المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الشفعة

وتجب الشفعة في العقار لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشفعة في كل شرك لم يقسم، ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فان باعه ولم يؤذنه فهو أحق به، ولان الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك فثبتت فيه الشفعة لازالة الضرر.

(فصل)
وأما غير العقار من المنقولات فلا شفعة فيه لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شفعه إلا في ربعة أو حائط وأما البناء والغراس، فإنه إن بيع مع الارض ثبتت فيه الشفعة لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ له شريك في ربع أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن رضى أخذه، وإن كرهه تركه ولانه يراد للتأبيد فهو كالارض، فإن بيع منفردا لم تثبت فيه الشفعة لانه ينقل ويحول فلم تثبت فيه الشفعة واختلف أصحابنا في النخل إذا بيعت مع قرارها مفردة عما يتخللها من بياض الارض فمنهم من قال: تثبت فيه الشفعة لانه فرع تابع لاصل ثابت.
ومنهم من قال: لا شفعة فيها، لان القرار تابع لها، فإذا لم تجب الشفعة فيها إذا بيعت مفردة لم تجب فيها وفى تبعها، وإن كانت دار أسفلها لواحد وعلوها
مشترك بين جماعة، فباع أحدهم نصيبه فإن كان السقف لصاحب السفل لم تثبت الشفعة في الحصة المبيعة من العلو، لانه بناء منفرد، وإن كان السقف للشركاء في العلو ففيه وجهان، أحدهما لا تثبت فيه الشفعة، لانه لا يتبع أرضا.
والثانى: تثبت لان السقف أرض لصاحب العلو يسكنه، ويأوى إليه فهو كالارض.

(فصل)
وإن بيع الزرع مع الارض أو الثمرة الظاهرة مع الاصل لم

(14/299)


تؤخذ مع الاصل بالشفعة، لانه منقول فلم يؤخذ مع الارض بالشفعة كثيران الضيعه، فإن بيع وفيه ثمرة غير مؤبرة ففيه وجهان
(أحدهما)
تؤخذ الثمرة مع الاصل بالشفعة، لانها تبعت الاصل في البيع فأخذت معه بالشفعة كالغراس.

(والثانى)
لا تؤخذ لانه منقول فلم تؤخذ مع الاصل كالزرع والثمرة الظاهرة.

(فصل)
ولا تثبت الشفعة إلا للشريك في ملك مشاع، فأما الجار والمقاسم فلا شفعة لهما لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إنما جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، ولان الشفعة إنما تثبت لانه يدخل عليه شريك فيتأذى به، فتدعو الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر بنقصان قيمة الملك، وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق.
وهذا لا يوجد في المقسوم.

(فصل)
ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطللب، فأما ما لا تجب قسمته كالرحا والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة.
وقال أبو العباس: تثبت فيه الشفعة لانه عقار فثبت فيه الشفعة قياسا على ما تجب قسمته، والمذهب الاول، لما روى عن أمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر والارف تقطع كل شفعة، ولان الشفعه إنما تثبت للضرر الذى يلحقه بالمقاسمة،
وذلك لا يوجد فيما لا يقسم.
وأما الطريق المشترك في درب مملوك ينظر فيه، فان كان ضيقا إذا قسم لم يصب كل واحد منهم طريقا يدخل فيه إلى ملكه فلا شفعة فيه، وان كان واسعا نظرت فان كان للدار المبيعة طريق آخر وجبت الشفعة في الطريق، لانه أرض مشتركة تحتمل القسمة، ولا ضرر على أحد في أخذه بالشفعه فأشبه غير الطريق وان لم يكن للدار طريق غيره ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) لا شفعة فيه، لانا لو أثبتنا الشفعة فيه أضررنا بالمشترى لانه يبقى ملكه بغير طريق، والضرر لا يزال بالضرر
(والثانى)
تثبت فيه الشفعه، لانه أرض تحتمل القسمه فتثبت فيها الشفعه كغير الطريق.

(14/300)


(والثالث) أنه إن مكن الشفيع المشترى من دخول الدار ثبت له الشفعة، وإن لم يمكنه فلا شفعة لانه مع التميكن يمكن دفع الضرر من غير إضرار، ولا يمكن مع عدم التمكين إلا بالاضرار.

(فصل)
وتثبت الشفعة في الشقص المملوك بالبيع لِحَدِيثِ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال " فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به " وتثبت في كل عقد يملك الشقص فيه بعوض كالاجارة والنكاح والخلع، لانه عقد معاوضة فجاز أن تثبت الشفعة في الشقص المملوك به كالبيع
(فصل)
فأما فيما ملك فيه الشقص بغير عوض كالوصية والهبة من غير عوض فلا تثبت فيه الشفعه، لانه ملكه بغير بدل فلم تثبت فيه الشفعة، كما لو ملكه بالارث، وإن باع من رجل شقصا فعفا الشفيع فيه عن الشفعه ثم رجع الشقص إليه بالاقالة ثم تثبت فيه الشفعه، لانه لم يملكه بعوض وإنما انفسخ البيع ورجع
المبيع إلى ملكه بغير بدل، فإن باعه شقصا فعفا الشفيع عن الشفعه ثم ولاه رجلا ثبتت فيه الشفعه، لان التوليه بيع برأس المال.
وإن قال لام ولده: إن خدمت ورثتي شهرا فلك هذا الشقص، فخدمتهم ملكت الشقص، وهل تثبت فيه الشفعه؟ فيه وجهان.
أحدهما أنه تثبت لانها ملكته ببدل هو الخدمه فصار كالمملوك بالاجارة
(والثانى)
لا تثبت فيه الشفعه لانه وصية في الحقيقة لانه يعتبر من الثلث فلم تثبت فيه الشفعه كسائر الوصايا، وإن دفع المكاتب إلى مولاه شقصا عن نجم عليه ثم عجز ورق فهل للشفيع في الشقص شفعه أم لا؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
لا شفعة فيه، لانه بالعجز صار ماله للمولى بحق الملك لا بالمعاوضة وما ملك بغير المعاوضه لا شفعة فيه
(والثانى)
تثبت فيه لانه ملكه بعوض فثبت فيه الشفعه فلا تسقط بالفسخ بعده.

(فصل)
وإن بيع شقص في شركة الوقف، فإن قلنا ان الموقوف عليه لا يملك الوقف لم تجب فيه الشفعه لانه لا ملك له، وان قلنا انه يملك ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يأخذ بالشفعه، لانه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشريك فأشبه مالك الطلق
(والثانى)
لا يأخذه لان ملكه غير تام، بدليل أنه لا يملك التصرف فيه، فلا يملك به ملكا تاما

(14/301)


(الشرح) قال الضياء المقدسي في شرحه لثلاثيات المسند: الشفعة لغة الزيادة، لان الشفيع يضم ما يشفع فيه إلى نصيبه فكأنه كان وترا فصار شفعا، والشفيع فعيل بمعنى فاعل، وعرفا: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقل عنه من يد من انتقلت إليه.
اه قال الحافظ بن حجر في الفتح: الشفعة بضم المعجمة وسكون الفاء وغلط من حركها، وهى مأخوذة لغة من الشفع وهو الزوج، وقيل من الزيادة، وقيل
من الاعانة، وفى الشرع: انتقال حصة شريك إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى.
اه وقد ثبتت بالسنة والاجماع.
فأما السنة فالحديث الذى ساقه المصنف عن جابر ولفظه عند مسلم والنسائي وأبى دَاوُد " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فان شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به " ولفظه عند الترمذي وصححه " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعه " ولفظه عند أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه " إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعه " وفى رواية عند أحمد والبخاري والشافعي في الام " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بالشفعه في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعه " وكلها عن جابر الا الشافعي فقد قال: أخبرنا مالك عن الزهري عن سعيد ابن أبى سلمه.
وقد روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " إذا قسمت الدار وحددت فلا شفعه " رواه أبو داود وابن ماجه بمعناه أما الاجماع فقد انعقد ولم يختلف العلماء على مشروعيتها إلا ما نقل عن أبى بكر الاصم من إنكارها، وفى ذلك يقول بعضهم: لا عبرة بقول الاصم فإنه عن الحق أصم.
قال الماوردى في الحاوى: إن ما روى في الشفعه وان لم يكن متواترا فالعمل به مستفيض يصير به الخبر كالمتواتر، ثم الاجماع عليه منعقد، والعلم بكونه شرعا واقع وليس في التمسك بحديث " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه "

(14/302)


ما يمنع من الشفعه لان المشترى يعاوض عليها بما بذله فيصل إليه ولا يستحل منه
فإذا ثبت هذا فإن الشفعه تجوز للمسلم والكافر عند الشافعي وأبى حنيفة ومالك.
وخالف أحمد فقهاء مذهبه على أنه لا شفعة لكافر على مسلم، قال الضياء المقدسي نص عليه أحمد قال في الانصاف: وهو المذهب وعليه الاصحاب وهو من مفردات المذهب، وبه قال الحسن البصري والشعبى، وقد أفاض الضياء في شرح عمدة الاحكام في بيان العلة، ووجه المذهب من جهة الدليل، كما تفرد أبو حنيفة دون الثلاثة بوجوب الشفعة للجار، وهو رواية عن أحمد إلا أنها مرجوحة بالمرة حسب الاظهر من المذهب فإذا ثبت هذا فإن الشفعه مستحقة في عراص الارضين.
ويكون ما أثقل بها من الغراس والبناء تبعا، وإن كان المبيع منها مشاعا كانت الشفعه فيه على قولين وإن كان المبيع منها محررا فالذي عليه جمهور الناس أنها غير واجبه، وبه قال من الصحابة عمر وعثمان وعلى في أصح الروايتين عنه، ومن التابعين سعيد بن المسيب وأبو سلمه بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير، ومن الفقهاء ربيعه ومالك وأحمد وإسحاق وأهل الحرمين.
وقال أبو حنيفة وصاحباه وسفيان الثوري: إن الشفعه المجوزة مستحقه للجار وليس لهم فيه سلف، وربما أضافوه إلى ابن مسعود، فان عفا الجار عنها كانت لمن يليه في القرب ثم لمن يليه إلى آخر الجوار، إلا أن تكون الطريق نافذة فلا يجب لغير الجار الملاصق استدلالا برواية عمرو بن الشريد عن أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " الجار أحق بشقصه " وروى " بسقبه " أي بقربه، وبرواية شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال " جار الدار أحق بدار الجار أو الارض " وبرواية عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء عن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وان كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا "
وروى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق من غيره وروى عمرو بن الشريد بن سويد عن أبيه أنه قال: قلت: يا رسول الله أرض ليس لاحد فيها شرك ولا قسم الا الجوار،

(14/303)


بيعت لى، فقال " أنت أحق بشفعة جارك يا شريد " قالوا ولان الشفعة إنما وجبت تخوفا من سوء عشرة الداخل عليه، وهذا قد يوجد في الجار كوجوده في الخليط، فاقتضى أن تجب الشفعة للجار كوجوبها للخليط ودليلنا ما رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه قال: الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، وهذا وإن كان مرسلا فمرسل سعيد عند الشافعي حسن، ثم قد رواه مسندا عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزهري عن أبى سلمة عن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: الشفعه فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، فكان من هذا الحديث دليلان: أحدهما: قوله الشفعه فيما لم يقسم، فكان دخول الالف واللام مستوعبا لجنس الشفعه فلم يجب في المقسوم شفعه والثانى: قوله فإذا وقعت الحدود فلا شفعة.
فصرح بسقوط الشفعه مع عدم الخلطة، فإن قيل: فإنما نفى الشفعه عنه بالقسمة الحادثة بعده ففيه جوابان
(أحدهما)
أنه محمول على عموم القسمه حادثة ومتقدمة
(والثانى)
أنه إنما نفى الشفعة عن المقسوم بما أثبتها في غير المقسوم.
فلما أثبتها في غير المقسوم بالبيع دل على أنه نفاها عن المقسوم بالبيع.
وقال أبو حنيفة: تجب للجار، ثم ساق أحاديث الموجبين لها للجار، وهى التى أوردناها هنا.
ثم قال:
وقال العلقمي في حاشية الجامع الصغير: يحتج بهذا الحديث من أوجب الشفعه للجار - يعنى حديث.
الجار أحق بصقبه - ومن لم يثبتها للجار تأول الجار على الشريك، ويحتمل أن يكون المراد أحق بالبر والمعونة وما في معناهما بسبب قربه من جاره.
وأجابوا عن حديث سمرة بأن أهل الحديث اختلفوا في لقاء الحسن له.
ومن أثبت لقاءه قال: إنه لم يرو عنه إلا حديث العقبة، وقد رواه الحسن عن سمرة.
وعن حديث الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا بأن شعبة قال: سها فيه عبد الملك راوي الحديث.

(14/304)


قال الامام أحمد: هذا الحديث منكر.
وقال ابن معين: لم يروه إلا عبد الملك وقد أنكر عليه.
وقال بعض علماء الحنفيه: يلزم الشافعية القائلين بحمل اللفظ على حقيقته ومجازه أن يقولوا بشفعة الجوار، لان الجار حقيقة في المجاور مجاز في الشريك وأجيب عنه بأن محل ذلك عند التجرد عن القرائن، وقد قامت القرينه هنا للمجاز فان حديث جابر صريح في اختصاص الشفعه بالشريك، وحديث أبى رافع مصروف الظاهر اتفاقا، لانه يقتضى أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك، ولا قائل به، فان القائلين بشفعة الجوار قدموا الشريك مطلقا، ثم المشارك في الطريق ثم الجار على من ليس بمجاور.
(قلت) واختار شيخ الاسلام ابن تيميه ثبوت الشفعه للجار بشرط أن يكون شريكا في الطريق محتجا بآخر حديث جابر مرفوعا: الجار أحق بشفعة جاره.
قال، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية أبى طالب حيث قال: إذا كان طريقهما واحدا شركاء لم يقتسموا، فإذا طرقت وعرفت الحدود فلا شفعه.
قلت: واختار بعض الحنابلة هذا الرأى ولكن لو استعرضنا مذهب الجمهور في نفى شفعة الجار لوجدنا أمة من الصحابة والتابعين كعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهرى ويحيى الانصاري وأبو الزناد وربيعه والمغيرة بن عبد الرحمن ومالك والاوزاعي وأحمد والشافعي وأبو ثور وابن المنذر.
وقال ابن شبرمة والثوري وابن أبى ليلى وأصحاب الرأى: الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق ثم بالجوار.
ولان الشفعة ثبتت في موضع الوفاق على خلاف الاصل لمعنى معدوم في محل النزاع فلا تثبت فيه.
وبيان انتفاء المعنى هو أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجه إلى مقاسمته، أو يطلب الداخل المقاسمه فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى احداثه من المرافق، وهذا لا يوجد في المقسوم.
م 10: 14

(14/305)


فأما حديث أبى رافع فليس بصريح في الشفعة فإن الصقب القرب، قال الشاعر: كوفية نازح محلتها
* لا أمم دارها ولا صقب وبقية الاحاديث التى تثبت الشفعة للجار فيها مقال كما قال ابن المنذر على أنه يحتمل أنه أراد بالجار الشريك فإن ذلك جار على ألسنة الشعراء، ويسمى كل واحد من الزوجين جارا، قال الاعشى: أجارتنا بينى فإنك طالقه
* وموموقة ما كنت فينا ووامقه وتسمى الضرتان جارتين لاشتراكهما في الزوج.
قال حمل بن مالك: كنت بين جارتين لى فضربت إحداهما الاخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، وهذا كله يمكن حمل حديث أبى رافع عليه، فإذا ثبت أن الشفعة واجبة بالخلطه دون
الجوار فالكلام فيها يشتمل على أربعة أقسام.
(أحدها) ما تجب به الشفعة.

(والثانى)
ما تجب فيه (والثالث) من تجب له (والرابع) ما تؤخذ به.
فأما ما تجب به فهو انتقال الملك بعقد المعاوضات والعقود على ثلاثة أقسام قسم يجب فيه العوض، وقسم لا يجب فيه العوض، وقسم اختلف قول الشافعي في وجوب العوض فيه، فأما الموجب للعوض فخمسة عقود، البيع والاجارة والصلح والصداق والخلع، فالشفعة بجميعها مستحقه كالمبيع لانتقال الملك بها عوضا أو معوضا وسنشرح كلا في موضعه.
وأما ما لا يوجب العوض إما لانه لا ينقل الملك كالرهن والعارية، أو لانه لا يوجب العوض مع انتقال الملك كالوقف والوصيه فلا شفعة به لان ما لا ينقل لملك استحق به نقل الملك، وما لا عوض فيه لا معوض فيه.
واختلف أصحابنا هل يغلب في ملك أم الولد للشقص حكم المعاوضات أو حكم الوصايا إذا قال لها: إن خدمت ورثتي سنة بعد موتى فلك هذا الشقص ففعلت على وجهين.
أحدهما: أن حكم المعاوضات عليه أغلب لاستحقاقه بالخدمة، فعلى هذا يأخذه الشفيع بعد انقضاء السنة بأجرة مثل خدمتها تلك السنة.

(14/306)


والوجه الثاني: وهو ظاهر المذهب أن حكم الوصايا أغلب عليه لامرين.
أحدهما اعتباره من الثلث، والثانى: ملك الشقص من لم يملك الخدمة.
وأما ما اختلف قوله في وجوب العوض فعقد الهبة اختلف قوله في وجوب المكافأة عليها فقال في القديم والاملاء بالوجوب، فعلى هذا تجب الشفعة بهما بالثواب الذى تجب به المكافأة، فعلى هذا لو شرط الثواب فيها قدرا معلوما كان
على قولين.
أحدهما قاله في الاملاء: إن الهبة جائزة والشفعه فيها واجبة بالثواب المشروط، لانها إذا صحت مع الجهل بالثواب كانت مع العلم به أصح.
والقول الثاني: إن الهبة بشرط الثواب باطله، والشفعه فيها ساقطه لان العوض فيها يجعلها بيعا والبيع بلفظ الهبة باطل، فهذا حكم الهبة على قوله في القديم والاملاء.
وقال في الجديد: ان المكافأة على الهبة غير واجبه، فعلى هذا لا شفعة بها، ويكون في انتقال الملك بها في سقوط الشفعة به كانتقاله بالميراث فهذا حكم الفصل.
وأما القسم الثاني: وهو ما تجب فيه الشفعه فهى عراص الارضين وما يتبعها متصلا دون غيرها، وهى على ثلاثة أنواع، أحدها ما وجب في الشفعه معقودا وهى عراص الارضين المحتمله للقسمة الجبريه، فان لم تحتملها لصغرها كطريق ضيقه وبياض يسير فلا شفعة هكذا حكاه الماوردى.
وقال أبو العباس بن سريج: يجب فيه الشفعة تعليلا بسوء المشاركة، واستدامة الضرر بها لتعذر القسمة، وبه قال أبو حنيفة.
وعند الشافعي أنه لا شفعه فيها تعليلا في وجوبها بالخوف من مؤونة القسمه وأن ما لا يقسم جبرا فلا شفعة فيه لارتفاع الضرر بمؤونة القسمة.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله " لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة ولا ركح ولا رهوة " رواه أبو الخطاب من أصحاب الامام أحمد في رءوس المسائل، والمنقبة الطريق الضيقة تكون بين الدارين والركح بضم الراء ناحية البيت من ورائه وما كان فضاء للسابلة والمارة، والرهوة الجوبة تكون في محلة القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره.

(14/307)


والنوع الثاني: ما تجب فيه الشفعة تبعا وهو البناء والغرس إن كان مبيعا مع الارض وجبت فيه الشفعة تبعا للارض إن كان فيها ما يحتمل قسمته الاجبار، وإن لم يحملها لم تجب فيه الشفعة عند الشافعي، ووجبت فيه عند أبى العباس بن سريج، وهو قول أبى حنيفه، وإن كان البناء والغرس منفصلا عن الارض في البيع فلا شفعة فيه عند الشافعي وأبى حنيفة.
وقال مالك: يجب الشفعة في البناء المنفرد وفى الثمار والمقائى والمباطخ لاتصاله بعراص الارض المستحق فيها الشفعة وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم " الشفعة فيما لم يقسم " رواه البخاري.
فإذا أوقعت الحدود فلا شفعة فجعل حدود القسم شرطا في إبطال الشفعة، فدل على استحقاقها فيما يجبر فيه على القسمة، ولان البناء والغرس تبع لاصله، فلما لم يستحق في الارض شفعة لخروجها عن العقد لم يجب في البناء والغرس شفعة، وان دخلت في العقد، فإذا تقرر ألا شفعة فيما أفرد بالبيع من البناء والغرس، وكانت دار ذات علو مشترك، وسفلها لغير الشركاء في علوها فباع أحد الشركاء في العلو حقه نظر في السقف، فان كان لارباب السفل فلا شفعة في الحصة المبيعة من العلو لانها بناء مفرد، وان كان السقف لارباب العلو ففى وجوب الشفعة في الحصة المبيعة منه وجهان.

(أحدهما)
لا شفعة فيه لانه لا يتبع أرضا (والوجه الثاني) فيه الشفعه، لان السقف كالعرصه.
ولقول الشافعي في كتاب الصلح ان السقف أرض لصاحب العلو، ولانه إذا حاز أحدهما حصة من البناء والسقف أمكنه سكناه كالارض.
والنوع الثالث: لا تجب فيه الشفعة لا مقصودا ولا تبعا وهو سائر الاشياء سوى ما ذكرنا، وقال عطاء بن أبى رباح: الشفعة واجبة في كل مشترك من متاع وحيوان وغيره في صنوف الاموال وسائر الكلام معه.
وأما القسم الثالث وهو من تجب له الشفعة فهو الخليط في الملك المبيع دون
الجار، وقد مضى الكلام مع أبى حنيفة في شفعة الجوار، وإذا كان كذلك فلا فرق بين أن يكون الخليط وافر السهم وبين أن يكون قليله حتى لو خالط بنسبة واحد من ألف استحق الشفعة، وإذا تعدد الخلطاء كانت بينهم على ما سيأتي.

(14/308)


ولا فرق بين أن يكون ملكه صار إليه بابتياع أو ميراث أو هبة أو وصية من بائع الشقص أو من غيره لانه مالك قد يستضر بسوء المشاركة ويتأذى بمؤونة المقاسمة.
وأما إذا كانت حصة الخليط وقفا نظر في الوقف فان كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين، أو كان خاصا لا يملك كالوقف على جامع فلا يستحق به شفعة في المبيع، وان كان خاصا على مالك الوقف على رجل بعينه أو على جماعة بأعيانهم فلا يملك به الواقف شفعة لزوال ملكه عن الوقف، فأما الموقف عليه، فقد اختلف قول الشافعي هل يكون مالكا لرقبة الوقف أم لا؟ على قولين، أحدهما: يستحق به الشفعة لثبوت ملكه واستضراره بسوء المشاركة والوجه الثاني: لا شفعة له لانه ليس بتام الملك ولا مطلق التصرف.
ثم الشفعة تجب للاب على ابنه وللابن على أبيه وللرجل على زوجته وللمرأة على زوجها وللسيد على مكاتبه وللمكاتب على مولاه ولا يستحقها السيد على عبده ولا على مدبره ولا على أم ولده ولا يستحقها أحدهم عليه.
وأما القسم الرابع وهو ما تؤخذ به الشفعة فهو ما جعل بدلا عن الشقص المنقول الملك من ثمن ان كان في أجرة أو بيع أو أجرة المثل ان كان في اجارة أو مهر المثل ان كان في صداق على ما سنفصله والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان اشترى شقصا وشرط الخيار فيه للبائع لم يكن للشفيع أن يأخذ قبل انقضاء الخيار لانه في أحد الاقوال لا يملك الشقص، وفى القول
الثاني ملكه موقوف، فلا يعلم هل يملك أم لا؟ وفى القول الثالث يملكه ملكا غير تام، لان للبائع أن يفسخه، ولانه إذا أخذ بالشفعة أضر بالبائع لانه يسقط حقه من الفسخ والضرر لا يزال بالضرر وان شرط الخيار للمشترى وحده فان قلنا أنه لا يملك أو قلنا أنه موقوف لم يأخذ لما ذكرناه في خيار البائع وان قلنا: انه يملكه ففيه قولان أحدهما لا يأخذه، لانه بيع فيه خيار فلا يأخذ به كما لو كان الخيار البائع.
والثانى: يأخذه وهو الصحيح لانه لا حق فيه لغير

(14/309)


المشترى، والشفيع يملك اسقاط حقه، ولهذا يملك اسقاط حقه بعد لزوم البيع واستقرار الملك، فلان يملك قبل لزومه أولى.

(فصل)
وتثبت الشفعة للكافر على المسلم لحديث جابر رضى الله عنه لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه فان باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ولم يفرق ولانه خيار جعل لدفع الضرر عن المال فاستوى فيه الكافر والمسلم كالرد بالعيب.

(فصل)
ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على العوض لانه إذا أخذه ولم يقدر على العوض أضر بالمشترى والضرر لا يزال بالضرر فان أحضر رهنا أو ضمينا أو عوضا عن الثمن لم يلزم قبوله لان ما استحق أخذه بالعوض لم يلزم قبول الرهن والضمين والعوض فيه كالمبيع في يد البائع.

(فصل)
ويأخذ الشفيع بالعوض الذى ملك به فان اشتراه أخذه بالثمن لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال فان باعه فهو أحق به بالثمن وإن اشترى شقصا وسيفا بثمن قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما وأخذ الشقص بحصته وترك السيف على المشترى بحصته لان الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته ولا يثبت للمشترى الخيار في فسخ البيع بتفريق الصفقة عليه لانه
دخل في العقد على بصيرة أن الصفقة تفرق عليه وإن اشترى الشقص بثمن ثم ألحق به زيادة أو حط عنه بعضه أو وجد به عيبا فأخذ عنه الارش فعلى ما ذكرناه في بيع المرابحة فان نقص الشقص في يد المشترى فقد روى المزني أن الشفيع يأخذه بجميع الثمن وقال في القديم يأخذه بالحصة واختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من قال فيه قولان وهو الصحيح أحدهما يأخذه بجميع الثمن كالعبد المبيع إذا ذهبت عينه في يد البائع فان المشترى يأخذه بجميع الثمن والقول الثاني أنه يأخذه بالحصة وهو الصحيح لانه أخذ بعض ما دخل في العقد فأخذه بالحصة كما لو كان معه سيف.
ومنهم من قال إن ذهب التأليف ولم يذهب من الاجزاء شئ أخذ بالجميع لان الذى يقابله الثمن أجزاء العين وهى باقية فان تلف بعض الاجزاء

(14/310)


من الآجر والخشب أخذه بالحصة لانه تلف بعض ما يقابله الثمن فأخذ الباقي بالحصة وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كانت العرصة باقية أخذ بالجميع لان العرصة هي الاصل وهى باقيه فان ذهب بعض العرصة أخذ بالحصة لانه تلف بعض الاصل فأخذ الباقي بالحصة وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن تلف بجائحة من السماء أخذ بالجميع لانه لم يحصل للمشترى بدل التالف وأن تلف بفعل آدمى أخذ بالحصة لانه حصل للمشترى بدل التالف وحمل القولين على هذين الحالين.

(فصل)
وإن اشترى الشقص بمائة مؤجلة ففيه ثلاثة أقوال أحدها يأخذ بمائة مؤجلة لان الشفيع تابع للمشترى في قدر الثمن وصفته فكان تابعا له في التأجيل.
والثانى: أنه يأخذه بسلعة تساوى مائة إلى الاجل، لانه لا يمكن أن يطالب بمائة حالة لان ذلك أكثر مما لزم المشترى، ولا يمكن أن يطالب بمائة مؤجلة، لان الذمم لا تتماثل فتجعل ذمة الشفيع مثل ذمة المشترى، فوجب أن
يعدل إلى جنس آخر بقيمته كما يعدل فيما لا مثل له إلى جنس آخر بقيمته.
والثالث: وهو الصحيح أنه يخبر بين أن يعجل الثمن ويأخذ، وبين أن يصبر إلى أن يحل فيأخذ، لانه لا يمكن أن يطالب بمائة حالة ولا بمائة مؤجلة لما ذكرناه ولا يمكن أن يأخذ بسلعة لان الشفيع إنما يأخذ بالمثل أو بالقيمة، والسلعه ليست بمثل الثمن ولا هي قيمته فلم يبق إلا التخيير.

(فصل)
وإن باع رجل في مرضه من وارثه شقصا يساوى ألفين بألف ولم تجز الورثة بطل البيع في نصفه لانه قدر المحاباة فان اختار الشفيع أن يأخذ النصف بالالف لم يكن للمشترى الخيار في تفريق الصفقة لان الشفيع أخذه بالف وان لم ياخذه الشفيع فللمشترى أن يفسخ البيع ليفرق الصفقة عليه وان باع من أجنبي وحاباه والشفيع وارث فاحتمل الثلث المحاباة ففيه خمسة أوجه أحدها أن البيع يصح في نصف الشقص بالالف، وللشفيع أن ياخذه ويبقى النصف للمشترى بلا ثمن، لان المحاباة وصية والوصية للمشترى تصح، ولا تصح للشفيع، فيصير كانه وهب له النصف وباع منه النصف بثمن المثل، وياخذ الشفيع النصف بجميع

(14/311)


الثمن، ويبقى النصف للمشترى بغير ثمن.
والثانى أن البيع يصح في نصفه بالالف لانا إن دفعنا الجميع إلى الشفيع بالالف حصلت الوصية للوارث وإن دفعنا إليه النصف بالالف وتركنا النصف على المشترى ألزمنا الشفيع في النصف أكثر مما لزم المشترى فلم يبق إلا الفسخ بالنصف، ودفع النصف إلى الوارث من غير محاباة، والثالث أن البيع باطل لان المحاباة تعلقت بالكل فلا يجوز أن تجعل في نصفه، والرابع أنه يصح البيع وتسقط الشفعه، لان اثبات الشفعة يؤدى إلى إبطال البيع، وإذا بطل البيع سقطت الشفعة، وما أدى ثبوته إلى سقوطه وسقوط غيره سقط فسقطت الشفعة وبقى البيع، والخامس وهو الصحيح أنه يصح البيع
في الجميع بالالف، ويأخذ الشفيع الجميع بالالف، لان المحاباة وقعت للمشترى دون الشفيع والمشترى أجنبي فصحت المحاباة له (الشرح) قال الشافعي: وان علم يعنى بالبيع فطالب مكانه فهى له، وإن أمكنه فلم يطلب بطلت شفعته قال الماوردى في الحاوى: اعلم أن الشفعة تجب بالبيع وتستحق بالطلب وتملك بالاخذ، فإذا بيع الشقص ووجبت فيه الشفعة لم يخل حال الشفيع من أحد أمرين اما أن يعلم بالبيع أو لا يعلم، فان لم يعلم بالبيع فهو على حقه من الشفعه إذا علم وان تطاول به الزمان كالمشترى إذا لم يعلم بعيب ما اشترى كان على حقه من الرد إذا علم، وأما إذا علم بالبيع فله حالتان احداهما: أن يكون قادرا على الطلب.
والحال الثانية: أن يكون معذورا، فان كان قادرا على الطلب فله ثلاثة أحوال إحداها: أن يبادر إلى الطلب، فهو على حقه من الشفعة، ولا يحتاج إلى حكم حاكم في الاخذ بها لانها ثبتت بنصر واجمال وانما يفتقر إلى حكم الحاكم فيما ثبت باجتهاده فلو قال الشفيع حين بادر بالطلب: انظروني بالثمن واحكموا لى بالملك لم يجز، وهكذا لو قال: احكموا لى بالملك متراخص الثمن لم يجز أن يحكم له بالملك.
لانه لا يجوز أن يزيل الضرر عن نفسه بالشفعة ويدخله على المشترى بالتأخير، فان سأل التوقف حتى يحضر الثمن جاز أن ينظره الحاكم به يوما أو يومين وأكثره ثلاثا، فان جاء بالثمن كان على حقه من الشفعة وان أخره عن المدة التى أنظره الحاكم بها بطلت شفعته.

(14/312)


والحال الثانية: من أحوال الشفيع بعد علمه بالبيع أن يعفو عن الشفعة، والعفو على ضربين صريح وتعريض، فالصريح أن يقول: قد عفوت عن الشفعة أو تركتها أو نزلت عنها: فهذا مبطل لشفعته، والتعريض أن يساوم المشترى في الشقص أو يطالبه بالقسمة أو يستأجر منه أو يساميه، فهل يكون التعريض
بهذه الالفاظ كصريح العفو في إبطال الشفعه أم لا؟ على قولين نص عليهما في القديم
(أحدهما)
أنها كالصريح في إبطال الشفعه
(والثانى)
إنه على حقه ما لم يصرح بالعفو لما فرق الله به في الخطبة بين حكم التعريض والتصريح.
فأما قوله للمشترى " بارك الله لك في صفقتك " فليس بعفو صريح ولا تعريض لان وصوله إلى الثمن من الشفيع بركة في صفقته، وهكذا لو شهد للمشترى في ابتياعه لم يكن عفوا صريحا ولا تعريضا، لان الشهادة وثيقة في البيع الذى بتمامه يستحق الشفعة.
وجعل أبو حنيفة هذين الامرين عفوا صريحا والحال الثالثة بعد علمه بالبيع وتمكنه من الاخذ أن يمسك عن الطلب.
ففيه ثلاثة أقاويل: (أحدها) وهو قوله في الجديد والاملاء وبه تقع الفتيا أن الشفعه قد بطلت بتقضى زمان المكنة وان حق طلبها على الفور
(والثانى)
أن حق الشفعة مؤقت بثلاثة أيام بعد المكنة، فإن طلبها إلى ثلاث كان على حقه، وان مضت الثلاث قبل طلبه بطلت قاله الشافعي في كتاب السير قال وهذا استحسان وليس بأصل.
(والقول الثالث) أن حق الشفعة ممتد على التراخي من غير تقدير بمدة، وبه قال في القديم.
(قلت) فإذا قيل بالاول (الفور) وبه قال أبو حنيفة، فإن أخذها فهى له وإن تركها رجع باللائمة على نفسه، وإذا قيل بالثاني بتقديره بثلاثة أيام بعد المكنة فوجهه أن الشفعه موضوعه لارتفاق الشفيع بها في التماس الحظ لنفسه في الاخذ والترك والاختيار والمشترى في حسن المشاركة ليقر، أو في سوء المشاركة ليصرف فكان تقديرها بثلاثة أيام يتوصل بها إلى إتمام حظه، ولا يضر المشترى

(14/313)


بتأخيره بخلاف ما قال مالك من تقديرها بسنة في رواية ابن وهب، وبأربعة أشهر في رواية غيره.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " الشفعه كنشيطة عقال، فان أخذها فهى له وإن تركها رجع باللائمة على نفسه (فرع)
تثبت الشفعه للكافر على المسلم إذا كان شريكا لحديث جابر " لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه " وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز والنخعي وإياس بن معاويه وحماد بن أبى سليمان والثوري ومالك والشافعي والعنبري وأصحاب الرأى لعموم الحديث.
وقال أحمد: لا شفعة لمسلم على كافر وتصح من الذمي للذمي، وهو مروى عن الحسن والشعبى أخذ من حديث " لا شفعة لنصراني " وهو حديث لم يصح إسنادا ودليلنا عموم الحديث وقواعد البياعات لانها خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب (فرع)
قال الشافعي: وان اشتراها بثمن إلى أجل قيل للشفيع: ان شئت تعجل الثمن وتعجل الشفعه، وان شئت فدع حتى يحل الاجل، وصورتها في رجل اشترى شقصا بثمن مؤجل وحضر الشفيع مطالبا ففيه قولان
(أحدهما)
وهو قوله في القديم وبه قال مالك: إن للشفيع أن يتعجل أخذها ويكون الثمن مؤجلا في ذمته إن كان ثقة، وإن كان غير ثقة أقام ضمينا ثقة.
قال الشافعي: وهذا أشبه بصلاح الناس.
ووجه هذا القول شيئان
(أحدهما)
أن الشفيع يدخل مدخل المشترى في قدر الثمن وصفاته والاجل وصفاته، فاقتضى أن يأخذها بمثل الثمن وأجله.

(والثانى)
أن تعجيل المؤجل زيادة في القدر تتفاضل الاثمان به وليس للمشترى أن يشتريه.
وتأخير الشفيع دفع له عن حقه، وليس للمشترى دفع الشفيع
والقول الثاني وبه قال في الجديد، وهو قول أبى حنيفه أن الشفيع لا يتعجل الشقص بالثمن المؤجل، ويقال له: أنت مخير بين أن تعجل الثمن فتعجل أخذ الشقص وبين أن تصبر إلى حلول الاجل فتدفع الثمن وتأخذ الشقص.
ووجه هذا القول شيئان (ا) إن أخذ الشفعه باستحقاق والاجل يدخل في عقود

(14/314)


المراضاة ولا يدخل في الاستحقاق ما لم يكن مراضاة (ب) إن رضا البائع بذمة المشترى لا يوجب على المشترى أن يرضى بذمة الشفيع، ولذلك حل دين الميت لان رضى ربه بذمته لا يوجب عليه الرضا بذمة وارثه فإذا تقرر توجيه القولين فللمشترى والشفيع أربعة أحوال (أحدها) أن يعجل الشفيع الثمن فيجبر المشترى على تسليم الشقص على القولين معا، لانه قد تعجل مؤجلا وأمن خطرا.
والحال الثانية أن يرضى المشترى تسليم الشقص وتأجيل الثمن فيلزم الشفيع أن يأخذ أو يعفو على القولين معا، لانه قد يتعجل منافع الشقص حتى لا يستضر بتعجيل الثمن، فإن لم يفعل وانتظر لاخذه بحلول الاجل بطلت شفعته على قوله في القديم، وفى بطلانها على الجديد وجهان.
أحدهما وهو قول ابى العباس بن سريج أنه على شفعته إلى حلول الاجل، لان تأجيل الثمن قد جعل حق الطلب مقدرا به.
والوجه الثاني وهو الاصح: أن شفعته قد بطلت لان طلبه قدر بمدة الاجل رفقا بالمشترى فصار من حقوقه لا من حقوق الشفيع.
والحال الثالثة: أن يدعو المشترى إلى تعجيل الشئ وتسليم الشقص، فلا يلزم الشفيع ذلك على القولين معا، لان تعجيل المؤجل استزادة في الثمن والمشترى ممنوع من الاستزادة فيه، فلو قال المشترى: أنا أحطه من الثمن بسبب التعجيل قدر ما بين الحال والمؤجل لم يجز لامرين:

(أحدهما)
أنه مفض إلى الربا
(والثانى)
أن ما استحق تأجيله لم يلزم تعجيله والحال الرابعة: أن يطالب الشفيع بالشقص معجلا، ويؤخر الثمن إلى حلول الاجل فهى مسألة القولين، فعلى قوله في القديم يجاب إلى ذلك إن كان ثقة أو يضمنه ثقة، فعلى هذا لو مات المشترى حل ما عليه من الثمن ولم يحل ما على الشفيع منه وكان باقيا إلى أجله، ولو مات الشفيع حل ما عليه من الثمن وللمشترى أن يتعجله وما عليه باق إلى أجله، ولو كان المشترى قد دفع الثمن رهنا لم يلزم الشفيع أن يدفع به رهنا، لان الرهن وثيقة في الثمن، وليس في جملة الثمن وعلى قوله في الجديد يمنع من الشقص إلى حلول الاجل والمشترى يمكن من التصرف فيه بما شاء من سكنى واستغلال وإجارة وبيع ما لم يستهلك، لان تعلق حق

(14/315)


الشفيع به لا يزيل ملك المشترى عنه فلا يمنع من التصرف في ملكه إلا بما يفضى إلى إبطال حق الشفيع من الاستهلاك والاتلاف وليس البيع استهلاكا لانه بعد البيع يقدر على أخذه بأى العقدين شاء فلو مات المشترى حل ما عليه من الثمن وكان للشفيع أن يصبر إلى حلول الاجل، ولو مات الشفيع كان لورثته أن يصبروا إلى حلول الاجل لانه لم يتعلق بذمته ما يحل بموته بخلاف القول الاول (فرع)
لو باع الرجل في مرض موته شقصا بألف درهم وهو يساوى ثلاثة آلاف حاباه في ثمنه بألفين فللمشترى وللشفيع ثلاثة أحوال: إحداهن أن يكونا أجنبيين من البائع، والثانية أن يكون المشترى وارثا والشفيع أجنبيا، والثالثة أن يكون المشترى أجنبيا والشفيع وارثا.
فأما الحال الاولى فلا تخلو حال البائع من أن يملك مالا غير الشقص أو لا، فإن كان يملك مالا تخرج المحاباة من ثلثه صحت المحاباة وأخذ المشترى الشقص بألف درهم وللشفيع أن يأخذه منه بالالف لانه يملك الشفعة بالثمن مسترخصا كان أو غاليا، وإن كان البائع لا يملك غير
الشقص فللمشترى الخيار في أن يأخذ عن الشقص بألف درهم أو يرد ليحصل له نصف المحاباة، وهى ألف تكون ثلث التركة ويرجع إلى الورثة ثلث الشقص وقيمته ألف مع ألف حصلت لهم ثمنا فيصير مثلى المحاباة بالالف ثم للشفيع أن يأخذ بالالف ثلثى الشقص الصائر للمشترى بالالف.
أما الحال الثانية: وهو أن يكون المشترى وارثا والشفيع أجنبيا فالمحاباة باطلة.
وإن خرجت من الثلث لانها وصية لوارث والمشترى بالخيار بين أن يأخذ ثلث الشقص بألف وبين أن يرده، فإن أخذ مثله بالالف فللشفيع أخذ الثلث منه بالالف، وان رده المشترى عرض على الشفيع قبل رده، فإن رضى أن يأخذ ثلث الشقص بألف كان أحق وبطل رد المشترى لانه يرد ليحصل له الثمن الخارج من يده وقد حصل له ذلك من جهة الشفيع فوصل إلى حقه ومنع من إبطال حق الشفيع برده، كالمنع من رده بعيب لو ظهر إذا رضى الشفيع، ويكون عهدة الشفيع على المشترى، فلو أن باقى الورثة أجازوا للوارث محاباته وأعطوا الشقص كله بالالف جاز.
وفيما يأخذه الشفيع قولان مبنيان على اختلاف قولين في إجازة الورثة هل تكون عطية أو إمضاء؟

(14/316)


(أحدهما)
أنه امضاء فعلى هذا للشفيع أن يأخذ الشقص كله بالالف
(والثانى)
أنه ابتداء عطية فعلى هذا يأخذ ثلث الشقص بالالف ويخلص للمشترى ثلثاه لانها عطية له خالصة.
وأما الحال الثالثة وهو أن يكون المشترى أجنبيا والشفيع وارثا، فالمحاباة وهى ألفا درهم ثلاثة أحوال: حال يحتمل الثلث جميعها، وحال لا يحتمل شيئا منها، وحال يحتمل الثلث بعضها، فإن لم يحتمل الثلث شيئا منها لاحاطة الدين بالتركة بطلت المحاباة وكان للمشترى الخيار في أخذ ثلث الشقص بالالف أو رده، فإن أخذه كان الشفيع أحق به، وإن كان وارثا لانه لا محاباة
فيه.
وان احتمل الثلث جميع المحاباة لانه ذو مال تخرج الالفان من ثلثه فالمحاباة بثلثي الشقص.
وان احتمل الثلث بعضها وهو أن لا يملك غير الشقص المقوم بثلاثة آلاف درهم احتمل الثلث نصف المحاباة وهو ثلث الشقص.
وفيها أربعة أوجه حكاها ابن سريج: (أحدها) أنها جائزة للمشترى والشفيع لان المشترى مقصود بها فصحت له، والشفيع داخل عليه فوجبت له.
فعلى هذا يأخذ المشترى ثلثى الشقص بألف درهم وللشفيع أخذ هذين الثلثين بالالف ويرجع الثلث على الورثة مع الالف الصائر إليهم ثمنها والوجه الثاني: أن المحاباة جائزة للمشترى دون الشفيع، لان المشترى ممن تصح محاباته - وهو بها مقصود - والشفيع ممن لا تصح محاباته، وهو بها غير مقصود.
فعلى هذا يأخذ المشترى ثلث الشقص بألف، وللشفيع أن يأخذ منه ثلثه بألف ويرجع إلى الورثة الثلث، فيصير الشقص أثلاثا: ثلثه للورثه، لان الثلث لا يحتمل، وثلثه للمشترى لانها محاباة له، وثلثه للشفيع بعد رد المحاباة التى لا تصح له.
والوجه الثالث: أن المحاباة باطلة للمشترى وللشفيع جميعا، لانها قد تفضى إلى الشفيع الذى لا يملكها وهى مقترنة بالمبيع الذى لا يجوز أن يفرد عنها، فعلى هذا للمشترى أن يأخذ ثلث الشقص بالالف، وللشفيع أن يأخذه منه بالالف ويرجع الثلثان على الورثة.

(14/317)


والوجه الرابع أن المحاباة موقوفه مراعاة فإن عفى الشفيع عن شفعته صحت المحاباة للمشترى واستحق الشفيع المحاباة بشفعته، لانها ليست محاباة من المشترى
ألا تراه يأخذها منه جبرا بلا اختيار.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن اشترى الشقص بعرض فإن كان له مثل كالحبوب والادهان أخذه بمثله، لانه من ذوات الامثال، فأخذ به كالدراهم والدنانير وإن لم يكن له مثل كالعبيد والثياب أخذه بقيمته لان القيمة مثل لما لا مثل له ويأخذه بقيمته حال وحوب الشفعة كما يأخذ بالثمن الذى وجب عند وجوب الشفعة وان اشترى الشقص بعبد وأخذ الشفيع بقيمته ووجد البائع بالعبد عيبا ورده أخذ قيمة الشقص وهل يثبت التراجع للشفيع والمشترى بما بين قيمة العبد وقيمة الشقص فيه وجهان أحدهما لا يتراجعان لان الشفيع أخذ بما استقر عليه العقد وهو قيمة العبد فلا يتغير بما طرأ بعده والثانى يتراجعان فإن كانت قيمة الشقص أكثر رجع المشترى على الشفيع وإن كانت قيمة العبد أكثر رجع الشفيع على المشترى لانه استقر الشقص على المشترى بقيمته فثبت التراجع بما بين القيمتين وان وجد البائع بالعبد العيب وقد حدث عنده عيب آخر فرجع على المشترى بالارش نظرت فإن أخذ المشترى من الشفيع قيمة العبد سليما لم يرجع عليه بالارش لان الارش دخل في القيمة وإن أخذ قيمته معيبا فهل يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَرْجِعُ لانه أخذ الشقص بقيمة العبد المعيب الذى استقر عليه العقد.
والثانى يرجع بالارش لانه استقر الشقص عليه بقيمة عبد سليم فرجع به على الشفيع.

(فصل)
وان جعل الشقص أجرة في إجارة أخذه الشفيع بأجرة مثل المنفعة فإن جعل صداقا في نكاح أو بدلا في خلع أخذ الشفيع بمهر مثل المرأة لان المنفعة لا مثل لها فأخذ بقيمتها كالثوب والعبد وان جعل متعة في طلاق امرأة أخذ الشفيع بمتعة مثلها لا بالمهر لان الواجب بالطلاق متعة مثلها لا المهر.

(فصل)
والشفيع بالخيار بين الاخذ والترك لانه حق ثبت له لدفع الضرر

(14/318)


عنه فخير بين أخذه وتركه وفى خياره أربعة أقوال قولان نص عليهما في القديم أحدهما له على التراخي لا يسقط إلا بالعفو أو بما يدل على العفو كقوله بعنى أو قاسمني وما أشبههما لانه حق له لا ضرر على المستحق عليه في تأخيره فلم يسقط إلا بالعفو كالخيار في القصاص والثانى أنه بالخيار إلى أن يرفعه المشترى إلى الحاكم ليجبره على الاخذ أو العفو لانا لو قلنا أنه على الفور أضررنا بالشفيع لانه لا يأمن مع الاستعجال أن يترك والحظ في الاخذ أو يأخذه والحظ في الترك فيندم وإن قلنا أنه على التراخي إلى أن يسقط أضررنا بالمشترى لانه لا يقدر على التصرف والسعى في عمارته خوفا من الشفيع فجعل له إلى أن يرفع إلى الحاكم ليدفع عنه الضرر.
والثالث نص عليه في سير حرملة أنه بالخيار إلى ثلاثة أيام لانه لا يمكن أن يجعل على الفور لانه يستضر به الشفيع ولا أن يجعل على التراخي لانه يستضر به المشترى فقدر بثلاثة أيام لانه لا ضرر فيه على الشفيع لانه يمكنه أن يعرف ما فيه من الحظ في ثلاثة أيام ولا على المشترى لانه قريب.
والرابع نص عليه في الجديد أنه على الفور وهو الصحيح لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال الشفعة لمن واثبها وروى أنه قال الشفعة كنشطة العقال إن قيدت ثبتت وان تركت فاللوم على من تركها.
فَعَلَى هَذَا إنْ أَخَّرَ الطَّلَبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَ لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَسَقَطَ بِالتَّأْخِيرِ من غير عذر كالرد بالعيب وان أخره لطهارة أو صلاة أو طعام أو لبس ثوب أو اغلاق باب فهو على شفعته لانه ترك الطلب لعذر وان قال سلام عليكم أنا مطالب بالشفعة ثبتت الشفعة لان السلام قبل الكلام سنة فلا تسقط به الشفعه وان قال بارك الله في
صفقة يمينك أنا مطالب بالشفعه لم تسقط لان الدعاء له بالبركة لا يدل على ترك الشفعه لانه يجوز أن يكون دعاء للصفقه بالبركه لانها أوصلته إلى الاخذ بالشفعه وان قال صالحني عن الشفعه على مال لم يصح الصلح لانه خيار فلا يجوز أخذ العوض.
عنه كخيار الشرط وفى شفعته وجهان أحدهما تسقط لانه أعرض عن طلبها من غير عذر والثانى لا تسقط لانه تركها على عوض ولم يسلم له العوض

(14/319)


فبقى على شفعته فان أخذه بثمن مستحق ففيه وجهان أحدهما تسقط لانه ترك الاخذ الذى يملك به من غير عذر والثانى لا تسقط لانه استحق الشقص بمثل الثمن في الذمه فإذا عينه فيما لا يملك سقط التعيين وبقى الاستحقاق كما لو اشترى شيئا بثمن في الذمه ووزن فيه ما لا يملك.
(الشرح) قال الشافعي وللشفيع الشفعة بالثمن الذى وقع به البيع، وهذا كما قال: وإنما أخذه بالثمن لرواية بعضهم ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصا، ولانه يدخل مدخل المشترى فوجب أن يأخذ الشقص بما أخذه المشترى، ولان عدولهما عن الثمن لا يخلو من ثلاثة أحوال فاسدة، إما أن يأخذه بما يرضى به المشترى، وفى ذلك ضرر على الشفيع لانه قد لا يرضى إلا ببعض الثمن، وإما أن يأخذه بالقيمة فقد تكون أقل من الثمن فيستضر المشترى وقد يكون أكثر من الثمن فيستضر الشفيع، وإذا بطلت هذه الاحوال فثبت أخذه بالثمن.
فإذا ثبت أن الشفيع يأخذه بالثمن فلا يخلو أن يكون الثمن مما له مثل كالدراهم والدنانير والبر والشعير أو مما لا مثل له كالحيوان والعروض، فإن كان مما له مثل أخذه بمثله جنسا وصفة وقدرا، وإن كان مما لا مثل له اخذه الشفيع بقيمته في أقل الاحوال من وقت العقد إلى وقت تسليم المشترى له إلى البائع، لانه إن زاد فالزيادة حادثة في ملك البائع لم يتناولها العقد، وإن نقص فالنقصان مضمون
على المشترى فخرج من العقد.
فلو كان الثمن ألف درهم فدفعها المشترى إلى البائع فوجدها البائع زيوفا فهو بالخيار بين أن يسامح وبين أن يبدلها، فإن رضى بها فللشفيع أن يأخذ الشقص بألف درهم جياد، أو لو كان الثمن حيوانا فاعور الحيوان في يد المشترى فللبائع الخيار بين فسخ البيع في الحيوان وبين الرضا بالعور وإمضاء البيع فإن رضى بالعور أخذه الشفيع بقيمة الحيوان أعور.
وقال أبو حنيفة: يأخذه بقيمته سليما كما يأخذه بمثل الالف جيادا، لانه ليس الرضا بالعيب الحادث خطأ في الثمن وهذا خطأ، لان رضاه بعيبه رضا منه بأنه هو الثمن بعينه والفرق بين الحيوان والالف أن عور الحيوان لما أحدث له خيارا في فسخ البيع صار الحيوان

(14/320)


الاعور ثمنا وزيافة الدراهم لا تحدث له خيارا في فسخ البيع، وإذا استحق أخذ بدلها فصار الجيد ثمنا له.
(فرع)
إذا اشترى شقصا من دار بمائة دينار ثم وجد به عيبا نقصه عشر الثمن فصالحه البائع عن العيب على شئ كمذياع صغير أو كبش ثم حضر الشفيع فله أخذ الشقص بتسعين دينارا لان المشترى قد استرجع العشر أرشا، فإن استحق المذياع أو الكبش من يد المشترى أو ردها بخيار شرط أو عيب نظر، فإن دفع البائع إلى المشترى العشرة التى هي أرش العيب فقد وصل إلى حقه من تمام الثمن ولا مطالبة بينه وبين الشفيع، وإن امتنع البائع من دفعها ولم يرض إلا برد المبيع لم يجبر على بذل الارش، وقيل للشفيع: إن دفعت إلى المشترى عشرة لتتم المائة التى دفعها ثمنا جمعت لك الشفعة، وإن امتنعت لم تجبر على دفعها ولزمك رد الشقص على المشترى واسترجاع التسعين التى دفعتها، فإذا عاد الشقص إلى المشترى كان بالخيار بين أن يأخذه معيبا بالمائة كلها وبين أن يرده، فإن رضى
بأخذه بالمائة فلا شفعه للشفيع إن عاد يريدها لانها قد عرضت عليه بالمائة فردها فلو أن الشفيع أنكر تقدم العيب وتصادق عليه البائع والمشترى كان القول قول الشفيع مع يمينه على العلم دون البت ولا يصدقان في الازدياد عليه، فان نكل الشفيع حلف المشترى دون البائع لانه هو المتروك لنقص العيب، فان حلف كان الشفيع مخبرا بين دفع العشرة تكملة المائة أو الرد.
(فرع)
وقال الشافعي: فان تزوجها على شقص فهو للشفيع بقيمته وهذا كما قال: إذا تزوجها على شقص أصدقها وجب فيه الشفعه وهكذا لو خالعها عليه، وقال أبو حنيفة: لا شفعه فيه استدلالا بأمرين.
أحدهما: أنه مملوك بغير مال فلم تجب فيه الشفعه كالهبه والميراث.
والثانى: أن البضع لا يقوم إلا في عقد أو شبهة عقد، وليس بين الشفيع وبينهما ما يوجب تقويم بضعها.

(14/321)


ودليلنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: الشفعة فيما لم يقسم، ولانه عقد معاوضة فجاز أن تثبت فيه الشفعة كالبيع، ولانه معنى وضع لرفع الضرر عن المالك فوجب أن يثبت في الصداق كالرد بالعيب، ولانه معنى يوجب زوال اليد المستحدثة عن المشترى فوجب أن يستحق زوال اليد عن الصداق كالاستحقاق ولان كل عضو استحق فيه إقباض الشقص معاوضة، استحق به إقباضه بشفعة كالبيع، ولان كل قبض وجب في عقد البيع وجب في عقد الصداق كالقبض الاول وبيانه أن في البيع قبضين، قبض المشترى من البائع وقبض الشفيع من الزوجة وأما الجواب عن قوله: إنه مملوك بغير مال فهو أن البضع في حكم الاموال لامرين.
أحدهما: أنه يعاوض عليه بمال في الصداق والخلع، وما لم يكن في حكم
الاموال فلا يجوز أن يعاوض عليه بمال.
والثانى: أنه معتبر في اغتصابه بالمال وما لم يكن مالا لم يقوم في استهلاكه بالمال، ثم المعنى في الهبة والميراث أنه مملوك بغير بدل فلم تجب فيه الشفعة، والصداق مملوك ببدل فوجبت فيه الشفعه.
واما الجواب عن قوله: ان البضع لا يقوم الا في عقد أو شبهة عقد فهو أنه غير مسلم لان المغتصبه مقومة البضع عندنا على غاصبها والمشهود بطلاقها مقومة البضع على الشهود إذا رجعوا للزوج دونها، فصار بضعها مقوما في غير عقد وشبهته في حقها وحق غيرها فلم يمنع من تقويمه في شفعة صداقها.
فإذا ثبت وجوب الشفعه في الصداق والخلع فمذهب الشافعي أنه مأخوذ بمهر المثل.
وقال مالك وابن أبى ليلى يؤخذ بقيمته لا بمهر المثل، وحكى نحوه عن الشافعي في القديم لان المهر قد يزاد فيها وينقص فخالفت البيوع، وهذا فاسد من وجهين، أحدهما: وجود هذا المعنى في الاثمان لجواز الزيادة والنقصان فيها، ثم لم يمتنع أن يؤخذ الشقص بمثل الثمن، كذلك لا يمتنع في الصداق أن يؤخذ بقيمة البضع، والثانى: أن ما لا مثل له من الاعواض يوجب الرجوع إلى قيمة العوض دون الشقص كالعبد والثوب، كذلك البضع الذى لا مثل له يوجب الرجوع إلى قيمته من المهر دون الشقص والله اعلم.

(14/322)


(فرع)
مضى كلامنا في الخيار للشفيع بين الاخذ والترك والمدة التى يجوز له فيها الرد، ونزيد البحث فنقول: إذا قيل بأن حق الشفعه مقدر بثلاثة أيام بعد المكنة فوجهه أن الشفعه موضوعه لارتفاق الشفيع بها في التماس الحظ لنفسه في الاخذ والترك والاختيار والمشترى في حسن المشاركة ليقر أو في سوء المشاركة ليصرف.
وقلنا إنه لو روعى
فيه الفور ضاق على الشفيع، ولو جعل على التأبيد أضر بالمشترى فاحتاج إلى مدة يتوصل بها الشفيع إلى إتمام حظه ولا يستضر المشترى بتأخيره فكان أولى الامور تقديرها بثلاثة أيام لامرين: أحدهما: أن الثلاث حد في الشرع لمدة الخيار.
والثانى أنها أقصى حد القله وأدنى حد الكثرة.
ألا ترى أن الله تعالى قد قضى بهلاك قوم أنظرهم بعده ثلاثا، فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا، فعلى هذا لو حصل في خلال الثلاثة الايام زمان يتعذر فيه المطالبة لم يحتسب به منها، ولقوله من زمان الملكة ثلاثة أيام يتمكن جميعها من المطالبة، فإذا قيل بأن حق الشفعه على التراخي فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم " فإن باع فشريكه أحق به حتى يؤديه " فكان على عموم الاوقات، ولان ما ملك من الحقوق لا يبطل بالتأخير كالديون ولان تأخير الشفعه أرفق بالمشترى في حصول المنفعة وتملك الاجرة، فعلى هذا الذى يسقط حقه من الشفعه ثلاثة أقاويل.
(أحدها) العفو الصريح دون غيره من التعويض، وليس للقاضى أن يقطع خياره إذا رفع إليه، لان الحاكم لا يملك إسقاط الحقوق وكالديون.
والثانى: أن شفعته تسقط بأحد أمرين: إما بالعفو الصريح أو بما يدل عليه من التعريض على ما ذكرنا.
والقول الثالث: أن شفعته تسقط بأحد ثلاثه.
أحدها العفو الصريح أو بما يدل عليه من التعريض أو بأن يتحاكم المشترى إلى القاضى فيلزمه الاخذ أو الترك فإن أخذ وإلا حكم عليه بإبطال الشفعه، لان القاضى مندوب إلى فصل الخصومات

(14/323)


فإذا تقرر ما وصفنا وأخذ الشفيع الشقص بالشفعه لم يجز أن يشرط فيه خيار
الثلاث، وفى استحقاق خيار المجلس وجهان حكاهما أبو القاسم: أحدهما له خيار المجلس لانه يوافق عقد البيع.
والثانى لا خيار له لانه يملك الشقص ملك إجبار لا عن مراضاة.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن وجبت له الشفعة وهو محبوس أو مريض أو غائب نظرت فان لم يقدر على الطلب ولا على التوكيل ولا على الاشهاد فهو على شفعته، لانه ترك بعذر، وان قدر على التوكيل فلم يوكل ففيه ثلاثه أوجه (أحدها) وهو قول القاضى أبى حامد أنه تسقط شفعته لانه ترك الطلب مع القدرة فأشبه إذا قدر على الطلب بنفسه فترك
(والثانى)
وهو قول أبى على الطبري أنه لا تسقط، لان التوكيل إن كان بعوض لزمه غرم وفيه ضرر، وإن كان بغير عوض احتاج إلى التزام منه وفى تحملها مشقة وذلك عذر فلم تسقط به الشفعة ومن أصحابنا من قال: إن وجد من يتطوع بالوكالة سقطت شفعته لانه ترك الطلب من غير ضرر، فإن لم يجد من يتطوع لم تسقط لانه ترك للضرر، وان عجز عن التوكيل وقدر على الاشهاد فلم يشهد ففيه قولان
(أحدهما)
تسقط شفعته لان الترك قد يكون للزهد وقد يكون للعجز وقد قدر على أن يبين ذلك بالشهادة، فإذا لم يفعل سقطت شفعته
(والثانى)
لا تسقط لان عذره في الترك ظاهر فلم يحتج معه إلى الشهادة
(فصل)
وإن قال أخرت الطلب لانى لم أصدق، فإن كان قد أخبره عدلان سقطت شفعته لانه أخبره من يثبت بقوله الحقوق، وان أخبره حر أو عبد أو امرأة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تسقط لانه ليس ببينة
(والثانى)
تسقط لانه أخبره من يجب تصديقه في الخبر وهذا من باب الاخبار فوجب تصديقهم فيه

(فصل)
فإن قال المشترى اشتريت بمائة فعفا الشفيع ثم بان أنه اشترى بخمسين فهو على شفعته لانه عفا عن الشفعة لعذر، وهو انه لا يرضاه بمائه

(14/324)


أو ليس معه مائة.
وإن قال اشتريت بخمسين فعفا ثم بان أنه كان قد اشتراه بمائة لم يكن له أن يطالب لان من لا يرضى الشقص بخمسين لا يرضاه بمائة، وإن قال اشتريت نصفه بمائة فعفا ثم بان أنه قد اشترى جميعه بمائة فهو على شفعته لانه لم يرض بترك الجميع، وإن قال اشتريت الشقص بمائة فعفا ثم بان أنه كان قد اشترى نصفه بمائه لم يكن له أن يطالب بالشفعة.
لان من لم يرض الشقص بمائة لا يرضى نصفه بمائه.
وإن قال اشتريت بأحد النقدين فعفا ثم بان أنه كان قد اشتراه بالنقد الاخر فهو على شفعته لانه يجوز أن يكون عفا لاعواز أحد النقدين عنده أو لحاجته إليه.
وإن قال اشتريت الشقص فعفا ثم بان أنه كان وكيلا فيه.
وإنما المشترى غيره، فهو على شفعته لانه قد يرضى مشاركة الوكيل، ولا يرضى مشاركة الموكل.

(فصل)
وإن وجبت له الشفعة فباع حصته، فإن كان بعد العلم بالشفعة سقطت شفعته، لانه ليس له ملك يستحق به، وإن باع قبل العلم بالشفعة ففيه وجهان
(أحدهما)
تسقط لانه زال السبب الذى يستحق به الشفعة، وهو الملك الذى يخاف الضرر بسببه
(والثانى)
لا تسقط لانه وجبت له الشفعه والشركة موجودة فلا تسقط بالبيع بعده.

(فصل)
ومن وجبت له الشفعه في شقص لم يجز أن يأخذ البعض ويعفو عن البعض، لان في ذلك اضرارا بالمشترى في تفريق الصفقه عليه، والضرر لا يزال بالضرر، فإن أخذ البعض وترك البعض سقطت شفعته لانه لا يتبعض
فإذا عفا عن البعض سقط الجميع كالقصاص.
وان اشترى شقصين من أرضين في عقد واحد فأراد الشفيع أن يأخذ أحدهما دون الاخر ففيه وجهان، أحدهما: لا يجوز، وهو الاظهر لما فيه من الاضرار بالمشترى في تفريق الصفقه عليه.

(والثانى)
يجوز لان الشفعه جعلت لدفع الضرر وربما كان الضرر في أحدهما دون الاخر، فان كان البائع أو المشترى اثنين جاز للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما دون الاخر، لان عقد الواحد مع الاثنين عقدان، فجاز أن يأخذ أحدهما دون الاخر كما لو اشتراه في عقدين متفرقين

(14/325)


(فصل)
وإن كان للشقص شفعاء نظرت فإن حضروا وطلبوا أخذوا، فإن كانت حصة بعضهم أكثر ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يقسم الشقص بينهم على عدد الرؤوس، وهو قول المزني، لان كل واحد منهم لو انفرد أخذ الجميع، فإذا اجتمعوا تساووا كما لو تساووا في الملك
(والثانى)
أنه يقسم بينهم على قدر الانصباء لانه حق يستحق بسبب الملك فيقسط عند الاشتراك على قدر الاملاك كأجرة الدكان وثمرة البستان، وإن عفا بعضهم عن حقه أخذ الباقون جميعه.
لان في أخذ البعض إضرارا بالمشترى، فإن جعل بعضهم حصته لبعض الشركاء لم يصح بل يكون لجميعهم، لان ذلك عفو وليس بهبة.
وإن حضر بعضهم أخذ جميعه، فإن حضر آخر قاسمه، وإن حضر الثالث قاسمهما، لانا بينا أنه لا يجوز التبعيض، فإن أخذ الحاضر الشقص وزاد في يده، بأن كان نخلا فأثمرت، ثم قدم الغائب قاسمه على الشقص دون الثمار، لان الثمار حديث في ملك الحاضر فاختص بها.
وإن قال الحاضر: أنا آخذ بقدر مالى لم يجز، وهل تسقط شفعته فيه وجهان أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنها تسقط لانه قدر على أخذ الجميع وقد تركه.
والثانى: وهو قول أبى إسحاق أنها لا تسقط لانه تركه بعذر، وهو أنه يخشى أن يقدم الغائب فينتزعه منه.
والترك للعذر لا يسقط الشفعة، كما قلنا
فيمن أظهر له المشترى ثمنا كثيرا فترك ثم بان بخلافه
(فصل)
وإن كان المشترى شريكا بأن كان بين ثلاثة دار فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه لم يكن للشريك الثاني أن يأخذ الجميع لان المشترى أحد الشريكين فلم يجز للآخر أن يأخذ الجميع - كما لو كان المشترى أجنبيا - وقال أبو العباس للشريك أن يأخذ الجميع، لانا لو قلنا انه يأخذ النصف لتركنا النصف على المشترى بالشفعة، والانسان لا يأخذ بالشفعة من نفسه، والمذهب الاول، لان المشترى لا يأخذ النصف من نفسه بالشفعة، وإنما يمنع الشريك أن يأخذ الجميع، ويبقى الباقي على ملكه
(فصل)
وان ورث رجلان من أبيهما دارا ثم مات أحدهما وخلف ابنين ثم باع أحد هذين الابنين حصته ففى الشفعة قولان.
أحدهما أن الشفعة بين الاخ والعلم وهو الصحيح لانهما شريكان للمشترى فاشتركا في الشفعة كما لو ملكاه بسبب واحد

(14/326)


(والثانى)
أنها للاخ دون العم لان الاخ أقرب إليه في الشركة لانهما ملكاه بسبب واحد والعم ملك بسبب قبلهما فعلى هذا إن عفا الآخ عن حقه فهل يستحق العم فيه وجهان.
أحدهما.
يستحق به لانه شريك وإنما قدم الاخ عليه لانه أقرب في الشركة فإذا ترك الاخ ثبت للعم كما نقول فيمن قتل رجلين أنه يقتل بالاول لان حقه أسبق فإذا عفا ولى الاول قتل بالثاني: والوجه الثاني أنه لا يستحق لانه لم يستحق الشفعة وقت الوجوب فلم يستحق بعده.
وإن كان بين ثلاثة أنفس دار فباع أحدهم نصيبه من رجلين، وعفا شريكاه عن الشفعة، ثم باع أحد المشتريين نصيبه، فعلى القولين
(أحدهما)
أن الشفعة للمشترى الآخر لانهما ملكاه بسبب واحد، والشريكان الاخران ملكاه بسبب
سابق لملك المشتريين
(والثانى)
أنها بين الجميع لان الجميع شركاء في الملك في حال وجوب الشفعه، وان مات رجل عن دار وخلف ابنتين وأختين ثم باعت إحدى الاختين نصيبها ففيه طريقان، من أصحابنا من قال: هي على القولين.
أحدهما: أن الشفعة للاخت لانها ملكت مع الاخت بسبب واحد وملك البنات بسبب آخر.
والثانى: أن الشفعه بين البنات والاخت لان الجميع شركاء في الملك: ومنهم من قال: إن الشفعه بين البنات والاخت قولا واحدا، لان الجميع ملكن الشقص في وقت واحد لم يسبق بعضهن بعضا.
(الشرح) قال الشافعي: فان علم وأخر الطلب فان كان له عذر من حبس أو غيره فهو على شفعته والا فلا شفعة له، ولا يقطعها طول غيبة، وانما يقطعها أن يعلم فيتركه، وهذا كما قال: إذا علم الشفيع بالبيع وكان معذورا بترك الطلب اما لغيبة أو مرض أو حبس فله ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يقدر على الترك، فان وكل كان على حقه من الشفعة بل لو وكل وهو قادر على الطلب بنفسه جاز وكان على شفعته، لان من ثبت له حق فله الخيار

(14/327)


في استيفائه بنفسه أو بوكيله، وهل إذا قدر على التوكيل مع عجزه عن الطلب بنفسه يكون التوكيل واجبا وشرطا في بقاء شفعته أم لا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حامد المروروذى في جامعه: إن التوكيل واجب عليه بعوض وغير عوض لكونه قادرا به على الطلب.
والوجه الثاني وهو قول أبى على الطبري في إفصاحه: إن التوكيل غير واجب عليه بعوض وغير عوض، لان بذل العوض التزام غرم.
والوجه الثالث وهو قول بعض المتأخرين: إن وجد متطوعا بالوكاله وجب
عليه التوكيل لقدرته على الطلب من غير ضرر، وإن لم يجد إلا مستجعلا - والمستجعل طالب الجعالة لم يجب عليه التوكيل لما فيه من التزام زيادة على الثمن، فعلى هذا إن قيل بوجوب التوكيل بطلت شفعته إن لم يوكل، وان قيل: انها غير واجبة كان على شفعته.
والحال الثانيه: أن يعجز عن التوكيل ويقدر على الاشهاد بالطلب، فعند أبى حنيفة أن الاشهاد شرط في استحقاق الشفعة مع القدرة على الطلب ومع العجز عنه وانه متى لم يشهد مع مكنته من الاشهاد بطلت الشفعة، وعند الشافعي أن الاشهاد مع القدرة على الطلب ليس بواجب، لان الاشهاد انما يراد ليكون بينة له على ارادة الطلب فاستغنى عنه بظهور الطلب، فأما وجوب الاشهاد مع العجز عن الطلب ففيه قولان.
أحدهما وهو ظاهر نص الشافعي أن الاشهاد ليس بواجب، وهو على شفعته ان ترك كالقادر على الطلب.
والقول الثاني: أن الاشهاد واجب، وتركه مبطل للشفعة، والفرق بين القادر على الطلب والعاجز عنه أن ظهور الطلب من القادر عليه يغنى عن الاخبار بمراده، والعاجز عنه قد يحتمل أن يكون امساكه تركا للشفعة، ويحتمل أن يكون قصدا للطلب مع المكنة فافتقر إلى نفى الاحتمال في الاخبار عن مراده بالاشهاد فعلى هذا يجب أن يشهد ويكون بينة كاملة عند الحاكم وهو أن يشهد شاهدين عدلين أو شاهدا وامرأتين، فإن أشهد شاهدا واحدا ليحلف معه لم يجز لان من الحكام

(14/328)


من لا يحكم بالشاهد واليمين فلم يصر مستوثقا لنفسه بالاشهاد، ولو أشهد عبدا أو صبيانا أو فساقا لم يجزه.
وقال أبو حنيفة: يخرجهم به اشهادهم لانه قد ينعتق العبيد ويرشد الفساق
ويبلغ الصبيان وهذا خطأ، لان مقصود الشهادة هو الاداء، فلم ينفع اشهاد من لا يصح منه الاداء، وليس ما ذكره من جواز انتقالهم من أحوالهم بأغلب من جواز بقائهم على أحوالهم، فلو يشهد وطالب عند الحاكم بالشفعة فهو أقوى من الاشهاد في ثبوت الشفعة.
والحال الثالثة: أن يعجز عن التوكيل والاشهاد فهو على حقه من الشفعة، وان تطاول به الزمان ما لم يقدر على القدوم للطلب، فإن قدر على القدوم فأخذ فيه على المعهود في الناقب والمسير من غير ارهاق ولا استعجال كان على شفعته، وان أخر قدومه عن وقت المكنة بطلت شفعته، قال الماوردى: فإن اختلفا فقال المشترى تأخرت مع القدرة عليه، وقال الشفيع: تأخرت للعجز عنه فالقول قول الشفيع مع يمينه إذا كان ما قال ممكنا ويكون على شفعته ولم يقبل قول المشترى في ابطالها، وهكذا لو قال المشترى: قدمت بغير المطالبة، وقال الشفيع: قدمت للطلب كان القول قوله مع يمينه، وهو على شفعته.
(فرع)
وهكذا لو قال المشترى: تقدم علمك على زمان الطلب، وقال الشفيع لم أعلم الا وقت الطلب فالقول قول الشفيع مع يمينه، فأما ما يصير به عالما فالبينة العادلة، وكل جهر طرق سمعه صوته ووقع في نفسه، ولو من امرأة أو عبد أو كافر لان ما تعلق بالمعاملات يستوى فيه خبر الحر والعبد والعدل والفاسق إذا وقع في النفس أن المخبر صادق.
وقال أبو حنيفة: لا يصير عالما الا بالبينة العادله لان الحق لا يثبت الا بها فلو علم الشفيع بالبيع فأمسك عن الطلب لجهله باستحقاق الشفعه ففى بطلانها وجهان مخرجان من اختلاف قولين في الامة إذا أعتقت تحت عبد فأمسك عن الفسخ لجهله باستحقاقه.
(فرع)
إذا باع بمصر شقصا من دار بدمشق وحضر الشفيع فأخر طلبها مع

(14/329)


القدرة عليه ليأتي دمشق فيطالبه بها بطلت شفعته لان قدرته على أخذها بدمشق كقدرته على أخذها بمصر.
ولكن لو أنكر المشترى بمصر أنه خليط فأخرها ليقيم البينة في دمشق كان على شفعته إذا لم يجد بينة بدمشق قال الماوردى واختلف أصحابنا فيمن شهد به البينة في استحقاق الشفعة على وجهين: أحدهما أنه لا شفعة له إلا أن تشهد له البينة بالملك، وبه قال أبو حنيفة لئلا ينتزع ملكا بأمر محتمل والوجه الثاني: أنه يستحق الشفعة إذا شهدت له البينة باليد، وبه قال أبو يوسف، لانها حجة في الملك، لكن يحلف الشفيع مع بينته أنه مالك، ثم يحكم له بالشفعة.
وإذا عرض الشقص قبل البيع على الشفيع فلم يشتره ثم بيع فله المطالبة بالشفعة ولا يسقط حقه منها بامتناعه من الشراء لوجوبها بالبيع الحادث.
فلو عفا الشفيع عنها قبل الشراء كان عفوه باطلا وهو على حقه من الشفعة بعد الشراء لانه عفا عنه قبل استحقاقها فصار كإبرائه من الدين قبل وجوبه.
فإذا صالح الشفيع المشترى على مال يأخذه منه عوضا على تركه الشفعة لم يجز وكان صلحا باطلا وعوضا مردودا، كما لا يجوز أن يعاوض على ما قد استحقه من دين أو شرط.
وفى بطلان شفعته بذلك وجهان
(أحدهما)
أنها قد بطلت لانه تارك لها.
والوجه الثاني: أنها لم تبطل لان الترك مشروط بعوض فلما بطل العوض بطل الترك.
وإذا عفا الشفيع عن بعض الشفعة لم يتبعض العفو، وفيه وجهان.
أحدهما أن العفو باطل وهو على حقه من الشفعه في الكل، لان العفو لما لم يكمل بطل، وبه قال أبو يوسف
والوجه الثاني وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ العفو صحيح في الكل تعليقا لما ظهر من حكم التسليم، وبه قال محمد بن الحسن (فرع)
إذا وجبت الشفعة بخليط فباع حصته قبل الاخذ أو الترك لم يخل حاله عند بيعها من أحد أمرين، إما أن يبيعها قبل العلم بالشفعه أو بعد العلم بها، فإن باع حصته بعد العلم بالشفعة فلا شفعة له، لان المعنى الموجب لها من سوء

(14/330)


المشاركة والخوف من مئونة القسمة قد ارتفع بالبيع وزوال المالك، فعلى هذا لو باع بعض حصته ففى بطلان شفعته وجهان مخرجان من العافى عن بعض شفعته.
أحدهما: أنها لا تبطل وهو على حقه منها لانها لا تستحق بقليل الملك كما تستحق بكثيره.
فأما إن كان بيعه لحصته قبل العلم بشفعته ففى بطلان الشفعة وجهان.
أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ شفعته قد بطلت لانه باع الملك المقصود بالشفعة كما له منافعه.
والثانى حكاه أبو حامد الاسفرايينى أنه على شفعته لانه قد ملكها، وليس في بيعه قبل العلم عفو عنها.
والوجه الاول أصح فإذا علم بالمبيع وقيل له إن الثمن ألف درهم فعفا عن الشفعة ثم بان ان الثمن مائة دينار كانت له الشفعة ولا يؤثر فيها ما تقدم من العفو لانه قد يعفو عن الدراهم لاعوازها معه، وهكذا لو قيل له إن الثمن مائة دينار فعفا عن الشفعه ثم بان أنه ألف درهم كان على شفعته.
وقال أبو يوسف: إن كان قيمة الالف مائة دينار فصاعدا فلا شفعة له، وان كانت قيمته أقل فله الشفعه، وقد خطأ أصحابنا هذا.
وإذا تعدد الشفعاء فقد قال الشافعي: إذا حضر أحد الشفعاء أخذ الكل بجميع الثمن، فان حضر الثاني أخذ منه النصف بنصف الثمن، فان حضر الثالث أخذ منهما الثلث بثلث الثمن حتى يكونوا في ذلك سواء.
وصورتها في دار بين
أربعة شركاء باع أحدهم حصته على غير شركائه فالشفعة فيها واجبه لشركائه الثلاثه، فان كانوا حاضرين وطلب بعضهم الشفعه دون بعض فيعطى الطالب وتبطل الشفعه لمن عفا، وللطالب أن يأخذ جميع الشقص بشفعته وليس له أن يبعض ويأخذ الثلث لما فيه من تفريق الصفقه فإذا كانوا جميعا غائبين فهم على حقوقهم من الشفعه ما لم يكن منهم عفو، فإذا ادعى المشترى على أحدهم العفو عن شفعته لم تسمع دعواه، لان للآخرين أن يأخذا الجميع فلم يكن لدعواه معنى، ولكن لو ادعى شريكان على الثالث منهم العفو سمعت دعواهما لما فيه من توفر حقه عليهما وأحلف لهما ولم تسمع شهادة المشترى عليه بالعفو لما فيها من شفعة عن مطالبته ولو ادعى المشترى على الثلاثة كلهم العفو كان له إحلافهم لانهم لو نكلوا

(14/331)


ردت اليمين عليه وسقط حقهم من الشفعة، فان حلف أحد الثلاثه ونكل إثنان منهم لم ترد أيمانهما على المشترى بنكولهما، لان عفو بعض الشفعاء مما يوجب الترك على المشترى ويأخذه من لم يعف ثم لا يقضى للحالف بالشفعة في الكل الا أن يحلف أن شريكيه قد عفوا، فإذا حلف أخذ كل الشقص وإن نكل أخذ منه قدر حصته وأخذ الناكلان منه قدر حصته.
وقال الشافعي: إذا كان الاثنان اقتسما كان للثالث نقض قسمتهما، وهذا كما قال: إذا كان للشقص المبيع ثلاثة شفعاء فحضر إثنان فأخذا الشقص بينهما لغيبة الثالث منعا من قسمته لان في الشقص حقا لشريكهما الغائب مع السهم الذى لم بقديم ملك، فان اقتسماه كانت القسمة باطلة، فلو حضر فعفا عن الشفعه لم تصح القسمة المتقدمة لفسادها ولو أراد الشفيعان الحاضران أن يبيعا ما كان لهما بقديم الملك وما أخذاه
بحادث الشفعة لم يمنعا من ذلك لحق الغائب وقدرته على أخذه بأى العقدين شاء، فإذا قدم الغائب وقد باع الحاضران ما أخذاه بالشفعة فهو بالخيار بين أن يأخذ بالشفعتين وبين أن يأخذ بالاولى ويعفو عن الثانيه، وبين أن يأخذ بالثانية ويعفو عن الاولى.
فان أراد أن يأخذ بالشفعتين أخذ بالاولة ثلث الشقص وبطل البيع فيه وأخذ بالثانيه نصف الباقي وهو ثلث الشقص، لانه أخذ شفعتين ففضل له ثلث الشقص بالشفعتين وإن أراد أن يأخذ بالشفعه الثانيه ويعفو عن الاولة صح البيع في الجميع وأخذ نصف الشقص كله لانه أخذ شفعتين.
وإن أراد أن يأخذ بالشفعه الاولة ويعفو عن الثانيه أخذ ثلث الشقص لانه أخذ ثلث الشفعه، فان أحب أن يأخذه بشفعته الثانيه صح البيع في الكل وكان له أخذ الجميع بها لانه شفيع واحد.
وإن أراد أن يأخذه بالشفعتين أخذ ثلث الشقص بشفعته الاولة وبطل فيه البيع وصح في ثلثيه فيما كان لهما بقديم الملك وأخذهما بشفعته الثانيه (فرع)
قال الشافعي: ولو ورثه رجلان فمات أحدهما وله ابنان فباع أحدهما نصيبه فأراد أخوه الشفعه دون عمه فكلاهما سواء، لانهما فيها شريكان.

(14/332)


قال المزني: هذا أصح من أحد قوليه: إن أخاه أحق بنصيبه.
قال المزني: وفى تسويته بين الشفعتين على كثرة ما للعم على الاخ.
وصورتها في دار بين رجلين، إما أخوين أو أجنبيين ملكاها بسبب واحد أو بسببين مات أحدهما وترك ابنين فصارت الدار بينهم على أربعة أسهم للباقى من الاخوين المالكين سهمان ولكل واحد من ابن الميت سهم واحد، باع أحد الابنين حقه وهو سهم واحد على أجنبي فالشفعة مستحقة فيه، وهل يختص بها أخوه أو تكون بينه وبين العم.
فيه قولان
أحدهما: وهو أحد قوليه في القديم: ان الاخ أحق بشفعة أخيه من العم لامرين: أحدهما أنهما اشتركا في سبب ملكه، وتميز العم عنهما بسببه فكان الاخ لمشاركته في السبب أحق بشفعة أخيه من العم لتفرده (بسببه) ؟
(والثانى)
أن ملك الاخوين كان مجتمعا في حياة الاب وقد يجرى عليه حكم الاجتماع بعد موت الاب.
ألا ترى لو ظهر على الاب دين تعلق بالسهمين معا ولم يتعلق بسهم العم.
والقول الثاني قاله في الجديد وبعض القديم أن الشفعة مشتركة بين الاخ والعم لامرين:
(أحدهما)
أنه لما تساويا في الاشتراك وجب أن يتساويا في الاستحقاق كالمختلفى الاسباب
(والثانى)
أن ما أخذ بالشفعة أخذت به الشفعة، وقد ثبت أن العم لو باع حصته تشاركا في شفعته، فاقتضى أن يشاركهما بشفعته.
فإذا تقرر توجيه القولين، فان قيل بأن الاخ أحق بها تفرد بأخذها دون العم، فان عفا الاخ عنها احتمل استحقاق العم لها وجهين.

(أحدهما)
لا حق له فيها لخروجه عن استحقاقها والوجه الثاني: يستحقها لخلطته، وإنما قدم الاخ عليه لامتزاج سببه، وان قيل إنها بينهما نصفين بالسوية، وبه قال أبو حنيفة لامرين: أنها تستحق بقليل الملك كما تستحق بكثيره حتى لو ملك أحد الشريكين سهما من عشرة أسهم أخذ به شفعة التسعة الباقيه، ولو بيع السهم أخذه صاحب التسعه الباقيه فاقتضى أن يتساوى الشريكان فيهما.

(14/333)


وإن تفاضلا في المال اعتبارا بأعداد الرؤوس لا بقدر الاملاك كالعبد المشترك يملك أحد الثلاثة نصفه والثانى ثلثه والثالث سدسه فإذا أعتق صاحبا النصف والسدس حقوقهما معا قوم عليهما الثلث نصفين وعتق بينهما بالسوية
كذلك الشفعة.
والثانى: أن استحقاق الشفعة لرفع الضرر بها وقد يستضر صاحب الاقل كاستضرار صاحب الاكثر فوجب أن يساوى صاحب الاقل منهما صاحب الاكثر فعلى هذا تصير الدار بينهم على ثمانية أسهم، خمسة منها للعم منها أربعة بقديم ملكه وسهم بشفعته، وثلاثة أسهم للاخ منها سهمان بقديم ملكه وسهم بشفعته.
والقول الثاني قاله في الجديد - وهو الصحيح - أنها بينهما على قدر مالهما اعتبارا بالاملاك، وبه قال مالك لامرين.
أحدهما: أن منافع الملك يتوزع على قدره كالارباح في التجارة والنتاج في الحيوان.
والثانى: أن الشفعة إنما وجبت لرفع الضرر بها عن الملك الداخل عليه بحق لا بظلم مثل مؤونة القسمة ونقصان القيمة بعد القسمة، وهذا يقل ويكثر لقلة الملك وكثرته فوجب أن يتقسط على الاملاك دون الملاك.
وأما سوء الم؟ اركة فظلم يمكن رفعه بالسلطان، وفى هذا انفصال، فعلى هذا تكون الشفعة بينهما على ثلاثة أسهم لصاحب النصف سهمان ولصاحب الربع سهم واحد وتصبر جميع الدار بينهما أثلاثا.
فأما المزني فإنه اختار من القولين الاولين أن تكون الشفعة بينهما وهو أصح القولين ثم اختار من القولين الآخرين أن يكون بينهما نصفين استدلالا بما ذكرنا من العتق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن تصرف المشترى في الشقص ثم حضر الشفيع نظرت، فان تصرف بما لا تستحق به الشفعة كالوقف والهبة والرهن والاجارة فللشفيع أن يفسخ ويأخذ لان حقه سابق للتصرف ومع بقاء التصرف لا يمكن الاخذ فملك الفسخ، وإن تصرف بما تستحق به الشفعة كالبيع والصداق فهو بالخيار بين أن

(14/334)


يفسخ ويأخذ بالعقد الاول وبين أن يأخذ بالعقد الثاني، لانه شفيع بالعقدين، فجاز أن يأخذ بما شاء منهما، وإن قايل البائع أو رده عليه بعيب فللشفيع أن يفسخ الاقالة والرد بالعيب، ويأخذه لان حقه سابق ولا يمكن الاخذ مع الاقالة والرد بالعيب، فملك الفسخ، وإن تحالفا على الثمن وفسخ العقد جاز للشفيع أن يأخذ بالثمن الذى حلف عليه البائع، لان البائع أقر للمشترى بالملك وللشفيع بالشفعة بالثمن، الذى حلف عليه، فإذا بطل حق المشترى بالتحالف بقى حق الشفيع، وإن اشترى شقصا بعبد ووجد البائع بالعبد عيبا ورده قبل أن يأخذ الشفيع ففيه وجهان.
أحدهما: يقدم الشفيع لان حقه سابق لانه ثبت بالعقد وحق البائع ثبت بالرد، والثانى أن البائع أولى لان في تقديم الشفيع اضرارا بالبائع في إسقاط حقه من الرد والضرر لا يزال بالضرر وإن أصدق إمرأته شقصا وطلقها قبل الدخول وقبل أن يأخذ الشفيع ففيه وجهان.

(أحدهما)
يقدم الزوج على الشفيع لان حق الزوج أقوى لانه ثبت بنص الكتاب وحق الشفيع ثبت بخبر الواحد فقدم حق الزوج (الثاني) يقدم الشفيع لان حقه سابق لانه ثبت بالعقد وحق الزوج ثبت بالطلاق.
(الشرح) الاحكام: على المنصوص من حق الشفيع بقدم الملك أن يفسخ تصرف المشترى في الشقص إذا بذله فيما لا تستحق به الشفعة كأن وقفه أو وهبه أو رهنه أو آجره لسبق حقه على التصرف الحادث بعد قيام حقه في الشفعة لانه لا يملك الاخذ للشقص ما دام تصرفه نافذا فلا مناص من الفسخ.
أما البيع والصداق فهو مخير بين أن يأخذ بأحد العقدين، فإما أن يأخذ بالثمن الذى بذله المشترى أو بالثمن الذى أخذه أو بمهر المثل بما هو الاحظ له.
فإذا تبايع الرجلان شقصا فعفا الشفيع عن شفعته فلا شفعة فيه بالاقالة لانها رفع
للعقد وليست استيفاء ولم يكن الشفيع قد عفا حتى تقايلا كان للشفيع إبطال الاقاله لما فيها من إسقاط حقه من الشفعة ثم يأخذ الشقص بشفعة البائع فلو كان مشترى

(14/335)


الشقص قد وقفه قبل عفو الشفيع فللشفيع إبطال الوقف وأخذ الشقص بالشفعه وكذا إذا رهنه أبطل الرهن وأخذه بالشفعة، ولو أجره أخذه ثم له الخيار في إمضاء الاجارة وفسخها، ولا تبطل بأخذ الشفيع بخلاف الرهن، فإن أمضاها الشفيع فالاجرة للمشترى دون الشفيع لانه عقدها في ملكه، ولو كان المشترى قد باع الشقص على غيره كان الشفيع مخيرا بين إمضاء البيع وأخذه بالشفعة من المشترى الثاني وبين فسخه وأخذه بالشفعة من المشترى الاول.
وفى الصداق خلاف بين الفقهاء فقد قال مالك وابن أبى ليلى: يأخذ الشقص بقيمته لا بمهر المثل، وحكى نحوه عن الشافعي في القديم لان المهور قد يزاد فيها وينقص فخالفت البيوع وهذا فاسد من وجهين.

(أحدهما)
وجود هذا المعنى في الاثمان لجواز الزيادة والنقصان فيها ثم لم يمنع ذلك من أن يؤخذ الشقص بمثل الثمن، كذلك لا يمتنع في الصداق أن يؤخذ بقيمة البضع
(والثانى)
أن ما لا مثل له من الاعواض يوجب الرجوع إلى قيمة العوض دون الشقص من ذلك البضع الذى لا مثل له فإنه يوجب الرجوع إلى قيمته من المهر دون الشقص، فإذا ثبت أنه مأخوذ بمهر المثل فسواء كان قيمة المثل بازاء مهر المثل أو كان زائدا عليه أو ناقصا عنه حتى لو كان مهر المثل دينارا وأخذ الشقص بمائة دينار فعلى هذا لو اختلفا في مهر المثل فترافعا فيه إلى الحاكم ليجتهد في مهر مثلها ويسقط تنازعهما.
(فرع)
قال الشافعي: فان طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف قيمة الشقص وهذا كما قال: إذا طلقها الزوج وقد أصدقها شقصا من دار لم يخل
حال الطلاق من أن يكون قبل الدخول أو بعده، فان كان بعد الدخول فلا رجوع له بشئ منه، وان كان قبل الدخول فقد استحق الرجوع بنصف الصداق لقوله تعالى " وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ثم لا يخلو حال الشفيع من ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن يكون قد أخذ الشقص من الزوجة شفعته فللزوج أن يرجع عليها بنصف قيمة الشقص في أقل أحواله قيمة من حين أصدق إلى أن أقبض، ويكون استحقاقه بالشفعة لزوال ملكها عنه ببيع أو هبة

(14/336)


والحال الثانية: أن يكون الشفيع قد عفا عن شفعته فيه فللزوج أن يرجع عليها بنصفه لبقائه في يدها ولا شفعة على الزوج في النصف الذى ملكه بالطلاق لانه ملك بغير بدل.
والحال الثالثة: أن يكون الشفيع على حقه لعذر طال به فلم يعف ولم يأخذ حتى طلق الزوج، فأيهما أحق بالشفعة؟ فيه وجهان " أحدهما " أن الزوج أحق من الشفيع لان حقه ثابت بنص كتاب مقطوع به، وحق الشفيع ثبت استدلالا بخبر الواحد فكان ظنيا، والقطعي يرد الظنى، فعلى هذا يرجع الزوج بنصف الشقص ويكون الشفيع بعد ذلك مخيرا في أخذ النصف الباقي بنصف مهر المثل.
والوجه الثاني وهو أصح أن الشفيع أحق به من الزوج لامرين: (ا) لان الزوج يرجع عن الشقص إلى بدل، والشفيع لا يرجع عنه إلى بدل (ب) أن حق الزوج متأخر وحق الشفيع اسبق، فعلى هذا يعرض على الشفيع فان أخذه رجع الزوج عليها بنصف قيمته، وإن تركه رجع الزوج بنصفه، وقد زعم بعض الاصحاب أن تخريج هذين الوجهين في اختلافهم في نصف الصداق هل يملكه الزوج بالطلاق أو بالتملك، فان قيل بالطلاق كان أحق من الشفيع، وإن
قيل بالتملك كان الشفيع أحق.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان اشترى شقصا وكان الشفيع غائبا فقاسم وكيله في القسمة أو رفع الامر إلى الحاكم فقاسمه وغرس وبنى ثم حضر الشفيع أو أظهر له ثمنا كثيرا فقاسمه ثم غرس وبنى ثم بان خلافه وأراد الاخذ فان اختار المشترى قلع الغراس والبناء لم يمنع لانه ملكه فملك نقله ولا تلزمه تسوية الارض لانه غير متعد، وإن لم يختر القلع فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقص بالثمن والغراس والبناء بالقيمة وبين أن يقلع الغراس والبناء ويضمن ما بين قيمته قائما ومقلوعا، لان النبي صلى الله عليه سلم قال: لا ضرر ولا ضرار، ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك.

(14/337)


(فصل)
وإن اشترى شقصا وحدث فيه زيادة قبل أن يأخذ الشفيع نظرت فان كانت زيادته لا تتميز كالفسيل إذا طال وامتلا، فان الشفيع يأخذه مع زيادته لان ما لا يتميز يتبع الاصل في الملك كما يتبعه في الرد بالعيب، وإن كانت متميزة كالثمرة فان كانت ثمرة ظاهرة لم يكن للشفيع فيها حق لان الثمرة الظاهرة لا تتبع الاصل كما قلنا في الرد بالعيب، وإن كانت غير ظاهرة ففيها قولان.
قال في القديم: تتبع الاصل كما تتبع في البيع.
وقال في الجديد: لا تتبعه لانه استحقاق بغير تراض، فلا يؤخذ به إلا ما دخل بالعقد ويخالف البيع لانه استحقاق عن تراض يقدر فيه على الاستثناء فإذا لم يستثن تبع الاصل
(فصل)
إذا أراد الشفيع أن يأخذ الشقص ملك الاخذ من غير حكم الحاكم لان الشفعة ثابتة بالنص والاجماع فلم تفتقر إلى الحاكم كالرد بالعيب، فإن كان الشقص في يد المشترى أخذه منه، وإن كان في يد البائع ففيه وجهان
أحدهما يجوز أن يأخذ منه لانه استحق فملك الاخذ، كما لو كان في يد المشترى.
والثانى لا يجوز أن يأخذ منه، بل يجبر المشترى على القبض ثم يأخذه منه، لان الاخذ من البائع يؤدى إلى إسقاط الشفعه، لانه يفوت به التسليم، وفوات التسليم يوجب بطلان العقد، فإذا بطل العقد سقطت الشفعة، وما أدى إثباته إلى إسقاطه سقط.

(فصل)
ويملك الشفيع الشقص بالاخذ لانه تملك مال بالقهر فوقع الملك فيه بالاخذ كتملك المباحات، ولا يثبت فيه خيار الشرط، لان الشرط إنما يثبت مع تملك الاختيار، والشقص يؤخذ بالاجبار فلم يصح فيه شرط الخيار، وهل يثبت له خيار المجلس فيه وجهان
(أحدهما)
يثبت لانه تملك مال بالثمن فثبت فيه خيار المجلس كالبيع
(والثانى)
لا يثبت لانه إزالة ملك لدفع الضرر فلم يثبت فيه خيار المجلس كالرد بالعيب.

(فصل)
وإن وجد بالشقص عيبا فله أن يرده لانه ملكه بالثمن فثبت له الرد بالعيب كالمشترى في البيع، وإن خرج مستحقا رجع بالعهدة على المشترى لانه أخذ منه على أنه ملكه فرجع بالعهدة عليه كما لو اشتراه منه

(14/338)


(الشرح) قال الشافعي: ولو قاسم وبنى قيل للشفيع: إن شئت فخذ الثمن وقيمة البناء أو دع لانه بنى غير متعد فلا يهدم ما بناه قال المزني: هذا غلط، وكيف لا يكون متعديا وقد بنى فيما للشفيع فيه شرك مشاع، ولولا أن للشفيع فيه شركا ما كان شفيعا.
وصورة هذه المسألة في رجل اشترى شقصا من دار وقاسم عليه ثم بنى في حصته وحضر الشفيع مطالبا لشفعته قال الشافعي: قيل للشفيع إن شئت فخذ الشقص بثمنه وبقيمة البناء قائما، ولا يجبر المشترى على قلعه لانه بناء غير متعد، وهكذا عمارة الارض للزرع.
قال المزني: هذا غلط من الشافعي لان القسمة إن وقعت مع الشفيع فقد
بطلت شفعته وصحت القسمة، وإن لم يقاسمه الشفيع فالقسمة باطلة والشفعة واجبة، فلم تجتمع صحة القسمة مع بقاء الشفعة.
وهذا الذى اعترض به المزني على الشافعي من تنافى بقاء الشفعة وصحة القسمة غلط، لانه قد تصح القسمة مع بقاء الشفعة من خمسة أوجه.
(أحدها) أن يكون الشفيع غائبا وقد وكل في مقاسمة شركائه وكيلا فيطالب المشترى الوكيل بمقاسمته على ما اشترى، فيجوز للوكيل أن يقاسمه لتوكيله في المقاسمة، ولا يجوز أن يطالبه بالشفعة لانه غير موكل في طلب الشفعة ويكون الشفيع على شفعته بعد القسمه ويكون المشترى غير متعد في البناء.
والوجه الثاني: أن لا يكون للشفيع الغائب وكيل في القسمة فيأبى المشترى التحاكم فيسأله أن يقاسمه على الغائب فيجوز للحاكم مقاسمة المشترى إذا كان الشريك بعيد الغيبة وليس له أن يأخذ للغائب بالشفعة الا لمولى عليه، ولا تبطل شفعة الغائب بمقاسمة الحاكم عنه، والمشترى غير متعد في البناء.
والوجه الثالث: أن يذكر المشترى للشفيع ثمنا موفورا فيعفو عن الشفعة لوفور الثمن ويقاسم المشترى، ثم يبين أن الثمن أقل مما ذكره المشترى فالقسمة صحيحه والشفعه واجبه والمشترى غير متعد ببنائه، لانه بالكذب متعد في قوله لا في قسمته وبنيانه، فصار كرجل ابتاع دارا بثمن قد داسه بعيب ثم بنى ووجد البائع العيب في الثمن فعليه إذا رد المعيب واسترجع الدار أن يدفع إلى المشترى قيمة البناء قائما لانه بناء غير متعد في فعله، وان دلس كاذبا في قوله

(14/339)


والوجه الرابع أن ينكر المشترى الشراء ويدعى الهبة فيكون القول قوله مع يمينه ولا شفعة عليه في الظاهر فيقاسمه الشريك ثم يبنى وتقوم البينة عليه بعد بنائه بالشراء، فالشفعة واجبة مع صحة القسمه ولا يكون متعديا بالبناء مع جحوده
الشراء لانه تعدى في القول دون الفعل والوجه الخامس: أن يكون الشفيع طفلا أو مجنونا فيمسك الولى عن طلب الشفعة ويقاسم المشترى، ثم يبلغ الطفل ويفيق المجنون فتكون له الشفعة مع صحة القسمة، ولايكون إمساك الولى عن الشفعة مبطلا للقسمه، ولا مقاسمته مبطلا للشفعة.
فإذا صحت القسمة مع بقاء الشفعة من هذه الوجوه الخمسة وبطل اعتراض المزني بها لم يجبر المشترى على قلع بنائه وقيل للشفيع إن شئت فخذ الشقص بثمنه وقيمة البناء.
وقال أبو حنيفة: يجبر المشترى على قلع بنائه ولا قيمة له على الشفيع استدلالا بأن حق الشفيع أسبق من بنائه فصار كالاستحقاق بالغصب.
وهذا خطأ لان المشترى تام الملك قبل أخذ الشقص، ألا تراه يملك النماء، ومن بنى في ملكه لم يتعد كالذى لا شفعة عليه، ومن بنى في ملكه لم يكن جواز انتزاعه من يده موجبا لتعديه ونقض بنائه كالموهوب له إذا بنى ورجع الواهب في هبته، ولان الشفعه موضوعه لازالة الضرر فلم يجز أن تزال بضرر.
وفى أخذ المشترى بهدم بنائه ضرر.
فأما الجواب عما ذكره من إلحاقه بالغصب فهو تعدى الغاصب بتصرفه في غير ملكه، وليس المشترى متعديا لتصرفه في ملكه (فرع)
قال الشافعي: ولو كان الشقص في النخل فزادت كان له أخذها زائدة.
أما النخل فلا يخلو حال بيعها من ثلاثة أقسام " أحدها " أن تباع مفردة عن الارض فلا شفعة فيها.
وكذلك سائر الاشجار كالابنيه التى إذا أفردت بالعقد لم تجب فيها الشفعه، لانها مما ينتقل عن الارض والمنقول لا شفعة فيه كالزرع.
والقسم الثاني أن تباع النخل مع الارض فتجب فيها الشفعه تبعا للارض بخلاف الزرع، لانه لا يتبع الارض في البيع ولا يتبعها في الزرع، والفرق
بينهما ان إقرار الزرع في الارض غير مستدام واقرار النخل والشجر مستدام.

(14/340)


وأوجب أبو حنيفة الشفعه في الزرع تبعا للارض.
والقسم الثالث أن يباع النخل مع قرارها مفردة عما يتخللها من بياض الارض ففى وجوب الشفعة فيها وجهان، وكذلك بيع البناء مع قراره دون البياض على هذين الوجهين: " أحدهما " فيه الشفعه لانه فرع لاصل ثابت " والوجه الثاني " أنه لا شفعة فيه لان قرار النخل يكون تبعا لها، فلما لم تجب الشفعه فيها مفردة لم تجب في تبعها فإذا تقرر هذا وكان المبيع شقصا من أرض ذات نخل وشجر فزادت بعد البيع وقبل أخذ الشفيع لغيبه أو عذر لا تبطل به الشفعه لم يخل حال الزيادة من أحد أمرين: إما أن تكون مثمرة أو غير مثمرة، فإن كانت الزيادة غير مثمرة كالفسيل إذا طال وامتلا، والغرس إذا استغلظ واستوى فللشفيع أن يأخذ ذلك بزيادته، لان مالا يتميز من الزيادة تبعا لاصله، وان كانت الزيادة متميزة كالثمرة الحادثه بعد البيع فلا يخلو حالها عند الاخذ بالشفعه من أن تكون مؤبرة أو غير مؤبرة، فإن كانت مؤبرة فلا حق فيها للشفيع وهى ملك المشترى، لان ما كان مؤبرا من الثمار لا يتبع أصله وعلى الشفيع أن يقرها على نخله إلى وقت الجداد، وان كانت الثمرة غير مؤبرة ففى استحقاق الشفيع لها قولان: أحدهما: يستحقها لاتصالها كما يدخل في البيع تبعا.
وهذا قوله في الجديد، ويكون الفرق بين الشفعه والبيع أن البيع نقل ملك بعوض عن مراضاة فجاز أن يكون ما لم يؤبر من الثمار تبعا للقدرة على استثنائها بالعقد، والشفعه استحقاق ملك بغير مراضاة فلم يملك بها الا ما تناوله العقد، وهكذا الحكم في كل ما استحق بغير مراضاة كالشفعه والتفليس، أو يكون بغير عوض كالرهن والهبة، هل يكون ما لم يؤبر من الثمار فيها تبعا لاصلها على ما ذكرنا من القولين
(فرع)
أما قوله: إذا أراد الشفيع أن يأخذ الشقص ملك الاخذ الخ، فقد مضى قولنا ما حاصله ان كان الشفيع قادرا على الطلب فله ثلاثة أحوال: (ا) أن يبادر إلى الطلب فهو على حقه من الشفعه ولا يحتاج إلى حكم حاكم في الاخذ بها، لانها ثبتت بالنص الصحيح المرفوع وبالاجماع، ولم يشذ الا الاصم، وللحاكم أن ينظره حتى يحضر الثمن يوما أو يومين.

(14/341)


(ب) خياره في التمسك بالشفعة والعفو عنها والعفو على ضربين صريح وتعريض، وذهب أبو حنيفة إلى صحة العفو في بعض التعريض القوى لشبهه بالتصريح (ج) زمان المكنة، وقد أوضحنا كل هذه الاحوال بما لا مزيد عليه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَرْعٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وإذا اشترى شقصا على أنها بالخيار جميعا فلا شفعة حتى يسلم البائع، وإن كان الخيار للمشترى دون البائع فقد خرج من ملك البائع وفيه الشفعه اه.
قلت: إن ما يثبت من الخيار في البيع على أربعة أقسام: 1 - خيار عقد 2 - خيار شرط 3 - خيار رؤية 4 - خيار عيب فالاول هو خيار المجلس فلا تستحق فيه الشفعة إلا بعد إمضائه بالافتراق عن تمام، وسواء قيل: إن الملك منتقل بنفس العقد أو بالافتراق مع تقديم العقد لان ثبوت الفسخ لكل واحد منهما يمنع من استقرار العقد بينهما، ولان البائع لما لم يلزمه عقد المشترى فأولى أن لا يلزمه شفعة الشفيع، فإذا افترقا عن تمام وإمضاء استحق الشفيع حينئذ أن يأخذ بالشفعة.
وبماذا يصير الشفيع مالكا على ثلاثة أقوال من اختلاف أقواله في اقتضاء الملك.
1 - أن يكون مالكا لها بنفس العقد 2 - أن يكون مالكا للشفعة بافتراقهما عن تراض وهذا على القول الذى يقول فيه: لا ينتقل إلا بالعقد والافتراق.
3 - أن ملك الشفعة كان موقوفا على اتمام العقد وامضائه فتمامه يدل على تقديم ملكها بالعقد، وفسخه يدل على أنه لم يملكها بالعقد، وهذا يدل على الذى يقول فيه: ان الملك موقوف فإذا أخذ ذلك بالشفعة بعد الافتراق عن تراض بحكم أو بغير حكم فهل ثبت له بعد الاخذ خيار المجلس أم لا؟ على وجهين لاصحابنا أحدهما: أن له خيار المجلس لانه يملك بمعاوضة كالبيع.
والوجه الثاني وهو أصح: أنه لا خيار له لان الشفعه موضوعه لرفع الضرر بها

(14/342)


كالرد بالعيب الذى لا يملك فيه بعد الرد خيارا وليس كالبيع الموضوع للمعاينه وطلب الارباح.
وأما خيار الشرط فله ثلاثة أحوال: ا - أن يكون خيار الثلاث مشروطا للبائع والمشترى.
ب - أن يكون مشروطا للبائع دون المشترى.
ج - أن يكون مشروطا للمشترى دون البائع، فإن كان الخيار مشروطا للبائع والمشترى أو للبائع دون المشترى فلا حق للشفيع في أخذه بالشفعه ما لم تنقض مدة الخيار لما ذكرنا في خيار المجلس، فإذا تم البيع بينهما بانقضاء مدة الخيار استحق الشفيع حينئذ الاخذ بالشفعه، وبماذا يصير مالكا لها؟ على ما مضى من الاقوال الثلاثه، وان كان الخيار مشروطا للمشترى دون البائع فقد روى المزني ههنا أن للشفيع أخذه بالشفعه، ورواه الربيع أيضا، قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا حق للشفيع في أخذه الا بعد نقض مدة الخيار، فإن قيل: انه لا ينتقل
الا بالعقد وانقضاء مدة الخيار لان الشفيع يملك عن المشترى فامتنع أن يملك ما لم يملكه المشترى، وان قيل: ان الملك قد انتقل بنفس العقد ففيه قولان.
1 - أن فيه الشفعه لان علقة البائع عنه منقطعه وخيار المشترى فيه كخياره في الرد بالعيب وهو لا يمنع الشفيع من الاخذ وهى رواية المزني.
2 - أنه لا شفعة فيه الا بانقضاء مدة الخيار لان المشترى لم يرض بدخوله في عهدة العقد فخالف خيار العيب الموضوع لاستدراك الغبن الذى قد يحصل له من جهة الشفيع، وهى رواية الربيع.
وأما خيار الرؤيه فهو حال غياب العين المبيعة وفى صحة البيع به قولان ويتفرع عليهما خلاف في صحة الشفعة، وأما خيار العيب فإما أن يكون في الشقص أو في الثمن فالاول خياره للمشترى وللشفيع أن يأخذه منه بعيبه ويمنعه من رده، لان رد المشترى بالعيب لاستدراك الغبن وهو يستدرك من الشفيع للحصول على الثمن الذى دفعة، فلو صالح المشترى البائع على أرشه كان للشفيع أخذه بالباقي بعد اسقاط الارش، ان قيل بجواز أخذ الارش صلحا مع بقاء

(14/343)


العين في أحد الوجهين، وإن قيل لا يجوز أخذه الشفيع بجميع الثمن، وأما العيب في الثمن ففى آخر الباب وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن مات الشفيع قبل العفو والاخذ انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته لانه قبض استحقه بعقد البيع فانتقل إلى الورثة كقبض المشترى في البيع ولانه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب وان كان له وارثان فعفا أحدهما عن حقه سقط حقه وهل يسقط حق الآخر فيه وجهان.
أحدهما: يسقط لانها شفعة واحدة، فإذا عفى عن بعضها سقط الباقي كالشفيع إذا عفا عن
بعض الشقص، والثانى: لا يسقط لانه عفا عن حقه فلم يسقط حق غيره كما لو عفا أحد الشفيعين.

(فصل)
إذا اختلف الشريكان في الدار فادعى أحدهما على الآخر أنه ابتاع نصيبه فله أخذه بالشفعة، وقال الآخر: بل ورثته أو أوهبته فلا شفعة لك، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، لانه يدعى عليه استحقاق ملكه بالشفعة، فكان القول قوله كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة، فإن نكل عن اليمين حلف المدعى وأخذ بالشفعة، وفى الثمن ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه يقال للمدعى عليه قد أقر لك بالثمن وهو مصدق في ذلك، فاما أن تأخذه أو تبرئه من الثمن الذى لك عليه كما قلنا في المكاتب إذا حمل نجما إلى المولى فادعى المولى أنه مغصوب.
والثانى: أنه يترك الثمن في يد المدعى لانه قد أقر لمن لا يدعيه فأقر في يده كما لو أقر بدار لرجل وكذبه المقر له.
والثالث: يأخذه الحاكم ويحفظه إلى أن يدعيه صاحبه لانهما اتفقا على أنهما لا يستحقان ذلك.

(فصل)
وان ادعى كل واحد منهما على شريكه أنه ابتاع حصته بعده، وأنه يستحق على ذلك بالشفعة، فالقول قول كل واحد منهما، لما ذكرناه، فان

(14/344)


سبق أحدهما فادعى وحلف المدعى عليه استقر ملكه.
ثم يدعى الحالف على الآخر فإن حلف أستقر أيضا ملكه.
وإن نكل الاول ردت اليمين على المدعى فإذا حلف استحق، وإن أراد الناكل أن يدعى على الآخر بعد ذلك لم تسمع دعواه، لانه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة (الشرح) الاحكام: سبق الكلام في ميراث الشفعة في فصل مضى، فإذا
صح ما ذكرنا لم يخل أن يكون موت الشفيع قبل البيع أو بعده، فإن كان موته قبل البيع فالشفعة إنما حدثت على ملك الورثة، ولم يكن للموروث فيها حق لتقدم موته على البيع، ثم يكون بين جميع من ملك ميراث الحصة، وفيها قولان
(أحدهما)
أنها بينهم على عدد رؤوسهم، الزوجة والابن فيها سواء على ما حكاه المزني عن الشافعي.

(والثانى)
أنها مقسطة بينهم على قدر مواريثهم للزوجة الثمن وللابن الباقي وعلى هذا لو عفا أحد الورثة لم يسقط حق من لم يعف، وكان لمن بقى من الورثة - ولو كان واحدا - أن يأخذ جميع الشفعة كالشراء، فإذا عفا بعضهم عاد حقه إلى من بقى، وان مات الشفيع بعد البيع فقد ملك الشفعة بالبيع وانتقلت عنه بالموت إلى ورثته، ويستوى فيها الوارث بنسب وسبب، وهى بينهم على قدر مواريثهم للزوجه الثمن والباقى للابن قولا واحدا، لانهم إنما يأخذونها عن ميتهم فكانت بينهم على قدر مواريثهم، ويكون تأويل ما نقله المزني عن الشافعي أن امرأته وابنه في ذلك سواء، يعنى في استحقاقها لجميع الورثة، لا يختصر بها بعضهم دون بعض.
قال الماوردى: كان بعض أصحابنا يغلط فيخرج ذلك على قولين ويجعل ما نقله المزني أحد القولين.
فعلى هذا لو أن أحد الورثة حضر مطالبا قضى له بجميع الشفعه، والقول الثاني وهو أصح أنه لا يرجع على من بقى، لان جميعهم شفيع واحد.
وليسوا كالشركاء الذين كل واحد منهم شفيع مستقل، فعلى هذا لو حضر أحد الورثة مطالبا لم يقض له بشئ حتى يجتمعوا، فإن عفا أحدهم عن حقه فهل تبطل بحقه

(14/345)


شفعة من بقى على وجهين " أحدهما " وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنها قد
بطلت وسقط حق من لم يعف لانها شفعة واحدة عفا عن بعضها فصار كالشفيع إذا عفا عن بعض شفعته سقط جميعها.
والثانى وبه قال أبو حامد الاسفرايينى: إن من لم يعف على شفعته يأخذ منها بقدر ميراثه ولا يكون عفو غيره مبطلا لحقه بخلاف الواحد إذا عفا عن بعض شفعته، لان الواحد قد كان له أخذ جميعها فجاز أن يسقط بعفوه عن البعض جميعها، وليس كذلك أحد الورثة لانه لا يملك منها إلا قدر حقه فلم يبطل بالعفو عن غير حقه، ولان العافى عن البعض مختار للعفو فجاز أن يسرى عفوه في جميع حقه، وليس الباقي من الورثة مختارا للعفو فلم يسر عفو غيره في حقه.
(فرع)
إذا ادعى على شريكه: أنك اشتريت نصيبك من عمرو فلى شفعته فصدقه عمرو فأنكر الشريك وقال: بل ورثته من أبى فأقام المدعى بينة أنه كان ملك عمرو لم تثبت الشفعة بذلك، وقال محمد بن الحسن: تثبت.
ويقال له: إما أن تدفعه وتأخذ الثمن وإما أن ترده إلى البائع فيأخذه الشفيع منهما لانهما شهدا بالملك لعمرو فكأنهما شهدا بالبيع فإذا ادعى الشفيع على بعض الشركاء أنك اشتريت نصيبك فلى أخذه بالشفعة فإنه يحتاج إلى تحرير دعواه فيحدد المكان الذى فيه الشقص، ويذكر قدر الشقص والثمن ويدعى الشفعة فيه، فإذا فعل ذلك سئل المدعى عليه، فإن أقر لزمه.
وان أنكر وقال: انما اتهبته أو ورثته فلا شفعة لك فيه فالقول قول من ينفيه، كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة، فإن حلف برئ وان نكل وقضى عليه.
وان قال: لا تستحق على الشفعة، فالقول قوله مع يمينه، ويكون يمينه على حسب قوله في الانكار.
وإذا نكل وقضى عليه بالشفعة عرض عليه الثمن فإن أخذه دفع إليه، وان قال لا أستحقه ففيه ثلاثة أوجه 1 - يقر في يد الشفيع إلى أن يدعيه المشترى فيدفع إليه، كما لو أقر له بدار
فأنكرها.
2 - أن يأخذه الحاكم فيحفظه لصاحبه إلى أن يدعيه المشترى.
ومتى ادعاه دفع إليه

(14/346)


3 - يقال له: اما أن تقبضه واما أن تبرئ منه كسيد المكاتب إذا جاءه المكاتب بمال المكاتبة فادعى أنه حرام، اختار هذا القاضى، وهذا مفارق للمكاتب لان سيده يطالبه بالوفاء من غير هذا الذى أتاه به فلا يلزمه ذلك بمجرد دعوى السيد تحريم ما أتاه به، وهذا لا يطالب الشفيع بشئ، فلا ينبغى ان يكلف ابراءه مما لا يدعيه.
والوجه الاول أولى، وبهذا قال الحنابله (فرع)
إذا كانت دار بين رجلين، فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يستحق ما في يديه بالشفعة سألناهما متى ملكتماها؟ فإن قالا: ملكناها دفعة واحدة، فلا شفعة لاحدهما على الآخر، لان الشفعة انما تثبت بملك سابق في ملك متجدد بعد وان قال كل واحد منهما ملكى سابق ولاحدهما بينة بما ادعاه قضى له، وان كان لكل واحد منهما بينة قدمنا أسبقهما تاريخا، وان شهدت بينة كل واحد منهما بسبق ملكه وتجدد ملك صاحبه تعارضتا، وان لم تكن لواحد منهما بينة نظرنا إلى السابق بالدعوى فقدمنا دعواه وسألنا خصمه، فان أنكر فالقول قوله مع يمينه لانه منكر، فان حلف سقطت دعوى الاول ثم تسمع دعوى الثاني على الاول فان أنكر وحلف سقطت دعواهما جميعا وان ادعى الاول فنكل الثاني عن اليمين قضينا عليه ولم تسمع دعواه، لان خصمه قد استحق ملكه، وان حلف الثاني ونكل الاول قضينا عليه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان اختلفا في الثمن فقال المشترى الثمن ألف وقال الشفيع هو
خمسمائة فالقول قول المشترى مع يمينه لانه هو العاقد فكان أعرف بالثمن ولانه مالك للشقص فلا ينزع منه بالدعوى من غير بينة
(فصل)
وان ادعى الشفيع أن الثمن ألف، وقال المشترى لا أعلم قدره فالقول قول المشترى، لان ما يدعيه ممكن، فانه يجوز أن يكون قد اشترى بثمن جزاف، ويجوز أن يكون قد علم الثمن ثم نسى، فإذا حلف لم يستحق الشفعا لانه لا يستحق من غير بدل ولا يمكن أن يدفع إليه ما لا يدعيه

(14/347)


وقال أبو العباس: يقال له إما أن تبين قدر الثمن أو نجعلك ناكلا فيحلف الشفيع أن الثمن ألف ويستحق كما نقول فيمن ادعى على رجل ألفا فقال المدعى عليه لا أعلم القدر، والمذهب الاول، لان ما يدعيه ممكن، فإنه يجوز أن يكون قد اشتراه بثمن جزاف لا يعرف وزنه، ويجوز أن يكون قد علم ثم نسى، ويخالف إذا ادعى عليه ألفا، فقال: لا أعرف القدر، لان هناك لم يجب عن الدعوى.
وههنا أجاب عن استحقاق الشفعه، وإنما ادعى الجهل بالثمن
(فصل)
وإن قال المشترى: الثمن ألف.
وقال الشفيع لا أعلم هل هو ألف أو أقل، فهل له أن يحلف المشترى؟ فيه وجهان
(أحدهما)
ليس له أن يحلفه حتى يعلم، لان اليمين لا يجب بالشك
(والثانى)
له أن يحلفه لان المال لا يملك بمجرد الدعوى، وإن قال المشترى الثمن ألف، وقال الشفيع لا أعلم كم هو؟ ولكنه دون الالف، فالقول قول المشترى، فإن نكل لم يحلف الشفيع حتى يعلم قدر الثمن، لانه لا يجوز أن يحلف على ما لم يعلم
(فصل)
وإن اشترى الشقص بعرض وتلف العرض (واختلفا) ؟ في قيمته، فالقول قول المشترى، لان الشقص ملك له فلا ينتزع بقول المدعى

(فصل)
وإن أقر المشترى أنه اشترى الشقص بألف وأخذ الشفيع بألف ثم ادعى البائع أن الثمن كان ألفين وصدقه المشترى لم يلزم الشفيع أكثر من الالف، لان المشترى أقر بأنه يستحق الشفعه بألف فلا يقبل رجوعه في حقه فان كذبه المشترى فأقام عليه بينة أن الثمن ألفان لزم المشترى الالفان، ولا يرجع على الشفيع بما زاد على الالف، لانه كذب البينة بإقراره السابق (الشرح) قال الشافعي: وان اختلف فالثمن فالقول قول المشترى مع يمينه، وهذا كما قال: إذا اختلف الشفيع والمشترى في قدر الثمن فادعى المشترى أن الثمن ألف.
وقال الشفيع خمسمائة ولا بينه لواحد منهما فالقول قول المشترى مع يمينه لامرين:

(14/348)


(أحدهما)
أنه مباشر للعقد فكان أعلم به من غيره
(والثانى)
أنه مالك للشقص فلم ينتزع منه الا بقوله، فإن حلف المشترى على ما ادعاه من الثمن أخذه الشفيع به، وإن نكل المشترى ردت اليمين على الشفيع، فإن حلف أخذه بما قال.
فإن قيل: فهذا تحالفا عليه كما يتحالف المتبايعان.
قيل لان كل واحد من المتبايعين مدع ومدعى عليه فتحالفا لاستوائهما في الشقص.
والشفيع وحده منفرد بالدعوى أنه مالك للشقص بما ادعى، فكان القول قول المشترى لتفرده بالانكار، فلو أقام أحدهما بينة بما ذكره من الثمن حكم بها: والبينة شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين، فإن أقامها المشترى استفاد بها سقوط اليمين، فلو شهد له البائع بما ادعاه من الثمن ردت شهادته لانه شاهد بالزيادة لنفسه.
ولو أقام الشفيع البينة استفاد بها الحكم لقول الشافعي: فإن شهد له البائع بما ادعى من الثمن ردت شهادته لانه متهوم في شهادته بنقص الثمن عند الرجوع
عليه بالدرك مع أنه عاقد في الحالين فلم تقبل شهادته فيما تولى عقده فلو أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه من الثمن، فعند أبى حنيفة ومحمد ابن الحسن أن بينة الشفيع أولى للاتفاق عليها.
وعند أبى يوسف أن بينة المشترى أولى، لان فيها زيادة علم، ويخرج في مذهب الشافعي على قولين من تعارض البينتين.
1 - اسقاطهما بالتعارض.
ويكون القول قول المشترى مع يمينه 2 - الاقراع بينهما فمن قرعت بينته كان أولى، وهل يحلف معها أم لا؟ على قولين من اختلاف قولين في القرعة، هل جاءت مرجحة للدعوى أو مرجحة للبينة.
فعلى هذا لو أخذه الشفيع بالالف عند يمين المشترى ثم قامت البينه أن الثمن خمسمائه رجع الشفيع على المشترى بخمسمائه ولا خيار للشفيع، لانه لما رضى الشقص بالالف كان له بخمسمائة أرضى ولو أخذه الشفيع بخمسمائة بيمينه ثم قامت البينه أن الثمن ألف كان الشفيع مخيرا بين أن يأخذه بالالف أو يرده

(14/349)


ولو ادعى المشترى أن الثمن سيارة قيمتها ألف فأخذه الشفيع بها ثم ظهر أن الثمن (ريكوردر) المسجل للصوت، فان كانت قيمته ألفا لم يتراجعا بشئ، لان المستحق فيه القيمة وهما سواء، وإن كانت قيمة المسجل أكثر لم يرجع المشترى بالزيادة لانه مقر باستيفاء حقه.
وإن كانت قيمة المسجل أقل رجع الشفيع بنقصها على المشترى ولا خيار له.
فلو قال المشترى ان الثمن ألف وقال الشفيع لست أعلم قدر الثمن مع علمي بنقصه عن الالف فله إحلاف المشترى، فإن رد اليمين عليه لم يكن له أن يحلف حتى يعلم قدر الثمن، ولو لم يعلم الشفيع هل الثمن ألف أو أقل فهل
يستحق إحلاف المشترى أم لا؟ على وجهين: 1 - لا يستحق إحلافه حتى يعلم خلاف قوله، لان اليمين لا يجب بالشك.
2 - يستحق إحلافه ما لم يعلم صدقه لان المال لا يملك بمجرد القول.
(فرع)
ولو قال المشترى: لا أعلم قدر الثمن لنسيان حدث.
قيل للشفيع: أتعلم قدره أم لا؟ فان قال لا أعلم قدره فلا شفعة له، وله إحلاف المشترى أنه لا يعلم قدر الثمن، وإنما يطلب لانها تستحق بالثمن فكان جهلها به مانعا من استحقاقها بمجهول.
فان قال الشفيع أنا أعلم قدر الثمن وهو خمسمائة درهم.
وقال المشترى: قد نسيت قدر الثمن، قيل للمشترى: أفتصدق الشفيع على ما ذكر من الثمن فان قال نعم، أخذ الشفيع الشقص بخمسمائة من غير يمين.
وإن أكذبه قال الشافعي حلف المشترى بالله ما يعلم قدر الثمن ولا شفعته.
واختلف أصحابنا في ذلك.
فكان أبو حامد المروروذى وأبو حامد الاسفرايينى يجعلان هذا القول مذهبا له في هذه المسألة، ويبطلان بيمين المشترى الشفعه تعليلا بأن الثمن موقوف على عاقده وقد جهل الثمن بنسيانه فبطلت الشفعة به.

(14/350)


وكان أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أبى هريرة يجعلان هذا الجواب مصروفا إلى المسألة الاولى عند نسيان المشترى وجهل الشفيع دون المشترى، ويحكم له بالشفعه، وهذا هو الصحيح لان نسيان المشترى كالنكول فوجب رد اليمين على الشفيع.
قال الشافعي: وسواء في ذلك قديم الشراء وحديثه، وهذا إنما أراد به
ما ادعى، فانه قال: إن ادعى المشترى نسيان الثمن والشراء حديثا حلف الشفيع وحكم له بالشفعه، وإن كان الشراء قديما حلف المشترى وبطلت الشفعه ورفض الماوردى هذا الفرق وقال: هذا قول مرذول وفرق معلول.
فأما إن اختلف البائع والمشترى في الثمن فقال البائع: بعته بألف، وقال المشترى: اشتريته بخمسمائه فانهما يتحالفان، فإذا حلفا ففى بطلان البيع بتحالفهما وجهان ذكرا في البيوع.
أحدهما: أنه قد بطل فعلى هذا يعود الشقص إلى البائع ولا شفعة فيه.
والثانى: أن البيع لا يبطل إلا بالفسخ، فعلى هذا لا يخلو حال المثمن من أحد أمرين إما أن يكون معينا أو غير معين، فان كان المثمن معينا كقول البائع بعتك شقصى بهذه السيارة فيقول المشترى: اشتريته بهذا (الريكوردر) المسجل فإذا تحالفا وامتنع المشترى أن يأخذه بالسيارة التى ادعاها البائع ثمنا لم يعرض على الشفيع لان عين هذه السيارة لا تحصل للبائع من جهة الشفيع، وفسخ الحاكم البيع بينهما وأبطل الشفعة فيه، وإن كان الثمن غير معين كقول البائع بعتك الشقص بألف فيقول المشترى بخمسمائة، عرض الشقص على المشترى والشفيع بالالف ليأخذاه أو يرداه لانه قد يحصل للبائع ما ادعاه من القدر من الشفيع والمشترى، فلذلك عرض عليها، وإذا كان كذلك فللشفيع والمشترى أربعة أحوال.
ا - أن يرضيا جميعا به فيلزم المشترى الالف وللشفيع أن يأخذ منه الشقص بالالف.
ب - أن يرداه جميعا بالالف فيفسخ البيع وتبطل الشفعة.

(14/351)


ج - أن يرضاه المشترى بالالف ويرده الشفيع بها فيلزم البيع للمشترى
بالالف وتبطل شفعة الشفيع.
د - أن يرضى به الشفيع بالالف ويرده المشترى فيكون رد المشترى باطلا لما فيه من إسقاط حق الشفيع، ويصير البيع لازما للمشترى ليتوصل به الشفيع إلى حقه من الشفعة ويأخذ الشقص فيه بالالف، فلو رده الشفيع بعيب رده على المشترى ورجع عليه بالثمن لان عهدته عليه، وللمشترى حينئذ أن يفسخ البيع فيه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
فإن كان بين رجلين دار وغاب أحدهما وترك نصيبه في يد رجل فادعى الشريك على من في يده نصيب الغائب أنه اشتراه منه، وأنه استحق أخذه بالشفعة، فأقر به، فهل يلزمه تسليمه إليه بالشفعة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يسلمه، لانه أقر بالملك للغائب، ثم ادعى انتقاله بالشراء، فلم يقبل قوله
(والثانى)
يسلم إليه لانه في يده فقبل قوله فيه.

(فصل)
وإن أقر أحد الشريكين في الدار أنه باع نصيبه من رجل ولم يقبض الثمن، وصدقه الشريك وأنكر الرجل، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لا تثبت الشفعة للشريك، لان الشفعه تثبت بالشراء ولم يثبت الشراء، فلم تثبت الشفعة للشريك، وذهب عامة أصحابنا إلى أنه تثبت الشفعة، وهو جواب المزني فيما أجاب فيه على قول الشافعي رحمه الله، لانه أقر للشفيع بالشفعه، وللمشترى بالملك، فإذا أسقط أحدهما حقه لم يسقط حق الآخر كما لو أقر لرجلين بحق فكذبه أحدهما وصدقه الاخر، وهل يجوز للبائع أن يخاصم المشترى.
فيه وجهان.
أحدهما: ليس له ذلك لانه يصل إلى الثمن من جهة الشفيع فلا حاجة به إلى خصومة المشترى.
والثانى: له أن يخاصمه لانه قد يكون المشترى أسهل في المعاملة من الشفيع،
فإن قلنا: لا يخاصم المشترى أخذ الشفيع الشقص من البائع وعهدته عليه لانه منه أخذ، واليه دفع الثمن.

(14/352)


وإن قلنا: يخاصمه، فان حلف أخذ الشفيع الشقص من البائع ورجع بالعهدة عليه، وإن نكل فحلف البائع سلم الشقص إلى المشترى وأخذ الشفيع الشقص من المشترى، ورجع بالعهدة عليه لانه منه أخذ، واليه دفع الثمن، وان أقر البائع بالبيع وقبض الثمن، وأنكر المشترى، فمن قال: لا شفعة إذا لم يقر بقبض الثمن لم تثبت الشفعة إذا أقر بقبضه، ومن قال: تثبت الشفعة إذا لم يقر بقبض الثمن اختلفوا إذا أقر بقبضه، فمنهم من قال: لا تثبت لانه يأخذ الشقص من غير عوض، وهذا لا يجوز، ومنهم من قال: تثبت، لان البائع أقر له بحق الشفعة وفى الثمن الاوجه الثلاثة التى ذكرناها، فيمن ادعى الشفعه على شريكه وحلف بعد نكول الشريك، والله أعلم.
(الشرح) قال الشافعي: وعهدة المشترى على البائع وعهدة الشفيع على المشترى، قال الماوردى في الحاوى: أما العهدة فمشتقة من العهد لما فيه من الوفاء بموجبه قال تعالى " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " وقال الفيومى في المصباح: العهد الوصية يقال: عهد إليه يعهد من باب تعب إذا أوصاه وعهدت إليه بالامر قدمته وفى التنزيل " ألم أعهد اليكم يا بنى آدم ألا تعبدوا الشيطان " والعهد الامان والموثق والذمه، ومنه قيل للحربى يدخل بالامان ذو عهد.
ومعاهد أيضا بالبناء للفاعل والمفعول، لان الفعل من اثنين فكل واحد يفعل بصاحبه مثل ما يفعل صاحبه - إلى أن قال - وقولهم: عهدته عليه من ذلك لان المشترى يرجع على البائع بما يدركه وتسمى وثيقة المتبايعين عهدة لانه يرجع إليها عند الالتباس اه.
ونعود إلى قول الشافعي فنقول: لقد سمى ضمان الدرك عهدة ثم سمى كتاب
الشراء (الفاتورة) عهدة، واختلف الفقهاء في عهدة الشفيع هل تجب على البائع أو على المشترى؟ فذهب الشافعي إلى أن عهدة الشفيع على المشترى وعهدة المشترى على البائع.
وقال ابن أبى ليلى: عهدة الشفيع على البائع، وقال أبو حنيفة: ان كان الشفيع

(14/353)


قد قبضه من المشترى فعهدته على المشترى، وان كان قد قبضه من البائع فسخ عقد المشترى وكانت عهدته على البائع.
فأما ابن أبى ليلى فاستدل بأن البائع أصل والمشترى فرع، فكان الرجوع على البائع أولى من المشترى، لانه لا اعتبار بالفرع مع وجود الاصل.
قال: ولان المشترى يحل محل الوكيل للشفيع لدخوله على علم بانتقال الشراء إلى الشفيع، ثم ثبت في شراء الوكيل أن العهدة على البائع دون الوكيل، كذلك في استحقاق الشفيع.
وأما أبو حنيفة فاستدل على أن للشفيع أن يفسخ عقد المشترى بأنه لما استحق إزالة ملكه عنه استحق فسخ عقده فيه لان ثبوت العقد لاستيفاء الملك ودليلنا هو أن الشفيع يملك الشقص عن المشترى، بدليل أنه لو تركه لكان مقرا على ملك المشترى، ولو حدث منه نماء لكان للمشترى، فوجب أن تكون العهدة عليه كما كانت على البائع للمشترى، وتحريره قياسا أن انتقال الملك بالعوض ممن يظاهر بملك المعوض يوجب أخذه بالعهدة كالبيع، ولان الرجوع بالثمن قد يستحق في الرد بالعيب كما يستحق في الاستحقاق بالشفعة فلما كان الرجوع به في الرد بالعيب مستحقا على المشترى دون البائع وجب أن يكون الرجوع به في الاستحقاق بالشفعة مستحقا على المشترى دون البائع وقد يتحرر من اعتلال هذا الاستدلال قياسان:

(أحدهما)
أن أحد نوعيه ما يوجب الرجوع بالثمن فوجب أن يستحقه الشفيع على المشترى دون البائع قياسا على الرد بالعيب
(والثانى)
أن من استحق عليه الثمن في الرد بالعيب لم يستحق عليه الثمن في الاستحقاق وبالغصب قياسا على المشترى لو كان بائعا فأما الجواب عن استدلال ابن أبى ليلى بأن البائع أصل والمشترى فرع فمنتقض بالمشترى لو باع على الشفيع، ثم نقول ان المشترى وان كان فرعا للبائع فانه أصل للشفيع.
وأما الجواب عن استدلاله بالوكيل فهو امتناع الجمع بينهما من وجهين: (ا) ان الشفيع لما كان مخيرا بين أخذه من المشترى وبين تركه عليه صار مالكا

(14/354)


عنه لا عن البائع، ولما لم يكن للموكل خيار في أخذه من الوكيل وتركه عليه صار مالكا عن البائع دون الوكيل.
(ب) إنه لما استحق الشفيع الرد بالعيب على المشترى دون البائع صار مالكا عنه لا عن البائع، ولما استحق الموكل الرد بالعيب على البائع دون الوكيل صار مالكا عنه لا عن الوكيل.
وأما الجواب عن استدلال أبى حنيفة بأنه لما ملك إزالة ملكه رفع عقده فمن وجهين: (ا) انه قد يملك إزالة ملكه بعد القبض ولا يملك رفع عقده فكذلك قبل القبض.
(ب) أنه بالعقد ملك الشفعة، وفى رفعه إبطال الشفعة.
(فرع)
فأما قبض الشفيع الشقص من البائع قبل قبض المشترى له أو من ينوب عنه ففيه وجهان حكاهما ابن سريج
(أحدهما)
ليس له ذلك لانه يحل محل المشترى في الاخذ بالثمن، ولا يجوز شراء ما لم يقبض، فكذلك لا يجوز أخذ
شفعة ما لم يقبض.
فعلى هذا يأخذ الحاكم المشترى بالقبض، فإذا صار بيده انتزعه الشفيع منه، فإن كان المشترى غائبا وكل الحاكم عنه من يقبض له ثم حكم للشفيع بأخذه منه.

(والثانى)
وهو اختيار ابن سريج أن للشفيع أخذه من البائع قبل قبض المشترى، لان الشفيع يأخذه جبرا بحق، وإن كره المشترى فجاز، وإن كان قبل قبضه، كما يجوز الفسخ والاقالة قبل القبض ويبرأ البائع من ضمانها بقبض الشفيع لانه يأخذها بحق توجه على المشترى، وبالوجه الاول قال أبو إسحاق المروزى.
(فرع)
قال المزني: ولو أن البائع قال قد بعت من فلان شقصا بألف درهم وأنه قبض الشقص وأنكر ذلك فلان وادعاه الشفيع، فإن الشفيع يدفع الالف إلى البائع ويأخذ الشقص.
وصورتها في رجل ادعى بيع شقصه على رجل فأنكر المشترى الشراء وحضر الشفيع مصدقا للبائع ومطالبا بالشفعة، فهذا على ضربين (ا) أن يكون البائع مدعيا بقاء الثمن على المشترى (ب) أن يكون مقرا بقبضه، فان كان مع ادعاء البيع مدعيا بقاء الثمن

(14/355)


حكم عليه للشفيع بالشفعة لانه مدع على المشترى ومقر للشفيع فيحكم عليه باقراره وإن ردت دعواه.
وفى منعه من محاكمة المشترى واحلافه على الانكار وجهان: 1 - أن يكون البائع مدعيا بقاء الثمن على المشترى 2 - أن يكون مقرا بقبضه، فان كان مع ادعاء البيع مدعيا بقاء الثمن حكم عليه للشفيع بالشفعة لانه مدع على المشترى ومقر للشفيع فيحكم عليه باقراره وإن ردت دعواه.
وفى منعه من محاكمة المشترى وإحلافه على الانكار وجهان: 1 - قول أبى على بن أبى هريرة: ليس له إحلافه، لان قصده حصول الثمن وقد حصل له، وسواء حصل له من مشترى أو شفيع، ولانه لا يؤمن ان أحلف أن يحكم بفسخ البيع، وفيه إبطال لحق الشفيع 2 - له إحلافه لاستحقاق اليمين عليه بانكاره، ولما فيه من البغية لوصول الملك إلى مستحقه، ولا يبطل ليمينه حق الشفيع، فإذا قضى للشفيع بالشفعة لزمه دفع الثمن إلى البائع وتكون عهدة الشفيع هنا على البائع دون المشترى، لانه لما لم يلزمه الشراء مع انكاره لم تلزمه عهدته.
هذا ولم يتسع المقام لاستقصاء فروع الشفعة وجميع الاوجه وأحكامها، وسأفرد ما قيدته فيها في كتاب مستقل ان شاء الله تعالى.
والله أعلم بالصواب.

(14/356)