ويقضى دينه من ثمنها، والمنصوص أنه يرجع إلى عين ماله لانه تعذر الثمن بالاعسار.
فثبت له الرجوع إلى عين ماله كما لو أفلس بالثمن وان كان الثمن معينا ففيه قولان.
أحدهما يجبران.
والثانى لا يجبر واحد منهما ويسقط القول الثالث أنه يجبر البائع لان الثمن المعين كالمبيع في تعلق الحق بالعين والمنع من التصرف فيه قبل القبض.
(الشرح) في هذا الفصل بيان حكم اختلافهما عند البيع بثمن في الذمة فيه ثلاثة أقوال عند المصنف (أصحها) يجبر البائع على تسليم السلعة ثم يجبر المشترى على تسليم الثمن.
وذلك أنهما ان تمانعا أجبر الحاكم كل واحد منهما على احضار ما عليه من مبيع أو ثمن ثم ينصب عليهما أمينا عدلا يأمر كل واحد منهما بتسليم ما بيده إليه.
حتى إذا صار الجميع معه سلم المبيع إلى المشترى والثمن إلى البائع.
قال الماوردى.
وحكى هذا القول عن سعيد بن سالم القداح.
وقال أبو إسحاق المروزى.
يجعل هذا والقول الاول واحدا.
وتخرج المسألة على ثلاثة أقاويل.
وامتنع سائر أصحابنا ممن جعلهما واحدا، وأن كل واحد منهما مخالف لصاحبه.
قلت: والقول الاول الذى أراد أبو إسحاق المروزى مزجه بقول سعيد بن
سالم القداح هو قول المصنف.
أحدها يجبر البائع على تسليم المبيع والمشترى على تسليم الثمن ثم أعطى كل

(13/85)


واحد منهما ماله دفعة واحدة في لحظة واحدة لتساوي الوجوب في التسليم وعدم اختصاص أحدهما بقدر أكثر من الاذعان من صاحبه، وامتنع أكثر الاصحاب من جعلهما قولا واحدا لما يأتي: (أولا) لان حق المشترى متعلق بعين وحق البائع في الذمة، فقدم ما تعلق بعين كأرش الجناية مع غيرها من الديون، ولان البائع يتصرف في الثمن في الذمة فوجب أن يجبر البائع على التسليم ليتصف المشترى في المبيع (ثانيا) إن الدفع والتسليم في القول الاول إلى الحاكم وكان بحكمه، وها هنا الحكم منه في ذمة الامين والامر بالتسليم منه ومن هنا كان قول المصنف: من الاصحاب من قال فيه ثلاثة أقوال يذكرنا بقول الماوردى فيه أربعة أقوال.
ذلك القول الرابع هو تعيين الامين العدل.
وهذا القول وإن كان قولا رابعا عندنا فإنه ظاهر مذهب الحنابلة فيما إذا كان عرضا بعرض أو عينا بعين.
قال ابن قدامة في المغنى: وإن اختلفا في التسليم، فقال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض الثَّمَنَ.
وَقَالَ الْمُشْتَرِي لَا أُسَلِّمُ الثَّمَنَ حَتَّى أقبض المبيع والثمن في الذمة، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشترى على تسليم الثمن، فإن كان عينا أو عرضا بعرض جعل بينهما عدل، فيقبض منهما ثم يسلم اليهما، وهذا قول الثوري وأحد قولى الشافعي وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على تسليم المبيع على الاطلاق، وهو قول ثان للشافعي.
وقال أبو حنيفة ومالك يجبر المشترى على تسليم الثمن لان البائع
حبس المبيع على تسليم الثمن، ومن استحق ذلك لم يكن عليه التسليم قبل الاستيفاء كالمرتهن.
ثم قال رأيه الذى يدل على موافقته لما ذهبنا إليه من تساوى المبيع، سواء أكان الثمن عينا أم نقدا فقال ولنا أن تسليم المبيع يتعلق به استقرار البيع وتمامه، فكان تقديمه أولى سيما مع تعلق الحكم بعينه، وتعلق حق البائع بالذمة، وتقديم ما تعلق بالعين أولى لتأكده.
ولذلك يقدم الدين الذى به الرهن في ثمنه على ما تعلق بالذمة، ويخالف

(13/86)


الرهن فإنه لا تتعلق به مصلحة عقد الرهن، والتسليم ها هنا يتعلق به مصلحة عقد البيع.
وأما إذا كان الثمن عينا فقد تعلق الحق بعينه أيضا كالمبيع فاستويا.
وقد وجب لكل واحد منهما على صاحبه حق قد استحق قبضه فأجبر كل واحد منهما على إيفاء صاحبه حقه.
اه قوله " وما سواه من الاقوال " ذكره الشافعي عن غيره ولم يختره، فعلى هذا ينظر فيه.
(قلت) الذى في المزني يدل على اختيار الشافعي لهذا الرأى وتعبيره بكلمة (أحب الشافعي من أقاويل) قال االمزنى في باب اختلاف المتبايعين " وإذا قال كل واحد منهما: لا أدفع حتى أقبض " " ولو لم يختلفا وقال كل واحد منهما لا أدفع حتى أقبض فالذي أحب الشافعي من أقاويل وصفها أن البائع يدفع السلعة ويجبر المشترى على دفع الثمن من ساعته فإن غاب وله مال أشهد على وقف ماله وأشهد على وقف السلعة، فإذا دفع أطلق عنه الوقف، وإن لم يكن له مال فهذا مفلس، والبائع أحق بسلعته، ولا يدع الناس يتمانعون الحقوق وهو يقدر على أخذها منهم " قوله " وإن كان غائبا " قال الماوردى:
وإن كان ماله غائبا فله ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون على مسافة أقل من يوم وليلة، فهذا في حكم الحاضر، وينتظر له حضور ماله بعد الحجر عليه في المبيع وسائر ماله، فإذا احضر الثمن فك حجره وأطلق تصرفه
(والثانى)
أن يكون على مسافة ثلاثة أيام فصاعدا فلا يلزم انتظار ماله لبعده عنه، وأنه في حكم المعسر.
(والثالث) أن يكون على مسافة أكثر من يوم وليلة وأقل من ثلاثة أيام فعلى وجهين.

(أحدهما)
ينتظر حضور ماله، كما لو كانت على أقل من يوم وليلة، ويحجر عليه في المبيع حتى يحضر الثمن (والوجه الثاني) لا ينتظر لبعد المسافة، وأنها في حكم ما زاد على الثلاث، فعلى هذا ما الذى يستحقه البائع إذا لم ينتظر؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجعل كالمفلس ويخير البائع بين أن يرجع

(13/87)


بغير ماله وبين أن يصير بالثمن في ذمة المشترى إلى حين وجوده (والوجه الثاني) أن حكم المفلس منفى عنه لوجود المال، وإن بعد منه، ولكن تباع السلعة المبيعة ليصل البائع إلى حقه منها، فإن بيعت بقدر ما للبائع من الثمن دفع إليه ذلك وقد استوفى حقه.
وإن بيعت بأكثر رد الفاضل على المشترى.
وإن بيعت بأقل كان الباقي دينا للبائع في ذمه المشترى.
(قلت) فإن هرب المشترى ولم يكن له مال فسخ البيع لانه إذا جاز فسخه مع حضوره للاعسار ففى هربه أولى.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن باع من رجل عينا فأحضر المشترى نصف الثمن ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجبر البائع على تسليم شئ من البيع، لانه محبوس بدين، فلا يسلم شئ منه بحضور بعض الدين كالرهن
(والثانى)
أنه يجبر على تسليم نصف المبيع لان كل واحد منهما عوض عن الآخر، وكل جزء من المبيع في مقابلة جزء من الثمن، فإذا سلم بعض الثمن وجب تسليم ما في مقابلته، ويخالف الرهن في الدين فإن الرهن ليس بعوض من الدين، وإنما هو وثيقة به فجاز له حبسه إلى أن يستوفى جميع الدين، وإن باع من اثنين عبدا بثمن فأحضر أحدهما نصف الثمن وجب تسليم حصته إليه لانه أحضر جميع ما عليه من الثمن، فوجب تسليم ما في مقابلته من المبيع، كما لو اشترى عينا وأحضر ثمنها. والله أعلم
(الشرح) هذا الفصل يبنى على أن العقد إذا لزم في الصفقة كلها كان بعض ما أداه المشترى من ثمنها غير مسوغ لتجزئ المبيع بقدر ما أدى المشترى فلا يجبر على تسليم ما يقابله أم يجبر على تسليم ما يساوى ما أداه المشترى؟ فيقع الثمن منجما والمبيع منجما: وذلك لمخالفته الرهن، لانه إذا احتجز الصفقة عنده كلها في مقابلة ما بقى من الثمن فقد أشبه الرهن (قلت) إذا ترتب على تجزئ الصفقة تلف باقيها أو نقصه نقصا يبخس بثمنها كما لو أدى بعض الثمن من كتاب له أجزاء مطبوعة فإذا أخذ ما يساوى ما أداه من الثمن من أجزاء ترتب على ذلك خرم الكتاب عند البائع لم يجبر البائع على تسليم بعض الكتاب وجاز له حبسه حتى يستوفى الثمن كله.
والله أعلم

(13/88)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا تلف المبيع في يد البائع قبل التسليم لم يخل اما أن يكون ثمرة أو غيرها، فإن كان غير الثمرة نظرت، فإن كان تلفه بآفة سماوية انفسخ البيع، لانه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع، كما لو اصطرفا وتفرقا قبل القبض فإن كان المبيع عبدا فذهبت يده بآكلة فالمبتاع بالخيار بين أن يرد وبين أن يمسك
فإن اختار الرد رجع بجميع الثمن، وان اختار الامساك أمسك بجميع الثمن، لان الثمن لا ينقسم على الاعضاء فلم يسقط بتلفها شئ من الثمن، وان أتلفه أجنبي ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه ينفسخ البيع لانه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع، كما لو تلف بآفة سماوية.

(والثانى)
أن المشترى بالخيار بين أن يفسخ البيع ويرجع بالثمن، وبين أن يقر البيع ويرجع على الأجنبي بالقيمة، لان القيمة عوض عن المبيع فقامت مقامه في القبض، فإن كان عبدا فقطع الأجنبي يده فهو بالخيار بين أن يفسخ البيع ويرجع بالثمن، وبين أن يجيزه ويرجع على الجاني بنصف قيمته فإن أتلفه البائع ففيه طريقان.
قال أبو العباس فيه قولان كالأجنبي.
وقال أكثر أصحابنا ينفسخ البيع قولا واحدا لانه لا يمكن الرجوع على البائع بالقيمة لان المبيع مضمون عليه بالثمن فلا يجوز أن يكون مضمونا عليه بالقيمة بخلاف الأجنبي، فان المبيع غير مضمون عليه بالثمن فجاز أن يضمنه بالقيمة، فان كان عبدا فقطع البائع يده ففيه وجهان.
قال أبو العباس " المبتاع بالخيار ان شاء فسخ البيع ورجع بالثمن وان شاء أجاز ورجع على البائع بنصف القيمة " وقال أكثر أصحابنا هو بالخيار ان شاء فسخ البيع وان شاء أجازه ولا شئ له لانه جزء من المبيع فلا يضمنه البائع بالقيمة قبل القبض، كما لو ذهب بآكلة فان أتلفه المشترى استقر عليه الثمن لان الاتلاف كالقبض، ولهذا لو أعتقه جعل اعتاقه كالقبض فكذلك إذا أتلفه، فان كان عبدا فقطع يده لم يجز له أن يفسخ لانه نقص بفعله، فَإِنْ انْدَمَلَ ثُمَّ تَلِفَ فِي يَدِ الْبَائِعِ رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى

(13/89)


الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ النَّقْصِ فَيُقَوَّمُ مَعَ الْيَدِ وَيُقَوَّمُ بِلَا يَدٍ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا يَرْجِعُ
بِمَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ لان المبيع مضمون على المشترى بالثمن فلا يجوز أن يرجع عليه بما نقص من القيمة وإن كان المبيع ثمرة فإن كان على الارض فهو كغير الثمرة وقد بيناه وإن كانت على الشجر نظرت فان تلفت قبل التخلية فهى كغير الثمرة إذا هلك قبل أن يقبض وقد بيناه، فان تلفت بعد التخلية ففيه قولان
(أحدهما)
أنها تتلف من ضمان المشترى، لان التخلية قبض يتعلق به جواز التصرف فدخل في ضمانه كالنقل فيما ينقل
(والثانى)
أنها تتلف من ضمان البائع، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق " وروى جَابِرٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمَرَ بوضع الجوائح " فان قلنا بهذا فاختلفا في الهالك فقال البائع الثلث، وقال المشترى النصف، فالقول قول البائع، لان الاصل عدم الهلاك، وإن بلغت الثمار وقت الجداد فلم ينقل حتى هلكت كان هلاكها من ضمان المشترى، لانه وجب عليه النقل فلم يلزم البائع ضمانها، والله أعلم (الشرح) حديث جابر الاول رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وحديث جابر الثاني رواه الشافعي في الام.
قال سمعت سفيان يحدث هذا الحديث كثيرا في طول مجالستي له، لا أحصى ما سمعته يحدثه من كثرته لا يذكر فيه " أمر بوضع الجوائح " لا يزيد عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن بيع السنين.
ثم زاد بعد ذلك " وأمر بوضع الجوائح " قال الشافعي، قال سفيان: وكان حميد يذكر بعد بيع السنين كلاما قبل وضع الجوائح لا أحفظه، فكنت أكف عن ذكر وضع الجوائح لانى لا أدرى كيف كان الكلام.
وفى الحديث أمر بوضع الجوائح.
أخبرنا سفيان عن أبى الزبير عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ " قلت " وحديث " أمر بوضع الجوائح " رواه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود.
وروى عن أنس وعائشة، وقد مر في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.
قال الربيع، أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن أبى الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثمر حائط في زمان

(13/90)


رسول الله صلى الله عليه وسلم فعالجه وأقام فيه حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشترى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى عليه وسلم تألى أن لا يفعل خيرا، فسمع بذلك رب المال، فأتى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله " هو له " أما لغات الفصل فالآفة العاهة، وقد إيف الزرع بالبناء للمجهول أي أصابته آفة فهو مئوف على وزن مقول ومعوف، والجوائح جمع جائحة، وهى الآفة التى تصيب الثمار فتهلكها.
يقال حاجهم الدهر واجتاحهم بتقديم الجيم على الحاء فيها إذا أصابهم بمكروه عظيم والآكلة أما الاحكام فقال الشافعي، قال سفيان في حديثه عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وضع الجوائح: ما حكيت فقد يجوز أن يكون الكلام الذى لم يحفظه سفيان من حديث حميد يدل على أن أمره بوضعها على مثل أمره بالصلح على النصف.
وعلى مثل أمره بالصدقة تطوعا حضا على الخير لا حتما، وما أشبه ذلك ثم قال الشافعي وحديث مالك عن عمرة مرسل.
وأهل الحديث ونحن لا نثبت مرسلا، ولو ثبت حديث عمرة كانت فيه - والله تعالى أعلم - دلالة على أن لا توضع الجائحة لقولها " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تألى أن لا يفعل خيرا " ولو كان الحكم عليه أن يضع الجائحة لكان أشبه أن يقول ذلك لازم له حلف أو لم يحلف، وذلك أن كل من كان عليه حق قيل هذا يلزمك أن تؤديه إذا امتنعت من حق فأخذ منك بكل حال (قال) ولو لم يكن سفيان وهن حديثه بما وصفت
وثبتت السنة بوضع الجائحة، وضعت كل قليل وكثير أصيب من السماء بغير جناية أحد عليه، فأما أن يوضع الثلث فصاعدا ولا بوضع ما دون الثلث فهذا لا خبر ولا قياس ولا معقول.
فان قال قائل: فما منعك أن تجعل ثمرة النخل قياسا على ما وصفت من كراء الارض، وأنت تجيز بيع ثمر النخل فيترك إلى غاية في نخله كما تجيز أن يقبض الدار ويسكنها إلى مدة.

(13/91)


قال: فقيل له: إن شاء الله الدار تكترى سنة ثم تنهدم من قبل تمام السنة مخالفة للثمرة تقبض من قبل أن سكناها ليس بعين ترى إنما هي بمدة تأتى، فكل يوم منها يمضى بما فيه وهى بيد المكترى يلزمه الكراء فيه وإن لم يسكنها إذا خلى بينه وبينها والثمرة إذا ابتيعت وقبضت وكلها في يد المشترى يقدر على أن يأخذها كلها من ساعته، ويكون ذلك له، وإنما يرى تركه إياها اختيارا لتبلغ غاية يكون له فيها أخذه قبلها وقد يكون رطبا يمكنه أخذه وبيعه وتيبيسه، فيتركه ليأخذه يوما بيوم رطبا ليكون أكثر قيمة إذا فرقه في الايام وأدوم لاهله فلو زعمت أنى أضع الجائحة بعد أن يرطب الحائط كله أو أكثره ويمكن فيه أن يقطع كله فيباع رطبا، وإن كان ذلك أنقص لمالك الرطب أو بيبس تمرا، وإن كان ذلك أنقص على مالكه زعمت أنى أضع عنه الجائحة وهى تمر، وقد ترك قطعه وتمييزه في وقت يمكنه فيه إحرازه.
ثم قال: وجماع الجوائح كل ما أذهب الثمرة أو بعضها بغير جناية آدمى.
ثم قال الشافعي: وكان شببها أن يكون جملة القول فيه أن يكون الثمر المبيع في شجره المدفوع إلى مبتاعه من ضمان البائع حتى يستوفى المشترى ما اشترى منه لا يبرأ البائع من شئ منه حتى يأخذه المشترى أو يؤخذ بأمره من شجره، كما يكون
من ابتاع طعاما في بيت أو سفينة كله على كيل معلوم، فما استوفى المشترى برئ منه البائع، وما لم يستوف حتى يسرق أو تصيبه آفة فهو من مال البائع، وما أصابه من عيب فالمشترى بالخيار في أخذه أو رده وجعل الشافعي المشترى مسئولا عن المبتاع إذا كان مسلطا عليه مسيطرا على المبيع، وليس على البائع من الضمان شئ ما دام يملك أخذها وقطعها وبقاءها فلو تلفت - في يد البائع بآفة سماوية - فلا ضمان على البائع، لان المشترى مقصر في قبضها، وفى الابواب السابقة من البيوع مزيد تفصيل فليرجع إليها.

(13/92)