المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله:

كتاب الوديعة

(الشرح) يقال: ودعته أدعه ودعا تركته، وأصل المضارع الكسر من ثم حذفت الواو ثم فتح لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدمين: وزعمت النحاة أن العرب أماتت ماضى يدع ومصدره واسم الفاعل، وقد قرأ مجاهد وعروة ومقاتل وابن أبى عبلة ويزيد النحوي " ما ودعك ربك " بالتخفيف، وفى الحديث " لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات " أي تركهم، فقد رويت هذه الكلمة عن أفصح العرب ونقلت من طريق القراء، فكيف يكون اماتة، وقد جاء الماضي في بعض الاشعار وما هذه سبيله فيجوز القول بقلة الاستعمال، ولا يجوز القول بالاماتة، ووادعته موادعة صالحته، والاسم الوداع بالكسر وودعته توديعا والاسم الوداع بالفتح مثل سلم سلاما وهو ان تشيعه عند سفره، والوديعة فعيلة، بمعنى مفعولة، وأودعت زيدا مالا دفعته إليه ليكون عنده وديعة وجمعها ودائع واشتقاقها من الدعة وهى الراحة، أو أخذته منه وديعة، فيكون الفعل من الاضداد لكن الفعل في الدفع أشهر واستودعته مالا دفعته له وديعة يحفظه وقد ودع زيد بضم الدال وفتحها وداعة بالفتح والاسم الدعه وهى الراحة وخفض العيش والهاء عوض من الواو والاصل فيها الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تَعَالَى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أهلها " وقوله تعالى " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته " وقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ".
أما السنه: فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أد الامانه إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه أبو داود والترمذي من حديث أبى هريرة (رض)

(14/171)


وقال: حديث حسن.
وأخرجه الحاكم وصححه، وفى إسناده طلق بن غنام عن
شريك واستشهد له الحاكم بحديث أبى التياح عن أنس، وفى إسناده أيوب بن سويد وهو مختلف فيه، وقد تفرد به كما قال الطبراني، وقد استنكره أبو حاتم وقد روى هذا الحديث أيضا البيهقى ومالك.
وفى هذا الباب عن أبى بن كعب عند ابن الجوزى في العلل المتناهية، وفى إسناده من لا يعرف، وأخرجه أيضا الدارقطني.
وعن أبى أمامة عند البيهقى والطبراني بسند ضعيف.
وعن أنس عند الدارقطني والطبراني والبيهقي وأبى نعيم وعن رجل من الصحابة عند أحمد وأبى داود والبيهقي، وفى إسناده مجهول آخر غير الصحابي، لان يوسف بن ماهك رواه عن فلان آخر وقد صححه ابن السكن وعن الحسن مرسلا عند البيهقى.
قال الشافعي رضى الله عنه: هذا الحديث ليس بثابت، وقال أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح.
وقال ابن الجوزى: لا يصح من جميع طرقه، ولا يخفى أن ورود هذا الحديث بهذه الطرق المتعددة مع تصحيح إمامين من الائمه المعتبرين لبعضها، وتحسين إمام ثالث منهم مما يصير به الحديث منتهضا للاحتجاج به.
وقوله " ولا تخن من خانك " فيه دليل على عدم جواز مكافأة الخائن بمثل فعله، فيكون مخصصا للعموم في قوله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " وقوله تعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " وقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ".
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: إن الادلة القاضية بتحريم مال الآدمى ودمه وعرضه عمومها مخصص بهذه الآيات الثلاث، والحديث مخصص لهذه الآيات، فيحرم من مال الآدمى وعرضه ودمه ما لم يكن على طريق المجازاة فإنها حلال إلا الخيانة ولكن الخيانة إنما تكون في الامانة كما يشعر بذلك كلام صاحب القاموس على أن الاحاديث التى يثبت معها أداء الوديعة كثيرة سيأتي كثير منها في فصول هذا الباب إن شاء الله

(14/172)


وأما الاجماع فأجمع علماء كل عصر على جواز الابداع والاستيداع والضرورة تقتضيها وبالناس إليها حاجة فإنه يتعذر على جميعهم حفظ أموالهم بأنفسهم ويحتاجون إلى من يحفظ لهم، واشتقاق الوديعة من السكون يقال ودع وديعه فكأنها ساكنة عند المودع مستقرة، أو هي مشتقه من الخفض والدعه فكأنها في دعة عند المودع وقبولها مستحب لمن يعلم من نفسه الامانه، لان فيها قضاء حاجة أخيه المؤمن ومعاونته وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى

يستحب لمن قدر على حفظ الوديعة وأداء الامانه فيها أن يقبلها لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى " ولما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله تعالى في عون العبد مادام العبد في عون أخيه فإن لم يكن من يصلح لذلك غيره وخاف ان لم يقبل أن تهلك تعين عليه قبولها، لان حرمة المال كحرمة النفس، والدليل عليه ما روى ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " حومة مال المؤمن كحرمة دمه " ولو خاف على دمه لوجب عليه حفظه، فكذلك إذا خاف على ماله وان كان عاجزا عن حفظها أو لا يأمن أن يخون فيها لم يجز له قبولها، لانه يغرر بها ويعرضها للهلاك، فلم يجز له أخذها.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عن ابن عمر، وروى بعضه ابن ماجه واسناده صحيح ورواه الترمذي يلفظ " المسلم أخو السلم لا يخونه
ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، التقوى ههنا، بحسب امرئ من الشر ان يحقر أخاه المسلم " قال الترمذي: حديث حسن أما حديث ابن مسعود رضى الله عنه: فقد رواه أبو نعيم في الحلية.
قال في الجامع الصغير: وهو غريب ضعيف، وقد وردت أحاديث كثيرة بمعناه أظهرها ما جاء في خطبة الوداع " ان الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة

(14/173)


يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هذا " واقتران المال والدم والعرض في حرمتها وتشبيه الحرمة بحرمة مكة في يوم الوقوف من شهر ذى الحجة يدل على صحة التساوى بين المال والدماء.
أما الاحكام فقد اتفق الائمة كلهم على أن الوديعة من القرب المندوب إليها.
واتفقوا على أن حفظها فيه ثواب، وأن قبول حفظها أمانة محضة، وأن الضمان لا يجب على المودع إلا إذا تعدى، وأن القول قوله في تلفها وردها على الاطلاق مع يمينه على تفصيل سيأتي كما سيأتي ما اختلفوا فيه.
أما إذا خاف على الوديعة التلف أو الضياع أو عدم القدرة على حمايتها وكان معرضا للغارة، أو كان له غرماء ولا يأمن أن يستولوا عليها وفاء لحقهم، أو كان لا يأمن أن تحدثه نفسه بالخيانة فيها، وجب عليه بذل النصيحة لصاحبها، ولا يجوز له قبولها، حتى لا يغرر بها ويعرضها للهلاك فلم يجز له أخذها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح الايداع إلا من جائز التصرف في المال، فإن أودعه صبى أو سفيه لم يقبل لانه تصرف في المال، فلم يصح من الصبى والسفيه كالبيع، فإن أخذها منه ضمنها، لانه أخذ ماله من غير إذن فضمنه كما لو غصبه، ولا يبرأ من الضمان إلا بالتسليم إلى الناظر في ماله، كما نقول فيما غصبه من ماله، وإن خاف المودع أنه إن لم يأخذ منه استهلكه فأخذه ففيه وجهان، بناء على القولين في المحرم إذا خلص طائرا من جارجة وأمسكه ليحفظه
(أحدهما)
لا يضمن، لانه قصد حفظه
(والثانى)
يضمن، لانه ثبتت يده عليه من غير ائتمان (الشرح) الاحكام: يشتمل هذا الفصل على أمور: أولها: لا يجوز لاحد أن يقبل الوديعة الا من جائز التصرف، وكما عرفنا من قبل أنه العاقل البالغ ثانيها: إذا أودعه من لا يجوز له التصرف فقبله منه ضمن الوديعة وانتقلت يده من يد أمينة إلى يد ضامنة كالغاصب ثالثها: إذا أراد أن يبرئ ذمته بعد قبض الوديعة فإن عليه أن يسلمها إلى

(14/174)


الناظر في مال الصبى أو المحجور عليه.
رابعها: إذا خشى على مال الصبى أو السفيه التلف أو الهلاك أو التبذير أو استهلاكه في غير ما يصلح شأنه كان عليه أن يقبله صيانة له وحفظا من الضياع، كالمحرم إذا خلص طائرا من جارحة وأمسكه ابتغاء حفظه.
خامسا: إذا قبله على هذا النحو في الامر الرابع هل عليه ضمانه أم لا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن لان أخذه كان ضرورة اقتضاها واجب حفظ المال وصيانته
(والثانى)
وجب عليه الضمان.
لانه استقرت يده على الوديعة من غير توفر شرط الائتمان وهو يتسلمها من غير جائز التصرف فكان عليه الضمان كما أسلفنا في الامر الثاني ولا يزول عنه الضمان بردها إليه، وإنما بدفعها إلى وليه الناظر له في ماله أو الحاكم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح إلا عند جائز التصرف، فإن أودع صبيا أو سفيها لم يصح الايداع، لان القصد من الايداع الحفظ، والصبى والسفيه ليسا من أهل الحفظ، فإن أودع واحدا منهما فتلف عنده لم يضمن، لانه لا يلزمه حفظه فلا يضمنه، كما لو تركه عند بالغ من غير إيداع فتلف، وإن أودعه فأتلفه ففيه وجهان
(أحدهما)
يضمن لانه لم يسلطه على اتلافه فضمنه بالاتلاف، كما لو أدخله داره فأتلف ماله
(والثانى)
لا يضمن، لانه مكنه من اتلافه فلم يضمنه، كما لو باع منه شيئا وسلمه إليه فأتلفه.
(الشرح) الاحكام: كما لا يجوز للعاقل المكلف الرشيد أن يقبل الوديعة من الصبى والسفيه حسبما أسلفنا من البيان، فإنه لا يجوز له أن يودع عند صبى أو سفيه أو مجنون لان الايداع مقصود للحفظ، وهؤلاء ليسوا من أهل الحفظ وهم مفتقرون إلى من يحفظ لهم مالهم، فلا يحفظون مال غيرهم فإذا أودع رجل عند صبى أو معتوه وديعة فتلفت في يده لم يضمنها، سواء حفظها أو فرط فيها، فإن أتلفها أو أكلها أو استهلكها ضمنها في ظاهر المذهب، وبه قال القاضى من الحنابلة والخرقى وابن قدامة، وذهب بعض الحنابلة، وهو

(14/175)


قول أبى حنيفة وبعض أصحابنا إلى أنه لا ضمان عليه، لان ربها سلطه على إتلافها بدفعها إليه، فلا يلزمه ضمانها، ألا ترى أنه لو دفع إلى صغير سكينا فوقع عليها كان ضمانه على عاقلته؟ ولنا أن ما ضمنه باتلافه قبل الايداع ضمنه بعد الايداع كالبالغ، ولا يصح قولهم: إنه سلطه على إتلافها لانه استحفظه إياها، وفارق دفع السكين فانه سبب للاتلاف، ودفع الوديعة بخلاف ذلك (فرع)
إذا ترك ماله عند رجل عاقل من غير إيداع فتلف لا ضمان عليه، كما لو أودعه ويفارق الايداع من حيث التفريط، فلو فرط فيه لم يضمنه في ظاهر المذهب بخلاف المودع وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وتنعقد الوديعة بما تنعقد به الوكالة من الايجاب بالقول، والقبول بالفعل، وتنفسخ بما تنفسخ به الوكالة من العزل والجنون والاغماء والموت، كما تنفسخ الوكالة، لانه وكالة في الحفظ، فكان كالوكالة في العقد والفسخ.
(الشرح) الاحكام: وتتبع الوديعة الوكالة في جوازها وانعقادها وفسخها، فمن هنا لا تنعقد إلا بالايجاب والقبول.
وصورة الايجاب أن يدفع الوديعة إليه - وهذا فعل - فإذا كانت سيارة فأدخلها مرساه أو حظيرته أو جراشه وقال له: هذه سيارتي عندك وديعة صح الايجاب.
أما القبول فبأى لفظ دال على القبول يصح عقد الوديعة أما الفسخ فيجرى فيه ما يجرى في فسخ الوكالة، فإذا أراد المودع ردها انفسخ عقدها، لانه متبرع بالقبول.
وإذا أراد ربها استردادها وفسخ عقدها كان له ذلك لانه مالكها، كما تنفسخ بجنون أحدهما أو موته أو اغمائه، لان استمرار العقد ينبغى أن تتوفر فيه شروط العقد ابتداء، ويبطل العقد ما يمنعه ابتداء.
ففى حالة عزل الوديع نفسه يرد الوديعة إلى ربها، وفى حالة الجنون أو

(14/176)


الاغماء يردها إلى الناظر في مال مالكها، وفى حالة الموت يردها إلى وارثه، فان لم يفعل فقد زال الائتمان وصار ضامنا كالغاصب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والوديعة أمانة في يد المودع، فان تلفت من غير تفريط لم تضمن
لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال " من أودع وديعة فلا ضمان عليه " وروى ذلك عن أبى بكر وعمر وعلى وابن مسعود وجابر رضى الله عنهم، وهو اجماع فقهاء الامصار، ولانه يحفظها للمالك فكانت يده كيده، ولان حفظ الوديعة معروف واحسان، فلو ضمنت من غير عدوان زهد الناس في قبولها، فيؤدى إلى قطع المعروف، فان أودعه وشرط عليه الضمان لم يصر مضمونا لانه أمانة فلا يصير مضمونا بالشرط، كالمضمون لا يصير أمانة بالشرط.
وإن ولدت الوديعة ولدا كان الولد أمانة، لانه لم يوجد فيه سبب يوجب الضمان لا بنفسه ولا بأمه، وهل يجوز له امساكه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز بل يجب أن يعلم صاحبه، كما لو ألقت الريح ثوبا في داره
(والثانى)
يجوز، لان ايداع الام ايداع لما يحدث منها.
(الشرح) حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رواه الدارقطني.
وقال الحافظ ابن حجر: فيه ضعف، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى بلفظ " ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان " وقال الدارقطني: انما نروى هذا عن شريح غير مرفوع.
قال الحافظ ابن حجر: في اسناده ضعيفان.
وقد روى ابن ماجه عن ابن عمرو بلفظ " من أودع وديعة فلا ضمان عليه " وفى اسناده المثنى بن الصباح وهو متروك، وتابعه ابن لهيعه فيما ذكره البيهقى.
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه من حديث أبى أمامة الباهلى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في حجة الوداع " العارية مؤداة، والزعيم غارم "

(14/177)


وحديث الفصل الذى رواه الدارقطني يتجه ضعفه إلى ما اشتهر بين المحدثين من أن عمرو بن شعيب يروى عن أبيه وأبوه شعيب يروى عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، وفى سماع شعيب من جده نظر، وقد أثبتت السماع في حاشيتي على تفسير القرآن للعلامة صديق خان المسمى " بفتح البيان في مقاصد القرآن " الصادرة عن مطبعة الامام.
وشعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو، فالضمير في جده يعود على شعيب لا على عمرو، ويمكن حمل الضمير على عمرو وصرف الجد إلى عبد الله لان جد الاب جد، والمدار على ثبوت لقاء شعيب لجده وسماعه منه، وليس منصرفا إلى جده محمد بن عبد الله بن عمرو أما الاحكام: ففى الحديث دليل على أنه لا ضمان على من كان أمينا على عين من الاعيان كالوديع والمستعير، أما الوديع فلا يضمن بالاجماع إلا لجناية منه على العين.
وقد حكى في البحر الاجماع على ذلك.
وتأول ما حكى عن الحسن البصري أن الوديع لا يضمن إلا بشرط الضمان بأن ذلك محمول على ضمان التفريط لا الجناية المتعمدة، والوجه في تضمينه الجناية أنه صار بها خائنا، والخائن ضامن لقوله صلى الله عليه وسلم " ولا على المستودع غير المغل ضمان " والمغل هو الخائن.
وهكذا يضمن الوديع إذا وقع منه تعد في حفظ العين لانه نوع من الخيانة.
وقد استدل القائلون بالضمان بحديث الحسن البصري عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " زاد أبو داود والترمذي: قال قتادة ثم نسى الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه قال المقبلى في المنار: يستدلون بهذا الحيث على التضمين ولا أراه صريحا، لان اليد الامينة أيضا عليها ما أخذت حتى ترد، والا فليست بأمينة
ومستخبر عن سر ليلى تركته
* بعمياء من ليلى بغير يقين يقولون خبرنا فأنت أمينها
* وما أنا ان خبرتهم بأمين إنما كلامنا هل يضمنها لو تلفت بغير جناية، وليس الفرق بين المضمون

(14/178)


وغير المضمون إلا هذا.
وأما الحفظ فمشترك، وهو الذى تفيده " على " فعلى هذا لم ينس الحسن كما زعم قتادة حين قال " هو أمينك لا ضمان عليه " بعد رواية الحديث.
اه قال الشوكاني " ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام من قلة الجدوى وعدم الفائدة، وبيان ذلك أن قوله " لان اليد الامينة عليها ما أخذت حتى ترد، والا فليست بيد أمينة " يقتضى الملازمة بين عدم الرضا وعدم الامانة، فيكون تلف الوديعة والعارية بأى وجه من الوجوه قبل الرد مقتضيا لخروج الامين عن كونه أمينا وهو ممنوع، فان المقتضى لذلك انما هو التلف بجناية أو خيانه، ولا نزاع في أن ذلك موجب للضمان، إنما النزاع في تلف لا يصير به الامين خارجا عن كونه أمينا كالتلف بأمر لا يطاق دفعه، أو بسبب سهو أو نسيان أو بآفة سماويه أو سرقة، أو ضياع بلا تفريط، فانه يوجد التلف في هذه الامور مع بقاء الامانة " انتهى.
والمقتضى الذى يتوقف عليه فهم الحديث هو الامر المقدور عليه وهو الضمان أو الحفظ، وكل منهما صالح للتقدير ولا يقدران معا، لما تقرر من أن المقتضى لا عموم له، فمن قدر الضمان أوجبه على الوديع والمستعير، ومن قدر الحفظ أوجبه عليهما ولم يوجب الضمان إذا وقع التلف مع الحفظ المعتبر، وبهذا تعرف أن التأدية لغير التالف ليس على ما ينبغى وأما مخالفة رأى الحسن لروايته فقد تقرر في الاصول أن العمل بالرواية
لا بالرأى، لاسيما إذا تعززت الرواية بعمل الصحابة رضوان الله عليهم ورأيهم وفى مقدمتهم أبو بكر وعمر وعلى وابن مسعود وجابر وممن قال بأن الوديعة أمانة لا يترتب على تلفها ضمان من الوديع إذا لم يفرط شريح والنخعي ومالك وأبو الزناد والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأى وأحمد، وعن أحمد رواية أخرى " ان ذهبت الوديعة من بين ماله غرمها لما روى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه ضمن أنس بن مالك وديعة ذهبت من بين ماله، وأصحاب أحمد يرجحون قول الجمهور على هذا القول

(14/179)


دليلنا: أن الله تعالى سماها أمانة والضمان ينافى الامانة، وحديث عمرو بن شعيب وغيره وعمل الصحابة ومن ذكرنا من أئمة أهل العلم، ولان المستودع إنما يحفظها لصاحبها متبرعا من غير نفع يعود عليه فلو لزمه الضمان لامتنع الناس من قبول الودائع، وذلك مضر لما بيناه من الحاجة إليها، وما روى عن عمر محمول على التفريط من أنس في حفظها، فلا ينافى ما ذكرنا.
(فرع)
إذا شرط رب الوديعة على المستودع ضمان الوديعة فقبله أو قال: أنا ضامن لها لم يضمن، وبهذا قال الشافعي والثوري وإسحاق وابن المنذر، وقال أحمد: إذا قال: أنا ضامن لها فسرقت لا شئ عليه، وكذلك كل ما أصله الامانة كالمضاربة ومال الشركة والرهن والوكاله.
دليلنا: أنه شرط ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه فلم يلزمه، كما لو شرط ضمان ما يتلف في يد مالكه، لانه أقامه مقام نفسه وكالمضمون لا يصير أمانة بالشرط
(فرع)
إذا ولدت الوديعة من دابة أو سائمة أو رقيق ولدا، كان ما ولدته أمانة، لانه لا سبب منه ولا من أمه يوجب الضمان، وهل يجوز له إمساكه، باعتبار أنه قدر زاد عن قدر ما أودع عنده؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
لا يجوز، بل يجب أن يعلم صاحبه، كما لو ألقت الريح ثوبا في داره
(والثانى)
يجوز إمساكه، لان إيداع الام إيداع لما يحدث منها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ومن قبل الوديعة نظرت، فإن لم يعين المودع الحرز لزمه حفظها في حرز مثلها، فإن أخر إحرازها فتلفت لزمه الضمان، لانه ترك الحفظ من غير عذر فضمنها، فإن وضعها في حرز دون حرز مثلها ضمن، لان الايداع يقتضى الحفظ، فإذا أطلق حمل على التعارف، وهو حرز المثل، فإذا تركها فيما دون حرز مثلها فقد فرط فلزمه الضمان، وإن وضعها في حرز فوق حرز مثلها لم يضمن لان من رضى بحرز المثل رضى بما فوقه، فإن قال: لا تقفل عليه فأقفل عليه، أو قال: لا تقفل عليه قفلين، فأقفل قفلين، أو قال: لا ترقد عليه فرقد عليه

(14/180)


فالمذهب أنه لا يضمن، لانه زاده في الحرز، ومن أصحابنا من قال: يضمن، لانه نبه اللص عليه وأغراه به.

(فصل)
وان عين له الحرز فقال احفظها في هذا البيت فنقلها إلى ما دونه ضمن لان من رضى حرزا لم يرض بما دونه وإن نقلها إلى مثله أو إلى ما هو أحرز منه لم يضمن، لان من رضى حرزا رضى مثله وما هو أحرز منه، وإن قال له احفظها في هذا البيت ولا تنقلها فنقلها إلى ما دونه ضمن، لانه لم يرض بما دونه وإن نقلها إلى مثلها أو إلى ما هو أحرز منه فَفِيهِ وَجْهَانِ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يضمن لانه جعله في مثله، فأشبه إذا لم ينهه عن النقل.
وقال أبو إسحاق: يضمن لانه نهاه عن النقل فضمنه بالنقل، فإن خاف عليه في الحرز المعين من نهب أو حريق نظرت، فإن كان النهى مطلقا لزمه النقل ولا يضمن، لان النهى عن النقل للاحتياط في حفظها، والاحتياط في هذا
الحال أن تنقل، فلزمه النقل، فإن لم ينقلها حتى تلفت ضمنها لانه فرط في الترك وإن قال: له لا تنقل وإن خفت عليها الهلاك فنقلها لم يضمن، لانه زاده خيرا وان تركها حتى تلفت ففيه وجهان.
قال أبو العباس وأبو إسحاق: لا يضمن، لان نهيه مع خوف الهلاك أبرأ من الضمان وقال أبو سعيد الاصطخرى: يضمن لان نهيه عن النقل مع خوف الهلاك لا حكم له، لانه خلاف الشرع، فيصير كما لو لم ينهه، والاول أظهر، لان الضمان يجب لحقه فسقط بقوله: وان خالف الشرع كما لو قال لغيره: اقطع يدى أو أتلف مالى.
(الشرح) قوله: الحرز المكان الذى يحفظ فيه والجمع أحراز مثل حمل وأحمال، وأحرزت المتاع جعلته في الحرز، ويقال: حرز حريز للتأكيد، كما يقال: حصن حصين واحترز من كذا أي تحفظ وتحرز مثله، ومنه قولهم: أحرز قصب السبق، إذا سبق إليها فضمها دون غيره.
أما الاحكام فإن الوديع إذا لم يعين له رب الوديعة المكان الذى يحفظها فيه، عليه أن يجتهد في حفظها بما يحفظ به مثلها، فإذا اشترط عليه أن يحفظها في

(14/181)


صفائح وكانت زيتا أو سمنا فحفظها في زجاج ابتغاء حفظها من الرشح فكسرت القنائن كان عليه ضمانها لانه خالف مالكها، فإذا أمره أن يحفظها في زجاج فكسرت القنائن فلا ضمان عليه فإذا خالفه وحفظها في براميل أو صفائح لا ينقص منها كيلها ولا وزنها فقد زاد خيرا بهذه المخالفة وكان على أمانته، فلو أمره أن يحفظها في حرز من الجلد فحفظها في قماش ضمن.
فإذا أمره أن لا يقفل عليها فأقفل عليها، أو أمره أن لا يقفل قفلين فأقفل قفلين، أو قال لا ترقد عليها فرقد عليها فظاهر المذهب عدم الضمان لانها أمور تزيد في وسائل الحفظ، وقوة الحرز.
ومن أصحابنا من قال: يضمن، لانه بكثرة احتياطه أو نومه على الصندوق أو شدة اهتمامه يشد انتباه اللصوص إليه.
وقال أصحاب أحمد: إذا بالغ في حفظها من غير حاجة ضمن.
(فرع)
فإذا عين له الحرز فان نقلها إلى ما دونه - أعنى أقل كفاءة في الحفظ - ضمن، فإذا نقلها إلى حرز مثل الذى عينه أو أعلا كفاءة وحفظا؟ ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الاصطخرى: لا يضمن لانه لا فرق بين الحرزين فكان كأن لم ينقلها، أو كأن ربها لم يعينه، أو لم ينهه عن غير ما عينه.
والثانى وهو قول أبى اسحاق المروزى.
يضمن، لانه نهاه عن النقل فإذا خالف انتقل من الائتمان إلى الضمان.
(فرع)
إذا كان الحرز الذى عينه المودع معرضا لخطر الحريق أو السرقة أو كانت رطوبة الارض تنلفه نظرت فان كان نهيه مطلقا بأن قال.
لا تنقلها من هنا لزمه مخالفته، لان النهى أريد به التنبيه والاحتياط لحفظها، فان لم ينقلها حتى تلفت ضمنها لتفريطه بتركها معرضة للتلف.
(فرع)
إذا قال له لا تنقلها وان خفت عليها الهلاك، فخاف عليها الهلاك ونقلها لم يضمن بالمخالفة لانه زاده خيرا، أما إذا لم ينقلها فتلفت فَفِيهِ وَجْهَانِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ.
لا يضمن لان نهيه مع خوف الهلاك أبرأه من الضمان.
قال أبو سعيد الاصطخرى: عليه الضمان، لان هذا النهى يتعارض مع

(14/182)


مسئولية الامين في الاجتهاد وعدم التفريط شرعا، فلا حكم للنهى وكأنه لم يكن وقد رجح الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الاول لانه بهذه الصورة من النهى قد أهدر حقه في الضمان وإن خالف الشرع، كما لو أمر غيره بقطع يده أو إتلاف
ماله فإنه لا ضمان له، وإن أثم الفاعل، وبهذا قال الحنابلة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن أودعه شيئا فربطه في كمه لم يضمن، فإن تركه في كمه ولم يربطه نظرت، فإن كان خفيفا إذا سقط لم يعلم به ضمنه، لانه مفرط في حفظه وإن كان ثقيلا إذا سقط علم به لم يضمن لانه غير مفرط، وان تركه في جيبه فإن كان مزررا أو كان الفتح ضيقا لم يضمن لانه لا تناله اليد، وان كان واسعا غير مزرر ضمن لان اليد تناله.
وان أودعه شيئا فقال: أربطه في كمك فأمسكه في يده فتلف فقد روى المزني أنه لا يضمن، وروى الربيع في الام أنه يضمن، فمن أصحابنا من قال: هو على قولين
(أحدهما)
لا يضمن، لان اليد أحرز من الكم، لانه قد يسرق من الكم ولا يسرق من اليد
(والثانى)
أنه يضمن، لان الكم أحرز من اليد، لان اليد حرز مع الذكر دون النسيان والكم حرز مع النسيان والذكر.
ومن أصحابنا من قال: ان ربطها في كمه وأمسكها بيده لم يضمن، لان اليد مع الكم أحرز من الكم وان تركها في يده ولم يربطها في كمه ضمن، لان الكم أحرز من اليد، وحمل الروايتين على هذين الحالين.
وان أمره أن يحرزها في جيبه فأحرزها في كمه ضمن، لان الجيب أحرز من الكم، لان الكم قد يرسله فيقع منه ولا يقع من الجيب، وان قال احفظها في البيت فشدها في ثوبه وخرج ضمنها، لان البيت أحرز، فان شدها في عضده، فان كان الشد مما يلى أضلاعه لم يضمن، لانه أحرز من البيت، وان كان من الجانب الآخر ضمن، لان البيت أحرز منه، وان دفعها إليه في السوق وقال: احفظها في البيت فقام في الحال ومضى إلى البيت فأحرزها لم يضمن، وان قعد في السوق وتوانى ضمنها لانه حفظها فيما دون البيت.

(14/183)


وان أودعه خاتما وقال: احفظه في البنصر فجعله في الخنصر ضمن، لان الخنصر دون البنصر في الحرز، لان الخاتم في الخنصر أوسع فهى إلى الوقوع اسرع.
وان قال اجعله في الخنصر فجعله في البنصر لم يضمن، لان البنصر أحرز لانه أغلظ والخاتم فيه أحفظ.
وان قال اجعله في الخنصر فلبسه في البنصر فانكسر ضمن لانه تعدى فيه.
(الشرح) هذا الفصل تتلخص أحكامه فيما إذا خالف الوديع المودع وكانت المخالفة من تهاون أو تفريط أو ترتب عليها تلف الوديعة ضمن في كل الصور التى ساقها المصنف، لانه لو قال له اربط الدراهم في كمك فأمسكها بيده فضاعت لارتخاء يده أو انفراج أصابعه بنوم أو غفلة أو نسيان فانه يضمن، لان ضياعها كان بسبب المخالفة.
ولو قال له: اربطها في كمك فربطها ولم يحكم ربطها ضمن.
ولو قال له: ضعها في كور عمامتك فلم يشد عليها العمامة ضمن وهكذا.
والجيب عندهم ما ينفتح على النحر.
قال تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أراد المودع السفر ووجد صاحبها أو وكيله سلمها إليه، فان لم يجد سلمها إلى الحاكم، لانه لا يمكن منعه من السفر، ولا قدرة على المالك ولا وكيله، فوجب الدفع إلى الحاكم، كما لو حضر من يخطب المرأة والولى غائب، فان الحاكم ينوب عنه في التزويج، فإن سلم إلى الحاكم مع وجود المالك أو وكيله ضمن، لان الحاكم لا ولاية له مع وجود المالك أو وكيله، كما لا ولاية له في تزويج المرأة مع حضور الولى أو وكيله، فان لم يكن حاكم سلمها إلى أمين، لان النبي صلى الله عليه وسلم " كانت عنده ودائع فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن واستخلف عليا كرم الله وجهه في ردها، وان سلم إلى أمين مع وجود الحاكم،
ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن وهو ظاهر النص، وهو قول أبى اسحاق لانه أمين فأشبه الحاكم
(والثانى)
يضمن، وهو ظاهر قوله في الرهن.
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى، لان أمانة الحاكم مقطوع بها، وأمانة الامين غير

(14/184)


مقطوع بها فلا يجوز ترك ما يقطع به بما لا يقطع به كما لا يترك النص للاجتهاد فإن لم يكن أمين لزمه أن يسافر بها، لان السفر في هذه الحال أحوط، فإن وجد المالك أو الحاكم أو الامين فسافر بها ضمن، لان الايداع يقتضى الحفظ في الحرز، وليس السفر من مواضع الحفظ، لانه إما أن يكون مخوفا أو آمنا لا يوثق بأمنه، فلا يجوز مع عدم الضرورة.
وأن دفنها ثم سافر نظرت فان كان في موضع لا يد فيه لاحد ضمن، لان ما تتناوله الايدى معرض للاخذ، فان كان في موضع مسكون فان لم يعلم بها أحدا ضمن، لانه ربما أدركته المنية في السفر فلا تصل إلى صاحبها، فإن أعلم بها من لا يسكن في الموضع ضمن، لان ما في البيت انما يكون محفوظا بحافظ، فان أعلم بها من يسكن في الموضع فان كان غير ثقة ضمن، لانه عرضه للاخذ.
وإن كان ثقة فهو كما لو استودع ثقة ثم سافر، وقد بينا حكم من استودع ثم سافر (الشرح) أم أيمن هي بركة بنت ثعلبة بن عمرو مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورثها عن ابيه وهى أم أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وابن حبه، تزوجها زيد بن حارثة بعد أبى أيمن وكان حبشيا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أم أيمن أمي بعد أمي هاجرت بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عائشة وأسماء وزيد وأسامة، وأدركت المدينة والمسجد يبنى وقد عطشت وهى مهاجرة فنزل لها دلو من السماء فشربت فما ظمئت بعد ذلك أبدا، وكانت تقول ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش في الصوم في الهواجر فما عطشت.
والخبر وإن كان شائعا في كتب الفقه، إلا أنه غير موجود في الكتب الستة، وليس في مسند أحمد أو سنن الدارمي أو سنن الدارقطني أو موطأ مالك، وليس في مجمع الزوائد للهيثمي.
وليس في أمهات فقه الحديث كنيل الاوطار وسبل السلام، وليس في شئ من كتب تراجم الصحابة كالاستيعاب وسير أعلام النبلاء.
وليس في كتب السير الا ما في ابن هشام أن ابن اسحاق قال: بلغني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر جعل عليا على الودائع، ولم يذكر شيئا عن أم أيمن رضى الله عنها.

(14/185)


أما الاحكام فانها تشتمل على ما يأتي: (أولا) يجب على الوديع إذا أزمع السفر أن يردها، فان لم يجد ربها فوكيله والا سلمها إلى الحاكم.
قال الشافعي في الام " فان كان المستودع حاضرا أو وكيله لم يكن له أن يسافر حتى يردها إليه أو إلى وكيله، أو يأذن له أن يودعها من رأى فان فعل فأودعها من شاء فهلكت ضمن " وقال الشافعي أيضا " إذا استودع الرجل الرجل وديعة وأراد المستودع سفرا فلم يثق بأحد يجعلها عنده فسافر بها برا أو بحرا فهلكت ضمن.
وكذلك لو أراد سفرا فجعل الوديعة في بيت مال المسلمين فهلكت ضمن " اه (قلت) وهذا واضح من كلام المصنف أن الحاكم لا ولاية له مع وجود المالك (ثانيا) إذا لم يقدر على ردها أو ايداعها عند الحاكم فقد قال الشافعي " وان كان غائبا فأودعها من يودع ماله ممن يكون أمينا فهلكت لم يضمن، فان أودعها من يودع ماله ممن ليست له أمانة فهلكت ضمن " ثم قال " لانه يجوز أن يوكل بماله غير أمين، ولا يجوز له أن يوكل بأمانته غير أمين. اه
(ثالثا) إذا أودعها أمينا مع وجود الحاكم فعلى الوجهين
(أحدهما)
وهو
ظاهر النص الذى أسلفنا نقله لا يضمن، وبه أخذ أبو إسحاق المروزى
(والثانى)
وهو ظاهر قول الشافعي في الرهن حيث يقول " وإذا أراد العدل الذى عليه الرهن الذى هو غير الراهن والمرتهن رده بلا علة أو لعلة والمرتهن والراهن حاضران فله ذلك وان كانا غائبين أو أحدهما لم يكن له اخراجه من يدى نفسه، فان فعل بغير أمر الحاكم فهلك ضمن، وان جاء الحاكم فان كان له عذر أخرجه من يديه.
وذلك أن يبدو له سفر أو يحدث له.
وان كان مقيما لشغل أو علة، وان لم يكن له عذر يحبسه ان كان قريبا حتى يقدما أو يوكلا، فان كانا بعيدا لم أر عليه أن يضطره إلى حبسه، وانما هي وكالة وكل بها بلا منفعة له فيها، ويسأله ذلك فان طابت نفسه بحبسه والا أخرجه إلى عدل غيره " اه ولان أمانة الحاكم أمر قطعي وأمانة غيره كالامين أمر ظنى والقطعي مقدم على الظنى، كالنص يرد الاجتهاد

(14/186)


(رابعا) وإن أراد السفر بها وقد نهاه المالك عن ذلك ضمنها لانه مخالف لصاحبها، وإن لم يكن نهاه لكن الطريق مخوف أو البلد الذى يسافر إليه مخوف ضمنها لانه فرط في حفظها، وإن لم يكن كذلك فله السفر بها عند أحمد وأبى حنيفة سواء كان به ضرورة إلى السفر أو لم يكن.
وقال الشافعي: إن سافر بها مع القدرة على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو أمين ضمنها لانه يسافر بها من غير ضرورة، أشبه ما لو كان السفر مخوفا.
دليلنا: أنه متى سافر بها مع القدرة على مالكها أو نائبه أو الحاكم بغير إذنه فهو مفرط عليه الضمان، لانه يفوت على صاحبها إمكان استرجاعها، ويخاطر بها لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ المسافر لعلى قلت إلا ما وقى الله " والقلت الهلاك على ما أسلفنا القول.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن حضره الموت فهو بمنزلة من حضره السفر، لانه لا يمكنه الحفظ مع الموت بنفسه: كما لا يمكنه الحفظ مع السفر، وقد بينا حكمه، وإن قال في مرضه: عندي وديعة ووصفها، ولم يوجد ذلك في تركته، فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق: لا يضرب المفر له مع الغرماء بقيمتها، لان الوديعة أمانة فلا يضمن بالشك، ومن أصحابنا من قال يضرب المقر له بقيمتها مع الغرماء وهو ظاهر النص، لان الاصل وجوب ردها، فلا يسقط ذلك بالشك.
(الشرح) قوله: لا يضرب المقر له.
قال ابن بطال: مأخوذ من الضارب الذى يضرب بالقداح، وهو الموكل بها، ومثله الضريب والجمع الضرباء، لانه يضرب مع الغرماء بسهم.
أما الاحكام فقد قال المصنف: ان حكم الميت حكم المسافر، وقد مضى في الفصل قبله.
أما إذا قال في مرض الموت: عندي وديعة ثم وصفها، فلما مات لم توجد في تركته فقد اختلف فيه أصحابنا، فقد ذهب أبو إسحاق المروزى إلى أنها أمانة لا يجوز أن يسقط الائتمان فيه بالشك، ومن ثم لا يضرب مالكها مع

(14/187)


الغرماء، ومنهم من قال بظاهر النص في مختصر المزني حيث يقول الشافعي " وإذا استودع الرجل الوديعة فمات المستودع وأقر بالوديعة بعينها، أو قامت عليها بينة - وعليه دين يحيط بماله - كانت الوديعة لصاحبها، فإن لم يعرف الوديعة بعينها ببينة تقوم ولا إقرار من الميت، وعرف لها عدد أو قيمة كان صاحب الوديعة كغريم من الغرماء " قلت: وذلك أقيس، لان الله تعالى أمر برد الامانات إلى أهلها، فكان ردها واجبا، ولا يرد الواجب بمجرد الشك.
(فرع)
إذا أوصى وصيته كتابة وبين فيها وصف الوديعة ووجدت مطابقة
لوصفه كانت الوصية بمثابة بينة لصاحبها إذا كان تحريرها مؤرخا في تاريخ قريب من يوم موته، فإن كان في تاريخ بعيد نظرت، فإذا ظهرت احتمالات شرائها من مالكها أو وجدت مبايعة محررة بتاريخ لاحق بطلت الوصيه واعتبرت المبايعة أما إذا وضعها في حرز أو ظرف وكتب عليها اسم صاحبها: فلا تعد هذه الكتابة بينة لمالكها، لانه يحتمل أن يكون الظرف أو الحرز لوديعة قبل هذه، أو كانت وديعة فابتاعها.
(فرع)
إذا وجد بين أوراق الميت بيان بأن لفلان عندي وديعه لم يلزمه بذلك لجواز أن يكون قد ردها ونسى أن يضرب على ما كتب، أو غير ذلك.
(فرع)
قال الشافعي: وإذا مات الرجل وعليه دين معروف وقبله وديعة بعينها فإن أبا حنيفه يقول: جميع ما ترك بين الغرماء وصاحب الوديعة بالحصص وكذلك قال ابن أبى ليلى ثم ساق رواية أبى حنيفة عن إبراهيم مثله، ورواية الحجاج بن أرطاة عن عطاء وإبراهيم مثله.
(فرع)
إذا ترك الوديع الوصية عند الاشراف على الموت - والوصية كما ستأتي إن شاء الله تعالى مفصلة - أن يعلم بها القاضى أو الامين عند عدم وجود القاضى مع ذكر صفاتها إن كانت غائبه، أو الاشارة إليها إن كانت حاضرة مع الامر بردها إلى المالك أو وكيله فورا، وعلى الوديع إذا مرض مرضا مخوفا أن يبادر بردها إلى ربها أو وكيله فان لم يقدر ردها إلى الحاكم العادل إن وجده، أو يوصى بها إلى من ذكرنا، فان لم يكن حاكم ردها إلى أمين، فان لم يفعل ضمنت

(14/188)


في تركته، وكذا لو أوصى بها إلى فاسق ضمن، وقد ذهب السبكى إلى الضمان إذا تلفت بعد الموت لا قبله وكان لم يوص أو يودع كما أسلفنا، وذهب الاسنوى إلى أنه يصير ضامنا بمجرد المرض حتى لو تلفت بآفة سماوية لتفريطه في ردها، ومحل
هذا كله عند التمكن منه ان بالرد أو الايداع أو الوصية، أما موت الفجاءة أو الغيلة فلا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أودع الوديعة غيره من غير ضرورة ضمنها لان المودع لم يرض بأمانة غيره، فان هلكت عند الثاني جاز لصاحبها أن يضمن الاول، لانه سلم ما لم يكن له تسليمه، وله أن يضمن الثاني، لانه أخذ ما لم يكن له أخذه فان ضمن الثاني نظرت، فان كان قد علم بالحال لم يرجع بما ضمنه على الاول، لانه دخل على أنه يضمن فلم يرجع.
فان لم يعلم ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يرجع لانه دخل على أنه أمانه.
فإذا ضمن رجع على من غره
(والثانى)
أنه لا يرجع.
لانه هلك في يده فاستقر الضمان عليه.
فان ضمن الاول.
فان قلنا: ان الثاني إذا ضمن يرجع على الاول - لم يرجع الاول عليه وان قلنا انه لا يرجع رجع الاول عليه.
فأما إذا استعان بغيره في حملها ووضعها في الحرز.
أو سقيها أو علفها.
فانه لا يضمن.
لان العادة قد جرت بالاستعانة ولانه ما أخرجها عن يده ولا فوض حفظها إلى غيره.
(الشرح) قوله: يضمن الاول - من ضمن يضمن بتضعيف الميم لتتعدى إلى مفعولين.
ومعناها ألزمه بالضمان.
وقال بعض الفقهاء: الضمان مأخوذ من الضم.
وهو غلط من جهة الاشتقاق.
لان نون الضمان أصلية.
وضمنت الشئ كذا جعلته محتويا عليه هكذا ذكر الفيومى في المصباح.
(أما الاحكام) فقد قال المزني: قال الشافعي: وإذا أودع الرجل الوديعة فاستودعها غيره ضمن ان تلفت.
لان المستودع رضى بأمانته لا أمانة غيره ولم يسلطه على أن يودعها غيره.
وكان متعديا ضامنا ان تلفت اه.

(14/189)


(قلت) للايداع لدى غيره صورتان (إحداهما) أن يودعها غيره لغير عذر فعليه الضمان بغير خلاف في المذهب.
وهو قول شريح ومالك وأحمد وأصحابه وأبى حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه.
وقال ابن أبى ليلى لا ضمان عليه، لان عليه حفظها وإحرازها.
وقد أحرزها عند غيره وحفظها به.
ولانه يحفظ ماله بإيداعه، فإذا أودعها فقد حفظها بما يحفظ به ماله فلم يضمنها، كما لو حفظها في حرزه.
دليلنا أنه خالف المودع فضمنها، كما لو نهاه عن ايداعها، فإنه أمره بحفظها بنفسه ولم يرض لها غيره فإذا ثبت هذا فان له تضمين الاول وليس للاول الرجوع على الثاني لانه دخل معه في العقد على أنه أمين لا ضمان عليه، فان أحب المالك تضمين الثاني كان له ذلك.
وقال أبو حنيفة ليس له تضمين الثاني.
وهذا هو ظاهر كلام أحمد إذ ذكر الضمان على الاول فقط.
دليلنا أنه أخذ ما لم يكن له أخذه، فإذا استعمل المالك حقه وضمنه، فان لم يكن يعلم - أعنى الوديع الثاني - بأن هذه الوديعة ليست لمن أودعها إياه ففى رجوع الثاني على الاول وجهان
(أحدهما)
أنه يرجع عليه لانه غره ولم يوضح له الامر
(والثانى)
لا يرجع لانها تلفت في يده فاستقر الضمان عليه، فان قلنا بالوجه الاول برجوع الثاني على الاول فليس للاول أن يرجع عليه.
وإن قلنا بالوجه الثاني رجع عليه وإن كان يعلم فلم يغرر به الاول فليس له الرجوع عليه وجها واحدا (فرع)
للوديع أن يعين للوديعة إن كانت ماشية من يقوم على رعيها وسقيها، فان كانت تحتاج إلى حمل أو تنظيف أو صيانة فعهد بذلك لمن يقوم به مما جرى العرف ولا يعد هذا إيداعا لغيره وسيأتى مزيد له.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أودعه دراهم فخلطها بمثلها من ماله ضمن، لان صاحبها لم يرض أن يخلط ماله بمال غيره، فان خلطها بدراهم لصاحب الدراهم ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن، لان الجميع له
(والثانى)
أنه يضمن وهو الاظهر، لانه

(14/190)


لم يرض أن يكون أحدهما مختلطا بالآخر.
وإن أودعه دراهم في كيس مشدود فحله أو خرق ما تحت الشد ضمن ما فيه، لانه هتك الحرز من غير عذر، وإن أودعه دراهم في غير وعاء فأخذ منها درهما ضمن الدرهم لانه تعدى فيه ولا يضمن الباقي لانه لم يتعد فيه، فان رد الدرهم فان كان متميزا بعلامة لم يضمن غيره، وان لم يتميز بعلامة فقد قال الربيع يضمن الجميع، لانه خلط المضمون بغيره فضمن الجميع.
والمنصوص أنه لا يضمن الجميع، لان المالك رضى أن يختلط هذا الدرهم بالدراهم فلم يضمن.
فان أنفق الدرهم ورد بدله، فان كان متميزا عن الدراهم لم يضمن الدراهم لانها باقية كما كانت، وإن كان غير متميز ضمن الجميع لانه خلط الوديعة بمالا يتميز عنها فضمن الجميع (الشرح) الاحكام: إذا خلط دراهمه بمثلها من دراهمه ضمن عندنا، وبهذا قال الشافعي وأحمد وأصحاب الرأى.
وقال مالك: لا يضمن.
وقال ابن القاسم من المالكية: إن خلط دراهم بدراهم على وجه الحرز لم يضمن قال في الام: ولو أودعه عشرة دراهم فتعدى منها في درهم فأخرجه فأنفقه ثم أخذه فرده بعينه ثم هلكت الوديعة ضمن الدرهم ولا يضمن التسعة، لانه تعدى بالدرهم ولم يتعد بالتسعة، وكذلك إن كان ثوبا فلبسه ثم رده بعينه ضمنه وقال الربيع: قول الشافعي: إن كان الدرهم الذى أخذه ثم وضع عينه معروفا من الدراهم ضمن عينه ولم يضمن التسعة.
وان كان لا يتميز ضمن العشرة.
انتهى من الام، ولم أطلع على قول الربيع الذى أشار إليه الشيخ أبو إسحاق

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان أودعه دابة فلم يسقها ولم يعلفها حتى ماتت ضمنها، لانها ماتت بسبب تعدى به فضمنها، وان قال لا تسقها ولا تعلفها فلم يسقها ولم يعلفها حتى ماتت ففيه وجهان.
قال أبو سعيد الاصطخرى: يضمن لانه لا حكم لنهيه، لانه يجب عليه سقيها وعلفها، فإذا ترك ضمن كما لو لم ينه عن السقى والعلف وقال أبو العباس وأبو إسحاق: لا يضمن.
لان الضمان يجب لحق المالك، وقد رضى بإسقاطه.

(14/191)


(الشرح) الاحكام، قال الشافعي في الام: وإذا أودع الرجل الرجل الدابة فأمره بسقيها وعلفها، فأمر بذلك من يسقى دوابه ويعلفها فتلفت من غير جناية لم يضمن، وان كان سقى دوابه في داره فبعث بها خارخا من داره ضمن قال وإذا استودع الرجل الرجل الدابة فلم يأمره بسقيها ولا علفها فحبسها المستودع مدة إذا أتت على مثلها لم تأكل ولم تشرب تلفت فتلفت فهو ضامن.
وإن كانت تلفت في مدة قد تقيم الدواب في مثلها ولا تتلف فتلفت لم يضمن ممن تركها.
وإذا دفع إليه الدابة.
اه (قلت) فإذا أودعه بهيمة فأمره بعلفها وسقيها كان واجبا ذلك لوجهين.
(الاول) لحرمة صاحبها
(والثانى)
لحرمة البهيمة لحديث " دخلت امرأة النار في هرة " وإن لم يأمره بقيت في ذمته حرمة البهيمة، كما لو أطلق ولم يأمره.
وبهذا قال أحمد والشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يلزمه لانه استحفظه اياها ولم يأمره بعلفها والعلف على مالكها، فإذا لم يعلفها كان التفريط من مالكها دليلنا أنه لا يجوز له إتلافها أو التفريط فيها، فإذا أمره بحفظها تضمن الامر علفها وسقيها.
فان قدر المستودع على صاحبها أو وكيله طالبه بالانفاق عليها أو يردها عليه أو يأذن له في الانفاق عليها ليرجع به عليه.
فإذا عجز عن صاحبها أو وكيله رفع الامر إلى الحاكم، فان وجد لصاحبها مالا أنفق عليها منه، وان لم يجد مالا فعل ما يرى لصاحبها الحظ فيه من اجارتها أو بيع جزء منها فان تعذر عليه، علفها وأشهد على ذلك ليرجع به عليه، فإذا نهاه عن إطعامها لتخمة حاصلة لها فأطعمها فتلفت ضمن بالتعدي والمخالفة لعلمه بعلة النهى.
وبهذا قال أحمد وأصحابه.
وقال بعضهم يضمن مطلقا.
أما إذا نهاه عن إطعام بهيمة سليمة فانه لا يضمن إذا تلفت، وعليه إثم ترك إطعامها، لان الضمان يجب لحق المالك وقد أسقطه، وهو قول أبى العباس ابن سريج وأبى إسحاق المروزى.
وقال أبو سعيد الاصطخرى يضمن إذ لا حكم لنهيه عما أوجبه الله من حرمة البهيمه.
وقال الزركشي " لو كانت الدابة ملكا لغيره، كأن أودع الولى حيوان

(14/192)


محجوره فيشبه أن نهيه كالعدم.
قال الشافعي: وإذا أودع الرجل الرجل شيئا من الحيوان ولم يأمره بالنفقة عليه انبغى له أن يرفعه إلى الحاكم حتى يأمره بالنفقة عليه ويجعله دينا على المستودع، ويوكل الحاكم بالنفقة من يقبضها منه وينفقها غيره لئلا يكون أمين نفسه أو ببيعها، وإن لم يفعل فأنفق عليها فهو متطوع ولا يرجع عليه بشئ، وإذا خاف هلاك الوديعة فحملها إلى موضع آخر فلا يرجع بالكراء على رب الوديعة لانه متطوع.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا أخرج الوديعة من الحرز لمصلحة لها، كإخراج الثياب للتشرير لم يضمن، لان ذلك من مصلحة الوديعة، ومقتضى الايداع فلم يضمن به، وإن
اخرجها لينتفع بها ضمنها، لانه تصرف في الوديعة بما ينافى مقتضاها فضمن به.
كما لو أحرزها في غير حرزها، فإن كان دابة فأخرجها للسقي والعلف إلى خارج الحرز، فإن كان المنزل ضيقا لم يضمن لانه مضطر إلى الاخراج، وإن كان المنزل واسعا ففيه وجهان
(أحدهما)
يضمن، وهو المنصوص، وهو قول أبى سعيد الاصطخرى.
لانه أخرج الوديعة من حرزها من غير حاجة فضمنها، كما لو أخرجها ليركبها.

(والثانى)
أنه لا يضمنها.
وهو قول أبى إسحاق، لان العادة قد جرت بالسقى والعلف خارج المنزل، وحمل النص عليه إذا كان الخارج غير آمن.
وان نوى إخراجها للانتفاع كاللبس والركوب، أو نوى أن لا يردها على صاحبها، ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول أبى العباس أنه يضمن كما يضمن اللقطة إذا نوى تملكها
(والثانى)
وهو قول القاضى أبى حامد المروروذى أنه ان نوى اخراجها للانتفاع بها لم يضمن.
وان نوى أن لا يردها ضمن، لان بهذه النية صار ممسكا لها على نفسه، وبالنية الاولى لا يصير ممسكا على نفسه (والثالث) وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يضمن، لان الضمان انما يكون بفعل يوقع في العين، وذلك لم يوجد.
(الشرح) الاحكام: هناك بعض الودائع لا تحفظ الا بتعريضها للهواء أو الشمس في بعض الاوقات مع عدم المبالغة حتى لا يحول لونها لتأثير الهواء والشمس

(14/193)


على ألوان النسيج وغيره كما هو مشاهد ومعروف في علم الكيمياء حتى ان الضوء له تأثير على الالوان، فإذا شررها - أي نشرها - بفرض حفظها فتلفت أو حالت ألوانها لم يضمن، وإذا بسط السجاد واستعمله حتى لا يتلف بتخزينه كان له استعمالها استعمالا يحفظها، فان هلكت فلا يضمن لانه إذا أهملها تلفت، ولان ذلك من مصلحتها فلم يضمن وقال بعض أصحابنا: لا يضمن الا إذا تحقق أن السارق دله على الموضع بعض من دخل أولا أو دله عليها وان لم يحدد موضعها، فلو أخرجها ليركبها أو كان ثوبا ليلبسه ضمن، أو نوى أن لا يردها على صاحبها فعلى ثلاثة أوجه: (أحدها) وهو قول ابن سريج أنه يضمن، لانه نوى امتلاكها، كما لو التقط شيئا ونوى امتلاكه
(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد أنه لا يضمن في الانتفاع ويضمن في عدم الرد (والثالث) وهو قول أكثر الاصحاب أنه لا يضمن لان نية الامتلاك لا تؤثر في عين الوديعة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أخذت الوديعة منه قهرا لم يضمن لانه غير مفرط في ذلك، وان أكره حتى سلمها ففيه وجهان، بناء على القولين فيمن أكره حتى أكل في الصوم
(أحدهما)
أنه يضمن، لان فوت الوديعة على صاحبها لدفع الضرر عن نفسه، فأشبه إذا أنفقها على نفسه لخوف التلف من الجوع
(والثانى)
أنه لا يضمن لانه مكره فأشبه إذا أخذت بغير فعل من جهته
(فصل)
وان طالبه المودع برد الوديعة فأخر من غير عذر ضمن لانه مفرط، فان أخرها لعذر لم يضمن لانه غير مفرط
(فصل)
وان تعدى في الوديعة فضمنها ثم ترك التعدي في الوديعة لم يبرأ من الضمان لانه ضمن العين بالعدوان فلم يبرأ بالرد إلى المكان، كما لو غصب من داره شيئا ثم رده إلى الدار، فإن قال المودع أبرأتك من الضمان أو أذنت لك في حفظها ففيه وجهان
(أحدهما)
يبرأ من الضمان وهو ظاهر النص، لان الضمان يجب لحقه فسقط بإسقاطه
(والثانى)
لا يبرأ حتى يردها إليه، لان الابراء انما يكون عن حق في الذمه، ولا حق له في الذمة فلم يصح الابراء

(14/194)


(الشرح)
الاحكام: فرق المصنف بين الاخذ منه قهرا وتسليمها للظالم قهرا فالاخذ قهرا بدون أن يسلم فيها حتى استطاع الظالم أن ينتزعها لم يضمن، أما إذا أكره على تسليمها فسلمها، فإن للمالك تضمينه على أصح الوجهين إذ لا فرق بين أن يسلمها مجبرا وبين أن يسلمها مختارا، ويرجع الوديع على الظالم بما غرمه كما يرجع المالك أيضا، وعلى الوجه الثاني: ليس للمالك تضمين الوديع، لانه أكره ويرجع المالك على الظالم في كلا الحالين، وهما مبنيان على الوجهين فيمن أكره في الصوم على الاكل.

(أحدهما)
لا يكون مفطرا
(والثانى)
يحكم بإفطاره.
ويجب على الوديع إنكار الوديعة عن الظالم والامتناع عن اعلامه بها جهده، فإن ترك ذلك مع القدرة ضمن، ويجوز له أن يحلف على ذلك لحفظها، ويجب عليه إذا أمكنته التوريه أن يورى فإن لم يمكنه صرح بغير تورية منكرا لها وكفر عن يمينه (فرع)
لا خلاف في وجوب رد الوديعة على مالكها إذا طلبها لقوله تَعَالَى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أهلها " ولقوله صلى الله عليه وسلم " أد الامانة إلى من ائتمنك " يعنى عند طلبها، ولانها حق لمالكها لم يتعلق بها حق غيره فلزم أداؤها له كالمغصوب والدين الحال، فإن أمتنع فتلفت ضمنها لانه صار غاصبا لامساكه مال غيره بغير إذنه، أما ان طلبها في وقت لا يمكن دفعها إليه لبعدها أو لمخافة في طريقها أو للعجز عن حملها أو غير ذلك لم يكن متعديا بترك تسليمها لان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فان تلفت لم يضمنها لعدم عدوانه، فإذا قال: أمهلوني حتى أقضى صلاتي أو آكل لانى جائع أو أنام فانى ناعس أو ينهضم عنى الطعام فانى ممتلئ أمهل بقدر ذلك.
(فرع)
إذا تعدى في الوديعة بأى من أنواع التعدي كجحودها ثم عاد فأقر بها انتقلت يده من الائتمان إلى الضمان ولو زالت أسباب ذلك بالاقرار فانه يبقى على الضمان ولا يبرأ منه الا بالرد وان أقام البينة على تلفها بعد جحودها لم يسقط عنه الضمان، فلو أقام البينة بتلفها قبل جحودها فهل تسمع بينته؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا تسمع بينته لانه مكذب لها بانكاره الايداع.
والثانى: تسمع بينته،

(14/195)


فإذا أبرأه المودع من الضمان، أو أذن له في حفظها بعد ذلك فوجهان.
أحدهما وهو ظاهر قول الشافعي: يبرأ من الضمان، لان الضمان وجب لحقه فسقط باسقاطه له.
والثانى: لا يبرأ حتى يردها على ربها لان الابراء لا يكون الا عن حق في الذمة فلم يصح.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
إذا اختلف المودع والمودع فقال أودعتك وديعة وأنكرها المودع فالقول قوله، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَوْ أَنَّ الناس أعطوا بدعاويهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه والبينة على من أنكر " ولان الاصل أنه لم يودعه فكان القول قوله.

(فصل)
وان ادعى أنها تلفت نظرت، فإن ادعى التلف بسبب ظاهر كالنهب والحريق لم يقبل حتى يقيم البينه على وجود النهب والحريق، لان الاصل أن لا نهب ولا حريق، ويمكن إقامة البينة عليها، فلم يقبل قوله من غير بينة فان أقام البينة على ذلك أو ادعى الهلاك بسبب يخفى فالقول قوله مع اليمين أنها هلكت، لان الهلاك يتعذر إقامة البينة عليه، فقبل قوله مع يمينه.

(فصل)
وإن اختلفا في الرد فالقول قوله مع يمينه، لانه أخذ العين لمنفعة المالك فكان القول في الرد قوله، وإن ادعى عليه أنه أودعه فأنكر الايداع
فأقام المودع بينة بالايداع فقال المودع: صدقت البينه أودعتني، ولكنها تلفت أو رددتها لم يقبل قوله، لانه صار خائنا ضامنا فلا يقبل قوله في البراءة بالرد والهلاك، فإن قال: أنا أقيم البينة بالتلف أو الرد ففيه وجهان
(أحدهما)
أنها تسمع، لانه لو صدقه المدعى ثبتت براءته، فإذا قامت البينه سمعت
(والثانى)
لا تسمع، لانه كذب البينة بإنكاره الايداع، فأما إذا ادعى عليه أنه أودعه فقال: ماله عندي شئ فأقام البينه بالايداع فقال: صدقت البينه أودعتني، ولكنها تلفت أو رددتها قبل قوله مع اليمين لانه صادق في إنكاره أنه لا شئ عنده، لانها إذا تلفت أو ردها عليه لم يبق له عنده شئ والله أعلم.

(14/196)


(الشرح) الحديث سبق وسبق تخريجه.
اما الاحكام: فإنه إذا ادعى عليه أنه أودعه وديعة فقال: مالك عندي شئ أو لا تستحق على شيئا فالقول قوله.
فإذا أقام المالك البينة فأقر الوديع قائلا: صدقت بالبينه ولكنها تلفت، أو قال: ولكني رددتها اليك لم يقبل قوله، لانه خان بجحوده، فلا يقبل قوله في التلف أو الرد.
وقد جمع الاستاذ محمد الخضراوي من فقهائنا المعاصرين عناصر ذات فائدة في أحكام دعوى الرد على المالك أو وارثه، قال أثابه الله: وإذا ادعى الوديع رد الوديعة على من ائتمنه من مالك وحاكم وولى ووصى وقيم، صدق بيمينه، وإن أشهد عليه بها عند دفعها لانه ائتمنه.
أما لو ضمنها بتفريط أو عدوان فانه لا يقبل دعواه ردها، ويجرى ما ذكر في كل أمين أو وكيل وشريك وعامل قراض وجاب في رد ما جباه على الذى استأجره للجباية كما قاله ابن الصلاح وأمين ادعى الرد على الوديع إذا أودعه عند سفره، لانه ائتمنه بناء على أن للوديع الاسترداد إذا عاد من سفره، وهو المعتمد بخلاف ما إذا ادعى الرد على المالك فانه لا يصدق لانه لم يأتمنه.
ولا يصدق ملتقط الشئ ولا من ألقت عليه الريح ثوبا في الرد إلى المالك، لانه لم يأتمنهما وضابط الذى يصدق بيمينه في الرد هو كل أمين ادعى الرد على من ائتمنه الا المرتهن والمستأجر فانهما يصدقان في التلف لا في الرد، لانهما أخذا العين لغرض أنفسهما.
قال ابن القاص وغيره: كل مال تلف في يد أمين من غير تعد لا ضمان عليه الا فيما إذا استسلف السلطان لحاجة المساكين زكاة قبل حلولها، فتلفت في يده، فيضمنها لهم.
وإذا ادعى الوديع الرد على غير من ائتمنه كوارث المالك، أو ادعى وارث الوديع الرد للوديع منه لا من مورثه على المالك أو أودع عند سفره أمينا فادعى الامين الرد على المالك طولب كل من ذكر ببينة بالرد على من ذكر، إذ الاصل عدم الرد ولم يأتمنه.
أما إذا ادعى الوارث الرد من مورثه فانه يصدق بيمينه، وصرح به البغوي

(14/197)


وقال الرافعى وهو الوجه، لان الاصل عدم حصولها في يده.
وقال ابن أبى الدم انه الاصح، وخالف في ذلك المتولي وقال: يطالب بالبينة.
ولو تنازع الوديعة بأن ادعى كل منهما أنه ملكه، فصدق الوديع أحدهما بعينه فللآخر تحليفه، فان حلف سقطت دعوى الآخر، وان نكل حلف الآخر وغرم له الوديع القيمة، وان صدقهما فاليد لهما والخصومة بينهما، وان قال: هي لاحدكما ونسيته، وكذباه في النسيان ضمن كالغاصب، والغاصب إذا قال: المغصوب لاحدكما وأنسيته، فحلف أحدهما على البت أنه لم يغصبه تعين المغصوب للآخر بلا يمين.
ولو ادعى الوارث علم الوديع بموت المالك، وطلب منه الوديعة فله تحليفه على نفى العلم بذلك، فان نكل الوارث وأخذها، وان قال الوديع: حبستها عندي لانظر هل أوصى بها مالكها أم لا؟ فهو متعد ضامن.
(مسألة)
سئل الشيخ عز الدين عن رجل تحت يده وديعه ولم يعرف صاحبها وأيس من معرفته بعد البحث التام فقال: يصرفها في أهم مصالح المسلمين ويقدم اهل الضرورة ومسيس الحاجة، ولا يبنى بها مسجدا، ولا يصرفها الا فيما يجب على الامام العادل صرفها فيه، وان جهله فليسأل أورع العلماء بالمصالح الواجبة التقديم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(14/198)