المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

كتاب العاريّة

العارية بتشديد الياء.
يقال تعاوروا الشئ واعتوروه تداولوه.
والعارية منه.
والاصل فعلية بفتح العين.
قال الازهرى: نسبة إلى العارة وهم اسم من الاعارة.
يقال أعرته الشئ إعارة وعارة، مثل أطعته إطاعة وطاعه، وأجبته إجابه وجابه.
وقال الليث: سميت عاريه لانها عار على طالبها، وقال الجوهرى مثلة.
وبعضهم يقول مأخوذة من عار الفرس إذا ذهب من صاحبه لخروجها من يد صاحبها وهما غلط، لان العارية من الواو، لان العرب تقول: هم يتعاورون العوارى ويتعورونها بالواو إذا أعار بعضهم بعضا.
والعار وعار الفرس من الياء فالصحيح ما قال الازهرى، وقد تخفف العارية في الشعر والجمع العوارى بالتخفيف وبالتشديد على الاصل، واستعرت منه الشئ فأعارنيه.
والفقهاء يذهبون دائما إلى الاخذ بقول الجوهرى قال ابن قدامة: العارية إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال مشتقة من عار الشئ إذا جاء.
ومنه قيل للبطال عيار لتردده في بطالته.
اه وهو كما أوضحنا خطأ لانه من مادة أخرى، وقال ابن بطال: ومنه سميت العير لذهابها وعودتها، وهو خطأ كما قلنا، وقال ابن الاثير مثله

قال المصنف رحمه الله تعالى:

الاعارة قربة مندوب إليها لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى " وروى جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت بقاع قرقر تشتد عليه بقوائمها وأخفافها، قال رجل يا رسول الله ما حق الابل؟ قال حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها "
(فصل)
ولا تصح الاعارة إلا من جائز التصرف في المال، فأما من لا يملك التصرف في المال كالصبى والسفيه فلا تصح منه لانه تصرف في المال فلا يملكه الصبى والسفيه كالبيع

(14/199)


(فصل)
وتصح الاعارة في كل عين ينتفع بها مع بقائها، كالدور والعقار والعبيد والجوارى والثياب والدواب والفحل للضراب، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ذكر إعارة دلوها وإعارة فحلها.
وروى أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار من أبى طلحة فرسا فركبه " وروى صفوان " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا غزاة حنين " فثبت في هذه الاشياء بالخبر وقسنا عليها كل ما كان ينتفع به مع بقاء عينه (الشرح) الاصل في العارية الكتاب والسنه والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى (ويمنعون الماعون) روى عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: العوارى.
وفسرها ابن مسعود فقال: القدر والميزان والدلو، وقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) وأما السنة فما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في خطبة الوداع " العارية مؤداة والدين مقضى والمنحه مردودة والزعيم غارم " أخرجه الترمذي
وقال: حديث حسن غريب، وروى صفوان بن أميه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعا يوم حنين فقال: أغصبا يا محمد؟ قال " بل عاريه مضمونه " رواه أبو داود وأحمد والنسائي والحاكم وأورد له شاهدا من حديث ابن عباس، ولفظه " بل عاريه مؤداة " وفى روايه لابي داود " ان الادراع كانت ما بين الثلاثين إلى الاربعين " ورواه البيهقى عن أميه بن صفوان مرسلا، وبين أن الادراع كانت ثمانين، ورواه الحاكم من حديث جابر بن عبد الله، وذكر أنها مائة درع، وأعل ابن حزم وابن القطان طرق هذا الحديث، قال ابن حزم: أحسن ما فيها حديث يعلى ابن أميه وقد سقناه في الوكالة أما حديث جابر في الفصل فقد رواه أحمد ومسلم، فقد استوفى الكلام عليه الامام النووي في كتاب الزكاة من المجموع وأما الاجماع فقد انعقد من الامه كلها على أن العارية مندوب إليها لانها من القربات

(14/200)


وأما القياس فلانه لما جازت الهبة بالاعيان جازت الهبة بالمنافع.
ولذلك صحت الوصية بالاعيان والمنافع جميعا، ولانه سبحانه قال " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " والعارية من المعروف، وقال " وتعاونوا على البر والتقوى " والعارية من البر، والماعون والماعون كان متعارفا عليه في الجاهلية بأنه كل ما فيه منفعه من قليل أو كثير قال الاعشى: بأجود منه بما عونه
* إذا ما سماؤهم لم تغمأ وفى الاسلام الطاعة والزكاة والمعروف وأنشدوا للراعي: أخليفة الرحمن إنا معشر
* حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا
* حق الزكاة منزلا تنزيلا قوم على الاسلام لما يمنعوا
* ما عونهم ويضيعوا التهليلا أما الاحكام فإن العارية تفتقر إلى ثلاثة أشياء: معير ومستعير ومعار، فالمعير وهو كل من كان مالكا مطلق التصرف جاز أن يكون معيرا، ولا يجوز من غير مالك ولا ممنوع من التصرف.
وأما المستعير فكل من صح منه قبول الهبة صح منه طلب العارية لانها نوع من الهبة.
وأما المعار فهو كل مملوك صح الانتفاع به مع بقاء عينه، ولا يصح فيما لا ينتفع به مع بقاء عينه كالمأكولات، لاختصاص العارية بالمنافع دون الرقاب.
فأما الفضه والذهب فتنقسم ثلاثة أقسام: قسم يجوز إعارته واجارته وهو الحلى لاباحة الانتفاع به مع بقاء عينه، وقسم لا تجوز اعارته ولا اجارته، وهو الاواني المحظور الانتفاع بها مع بقاء عينها، وقسم تجوز اعارته، وفى جواز اجارته وجهان وهو الدراهم والدنانير، لان في التجمل بهما نفعا، والفرق بين العارية والاجارة وان اختصا بملك المنفعة أن حكم العارية أوسع من حكم الاجارة، لانه يجوز أن يستعير فحل ضراب ولا يجوز أن يستأجره والحيوان على أربعة أقسام: أحدها ما يجوز اعارته واجارته، وهو كل ما يقتنى المنفعة، كالدواب للانتفاع بظهورها والجوارح المنتفع بصيدها،

(14/201)


والثانى: ما لا يجوز إعارته ولا إجارته، وهو نوعان
(أحدهما)
ما كان محرما.

(والثانى)
ما كانت منفعته عينا، فأما المحرم الانتفاع به فالسباع والذئاب والكلاب غير المعلمة، فلا يجوز أن تعار ولا أن يؤاجر، وأما ما كانت منفعته عينا فذات الدر من المواشى كالغنم فلا يجوز أن تعار ولا تؤاجر لاختصاص العارية والاجارة بالمنافع دون الاعيان، ولكن يجوز أن تمنح
قال الشافعي: والمنحة أن يدفع الرجل ناقته أو شاته إلى رجل ليحلبها ثم يردها فيكون اللبن ممنوحا.
وروى الشافعي عن مالك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هريرة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المنحة أفضل الصدقة تغدو بأجر وتروح بأجر.
والقسم الثالث ما تجوز إعارته ولا تجوز إجارته كالفحول إذ إجارتها ثمن لعسبها، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن عسب الفحل والقسم الرابع ما تجوز إعارته، وفى جواز إجارته وجهان، وهو ما انتفع به من كلاب الصيد والفحول لغير العسب، وإذا صحت إعارة البهائم دون إجارتها فعلفها ومؤونتها على المالك دون المستعير والمستأجر، لان ذلك من حقوق الملك، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا يجوز اعارة جارية ذات جمال لغير ذى رحم محرم، لانه لا يأمن أن يخلو بها فيواقعها، فإن كانت قبيحه أو كبيرة لا تشتهى لم يحرم، لانه يؤمن عليها الفساد، ولا تجوز اعارة العبد المسلم من الكافر، لانه لا يجوز أن يخدمه.
ولا تجوز اعارة الصيد من المحرم، لانه لا يجوز له امساكه ولا التصرف فيه.
ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة، لانه يكره أن يستخدمهما فكره استعارتهما لذلك.

(فصل)
ولا تنعقد الا بإيجاب وقبول لانه ايجاب حق لآدمي فلا يصح الا بالايجاب والقبول كالبيع والاجارة، وتصح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر، فإن قال المستعير أعرني فسلمها إليه انعقد، وان قال المعير: أعرتك

(14/202)


فقبضها المستعير انعقد، لانه اباحة للتصرف في ماله، فصح بالقول من احدهما والفعل من الآخر، كإباحة الطعام
(الشرح) هذا الفصل فيه من محاسن الاسلام في معاملة السبى، وهو ظاهرة اجتماعية عالمية جاء الاسلام لتصفيتها بالتقرب إلى الله تعالى بفك رقابها.
ومن ذلك أن المرء إذا كانت عنده جارية جميلة فإنه لا يجوز اعارتها لخدمه آخر حتى لا يؤدى ذلك إلى اغرائه بأن ينزو عليها، ويسرى هذا الامر على الخادمات اللائى يغشين المنازل في زماننا هذا لاداء بعض الخدمة واعانة ربات البيوت على بعض ما يشق عليهن، فلا يجوز اعارة مثل هؤلاء الخادمات إذا كن جميلات، كما يكره للرجل أن يتحرى أن تكون خادمته ذات جمال، كما لا يجوز للمرء أن يستخدم أباه ولا أن يستعيره لخدمته، وهذا الحكم في شكله الذى سقناه هو الملائم الآن.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإذا قبض العين ضمنها، لما روى صفوان " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا يوم حنين، فقال أغصبا يا محمد؟ قال بل عارية مضمونة ولانه مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه، لا على وجه الوثيقة، فضمنها كالمغصوب فان هلكت نظرت، فان كان مما لا مثل له ففى ضمانها وجهان
(أحدهما)
يضمنها بأكثر ما كانت قيمتها مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إلَى حِينِ التَّلَفِ كَالْمَغْصُوبِ، وتصير الاجزاء تابعة للعين ان سقط ضمانها بالرد سقط ضمان الاجزاء وان وجب ضمانها بالتلف وجب ضمان الاجزاء
(والثانى)
أنها تضمن بقيمتها يوم التلف وهو الصحيح، لانا لو ألزمناه قيمتها أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إلَى حِينِ التَّلَفِ أوجبنا ضمان الاجزاء التالفة بالاذن، وهذا لا يجوز، ولهذا لو كانت العين باقية وقد نقصت أجزاؤها بالاستعمال لم يجب ضمانها وان كان مما له مثل.
فإن قلنا فيما لا مثل له انه يضمن بأكثر ما كانت قيمته لزمه مثلها، وان قلنا انه يضمن بقيمته يوم التلف ضمنها بقيمتها

(14/203)


واختلف أصحابنا في ولد المستعارة فمنهم من قال: إنه مضمون لانها مضمونة فضمن ولدها كالمغصوبة، ومنهم من قال: لا يضمن: لان الولد لم يدخل في الاعارة فلم يدخل في الضمان، ويخالف المغصوبة، فإن الولد يدخل في الغصب فدخل في الضمان، فإن غصب عينا فأعارها من غيره، ولم يعلم المستعير وتلفت عنده، فضمن المالك المستعير لم يرجع بما غرم على الغاصب، لانه دخل على أنه يضمن العين، وإن ضمنه أجرة المنفعة فهل يرجع على الغاصب؟ فيه قولان، بناء على القولين فيمن غصب طعاما وقدمه إلى غيره.
أحدهما: يرجع لانه غره والثانى: لا يرجع، لان المنافع تلفت تحت يده.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: العارية كلها مضمونة، الدواب والرقيق والدور والثياب لا فرق بين شئ منها، فمن استعار شيئا فتلف في يده بفعله أو بغير فعله فهو ضامن له، والاشياء لا تخلو أن تكون مضمونة أو غير مضمونة، فما كان منها مضمونا مثل الغصب وما أشبهه فسواء ما ظهر منها هلاكه وما خفى فهو مضمون على الغاصب والمستسلف جنيا فيه أو لم يجنيا أو غير مضمونة مثل الوديعة فسواء ما ظهر هلاكه وما خفى فالقول فيها قول المستودع مع يمينه وخالفنا بعض الناس في العارية فقال: لا يضمن شيئا إلا ما تعدى فيه، فسئل من أين قاله؟ فزعم أن شريحا قاله، وقال: ما حجتكم في تضمينها.
قلنا: استعار رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صفوان فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عارية مضمونه مؤداة " قال: أفرأيت إذا قلنا: فان شرط المستعير الضمان ضمن وإن لم يشرطه لم يضمن؟ قلنا: فأنت إذن تترك قولك.
قال: وأين؟ قلنا: أليس قولك: إنها غير مضمونة إلا أن يشترط؟ قال: بلى، قلنا: فما تقول في الوديعة إذا اشترط
المستودع أنه ضامن أو المضارب؟ قال لا يكون ضامنا، قلنا فما تقول في المستسلف إذا اشترط أنه غير ضامن؟ قال.
لا شرط له ويكون ضامنا.
قلنا.
ويرد الامانة إلى أصلها والمضمون إلى أصله ويبطل الشرط فيهما جميعا؟ قال.
نعم، قلنا.
وكذلك ينبغى لك أن تقول في العارية، وبذلك شرط النبي صلى الله عليه وسلم

(14/204)


أنها مضمونة الا لما يلزم.
قال.
فلم شرط؟ قلنا لجهالة صفوان، لانه كان مشركا لا يعرف الحكم، ولو عرفه ما ضر الشرط إذا كان أصل العارية أنها مضمونة بلا شرط كما لا يضر شرط العهدة وخلاص عقدك في البيع، ولو لم يشترط كان عليه العهدة والخلاص أو الرد، قال.
فهل قال هذا أحد؟ قلنا في هذا كفاية، وقد قال أبو هريرة وابن عباس رضى الله عنهما " ان العارية مضمونة " وكان قول أبى هريرة في بعير استعير فتلف.
انه مضمون اه.
وقال الماوردى في الحاوى: فتمامها بالقبض فقد اتفق الفقهاء على أن ما تلف من أجزائها بالاستعمال غير مضمون على المستعير، واختلفوا في تلف عينها على خمسة مذاهب.
(أحدها) وهو مذهب الشافعي أنها مضمونة عليه سواء تلفت بفعل آدمى أو بجائحة سماوية، وبه قال من الصحابة ابن عباس وعائشة وأبو هريرة رضى الله عنهم ومن التابعين عطاء ومن الفقهاء أحمد بن حنبل.
(والمذهب الثاني) وهو مذهب أبى حنيفه أنها غير مضمونه عليه الا بالتعدي وبه قال الحسن البصري والنخعي والثوري والاوزاعي.
(والثالث) وهو مذهب مالك: ان كان مما يخفى هلاكه ضمن، وان كان مما يظهر لم يضمن.
(والرابع) وهو مذهب الشيعة: ان تلفت بالموت لم يضمن، وان تلفت
بغيره ضمن.
(والخامس) وهو مذهب قتادة وعبيد الله الحسن العنبري وداود: ان شرط ضمانها لزم، وان لم يشترط لم يلزم، واستدلوا على سقوط الضمان بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ليس على المستعير غير المغل ضمان " وهذا نفى، وبرواية عطاء بن أبى رباح عن صفوان ابن يعلى عن أبيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين بعيرا وثلاثين درعا فقلت يا رسول الله أعارية مضمونه أو عاريه مؤداة قال: بل مؤداة " قالوا: فقد نفى الضمان عنها فلم يجز أن يتوجه إليها قالوا: ولانه

(14/205)


مستعار تلف بغير تفريط فوجب أن لا يضمنه المستعير قياسا على تلف الاجزاء قالوا: ولان ما لم تكن أجزاؤه مضمونه لم تكن جملته مضمونه كالودائع طردا والغصوب عكسا.
دليلنا رواية قتادة عن الحسن عن سمرة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال " على اليد ما أخذت حتى تؤدى " وهذا تضمين، ثم ساق الماوردى حديث صفوان المار كدليل آخر، فإن قيل: هو محمول على ضمان الرد كالودائع التى هي مضمونة الرد، وليست مضمونة العين، قيل: إطلاق القول يتناول ضمان الاعيان، ولذلك امتنع أن يطلق على الامانات المؤداة حكم الضمان، على أنه روى عنه صلى الله عليه وسلم قال " عارية مضمونه مؤداة " وكان الاداء محمولا على الرد والضمان على التلف، ثم يجيب صاحب الحاوى على اعتراضات المخالفين فيقول عن حديث ليس على المستعير غير المغل ضمان: الجواب من وجهين: أحدهما أنه محمول على ضمان الاجزاء التالفه بالاستعمال وهذا وان كان تخصيصا فلما عارضه من الاخبار المخصصة.
والثانى: أن المغل في هذا الموضع ليس بمأخوذ من الخيانه والغلول وإنما هو مأخوذ من استغلال الغلة، يقال: هذا غل فهو مغل إذا أخذ الغلة.
قال زهير بن أبى سلمى: فتغل لكم مالا تغل لامثالها
* قرى بالعراق من قفيز ودرهم فيكون لا ضمان على المستعير غير المستغل أي غير القابض لانه بالقبض يصير مستغلا وهذا صحيح، وأما الجواب عن " عارية مضمونة أو مؤداة؟ " فهو أن معناه عارية مضمونه بالبدل، أو مؤداة العين استعلاما لحكمها هل تؤخذ على طريق البدل والمعاوضة أو على طريق الرد والاداء فأخبر أنها مؤداة العين، لا يملكها الآخذ بالبدل، وأما تلفها بالاستعمال المأذون فيه كالثوب المستعار إذا بلى باللبس لم يضمنه المستعير، والمعنى فيه أنه أتلفه بإذن مالكه فسقط عنه ضمانه، والعارية إذا تلفت بغير إذن مالكها وجب عليه ضمانها، ولو تلف الثياب بغير اللبس المأذون فيه كأن شد فيها متاعا أو حل فيها ترابا ضمن، وعند أحمد في أظهر القولين يجب ضمانها لو بليت باللبس.

(14/206)


(فرع)
لا يخلو حال العارية إذا تلفت عن أحد أمرين.
اما أن يكون لها مثل أو لا مثل لها، فإن لم يكن لها مثل ضمنها بالقيمه، وفيها وجهان.

(أحدهما)
يضمن قيمتها يوم التلف ليسقط ضمان الاجزاء التالفه بالاستعمال (والوجه الثاني) أنه يضمن أكثر قيمتها من حين القبض إلى حين التلف كالغصب، وتصير الاجزاء تبعا للجملة، فإن كان للعارية مثل ففى ما يضمنها به وجهان بناء على صفة ضمان مالا مثل له.

(أحدهما)
يضمنها بالمثل إذا جعل ضمانها في أكثر الاحوال كالغصب
(والثانى)
يضمنها بالقيمة إذا جعل ضمانها وقت التلف.
فأما ما تنتجه العارية من ولد إذا حدث في يد المستعير ففى وجوب ضمانه عليه وجهان، أحدهما: عليه ضمانه لان ولد المضمون مضمون كالمغصوبه، والوجه الثاني: لا ضمان عليه لان معنى الضمان في الام معدوم في الولد بخلاف الغصب لان ولد العارية لا يكون مستعارا، وولد المغصوبة يكون مغصوبا.
وأما قول الشافعي في موضع من كتاب الاجارات: ان العارية غير مضمونه الا بالتعدي - وهو ما أشرنا إليه في كتاب الضمان - فليس بقول ثان في سقوط ضمانها كما وهم فيه الربيع، وهو محمول على أحد ثلاثة أوجه، اما على سقوط ضمان الاجرة، أو على سقوط ضمان الاجزاء: أو حكاية عن مذهب غيره كما قال: يجوز نكاح المحرم حكاية عن مذهب غيره وفرع عليه وان لم يعلنه مذهبا لنفسه والله أعلم.
هذا وما يتعلق بالغصب في هذا الفصل آت ان شاء الله في الغصب ومن الله التوفيق.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز للمعير أن يرجع في العارية بعد القبض، ويجوز للمستعير أن يرد، لانه اباحة فجاز لكل واحد منهما رده كإباحة الطعام.
وإذا فسخ العقد وجب الرد على المستعير، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدرعا وسلاحا، فقال أعارية مؤداة؟ قال: عارية مؤداة، ويجب ردها إلى المعير أو إلى وكيله، فان ردها إلى المكان

(14/207)


الذى أخذها منه لم يبرأ من الضمان، لان ما وجب رده وجب رده إلى المالك أو إلى وكيله كالمغصوب والمسروق.

(فصل)
ومن استعار عينا جاز له أن يستوفى منفعتها بنفسه وبوكيله، لان الوكيل نائب عنه، وهل له أن يعير غيره؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز كما
يجوز للمستأجر أن يؤجر
(والثانى)
لا يجوز وهو الصحيح، لانه إباحة فلا يملك بها الاباحة لغيره كإباحة الطعام، ويخالف المستأجر فإنه يملك المنافع.
ولهذا يملك أن يأخذ عليه العوض، فملك نقله إلى غيره كالمشترى للطعام والمستعير لا يملك، ولهذا لا يملك أخذ العوض عليه، فلا يملك نقله إلى غيره، كمن قدم إليه الطعام.

(فصل)
وتجوز الاعارة مطلقا ومعينا، لانه إباحة فجاز مطلقا ومعينا كإباحة الطعام، فإن قال: أعرتك هذه الارض لتنتفع بها، جاز له أن يزرع ويغرس ويبنى، لان الاذن مطلق، وإن استعار للبناء أو للغراس جاز له أن يزرع لان الزرع أقل ضررا من الغراس والبناء فإذا رضى بالبناء والغراس رضى بالزرع ومن أصحابنا من قال: إن استعار للبناء لم يزرع، لان في الزرع ضررا ليس في البناء، وهو أنه يرخى الارض، وإن استعار للزرع لم يغرس ولم يبن، لان الغراس والبناء أكثر ضررا من الزرع فلا يكون الاذن في الزرع إذنا في الغراس والبناء.
وإن استعار للحنطة زرع الحنطة وما ضرره ضرر الحنطة، لان الرضا بزراعة الحنطة رضا بزراعة مثله،.
وإن استعار للغراس أو البناء ملك ما أذن فيه منهما، وهل يملك الآخر؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يملك الآخر، لان الغراس والبناء يتقاربان في البقاء والتأبيد فكان الاذن في أحدهما إذنا في الآخر
(والثانى)
أنه لا يجوز، لان في كل واحد منهما ضررا ليس في الآخر، فان ضرر الغراس في باطن الارض أكثر، وضرر البناء في ظاهر الارض أكثر، فلا يملك بالاذن في أحدهما الآخر (الشرح) أما الاحكام فانه إذا طالب المعير بردها كانت ضرورة ردها واجبة على المستعير بخلاف المستأجر، والفرق بينهما أن تسليم المنفعة في الاجارة مستحق

(14/208)


على المؤاجرة فكانت مؤونه الرد عليه، وتسليمها في العارية هبة للمستعير فكانت مؤونة الرد عليه.
فإذا استعار دابة ثم ردها إلى اصطبل المعير لم يبرأ من ضمانها حتى يدفعها إلى المعير أو وكيله فيها.
وقال أبو حنيفة: يبرأ منها بردها إلى الاصطبل استحسانا لا قياسا وهذا خطأ، لان الاصطبل لو كان كيده لاقتضى أن يكون سارقها من الاصطبل إذا ردها إليه أن يسقط عنه ضمانها كما يسقط بردها إلى يده، وفى بقاء الضمان عليه دليل على أن ليس عودها إلى الاصطبل عودا إلى يده.
وقال الحنابلة إن كانت العين باقية فعلى المستعير ردها إلى المعير أو وكيله في قبضها، ويبرأ بذلك من ضمانها.
وان ردها إلى من جرت عادته بجريان ذلك على يده كزوجته المتصرفة في ماله ورد الدابة إلى سائسها فقياس المذهب أنه يبرأ (فرع)
إذا استعار شيئا فله استيفاء منفعته بنفسه وبوكيله، لان وكيله نائب عنه ويده كيده، وليس له أن يؤجره لانه لم يملك المنافع فلا يصح أن يملكها غيره، لان المستعير لا يملك العين، وليس للمستعير استعمال المعار الا فيما أذن له فيه، وليس له أن يعيره غيره.
وهذا هو الوجه الاصح عندنا، ولا قول غيره عند الحنابلة.
والوجه الآخر له ذلك - وهو قول أبى حنيفة - لانه يملكه على حسب ما ملكه فجاز كما للمستأجر أن يؤجر، قال أصحاب الرأى: إذا استعار ثوبا ليلبسه هو فأعطاه غيره فلبسه فهو ضامن، وان لم يسم من يلبسه فلا ضمان عليه.
وقال مالك: إذا لم يعمل بها الا الذى كان يعمل بها الذى أعيرها فلا ضمان عليه.
ولنا أن العارية اباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها غيره كاباحة الطعام، وفارق الاجارة لانه ملك الانتفاع على كل وجه فملك أن يملكها، وفى العارية لم يملكها انما ملك استيفاءها على وجه ما أذن له فأشبه من أبيح له أكل الطعام، فعلى هذا
ان أعار فللمالك الرجوع بأجر المثل، وله أن يطالب من شاء منهما، لان الاول سلط غيره على أخذ مال غيره بغير اذنه.
والثانى استوفاه بغير اذنه فان ضمن الاول رجع على الثاني، لان الاستيفاء حصل منه فاستقر الضمان عليه، وان ضمن الثاني لم يرجع على الاول الا أن يكون الثاني لم يعلم بحقيقة الحال فيحتمل

(14/209)


أن يستقر الضمان على الاول لانه غر الثاني.
ودفع إليه العين على أنه يستوفى منافعها بغير عوض، وإن تلفت العين في يد الثاني استقر الضمان عليه بكل حال، لانه قبضها على أن تكون مضمونة عليه، فان رجع على الاول رجع الاول على الثاني.
وإن رجع على الثاني لم يرجع على أحد على احد القولين والثانى: له أن يرجع، وسيأتى في الغصب إن شاء الله (فرع)
تجوز الاعارة مطلقا ومقيدا لانها إباحة فجاز فيها إباحة ذلك كاباحة الطعام، ولان الجهالة إنما تؤثر في العقود اللازمة، فإذا أعاره شيئا مطلقا أبيح له الانتفاع به في كل ما هو مستعد له من الانتفاع به، فإذا أعاره أرضا مطلقا فله أن يزرع فيها ويغرس ويبنى ويفعل فيها كل ما هي معدة له من الانتفاع لان الاذن مطلق، وإن أعاره للغراس أو للبناء فله أن يزرع فيها ما شاء لان ضرره دون ضررهما، فكأنه استوفى بعض ما أذن له فيه، وإن استعارها للزرع لم يغرس ولم يبن، لان ضررهما أكثر، فلم يكن الاذن في القليل إذنا في الكثير.
وإن استعارها للغراس أو للبناء ملك المأذون فيه منهما وفى امتلاك الآخر وجهان
(أحدهما)
يملك الآخر لان الغراس والبناء يتقاربان في البقاء والتأبيد فكان الاذن في أحدهما إذنا في الآخر
(والثانى)
لا لاختلاف كل منهما.
ولان ضررهما مختلف، فان ضرر الغراس في باطن الارض لانتشار العروق فيها، وضرر البناء في ظاهرها فلم يكن الاذن
في أحدهما إذنا في الاخر.
وإن استعارها لزرع الحنطة فله زرعها وزرع ما هو أقل ضررا منها كالشعير والباقلا والعدس، وله زرع ما ضرره كضرر الحنطه، لان الرضى بزراعة شئ رضى بضرره وما هو دونه، وليس له زرع ما هو أكثر ضررا منه كالذرة والدخن والقطن.
لان ضرره أكثر، وحكم إباحة الانتفاع في العارية كحكم الانتفاع في الاجارة فيما له أن يستوفيه، وما يمنع منه.
وفى الاجارة مزيد إن شاء الله تعالى.
ولما كانت بعض النباتات تجهد الارض مثل القطن، ولذا تحتاج إلى تسميد وسباخ وبعضها يفيد الارض كالفول والبرسيم فانهما يفيدان الارض ويكسبانها

(14/210)


مادة الا زوت.
وفى البرسيم ميزة أخرى وهى تمكين الماشية والدواب من التغذى به بربطها عليه فتحدث أنفاسها، وبخاصة أنفاس الغنم، وكذلك أبوالها وأرواثها تسميدا للارض يكسبها قوة ويكمل في التربة بالمواد العضوية من الكفاءة والقوة والخصب مالا يتوفر في الذرة والقمح والقطن التى تضعف خصوبة التربة، فان اختلاف ضرر الارض أو انتفاعها يختلف باختلاف مزروعها.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن أعاره أرضا للغراس أو البناء فغرس وبنى ثم رجع لم يجز أن يغرس ويبنى شيئا آخر، لانه يملك الغراس والبناء بالاذن وقد زال الاذن، فأما ما غرس وبنى فينظر، فان كان قد شرط عليه القلع أجبر على القلع، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " ولانه رضى بالتزام الضرر الذى يدخل عليه بالقلع، فإذا قلع لم تلزمه تسوية الارض، لانه لما شرط عليه القلع رضى بما يحصل بالقلع من الحفر، ولانه مأذون فيه فلا يلزمه ضمان ما حصل
به من النقص، كاستعمال الثوب لا يلزمه ضمان ما يبلبه منه، وان لم يشرط القلع نظرت، فان لم تنقص قيمة الغراس والبناء بالقلع قلع، لانه يمكن رد العارية فارغة من غير اضرار، فوجب ردها، فان نقصت قيمة الغراس والبناء بالقلع نظرت، فان اختار المستعير القلع كان له ذلك.
لانه ملكه فملك نقله فإذا قلعه فهل تلزمه تسوية الارض؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا تلزمه، لانه لما أعاره مع العلم بأن له أن يقلع، كان ذلك رضا بما يحصل بالقلع من التخريب فلم تلزمه التسويه.
كما لو شرط القلع
(والثانى)
تلزمه لان القلع باختياره، فانه لو امتنع لم يجبر عليه فلزمه تسوية الارض، كما لو أخرب أرض غيره من غير غراس، وان لم يختر القلع نظرت، فان بذل المعير قيمة الغراس والبناء ليأخذه مع الارض أجبر المستعير عليه، لانه رجوع في العارية من غير اضرار، وان ضمن أرش النقص بالقلع أجبر المستعير على القلع، لانه رجوع في العارية من غير إضرار.
وان بذل المعير القيمة ليأخذه مع الارض، وبذل المستعير قيمة الارض

(14/211)


ليأخذها مع الغراس قدم المعير، لان الغراس يتبع الارض في البيع فجاز أن يتبعها في التملك، والارض لا تتبع الغراس في البيع فلم تتبعه في التملك، وإن امتنع المعير من بذل القيمة وأرش النقص وبذل المستعير أجرة الارض لم يجبر على القلع لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " وهذا ليس بظالم فوجب أن يكون له حق، ولانه غراس مأذون فيه فلا يجوز الاضرار به في قلعه، وإن لم يبذل المستعير الاجرة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقلع لان الاعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان
(والثانى)
يقلع لان بعد الرجوع لا يجوز الانتفاع بماله من غير أجرة
(فصل)
وإذا أقررنا الغراس في ملكه فأراد المعير أن يدخل إلى الارض
للتفرج أو يستظل بالغراس لم يكن للمستعير منعه، لان الذى استحق المستعير من الارض موضع الغراس.
فأما البياض فلا حق للمستعير فيه فجاز للمالك دخوله وإن أراد المستعير دخولها نظرت فإن كان للتفرج والاستراحة لم يجز، لانه قد رجع في الاعارة فلا يجوز دخولها من غير إذن، وإن كان لاصلاح الغراس أو أخذ الثمار ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يملك لان حقه إقرار الغراس والبناء دون ما سواه
(والثانى)
أنه يملك، وهو الصحيح لان الاذن في الغراس إذن فيه فيما يعود بصلاحه وأخذ ثماره، وإن أراد المعير بيع الارض جاز لانه لا حق فيها لغيره فجاز له بيعها، وإن أراد المستعير بيع الغراس من غير المعير، ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه ملك له لا حق فيه لغيره
(والثانى)
لا يجوز لان ملكه غير مستقر، لان للمعير أن يبذل له قيمة الغراس والبناء فيأخذهما، والصحيح هو الاول لان عدم الاستقرار لا يمنع البيع كالشقص المشفوع يجوز للمشترى بيعه، وإن جاز أن ينتزعه الشفيع بالشفعة (الشرح) حديث " المؤمنون عند شروطهم " وكذلك حديث " ليس لعرق ظالم حق " أسلفنا القول فيهما في غير موضع.
أما الاحكام فقد قال صاحب الحاوى إذا قبض المستعير الارض للغرس والبناء ثم رجع المعير فان كان رجوعه قبل الغرس منع المستعير من غرسها وبنائها، فإن بنى بعد رجوعه أو غرس كان في حكم الغاصب يؤخذ بقلع الغرس والبناء مع أجرة المثل وتسوية الارض، فإن رجع المعير بعد الغرس والبناء لم يكن له إحداث زيادة في غرسه وبنائه، فإن

(14/212)


أحدث زيادة أجبر على قلعها.
فأما ما تقدم من الغرس والبناء قبل الرجوع فللمعير حالتان: إحداهما أن يكون قد شرط على المستعير حين أعاره أن يقلع غرسه وبناءه عند رجوعه
فيؤخذ المستعير بقلع ذلك للشرط المتقدم، ولقوله صلى الله عليه " المؤمنون عند شروطهم " ولان رضاه بهذا الشرط التزام منه للضرر الداخل عليه بالقلع فكان هو الضامن لنفسه، ولم يكن مغرورا بغيره.
(والحال الثانية) أن لا يشترط المعير على المستعير القلع بعد الرجوع فهذا على ضربين.
أحدهما أن يكون قيمة الغرس والبناء مقلوعا كقيمته قائما أو أكثر، فيؤخذ المستعير بالقلع، لان العارية لا تلزم والضرر بالقلع مرتفع.
والضرب الثاني: أن يكون قيمته مقلوعا أقل، فإن بذل المعير قيمته قائما أو بذل نقص ما يميز قيمته مقلوعا وقائما منع المستعير من إقراره وخير بين قلعه أو أخذ قيمته أو أرش نقصه، لان ما يخافه من ضرر النقص بالقلع قد زال ببذل القيمة أو الارش، فلو بذل المستعير قيمة الارض وبذل المعير قيمة الغرس كان المعير أحق من المستعير لامرين.

(أحدهما)
أن الارض أصل والغرس تبع فكان ملك الاصل أقوى.

(والثانى)
أنه أسبق ملكا، وقيل للمستعير: لا يجوز مع زوال الضرر عنك أن تدخل الضرر على المعير بالترك، فان أخذت القيمة وإلا أجبرت على القلع فإذا قلع فهل تلزمه تسوية الارض بعد القلع أم لا، على وجهين
(أحدهما)
لا يلزم لانه مأذون فيه، فأشبه بلى الثوب باللبس (والوجه الثاني) يلزمه ذلك لانه قلع باختياره بعد زوال العارية من غير أن يلجأ إليه فصار مأخوذا بنقصه (فرع)
إذا امتنع المعير من بذل قيمة الغرس وامتنع المستعير من القلع فقد اختلفوا في حكمه على ثلاثة مذاهب: أحدها وهو قول أبى حنيفه أنه يؤخذ بالقلع سواء كانت مدة العارية مقررة أو مطلقه لحديث " العارية مؤداة ".
والثانى وهو قول أبى ابراهيم المزني أنه ان كانت العارية مطلقه تترك وان كانت
مقدرة بمدة قلع بعدها، فرقا بين المطلقة والمقيدة.
لانه المقصود في اشتراط المدة

(14/213)


والثالث: وهو قول الشافعي أنه يقر ولا يجبر على القلع إذا بذل الاجرة بعد الرجوع في العارية لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " والمستعير ليس بظالم فلم يجز أن يؤخذ بالقلع كالظالم لان العارية إرفاق ومعونة فلو أوجبت الاضرار بالقلع لخرجت عن حكم الارفاق والمعونه إلى حكم العدوان والضرر.
(فرع)
إذا ثبت أن الغرس والبناء مقر فإقراره مشروط ببذل الاجرة واقامة المعير على المبيع من ترك القيمة، فصار اقراره مستحقا بهذين الشرطين فإن أجاب المعير من بعد إلى بذل القيمة أو امتنع المستعير من بذل الاجرة أجبر على القلع، لانه لا يجوز أن يدخل الضرر على المعير بتفويت الاجارة وما استدام وجب الاقرار ولم يكن للمستعير منع المعير من دخول أرضه: وان كان مستظلا بغرسه وبنائه لان الاجرة مأخوذة على اقرار الغرس والبناء، فأما البياض الذى بين أثنائه فليس بمشغول بملك المستعير فلم يجز منه المعير منه، وان بذلت له الاجرة عليه أن يجيب إلى اجارتها طوعا بمسمى يرضاه فيكون كمن أجر أرضه مختارا، فأما المستعير فهل يستحق دخول الارض ليصل إلى غرسه وبنائه أم لا على وجهين.

(أحدهما)
لا يستحق الدخول لارض المعير.
(والوجه الثاني) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: انه يستحق دخول الارض ليصل إلى غرسه وبنائه في مراعاته ومصلحته، ويجبر المعير على تمكينه لان الاذن بالغرس والبناء اذن به وبمنافعه، فإن مات الغرس وانهدم البناء لم يكن له اعادة بدله الا باستحداث عارية والى ما سبق ذهب الحنابلة.
(فرع)
وإذا أراد المستعير بيع غرسه وبنائه على غير المعير ففي جوازه
وجهان، أحدهما: يجوز، لانه مملوك، وليس للمعير أن يأخذ المشترى بالقلع كما لم يكن له أن يأخذ به المستعير.
والوجه الثاني أن بيعه لا يجوز، لان المشترى غير مستعير، وترك ما اشتراه غير مستديم، لان المعير متى بذل القيمه استحق بها أخذ الغرس أو قلعه، وهذان الوجهان من اختلافهم في المستعير هل يجوز له أن يعير؟

(14/214)


(فرع)
وللمعير دخول أرضه كيف شاء للتفرج والاستراحة، لان بين الغراس أرضا بيضاء ليست عارية، وليس لصاحب الغرس منع صاحب الارض من غشيانها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان حمل السيل طعام رجل إلى أرض آخر فنبت فيها فهل يجبر صاحب الطعام على القلع مجانا، فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجبر لانه غير مفرط في انباته
(والثانى)
يجبر، وهو الصحيح، لانه شغل ملك غيره بملكه من غير اذن، فأجبر على ازالته كما لو كان في داره شجرة فانتشرت أغصانها في هواء دار غيره.

(فصل)
وان أعاره أرضا للزراعة فزرعها ثم رجع في العارية قبل أن يدرك الزرع وطالبه بالقلع، ففيه وجهان.
أحدهما: أنه كالغراس في التبقية والقلع والارش والثانى: أنه يجبر المعير على التبقية إلى الحصاد بأجرة المثل، لان للزرع وقتا ينتهى إليه، وليس للغراس وقت ينتهى إليه، فلو أجبرناه على التبقية عطلنا عليه أرضه.

(فصل)
وان أعاره حائطا ليضع عليه أجذاعا فوضعها لم يملك اجباره على قلعها، لانها تراد للبقاء، فلا يجبر على قلعها كالغراس، وان ضمن المعير قيمة
الاجذاع ليأخذها، لم يجبر المستعير على قبولها، لان أحد طرفيها في ملكه فلم يجبر على أخذ قيمته، وان تلفت الاجذاع وأراد أن يعيد مثلها على الحائط لم يجز أن يعيد الا باذن، لان الاذن تناول الاول دون غيره، فان انهدم الحائط وبناه بتلك الآلة لم يجز أن يضع الاجذاع على الثاني، لان الاذن تناول الاول ومن أصحابنا من قال: يجوز لان الاعارة اقتضت التأبيد والمذهب الاول.

(فصل)
وان وجدت أجذاع على الحائط، ولم يعرف سببها، ثم تلفت جاز اعادة مثلها، لان الظاهر أنها بحق ثابت.
(الشرح) الاحكام: إذا حمل السيل بذر رجل فنبت في أرض غيره أو نوى فصار غرسا فهو لمالك البذر والنوى لانه نماء ملكه، وهل لصاحب الارض

(14/215)


أن يأخذه المالك بقلعه أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
له قعله لانه نبت في أرضه بغير اختياره.
والوجه الثاني: ليس له قلعه إذا بذلت له الاجارة، لان مالكه غير متعد به وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه، لان قلعه إتلاف للمال على مالكه، ولم يوجد منه تفريط ولا يدوم ضرره فلا يجبر على ذلك.
وفرق الحنابلة بين الحب والنوى أي بين الزرع والغرس.
وقد صححنا الوجه الاول أنه يجبر على ذلك إذا طالبه رب الارض به، لان ملكه نما في ملك غيره بغير إذنه، فأشبه ما لو انتشرت أغصان شجرته في هواء ملك جاره.
وكذلك النوى حيث ينبت شجرا كالزيتون والنخيل ونحوهما فهو لمالك النوى ويجبر على قلعه.
وبهذا أخذ الحنابلة وأوجبوا إزالتها قولا واحدا.
(فرع)
إذا غرس الارض المعارة ثم رجع المعير قبل إدراك الزرع ففى لزوم قلعه وجهان
(أحدهما)
أنه كالغراس في التبقية والقلع والارش على ما مضى في
الفصل قبله
(والثانى)
يجبر المعير على التبقية إلى الحصاد بأجرة المثل، وذلك لان الزرع يختلف عن الغرس من حيث الزمن فالزرع يحصد في أشهر معلومات.
أما الغراس فلا حد له.
(فرع)
إذا أعار الرجل جاره حائطا ليضع عليه أجذاعا فليس للمعير أن يأخذ المستعير بقطعها بعد الوضع، لان وضع الاجذاع يراد للاستدامة والبقاء وهل يستحق عليه الاجر بعد رجوعه في العارية أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
يستحقها كما يستحق أجرة أرضه بعد الغرس والبناء، فعلى هذا إن امتنع صاحب الاجذاع من بذلها أخذ بقلعها (والوجه الثاني) وهو أصح: لا أجرة له.
والفرق بين الحائط والارض أن الحائط قد يصل مالكه إلى منافعه وإن كانت الاجذاع موضوعة فيه وليس كالارض التى لا يصل مالكها إلى منافعها مع بقاء الغرس والبناء فيها، مع أن العرف لم يمكن بإجارة الحائط وهو جار كما يمكن بإجارة الارض، فلو بذل صاحب الحائط ثمن الاجذاع لصاحبها لم يجبر على قبولها ولا على قلعها بخلاف الغرس والبناء، والفرق بينهما أن الاجذاع إذا حمل أحد طرفيها في حائط المعير والطرف الآخر في حائط المستعير فلم يجبر أن يأخذ

(14/216)


قيمة ما في ملكه، والغرس والبناء كله في أرض المعير فجاز أن يجبر على أخذ قيمة ما في غير ملكه.
فلو انهدم الحائط الذى فيه الاجذاع موضوعة فبناه المالك فهل يجوز لصاحب الاجذاع إعادة موضعها بالاذن الاول أم لا، على وجهين
(أحدهما)
له إعادتها لان العارية أوجبت دوام وضعها، فعلى هذا لو امتنع صاحب الحائط من بنائه كان لصاحب الاجذاع أن يبنيه ليصل إلى حقه من وضع أجذاعه فيه والوجه الثاني: ليس له إعادتها، لان الحائط المأذون فيه لم يبق وهذا غيره
ولم يعره مالكه، فعلى هذا لو أراد صاحب الاجذاع أن يبنى الحائط عند امتناع صاحبه من بنائه لم يكن له (فرع)
إذا أعاره جذعا ليمسك به حائط فليس له بعد الامساك أن يرجع فيه ما كان الحائط قائما وكان الجذع صحيحا لما فيه من إدخال الضرر على صاحب الحائط بعد إقامته من خوف السقوط وهلاكه.
وهل له المطالبة بعد الرجوع بأجرته أم لا، على ما ذكرنا من الوجهين، فإن أنكر الجذع أو انهدم الحائط فله الرجوع به لانه لا يتجدد بأخذه ضرر (فرع)
إذا أعار أرضا لدفن ميت فليس له بعد الدفن الرجوع فيها، لان دفن الميت للاستدامة والبقاء شرعا وعرفا، ولو رضى أولياؤه بنقله منعوا منه، لانه حق للميت ولما فيه من انتهاك حرمته بالنقل، وليس لصاحب الارض المطالبة بأجرة القبر بعد الرجوع في العارية وجها واحدا لا يختلف لامرين.

(أحدهما)
أن العرف غير جار به
(والثانى)
أن الميت زائل الملك والاولياء لا يلزمهم، فلو أن الميت المدفون نبشه الوحش وجب أن يعاد إلى قبره جبرا وليس لصاحب الارض بعد ظهوره أن يرجع في عاريته ويمنع من دفنه، لانه قد صار حقا للميت مؤبدا، فلو أن رجلا أذن للناس أن يدفنوا أمواتهم في أرضه فإن سبلها للدفن فليس له الرجوع فيها لخروجها عن ملكه، وإن لم يسبلها فله الرجوع فيها، ولا يكون الاذن بالدفن فيها تسبيلا لها.
فإذا رجع فله المنع من إحداث دفن، وليس له نقل من دفن، ويحرم على من أعار الارض للدفن أن

(14/217)


يتصرف على ظاهر القبر من أرضه لما فيه من انتهاك حرمة الميت مع ورود النهى عنه فلو أراد أن يدفن فيه ميتا آخر لم يجز إلا أن يتجاوز مكان لحده فيجوز وإن كان مقارنا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه فأعاره ففيه قولان.
أحدهما أنه ضمان وأن المالك للرهن ضمن الدين عن الراهن في رقبة عبده، لان العارية ما يستحق به منفعة العين والمنفعة ههنا للمالك، فدل على أنه ضمان.
والثانى أنه عارية لانه استعاره ليقضى به حاجته فهو كسائر العوارى فإن قلنا إنه ضمان لم يصح حتى يتعين جنس الدين وقدره ومحله، لانه ضمان فاعتبر فيه العلم بذلك.
وإن قلنا إنه عارية لم يفتقر إلى ذلك لانه عاريه فلا يعتبر فيه العلم، فإن عين له جنسا وقدرا ومحلا، تعين على القولين، لان الضمان والعارية يتعينان بالتعيين، فإن خالفه في الجنس لم يصح لانه عقد على ما لم يأذن له فيه، وإن خالفه في المحل بأن أذن له في دين مؤجل فرهنه بدين حال لم يصح.
لانه قد لا يجد ما يفك به الرهن في الحال، وان أذن له في دين حال فرهنه بدين مؤجل لم يصح، لانه لا يرضى أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل، فإن خالفه في القدر بأن أذن له في الرهن بعشرة فرهن بما دونها جاز، لان من رضى أن يقصى عن غيره عشرة رضى أن يقضى ما دونه، وإن رهنه بخمسة عشر لم يصح، لان من رضى بقضاء عشرة لم يرض بما زاد.

(فصل)
وإن رهن العبد بإذنه بدين حال جاز للسيد مطالبته بالفكاك على القولين في الحال، لان للمعير أن يرجع في العارية، وللضامن أن يطالب بتخليصه من الضمان، فان رهنه بدين مؤجل بادنه، فان قلنا: انه عاريه جاز له المطالبة بالفكاك، لان للمعير أن يرجع متى شاء.
وان قلنا انه ضمان لم يطالب قبل المحل لان الضامن إلى أجل لا يملك المطالبة قبل المحل.

(فصل)
وان بيع في الدين فان قلنا انه عاريه رجع السيد على الراهن بقيمته لان العارية تضمن بقيمتها.
وان قلنا انه ضمان رجع بما بيع به، سواء بيع بقدر

(14/218)


قيمته أو بأقل أو بأكثر، لان الضامن يرجع بما غرم، ولم يغرم إلا ما بيع به.

(فصل)
وإن تلف العبد فإن قلنا إنه عارية ضمن قيمته، لان العارية مضمونة بالقيمة، وإن قلنا انه ضمان لم يضمن شيئا لانه لم يغرم شيئا.

(فصل)
وإن استعار رجل من رجلين عبدا فرهنه عند رجل بمائة ثم قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما من الرهن، ففيه قولان
(أحدهما)
لا تخرج لانه رهنه بجميع الدين في صفقة فلا ينفك بعضه دون بعض
(والثانى)
يخرج نصفه لانه لم يأذن كل واحد منهما إلا في رهن نصيبه بخمسين، فلا يصير رهنا بأكثر منه.
(الشرح) الاحكام: سبق أن قلنا إن العارية إباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها غيره، ولكن إذا أذن له المعير في إجارتها أو رهنها أو إعارتها مدة معلومة جاز، لان الحق لمالكه فجاز ما أذن فيه.
وهل تكون العين مضمونه على المستعير أم تبقى يده على الائتمان؟ قلنا: إن كان ذلك بإذنه لا تكون العين مضمونه، أما إذا خالف المستعير المعير بأن أذن له في رهنها فأعارها ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا ضمان لان العين قد استعارها للانتفاع بمنفعتها ولقضاء حاجته منها
(والثانى)
أنه تعدى في منفعة العين على وجه لم يأذن فيه مالكها، وهو الذى يملك المنفعة فدل على أنه ضمان.
وقال ابن المنذر: إذا استعار الرجل من الرجل شيئا يرهنه عند رجل على شئ معلوم إلى وقت معلوم فرهن ذلك على ما أذن فيه له فقد أجمعوا على أن ذلك جائز، وذلك لانه استعاره ليقضى به حاجته، فصح كسائر العوارى.
فإذا أذن له في رهن العارية، فان مالك العارية يكون مالكا للرهن فيضمن بذلك الدين عن الراهن، فيجب أن يكون المعير عالما بقدر الدين ومحله، فإذا
خالفه في أيهما لم يصح لما يترتب عليه من حرج لمالك الرهن وقال أحمد وأبو ثور وأصحاب الرأى: لا يعتبر العلم بقدر الدين وجنسه إلا إذا عينه المستعير من تلقاء نفسه لان العارية لا يعتبر فيها العلم، ولان العارية لجنس من النفع فلم تعتبر معرفة قدره كعارية الارض للزرع.
ولنا في هذه المسألة

(14/219)


قولان.
وكذلك إذا رهنه بأكثر مما قدره.
أو حال بمؤجل أو مؤجل بحال للعلل التى أوضحها المصنف، فإذا رهنه بأقل من القدر الذى عينه جاز، لان من رضى بعشرة رضى بما دونها عرفا، فأشبه من أمر بشراء شئ بثمن فاشتراه بأنقص، وللمعير مطالبة الراهن بفكاك الرهن في حال، سواء كان بدين مؤجل أو حال، لان للمعير الرجوع في العارية متى شاء.
وهو أحد القولين عندنا، وقول واحد عند أصحاب أحمد.
(فرع)
إذا حل الدين فلم يفكه الراهن جاز بيعه لان ذلك مقتضى الرهن، فإذا بيع في الدين أو تلف.
فان قلنا: إنه عارية رجع المعير على المستعير بقيمتها لان العارية تضمن بقيمتها، وان تلف من غير تفريط فلا شئ على المرتهن، لان الرهن لا يضمن من غير تعد.
وإذا استعار عاريه من رجلين فرهنها بمائة ثم قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما فقولان
(أحدهما)
لا تخرج لانه رهنها بجميع الدين في الصفقة فلا ينفك بعضه بقضاء بعض الدين كما لو كان العبد لواحد.
وبهذا قال أحمد وأصحابه
(والثانى)
يخرج نصفه لان كل واحد منهما لم يأذن إلا في رهن نصيبه.
وله أن يرجع متى شاء وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال المالك أكريتها فعليك الاجرة وقال الراكب: بل أعرتنيها فلا أجرة لك، فقد قال في العارية: القول قول
الراكب.
وقال في المزارعة: إذا دفع أرضه إلى رجل فزرعها ثم اختلفا فقال المالك أكريتكها وقال الزارع بل أعرتنيها، فالقول قول المالك: فمن أصحابنا من حمل المسئلتين على ظاهرهما، فقال في الدابة: القول قول الراكب، وقال في الارض القول قول المالك لان العادة أن الدواب تعار، فالظاهر فيها مع الراكب والعادة في الارض أنها تكرى ولا تعار، فالظاهر فيها مع المالك، ومنهم من نقل الجواب في كل واحدة منهما إلى الاخرى وجعلهما على قولين، وهو اختيار المزني
(أحدهما)
أن القول قول المالك، لان المنافع كالاعيان في الملك والعقد عليها، ثم لو اختلفا في عين فقال المالك بعتكها.
وقال الآخر بل وهبتنيها.
كان القول قول المالك.
فكذلك إذا اختلفا في المنافع

(14/220)


(والثانى)
أن القول قول المتصرف، لان المالك أقر بالمنافع له، ومن أقر لغيره بملك ثم ادعى عليه عوضا لم يقبل قوله، فان قلنا: ان القول قول المالك حلف ووجبت له الاجرة وفى قدر الاجرة وجهان.
أحدهما: يجب المسمى لانه قبل قوله فيها وحلف عليها.
والثانى: أنه تجب أجرة المثل وهو المنصوص لانهما لو اتفقا على الاجرة واختلفا في قدرها وجب أجرة المثل فلان تجب أجرة المثل وقد اختلفا في الاجرة أولى فان نكل عن اليمين لم يرد على المتصرف لان اليمين انما ترد ليستحق بها حق والمتصرف لا يدعى حقا فلم ترد عليه.
(وان قلنا) ان القول قول المتصرف حلف وبرئ من الاجرة، فإن نكل رد اليمين على المالك - فإذا حلف - استحق المسمى وجها واحدا لان يمينه بعد النكول كالبينة في أحد القولين وكالاقرار في الآخر وأيهما كان وجب المسمى، وان تلفت الدابة بعد الركوب ثم اختلفا (فإن قلنا) ان القول قول المالك حكم
له بالاجرة (وان قلنا) القول قول الراكب، فهل يلزمه أقل الامرين من الاجرة أو القيمه، فيه وجهان، أحدهما يلزمه لاتفاقهما على استحقاقه، والثانى لا يحكم له بشئ لانه لا يدعى القيمة ولا يستحق الاجرة.

(فصل)
وان قال المالك: غصبتنيها فعليك الاجرة، وقال المتصرف: بل أعرتنيها فلا أجرة على، فان المزني نقل أن القول قول المستعير، واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال المسألة على طريقين كما ذكرنا في المسألة قبلها، أحدهما الفرق بين الارض والدابة، والثانى: أنهما على قولين لان الخلاف في المسئلتين جميعا في وجوب الاجرة، والمالك يدعى وجوبها، والمتصرف ينكر فيجب أن لا يختلفا في الطريقين.
ومنهم من قال: ان القول قول المالك، وما نقل المزني غلط، لان في تلك المسألة أقر المالك للمتصرف بملك المنافع، فلا يقبل قوله في دعوى العوض، وههنا اختلفا أن الملك للمالك أو للمتصرف والاصل أنها للمالك.

(فصل)
وان اختلفا فقال المالك: أعرتكها، وقال الراكب بل أجرتنيها

(14/221)


فالقول قول المالك لانهما اتفقا أن الملك له، واختلفا في صفة انتقال اليد، فكان القول قول المالك، فإن كانت العين باقية حلف وأخذ.
وان كانت تالفة نطرت.
فان لم تمض مدة لمثلها أجرة حلف واستحق القيمة، وإن مضت مدة لمثلها أجرة فالمالك يدعى القيمة والراكب يقر له بالاجرة، فان كانت القيمة أكثر من الاجرة لم يستحق شيئا حتى يحلف، وإن كانت القيمة مثل الاجرة أو أقل منها، ففيه وجهان.

(أحدهما)
يستحق من غير يمين، لانهما متفقان على استحقاقه.

(والثانى)
لا يستحق من غير يمين، لانه أسقط حقه من الاجرة وهو يدعى
القيمة بحكم العارية، والراكب منكر، فلم يستحق من غير يمين.

(فصل)
وإن اختلفا فقال المالك: غصبتنيها فعليك ضمانها وأجرة مثلها وقال الراكب: بل أجرتنيها فلا يلزمنى ضمانها، ولا أجرة مثلها، فالقول قول المالك مع يمينه، لان الاصل أنه ما أجره، فإن اختلفا - وقد تلفت العين - حلف واستحق القيمة، وان بقيت في يد الراكب مدة ثم اختلفا، فإن المالك يدعى أجرة المثل والراكب يقر بالمسمى فان كانت أجرة المثل أكثر من المسمى لم يستحق الزيادة حتى يحلف، وإن لم تكن أكثر استحق من غير يمين، لانهما متفقان على استحقاقه، والله أعلم.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي في العارية من الام: ولو قال رب الدابة أكريتها إلى موضع كذا بكذا، وقال الراكب بل عارية كان القول قول الراكب مع يمينه، ولو قال.
أعرتنيها، وقال ربها غصبتها كان القول قول المستعير، قال المزني هذا عندي خلاف أصله، لانه يجعل من سكن دار رجل كمن تعدى على سلعة فأتلفها فله قيمة السكن، وقوله من أتلف شيئا ضمن، ومن ادعى البراءة لم يبرأ به، وجملة هذه المسألة أن الكلام يشتمل فيها على أربعة فصول.
فالفصل الاول وهو مذكور في الام صورته في رجل ركب دابة غيره ثم اختلفا، فقال المالك أجرتكها فلى الاجرة، وقال الراكب أعرتنيها، فليس لك أجرة، فالذي نص عليه الشافعي في كتاب العارية أن القول قول الراكب، فاختلف أصحابنا

(14/222)


لاختلاف هذا الجواب، فكان أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة وجمهورهم ينقلون جواب كل واحدة من المسألتين إلى الآخر، ويخرجونها على قولين
(أحدهما)
وهو اختيار المزني والربيع أن القول قول المالك في الدابة والارض على ما نص عليه في المزارعة وله الاجرة، ووجهته ما ذكره المزني،
وهو أن المنافع مملوك تصح المعاوضة عليها كالاعيان، ثم ثبت أنهما لو اختلفا في العين بعد استهلاكها، فقال ربها: بعتها عليك، وقال المستهلك.
بل وهبتنيها، فان القول قول المالك دون المتلف وله الاجرة.
(والقول الثاني) ان القول قول الراكب في الدابة والزارع في الارض معا على ما نص عليه في العارية ولا أجرة عليه، ووجهه أنهما متفقان على أن المتصرف قد استهلك منافع لنفسه إما بعارية أو إجارة، ومن ادعى ثبوت عوض على غيره في استهلاك منافعه لم يقبل منه، وخالف استهلاك العين التى قد اتفقا عليها أنها ملك لربها دون مستهلكها، وفى هذا انفصال عما ذكره المزني توجيها.
وقال أبو العباس بن سريج.
ليس ذلك على اختلاف قولين وإنما الجواب على ظاهره في الموضعين فيكون القول في الدابة قول راكبها وفى الارض قول مالكها اعتبارا بالعرف فيها، لان العادة في الدواب جارية باعارتها، فكانت العادة شاهدة لراكبها، والعادة جارية في الارض بالاجارة فكانت العادة شاهدة لمالكها، وهذه طريقة أبى العباس في اعتبار العرف والعادة فيها، وليس مذهبا للشافعي لان من يؤجر قد يعير، ومن يعير قد يؤجر.
فإذا تقرر ما وصفنا فان قلنا: إن القول قول رب الدابة والارض فمع يمينه فإذا تلف فله الاجرة، وفيها وجهان:
(أحدهما)
أنه القدر الذى سماه، لانه قد جعل القول قوله فيه.
(والوجه الثاني) وهو أصح أن له أجرة المثل لانهما لو اختلفا في الاجرة مع اتفاقهما على الاجارة لم يقبل قول المؤجر فيها، فأولى أن لا يقبل قوله مع اختلافهما فيها، فان نكل المالك عن اليمين لم ترد على المتصرف المستعير، لان ردها لا يفيد، لان الاجرة ساقطه عنه لنكول المالك.
وإن قلنا إن القول قول

(14/223)


الراكب مع يمينه، فان حلف برئ من الاجرة ورد الدابة، وإن نكل ردت اليمين على المالك ليستحق بها ما ادعاه من الاجرة، فإذا حلف فله المسمى وجها واحدا، لان يمينه بعد النكول، إما أن تجرى مجرى البينة أو الاقرار وأيهما كان فيوجب الحكم بالمسمى.
فلو كانت الدابة قد تلفت بعد الركوب ثم اختلفا فالمالك يدعى الاجرة دون القيمة، والراكب يقر بالقيمة دون الاجرة - فان قلنا: إن القول قول المالك حكم له بالاجرة وحدها دون القيمة لانه لا يدعيها.
وإن قلنا: إن القول قول الراكب فهل يلزمه للمالك أقل الامرين من الاجرة أو القيمة؟ على وجهين.

(أحدهما)
يحكم له به لاتفاقهما على استحقاقه.
(والوجه الثاني) لا يحكم له بشئ فيها لانه لا يدعى القيمة ولا يستحق الاجرة والفصل الثاني وهو أن يقول المالك غصبتها ويقول الآخر بل أعرتنيها، فهذا الاختلاف مؤثر في الاجرة دون القيمة، لان العارية مضمونه كالغصب وأجرة العارية غير مضمونه بخلاف الغصب، فان كان هذا قبل الركوب سقط تأثير هذا الاختلاف، وإن كان بعد الركوب فالذي نقله المزني ههنا أن القول قول المستعير فاختلف أصحابنا فكان أبو على بن أبى هريرة يخرجها على قولين كالمسألة الاولى لاشتراكهما في العله، ويجعل قول المزني ههنا أحد القولين.
وذهب آخرون من أصحابنا إلى أن القول في هذه المسألة قول المالك قولا واحدا، والفرق بين هذه المسألة والتى قبلها أن في اختلافهما في العارية والاجارة اتفاقا على أن الراكب مالك للمنفعه، فجاز أن لا يقبل قول المالك في الاجرة، ولم يتفقا على مثل ذلك في هذه المسألة، لان المالك يقول: أتلفت أيها الراكب منفعتي بغير حق، والراكب يقول: أتلفتها مستعيرا بحق، فلم يصدق.
فمن قال بهذا أجاب عما نقله المزني بجوابين
(أحدهما)
أن ذلك خطأ من المزني في
نقله وسهوه
(والثانى)
تسليم الراوية واستعمالها على أحد تأويلين إما على: القول قول المستعير في قدر الاجرة، وإما على: أن القول قول المستعير في أن لا يلزمه

(14/224)


الضمان إلا في العارية دون الغصب، وهذا تأويل من فرق بين ضمان العارية وضمان الغصب، فعلى هذا لو تلفت الدابه ضمن قيمتها وكانت الاجرة على ما مضى والفصل الثالث أن يقول رب الدابة: أعرتكها، ويقول الراكب: استأجرتها فتأثير هذا الاختلاف من وجهين.

(أحدهما)
في ضمان رقبتها، لان العارية مضمونه والمؤاجرة غير مضمونه فان كانت الدابه باقية سقط هذا الاختلاف.

(والثانى)
لزوم ركوبها تلك المدة، فان كانت الدابه تالفه أو المدة منقضيه سقط تأثير هذا الاختلاف، فيكون القول قول المالك مع يمينه أنه ما أجرها لان الراكب يدعى عليه عقدا في إجارتها، فان كانت الدابه قائمة أخذها ولا أجرة له، لان الراكب وإن أقر بها فالمالك لا يدعيها، وان كانت الدابة تالفه كان له الرجوع على الراكب بقيمتها لانها تالفه في يده وهو يدعى بالاجارة إستئمانا فلم تقبل دعواه، ولزمه غرم القيمه، فان لم يكن لمدة الركوب أجرة لم يكن للمالك القيمة إلا بعد يمينه بالله تعالى أنه ما أجرها ولقد أعارها، إلا أن تنقضي فيحلف بالله تعالى لقد أعارها ولا يحلف ما أجرها لانقضاء زمن الاجارة وإن كان لمدة الركوب أجرة هي بقدر القيمه فصاعدا فهل يجب على المالك يمين يستحق بها القيمة أم لا، على وجهين.

(أحدهما)
لا يمين عليه، لان الراكب مقر له أجرة، والمالك يدعيها قيمة فصارا متفقين على استحقاقه.
وإن اختلفا في جنسه فسقطت اليمين فيه.
(والوجه الثاني) عليه اليمين لانه قد أسقط حقه من الاجرة فلم يؤثر إقرار
الراكب بها وهو يدعى القيمة.
والراكب منكر لها.
فإذا حكم له بدعواه لما ذكرنا من التعليل فلا يثبت إلا باليمين.
والفصل الرابع: أن يقول المالك غصبتنيها.
ويقول الراكب: أجرتنيها، فتأثير هذا الاختلاف من وجهين
(أحدهما)
في ضمان الرقبة.
لان المغصوب مضمون والمؤجر غير مضمون.
فان كانت العين باقيه سقط تأثير هذا الاختلاف

(14/225)


والثانى في لزوم المدة، فإن كانت المدة قد انقضت أو الدابة قد هلكت سقط تأثير هذا الاختلاف.
وإذا كان كذلك فالقول قول المالك مع يمينه أنه ما أجره ويصير الراكب ضامنا للدابه والاجرة.
فيأخذ بالملك من غير يمين الا أن تكون أجرة المثل أكثر من المسمى الذى أقر به الراكب.
فلا يستحق الزيادة الا بيمين.
وأما القيمة فلا يستحقها الا بيمين.
والله أعلم بالصواب.
وهو حسبى ونعم الوكيل.
والى ما ذهبنا إليه قال أحمد وأصحابه: قال ابن قدامه: وان قال المالك: غصبتها، وقال الراكب أجرتنيها فالاختلاف هنا في وحوب القيمه، لان الاجر يجب في الموضعين، الا أن يختلف المسمى وأجر المثل، والقول قول المالك مع يمينه، فان كانت الدابة تالفه عقيب أخذها حلف وأخذ قيمتها، وان كانت قد بقيت مدة لمثلها أجر، والمسمى بقدر أجر المثل أخذه المالك لاتفاقهما على استحقاقه، وكذلك ان كان أجر المثل دون المسمى.
وفى اليمين وجهان.
وان كان زائدا على المسمى لم يستحقه الا بيمين وجها واحدا والله أعلم

(14/226)