المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب السلم
السلم جائز لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " قال ابن عباس أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أجله الله في كتابه وأذن فيه فقال " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ".

(فصل)
ولا يصح السلم الا من مطلق التصرف في المال لانه عقد على مال فلا يصح الا من جائز التصرف كالبيع: قال الشافعي رحمه الله: ويصح السلم من الاعمى.
قال المزني رحمه الله أعلم من نطقه أنه أراد الاعمى الذى عرف الصفات قبل أن يعمى.
قال أبو العباس هذا الذى قاله المزني حسن، فأما الاكمه الذى لا يعرف الصفات فلا يصح سلمه لانه يعقد على مجهول وبيع المجهول لا يصح، وقال أبو إسحاق يصح السلم من الاعمى وإن كان أكمه لانه يعرف الصفات بالسماع (الشرح) قال الشافعي رحمه الله في باب السلف والمراد به السلم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل " إلى قوله " وليتق الله ربه " قال الشافعي: فلما أمر الله عز وجل بالكتاب ثم رخص في الاشهاد إن كانوا على سفر ولم يجدوا كاتبا، احتمل أن يكون فرضا وأن يكون دلالة، فلما قال الله جل ثناؤه: فرهان مقبوضة والرهن غير الكتاب والشهادة، ثم قال " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه " دل كتاب الله عز وجل على أن أمره بالكتاب ثم الشهود ثم الرهن إرشادا لا فرضا عليهم، لان قوله " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته " إباحة لان يأمن بعضهم بعضا، فيدع الكتاب والشهود والرهن، قال: وأحب الكتاب والشهود لانه إرشاد من الله ونظر للبائع والمشترى، وذلك أنهما ان كانا أمينين فقد يموتان أو أحدهما، فلا يعرف حق البائع على المشترى فيتلف على البائع أو ورثته حقه، وتكون التباعة على المشترى

(13/93)


في أمر لم يرده، وقد يتغير عقل المشترى فيكون هذا والبائع، وقد يغلط المشترى فلا يقر فيدخل في الظلم من حيث لا يعلم ويصيب ذلك البائع فيدعى ما ليس له فيكون الكتاب والشهادة قاطعا هذا عنهما وعن ورثتهما، ولم يكن يدخله ما وصفت انبغى لاهل دين الله اختيار ما ندبهم الله إليه ارشادا، ومن تركه فقد ترك حزما وأمرا لم أحب تركه من غير أن أزعم أنه محرم عليه بما وصفت من الآية بعده.
قال الشافعي: قال الله عز وجل " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " يحتمل أن يكون حتما على من دعى للكتاب، فإن تركه تارك كان عاصيا، ويحتمل أن يكون كما وصفنا في كتاب جماع العلم: على من حضر من الكتاب أن لا يعطلوا كتاب حق بين رجلين، فإذا قام به واحد أجزأ عنهم، كما حق عليهم أن يصلوا على الجنائز ويدفنوها فإذا قام بها من يكفيها أخرج ذلك من تخلف عنها من الماثم ولو ترك كل من حضر من الكتاب خفت أن يأثموا، بل كأنى لا أراهم يخرجون من المأثم، وأيهم قام به أجزأ عنهم وهذا أشبه معانيه به والله تعالى أعلم.
أما حديث ابن عباس فقد قال الشافعي: أخبرنا سفيان عن أيوب عن قتادة عن أبى حسان الاعرج عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أشهد إلى آخر ما أورده المصنف هكذا موقوفا على ابن عباس ورواه سعيد بن منصور أيضا هكذا أما لغات الفصل: فان السلم بفتحتين هو الاستسلام، وسلم إليه الشئ بتشديد اللام تسليما فتسلمه أي أخذه.
والتسليم بذل الرضا بالحكم.
والتسليم أيضا السلام وأسلم في الطعام أسلف فيه، والتسالم التصالح، ولمادة السين واللام والميم معانيها الكثيرة من السلامة والسلامى والسلم واستلام الحجر ما مكانه معاجم اللغة.
وقال الماوردى: السلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق، والاكمه هو الذى يولد أعمى.
وفى الاصطلاح الفقهى: السلم أن يسلم عوضا حاضرا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، ويسمى سلما وسلفا وهذا السلف يهمز ويجرد فيقال: أسلف وسلف، وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع، ويعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع، وهو جائز بالكتاب والسنة والاجماع.

(13/94)


أما الكتاب فقد ذكرناه والمصنف من آية الدين ولفظها يصلح للسلم ويشمله بعمومه.
وأما السنة فقد روى الشيخان عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من اسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ".
وروى البخاري عن محمد بن أبى المجالد قال " أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبى أوفى فسألتهما عن السلف؟ فقالا كنا نصيب المغانم مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يأتينا أنباط من أنباط
الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب، فقلت: أكان لهم؟ أم لم يكن لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك ".
وفى رواية عند الترمذي والنسائي وابن ماجه " كنا نسلف عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وعمر في الحنطة والشعير والزيت والتمر وما نراه عندهم " عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود وابن ماجه.
وعن ابن عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " من أسلم شيئا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه " وفى لفظ " من أسلف في شئ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله " رواهما الدارقطني، وفى إسناده عطية العوفى، قال ابن المنذر: لا يحتج بحديثه وهو وارد في عموم السلم متابع لهذا العموم.
وأما الاجماع فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز، قلت: وخالف سعيد بن المسيب في جوازه.
وقد اتفق الائمة - ما عدا ابن المسيب - على أن السلم يصح بستة شروط أن يكون في جنس معلوم، بصفة معلومة وبقدر معلوم وبأجل معلوم، ومعرفة مقدار رأس المال، وتسمية مكان التسليم إذا كان لحمله مؤونة لكن أبا حنيفة يسمى هذا التابع شرطا وباقى الائمة يسمونه لازما.
قوله: لا يصح إلا من جائز التصرف كالبيع، أي أنه لا يصح إسلام الكافر

(13/95)


في الرقيق المسلم كما سبق في سرح المجموع للنووي ورد النووي على الماوردى في تصحيحه له وتبعه السبكى، ومثل الرقيق المسلم المرتد كما مر في البيوع ومثل ذلك كل ما يمتنع تملك الكافر له كالمصحف وكتب العلم والسلم في السلاح من الحربى.
أما صحة السلم من الاعمى الذى يعرف الصفات إذا كان عماه مسبوقا بإبصار أو كان أكمه يعرف الصفات بكثرة السماع فإنه إذا كان الامر كذلك، فان بيان ذلك ما يأتي: إذا عرفنا أن التنازع والاختلاف يحتمل أن يقع بين المتبايعين مع توفر صحة الابصار فلان يقع في السلم أولى، ولان يقع التنازع مع فقدان البصر أيسر، وأيسر منه وقوعه مع الاكمه.
ولذلك استشكل بعض فقهاء الشافعية صحة السلم من الاعمى واتفقوا على أنه إذا صح سلمه فانه لا يصح قبضه بل قد يتعين توكيله، ويرد اشكال آخر وهو اشتراط معرفة المتعاقدين الصفات، ويمنع هذا الاشكال بأن المراد بمعرفتها تصورها ولو بوجه من وجوه التصور، والاعمى يتصورها كذلك، وينبغى لاشتراط صحة العقد وجوه عدلين بمحل التسليم أو أكثر، ويكتب العقد بلغة يفهمها العاقدان وعدلان ثم يقع الختم به بعد كل ذلك، ليكون مناطا عند التنازع وليست الكتابة واجبة في قول الشافعي، وانما هي اذعان مباح لقوله تعالى " فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل " وقوله تعالى " وأشهدوا إذا تبايعتم ".
ونعود إلى آية الدين فنقول عما تناولته من أحكام مستندين إلى تفصيل السنة لما أجملته فنقول: في هذه الآية اثنتان وأربعون مسألة.
الاولى: قال سعيد بن المسيب.
بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.
وقال ابن عباس.
هذه الآية نزلت في السلم خاصة.
قال القرطبى.
معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الاية، وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض على ما قال مالك إذا لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات، وخالف في ذلك الشافعية.
وقالوا: الاية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون وانما فيها الامر بالاشهاد إذا كان دينا مؤجلا، ثم يعلم جواز التأجيل في الدين
وامتناعه بدلالة أخرى.

(13/96)


(الثانية) قوله تعالى " بدين " للتأكيد، وحقيقة الدين عبارة عن معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة.
وقد بين الله هذا المعنى بقوله " إلى أجل مسمى " (الثالثة) قوله تعالى " إلى أجل مسمى " قال ابن المنذر: دل قوله تعالى على أن السلم إلى الاجل المجهول غير جائز (الرابعة) حد العلماء السلم فقالوا هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم (الخامسة) السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد، والسلم بيع من البيوع الجائزة مستثنى من نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ ما ليس عندك، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشترى الثمرة وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج، فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثناء ما ليس عندك فائدة.
(السادسة) شروط السلم المنفق عليها والمختلف فيها وهى تسعة، ستة في المسلم فيه وثلاثة في رأس مال السلم.
أما الستة التى في المسلم فيه، فأن يكون في الذمة، وأن يكون موصوفا، وأن يكون مقدرا، وأن يكون مؤجلا، وأن يكون الاجل معلوما، وأن يكون موجودا عند محل الاجل وأما الثلاثة التى في رأس مال السلم فأن يكون معلوم الجنس مقدرا نقدا.
وهذه الشروط الثلاثة متفق عليها إلا النقد فخالف فيه المالكية قال ابن العربي في أحكام القرآن: وأما الشرط الاول وهو أن يكون في الذمة
فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة لانه مداينة.
ولولا ذلك لم يشرع فينا ولا قصد الناس إليه ربحا ورفقا، وعلى ذلك اتفق الناس.
بيد ان مالكا قال لا يجوز السلم في العين إلا بشرطين
(أحدهما)
أن يكون قرية مأمونة
(والثانى)
أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة، ولم يقل ذلك أحد سواه وهاتان المسئلتان صحيحتان في الدليل لان التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر لئلا يتعذر عند المحل

(13/97)


(السابعة) ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه لما رواه البخاري عن محمد بن المجالد قال: بعثنى عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله ابن أبى أوفى - إلى قوله (قلت) إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك.
ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى فسألته فقال: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلفون عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم نسالهم ألهم حرث أم لا؟ وشرط أبو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الاجل، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا، وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا المراعى وجوده عند الاجل وشرط الكوفيون والثوري أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومؤنة، وقالوا السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض.
وقال الاوزاعي هو مكروه.
وعند المالكية لو سكتوا عنه لم يفسد العقد، ويتعين موضع القبض، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث لحديث ابن عباس وليس فيه ذكر المكان الذى يقبض فيه السلم، ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والاجل، ومثله حديث ابن أبى أوفى (الثامنة) حديث أبى سعيد مرفوعا " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره "
وفيه عطية العوفى.
وقد أخذ به مالك، مستدلا بأنه إذا أخذ غير الثمن الذى دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذى ابتاع منه فهو بيع طعام قبل أن يستوفى، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك (التاسعة) قوله تعالى " فاكتبوه " يعنى الدين والاجل، وقد أمرنا بالكتابة لئلا ننسى.
روى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قول الله عز وجل " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " إلى آخر الآية " إن أول من جحد آدم، ان الله أراه ذريته، فرأى رجلا أزهر ساطعا نوره، فقال يا رب من هذا.
قال هذا ابنك داود.
قال يا رب فما عمره، قال ستون سنة قال يا رب زد في عمره.
قال لا إلا أن تزيده من عمرك، قال وما عمرى.
قال

(13/98)


ألف سنة، قال آدم فقد وهبت له أربعين سنة.
قال فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه ملائكته، فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة.
قال انه بقى من عمرى أربعون سنة.
قالوا انك قد وهبتها لابنك داود.
قال ما وهبت لاحد شيئا.
قال فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته، في رواية، وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة، خرجه أيضا الترمذي وفى قوله تعالى " فاكتبوه " إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له المغربة عنه للاختلاف المتوهم بين المتعاملين، المعرفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه (العاشرة) هل الكتابة في الديون واجبة، اختيار الطبري وجوبها.
وقال ابن جريج " من ادان فليكتب، ومن باع فليشهد " وقال الشعبى كانوا يرون أن قوله " فإن أمن " ناسخ لامره بالكتب.
وحكى نحوه ابن جريج، وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الالفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله (فإن أمن بعضكم بعضا) .
وقال الجمهور الامر بالكتابة ندب إلى حفظ الاموال، وازالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب، وان كان غير ذلك فالكتاب ثقاف له في دينه، وحاجة صاحب الحق.
(الحادية عشرة) قوله " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " قال عطاء وغيره واجب على الكاتب أن يكتب.
وقال الشعبى وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه، فواجب عليه أن يكتب (الثانية عشرة) قوله تعالى " بالعدل " أي بالحق والمعدلة أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل، وانما قال بينكم ولم يقل أحدكم، لانه لما كان الذى له الدين يتهم في الكتابة الذى عليه الدين، وكذلك العكس، شرع سبحانه كاتبا غيرهما يكتب بالعدل، لا يكون في قلبه ولا قلمه انحياز لاحدهما (الثالثة عشرة) الباء في قوله تعالى " بالعدل " متعلقة بقوله " وليكتب " وليست متعلقة بكاتب لانه كان يلزم أن يكتب الوثيقة كاتب عدل في نفسه، وقد يكتبها صبى وعبد إذا فقهوا، أما المنتصبون للكتابة - من الكتبة العموميين - فلا يجوز الترخيص لهم بالكتابة إلا إذا كانوا عدولا مرضيين.
قال مالك " لا يكتب الوثائق بين الناس الا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى " وليكتب بينكم كاتب بالعدل "

(13/99)


الرابعة عشرة: قوله تعالى " ولا يأب كاتب أن يكتب " نهى الله الكاتب عن الاباء، فقال الربيع واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب، وقال الحسن: ذلك واجب عليه في الموضع الذى لا يقدر عليه كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإن كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على ذلك غيره فهو سعة إذا قام به غيره، وحكى المهدوى عن الربيع والضحاك أن قوله: ولا يأب منسوخ بقوله
ولا يضار كاتب ولا شهيد " وللقرطبي بحث لطيف في ذلك حيث يقول: هذا - الوجوب - يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الاول على من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى " ولا يضار كاتب ولا شهيد " وهذا بعيد، فانه لم يثبت وجوب ذلك على من أراده المتبايعان كائنا من كان، ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها لان الاجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يخلف العلماء في جواز أخذ الاجرة على كتب الوثيقة.
الخامسة عشرة: قوله تعالى " كما علمه الله فليكتب " المعنى كتبا كما علمه الله، أي فليفضل كما أفضل الله عليه.
السادسة عشره: قوله تعالى " وليملل الذى عليه الحق " وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه، والاملاء والاملال لغتان أمل وأملى، فأمل لغة الحجاز وبنى أسد، أما تميم فتقول: أمليت، وجاء القرآن باللغتين " فهى تملى عليه بكرة وأصيلا " وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل، ونهاه عن أن يبخس شيئا من الحق، والبخس النقص.
السابعة عشرة: قوله " فان كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل فالذي عليه الحق إما مستقل بنفسه فهذا يمل، وإما سفيه مهلهل الرأى في المال لا يحسن الاخذ لنفسه ولا الاعطاء مأخوذ من الثوب السفيه وهو الخفيف النسج الثامنة عشرة: والضعيف قد مر في بابى البيوع والربا مزيد إيضاح له في سوق حديث أبى داود والترمذي عن أنس أن رجلا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبتاع وفى عقله ضعف، فأتى أهله نبى اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا نبى الله

(13/100)


احجر على فلان فانه يبتاع وفى عقله ضعف فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع، فقال: يا رسول الله انى لا أصبر عن البيع ساعة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ان كنت غير تارك فقل: ها وها ولا خلابة " وهذا الرجل هو حبان بن منقذ الانصاري والد يحيى وواسع ابني حبان وذكره البخاري في التاريخ.
التاسعة عشرة: والذى لا يستطيع أن يمل كالاخرس والعيى، والابله وما أشبه ذلك واختلاف العلماء فيمن يخدع في البيوع وعمدتهم في ذلك الروايات المستفيضة لقصة حبان بن منقذ.
واختصاصه بالخيار ثلاثا كما أورد ذلك النووي في الجزء الثامن من المجموع الموفية عشرين: قوله تعالى " فليملل وليه بالعدل " ذهب الطبري إلى أن الضمير في " وليه " عائد على الحق، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس وقيل هو عائد على الذى عليه الحق وهو الصحيح، وكيف تشهد البينة على شئ وتدخل مالا في ذمة السفيه باملاء الذى له الدين، الا أن يمل صاحب الحق ويسمع الذى عجز عن الاملاء إذا لم يعجر عن الاعتراف إذا تحيف صاحب الحق الحادية والعشرون: قوله " فليملل الذى عليه الحق " يدل على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره، وسيأتى في الرهن قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين والرهن قائم ان شاء الله تعالى.
الثانية والعشرون: إذا ثبتت صفة الولى كان اقراره جائز على يتيمه كما سيأتي في الرهن والفرائض ان شاء الله تعالى.
الثالثة والعشرون: فساد تصرف الصبى والمحجور عليه وفسخه كما سيأتي في الحجر ان شاء الله تعالى.
الرابعة والعشرون: قوله تعالى " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " اختلف الناس هل هي فرض أو ندب، والصحيح أنها ندب.
قال الشافعي في باب السلم وأحب الشهادة في كل حق لزم من بيع وغيره نظرا
في المتعقب لما وصفت وغيره من تغير العقول.
الخامسة والعشرون: قوله تعالى " شهيدين " كل ما يترتب على الشهادة من الحقوق المالية والبدنية والحدود جعل لها شهيدين ما عدا الزنا.

(13/101)


السادسة والعشرون: قوله تعالى " من رجالكم " نص في رفض الكفار والصبيان والنساء والعبيد، واختار القاضى أبو إسحاق المروزى أن المراد به الاحرار لنقص الرق وأجاز الشعبى والنخعي في الشئ اليسير وقوله " من رجالكم " يعنى الذين يتداينون ولهم إرادة كاملة في التصرف، ولا يتفق هذا مع الرقيق وفى الشهادة بحث سيأتي.
السابعة والعشرون: قوله تعالى " فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " وفى شهادة المرأه فيما لا يحسن الشهادة فيه غيرها بحث سيأتي إن شاء الله تعالى.
الثامنة والعشرون.
جواز شهادة الصبى عند بعض الفقهاء لشهادة الصبيان في الجراح، وهو قول مالك فيما إذا لم يختلفوا ولم يفترقوا في شهادتهم على الكبير أما شهادتهم فيما بينهم فقد قضى بها عبد الله بن الزبير، ومنع الشافعي شهادة الصبيان وكذلك أبو حنيفة وأصحابه وسيأتى مزيد إن شاء الله تعالى.
التاسعة والعشرون.
عند الشافعي ومالك لما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بشهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه وسيأتى حكم اليمين في الشهادة واختلاف الفقهاء في ذلك.
الموفية ثلاثين.
شهادة النساء محصورة في المال المحض من غير خلاف.
لان حقوق الاموال أحفظ من حقوق الابدان، ولا تقبل شهادتهن في النكاح والطلاق المحضين على تفصيل سيأتي.
الحادية والثلاثون.
قوله تعالى " ممن ترضون من الشهداء " هذه الآية وان كان الخطاب فيها لجميع الناس ولكن المتلبس بحكمها هم ولاة الامور.
الثانية والثلاثون.
يدل أيضا قوله تعالى " ممن ترضون من الشهداء " على أن في الشهود من لا يرضى، على تفصيل سيأتي.
الثالثة والثلاثون.
الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة شريفة هي قبول قول الغير على الغير، ولذا شرط فيها الله تعالى الرضا والعدالة، لانه يحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته.
الرابعة والثلاثون: " أن تضل إحداهما " والضلال عن الشهادة نسيان جزء منها وذكر جزء، ومن نسى الشهادة جملة فليس يقال.
ضالا.

(13/102)


الخامسة والثلاثون.
" فتذكر " خفف الذال والكاف ابن كثير وأبو عمرو وعليه فيكون المعنى أن تردها ذكرا في الشهادة وفيه بعد، إذ لا يحصل في مقابلة الضلال الذى معناه النسيان الا الذكر، وهو معنى قراءة الجماعة بالتشديد.
السادسة والثلاثون.
قوله تعالى " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال الحسن جمعت هذه الآية أمرين وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها قاله ابن عباس وفى استدعائهم أو المجئ إليهم، قال الشافعي في باب السلم.
ويحتمل أن يكون فرضا على من حضر الحق أن يشهد منهم من فيه الكفاية للشهادة، فإذا شهدوا أخرجوا غيرهم من المأثم، وان ترك من حضر الشهادة خفت حرجهم بل لا أشك فيه، وهذا أشبه معانيه به والله أعلم السابعة والثلاثون.
أداء الشهادة مندوب إذا لم يدع لقوله صلى الله عليه وسلم " خير الشهداء الذى يأتي بشهادته قبل أن يسألها " فإذا خيف ضياع الحق وجب أداؤها بغير استدعاء لقوله تعالى " وأقيموا الشهادة لله " وقوله تعالى " الا من شهد بالحق وهم يعلمون " وفى الحديث " انصر أخاك ظالما أو مظلوما ".
الثامنة والثلاثون.
من وجبت عليه شهادة فلم يؤدها، وترتب على ذلك الذهاب بحق من الحقوق سقطت عدالته فلا يصح أداؤه الشهادة بعد ذلك، قال في الام.
فأما من سبقت شهادته بأن شهد أو علم حقا لمسلم أو معاهد فلا يسعه التخلف عن تأدية الشهادة متى طلبت منه في موضع مقطع الحق.
التاسعة والثلاثون.
قوله تعالى " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " فهذا النهى عن السآمة انما جاء لتردد المداينة عندهم فخيف عليهم أن يملوا الكتابة، ويقول أحدهم.
هذا قدر يسير لا احتياج إلى كتابته، فأكد الله تعالى حفظ القليل والكثير.
الموفية الاربعين.
قوله تعالى " ذلكم أقسط عند الله " يعنى أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه ذلك أعدل وأحفظ.
الحادية والاربعون.
قوله تعالى " وأقوم للشهادة " دليل على أن الشاهد لا يؤدى الا ما يعلم، فإذا لم يعلم قال: هذا خطى ولا أذكر الآن ما كتبت.

(13/103)


الثانية والاربعون: قوله تعالى (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) في هذه الآية رفع الجناح عن عدم الكتابة في كل مبايعة بنقد، يدا بيد، وقد مر في البيوع المرسلة.
الثالثة والاربعون: قوله تعالى " تديرونها بينكم " يقتضى التقايض والبينونة بالمقبوض، ولا يتسنى ذلك في الرباع والارض وكثير من الاشياء الثمينة لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه، لذلك حسن الكتابة فيها، ولحقت في ذلك مبايعة الدين والسلم.
قال الشافعي: البيوع ثلاثة، بيع بكتاب وشهود وبيع برهان وبيع بأمانة وقرأ هذه الاية، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ، وإذا باع بنسيئة كتب الرابعة والاربعون، قوله تعالى " وأشهدوا " سبق بيان ذلك في أول
الباب.
وقد روى عن ابن عباس أنه قال لما قيل له إن آية الدين منسوخة.
قال لا والله، إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ.
قال الطبري: والاشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الكتاب ومنها الرهن ومنها الاشهاد، ولا خلاف بين علماء الامصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب، فيعلم من ذلك مثله في الاشهاد، وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا، وبرا وبحرا، وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الاشهاد ما تركوا النكير.
اه.
وقد مر تفصيل ذلك في البيوع وما ورد فيه من الاحاديث الخامسة والاربعون " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قد تشمل هذه الاية درء كل ما يؤدى إلى مضارة الشاهد.
كأن يوقف أمام الحكام زمنا يلحقه من جرائه مضارة، أو يخطب بلهجة تنم عن ازدرائه وخدش حيائه إن كان من أهل الفضل والعلم، فإذا دعى الشاهد إلى الشهادة واعتذر بمشاغله، فلا يهان أو يعنف، أو يكره على الشهادة السادسة والاربعون " وان تفعلوا فإنه فسوق بكم " يعنى مضارة الشاهد، قال سفيان الثوري: إن أذية الكاتب والشاهد إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لامر الله.
وقوله " بكم " أي فسوق حال بكم

(13/104)


السابعة والاربعون: قوله تعالى " واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم " وعد من الله بأن من اتقاه علمه وجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه.
وقد يجعل في قلبه فرقانا وفيصلا بين الحق والباطل.
والله تعالى أعلم والحق أن هذه الايات في السلف بلغت من شمول الاحكام واستيعاب صور
العمل مع السنة الشريفة ما جعل الشافعي يقول، قال الشافعي: وما كتبت من الاثار بعدما كتبت من القرآن والسنة والاجماع ليس لان شيئا من هذا يزيد سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوة ولا لو خالفها ولم يحفظ معها يوهنها، بل هي التى قطع بها العذر، ولكنا رجونا الثواب في ارشاد من سمع ما كتبنا، فإن فيما كتبنا بعض ما يشرح قلوبهم لقبوله، ولو تنحت عنهم الغفلة لكانوا مثلنا في الاستغناء بكتاب الله عز وجل ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما احتاجوا إذا أمر الله عز وجل بالرهن في الدين إلى أن يقول قائل هو جائز في السلف، لان أكثر ما في السلف أن يكون دينا مضمونا. اه
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وينعقد بلفظ السلف والسلم، وفى لفظ البيع وجهان من أصحابنا من قال لا ينعقد السلم بلفظ البيع، فإذا عقد بلفظ البيع كان بيعا ولا يشترط فيه قبض العوض في المجلس، لان السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه، ومنهم من قال ينعقد لانه نوع بيع يقتضى القبض في المجلس فانعقد بلفظ البيع كالصرف (الشرح) هذا الخلاف لفطى، لان صورة السلم يمكن أن تكون نوعا من أنواع البيوع مستثنى منها بإطلاق لفظ السلف أو السلم عليه، ولا يؤثر الخلاف اللفظى في جوهره إلا أنهم قضوا في حالة ما إذا عقد بلفظ البيع ولم يقبضه في المجلس خرج بذلك عن أن يكون سلما.
وكلام الشافعي في السلم في كل أنواعه يطلق عليه لفظ البيع فهو نوع خاص من أنواع البيوع أبيح فيه بعض ما هو ممنوع في صور البيوع الاخرى ومنع فيه بعض ما أبيح في البيوع الاخرى.
قال الشافعي في (باب السلف في السلعة بعينها حاضرة أو غائبة)

(13/105)


ولو سلف رجل رجلا مائة دينار في سلعة بعينها على أن يقبض السلعة بعد
يوم أو أكثر كان السلف فاسدا، ولا تجوز بيوع الاعيان على أنها مضمونة على بائعها بكل حال، لانه لا يمتنع من فوتها ولا بأن لا يكون لصاحبها السبيل على أخذها متى شاء هو لا يحول بائعها دونها إذا دفع إليه ثمنها، وكان إلى أجل لانها قد تتلف في ذلك الوقت، وإن قل، فيكون المشترى قد اشترى غير مضمون على البائع بصفة موجودة بكل حال يكلفها بائعها، ولا ملكه البائع شيئا بعينه يتسلط على قبضه حين وجب له وقدر على قبضه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويثبت فيه خيار المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا ولا يثبت فيه خيار الشرط لانه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمامه ولهذا لا يجوز أن يتفرقا قبل قبض العوض فلو أثبتنا فيه خيار الشرط أدى إلى أن يتفرقا قبل تمامه.
(الشرح) حديث المتبايعان بالخيار رواه الشيخان عن ابن عمر وحكيم بن حزام ورواه الشيخان وأصحاب السنن الا ابن ماجه بلفظ " البيع والمبتاع، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، ورواه أبو داود عن أبى برزة، وعن سمرة عند النسائي، وعن ابن عباس عند ابن حبان.
أما الاحكام فإنه لا يجوز في عقد السلم أن يتفرقا قبل توفر شروطه أن يكون في جنس معلوم بصفة معلومة ومقدار معلوم وأجل معلوم وتسليم رأس المال في المجلس وتسمية مكان التسليم.
قوله: ولهذا لا يجوز أن يتفرقا قبل قبض العوض، وذلك العوض هو رأس المال وهو الثمن الذى يجب تسليمه في المجلس الذى وقع العقد به قبل التفرق منه وقبل لزومه لان لزومه كالتفرق إذ لو تأخر لكان في معنى بيع الدين بالدين ان كان رأس المال في الذمة، ولان في السلم غررا، فلا يضم إليه غرر تأخير رأس المال، فلابد من حلول رأس المال كما قاله القاضى أبو الطيب كالصرف، ولا يغنى عنه شرط تسليمه في المجلس فلو تفرقا قبل قبض رأس المال أو ألزماه بطل العقد

(13/106)


وكذلك إذا سلم بعضه بطل فيما لم يقبض، وفيما يقابله من المسلم فيه، وصح في الباقي بقسطه، كما لو اشترى شيئين فتلف أحدهما قبل القبض فيؤخذ منه ثبوت الخيار هذا ما أخذ به الرملي عن صاحب الانوار وخالف فيه السبكى، ولو اختلفا فقال المسلم: أقبضتك بعد التفرق، وقال المسلم إليه: قبله، ولا بينة صدق مدعى الصحة، كما علم مما مر فإن أقاما بينتين قدمت بينة المسلم إليه، لانها مع موافقتها للظاهر ناقلة والاخرى مستصحبة " ولا يكفى قبض المسلم فيه الحال في المجلس عن قبض رأس المال لان تسليمه فيه تبرع، وأحكام البيع لا تبنى على التبرعات وكذا لو قال: أسلمت اليك المائة التى في ذمتك مثلا في كذا فإنه لا يصح السلم.
قال الرملي: فلو أطلق رأس المال عن تعيينه في العقد، كأسلمت اليك دينارا في ذمتي في كذا ثم عين وسلم في المجلس قبل التخاير جاز، أي حل العقد وصح، لان المجلس حريم العقد فله حكمه.
فلو أحال المسلم به المسلم إليه أو عكسه على ثالث له عليه دين فالحوالة باطلة بكل تقدير كما يعلم ذلك في بابه..أعنى الحواله - فإذا قبضه المحيل وهو المسلم إليه في الصورة الاولى في المجلس نص عليه ليعلم منه حكم ما لم يقبض فيه بالاولى فلا يجوز، ومن ثم لو قبضه المحيل من المحال عليه أو من المحتال بعد قبضه بإذنه له وسلمه في المجلس صح بخلاف ما لو أمره المسلم بالتسليم للمسلم إليه، لان الانسان في ازالة ملكه لا يصير وكيلا لغيره، لكن المسلم إليه حينئذ وكيل للمسلم في القبض فيأخذه منه ثم يرده كما تقرر، ولا يصح قبضه من نفسه خلافا للقفال.
قال: ولو قبضه المسلم إليه وأودعه المسلم وهما بالمجلس جاز، ولو رده إليه قرضا أو عن دين جاز
أيضا على المعتمد من تناقض فيه، لان تصرف أحد المتعاقدين في مدة خيار الآخر انما يمتنع إذا كان مع غير الاخر، ولان صحته تقتضي اسقاط ما ثبت له من الخيار أما معه فيصح، ويكون ذلك اجازة منهما.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز مؤجلا للآية ويجوز حالا لانه إذا جاز مؤجلا فلان يجوز حالا وهو من الغرر أبعد أولى ويجوز في المعدوم إذا كان موجودا عند المحل،

(13/107)


لما روى ابن عباس رضى الله عنه قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وهم يسلفون في الثمرة السنتين والثلاث فقال أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم فلو لم يجز السلم في المعدوم لنهاهم عن السلم في الثمار السنتين والثلاث ويجوز السلم في الموجود لانه إذا جاز السلم في المعدوم فلان يجوز في الموجود أولى لانه أبعد من الغرر.
(الشرح) قوله: للآية قصد قوله تبارك وتعالى " إلى أجل مسمى " أما حديث ابن عباس فقد رواه الجماعة.
أما الاحكام فجوازه مؤجلا أمر مجمع عليه، أما جوازه حالا فجمهور المذاهب على خلافه، ويستدلون بحديث ابن عباس " إلى أجل معلوم " على اعتبار الاجل في السلم شرطا وفقهاء المذهب لم يختلفوا على جوازه حالا وهم يجيبون على استدلال المخالفين بأن ذكر الاجل في الحديث ليس للاشتراط، بل معناه ان كان لاجل فليكن معلوما، وتعقيب بالكتابة فان التأجيل شرط فيها، واجيب بالفرق لان الاجل في المكاتبة شرع لعدم قدرة العبد غالبا، واستدل المخالفون بما أخرجه الشافعي عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ".
وأجيب بأن هذا يدل على جواز السلم إلى أجل، ولا يدل على أنه لا يجوز الا مؤجلا، واستدل المخالفون بما أخرجه ابن أبى شيبة عن ابن عباس أنه قال " لا تسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا ".
وأجيب بأن هذا ليس بحجة لانه موقوف على ابن عباس وكذلك يجاب عن قول أبى سعيد الذى علقه البخاري، ووصله عبد الرزاق بلفظ " السلم بما يقوم به السعر ربا ولكن السلف في كيل معلوم إلى أجل ".
وقد اختلف الائمة في مقدار الاجل من ساعة إلى الميسرة ولو بلغت سنين، والحق ما ذهبنا إليه من عدم اعتبار الاجل لعدم ورود دليل يدل عليه، وأما ما يقال من أنه يلزم مع الاجل أن يكون بيعا للمعدوم ولم يرخص فيه الا

(13/108)


في السلم ولا فارق بينه وبين البيع الا الاجل، فيجاب عنه بأن الصيغة فارقة، وذلك كاف.
قوله: ويجوز السلم في الموجود إلخ قلت: قال ابن رسلان أما المعدوم عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه اه.
وقد اختلف العلماء في جواز السلم فيما ليس بموجود في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول الاجل، فذهب جمهور الفقهاء إلى جوازه قالوا ولا يضر انقطاعه قبل الحلول، وقال أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله بل لابد أن يكون موجودا من العقد إلى المحل، فلو أسلم في شئ فانقطع في محله لم ينفسخ عند الجمهور وفى وجه عندنا ينفسخ، واستدل أبو حنيفة ومن معه بما أخرجه أبو داود عن ابن عمر " أن رجلا أسلف رجلا في نخل فلم يخرج تلك السنة شيئا فاختصما إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله، ثم قال: لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه " وهذا نص في التمر وغيره يقاس عليه، ولو صح هذا الحديث لكان المصير إليه أولى لدلالته على المطلوب بخلاف حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبى أوفى فليس فيه الا مظنة الاقرار منه صلى الله عليه وسلم، ولكن حديث ابن عمر هذا في اسناده مجهول فإن أبا داود رواه عن محمد بن كثير عن سفيان عن أبى اسحاق عن رجل نجرانى عن ابن عمر ومثل هذا لا حجة فيه.
ولو صح هذا الحديث لحمل على بيع الاعيان أو على السلم الحال الذى يقول به أصحابنا، أو على ما قرب أجله.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه وتضبط صفاته كالاثمان والحبوب والثمار والثياب والدواب والعبيد والجوارى والاصواف والاشعار والاخشاب والاحجار والطين والفخار والحديد والرصاص والبلور والزجاج وغير ذلك من الاموال التى تباع وتضبط بالصفات والدليل عليه حديث ابن عباس في الثمار، وروى عبد الله بن أبى أوفى قال كنا نسلف ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا في الزيت والحنطه، وروى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(13/109)


ان النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جيشا فنفدت الابل فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعير إلى إبل الصدقة.
وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال في السلم في الكرابيس إذا كان ذرعا معلوما إلى أجل معلوم فلا بأس، وعن أبى النضر قال سئل ابن عمر رضى الله عنه عن السلم في السرق قال: لا بأس والسرق الحرير فثبت جواز السلم فيما رويناه بالاخبار وثبت فيما سواه مما يباع ويضبط بالصفات بالقياس على ما ثبت بالاخبار لانه في معناه.
(الشرح) حديث ابن عباس في الثمار، وحديث عبد الله بن أبى أوفى مر ذكرهما في أول الباب مع تخريجهما، أما حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما فقد رواه أبو داود في سننه، وله شاهد عند سعيد بن منصور في سننه عن أبى معشر عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد " أن عليا باع بعيرا يقال له: عصيفر بأربعة أبعرة إلى أجل " والاثران عن ابن عباس وابن عمر رواهما أصحاب السنن أما لغات الفصل فقوله: الاشعار جمع شعر والواحدة شعرة والمقصود هنا ما ينبت على جلود المعز والوبر ما ينبت على جلود الابل، وقوله: فنفدت الابل أي ذهبت ولم يبق منها شئ، وقوله: قلاص جمع قلوص وهو من الابل بمنزلة الشابة من النساء، وقوله: الكرابيس جمع كرباس وهو نسيج خشن، وقوله: السرق هي شقق الحرير.
أما الاحكام: فقوله: في كل مال يجوز بيعه خرج بذلك الخمر والخنزير والكلب وكل ما هو غير محترم من الحيوان، وقوله: وتضبط صفاته، يعنى مما يمتنع الخلاف فيه إذا وصفت، ويمكن تمييزها عن غيرها إذا وصفت بصفاتها قال الشافعي في باب ما يجوز من السلف: وأن يشترط عليه أن يسلفه فيما يكال كيلا أو فيما يوزن وزنا ومكيال وميزان معروف عند العامة، فأما ميزان يريه إياه أو مكيال يريه فيشترطان عليه فلا يجوز وذلك لانهما لو اختلفا فيه أو هللك لم يعلم ما قدره، ولا يبالى كان مكيالا قد أبطله السلطان أو لا إذا كان معروفا وان كان تمرا قال: تمر صيحانى أو بردى أو عجوه أو جنيب أو صنف من التمر

(13/110)


معروف فإن كان حنطة، قال شامية أو ميسانية أو مصرية أو موصلية أو صنفا من الحنطة موصوفا، وان كان ذرة قال: حمراء، ثم قال: وان كان في بعير قال: بعير من نعم بنى فلان ثنى غير مودن نقى من العيوب سبط الخلق أحمر مجفر الجنبين الخ، وهذه الدواب يصفها بنتاجها وجنسها وألوانها وأسنانها وأنسابها وبراءتها من العيوب الا أن يسمى عيبا يتبرأ البائع منه ثم قال: وهكذا النحاس يصفه أبيض أو شبها أو أحمر، ثم قال: وأقل ما يجوز فيه السلف من هذا أن يوصف ما سلف فيه بصفة تكون معلومة عند أهل العلم ان؟ ؟ ؟ ؟ ف المسلف والمسلف، فكل ما وقعت عليه صفة يعرفها أهل العلم بالسلعة التى سلف فيها جاز السلف، وكذلك قال الشافعي في باب السلف في الكيل: ولا خير في السلف في مكيل الا موصوفا، ثم قال في السلف الذرة: والذرة كالحنطة توصف بجنسها ولونها وجودتها ورداءتها وجدتها وعتقها وصرام علم كذا أو عام كذا ومكيلتها وأجلها، فإن ترك من هذا شيئا لم يجز، وقال: لا يجوز السلف في الحنطه في أكمامها وما يكون من الذرة في حشرها لان الحشر والاكمام غلافان فوق القشرة التى هي من نفس الحبة التى هي انما هي للحبة بقاء لانها كمال خلقتها كالجلد تكمل به الخلقة لا يتميز منها إلى أن قال: فإن شبه على أحد بأن يقول في الجوز واللوز يكون عليه القشر فالجوز واللوز مما له قشر لا صلاح له إذا رفع الا بقشره، لانه إذا طرح عنه قشره ثم ترك عجل فساده.
وقال: وان سلف في وزن ثم أراد اعطاء كيلا لم يجز من قبل أن الشئ يكون خفيفا ويكون غيره من جنسه أثقل منه فإذا أعطاه اياه بالمكيال أقل أو أكثر مما سلفه فيه فكان أعطاه الطعام الواجب متفاضلا أو مجهولا، وانما يجوز أن يعطيه معلوما، فإن أعطاه حقه فذلك الذى لا يلزمه غيره، وان أعطاه حقه وزاده تطوعا منه على غير شئ كان في العقد فهذا نائل من قبله، فإن أعطاه أقل من حقه وأبرأه المشترى مما بقى عليه فهذا شئ تطوع به المشترى فلا بأس به.
وقال في تفريع الوزن من العسل: فإن سلف في عسل فجاءه بعسل رقيق أريه أهل العلم بالعسل، فإن قالوا: هذه الرقة في هذا الجنس من هذا العسل عيب

(13/111)


ينقص ثمنه لم يكن عليه أن يأخذه.
وإن قالوا هكذا يكون هذا العسل.
وقالوا رق لحر البلاد أو لعلة غير العيب في نفس العسل لزمه أخذه وقال: ألا ترى أنى لو أسلمت في سمن ووصفته ولم أصف جنسه فسد من قبل أن سمن المعزى مخالف سمن الضأن، وأن سمن الغنم كلها مخالف البقر والجواميس، فإذا لم تقع الصفة على الجنس فسد السلف وقال في باب السلف في السمن: والسمن فيه ما يدخن ومالا يدخن، فلا يلزم المدخن لانه عيب.
وقال في السلف في الزيت: وما اشترى وزنا بظروفه لم يجز شراؤه بالوزن في الظروف لاختلاف الظروف، وأنه لا يوقف على حد وزنها إلى أن قال: وإن لم يراضيا وأراد اللازم لهما وزنت الظروف قبل أن يصب فيها الادام ثم وزنت بما يصب فيها ثم يطرح وزن الظروف، وإن كان فيها زيت وزن فرغت ثم وزنت الظروف ثم ألقى وزنها من الزيت، وما أسلف فيه من إلادام فهو له صاف من الرب والعكر وغيره مما خالف الصفاء.
(قلت) والظرف يشبه العلب التى يباع فيها الزيت في زماننا هذا وقال في السلف في اللبن: يجوز السلف في اللبن كما يجوز في الزبد.
ويفسد كما يفسد في الزبد بترك أن يقول ما هو ماعز أو ضأن أو بقر، وإن كان إبلا أن يقول: لبن غواد أو أوراك، ويقول في هذا كله لبن الراعية والمعلفة لاختلاف ألبان الرواعى والمعلفة، وتفاضلها في الطعم والصحة والثمن، فأى هذا سكت عنه لم يجز معه السلم، ولم يجز إلا بأن يقول " حليبا " أو يقول " لبن يومه " لانه يتغير في غده.
وقال في السلف في الجبن رطبا ويابسا: والسلف في الجبن كالسلف في اللبن لا يجوز إلا بأن يشرط صفته حين يومه - إلى أن قال - ولا خير فيه إلا بوزن - إلى أن قال - ويشترط فيه جبن ماعز أو بقر أو ضائن - إلى أن قال - وكل ما كان عيبا في الجبن عند أهل العلم من إفراط ملح أو حموضة طعم أو غيره لم يلزم المشترى.

(13/112)


وقال في الصوف والشعر: ولا خير في أن يسلم في صوف غنم بأعيانها، ولا شعرها إذا كان ذلك إلى يوم واحد فأكثر وذلك أنه قد تأتى الآفة عليه فتذهبه أو تنقصه، إلى أن قال: ولا خير في أن يسلم في ألبان غنم بأعيانها ولا زبدها ولا سمنها ولا لبنها ولا جبنها.
قال البلقينى: المراد ألا يسلم في صوف غنم معينة أو شعرها أو في غير معينة غير الصوف والشعر اه.
قال الشافعي: ولا بأس أن تسلف في شئ ليس في أيدى الناس حين تسلف فيه إذا شرطت محله في وقت يكون موجودا فيه بأيدى الناس.
وقال في صفة اللحم وما يجوز فيه وما لا يجوز: من أسلف في لحم فلا يجوز فيه حتى يصفه: لحم ماعز خصى أو ذكر ثنى فصاعدا أو جدى رضيع أو فطيم إلى أن قال: ويشترط الوزن إلى أن قال: وان شرط موضعا من اللحم وزن ذلك الموضع بما فيه من العظم لان العظم لا يتميز من اللحم كما يتميز التبن والمدر والحجارة من الحنطة (وقاسه على النوى في التمر) .
وقال الشافعي في الام كثيرا عن لحم الوحش والحيتان والرءوس والاكارع والسلف في العطر وزنا ومتاع الصيادلة واللؤلؤ وغيره من متاع أصحاب الجوهر والتبر غير الذهب والفضة وصمغ الشجر والطين الارمني وطين البحيرة والمختوم إلى أن وصل إلى السلف في الحيوان قال:
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يسار عن أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسلف بكرا فجاءته إبل من الصدقة فقال أبو رافع فأمرني رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أقضى الرجل بكرة، فقلت: يا رسول الله إنى لم أجد في الابل إلا جملا خيارا رباعيا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء " فهذا الحديث الثابت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبه آخذ وفيه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضمن بعيرا بصفة وجنس وسن فكالدنانير بصفة وضرب ووزن، وكالطعام بصفة وكيل،

(13/113)


وفيه دليل على أنه لا باس أن يقضى أفضل مما عليه متطوعا من غير شرط، وفيه أحاديث سوى هذا.
ثم روى بإسناده عن أبى الزبير عن جابر قال: جاء عبد فبايع رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الهجرة ولم يسمع أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بعه " فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدا بعده حتى يسأله: أعبد هو أم حر؟ قال وبهذا نأخذ، وهو إجازة عبد بعبدين، وإجازة أن يدفع ثمن شئ في يده فيكون كقبضه.
ثم روى الشافعي بإسناده " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مصدقا له فجاءه بظهر مسان، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: هلكت وأهلكت، فقال يا رسول الله إنى كنت أبيع البكرين والثلاثة بالبعير المسن يدا بيد، وعلمت من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فذاك إذن " ومذهبنا أنه لا ربا في الحيوان، وإنما النهى عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة مما كان أهل الجاهلية يتبايعونه، وهو مفصل في أبواب الربا التى سبقت في موطنها.
(فرع)
اختلف الفقهاء في السلم في الحيوان، فروى لا يصح السلم فيه وهو قول الثوري وأصحاب الرأى.
وروى ذلك عن عمر وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن جبير والشعبى والجوزجاني، لما روى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: إن من الربا أبوابا لا تخفى، وإن منها السلم في السن " ولان الحيوان يختلف اختلافا متباينا فلا يمكن ضبطه، وان استقصى صفاته التى يختلف بها الثمن، مثل أزج الحاجبين، أكحل العينين، أقنى الانف أشم العرنين، أهدب الاشفار ألمى الشفة، بديع الصفة تعذر تسليمه لندرة وجوده على تلك الصفات ومذهبنا ومذهب أحمد صحة السلم فيه قال ابن المنذر: وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوان ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبى ومجاهد والزهرى والاوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وحكاه الجوزجانى عن عطاء والحكم،

(13/114)


لان أبا رافع قال " استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا " رواه مسلم وقد سقناه عن الام قبل فأما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف، ثم هو محمول على أنهم يشترطول من ضراب فحل بنى فلان.
قال الشعبى " انما كره ابن مسعود السلف في الحيوان لانهم اشترطوا نتاج فحل معلوم. رواه سعيد ابن منصور.
وقد روى عن على أنه باع جملا يدعى عصيفير بعشرين بعيرا إلى أجل، ولو ثبت قول غمر في تحريم السلم في الحيوان فقد عارضه قول من سمينا ممن وافقنا قال الشافعي " وان كان السلف في خيل أجزأ فيها ما أجزأ في الابل وأحب إن كان السلف في الفرس أن يصف شيته مع لونه، فإن لم يفعل فله اللون بهيما وان كان له شية فهو بالخيار في أخذها وتركها، والبائع بالخيار في تسليمها وإعطائه
اللون بهيما " إلى أن قال " وان أتى على السن واللون والجنس أجزأه، وإن ترك واحدا من هذا فسد السلف " إلى أن قال " ولا يحل أن يسلف في ذات رحم من الحيوان - على أن يوفاها وهى حبلى - من قبل أن الحمل مالا يعلمه إلا الله، وأنه شرط شيئا فيها ليس فيها، وهو شراء مالا يعرف، وشراؤه في بطن أمه لا يجوز، لانه لا يعرف ولا يدرى أيكون أم لا.
ولا خير في أن يسلف في ناقة ومعها ولدها موصوفا ولا في وليدة ولا في ذات رحم من حيوان كذلك.
ولكن ان أسلف في وليدة أو ذات رحم من الحيوان بصفة ووصف بصفة، ولم يقل ابنها أو ولد ناقة أو شاة، ولم يقل ولد الشاة التى أعطاها جاز، وسواء أسلفت في صغير أو كبير موصوفين بصفة وسن تجمعهما أو كبيرين كذلك قال ولو سلف في ذات لبون على أنها لبون كان فيها قولان
(أحدهما) أنه جائز.
وإذا وقع عليه أنها لبون كانت له واللبن يتميز منها ولا يكون بتصرفها، انما هو شئ يخلقه الله عز وجل فيها، كما يحدث فيها البعر وغيره، فإذا وقعت على هذا صفة المسلف كان فاسدا كما يفسد أن يقول أسلفك في ناقة يصفها، ولبن معها غير مكيل ولا موصوف قال وكل ما أسلف من حيوان وغيره وشرطت معه غيره فإن كان المشروط

(13/115)


معه موصوفا يحل فيه السلف على الانفراد فسد السلف، ولا يجوز أن يسلف في حيوان موصوف من حيوان رجل بعينه أو بلد بعينه ولا نتاج ماشية رجل بعينه، ولا يجوز أن يسلف فيه إلا فيما لا ينقطع من أيدى الناس كما قلنا في الطعام وغيره.
قال الشافعي في باب الاختلاف في أن يكون الحيوان نسيئة أو يصلح منه إثنان بواحد.
فخالفنا بعض الناس في الحيوان فقال " لا يجوز أن يكون نسيئة أبدا " قال
وكيف أجزتم أن جعلتم الحيوان دينا وهو غير مكيل ولا موزون، والصفة تقع على العبدين ومعهما دنانير وعلى البعيرين وبينهما تفاوت في الثمن؟ قال نقلناه، قلنا أولى الامور بنا أن نقول به بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استسلافه بعيرا وقضائه إياه، والقياس على ما سواها من سنته، ولم يختلف أهل العلم فيه.
قال فاذكر ذلك (قلت) أما السنة النص، فإنه استسلف بعيرا.
وأما السنة التى استدللنا بها فإنه قضى بالدية مائة من الابل، ولم أعلم المسلمين اختلفوا أنها بأسنان معروفة، وفى مضى ثلاث سنين، وأنه صلى الله عليه وسلم افتدى كل من لم يطب عنه نفسا من قسم له من سبى هوازن بإبل سماها ست أو خمس إلى أجل قال " أما هذا فلا أعرفه " قلنا فما أكثر مالا تعرفه من العلم.
قال أفثابت؟ قلت نعم ولم يحضرني إسناده.
قال ولم أعرف الدية من السنة.
قلت وتعرف مما لا تخالفنا فيه أن يكاتب الرجل على الوصفاء بصفة، وأن يصدق الرجل المرأه العبيد والابل بصفة؟ قال نعم.
وقال ولكن الآية تلزم الابل، إبل العاقلة وسن معلومة وغير معيبة، ولو أراد أن ينقص من أسنانها سنا لم تجز، فلا أراك إلا حكمت بها مؤقتة، وأجزت فيها أن تكون دينا.
وكذلك أجزت في صداق النساء لوقت وصفة، وفى الكتابة لوقت وصفة.
ولو لم يكن روينا فيها شيئا إلا ما جامعتنا عليه من أن الحيوان يكون دينا في هذه المواضع الثلاث أما كنت محجوجا بقولك " لا يكون الحيوان دينا وكانت علتك فيه زائلة؟

(13/116)


قلت: قد جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينا في السلف والدية، ولم تخالفنا في أنه يكون في موضعين آخرين دينا في الصداق والكتابة، فإن قلت: ليس بين العبد وسيده ربا، قلت: أيجوز أن يكاتبه على حكم السيد، وعلى أن يعطيه ثمرة لم يبد صلاحها، إلى أن قال، قال الشافعي: وقلت لمحمد بن الحسن: أنت أخبرتني عن أبى يوسف عن عطاء بن السائب عن أبى البحترى أن بنى عم لعثمان أتوا واديا فصنعوا شيئا في إبل رجل قطعوا به لبن إبله، وقتلوا فصالها، فأتى عثمان وعنده ابن مسعود فرضى بحكم ابن مسعود فحكم أن يعطى بواديه إبلا مثل إبله وفصالا مثل فصاله فأنفذ ذلك عثمان فيروى عن ابن مسعود أنه يقضى في حيوان بحيوان مثله دينا لانه إذا قضى به بالمدينة وأعطيه بواديه كان دينا ويزيد أن يروى عن عثمان أنه يقول بقوله، وأنتم تروون عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال: أسلم لعبد الله بن مسعود في وصفاء أحدهم أبو زائدة مولانا، فلو اختلف قول ابن مسعود فيه عندك فأخذ رجل ببعضه دون بعض ألم يكن له قال: بلى، قلت: ولو لم يكن فيه غير اختلاف قول ابن مسعود؟ قال: نعم قلت فلم خالفت ابن مسعود ومعه عثمان ومعنى السنة والاجماع؟ قال: فقال منهم قائل فلو زعمت أنه لا يجوز السلم فيه ويجوز إسلامه، وأن يكون دية وكتابة ومهرا وبعيرا ببعيرين نسيئة، قلت: فقله إن شئت قال: فإن قلته؟ قلت يكون أصل قولك لا يكون الحيوان دينا خطأ بحاله.
قال فإن انتقلت عنه؟ قلت فأنتم تروون عن ابن عباس أنه أجاز السلم في الحيوان، وعن رجل آخر مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إنا لنرويه.
قلت: فإن ذهب رجل إلى قولهما أو قول أحدهما دون قول ابن مسعود أيجوز له؟ قال: نعم قلت: فان كان مع قولهما أو قول أحدهما القياس على السنة والاجماع؟ قال فذلك أولى أن يقال به، قلت أفتجد مع من أجاز السلم في الحيوان القياس فيما وصفت؟ قال نعم.
وقال الشافعي في السلف في الثياب: فان شرطه صفيقا ثخينا لم يكن له أن يعطيه دقيقا وإن كان خيرا منه.
لان في الثياب علة أن الصفيق الثخين يكون أدفأ في البرد

(13/117)


وأكن في الحر، وربما كان أبقى فهذه علة تنقصه، وإن كان ثمن الادق أكثر فهو غير الذى أسلف فيه وشرط لحاجته.
وتكلم الشافعي عن السلف في الاهب والجلود فلم يجزه سلما ولا بيعا إلا منظورا إليه، قال.
وذلك أنه لم يجز لنا أن نقيسه على الثياب لانا لو قسناه على الثياب لم يحل إلا مذروعا مع صفته، وليس يمكن فيه لاختلاف خلقته عن أن يضبط بذرع بحال وسيأتى في الفصل التالى إن شاء الله.
وأجاز الشافعي السلف في الخشب وأجازه خشبا بخشب، بناء على قاعدة لا ربا فيما عدا الكيل والوزن من المأكول والمشروب كله والذهب والورق، وما عدا هذا فلا بأس بالفضل في بعضه على بعض يدا بيد ونسيئة، سلما وغير سلم كيف كان إذا كان معلوما، والسلف في الخشب مذروعا ومقيسا بالسنتى أو البوصة أو المتر، وفى الكثير منها بالطن والمتر والقليل منها بالوزن والقياس.
وتكلم الشافعي عن السلف في الحجارة والارحية وغيرها حتى تكلم على أصنافها ومنع أن يسلف في أنقاض البيوت للمجازفة وعدم الدقة في قدرها أما السلف في العدد فقد جعله الشافعي لا يجوز إلا مع مراعاة ما وصف من الحيوان الذى يضبط سنه وصفته وجنسه والثياب التى تضبط بجنسها وحليتها وذرعها والخشب الذى يضبط بجنسه وصفته وذرعه وما كان في معناه ولم يجز الشافعي السلف في البطيخ ولا القثاء ولا الخيار ولا الرمان ولا السفرجل ولا الموز ولا الجوز ولا البيض - أي بيض كان، دجاج أو حمام أو غيره - ولا البرتقال ولا اليوسفي، وكذلك ما سواه مما يتبايعه الناس عددا وما كان في معناه لاختلاف العدد، واختلافه في الوزن لان بعضها قد يزن الكيلو منها عددا يختلف بعضه عن بعض فلا يضبط بعدد ولا وزن، وما كان مما لا يضبط من صفة أو بيع عدد
فيكون مجهولا إلا أن يقدر على أن يكال أو يوزن فيضبط بالكيل والوزن كأن يقال أسلفتك في طن من الموز المغربي يزن اثنى عشر ألف أصبع أو طن من البطيخ لا تزيد حباته على مائتين من النوع الفلاني، لان هذه الانواع كلما قل عددها وزنا دل ذلك على كبر حجمها وجودة نوعها غالبا، وتلحق بالمأكول من

(13/118)


البقول حيث قال: وإن كان منه شئ يختلف صغاره وكباره لم يجز إلا أن يسمى صغيرا أو كبيرا كالقنبيط تختلف صغاره وكباره، وكالفجل وكالجزر وما اختلف صغاره وكباره في الطعم والثمن اه.
وكذلك لا يجوز وزنا في القصب عدا ويجوز وزنا على الصفة التى أسلفناها كل ذلك فور قطعه، ولو حفظ شئ من ذلك بالثلاجات فزاد وزنه من فعل الرطوبة فسد السلف.
وإن جف في الشمس فنقص ذلك من وزنه أو من مذاقه فسد السلف ولا يجوز السلف فيما يفسد من تلقاء نفسه بمرور الزمن، إذا لم يتميز عن حديث العهد بصنعته كالاسمنت فإنه يفسد من تلقاء نفسه فلا يصلح للبناء ولا يمكن تمييزه من الصالح للبناء للاتفاق في الصفات الظاهرة والله تعالى أعلم.
(تنبيه) تركنا التفصيل في الطين والزجاج والحجارة لما يمكن للفقيه أن يعرف حكمها مما سقناه من تفصيل في أشياء كثيرة يؤخذ بقواعدها العامة ويقاس عليها وخشية الاطالة والله الموفق.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وأما ما يضبط بالصفة فلا يجوز السلم فيه لانه يقع البيع فيه على مجهول وبيع المجهول لا يجوز، قال الشافعي رحمه الله: ولا يجوز السلم في النبل لان دقته وغلظه مقصود وذلك لا يضبط ولا يجوز في الجواهر كاللؤلؤ والعقيق والياقوت والفيروزج والمرجان لان صفاءها مقصود وعلى قدر صفائها يكون ثمنها
وذلك لا يضبط بالوصف ولا يجوز السلم في الجلود لان جلد الاوراك غليظ وجلد البطن رقيق ولا يضبط قدر رقته وغلظه ولانه مجهول المقدار لانه لا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه ولا يجوز في الرق لانه لا يضبط رقته وغلظه ويجوز في الورق لانه معلوم القدر معلوم الصفة.
(الشرح) قوله: الفيروزج هو من الجواهر الثمينة سماوي اللون والنسبة إليه فيروزى، والمرجان صغار اللؤلؤ، والرق بفتح الراء وتشديد القاف جلد رقيق يكتب عليه.

(13/119)


أما أحكام الفصل في باب السلف في الاهب والجلود: ولا يجوز السلف في جلود الابل ولا البقر ولا أهب الغنم ولا جلد إهاب من رق ولا غيره ولا يباع إلا منظورا إليه، قال: وذلك أنه لم يجز أن نقيسه على الثياب لانا لو قسناه عليها لم يحل إلا مذروعا مع صفته، وليس يمكن فيه الذرع لاختلاف خلقته عن أن يضبط بذرع بحال، ولو ذهبنا نقيسه على ما أجزنا بصفة لم يصح لنا، وذلك أنا إنما نجيز السلف في بعبر من نعم بنى فلان ثنى أو جذع موصوف فيكون هذا فيه كالذرع في الثوب، ويقول: رباع وبازل، وهو في كل سن من هذه الاسنان أعظم منه في السن قبله حتى يثناهى عظمه وذلك معروف مضبوط كما يضبط الذرع وهذا لا يمكن في الجلود - إلى أن قال رحمه الله: - هكذا الجلود لا حياة فيها وإنما تفاضلها في تخانتها وسعتها وصلابتها، ومواضع منها، فلما لم نجد خبرا نتبعه ولا قياسا على شئ مما أجزنا السلف فيه لم يجز أن نجيز السلف فيه.
أما الجواهر الثمينة فقد قال الشافعي رحمه الله في باب السلف في اللؤلؤ وغيره من متاع أصحاب الجوهر: لا يجوز عندي السلف في اللؤلؤ في الزبرجد ولا في الياقوت ولا في شئ من الحجارة التى تكون حليا من قبل أنى لو قلت: سلفت في
لؤلؤة مدحرجة صافيه وزنها كذا وكذا وصفتها مستطيلة ووزنها كذا، كان الوزن في اللؤلؤة مع هذه الصفة تستوى صفاته وتتباين، لان منه ما يكون أثقل من غيره فيتفاضل بالثقل والجودة، وكذلك الياقوت وغيره، فإذا كان هكذا فيما يوزن كان اختلافه لو لم يوزن في اسم الصغير والكبير أشد اختلافا.
ولو لم أفسده من قبل الصفاء، وإن تباين وأعطيته أقل ما يقع عليه اسم الصفاء أفسد من حيث وصفت، لان بعضه أثقل من بعض، فيكون الثقيلة الوزن بينا وهى صغيرة وأخرى أخف منها وزنا بمثل وزنها وهى كبيرة، فيتباينان في الثمن تباينا متفاوتا ولا أضبط أن أصفها بالعظم أبدا إذا لم توزن اه.
قال النووي في المنهاج، ولا يصح فيما لو استقصى وصفه عز وجوده كاللؤلؤ الكبار واليواقيت وجارية وأختها أو ولدها.
وخرج بقوله " اللؤلؤ الكبار " الانواع الصغيرة الدقيقة التى لا تستعمل في

(13/120)


الزينة، وإنما التى تطلب للتداوي، وضبطها الجوينى بسدس دينار، ولا يصح في العقيق كما قال الماوردى، بخلاف البللور، فإنه لا يختلف، ومعياره إن كان مسطحا بقياس مساحته وسمكه.
(فرع)
السلف في الرؤوس والاكارع فيها قولان
(أحدهما)
لا، وهو أحد قولى الشافعي وقول أبى حنيفة لعدم انضباطه بكيل أو وزن، ولا عدد منفرد.
وذلك قد يشتبه ما يقع عليه اسم الصغير وهو متباين، وما يقع عليه اسم الكبير وهو متباين.
(والقول الثاني) نعم.
وهو قول أحمد ومالك والاوزاعي وأبى ثور، لانه لحم فيه عظم يجوز شراؤه، فجاز السلم فيه كبقية اللحم، وهو أحد القولين عند الشافعي.
قال في الام:
ولا يجوز عندي السلف في شئ من الرؤوس من صغارها ولا كبارها ولا الاكارع - إلى أن قال - ولو تحامل رجل فأجازه لم يجز عندي أن يؤمر أحد بأن يجيزه إلا موزونا.
ثم قال ولا جازته وجه يحتمل بعض مذاهب أهل الفقه ما هو أبعد منه، اه قوله " ويجوز في الورق " قلت إذا كان السلم فيه في نوع مقدور عليه للناس جاز، ولا يجوز أن يسلم في ورق يابانى حيث لا يوجد الا (راكتا (1)) ولا يسلم في وزن من الورق الراكتا لا يقوم المصنع بإشاعته في السوق وتمكين من أراده من نيله.
وصفات الورق ومصادره وأوزانه وأحجامه في زماننا هذا ينبغى أن يتحرز التجار فيها، وأكثرهم يشيع بينهم السلم في تجارة الورق، فلا يصح إلا موصوفا بوزنه وبلده ولونه وعلامته (2) ان قدر عليه، وإلا فسد السلم، لان العلم إما بالرؤية وإما بالوصف - لانه في الذمة - فينبغي مراعاة ما ذكرنا وهو متفق عليه عند الشافعي وأحمد ومالك وأبى حنيفة قولا واحدا
__________
(1) ورق أبيض مصنوع في الجمهورية العربية المتحدة، حرسها الله (2) العلامة التى يقال لها الماركة كالبوريجار والفبريانو والمانيفولد والستانيه والطبع إلى آخر أصناف الورق التى لا حصر لها

(13/121)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز فيما عملت فيه النار كالخبز والشواء، لان عمل النار فيه يختلف فلا يضبط، واختلف أصحابنا في اللبأ المطبوخ، فقال الشيخ أبو حامد الاسفراينى رحمه الله لا يجوز لان النار تعقد أجزاءه فلا يضبط، وقال القاضى أبو الطيب الطبري رحمه الله يجوز لان ناره لينة.
(الشرح) قوله " لا يجوز فيما عملت فيه النار " وهو قول الاصحاب.
قال
النووي رحمه الله تعالى: ولا يصح في المطبوخ والمشوى، ولا يضر تأثير الشمس، والاظهر منعه في رءوس الحيوان والظاهر أن منع السلم فيما مسته النار علته عدم انضباط تأثير النار فيها، وإلا لو أمكن انضباط ذلك صح السلم فيه لجواز السلم في الصابون والسكر والفانيذ واللبأ والدبس، وقد نبه النووي على تصحيح ذلك في كتابه التنبيه في كل ما دخلته نار خفيفة، ومثل ببعض المذكورات، وإن خالف في ذلك ابن المقرى تبعا للاسنوى، ويؤيد صحة ذلك تصحيحهم للسلم في الآجر المطبوخ.
قال الشربينى الخطيب في المغنى من كتب المذهب: وعليه يفرق بين بابى الربا والسلم بضيق باب الربا.
فإن قيل قول النووي كغيره " إن نار ما ذكر لطيفة خلاف المشاهد.
وهو كلام من لا عهد له بعمل السكر " أجيب بأن مراده اللطيفة المضبوطة، كما عبرت به، وصرح الامام ببيع الماء المغلى بمثله، فيصح السلم فيه وفى ماء الورد لان ناره لطيفة كما جزم به الماوردى وغيره وكذلك أجازوا السلم في العسل المصفى بالنار، لان تصفيته بها لا تؤثر، لان ناره لطيفة للتمييز.
ويجوز في الشمع والقند - وهو السكر الخام - والخزف والفحم وقول النووي " والاظهر منعه في رءوس الحيوان " وذلك لاحتوائها على

(13/122)


أجزاء مختلفة من المناخر والمشافر وغيرها - ويتعذر ضبطها - أي حرارة الشمس وتأثيرها.
وقد منع النووي السلم في البرمة المعمولة، وهى القدر، ولا يصح في القمقم
والطنجير والكوز والطست أو الطشت ونحوها كالاباريق والخابية والاسطال الضيقة الفتحات لندرة اجتماع الوزن مع الصفات المشروطة ولتعذر ضبطها اما لاختلاف الاجزاء في الدقة والغلظ فتكون كالجلد، أو لمخالفة أعلاها أو وسطها لاسفلها، أما الجلد المقطع فقد قال الشربينى الخطيب في المغنى يجوز فيها وزنا لانضباطها لان جملتها مقصودة، وما فيها من التفاوت يجعل عفوا، ولا يصح في الرق لما ذكر.
(مسألة) إذا كانت البرمة المعمولة لا يجوز فيها السلم، فهل يصح في البرمة المصبوبة في قالب؟ الراجح جوازه.
قال الاشمونى " والمذهب جواز السلم في الاواني المتخذة من الفخار " وهذا محمول على ما إذا ضبط بالقوالب ولم تختلف أجزاؤه اختلافا يصعب وصفه منضبطا، وذلك لان المعمولة هي التى تحفر بالآلات.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ولا يجوز فيما يجمع أجناسا مقصودة لا تتميز كالغالية والند والمعجون والقوس والخف والحنطة التى فيها الشعير لانه لا يعرف قدر كل جنس منه، ولا يجوز فيما خالطه ما ليس بمقصود من غير حاجة كاللبن المشوب بالماء والحنطة التى فيها الزوان لان ذلك يمنع من العلم بمقدار المقصود، وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد، ويجوز فيما خالطه غيره للحاجة، كخل التمر وفيه الماء والجبن، وفيه الانفحة والسمك المملوح، وفيه الملح، لان ذلك من مصلحته فلم يمنع جواز العقد ويجوز في الادهان المطيبة، لان الطبيب لا يخالطه وانما تعبق به رائحته ولا يجوز في ثوب نسج ثم صبغ لانه سلم في ثوب وصبغ مجهول، ويجوز فيما صبغ غزله ثم نسج لانه بمنزلة صبغ الاصل، ولا يجوز في ثوب عمل فيه غير غزله كالقرقوبى لان ذلك لا يضبط، واختلف أصحابنا

(13/123)


في الثوب المعمول من غزلين، فمنهم من قال لا يجوز لانهما جنسان مقصودان لا يتميز أحدهما عن الآخر فأشبه الغالية، ومنهم من قال يجوز لانهما جنسان يعرف قدر كل واحد منهما، وفى السلم في الرؤوس قولان، أحدهما يجوز لانه لحم وعظم فهو كسائر اللحوم، والثانى لا يجوز لانه يجمع أجناسا مقصودة لا تضبط بالوصف، ولان معظمه العظم وهو غير مقصود (الشرح) قوله " الغالية " طيب مختلط فيه المسك بماء الورد والكافور والعنبر، وأول من سماها بذلك سليمان بن عبد الملك " والند " بفتح النون نوع من الطيب معرب، وهو من العود كما في المصباح، والصواب أنه مزيج من المسك والعنبر والعود، أما الزوان فهو حب يخالط الحنطة فيكسبها رداءة، والمعجون خليط كثيف من الطيب، والقوس معروف أما الاحكام فقد قال الشافعي في باب السلف في الشئ المصلح لغيره: كل صنف حل السلف فيه وحده فخلط منه شئ بشئ غير جنسه مما يبقى فيه فلا يزايله بحال سوى الماء، وكان الذى يختلط به قائما فيه، وكان مما يصلح فيه السلف، وكانا مختلطين لا يتميزان، فلا خير في السلف فيهما من قبل أنهما إذا اختلطا فلم يتميز أحدهما من الآخر لم أدر كم قبضت من هذا وهذا، فكنت قد أسلفت في شئ مجهول، وذلك مثل أن أسلم في عشرة أرطال سويق لوز فليس يتميز السكر من دهن اللوز، ولا اللوز إذا خلط به أحدهما، فيعرف القابض المبتاع كم قبض من السكر ودهن اللوز واللوز.
فلما كان هكذا بيعا كان مجهولا، وهكذا إن أسلم إليه في سويق ملتوت مكيل، لانى لا أعرف قدر السويق من الزيت.
والسويق يزيد كيله باللتات، ولو كان لا يزيد كان فاسدا، من قبل أنى ابتعت سويقا وزيتا والزيت مجهول، وإن كان السويق معروفا.
اه
(قلت) ويجوز أن يسلف في لحم مقدد كالبسطرمة إذا تحدد صنفها من الحيوان، وكونها سمينة أو حمراء مع فصل ما يغشاها من البهار، ويفسد السلم إذا أخفى هذا البهار أوصافها، ويعفى عنه إذا لم يخف أوصافها، لانه كالملح في السمك المملح وهو مما يصلحه فجاز به.
ويعفى عن مس الشمس له والاظهر منعه

(13/124)


في رءوس الحيوان لتعدد أجزائها وأشفارها كما نص على ذلك النووي في المنهاج.
ولا يجوز في لحم مشوى أو مطبوخ (أولا) لدخوله النار (وثانيا) لخفاء أوصافه ولعدم تقدير ما أخذت منه النار.
وخالف أصحاب أحمد ومالك والاوزاعي وأبو ثور، فجعلوا حكم ما مسته النار من ذلك حكم غيره ما عدا بعض الحنابلة وهو ضعيف عندهم ويجوز في الثياب كالقطن أو الكتان أو الصوف إن كانت هذه الاصناف خالصة من الخلط، أو كان خلطها مما يمكن تقديره وضبطه بدقة.
على أن يذكر في العقد النوع والبلد الذى ينسج فيه ان اختلف به الغرض.
وقيل يغنى ذكر النوع عنه وعن الطول، وهو اختيار الشربينى الخطيب، على أن يذكر الطول والعرض والغلظ والدقة، والصفاقة والرقة، والنعومة والخشونة، لاختلاف الغرض بذلك.
وذكر في البسيط اشتراط اللون في الثياب.
وقال الاذرعى هو متعين في الثياب كالحرير والقز والوبر.
وكذا القطن ببعض البلاد منه أبيض ومنه أشقر خلقة، وهو عزيز، وتختلف الاغراض والقيم بذلك، ويجوز فيما صبغ غزله قبل النسج.
قال الماوردى يجوز إذا بين ما صبغ به وكونه في الشتاء أو الصيف واللون وبلد الصبغ أما المصبوغ بعد النسج فقد ذهب النووي في المنهاج إلى أنه الاقبس وليس
الاصح، والاصح منعه، وبه قطع الجمهور، وهو المنصوص في البويطى، وفرق في الام بينه وبين ما صبغ غزله ثم نسج بأن الغزال إذا صبغ ثم نسج يكون السلم في الثوب، وإذا صبغ بعد النسج فكأنه أسلم في الثوب والصبغ معا والصبغ مجهول.
وهو قول أصحاب أحمد.
قال الماوردى: ولا يجوز السلم في الكتان على خشبه ويجوز بعد دقه، أي وبعد نفضه.
ويجوز أن يكون قصده النفض، فيذكر بلده وطوله ونعومته وخشونته، ويصح السلم في التمر ولا يصح في المكنوز منه كالعجوة في القواصر كما نقله الماوردى عن الاصحاب، ولو أسلم في تمر منزوع النوى ففى صحته وجهان في الحاوى يظهر منهما الصحة

(13/125)


قال النووي: والحنطة كسائر الحبوب كالتمر، أعنى في الشروط المطلوبة فيبين نوعها كالشامي والمصري والصعيدي والبحيري، وأبيض أو أحمر أو أسمر.
قال السبكى وعادة الناس اليوم - أي على عهده رحمه الله تعالى - لا يذكرون اللون ولا صغر الحبات وكبرها، وهى عادة فاسدة مخالفة لنص الشافعي والاصحاب، فينبغي أن ينبه عليها.
اه ولاصحاب أحمد في ذكر الصفات واستقصائها، قال ابن قدامة: ولا يجب استقصاء كل الصفات لان ذلك يتعذر وقد ينتهى الحال فيها إلى أمر يتعذر تسليم المسلم فيه، إذ يبعد تسليم المسلم فيه عند المحل بتلك الصفات كلها، فيجب الاكتفاء بالاوصاف الظاهرة التى يختلف الثمن بها ظاهرا.
قلنا: يجمعنا مع القائلين بذلك ما هو مقرر عندنا وعندهم من اشتراط أن يكون السلم في عام الوجود عند المحل، فإذا تحقق هذا مع الصفات كلها مستقصاة صح السلم.
أما إذا تعذر وجوده عاما فلا يصح التعاقد ابتداء، والصفات التى
نذكرها إنما ترد إذا كان لذكرها أثر في القيمة أو الثمن أو الجودة أو الرداءة، فبطل الخلاف، والله أعلم قال النووي في المنهاج: ولا يصح فيما لو استقصى وصفه عز وجوده.
اه وإذا رجعنا إلى تفصيل الصفات في المسلم فيه عند ابن قدامة رحمه الله وجدناه يقول: ويصف البر بأربعة أوصاف، النوع، فيقول سبيلة أو سلموني، والبلد فيقول حورانى أو بلقاوى أو سمالى، وصغار الحب أو كباره.
وحديث أو عتيق وإن كان النوع الواحد يختلف لونه ذكره ولا يسلم فيه إلا مصفى، وكذلك الحكم في الشعير والقطنيات وسائر الحبوب (قلت) وبهذا قلنا.
قال النووي بعد ذلك الصفات في الحيوان تفصيلا، وكله على التقريب.
اه قوله والخف وكذلك النعل بالاولى لعدم انضباط أجزائها، ولان النعل يشتمل على الجلد وغير الجلد من القماش والورق والخيط والمواد اللاصقة.
لان بها ظهارة وبطانة وحشوا، والعقد لا يفى بذكر أوضاعها وأقدارها.
قال الشربينى الخطيب في المغنى.

(13/126)


وأما الخفاف المتخذة من شئ واحد ومثلها النعال فيصح السلم فيها إن كانت جديدة واتخذت من غير جلد كالثياب المخيطة والامتعة، وكذلك لا يجوز السلم في القسى - جمع قوس ويجمع على أقواس - وهى تصنع من خشب وعظم وعصب وكذلك النبل المريش - بفتح الميم وكسر الراء - لاختلاف وسطه وطرفيه دقة وغلظة، وتعذر ضبطه، وهو أحد القولين عند الحنابله، أما النبل قبل خرطه وترييشه فيصح لتيسر ضبطه قولا واحدا.
ولا يصح السلم في الكشك - وهو بفتح الكاف، وتنطقه العامة بكسرها -
لعدم ضبط حموضته.
ولا يصح السلم في الخبز وذلك عند أكثر الاصحاب، وإن صح عند مالك والشافعي وأحمد وأبى ثور والاوزاعي بناء على اعتبار أن ما مسته النار لا يفارق ما لم تمسه النار إذا انضبط، قال الاصحاب في الخبز: لا يصح لتأثير النار فيه تأثيرا لا ينضبط، ولان ملحه يقل ويكثر، والقول الثاني صحته، وصححه الشافعي ومن تبعه، وحكاه المزني عن النص الصحة لان ناره مضبوطة والملح غير مقصود وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
ولا يجوز السلم في الطير لانه لا يضبط بالسن ولا يعرف قدره بالذرع ولا يجوز السلم في جارية وولدها ولا في جارية وأختها لانه يتعذر وجود جارية وولدها أو جارية وأختها على ما وصف، وفى الجارية الحامل طريقان: أحدهما لا يجوز السلم فيها لان الحمل مجهول.
والثانى: يجوز لان الجهل بالحمل لا حكم له مع الام كما نقول في بيع الجارية الحامل وفى السلم في شاة لبون قولان.
أحدهما لا يجوز لانه سلم في شاة ولبن مجهول والثانى: يجوز لان الجهل باللبن لا حكم له مع الشاة كما نقول في بيع شاة لبون.
(الشرح) فقد قال النووي - خلافا للمصنف - ويصح السلم في الطير ويذكر النوع والصغر، وكبر الجثة.

(13/127)


قال الشربينى في شرح المنهاج: والسن إن عرف، ويرجع فيه للبائع كما في الرقيق، والذكورة أو الانوثة إن أمكن التمييز وتعلق به الغرض.
(فرع)
قال الاذرعى: الظاهر أنه لا يجوز السلم في النحل، وان جوزنا بيعه، لانه لا يمكن حصره بعدد ولا وزن ولا كيل وأنه يجوز السلم في أوزة
وأفراخها، ودجاجة وأفراخها إذا سمى عددها.
قال الرملي وتابعه تلميذه الشربينى وما قاله في هذه مردود، يعنى في الاوزة والدجاجة وأفراخهما إذ هي داخله في قولهم: حكم البهيمة وولدها حكم الجارية وولدها.
قوله " لا يجوز السلم فيها لان الحمل مجهول " قال الشافعي: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا ربا في الحيوان وانما نهى من الحيوان عن ثلاث عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة، والمضامين ما في ظهور الجمال والملاقيح ما في بطون الاناث وحبل الحبله بيع كان أهل الجاهلية يتبايعونه، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم ينتج ما في بطنها.
قال الشافعي ولا خير في أن يسلم في جارية بصفة على أن يوفاها وهى حبلى، ولا في ذات رحم من الحيوان على ذلك من قبل أن الحمل لا يعلمه الا الله اه.
قوله " وفى السلم في شاة لبون قولان " قال الشافعي في باب صفات الحيوان إذا كانت دينا: ولو سلف في ذات در على أنها لبون كان فيها قولان، أحدهما أنه جائز، وإذا وقع عليها أنها لبون كانت له، كما قلنا في المسائل قبلها، وان تفاضل اللبن كما يتفاضل المشى والعمل.
والثانى: لا يجوز ممن قبل أنها شاة بلبن لان شرطه ابتياع له، واللبن يتميز منها ولا يكون بتصرفها، انما هو شئ يخلقه الله عز وجل فيها كما يحدث في البعر وغيره، فإذا وقعت على هذا صفة المسلف كان فاسدا، كما يفسد أن يقول.
أسلفك في ناقة يصفها ولبن معها غير مكيل ولا موصوف، وكما لا يجوز أن أسلفك في وليدة حبلى، وهذا أشبه القولين بالقياس والله أعلم اه.
(فرع)
قال النووي في المنهاج: ولا يصح السلم فيما يندر وجوده كلحم الصيد بموضع العزة، ولا فيما لو استقصى وصفه عز وجوده كاللؤلؤ الكبار واليواقيت وجارية وأختها أو ولدها اه.

(13/128)


ويلحق بالجارية وولدها والشاة وولدها أو سخلتها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وفى السلم في الاواني المختلفة الاعلى والاسفال كالابريق والمنارة والكراز وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لانها مختلفة الاجزاء فلم يجز السلم فيها كالجلود
(والثانى)
يجوز لانها يمكن وصفها فجاز السلم فيها كالاسطال المربعة والصحاف الواسعة، واختلف أصحابنا في السلم في الدقيق فمنهم مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي القاسم الداركى رحمه الله لانه لا يضبط، والثانى يجوز لانه يذكر النوع والنعومة والجودة فيصير معلوما ولا يجوز السلم في العقار لان المكان فيه مقصود والثمن يختلف باختلافه فلابد من تعيينه والعين لا تثبت في الذمة.
(الشرح) قوله: الكراز - بضم الكاف وفتح الراء مخففة ومشددة ثم ألف فزاى - زنة غراب ورمان، وهو القارورة أو كوز ضيق الرأس.
أما الاحكام فقد قال النووي رحمه الله تعالى: ولا يصح في مختلف كبرمة معمولة وجلد وكوز وطسى وقمقم ومنارة وطنجير ونحوها، ويصح في الاسطال المربعة وفيما صب منها في قالب.
قلت: عدم صحة السلم فيما ذكر بسبب أختلاف بعض الآنية من حيث شكلها وقوامها ففى البرمة المعمولة وهى المحفورة بآلة وفى الابريق الذى يختلف اسفله عن أعلاه في سعته من أسفل ثم ينساب ضيقه إلى أعلا قليلا قليلا ثم يبلغ غاية الضيق المناسب لشكله عند الرقبة ثم يعوج صنبوره إلى الامام كرقبة الاوزة وذلك مع امتداد عنقه إلى أعلا، وقد يكون له غطاء متحرك، وفى الكراز كذلك إتساع من أسفل وضيق من وسطه وأعلاه، وفى الطسى أو الطست حافة كالطوق تندلى من طرفه الاعلى مع اختلاف في أسفله عن أعلاه.
كل هذه الاصناف التى
وصفناها هل يجوز فيها السلم؟ قولان.
أصحهما: لا، وذلك لعدم استطاعة المتعاقدين تحديد وصفها بالعبارة، وهذا قول أصحاب أحمد.
أما الاسطال المربعة والصحاف الواسعة فيجوز فيها قولا واحدا.

(13/129)


قال ابن قدامة: وإن أسلم في الاواني التى يمكن ضبط قدرها وطولها وسمكها ودورها، كالاسطال القائمة الحيطان والطسوت جاز اه.
قلت: لا يشترط ذكر الجيد أو الردئ في العقد ويحمل مطلقه على أجودها (فرع)
اختلف الاصحاب في الدقيق فذهب أبو القاسم الداركى إلى عدم الجواز لانه لا يضبط، والقول أنه يجوز لامكان ذكر النعومة والجودة والنوع وبذلك يصير معلوما مقدورا عليه، فلو أسلم في دقيق (علامة أو زيرو (1)) جاز لانضباط النوع وإمكان القدرة عليه لدى عامة الناس فإذا تعذر ذلك على الناس فسد السلم فيه والله أعلم.
(فرع)
استحدثت في أزماننا هذه من أسباب الصنعة أدوات لم تكن معروفة عند أئمتنا السابقين رضوان الله عليهم كالمذياع والمرناة وهو جهاز يأتيك بالصورة والصوت (تليفزيون) من بعيد والثلاجة الكهربية والغسالة الكهربية وكل نوع من هذه الانواع له من التركيب وتنوع القطع وتباين الاجزاء ما يصعب على المتعاقدين ضبطه، فإن أمكن تحديد النوع والعلامة وكان مع الجهاز دليل مطبوع مكتوب يوضح أجزاءه ومقاديرها وأبعادها وقوتها وكان المتعاقدان خبيرين بأسرارها كوكيل لمؤسسة لصنع الاجهزة أو توزيعها جاز السلم بينهما، أما إذا لم يكن عليما بدقائق هذه الاجهزة بحيث يمكن تغيير مصباح، أو محرك جيد ووضع بدله أقل جودة أو قديما فسد السلم لانعدام العلم والاحاطة بدقائق الجهاز ويؤخذ من قول الشافعي في الام في باب لحم الوحش جواز سؤال أهل العلم به، فان
بينوا عيبا رد بالعيب، وإلا فلا.
(فرع)
لا يجوز السلم في أنواع الاثاث إذا كان يشتمل على الحشايا والاسلاك اللولبية والقطن والجلد والقماش والطلاء وما أشبه ذلك لعدم إمكان انضباطه وتشابه الردئ منها بالجيد والله أعلم.
__________
(1) الدقيق العلامة أو الزيرو وهو أجود الدقيق وأعلاه صنفا ويصنع منه الفطائر وأنواع الحلوى.

(13/130)


(فرع)
العقار يختلف مكانه من شارع كبير إلى أزقة ضيقة إلى نواصى الطرقات إلى واجهة في ميدان فسيح مما يجعل كل مكان يختلف ثمنه باختلاف موقعه، وقد يكون مكان مكتظ بالسكان والاهلين وهو أقل سعرا من مكان لا كثافة فيه بالاهلين، ومن هنا كان اختلاف الثمن مع اختلاف الغرض يجعل ثبوت العين بالصفات المطلوبة في الذمة أمرا مستحيلا، ومن ثم لا يجوز السلم في العقار كما قال المصنف.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز السلم إلا في شئ عام الوجود مأمون الانقطاع في المحل فان أسلم فيما لا يعم كالصيد في موضع لا يكثر فيه أو ثمرة ضيعة بعينها أو جعل المحل وقتا لا يأمن انقطاعه فيه لم يصح لما روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن زيد بن سعنة قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا محمد هل لك أن تبيعني تمرا معلوما إلى أجل معلوم من حائط بنى فلان فقال لا يا يهودى ولكن أبيعك تمرا معلوما إلى كذا وكذا من الاجل ولانه لا يؤمن أن يتعذر المسلم فيه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد.
(الشرح) حديث عبد الله بن سلام مر ذكره في البيوع وبيان درجته وفى
بابه لانس في الطبراني في الكبير والبزار وفيه موسى بن عبيدة الربذى وهو ضعيف أورده الهيثمى في مجمع الزوائد، وزيد بن سعنة كان من أحبار اليهود، أسلم وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة وتوفى في غزوة تبوك مقبلا إلى المدينة روى عنه عبد الله بن سلام، وكان عبد الله بن سلام يقول: قال زيد بن سعية - بالياء - ما من علامات النبوة شئ الا وقد عرفته في وجه محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم، وهذه الرواية وقعت قبل أن يسلم زيد، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل ليهودي بعد اسلامه: يا يهودى فعرف أنها كانت قبل اسلامه.
أما أحكام الفصل: فإنه مكمل لما سبق أن بيناه من أقوال الفقهاء في أن السلم لا يصح في شئ يندر وجوده، ونتيجة لذلك لا يصح الا في عام الوجود مأمون

(13/131)


الانقطاع في المحل المحدد لتسليمه فيه وفى الوقت المعين، فإن كان موسميا - أعنى يكثر في وقت من العام إلى أجل ما.
ثم يقل في الاسواق أو يندر أو ينقطع فيصح السلم فيه إلى موسمه الذى يكثر فيه ويعم الاسواق ويصح السلم في الاصناف المستوردة في وقت السلم، وتعرض السفن في البحار للمخاطر نادر الحدوث، وهو أشبه بتعرض القوافل التى تحمل السلع في الماضي لمخاطر الطريق، ولم يمنع ذلك من السلم، أما وقت الحروب فيمتنع السلم فيها، والله تعالى أعلم.
قال النووي: ولو أسلم فيما يعم فانقطع في محله لم ينفسخ على الاظهر، فيتخير المسلم بين فسخه وبين الصبر حتى يوجد، فلو علم قبل المحل انقطاعه عنده فلا خيار قبله في الاصح.
اه أما السلم في الصيد فقد أجازه الشافعي في لحمه كلحم الانيس.
قال في الام:
ولحم الوحش كله كما وصفت من لحم الانيس إذا كان ببلد يكون بها موجودا لا يختلف في الوقت الذى يحل فيه بحال جاز السلف فيه.
وإذا كان يختلف في حال ويوجد في أخرى لم يجز السلف فيه إلا في الحال التى لا يختلف فيها.
قال ولا أحسبه يكون موجودا في بلد إلا هكذا.
وذلك أن من البلدان ما وحش فيه وإن كان به منها وحش فقد يخطئ صائده ويصيبه.
والبلدان وان كان منها ما يخطئه لحم يجوز فيه في كل يوم أو بها بعض اللحم دون بعض، فإن الغنم تكاد أن تكون موجودة والابل والبقر، فيؤخذ المسلف البائع بأن يذبح فيوفى صاحبه حقه، لان الذبح له ممكن بالشراء، ولا يكون الصيد له ممكنا بالشراء فيه في الوقت الذى يتعذر فيه لحم الانيس أو شئ منه في الوقت الذى يتعذر فيه، لم يجز في الوقت الذى يتعذر فيه، ولا يجوز السلف في لحم الوحش إذا كان موجودا ببلد إلا على ما وصفت من لحم الانيس أن يقول: لحم ظبى أو أرنب أو تيتل أو بقر وحش أو حمر وحش أو صنف بعينه ويسميه صغيرا أو كبيرا، ويوصف اللحم كما وصفت، وسمينا أو منقيا كما وصفت في اللحم لا يخالفه في شئ يكون معه لحمه غير طيب، شرط صيد كذا دون صيد كذا، فإن لم يشرط سئل أهل العلم به، فإن كانوا يبينون في بعض اللحم الفساد، فالفساد عيب ولا يلزم

(13/132)


المشترى، فإن كانوا يقولون: ليس بفساد ولكن صيد كذا أطيب فليس هذا بفساد، ولا يرد على البائع، ويلزم المشترى قال الشافعي: ويجوز السلم في لحم الطير كله لسن وسمانة وإنقاء ووزن غير أنه لا سن، وانما يباع بصفة مكان السن بكبير أو صغير، وما احتمل أن يباع مبعضا بصفة موصوفة وما لم يحتمل أن يبعض لصغره وصنف طائره وسمانته وأسلم فيه بوزن لا يجوز أن يسلم فيه بعدد وهو لحم، انما يجوز العدد في الحى
دون المذبوح، والمذبوح طعام إلا يجوز الا وزنا، وإذا أسلم في لحم طير وزنا لم يكن عليه أن يأخذ في الوزن رأسه ولا رجليه من دون الفخذين، لان رجليه لا لحم فيهما، وأن رأسه إذا قصد اللحم كان معروفا أنه لا يقع عليه اسم اللحم المقصود قصده.
انتهى
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز السلم إلا في قدر معلوم لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال " أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم، فان كان في مكيل ذكر كيلا معروفا، وان كان في موزون ذكر وزنا معروفا، وان كان في مذروع ذكر ذرعا معروفا، فان علق العقد على كيل غير معروف كملء زبيل لا يعرف ما يسع أو ملء جرة لا يعرف ما تسع أو زنة صخرة لا يعرف وزنها أو ذراع رجل بعينه لم يجز لان المعقود عليه غير معلوم في الحال لانه لا يؤمن أن يهلك ما علق عليه العقد فلا يعرف قدر المسلم فيه.
وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد، كما لو علقه على ثمرة حائط بعينه، وان أسلم فيما يكال بالوزن وفيما يوزن بالكيل جاز لان القصد أن يكون معلوما والعلم يحصل بذلك، وان أسلم فيما لا يكال ولا يوزن كالجوز والبيض والقثاء والبطيخ والبقل والرءوس إذا جوزنا السلم فيها أسلم فيها بالوزن.
وقال أبو إسحق يجوز أن يسلم في الجوز كيلا لانه لا يتجافى في المكيال والمنصوص هو الاول.
(الشرح) حديث ابن عباس مر ذكره، وقد رواه الجماعة بصيغة الاخبار لا بصيغة الانشاء كما ساقه المصنف ولفظه " قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(13/133)


المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم "
أما الاحكام فقوله: فإن كان مكيلا ذكر كيلا معلوما، أعنى معروفا للناس، ولو كان السلطان قد أبطله، الا أن الناس ظلوا يتعاملون به فيما بينهم كان السلم فيه صحيحا، ولا يصح في كيل أو وزن غير معروفين للناس، ولو كان السلطان فرضهما ولكن الناس لم يتعاملوا بهما، والعبرة بشيوع المكيال والميزان عند عامة الناس، فإذا أعطى السلطان مهلة للناس لتصفية ما عندهم من موازين ومكاييل وحددها بأجل ينتهى فيه العمل بهذه المكاييل وجب على الناس طاعة للسلطان ألا يسلفوا في المكيال أو الميزان اللذين تحدد أجل العمل بهما إلا فيما قبل مهلة الابطال لاحتمال أن يتعرضوا للعقاب عند المخالفة قوله " وان كان في مذروع " أي كان القياس فيه بالذراع، ومثله المتر والياردة والقدم في عصرنا هذا، ويجرى على المقياس ما يجرى على الميزان والمكيال.
(فرع)
لا يجوز أن يسلم في المذروع وزنا، ولابد من تقدير المذروع بالذرع بغير خلاف نعلمه.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز في الثياب بذرع معلوم.
اه وفيما عدا المكيل والموزون والمذروع فعلى ضربين، معدود وغيره، فالمعدود نوعان
(أحدهما)
لا يتباين كثيرا كالبيض والبقل والرءوس من الانواع التى ذكرها المصنف، لان القثاء والبطيخ يباعان في زماننا هذا بالوزن في أكثر البلدان، فيسلم في الانواع المذكورة عددا، وقد نص الفقهاء على جواز السلم في الجوز كيلا ووزنا ولا يجوز عددا.
قال النووي: ويشترط الوزن في البطيخ والباذنجان والقثاء والسفرجل والرمان، ويصح في الجوز واللوز بالوزن في نوع يقل اختلافه، وكذا كيلا في الاصح.
قال السبكى: ويجوز الكيل والوزن في البندق واللوز والفستق، قال
ولا أظن فيهما خلافا (قلت) ويجوز في المشمش كيلا ووزنا وان اختلف نواه كبرا وصغرا.
والله أعلم

(13/134)


فالذي لا يتباين كثيرا من المعدود يسلم فيه عددا، وهو قول أبى حنيفة والاوزاعي.
وقال الشافعي يسلم في البيض والجوز كيلا ووزنا ولا يجوز عددا لان ذلك يتباين ويختلف فلم يجز عددا كالبطيخ، فإن فيه الكبير والصغير ولاصحاب أحمد قول أنه إذا كان التفاوت يسيرا ويذهب باشتراط الكبر والصغر والوسط، ذهب التفاوت وان بقى شئ يسير عفى عنه، ويفارق البطيخ فإن التفاوت فيه كبير فلا ينضبط بالعدد (الضرب الثاني) ما يتفاوت كالرمان والسفرجل والقثاء والخيار فهذا حكمه حكم ما ليس بمعدود من البطيخ والبقول ففيه وجهان
(أحدهما)
يسلم فيه عددا ويضبطه بالصغر والكبر لانه يباع هكذا، وهو قول أحمد ومالك
(والثانى)
لا يسلم فيه الا وزنا، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لانه لا يمكن تقديره بالعدد، لانه يختلف كثيرا ويتباين جدا فلم يمكن تقديره بغير الوزن، فتعين تقديره به.
والله أعلم (فرع)
لا يجوز أن يسلم في ثمره بستان بعينه، ولا قرية صغيرة، لانه لا يؤمن تلفه وانقطاعه.
قال ابن المنذر: ابطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالاجماع من أهل العلم، وممن حفظنا أنه قال ذلك الثوري ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأى واسحاق، وهو مذهب أحمد.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ولا يجوز حتى يصف السلم فيه بالصفات التى تختلف بها الاثمان كالصغر والكبر، والطول والعرض، والدور والسمك، والنعومة والخشونة،
واللين والصلابة، والرقة والصفاقة، والذكورية والانوثية، والثيوبة والبكارة والبياض والحمرة، والسواد والسمرة.
والرطوبة واليبوسة والجودة والرداءة، وغير ذلك من الصفات التى تختلف بها الاثمان، ويرجع فيما لا يعلم من ذلك إلى نفسين من أهل الخبرة، وان شرط الاجود لم يصح العقد، لانه ما من جيد إلا ويجوز أن يكون فوقه ما هو أجود منه فيطالب به فلا يقدر عليه، وان شرط الاردأ ففيه قولان
(أحدهما)
لا يصح لانه ما من ردئ إلا ويجوز أن يكون

(13/135)


دونه ما هو أردأ منه فيصير كالاجود، والثانى أنه يصح لانه ان كان ما يحضره هو الاردأ فهو الذى أسلم فيه، وان كان دونه أردأ منه فقد تبرع بما أحضره فوجب قبوله فلا يتعذر التسليم.
وإن أسلم في ثوب بالصفات التى يختلف بها الثمن، وشرط أن يكون وزنه قدرا معلوما ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى لانه لا يتفق ثوب على هذه الصفات مع الوزن المشروط إلا نادرا فيصير كالسلم في جارية وولدها وكالسلم فيما لا يعم وجوده
(والثانى)
أنه يجوز، لان الشافعي رحمه الله نص على أنه إذا أسلم في آنية وشرط وزنا معلوما جاز فكذلك ههنا.
(الشرح) هذا الفصل أحكامه مستوفاة في باب تسليم المسلم فيه بعد هذا الباب وإن كان المطلوب هنا عدم جواز العقد خاليا من ذكر الصفات في المسلم فيه، وقد مر بك تفصيل هذا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن أسلم في مؤجل وجب بيان أجل معلوم لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ولان الثمن يختلف باختلافه فوجب بيانه كالمكيل والوزن وسائر الصفات والاجل المعلوم ما يعرفه الناس كشهور العرب وشهور الفرس وشهور الروم وأعياد
المسلمين والنيروز والمهرجان، فإن أسلم إلى الحصاد أو إلى العطاء أو إلى عيد اليهود والنصارى لم يصح لان ذلك غير معلوم لانه يتقدم ويتأخر، وان جعله إلى شهر ربيع أو جمادى صح وحمل على الاول منهما.
ومن أصحابنا من قال لا يصح حتى يبين، والمذهب الاول لانه نص على أنه إذا جعل إلى النفر حمل على النفر الاول، فإن قال إلى يوم كذا كان المحل إذا طلع الفجر.
فإن قال إلى شهر كذا كان المحل إذا غربت الشمس من الليلة التى يرى فيها الهلال، فإن قال محله في يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا ففيه وجهان: قال أبو على ابن أبى هريرة: يجوز ويحمل على أوله، كما لو قال لامرأته أنت طالق في يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا فإن الطلاق يقع في أولها
(والثانى)
لا يجوز وهو الصحيح لان ذلك يقع على جميع أجزاء اليوم والشهر والسنة، فإذا لم يبين كان مجهولا ويخالف الطلاق فإنه يجوز إلى أجل مجهول وإذا صح تعلق بأوله بخلاف السلم.
فان ذكر شهورا مطلقة حمل على

(13/136)


شهور الاهلة لان الشهور في عرف الشرع شهور الاهلة فحمل العقد عليها فان كان العقد في الليلة التى رؤى فيها الهلال اعتبر الجميع بالاهلة وإن كان العقد في أثناء الشهر اعتبر شهرا بالعدد وجعل الباقي بالاهلة فان أسلم في حال وشرط أنه حال صح العقد وان أطلق ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يصح لانه أحد محلى السلم فوجب بيانه كالمؤجل
(والثانى)
أنه يصح ويكون حالا لان ما جاز حالا ومؤجلا حمل اطلاقه على الحال كالثمن في المبيع وان عقد السلم حالا ثم تجعله مؤجلا أو مؤجلا فجعله حالا أو زاد في أجله أو نقص نظرت فان كان ذلك بعد التفرق لم يلحق بالعقد لان العقد استقر فلا يتغير وان كان قبل التفرق لحق بالعقد، وقال أبو على الطبري إن قلنا ان المبيع انتقل بنفس العقد لم يلحق به والصحيح هو الاول وقد ذكرناه في الزيادة في الثمن.
(الشرح) حديث ابن عباس سبق تخريجه وضبطه لفظا.
أما لغات الفصل: فشهور العرب هي المحرم وصفر وربيع الاول وربيع الآخر وجمادى الاولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وذو القعدة وذو الحجة أما شهور الفرس فقد كان معمولا بها في الدولة العباسية وتبدأ سنتها من عيد النيروز وهو نزول الشمس برج الميزان، والمهرجان بكسر الميم نزولها برج الحمل اما الشهور الرومية فهى كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) وآذار (مارس) ونيسان (إبريل) وأيار (مايو) وحزيران (يونيو) وتموز (يوليو) وآب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) وتشرين الاول (اكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الاول (ديسمبر) وهذه اسماؤها بالسريانية والفرنجية.
أما الاحكام، فقد قال النووي في المنهاج: فإن عين شهور العرب أو الفرس أو الروم جاز، وإن أطلق حمل على الهلالي، فإن انكسر شهر حسب الباقي بالاهلة، وتمم الاول ثلاثين.
قلت: يشترط لصحة السلم في شهور الفرس معرفة المسلمين بها فان كانت قد أهملت وترك الناس العمل بها كما هو واقع في زماننا لا يصح التوقيت بها في السلم، والعبرة بمعرفتها لدى المسلمين، ولذلك قال الشربينى في المغنى: يجوز بعيد

(13/137)


الكفار (كالكريسماس) وكفصح النصارى وفطير اليهود إن عرفها المسلمون، ولو عدلان منهم أو المتعاقدان بخلاف ما إذا اختص الكفار بمعرفتها إذ لا يعتمد قولهم اه.
قال الرملي في النهاية: نعم إن كانوا عددا كثيرا يمنع تواطؤهم على الكذب جاز كما قاله ابن الصباغ لحصول العلم بقولهم اه.
نعم لو انعقد في أول ليله آخر الشهر اكتفى بالاشهر بعده بالاهلة، وان نقص
بعضها ولا يتمم الاول مما بعدها لانها مضت عربية كوامل، هذا إن نقص الشهر الاخير، والا لم يشترط انسلاخه، بل يتمم منه المنكسر ثلاثين يوما لتعذر اعتبار الهلال فيه حينئذ.
فإذا قال: أسلفتك إلى شهر ربيع أو جمادى ولم يبين أي الربيعين أو أي الجماديين، حمل على الاول أعنى على ربيع الاول وعلى جمادى الاولى، وكذلك إذا قال إلى العيد فان كان بعد الفطر وقبل الاضحى تحمل على الاضحى، وان كان بعد الاضحى حمل على الفطر، ومن أصحابنا من قال لا يصح حتى يبين، والمذهب الاول، وهو اختيار المصنف والنووي والرملى والشربينى أرجح ودليل ذلك أنه نص على أنه إذا جعله إلى النفر حمل على النفر الاول والله أعلم: كل هذا لان العلم بالاجل شرط فلو قال: إلى الحصاد أو الميسرة أو قدوم الحاج أو طلوع الشمس لم يصح، ولو قالا: أول فصل الشتاء وقصدا يوم الثاني والعشرين من كانون الثاني وهو أول الشتاء على ما قرره علماء الهيئة، أو قالا: أول فصل الربيع، وقصدا الحادى والعشرين من آذار، أو أول فصل الصيف وقصدا الثاني والعشرين من حزيران، أو أول الخريف وقصد الثالث والعشرين من تشرين الاول لم يصح لاحتمال أن يجحد أحدهما، ولان أول الفصل قد يبلغ الشهر أو أكثر فلم يصح الا على قول على بن أبى هريرة في حمل الاطلاق على الاول قياسا على النفر والعيد وربيع وجمادى وهو قياس غير مقبول عند الاصحاب.
فإذا قال: إلى أول أو آخر رمضان، قال الامام والبغوى: ان قال إلى أول أو آخر رمضان ينبغى أن يصح ويحمل على الجزء الاول من كل نصف كما في النفر

(13/138)


قال في الشرح الصغير: وهو الاقوى.
وقال السبكى: وهو الصحيح، ونقله الاذرعى عمن ذكر وغيره عن نص الام وقال: إنه الاصح نقلا ودليلا.
وقال
الزركشي: إنه المذهب، وقد سوى الشيخ أبو حامد بين إلى رمضان وإلى غرته وإلى هلاله والى أوله، فان قال: إلى أول يوم من الشهر حل بأول جزء من أول اليوم، وكذا الماوردى.
وقال الرملي: وما ذكراه آخرا بعد الصحة من حمله على الجزء الاول من كل نصف رأى مرجوع في آخره، أما على الراجح فيحمل على آخر جزء منه، ولو قال: في رمضان لم يصح.
لانه جعل جميعه ظرفا فكأنهما قالا: يحل في جزء من أجزائه وهو مجهول، وإنما جاز ذلك في الطلاق، لانه لما قبل التعليق بالمجهول كقدوم زيد قبله بالعام ثم تعلق بأوله لصدق اللفظ به، فوجب وقوعه فيه لكونه قضية الوضع والعرف.
وأما السلم فلما لم يقبل التأجيل بالمجهول لم يقبله بالعام، وإنما قبله بنحو العيد لانه وضع لكل من الاول والثانى بعينه فدلالته على كل منهما أقوى من دلالة الظرف على أزمنته، لانه لم يوضع لكل منهما بعينه، بل لزمن مبهم منها اه.
وقال الشافعي في الام: وكذلك لو قال: أجلك فيه شهر كذا أوله وآخره لا يسمى أجلا واحدا، فلا يصلح حتى يكون أجلا واحدا، ولو سلفه إلى شهر كذا، فإن حبسه فله كذا كان بيعا فاسدا، وإذا سلف فقال: إلى شهر رمضان من سنة كذا كان جائزا والاجل حين يرى هلال شهر رمضان أبدا حتى يقول: إلى انسلاخ شهر رمضان أو مضيه أو كذا وكذا يوما يمضى منه إلى أن قال: ولو قال إلى عقب شهر كذا كان مجهولا فاسدا.
وكلام المصنف مشعر ببطلان العقد إذا أطلق الشهر ولم يحدد اليوم خلافا لابي على بن أبى هريرة لان الاطلاق في الشهر يقع على جميع أجزائه وإذا أطلق في السنة يقع على جميع أجزائها وقد رفض الاصحاب هذا القول.
(فرع)
إذا أحضر المسلم إليه المسلم فيه قبل محله - بكسر الحاء - أي وقت
حلول الاجل فامتنع المسلم من قبوله لغرض صحيح، كأن كان حيوانا يحتاج لمؤنة

(13/139)


ونفقة إلى حلول الاجل، أو كان يترقب زيادة سعره عند المحل - فيما يظهر - أو وقت إغارة لو قبلها هلكت، أو كان يريد أكله طريا في محله إن كان في لحم ونحوه - وكان المؤدى في ذلك كله يريد أن يفوت على المسلم مصلحة أو يلحق به ضررا - لم يجبر على قبوله.
وان كان للمؤدى غرض صحيح، كفك رهن، أو براءة ضامن - كما لو كان المسلم فيه توقع عليه حجز وأراد استشكال هذا الحجز، ثم يرفع قضية استرداد لتسليم المسلم فيه المحجوز عليه للمسلم، أو كان يخاف انقطاع الجنس عند حلول الاجل، أو كان المسلم ليس له غرض صحيح في الامتناع، أو كان يريد الحاق الضرر بالمؤدى، أو كان المؤدى يريد مجرد ابراء الذمة، أجبر المسلم لان امتناعه حينئذ للتعنت.
وفى حالة ارادة مجرد ابراء الذمة فما قررناه فيها هو أظهر القولين والثانى لا يجبر للمنة، وسيأتى مزيد في باب تسليم المسلم فيه ان شاء الله تعالى.
(فرع)
إذا أطلق المتعاقدان في محل - بكسر الحاء - السلم فلم يذكرا وقتا ولم يحددا أجلا انصرف إلى كونه حالا، لان ما جاز حالا ومؤجلا حمل اطلاقه على الحال، وهذا هو قول الشافعي وابن المنذر وأبى ثور.
(فرع)
إذا أراد أحدهما أن يجعل الحال مؤجلا، أو أراد أن يزيد في الاجل نظرت، فان كان ذلك بعد التفرق وهو لزوم العقد لم يلحق بالعقد، لان العقد استقر فلا يتغير.
وإذا أراد أحدهما أن يجعل المؤجل حالا - نظرت - فان كان ذلك من المؤدى وهو المسلم إليه، أجرينا عليه ما قلناه فيما إذا أحضر المسلم فيه قبل محله في فرع سبق من هذا الفصل، وان كان بنقص في الاجل وكان ذلك بعد لزوم العقد أو
بعد التفرق فلا يلحق بالعقد لان العقد قد استقر، وان كان ذلك كله، أعنى الزيادة في الاجل أو النقصان فيه أو جعله حالا، قبل التفرق أو قبل لزوم العقد لحق ذلك بالعقد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وان أسلم في جنسين إلى أجل أو في جنس إلى أجلين ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يصح لان ما يقابل أحد الجنسين أقل مما يقابل الآخر وما يقابل

(13/140)


أحدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر وذلك مجهول فلم يجز
(والثانى)
أنه يصح وهو الصحيح لان كل بيع جاز في جنس واحد وأجل واحد جاز في جنسين وفى أجلين كبيع الاعيان ودليل القول الاول يبطل بيع الاعيان فانه يجوز إلى أجلين وفى جنسين مع الجهل بما يقابل كل واحد منهما.
(الشرح) إذا أسلم في جنسين إلى أجل، وصورة ذلك أن يسلم دينارا في قميص وكتاب ولم يبين ثمن كل واحد منهما على حدة، فقد جوزه مالك وأحد القولين عند الشافعي ومنعه أحمد، والقول الآخر عند الشافعي، والقول المجيز يحتج بأن كل عقد جاز على جنسين في عقدين جاز عليهما في عقد واحد كبيوع الاعيان لما يشتمل عليه من مباني وغيرها على النحو الذى سبق في بيوع الاعيان وهو كما لو بين ثمن أحدهما.
وبقول المانعون إن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يصح كما لو عقد عليه مفردا بثمن مجهول، ولان فيه غررا أثر مثله في السلم وبمثل هذا عللوا معرفة صفة الثمن وقدره، والوجه الاخر أنه لا يشترط لانه لما جاز أن يسلم في شئ واحد إلى أجلين، ولا يبين ثمن كل واحد منهما، كذا ههنا، قال ابن موسى ولا يجوز أن يسلم خمسة دنانير وخمسين درهما في كر حنطة حتى يبين حصة ما لكل
واحد منهما من الثمن، والاولى صحة هذا، لانه إذا تعذر بعض المسلم فيه رجع بقسطه منهما وأمكن معرفة ثمن كل منهما ما دام موصوفا بصفاته من ثمن مثله في أجله، كذلك إذا أسلف في جنس واحد إلى أجلين فقد قال الشافعي: إذا أسلم في جنس واحد إلى أجلين ففيه قولان.
أحدهما: لا يصح، لان ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل الاخر وذلك مجهول فلم يجز، قلت: ولنا أن كل بيع جاز إلى أجل واحد جاز في أجلين، وقد أجازه أحمد وأصحابه في أكثر من أجلين إلى آجال، كبيوع الاعيان، فإذا قبض البعض وتعذر قبض الباقي ففسخ العقد رجع بقسطه من الثمن ولا يجعل للباقى فضلا عن المقبوض، لانه مبيع واحد متماثل الاجزاء فيقسط على أجزائه بالسوية كما لو اتفق أجله وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(13/141)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وأما بيان موضع التسليم فإنه إن كان العقد في موضع لا يصلح للتسليم كالصحراء وجب بيانه، وان كان في موضع يصلح للتسليم ففيه ثلاثة أوجه: (أحدها) يجب بيانه لانه يختلف الغرض باختلافه فوجب بيانه كالصفات
(والثانى)
لا يجب بل يحمل على موضع العقد كما نقول في بيع الاعيان (والثالث) أنه إن كان لحمله مؤنة وجب بيانه لانه يختلف الثمن باختلافه فوجب بيانه كالصفات التى يختلف الثمن باختلافها، فإن لم يكن لحمله مؤنة لم يجب بيانه لانه لا يختلف الثمن باختلافها فلم يجب بيانه كالصفات التى لا يختلف الثمن باختلافها.
(الشرح) قال النووي رحمه الله تعالى " المذهب أنه إذا أسلم بموضع لا يصلح للتسليم أو يصلح، ولحمله مثونة اشترط محل التسليم وإلا فلا.
قال الرملي في النهاية
المذهب أنه إذا أسلم سلما حالا أو مؤجلا وهما بموضع لا يصلح للتسليم، أو سلما مؤجلا وهما بمحل يصلح له ولكن لحمله، أي المسلم فيه مئونة اشترط بيان محل.
بفتح الحاء، أي مكان التسليم للمسلم فيه لتفاوت الاغراض فيما يراد من الامكنة في ذلك، والا بأن كان صالحا للتسليم، والسلم حال أو مؤجل، ولا مئونة لحمل ذلك إليه فلا يشترط ما ذكر، ويتعين محل العقد للتسليم للعرف فيه، فإن عينا غيره تعين بخلاف المبيع، لان السلم لما قبل شرطا يقتضى تأخير التسليم، ولو خرج المعين للتسليم عن الصلاحية تعين أقرب محل صالح له، ولو أبعد منه، ولا أجرة له فيما يظهر لاقتضاء العقد له فهو من تتمة التسليم الواجب، ولا يثبت للمسلم، خيار ولا يجاب المسلم إليه لو طلب الفسخ ورد رأس المال، ولو لخلاص ضامن وفك رهن خلافا للبلقينى ومن تبعه (قلت) والمسألة فيها ثلاثة أوجه عند المصنف في الصلح فقط وستة طرق عند الرملي في الصالح وغيره، وسبعة عند الشبراملسى، فالمنصوص الاشتراط وعدمه، فقيل هما مطلقا، وقيل هما في حالين.
قيل في غير الصالح ومقابله.
وقيل هما في الصالح، ويشترط في غيره.
وقيل هما فيما لحمله مئونه، ولا يشترط في مقابله

(13/142)


وقيل هما فيما ليس لحمله مئونة، ويشترط في مقابله.
والمدار هنا على ما يليق بحفظ المال والمؤن، والغالب استواء المحلة فيهما.
ويشهد لذلك قولهم: المراد بمحل العقد هنا محلته لا خصوص محله فيهما، ولهذا قالوا: لو قال تسلمه لى في بلد كذا وهى غير كبيرة كفى إحضاره في أولها وإن بعد عن منزله، أو في أي محل شئت منه صح ما لم يتسع، ومتى اشترط التعيين فتركه لم يصح العقد، ومن ثم عرف صحة كلام ابن الرفعة: إن محل قولهم السلم الحال يتعين فيه موضع العقد للتسليم مطلقا حيث كان صالحا له، وإلا كأن أسلم في كثير
من الشعير وهما سائران في البحر، فالظاهر اشتراط التعيين كما هو ظاهر كلام الائمة، وإن توقف فيه بعضهم، إذ هو ظاهر، وجزم به غيره لان من شرط الصحة القدرة على التسليم وهو حال وقد عجز عنه في الحال، وحينئذ فلا فرق بين الحال والمؤجل إذا لم يكن الموضع صالحا في اشتراط التعيين.
ويدل عليه كلام الماوردى أيضا، والكلام في السلم المؤجل.
أما الحال فيتعين فيه موضع العقد للتسليم، أي إذا كان صالحا وإلا اشترط بما فيه من التفصيل، وحينئذ فقد افترق الحال والمؤجل من بعض الوجوه، وذلك كاف في صحة المفهوم.
وقد اختلف أئمة المذاهب في تعيين مكان الايفاء، فقال ابن المنذر: لا يشترط تعيين مكان الايفاء.
وحكاه عن أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث.
وبه قال أبو يوسف ومحمد وهو أحد قولى الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم " في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم " ولم يذكر مكان الايفاء، فدل على أنه لا يشترط وفى الحديث الذى فيه " ان اليهودي أسلم إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: أما من حائط بنى فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى " رواه ابن ماجه ولم يذكر مكان الايفاء، ولانه عقد معاوضة فلا يشترط فيه مكان الايفاء كبيوع الاعيان وقال الثوري: يشترط ذكر مكان الايفاء، وهو القول الثاني للشافعي، وقال الاوزاعي هو مكروه، لان القبض يجب بحلوله ولا يعلم موضعه حينئذ، فيجب شرطه لئلا يكون مجهولا، وقال أبو حنيفة وهو قول أصحابنا: إن كان لحمله مئونة وجب شرطه، والا فلا يجب، لانه إذا كان لحمله مئونة اختلف فيه

(13/143)


الغرض بخلاف مالا مئونة فيه، وقال ابن أبى موسى: ان كانا في برية لزم ذكر مكان الايفاء، وان لم يكونا في برية فذكر مكان الايفاء حسن، وان لم يذكراه
كان الايفاء مكان العقد، فإذا ترك ذكره كان مجهولا، وان لم يكونا في برية اقتضى العقد التسليم في مكان العقد، فاكتفى بذلك عن ذكره.
وللفقهاء أقوال حول هذا أجملناها بما يوفى المقصود والله أعلم قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز تأخير قبض رأس المال عن المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم: أسلفوا في كيل معلوم، والاسلاف هو التقديم، ولانه إنما سمى سلما لما فيه من تسليم رأس المال فإذا تأخر لم يكن سلما فلم يصح، ويجوز أن يكون رأس المال في الذمة ثم يعينه في المجلس ويسلمه، ويجوز أن يكون معينا، فإن كان في الذمة نظرت فإن كان من الاثمان حمل على نقد البلد، وان كان في البلد نقود حمل على الغالب منها، وان لم يكن في البلد نقد غالب وجب بيان نقد معلوم.
وان كان رأس المال عرضا وجب بيان الصفات التى تختلف بها الاثمان لانه عوض في الذمة غير معلوم بالعرف فوجب بيان صفاته كالمسلم فيه، وان كان رأس المال معينا ففيه قولان
(أحدهما)
يجب ذكر صفاته ومقداره لانه لا يؤمن أن ينفسخ السلم بانقطاع المسلم فيه، فإذا لم يعرف مقداره وصفته لم يعرف ما يرده
(والثانى)
لا يجب ذكر صفاته ومقداره لانه عوض في عقد لا يقتضى رد المثل فوجب أن تغنى المشاهدة عن ذكر صفاته ومقداره كالمهر والثمن في البيع وان كان رأس المال مما لا يضبط بالصفة كالجواهر وغيرها، فعلى القولين إن قلنا يجب ذكر صفاته لم يجز أن يجعل ذلك رأس المال لانه لا يمكن ذكر صفاته وان قلنا لا يجب جاز أن يجعل ذلك رأس المال، لانه معلوم بالمشاهدة والله أعلم (الشرح) الحديث هو حديث ابن عباس الذى دار عليه أكثر الفصول السابقة وأضحناه بلفظه وتخريجه فيما سبق، أما الاحكام فإنه لا يجوز تأخير قبض رأس المال عن مجلس العقد لان الاسلاف هو التقديم فكان لازمه تسليمه قبل
الصيغة.
وقال الخرقى من الحنابلة: ويقبض الثمن كاملا وقت السلم قبل التفرق

(13/144)


قوله: ويجوز أن يكون رأس المال في الذمة ثم يعينه في المجلس خلافا لابن المنذر الذى قَالَ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ على أنه إذا كان له في ذمة رجل دينار فجعله سلما في طعام إلى أجل لم يصح اه.
وحكى هذا ابن قدامة عن مالك والاوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأى والشافعي وعن ابن عمر أنه قال: لا يصح ذلك، وذلك لان المسلم فيه دين، فإن جعل الثمن دينا كان بيع دين بدين ولا يصح ذلك، قلت وقد مر بك في أول الباب مناقشة هذا الرأى.
والمهم في هذا جواز أن يكون رأس المال في الذمة ولكن يجب إحضاره إلى المجلس بعد تعيينه، فإن كان ما في الذمة من الاثمان حمل على نقد البلد، وإن كان في البلد أكثر من نقد حمل على النقد الغالب فيها وإن لم يكن في البلد نقد غالب وجب بيان نقد معلوم، وما دام رأس المال حاضرا في المجلس فإن المشاهدة تغنى عن ذكر صفاته ومقداره، كما لو كان رأس المال من الجواهر والاحجار الكريمة مما يصعب وصفه، فإن كان من الجواهر الثمينة وقلنا بأنه يجب ذكر صفاته لم يجز أن يكون ذلك رأس مال لتعذر وصفه، وإن قلنا لا يجب جاز لمشاهدته في المجلس.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(باب تسليم المسلم فيه)
إذا حل دين السلم وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد فإن كان المسلم فيه تمرا لزمه ما يقع عليه اسم التمر على الاطلاق.
فإن أحضر حشفا أو رطبا لم يقبل منه، فإن كان رطبا لزمه ما يقع عليه اسم الرطب على الاطلاق
ولا يقبل منه بسر ولا منصف ولا مذنب ولا مشدخ، وان كان طعاما لزمه ما نقى من التبن، فإن كان فيه قليل تراب نظرت، فإن كان أسلم فيه كيلا قبل منه لان القليل من التراب لا يظهر في الكيل، وإن كان أسلم فيه وزنا لم يقبل منه لانه يظهر في الوزن فيكون المأخوذ من الطعام دون حقه، وان كان عسلا لزمه ما صفى من الشمع، فإن أسلم إليه في ثوب فأحضر ثوبا أجود منه لزمه قبوله، لانه

(13/145)


أحضر المسلم فيه وفيه زيادة صفة لا تتميز فلزمه قبوله، فإن جاءه بالاجود وطلب عن الزيادة عوضا لم يجز لانه بيع صفة والصفة لا تفرد بالبيع، فإن أتاه بثوب ردئ لم يجيز على قبوله لانه دون حقه، فان قال خذه وأعطيك للجودة درهما لم يجز لانه بيع صفة ولانه بيع جزء من المسلم فيه قبل قبضه فان أسلم في نوع من جنس فجاءه بنوع آخر من ذلك الجنس كالمعقلي عن البرنى والهروى عن المروى فَفِيهِ وَجْهَانِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ لانه غير الصنف الذى أسلم فيه فلم يجز أخذه عنه كالزبيب عن التمر.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجُوزُ لان النوعين من جنس واحد بمنزلة النوع الواحد.
ولهذا يحرم التفاضل في بيع أحدهما بالآخر، ويضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب في الزكاة.
فإن اتفق أن يكون رأس المال على صفة المسلم فيه فأحضره ففيه وجهان أحدهما لا يجوز قبوله لانه يصير الثمن هو المثمن، والعقد يقتضى أن يكون الثمن غير المثمن والثانى أنه يجوز لان الثمن هو الذى سلم إليه والمثمن هو الموصوف، وان أسلم إلى محل فأحضر المسلم فيه قبله أو شرط أن يسلم إليه في مكان فأحضر المسلم فيه في غير ذلك المكان فامتنع المسلم من أخذه، نظرت فان كان له غرض صحيح في الامتناع من أخذه بأن يلزمه في حفظه مؤن أو عليه في حمله مشقة أو يخاف عليه أن يهلك أو يؤخذ لم يلزمه أخذه، وان لم يكن له غرض صحيح في الامتناع
لزمه أخذه، فان لم يأخذه رفع إلى الحاكم ليأخذه عنه، والدليل عليه ما روى أن أنسا رضى الله عنه كاتب عبدا له على مال إلى أجل فجاءه بمال قبل الاجل فأبى أن يأخذه فأتى عمر (رض) فأخذه منه وقال له: اذهب فقد عتقت، ولانه زاده بالتقديم خيرا فلزمه قبوله.
وان سأله المسلم أن يقدمه قبل المحل فقال: أنقصني من الدين حتى أقدمه ففعل لم يجز لانه بيع أجل والاجل لا يفرد بالبيع، ولان هذا في معنى ربا الجاهلية، فانه كان في الجاهلية يقول من عليه الدين: زدنى في الاجل أزدك في الدين.
(الشرح) الخبر الذى ساقه المصنف عن أنس المذكور في الفصل لم أحفظه بهذه الصورة، وانما الذى أحفظه ما رواه الاثرم عن أبى بكر بن حزم أن رجلا أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إنى كاتبت على كذا وكذا وانى أيسرت بالمال فأتيته به

(13/146)


فزعم أنه لا يأخذها الا نجوما، فقال عمر: يأبى؟ وأمر عامله على بيت المال: فخذ هذا المال فاجعله في بيت المال وأد إليه نجوما في كل عام وقد عتق هذا، فلما رأى ذلك سيده أخذ المال، ورواه عثمان بن منصور في سننه عن عمر وعثمان جميعا والذى ثبت فيه ذكر أنس حديث أخرجه البخاري عن موسى بن أنس " أن سيرين - أبا محمد وإخوته - سأل أنس بن مالك المكاتبة، وكان كثير المال، فأبى، فانطلق إلى عمر فقال: كاتبه، فأبى فضربه عمر بالدرة وتلا عمر: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " وأحايث أخرى من باب المكاتبة ستأتي في الباب إن شاء الله تعالى.
أما لغات الفصل: فالبسر من ثمر النخل ما قبل الرطب وبقية لغات الفصل في الاحكام أما أحكام الفصل: فإنه إذا حل دين المسلم وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد فإن كان المسلم فيه تمرا، قال الشافعي رحمه الله تعالى: فليس على المسلم أن يأخذه إلا جافا.
قال أصحابنا: ولم يرد بهذا أن يكون مشمسا
وإنما أراد به إذا بلغ إلى حالة الادخار فعليه أن يأخذه، وهو إذا وقع عليه اسم الجفاف، وإن لم يتناه جفافه، وان كان المسلم فيه رطبا لزمه ما يقع عليه اسم الرطب، ولا يلزمه أن يقبل بسرا ولا مذنبا، ولا منصفا، ولا مشدخا، فأما المذنب فهو الذى أرطب في أذنابه لا غير.
وأما المنصف فهو الذى صار نصف بسره رطبا ونصفها بسرا.
وأما المشدخ فذكر الشيخ أبو حامد أن المشدخ هو الذى ضرب بالخشب حتى صار رطبا فلا يلزمه قبوله لانه لا يتناوله اسم الرطب وإن تناوله فيكون رطبا مفتوتا.
وقيل: إنهم يشمسون البسر ثم يدلكونه بكسى صوف غليظ وما أشبهه فيصير طعمه طعم الرطب، يفعلون ذلك استعجالا لاكل الرطب من البسير قبل الارطاب، ولعل الشيخ أبا حامد أراد أنهم يضربون البسر بالخشب ليصير طعمه طعم الرطب، وان كان المسلم فيه طعاما لزمه أن يدفع إليه طعاما نقيا من الشعير والزوان وعقد التبن، لان هذه الاشياء تنقصه عن الكيل والوزن.
وإن كان فيه قليل تراب أو شئ من دقاق التبن - نظرت - فان أسلم فيه كيلا لزمه قبوله، لان ذلك لا يؤثر في الكيل، وإن أسلم فيه وزنا لم يلزمه قبوله لان دلك يؤثر في الوزن فيكون المقبوض دون حقه.

(13/147)


فإذا أسلم إليه في شئ فأتى المسلم إليه بالمسلم فيه لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يأتيه بالمسلم فيه على الصفة المشروطة.
وإما أن يأتيه بأردأ منه.
وإما أن يأتيه بأعلى منه.
فإن أتى به على الصفة المشروطة وعلى صفة المسلم فيه، بأن أسلم إليه في طعام جيد فأتاه بطعام يقع عليه اسم الجيد، وان كان غيره اجود منه لزمه أن يقبل منه
وإن أتاه بأردأ من المسلم فيه، بأن أتاه بطعام ردئ لم يلزمه قبوله، لانه دون ما شرط، وان قال المسلم إليه: خذ هذا وأعطيتك عن الجودة عوضا لم يجز، لانه بيع جزء من المسلم فيه قبل القبض، وان أتاه بأعلى من المسلم فيه فلا تخلو الزيادة من أربعة أحوال: إما أن تكون زيادة في الصفة، أو في العدد، أو في الجنس، أو في النوع، فان كانت الزيادة في الصفة مثل أن يسلم إليه في طعام ردئ فجاءه بطعام جيد، فان رضى المسلم إليه بتسليمه عما في ذمته لزم المسلم قبوله، لانها زيادة لا تتميز أي لا تنفصل عن الطعام لانها صفة فيه.
فإذا رضى المسلم إليه بتسليمها لزم المسلم قبولها كما لو أصدق إمرأته عينا فزادت في يدها زيادة تتميز، ثم طلقها قبل الدخول، ورضيت المرأه بتسليم نصف العين مع زيادتها فان الزوج يلزمه قبولها.
وان لم يتطوع المسلم إليه بتسليمها بل طلب عن الجودة عوضا لم يصح لان الجودة صفة فلا يجوز إفرادها بالعقد، وان كانت الزيادة في العدد مثل أن يسلم إليه خمسة أرادب من القمح فجاءه بعشرة أرادب من القمح لم يلزمه المسلم قبول ما زاد على الخمسة، لان ذلك ابتداء هبة فلم يجبر على قبولها.
وإن كانت الزيادة في الجنس مثل أن يسلم إليه ذرة فأعطاه عن الذرة قمحا أو عدسا لم يلزمه قبول ذلك، فان قبله لم يصح لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره.
وإن كانت الزيادة في النوع مثل أن يسلفه على قمح هندي فجاءه بقمح شامى، أو ذرة صفراء فجاءه عنها بذرة بيضاء، فحكى الشيخ أبو حامد وجهين، أحدهما

(13/148)


يلزم المسلم قبوله، وهذا الوجه يستند أصحابه إلى دلالة قول الشافعي رحمه الله
وأصل ما يلزم المسلف قبول ما سلف فيه هو أن يأتيه به من جنسه، وهذا قد أتى به من جنسه، ولانه قد أعطى من جنس حقه، وفيه زيادة لا تتميز، فأشبه ما لو أسلم في نوع ردئ فأعطاه من ذلك النوع جيدا، فانه يلزمه قبوله، ولانه يمكنه إكمال نصاب الزكاة به.
والوجه الثاني.
لا يلزمه قبوله، لانه لم يأت به على الصفة التى اشترط عليه فلا يلزمه قبوله، كما لو أتاه بجنس آخر، وهذا الوجه يقول أصحابه: إنه يجوز أن يقبله إن رضى بغير إلزام لانه من جنس حقه.
قال العمرانى في البيان: قال القاضى أبو الطيب: الوجهان في الجواز، فأما الوجوب فلا يجب عليه قبوله وجها واحدا، وهو اختيار الشيخ أبى إسحاق في المهذب، وإن أسلم إليه بذرة بيضاء فجاءه عنها بذرة حمراء فلا يلزمه قبولها وجها واحدا.
قال العمرانى: وهل يلزمه قبولها.
يحتمل أن يكون على وجهين اه.
قلت، وقوله - أعنى المصنف رحمه الله في الفصل - وان أسلم إلى محل الخ " قلت: ان أسلم إليه في شئ إلى محل فجاءه المسلم إليه به قبل المحل فامتنع المسلم من قبضه، فان كان المسلم فيه مما يلحقه التغير والتلف إلى وقت المحل، بأن كان لحما أو رطبا، أو من أنواع الفواكه الرطبة لم يلزم المسلم قبوله، لان له غرضا في تأخيره أن يحتاج إلى أكله أو اطعامه في ذلك الوقت، وكذلك إذا كان المسلم فيه حيوانا لم يلزمه قبوله قبل المحل لانه يخاف عليه التلف، ويحتاج إلى العلف إلى ذلك الوقت.
وان كان لا يخاف التغير ولا التلف ولكن يحتاج إلى مكان يحفظ فيه وكان يلزمه عليه مؤنة حفظه كالقمح والقطن لم يلزمه قبوله، لان عليه ضررا في المؤنة في حفظه إلى وقت المحل، فان كان يحتاج إلى مؤنة في حفظه كالحديد والنحاس
وغيرها من المعادن وكانت مغلفة محفوظة مأمونة يلزمه قبوله.
لانه لا ضرر عليه في قبوله، فان لم يقبله قبله الحاكم، لحديث أبى بكر بن حزم الذى رواه الاثرم

(13/149)


ورواية عثمان بن منصور عن عمر وعثمان، وحديث أبى سعيد المقبرى الذى رواه الدارقطني بنحو حديث أبى بكر بن حزم.
وان سأل المسلم المسلم إليه أن يقدم المسلم فيه قبل المحل لم يلزم المسلم إليه تقديمه، لان ذلك يبطل فائدة التأجيل.
فان قال السلم إليه: أنقصني من الدين حق أقدمه لك ففعل لم يصح القبض لانه بيع أجل والاجل لا يفرد بالبيع.
فان جاء المسلم إليه بالمسلم فيه بعد حلول الدين على صفته فامتنع المسلم من قبضه قال له الحاكم: اما أن تقبضه أو يبرأ المسلم إليه منه، وان كان غرض، وسواء كان للمسلم غرض في الامتناع أو لا غرض له، لان للمسلم إليه غرضا في الدفع، وهو أن يبرأ مما عليه من الحق، وقد حل الحق، فان لم يفعل المسلم ذلك قبضه الحاكم عنه، وبرئ المسلم إليه، لان الحاكم ينوب عن الممتنع، ولا يملك الحاكم الابراء لانه لا نظر للمسلم في الابراء عنه ولا حظ له في حفظ ماله عنده.
(فرع)
إذا تعين موضع التسليم باطلاق العقد أو بالشرط لانه إذا أطلق العقد تعين موضع التعاقد وإذا اشترط موضعا بعينه فقد تعين بالشرط فإذا جاءه به في غير ذلك الموضع لم يلزمه قبوله، ولم يجز له أخذ الاجرة، لان بدل العوض عن المسلم فيه لا يجوز، فكذلك في تسليمه في موضع.
وان جعله نائبا عنه في حمله إلى ذلك الموضع، لم يكن المسلم قابضا له بهذه النيابة، بل يفتقر إلى تسليمه في الموضع المعين أو في غيره إذا رضى المسلم بذلك.
قال المصنف رحمه الله:

(فصل)
وان أسلم إليه في طعام بالكيل أو اشْتَرَى مِنْهُ طَعَامًا بِالْكَيْلِ فَدَفَعَ إلَيْهِ الطَّعَامَ من غير كيل لم يصح القبض، لان المستحق قبض بالكيل فلا يصح قبض بغير الكيل، فان كان المقبوض باقيا رده على البائع ليكيله له، وان تلف في يده قبل الكيل تلف من ضمانه، لانه قبض عن حقه، وان ادعى أنه كان دون حقه فالقول قوله، لان الاصل أنه لم يقبض الا ما ثبت باقراره، فان باع الجميع قبل الكيل لم يصح، لانه لا يتحقق أن الجميع له، وان باع منه القدر الذى

(13/150)


يتحقق أنه له ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح، وهو قول أبى إسحاق، لانه دخل في ضمانه فنفد بيعه فيه كما لو بالكيل
(وَالثَّانِي)
لَا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ ابن أبى هريرة، وهو المنصوص في الصرف، لانه باعه قبل وجود القبض المستحق بالعقد، فلم يصح بيعه كما لو باعه قبل أن يقبضه، فإن دفع إليه بالكيل ثم ادعى أنه دون حقه فان كان ما يدعيه قليلا قبل منه، وإن كان كثيرا لم يقبل لان القليل يبخس به، والاصل عدم القبض والكثير لا يبخس به فكان دعواه مخالفا للظاهر فلم يقبل.
(الشرح) إذا أسلم إليه في شئ كيلا فأعطاه إياه وزنا، أو أسلم فيه وزنا فأعطاه كيلا لم يصح القبض، لان الكيل والوزن يختلفان، لان الرزين الرصين الثقيل يقل كيله ويكثر وزنه، والخفيف يقل وزنه ويكثر كيله، وهذا ما اتفق عليه أئمتنا وأئمة المذاهب.
قال ابن قدامة في المغنى من الحنابلة: ولا يقبض المكيل إلا بالكيل، ولا الموزون إلا بالوزن، ولا يقبضه جزافا ولا بغير ما يقدر به، لان الكيل والوزن يختلفان، فإن قبضه بذلك فهو كقبضه جزافا، فيقدره بما أسلم فيه، ويأخذ قدر حقه ويرد الباقي، ويطالب بالعوض، وهل له أن يتصرف في قدر حقه منه قبل
أن يعتبره؟ على وجهين - مضى ذكرهما في بيوع الاعيان - وإن اختلفا في قدره فالقول قول القابض مع يمينه اه.
وقال الشافعي رضى الله عنه: لو أعطاه طعاما فصدقه في كيله لم يجز، فإن قبض فالقول قول القابض مع يمينه، وجملة ذلك أنه إذا كان له في ذمة رجل طعام أو اشترى منه عشرة أقفزة (1) من صبرة (2) بعينها، فسلم إليه من عليه الطعام طعاما من غير كيل، وأخبره بكيله فصدقه على كيله أو لم يصدقه لم يجز له
__________
(1) القفيز مكيال معتبر عندهم كانوا يقولون عنه: إنه ثمانية مكاكيك.
(2) الصبرة الكومة من أي شئ وقد نجد في أسواق القرى من يبيعون التمر أو العنب أكواما جزافا بغير كيل ولا وزن فهذه هي الصبرة.

(13/151)


قبضه بغير كيل، لان المستحق عليه القبض بالكيل، فإذا قبض من غير كيل لم يصح القبض.
فإن كان الطعام باقيا رده على البائع ثم يكيله على المسلم، فان كان أكثر من حقه كانت الزيادة للمسلم إليه، فان تلف الطعام في يد القابض قبل أن يكال عليه، تلف من ضمانه، لانه قبضه لنفسه، فان اتفقا على قدره فلا كلام.
وان اختلفا في قدره، فادعى القابض أنه كان دون حقه، وادعى مالك الطعام أنه قدر حقه أو أكثر فالقول قول القابض مع يمينه، سواء ادعى نقصانا قليلا أو كثيرا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصرف، لان الاصل عدم القبض وبقاء الحق فلا تبرأ ذمة من عليه الحق إلا من القدر الذى يقر به القابض، فان قيل: كيف سمعت دعوى القابض في النقصان، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي المسألة فيصدقه في كيله؟ قلنا: لم يرد الشافعي رحمه الله أنه اعترف بصحة الكيل، وإنما هو قبول
قول المخبر، وحمله قوله على الصدق، فإذا بان له خلافه سمعت دعواه.
قال الشيخ أبو حامد فيما نقله عنه العمرانى في البيان: إذا ثبت هذا: فانه يكون قبضا فاسدا، فان المسلم إذا قبضه وكان قدر حقه وزيادة عليه، فانه يملك قدر حقه بالقبض، وينتقل الضمان إليه، وتبرأ ذمة البائع عنه اه.
وهل يجوز للقابض التصرف فيه نظرت.
فان أراد أن يتصرف في الجميع لم يجز، لان للبائع فيه تعلقا، لانه ربما إذا كيل، خرج زيادة على قدر ما يستحق القابض، فلم يصح تصرفه في الجميع، فان أراد أن يبيع منه قدر ما يتحقق أنه له بأن باع نصف قفيز منه وله قفيز ففيه وجهان: الاول: قال أبو إسحاق: يصح، لان ذلك الشئ في ملكه وانتقل الضمان إليه.
ويعلم أنه قدر حقه فجاز بيعه فيه.
الثاني: قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يصح بيعه، وهو المنصوص في الصرف عند الشافعي في الام، لان العلقة باقية بينه وبين البائع فيه، لان ماله غير متميز عن مال البائع فلم يصح بيعه.

(13/152)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان أحاله على رجل له عليه طعام لم يصح لان الحوالة بيع، وقد بينا في كتاب البيوع أنه لا يجوز بيع المسلم فيه قبل القبض.
وإن قال لى عند رجل طعام فاحضر معى حتى أكتاله لك فحضر واكتاله له لم يجز، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، صاع البائع وصاع المشترى، وهذا لم يجز فيه الصاعان، وهل يصح قبض المسلم إليه لنفسه؟ فيه وجهان بناء على القولين فيمن باع دين المكاتب
فقبض منه المشترى، فإن قبض المشترى لنفسه لا يصح، وهل يصح القبض للسيد فيه قولان:
(أحدهما)
يصح لانه قبضه بإذنه فصار كما لو قبضه وكيله
(والثانى)
لا يصح لانه لم يأذن له في قبضه له، وإنما أذن له في قبضه لنفسه فلا يصير القبض له، ويخالف الوكيل فانه قبضه لموكله، فان قلنا ان قبضه لا يصح اكتال لنفسه مرة أخرى ثم يكيله للمسلم، وإن قلنا ان قبضه يصح كاله للمسلم، فان قال احضر معى حتى أكتاله لنفسي وتأخذه ففعل ذلك صح القبض للمسلم إليه لانه قبضه لنفسه قبضا صحيحا، ولا يصح للمسلم لانه دفعه إليه من غير كيل، وان اكتاله لنفسه وسلم إلى المسلم وهو في المكيال ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يصح لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وهذا يقتضى كيلا بعد كيل، وذلك لم يوجد
(والثانى)
أنه يصح لان استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، ولو ابتدأ بكيله جاز فكذلك إذا استدامه.
(الشرح) حديث جابر رواه ابن ماجه والدارقطني أما الاحكام فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أسلم في طعام وباع طعاما آخر فأحضر المشترى من اكتاله من بائعه وقال: أكتاله لك.
لم يجز، لانه بيع الطعام قبل القبض.
واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة، فمنهم من قال: صورتها أن يسلم

(13/153)


زيد إلى عمرو في طعام، فلما حل الاجل باع زيد الطعام الذى له في ذمه عمرو من خالد قبل قبضه، فان هذا لا يصح، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " ولان
بيع الطعام المشترى قبل القبض لا يصح، وان كان معينا، فبأن لا يصح فيه قبل القبض أولى.
قال وتعليله يدل عليه، لانه باع ذلك الطعام من آخر.
وقال أكثر أصحابنا: ما ذكره القائل صحيح في الفقه، ولكن ليس هذا صورة المسألة التى ذكرها الشافعي رضى الله عنه، وإنما صورتها لزيد طعام في ذمة عمرو سلم، وفى ذمة زيد لخالد طعام سلم.
فقال زيد لخالد: احضر اكتيال مالى عند عمرو لاكتاله لك فانه لا يصح، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، صاع البائع وصاع المشترى " ولو كان الشافعي يريد على ذلك الطعام لقال: وباع ذلك الطعام آخر، ولانه قال بعدها، ولو قال أكتاله لنفسي وحده بالكيل لم يجز، ولو كان قد باعه لم يكن لحضوره واكتياله لنفسه معنى قالوا وأما تعليله فانما أراد أن هذا مثل بيع الطعام قبل القبض، لانه يقبضه قبل أن يضمنه بقبضه خالصا له، كما لا يجوز بيعه قبل قبضه.
إذا ثبت هذا ففيه خمس مسائل (الاولى) يقول زيد لخالد احضر معى حتى أكتاله لك، فاكتاله زيد لخالد من عمرو فلا يصح القبض لخالد وجها واحدا لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، صاع البائع وصاع المشترى، وهذا لم يجر فيه الصاعان، ولانه لا يستحق على عمرو شيئا فلم يصح القبض له منه وهل يصح القبض لزيد من عمرو؟ فيه وجهان بناء على القولين في السيد إذا باع نجوم المكاتب وقلنا لا يصح البيع فقبض النجوم، فهل يعتق المكاتب؟ فيه قولان، فان قلنا يصح قبض زيد ما كاله لخالد مرة ثانية.
وان قلنا لا يصح قبض زيد لنفسه رد الطعام إلى عمرو ليكيله لزيد ثم يكيله زيد لخالد، فان اختلف
زيد وعمرو في المقبوض فالقول قول زيد مع يمينه، وانما يقبل قوله مع اليمين

(13/154)


إذا كان ما يدعيه محتمل، فأما إذا ادعى تفاوتا كثيرا لم يقبل قوله، لان هذا القدر لا يتفاوت كثيرا، وهكذا لو اختلف زيد وخالد فيما قبض خالد فالقول قول خالد مع يمينه، إذا كان ما يدعيه تفاوتا يسيرا.
وإن كان تفاوتا كثيرا لم يقبل قوله، لان مثل ذلك لا يتفاوت (المسألة الثانية) أن يقول زيد لخالد اذهب فاكتل لنفسك من عمرو ففعل، فإن قبض خالد لنفسه لا يصح وجها واحدا: لانه لا شئ له في ذمة عمرو وهل يصح قبض خالد من عمرو لزيد؟ على الوجهين طبقا لما ذكرناه في المسألة الاولى.
(المسألة الثالثة) أن يقول زيد لخالد أحضر معى حتى أكتال من عمرو لنفسي ثم يأخذ بذلك الكيل فحضرا فاكتاله زيد لنفسه ثم سلمه زيد إلى خالد جزافا من غير كيل صح قبض زيد لنفسه، لانه قبضه لنفسه قبضا صحيحا، ولا يصح قبض خالد من زيد لانه قبضه من غير كيل (المسألة الرابعة) إذا اكتاله زيد لنفسه من عمرو، ثم كاله زيد لخالد مرة ثانية صح القبضان، لان الطعام قد جرى فيه الصاعان (المسألة الخامسة) أن يكتاله زيد لنفسه من عمرو ثم يسلمه إلى خالد عما عليه له وهو في المكيال، فان قبض زيد لنفسه من عمرو صحيح، وهل يصح قبض خالد من زيد؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح لحديث جابر " حتى يجرى فيه الصاعان " وهذا يقتضى كيلا بعد كيل
(والثانى)
يصح لان استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، بدليل أنه لو أسلم إليه بذهب طعاما، فابتدأ المسلم إليه وكاله للسلم صح، ولو كان الطعام في الذهب عند السلم فسلمه إليه صح، فكذلك ها هنا.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
(فصل)
وان دفع المسلم إليه إلى المسلم دراهم وقال اشتر لى بها مثل مالك على واقبضه لنفسك ففعل لم يصح قبضه لنفسه، وهل يصح للمسلم إليه على الوجهين المبنيين على القولين في دين المكاتب، فان قال اشتر لى واقبضه لى ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ فَفَعَلَ صَحَّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ للمسلم إليه ولا يصح قبضه لنفسه لانه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره في قبض حق نفسه

(13/155)


(الشرح) الاحكام: لو كان لزيد في ذمة عمرو طعام من سلم فدفع عمرو إلى زيد دراهم وقال اشتر بها لنفسك طعاما مثل الطعام الذى لك على ففعل لم يجز، لان الدراهم ملك لعمرو فلا يجوز أن تكون.
عوضا.
ملكا لزيد، فإن اشترى الطعام بقيمة الدراهم لم يصح الشراء، وان اشترى زيد الطعام بدراهم في ذمته ثم سلم تلك الدراهم عما في ذمته صح الشراء لنفسه ولا تبرأ ذمته بتسليم تلك الدراهم لانه لا يملكها وعليه ضمانها.
وإن قال عمرو لزيد اشتر بها لى طعاما واقبضه لنفسك فإن الشراء يصح لعمرو لانه اشتراه له، ولا يصح القبض لزيد لانه لا يصح أن يكون قابضا لنفسه.
من نفسه.
وهل يصح القبض لعمرو؟ فيه وجهان كالوجهين في المسألة قبلها.
(فرع)
وان كان لزيد في ذمة عمرو طعام من جهة القرض، ولخالد في ذمة زيد طعام من جهة السلم، وأحال زيد خالدا بالطعام الذى له عليه على عمرو لم تصح الحوالة، لان خالدا ببيع طعامه الذى له على زيد من السلم بالطعام الذى لزيد من جهة القرض، وقد بينا أن بيع المسلم فيه قبل القبض لا يصح، فالفساد ها هنا من جهة خالد، فإن كان الطعامان من جهة القرض، فهل تصح الحوالة بهما فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد
(أحدهما)
يصح.
وهو الصحيح.
لان بيع
العوض قبل القبض يصح، وكل واحد قرض، وكل واحد منهما مستقر في الذمة فجاز أن يعتاض من ذمة إلى ذمة بخلاف السلم، والباقى لا يصح لان الحوالة لو صحت في الطعام إذا كان من جهة القرض لصحت.
وان كانت من جهة البيع كالدراهم والدنانير لما جازت الحوالة بهما، إذا كانا من جهة القرض جازت أيضا إذا كانا من جهة البيع، فلما لم تجز الحوالة بالطعام إذا كان من جهة البيع إذا كان من جهة القرض (فرع)
ولا تجوز التولية والشركة في المسلم فيه قبل القبض، والشركة أن يقول لغيره أشركتك في النصف المسلم فيه بنصف الثمن، فيكون ذلك بيعا لنصف المسلم فيه.
والتولية أن يقول " وليتك بجميع الثمن أو وليتك نصفه بنصف الثمن "

(13/156)


(فرع)
ذكر الشافعي في الصرف أربع مسائل: الاولى: لو كان في ذمة رجل لغيره طعام، فسأل من عليه الطعام من له الطعام أن يبيعه طعاما بشرط أن يقبض ماله عليه منه فباعه منه بهذا الشرط، فالبيع باطل، لان هذا تبايع بمقتضى العبد فأبطله.
الثانية: إذا اشترى منه طعاما مطلقا وسها أن يقبضه منه صح البيع لانه بيع مطلق.
الثالثة: أن يقول من له الطعام لمن عليه: اقض مالى عليك على أن أبيعك فقضاه صح، لان هذا قبض مستحق عليه، فإذا قضاه وقع عن المقبوض والقابض بالخيار، بين أن يبيعه منه أو لا يبيعه، لان هذا وعد وعده، فكان بالخيار في الوفاء به.
الرابعة: أن يقول من له الطعام: اقضنى أكثر مما أستحقه، أو أجود منه بشرط أن أبيعه منك فقضاه كذلك لم يصح القبض، لان هذا مستحق عليه فكان
قبضا فاسدا، فيجب عليه أن يرد الزيادة، وإن قضاه من غير جنس حقه رده وأخذ قدر حقه من جنسه، ثم إن شاء باعه منه، وإن شاء لم يبعه والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
إذا قبض المسلم فيه ووجد به عيبا فله أن يرده لان اطلاق العقد يقتضى مبيعا سليما فلا يلزمه قبول المعيب فان رد ثبت له المطالبة بالسليم لانه أخذ المعيب عما في الذمة فإذا رده رجع إلى ماله في الذمة وإن حدث عنده عيب رجع بالارش لانه لا يمكنه رده ناقصا عما أخذ ولا يمكن اجباره على أخذه مع العيب فوجب الارش.
(الشرح) الاحكام: إذا قبض المسلم المسلم فيه فوجد به عيبا فهو بالخيار بين أن يرضى به معيبا وبين أن يرده ويطالب بالمسلم فيه سليما، لان إطلاق العقد يقتضى التسليم، فإذا أخذ المعيب ورده رجع إلى الذى في ذمة المسلم إليه، وإن حدث عند المسلم بالمقبوض عيب آخر فله أن يطالب بأرش العيب الموجود قبل القبض إلا أن يرضى المسلم إليه بأخذه معيبا فلا يثبت للمسلم المطالبة بالارش وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس للمسلم المطالبة بالارش لان رجوعه بالارش

(13/157)


أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلم فيه لا يجوز، دليلنا أنه عوض يجوز رده بالعيب فإذا سقط الرد لحدوث عيب ثبت له الرجوع بالارش كبيع الاعيان وأما قوله: إن الرجوع بالارش أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلم فيه لا يجوز مثل القبض فغير صحيح، لان بيع المبيع المعين قبل القبض لا يصح، وقد جاز أخذ الارش عنه، ولان ذلك فسخ العقد في الجزء الفائت، وليس ببيع، ولهذا يكون بحسب الثمن المسمى في العقد.
قال المصنف رحمه الله:

(فصل)
فان أسلم في ثمرة فانقطعت في محلها أو غاب المسلم إليه فلم يظهر حتى نفدت الثمرة ففيه قولان
(أحدهما)
أن العقد ينفسخ لان المعقود عليه ثمرة هذا العام وقد هلكت فانفسخ العقد كما لو اشترى قفيزا من صبرة فهلكت الصبرة
(والثانى)
أنه لا ينفسخ لكنه بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر إلى أن توجد الثمرة فيأخذ لان المعقود عليه ما في الذمة لا ثمرة هذا العام، والدليل عليه أنه لو أسلم إليه في ثمرة عامين فقدم في العام الاول ما يجب له في العام الثاني جاز وما في الذمة لم يتلف وإنما تأخر فثبت له الخيار كما لو اشترى عبدا فأبق.
(الشرح) الاحكام: إذا سلم في شئ مؤجل إلى وقت: الغالب فيه وجود المسلم فيه في ذلك الوقت فجاء ذلك الوقت ولم يوجد ذلك الشئ كالثمرة إذا انقطعت أو تعذر القبض حتى نفد ذلك الشئ المسلم فيه، ففيه قولان، أحدهما ينفسخ السلم، لان المعقود عليه قد تعذر تسليمه فانفسخ العقد كما لو اشترى منه قفيزا من صبرة فتلفت الصبرة قبل القبض، ولانه لو أسلم إليه في ثمرة بلد معين كبغداد أو أسيوط صح السلم، ولم يكن للمسلم إليه أن يدفع إليه من ثمرة غير أسيوط أو بغداد، فكذلك إذا أسلم إليه في ثمرة عام يكن له أن يدفع إليه من ثمرة غير ذلك العام.
والقول الثاني لا ينفسخ السلم ولكن يثبت للمسلم الخيار بين أن يفسخ العقد وبين أن لا يفسخ ويصبر إلى أن يوجد المسلم فيه، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وهو الصحيح،

(13/158)


لان المعقود عليه في الذمة لم يتلف، بدليل أنه لو أسلم إليه في الرطب من ثمرة عامين فقدم المسلم إليه في العام الاول ما يجب فيه، وفى العام الثاني جاز، وإن انقطع بعض المسلم فيه ووجد البعض، فان قلنا: السلم ينفسخ إذا عدم جميع المسلم فيه انفسخ السلم ها هنا في قدر المفقود من المسلم فيه، وهل ينفسخ في الموجود منه
فيه طريقان كما قلنا فيمن اشترى بقرتين فتلفت إحداهما قبل القبض، من أصحابنا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لا ينفسخ قولا واحدا.
فإذا قلنا: ينفسخ فلا كلام، وإذا قلنا: لا ينفسخ ثبت للمسلم الخيار في الفسخ، لان الصفقة تفرقت عليه، فان فسخ فلا كلام، وإن لم يفسخ أخذ الموجود، وهل يأخذه بجميع الثمن أو بحصته؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ.
قلت: وعلى قياس ما ذكره المصنف أنه يأخذه بحصته من الثمن وهو رأس مال السلم قولا واحدا، فإذا قلنا: يأخذه بحصته فهل للمسلم إليه الخيار؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ.
وإن قلنا: ان المسلم فيه إذا انقطع جميعه لا ينفسخ، بل يثبت للمسلم الخيار، ثبت له أيضا ها هنا الخيار ليأخذ بعض حقه، فان اختار فسخ السلم في المفقود والموجود جاز ليفرق حقه عليه، وان اختار أن يفسخ السلم في المفقود ويقره في الموجود فهل له ذلك؟ فيه قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فان قلنا: يجوز فسخ السلم في المفقود، فبكم يأخذ الموجود؟ فعلى ما مضى من قولنا حكاية عن الشيخ أبى حامد وابن الصباغ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
يجوز فسخ عقد السلم بالاقالة لان الحق لهما فجاز لهما الرضا باسقاطه فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال فان كان باقيا وجب رده وان كان تالفا ثبت بدله في ذمة المسلم إليه، فان أراد أن يسلمه في شئ آخر لم يجز لانه بيع دين بدين وان أراد أن يشترى به عينا نظرت فان كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض كما لو أراد أن

(13/159)


يبيع أحدهما بالآخر عينا بعين وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عينا بعين ان يتفرقا من غير قبض
(والثانى)
لا يجوز، لان المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه، والله تعالى أعلم.
(الشرح) الاحكام: الاقالة فسخ وليست ببيع على المشهور من المذهب سواء كان قبل القبض وبعده، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله لانه يقول: هي بيع في حق غير المتعاقدين، فتثبت بها الشفعة، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان قبل القبض فهى فسخ، وإن كان بعد القبض فهى بيع، وقال مالك رحمه الله: هي بيع بكل حال.
وحكى القاضى أبو الطيب أنه قول قديم للشافعي رحمه الله، وأما أبو حامد فحكاه وجها لبعض أصحابنا.
دليلنا أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب.
إذا ثبت هذا: فإن سلم رجل إلى غيره شيئا في شئ ثم تقايلا في عقد السلم صح، وقد وافقنا مالك رحمه الله على ذلك وهذا من أوضح دليل على أن الاقالة فسخ، لانها لو كانت بيعا لما صح في المسلم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعه، وإن أقاله في بعض المسلم فيه صح في القدر الذى أقاله.
وقال ابن أبى ليلى.
يكون إقالة في الجميع.
وقال ربيعة ومالك لا يصح.
دليلنا أن الاقالة مندوب إليها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة " وما جاز في جميع المبيع جاز في بعضه كالابراء والانظار، وان أقاله بأكثر من الثمن أو بأقل منه إلى جنس آخر لم تصح الاقالة.
وقال أبو حنيفة تصح الاقالة، ويجب رد الثمن المسمى في العقد، دليلنا أن المسلم
والمشترى لم يسقط حقه من المبيع الا بشرط العوض الذى شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الاقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط العوض الذى شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الاقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط أن يبيعه سيارته بألف.

(13/160)


(فرع)
وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه ثم ان الضامن صالح المسلم عما في ذمة المسلم إليه بمثل رأس مال السلم يصح الصلح، ولان الضامن لا يملك المسلم فيه فيعوض عنه، فأما إذا أكد المسلم إليه بمثل رأس مال السلم، قال أبو العباس صح الصلح وكان إقالة، لان الاقالة هو أن يشترى ما دفع ويعطى ما أخذ.
وهذا مثله (فرع)
وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو لانفساخ سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيا أخذه، وإن كان تالفا رجع إلى مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له رجع إلى قيمته، وان أراد أن يسلم في شئ آخر لم يجز لانه بيع دين بدين.
وإن أراد أن يأخذ ما هو من جنسه جاز أن يأخذ مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرقا قبل قبضه، وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبضه كما قلنا في البيع، وإن أراد أن يأخذ منه عوضا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الربا صح ذلك أيضا وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟ فيه وجهان أحدهما: أنه يشترط ذلك، فلا يفترقان والعوض المعوض في ضمان واحد والثانى لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر، وإن اختلفا في قدر
رأس مال السلم فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لان الاصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه أو الاجل أو في قدره تحالفا، وان اتفقا على الاجل واختلفا في انقضائه وادعى المسلم انقضاء الاجل، وادعى المسلم إليه بقاءه فالقول قول المسلم إليه مع يمينه لان الاصل بقاؤه.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ