المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

كتاب القراض

القراض جائز لما روى زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر ابن الخطاب رضى الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على عامل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه في المدينة وتوفران رأس المال إلى أمير المومنين ويكون لكما ربحه، فقالا وددنا، ففعل فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما وباعا وربحا فقال عمر أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما؟ فقالا لا، فقال عمر ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما.
أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه فقال أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر:
يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فأخذ رأس المال ونصف ربحه.
وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال، ولان الاثمان لا يتوصل إلى نمائها المقصود الا بالعمل فجاز المعاملة عليها ببعض النماء الخارج منها كالنخل في المساقاة
(فصل)
وينعقد بلفظ القراض لانه لفظ موضوع له في لغة أهل الحجاز وبلفظ المضاربة لانه موضوع له في لغة أهل العراق وبما يؤدى معناه لان المقصود هو المعنى فجاز بما يدل عليه كالبيع بلفظ التمليك
(فصل)
ولا يصح إلا على الاثمان وهى الدراهم والدنانير، فأما ما سواهما من العروض والنقار والسبائك والفلوس، فلا يصح القراض عليها لان المقصود بالقراض رد رأس المال والاشتراك في الربح، ومتى عقد على غير الاثمان لم يحصل المقصود لانه ربما زادت قيمته فيحتاج أن يصرف العامل جميع ما اكتسبه في رد مثله ان كان له مثل، وفى رد قيمته ان لم يكن له مثل.
وفى هذا إضرار بالعامل، وربما نقصت قيمته فيصرف جزءا يسيرا من الكسب في رد مثله أو رد قيمته، ثم يشارك رب المال في الباقي، وفى هذا إضرار برب المال، لان

(14/357)


العامل يشاركه في أكثر رأس المال.
وهذا لا يوجد في الاثمان لانها لا تقوم بغيرها، ولا يجوز على المغشوش من الاثمان لانه تزيد قيمته وتنقص كالعروض
(فصل)
ولا يجوز إلا على مال معلوم الصفة والقدر، فإن قارضه على دراهم جزاف لم يصح، لان مقتضى القراض رد رأس المال، وهذا لا يمكن فيما لا يعرف صفته وقدره، فان دفع إليه كيسين في كل واحد منهما ألف درهم فقال قارضتك على أحدهما وأودعتك الآخر ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح لانهما متساويان
(والثانى)
لا يصح لانه لم يبين مال القراض من مال الوديعة، وإن قارضه
على ألف درهم هي له عنده وديعة جاز لانه معلوم، وان قارضه على ألف درهم هي له عنده مغصوبة ففيه وجهان " أحدهما " يصح كالوديعة " والثانى " لا يصح لانه مقبوض عنده قبض ضمان، فلا يصير مقبوضا قبض أمانة (الشرح) قال ابن بطال: القراض مشتق من القرض وهو القطع، كأنه يقطع له قطعة من ماله أو قطعة من الربح.
وقيل اشتقاقه من المساواة، يقال: تقارض الشاعران إذا ساوى كل منهما صاحبه في المدح، وتقارضا الثناء.
وقال الصنعانى في سبل السلام: القراض بكسر القاف وهو معاملة العامل بنصيب من الربح.
وهذه تسميته في لغة أهل الحجاز، وتسمى مضاربة، مأخوذة من الضرب في الارض لما كان الربح يحصل في الغالب بالسفر أو من الضرب في المال وهو التصرف.
اه وقال الرافعى: ولم يشتق للمالك منه اسم فاعل لان العامل يختص بالضرب في الارض، فعلى هذا تكون المضاربة من المفاعلة التى تكون من واحد، مثل عاقبت اللص.
وقال ابن قدامة في المغنى من كتب الحنابلة: وهذه المضاربة تسمى قراضا أيضا، ومعناها أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه، على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه، فأهل العراق يسمونه مضاربة، مأخوذة من الضرب في الارض.
اه وقد جمع النووي بين الاسمين في المنهاج فقال: القراض والمضاربة أن يدفع

(14/358)


إليه مالا ليتجر فيه والربح مشترك.
قال السبكى.
قد يشاح النووي في قوله: أن يدفع.
ويقال القراض العقد المقتضى للدفع لا نفس الدفع.
قال الشربينى في شرح المنهاج: وأركانه خمسة: مال وعمل وربح وصيغه وعاقدان.
وقال الرشيدى في حاشيته على شرح شمس الدين الرملي للمنهاج في عطف
الشارح: المقارضة على القرض، أي إن القراض يجوز أن يكون مشتقا من القرض ومن المقارضة.
وهذا الصنيع ظاهر في أن دفع المال على الوجه الآتى لا يسمى مقارضة بل قراضا ومضاربة، وهو ظاهر المتن حيث اقتصر عليهما.
لكن ظاهر كلام المحلى يخالفه حيث عطف المقارضة على ما في المتن فأفاد أن القراض والمضاربة بمعنى قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة.
وقال الصنعانى لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الاسلام وقال ابن حزم: كل أبواب الفقه فيه أصل من الكتاب والسنة حاشا القراض فما وجدنا له أصلا في السنة لكنه إجماع صحيح، ويقطع بأنه كان في عصره صلى الله عليه وسلم وعلم به وأقره.
(قلت) ولسنا نخالف ابن حزم الا في أن أمرا مجمعا عليه من الامة منذ عهد نبيها صلى الله عليه وسلم ثم لا يتبين مصدره واضحا بالاخبار، ولعل ابن حزم لم يبلغه لبعد الشقه ما بلغ غيره، وإن كانت هذه الاخبار المرفوعة يعتريها بعض الوهن من ناحية الاسناد فانها مؤيدة بأخرى صحيحة موقوفة على الصحابة، وهو لا يدل بالاستقراء على أنه كان موجودا في عهده صلى الله عليه وسلم، وانما يدل بمنطوقه على وجوده، فيكون استقراؤه من الاجماع على وجوده ينقصه ما رويناه عن الصحابة من صحيح الاخبار فأما المرفوع فقد روى ابن ماجه عن صهيب إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل والمقارضة وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع " أورده ابن حجر في بلوغ المرام وضعف اسناده.
وأما الموقوف فما رواه الدارقطني ورجاله ثقات عن حكيم بن حزام أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة أن لا تجعل مالى في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به في بطن مسيل، فان فعلت شيئا من ذلك فقد

(14/359)


ضمنت مالى.
وقال مالك في الموطأ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عن أبيه عن جده أنه عمل في مال لعثمان على أن الربح بينهما، وروى حميد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في العراق، وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر خرجا في جيش إلى العراق فتسلفا من أبى موسى مالا وابتاعا به متاعا، وقدما به إلى المدينة، فباعاه وربحا فيه، فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا، فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا قال: قد جعلته، وأخذ منهما نصف الربح، وقد ساقها المصنف بأوفى من هذا.
وعن قتادة عن الحسن أن عليا قال: إذا خالف المضارب فلا ضمان، هما على ما شرطا، وعن ابن مسعود وحكيم بن حزام أنهما قارضا.
قال الماوردى في الحاوى: والاصل في إحلال القراض وإباحته قوله تَعَالَى " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا من ربكم " وفى القراض ابتغاء فضل وطلب نماء وقد استدل بحديث " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " على جوازها وقد ضارب النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بأموالها إلى الشام وأنفذت لخدمته عبدا لها يقال له ميسرة، وروى ابن أبى الجارود حبيب بن يسار عن ابن عباس قال: كان العباس إذا دفع مالا مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحرا ولا ينزل به واديا ولا يشترى به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن، قال الماوردى: فرفع ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجازه.
وقد اختلف أصحابنا في وجه الاستدلال من حديث عمر على ثلاثة أوجه: (أحدها) قول الجليس: لو جعلته قراضا، وإقرار عمر على صحة القراض ولو علم عمر فساده لرده، فلم يكن ما فعله معهما قراضا لا صحيحا ولا فاسدا،
ولكن استطاب طهارة انفسهما بما أخذه من ربحهما لاسترابته بالحال واتهامه أبا موسى بالميل لانهما ابنا أمير المؤمنين، الامر الذى ينفر منه الامام العادل وتأباه طبيعة الاسلام.

(والثانى)
أن عمر أجرى عليهما في الربح حكم القراض الفاسد لانهما عملا

(14/360)


على أن يكون الربح لهما ولم يكن قد تقدم في المال عقد يصح حملهما عليه، فأخذ منهما جميع الربح، وعاوضهما على العمل بأجرة المثل وقدره بنصف الربح فرده عليهما أجرة، وهو اختيار أبى إسحاق المروزى.
(والثالث) أن عمر أجرى عليهما أجرا في الربح حكم القراض الصحيح، وإن لم يتقدم منهما عقد، لانه كان من الامور العامة ما يتسع حكمه عن العقود الخاصة، فلما رأى المال لغيرهما والعمل منهما ولم يرهما متعديين فيه، جعل ذلك عقد قراض صحيح، وهذا ذكره أبو على بن أبى هريرة، فعلى هذا الوجه يكون القول والفعل معا دليلا، ثم الحديث الذى ساقه المصنف من مساقاة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج من تمر وزرع لا يدل بمنطوقه على هذا وإنما يدل بالمفهوم أو المحمول، لان المساقاة عمل في محل استوجب به شطر ثمرها فاقتضى ذلك جواز القراض من طريق المعنى.
وقد ذهب الماوردى إلى أن صحة القراض دليل على جواز المساقاة.
قوله: النقار وهو مذاب الفضة وقبل الذوب هي تبر، والسبائك جمع سبيكة القطعة المستطيلة من الذهب.
والفلوس جمع فلس وهو أدنى ما يتعامل من المال، ويسمى في الشام قرشا وفى العراق فلسا، وفى مصر والسودان مليما، وفى الحجاز ونجد هللة، وفى اليمن بقشة، وفى المغرب والجزائر بيزا أو بسيطة، وفى اليونان دراخما، وفى
اليابان ين، وفى انجلترا وأمريكا بنس، والفرق بين الفلوس قديما وحديثا أوضحناها في كتابنا تاريخ النقود الاسلامية.
فإذا ثبت أن القراض جائز بين المتعاقدين لانه عقد معونة وإرفاق، فانه عقد اختيار وليس عقد لزوم ويجوز لمن شاء منهما أن يفسخه، ومن.
أجل تيسير رد رأس المال على صاحبه لم يبحه الفقهاء إلا بالدراهم والدنانير.
قال الشافعي: ولا يجوز القراض إلا في الدراهم والدنانير التى هي أثمان الاشياء وقيمتها، وحكى عن طاوس والاوزاعي وابن أبى ليلى جواز القراض بالعروض لانها كالدراهم والدنانير، ولان كل عقد صح بالدراهم والدنانير صح بالعروض

(14/361)


كالبيع، وهذا خطأ لان القراض مشروط برد رأس المال واقتسام الربح وعقده بالعروض يمنع من هذين الشرطين، أما رد رأس المال فلان من العروض مالا مثل لها فلم يمكن ردها.
وأما الربح فقد يفضى إلى اختصاص أحدهما به دون الآخر لانه إن زاد خيره العامل بالربح فاختص به رب المال، وان نقص أخذ العامل شطر فاضله من غير عمل، وهذه أمور يمنع القراض منها فوجب أن يمنع مما أدى إليها ولان كل مال يوجب القراض منع من أن ينعقد عليه القراض كالمنافع.
فأما الجواب عن قياسهم على الدراهم والدنانير فهو أنها لا تمنع موجب القراض وأما قياسهم على البيع فالمعنى فيه أنه لا يلزم فيه رد مثل ولا قسمة ربح فجاز بكل مال، فإذا ثبت أن القراض لا يصح إلا بالدراهم والدنانير فلا يصح إلا بما كان منها مضروبا لا غش فيه، فإنه بالنقار والسبائك لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وكذلك بالفضة المغشوشة، وذهب أبو حنيفة إلى جوازها إذا كانت الفضة أكثر اعتبارا بحكم الاغلب، وهذا خطأ لان غش الفضة بالنحاس لو تميز عنها
لم يجز به القراض فإذا خالطها لم يجز به القراض، ولان ما لم تخلص فضته لم تجز مقارضته كالكثير الغش.
فإن قيل: فمن شرطها أن تكون معلومة القدر والصفة عند عقد القراض بها فإن تقارضا على مال لا يعلمان قدره كان القراض باطلا للجهل بما تعاقدا عليه، وإن علما قدره وجهلا صفته بطل القراض، لان الجهل بالصفة كالجهل بالقدر في بطلان العقد، فلو عقد القراض على ألف من أنواع شتى، فإن علما كل نوع منها صح العقد، وإن جهلاه بطل.
فلو دفع إليه ألف درهم وألف دينار على أن يقارض بأى الالفين شاء ويستودعه الاخرى لم يجز للجهل بالقراض هل عقد بألف درهم أو بألف دينار، كما لو أعطاه مبلغا من العملة الصعبة كالدولار والمارك والاسترلينى ومبلغا من العمله الاخرى ولكل من النقدين قيمة رسمية وقيمة حرة، وقيمة محلية وأخرى في أسواقها الرسمية أو الدوليه، ولم يحدد له أحد النوعين المراد به القراض كان العقد باطلا

(14/362)


ولو دفع إليه بكيسين في كل واحد منهما ألف دينار على أن تكون إحدى الالفين قراضا والاخرى وديعة ففيه وجهان.

(أحدهما)
يجوز ويكون قراضا صحيحا لانه معقود على ألف دينار معلومة لتساوي الالفين.

(والثانى)
لا يجوز للجهل بمال القراض من مال الوديعة، ولكن لو دفع إليه ألفا وألفا على أن له من ربح أحد الالفين النصف ومن ربح الآخر الثلث، فإن عين الالف التى شرط له نصف ربحها من الالف التى شرط له ثلث ربحها جاز وكانا عقدين، وإن لم يعين لم يجز للجهل بمال كل واحد من العقدين.
وإذا كانت لرجل في يد رجل ألف درهم وديعه فقارضه عليها وهما يعلمان
قدرها وصفتها جاز، ولو كانا يجهلان القدر أو الصفة لم يجز، ولو قال له: قد قارضتك على ألف من ديتي التى على فلان فاقتضى منه قراضا لم يجز لانه قراض على ملك غائب، فان قبضها وأنجز بها صح القبض لانه وكل فيه، وكان الربح والخسران لرب المال وعليه، لحدوثها عن ملكه في قراض فاسد، ولو كان له على العامل دين فقال له: قد جعلت ألفا من دينى عليك قراضا في بدل لم يجز تعليلا بأنه قراض على مال غائب، وفيما حصل فيه من الربح والخسران قولان حكاهما أبو حامد في جامعه تخريجا.

(أحدهما)
أنه لرب المال وعليه، كالحادث عن مقارضة من دين على غيره، فعلى هذا تبرأ ذمة العامل من الدين إذا اتجر به.
(والقول الثاني) وهو الاصح أن الربح والخسران للعامل وعليه دين رب المال، والفرق بين كون الدين عليه وبين كونه على غيره أن قبضه من غيره صحيح لانه وكيل فيه لرب المال فعاد الربح والخسران على رب المال لحدوثها عن ملكه وقبضه من نفسه فاسد لانه يصير مشتريا لنفسه بنفسه فعاد الربح والخسران عليه دون رب المال لحدوثها عن ملكه لان في كل واحد من الموضعين يعود الربح والخسران على من له المال.
(فرع)
فأما إذا غصبه ألفا ثم قارضه عليها فهذا على ضربين.
أحدهما: أن

(14/363)


يكون قد استهلكها بالغصب فقد صارت بالاستهلاك دينا، فيكون على ما ذكرنا والثانى أن تكون باقية فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يقارض عليهما بعد إبرائه من ضمانها فيجوز لانها تصير بعد الابراء وديعة
(والثانى)
أن تقارضه عليها من غير تصريح بإبرائه منها، ففى القراض وجهان
(أحدهما)
باطل لانها مضمونة عليه كالدين وبما حصل فيها من ربح وخسران
فلرب المال وعليه.

(والثانى)
وهو الصحيح أن القراض صحيح لانه قراض على مال حاضر كما لو باعها عليه أو وهبها منه.
وفى براءته بذلك من ضمانها ثلاثة أوجه: 1 - براءته من ضمانها لانه قد صار مؤتمنا عليها 2 - لا يبرأ من ضمانها كما لا يبرأ الغاصب من ضمان ما ارتهن 3 - أنه ما لم يتصرف فيها بعقد القراض فضمانها باق عليه، وإن تصرف فيها بدفعها في ثمن ما ابتاعه بها برئ من ضمانها إن عاقد عليها بأعيانها، ولم يبرأ إن عاقد بها في ذمته لانها في التعيين مدفوعة إلى مستحقها بإذن مالكها، فصار كردها عليه، وفيما تعلق بذمته يكون مبرئا لنفسه.
فأما إذا دفع إليه عرضا وأمره ببيعه والمضاربة بثمنه لم يجز لعلتين (ا) جهالة ثمنه والقراض بالمال المجهول باطل (ب) عقده بالصفة، والقراض بالصفات باطل فإن باعه العامل كان بيعه جائزا لصحة الاذن فيه، وإن اتجر به كان الربح والخسران لرب المال لحدوثها عن ملكه، وللعامل أجرة مثله في عمل القراض دون القرض، لانه لم يجعل له في بيع القرض جعلا، وإنما جعل له في عمل القراض ربحا فصار متطوعا بالبيع معتاضا على القراض.
ولو قال خذ من وكيلى ألف درهم فضارب بها لم يجز لعلة واحدة، وهو أنه قراض بصفة وما حصل من ربح وخسران فلرب المال وعليه.
فأما إذا دفع شبكة إلى صياد ليصيد بها ويكون الصيد بينهما لم يجز وكان الصيد للصياد وعليه أجرة الشبكة، وقد مضى تفصيل ذلك من التكملة الاولى ومناقشة كل من القائلين بأن الشبكة لمالكها وعليه أجر المثل للصياد.
أو أن المصيد للصياد وعليه أجر الشبكة، والاتفاق على أن الصيد لا يقسم بين الصياد والمالك مرابحة

(14/364)


قياسا على المزارعة.
والفرق بين صيد الصياد ونتاج الماشية أن حدوث النتاج من أعيانها فكان لمالكها دون عالفها وحصول الصيد بفعل الصياد فكان له دون مالك الشبكة في رأى الماوردى وكان لمالك الشبكة حتى لا يضيع تعب العامل إذا لم تخرج الشبكة صيدا في رأى السبكى وعلى صاحبها أجر مثله، وعلى هذا لو دفع سفينة إلى ملاح ليعمل فيها بنصف كسبها لم يجز، وكان الكسب للملاح لانه بعمله وعليه لمالك السفينة أجرة المثل، وهذه الاصول من أعظم ما تتميز به شريعتنا الالهية من حماية العامل وجهده وكسبه، وهى السمات الظاهرة المشرقة المشرفة في مجتمع مسلم يقوم على الاسلام.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز إلا على جزء من الربح معلوم، فان قارضه على جزء مبهم لم يصح، لان الجزء يقع على الدرهم والالف فيعظم الضرر، وإن قارضه على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز، لان القراض كالمساقاة، وقد ساقى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ خيبر على شطر ما يخرج من تمر وزرع، وان قارضه على درهم معلوم لم يصح، لانه قد لا يربح ذلك الدرهم فيستضر العامل، وقد لا يربح إلا ذلك الدرهم فيستضر رب المال.
وإن قال قارضتك على أن الربح بيننا ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح لانه مجهول، لان هذا القول يقع على التساوى وعلى التفاضل
(والثانى)
يصح لانه سوى بينهما في الاضافة فحمل على التساوى، كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن قال قارضتك على أن لى نصف الربح ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح ويكون الربح بينهما نصفين، لان الربح بينهما، فإذا شرط لنفسه النصف دل على أن الباقي للعامل
(والثانى)
لا يصح وهو الصحيح، لان الربح كله لرب المال بالملك، وإنما يملك العامل جزءا منه بالشرط ولم يشرط له شيئا فبطل
وإن قال قارضتك على أن لك النصف ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح، لانه لم يبين ما لرب المال
(والثانى)
يصح، وهو الصحيح، لان ما لرب المال لا يحتاج إلى شرط، لانه يملكه بملك المال، وانما يحتاج إلى شرط ما للعامل،

(14/365)


فإذا شرط للعامل النصف بقى الباقي على ملك رب المال، فعلى هذا لو قال قارضتك على أن لك النصف ولى الثلث وسكت عن السدس صح، ويكون النصف له، لان الجميع له إلا ما شرطه للعامل، وقد شرط له النصف، فكان الباقي له.

(فصل)
وإن قال: قارضتك على أن الربح كله لى أو كله لك بطل القراض لان موضوعه على الاشتراك في الربح، فإذا شرط الربح لاحدهما فقد شرط ما ينافى مقتضاه فبطل، وإن دفع إليه ألفا وقال: تصرف فيه والربح كله لك فهو قرض لا حق لرب المال في ربحه، لان اللفظ مشترك بين القراض والقرض، وقد قرن به حكم القرض، فانعقد القرض به كلفظ التمليك لما كان مشتركا بين البيع والهبة إذا قرن به الثمن كان بيعا، وإن قال: تصرف فيه والربح كله لى فهو بضاعة، لان اللفظ مشترك بين القراض والبضاعة، وقد قرن به حكم البضاعة فكان بضاعة كما قلنا في لفظ التمليك.

(فصل)
ولا يجوز أن يختص أحدهما بدرهم معلوم ثم الباقي بينهما لانه ربما لم يحصل ذلك الدرهم فيبطل حقه وربما لم يحصل غير ذلك الدرهم فيبطل حق الآخر، ولا يجوز أن يخص أحدهما بربح ما في الكيسين لانه قد لا يربح في ذلك فيبطل حقه أو لا يربح إلا فيه فيبطل حق الاخر ولا يجوز أن يجعل حق أحدهما في عبد يشتريه فان شرط أنه إذا اشترى عبدا أخذه برأس المال أو أخذه العامل بحقه لم يصح العقد لانه قد لا يكون في المال ما فيه ربح غير العبد فيبطل حق الاخر (الشرح) حديث المساقاة رواه الجماعة عن ابن عمر وَلَفْظُهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع " ورواه الشيخان بلفظ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظهر على خيبر سأله اليهود أن يقرهم بها على أن يكفون عملها ولهم نصف الثمرة فقال لهم: نقركم بها على ذلك ما شئنا " وللبخاري " أعطى يهود خيبر أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها " ولمسلم وأبى داود والنسائي " دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها " ورواه أحمد عن عمر بلفظ

(14/366)


" أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن نخرجهم متى شئنا " ورواه البخاري بمعناه، ورواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس بلفظ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف " ورواه البخاري عن أبى هريرة بلفظ " قالت الانصار للنبى صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا - المهاجرين - النخل، قال: لا، فقالوا: تكفونا العمل ونشرككم في الثمرة، فقالوا سمعنا وأطعنا ".
أما الاحكام فقد قال الشافعي: ولا يشترط أحدهما درهما على صاحبه وما بقى سهما ويشترط أن يوليه سلعة، أو على أن يرتفق أحدهما بشئ دون صاحبه، وهذا صحيح، فقد ظهر ان عقد القراض موجب لاشتراك رب المال والعامل في الربح ولا يختص به أحدهما دون الاخر، لان المال والعمل متقابلان، فرأس المال في مقابلة عمل العامل، ولذلك وجب أن يشتركا في الربح، ولم يجز أن يختص به أحدهما مع تساويهما، وإذا منعنا من اختصاص أحدهما بالربح دون الاخر وجب أن يمنعا مما يؤدى إلى اختصاص أحدهما بالربح دون الاخر، فمن ذلك أن يشترط أحدهما لنفسه من الربح درهما معلوما والباقى لصاحبه أو بينهما، فلا يجوز، لانه قد لا يحصل من الربح إلا الدرهم المشروط فينفرد به أحدهما
وينصرف الاخر بغير شئ مع وجود العمل وحصول الربح، ومثاله في البيوع أن يبيعه الثمرة إلا مدا يستثنيه لنفسه فيبطل البيع لانه قد يجوز أن تهلك الثمرة إلا ذلك المد، فيصير البائع آخذا للثمن والثمرة معا ولو شرطا تفاضلا في الربح مثل أن يشترط أحدهما عشر الربح وتسعة أعشاره للآخر جاز لانه ليس ينصرف أحدهما بغير ربح، ومثاله في البيوع أن يبيع الثمرة إلا عشرها فيصح البيع لان ما بقى منها فهو مبيع وغير مبيع.
قال الماوردى: ومن ذلك أن يشترط أحدهما أن يولى ما يرتضيه أو ما يكتسبه برأس ماله فيبطل القراض لانه قد لا يكون في المشترى ربح إلا فيما تولاه فيصير مختصا بجميع الربح ويخرج الآخر بغير ربح، ومن ذلك أن يشترط أحدهما ربحا دون صاحبه، مثل أن يشترط ركوب ما اشتراه من الدواب أو لبس ما اشتراه

(14/367)


من الثياب مدة بقائها في القراض فيبطل العقد لانه قد لا يكون في أثمانها فضل إلا ما اختص به أحدهما من الرفق فيصير منفردا بالربح لان المنفعة مقومة كالاعيان فأما إذا شرطا جميع الربح لاحدهما فهما مسألتان: 1 - أن يشترطا جميع الربح لرب المال 2 - أن يشترطا جميع الربح للعامل، فإذا شرطا الاول نظر فيه، فان لم يقل رب المال عند دفعه: انه قراض ولكن قال: خذه فاشتر به وبع ولى جميع الربح فهذه استعانة بعمله وليس بقراض والعامل متطوع بعمله فيه وجميع الربح لرب المال ولا أجرة للعامل في عمله.
وإن قال خذه قراضا على أن جميع الربح لى، فهذا قراض فاسد وجميع الربح لرب المال، وفى استحقاق العامل أجرة مثله وجهان
(أحدهما)
وهو قول المزني إنه لا أجرة له، لانه مع الرضا بأن لا ربح له متطوع بعمله
(والثانى)
وهو قول
ابن سريج إن له أجرة مثله لعمله في قراض فاسد، فصار كالمزوجة من غير صداق تستحق بذلك مهر المثل.
وأما ان شرطا جميع الربح للعامل فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يقول رب المال خذه قراضا على أن جميع الربح لك، فهذا فاسد وجميع الربح لرب المال على حكم القراض الفاسد وللعامل أجرة مثله لدخوله على عوض لم يحصل له.
والضرب الثاني: أن يقول: خذه على أن جميع ربحه لك ولا يصرح في حال الدفع بأنه قراض، ففيه لاصحابنا وجهان
(أحدهما)
أن يكون سلفا ولا يكون قراضا لانه غير منطوق به، فعلى هذا يكون ضامنا للمال وجميع الربح له.
والوجه الثاني: أن يكون قراضا فاسدا ولا يكون قراضا ولا سلفا لانه غير منطوق به.
فعلى هذا لا يكون ضامنا للمال، ويكون جميع الربح لرب المال، وللعامل أجرة المثل.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز أن يعلق العقد على شرط مستقبل لانه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع والاجارة.

(14/368)


(فصل)
قال الشافعي رحمه الله: ولا تجوز الشريطة إلى مدة، فمن أصحابنا من قال لا يجوز شرط المدة فيه لانه عقد معاوضة يجوز مطلقا فبطل بالتوقيت كالبيع والنكاح، ومنهم من قال: إن عقده إلى مدة على أن لا يبيع بعدها لم يصح لاأ العامل يستحق البيع لاجل الربح، فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما ينافى مقتضاه فلم يصح.
وإن عقده إلى مدة على أن لا يشترى بعدها صح، لان رب المال يملك المنع من الشراء إذا شاء، فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد فلم يمنع صحته.

(فصل)
ولا يصح إلا على التجارة في جنس يعم كالثياب والطعام والفاكهة في وقتها، فان عقده على ما لا يعم كالياقوت الاحمر والخيل البلق وما أشبهها أو على التجارة في سلعة بعينها لم يصح لان المقصود بالقراض الربح فإذا علق على ما لا يعم أو على سلعة بعينها تعذر المقصود لانه ربما لم يتفق ذلك ولا يجوز عقده على أن لا يشترى إلا من رجل بعينه، لانه قد لا يتفق عنده ما يربح فيه أو لا يبيع منه ما يربح فيه فيبطل المقصود
(فصل)
وعلى العامل أن يتولى ما جرت العادة أن يتولاه بنفسه من النشر والطى والايجاب والقبول، وقبض الثمن ووزن ما خف كالعود والمسك، لان إطلاق الاذن يحمل على العرف، والعرف في هذه الاشياء أن يتولاها بنفسه، فان استأجر من يفعل ذلك لزمه الاجرة في ماله.
فأما ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع ووزن ما يثقل وزنه فلا يلزمه أن يتولاه بنفسه، وله أن يستأجر من مال القراض من يتولاه، لان العرف في هذه الاشياء أن لا يتولاه بنفسه، فان تولى ذلك بنفسه لم يستحق الاجرة لانه تبرع به.
وإن سرق المال أو غصب فهل يخاصم السارق والغاصب؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
لا يخاصم، لان القراض معقود على التجارة فلا تدخل فيه الخصومة
(والثانى)
أنه يخاصم فيه لان القراض يقتضى حفظ المال والتجارة ولا يتم ذلك الا بالخصومة والمطالبة

(14/369)


(فصل)
ولا يجوز للعامل أن يقارض غيره من غير إذن رب المال لان تصرفه بالاذن ولم يأذن له رب المال في القراض فلم يملكه، فان قارضه رب المال على النصف وقارض العامل آخر واشترى الثاني في الذمه ونقد الثمن من مال
القراض وربح بنينا على القولين في الغاصب إذا اشترى في الذمة ونقد فيه المال المغصوب وربح، فان قلنا بقوله القديم إن الربح لرب المال فقد قال المزني ههنا ان لرب المال نصف الربح والنصف الآخر بين العاملين نصفين.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ هذا صحيح لان رب المال رضى أن يأخذ نصف ربح فلم يستحق أكثر منه والنصف الثاني بين العاملين لانهما رضيا أن يكون ما رزق الله بينهما، والذى رزق الله تعالى هو النصف، فان النصف الآخر أخذه رب المال فصار كالمستهلك.
ومن أصحابنا من قال: يرجع العامل الثاني على العامل الاول بنصف أجرة مثله لانه دخل على أن يأخذ نصف ربح المال ولم يسلم له ذلك، وان قلنا بقوله الجديد فقد قال المزني الربح كله للعامل الاول وللعامل الثاني أجرة المثل فمن أصحابنا من قال هذا غلط لان على هذا القول الربح كله للعامل الثاني لانه هو المتصرف فصار كالغاصب في غير القراض.
ومنهم من قال الربح للاول كما قال المزني لان العامل الثاني لم يشتر لنفسه وانما اشتراه للاول فكان الربح له بخلاف الغاصب في غير القراض، فان ذلك اشتراه لنفسه فكان الربح له.*
*
* (الشرح) قال الشافعي: ولا يجوز أن يقارضه إلى مدة من المدد.
فإذا عرفت ما قررناه في أول الباب من أن القراض من العقود الجائزة لا اللازمة فقد صح عقده مطلقا بدون شرط مدة أو تحديد وقت يكون القراض فيه، فلو شرطا مدة يكون القراض فيها لازما بطل.
فإذا ثبت هذا فاشتراط المدة على ضربين:
(أحدهما)
أن يشترطا لرفع العقد فيها فيكون القراض باطلا لما ذكرنا.
(الثاني) أن يشترطا الفسخ في العقد بعدها فهذا على ضربين:

(14/370)


(أحدهما)
أن يشترطا فسخ القراض بعد المدة في البيع والشراء فيكون القراض باطلا إذا فاته موجب العقد في بيع ما حصل في القراض من عرض.

(والثانى)
أن يشترطا فسخ القراض بعد المدة في الشراء دون البيع فيكون القراض جائزا، لان له فسخ القراض في الشراء عند مضى المدة فجاز أن يشترطه قبل مضى المدة.
ولو قال: خذ هذا المال قراضا ما شئت أنا من الزمان أو ما شئت أنت جاز لان كذلك تكون العقود الجائزة، ولو قال: خذه ما رضى فلان مقامك أو ما شاء فلان أن يقارضك لم يجز وكان قراضا فاسدا، لانه لا يجوز أن يكون قراضهما موقوفا على رأى غيرهما.
ولو قال: خذ المال قراضا ما أقام العسكر، أو إلى قدوم الحاج نظر، فإن شرط لزومه في هذه المدة كان باطلا، وإن شرط فسخه بعدها في الشراء دون البيع، ففيه وجهان، أحدهما: يجوز لما لهما من ذلك.
والثانى: لا يجوز، لان لجهالة المدة قسطا من الغرر وتأثيرا في الفسخ.
(فرع)
عقد القراض يقتضى تصرف العامل في المال بالبيع والشراء، فإذا قارضه على أن يشترى به نخلا يمسك رقابها ويطلب ثمارها لم يجز لانه قيد تصرفه الكامل بالبيع والشراء، ولان القراض مختص بما يكون النماء فيه نتيجة البيع والشراء وهو في النخل نتيجة عن غير بيع وشراء فبطل أن يكون قراضا ولا يكون مساقاة، لانه عاقده على جهالة بها قبل وجود ملكها، وهكذا لو قارضه على شراء دواب أو مواشي يحبس رقابها ويطلب نتاجها لم يجز لما ذكرنا، فإن اشترى بالمال النخل والدواب صح الشراء ومنع من البيع لان الشراء عن إذن والبيع بغير إذن، وكان الحاصل من الثمار والنتاج ملكا لرب المال لانه نتج عن
ملكه، وللعامل أجرة مثله في الشرط والخدمة لانها عمل عاوض عليها، وحكى عن محمد بن الحسن جواز ذلك كله حتى قال: لو أطلق القراض معه جاز له أن يشترى أرضا أو يستأجرها ليزرعها أو يغرسها ويقتسما فضل زرعها وغرسها وهذا فاسد لما بيناه.

(14/371)


وأما القسم الثاني وهو مئونة العمل فمنه ما يجب في مال القراض ومنه ما يلزم العامل ولا يجب في مال القراض.
فأما الاول فأجرة النقل والشحن وأرضيات الجمارك إذا لم يتأخر عن تسلمها من إهمال، وأجر الصوامع والمخازن، وما صار معهودا من الرسوم والضرائب والدمغات التى لا يقدر على عدم أدائها فله دفع ذلك كله بالمعروف من رأس المال ثم وضعه من الربح الحاصل فيه ليكون الفاضل بعد ذلك من الربح هو المقسوم بينهما على شرطهما.
وأما ما يلزم العامل ماليا فما يدفع من المخالفات ورسوم الارضية في الجمارك نتيجة الاهمال في ترك الاسراع لتسلمها وتخليصها، وما يلزمه عمليا فهو ما يفعله التجار من تحرير العقود ومباشرة عمليات التسويق والبيع وتنضيد السلع وعرضها وكتابة الاسعار عليها إن كانت أوامر السلطان تقضى بذلك، أما الاعلان عن السلعة في الصحف أو الحوائط أو شاشات العرض فتكون في مال القراض.
وأما القسم الثالث وهو نفقة العامل فهو نوعان
(أحدهما)
ما يختص العامل بالتزامه كمأكوله وملبوسه ونفقة إقامته
(والثانى)
نفقة سفره، فالذي رواه المزني في مختصره أن له النفقة بالمعروف.
وقال في جامعه الكبير: والذى أحفظ له أنه لا يجوز القراض إلا على نفقة معلومة في كل يوم وعما يشتريه فيكتسبه، فروى في مختصره وجامعه وجوب النفقة، وجعلها في جامعه معلومة كنفقات الزوجات، وفى مختصره بالمعروف كنفقات الاقارب، فهذا ما رواه المزني.
وروى أبو يعقوب البويطى أنه لا ينفق على نفسه من مال المضاربة حاضرا كان أو مسافرا.
فاختلف أصحابنا، فكان أبو الطيب وأبو حفص بن الوكيل يجعلان اختلاف الروايتين على اختلاف قولين
(أحدهما)
وهو رواية المزني أنه ليس له النفقة في سفره لاختصاص سفره بمال القراض بخلاف نفقة الاستيطان والقول الثاني: لا نفقة له لما فيه من اختصاصه بالربح أو بشئ منه دون رب المال.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْن أَبِي هريرة: لا نفقة له قولا واحدا على ما رواه البويطى، وحملا رواية المزني على نفقة المبتاع دون العامل، وهذا

(14/372)


التأويل مدفوع بما بينه المزني في جامعه الكبير بقوله: نفقة معلومة في كل يوم، وثمن ما يشتريه فيكتسبه.
(فرع)
قال الشافعي: وإذا سافر كان له أن يكترى من المال من يكفيه بعض المئونة في الاعمال التى لا يعملها العامل، وله النفقة بالمعروف اه والكلام في هذه المسألة التى ذكرها المصنف واستدللنا له عليها بقول الشافعي مشتمل على ثلاثة أقسام: 1 - في جواز سفر العامل بمال القراض 2 - في مئونة العمل 3 - في نفقة العامل فأما الاول فلرب المال معه ثلاثة أحوال (ا) أن ينهاه عن السفر به فلا يجوز أن يسافر إجماعا، فإن أذن له في السفر إلى بلد لم يجز أن يسافر إلى غيره، وان لم يخص به بلدا جاز أن يسافر به إلى البلدان المأمونة المسالك والامصار التى جرت عادة أهل بلده أن يسافروا بأموالهم ومتاجرهم إليها ولا يخرج عن العرف المعهود فيها، وفى البعد إلى أقصى البلدان، فإن أبعد إلى أقصى البلدان ضمن المال
(ب) أن يطلق فلا يأمره ولا ينهاه، فقد اختلف الناس في جواز سفره بالمال، فذهب الشافعي أنه لا يجوز أن يسافر به قريبا ولا بعيدا سواء رد الامر إلى رأيه أم لا.
وقال أبو حنيفة يجوز له أن يسافر بالمال إذا رأى، وان لم يأمره بذلك ما لم ينهه، وقال محمد بن الحسن وأبو يوسف: يجوز أن يسافر بالمال إلى حيث يمكنه الرجوع من قبل الليل، وقال محمد بن الحسن: يجوز له أن يسافر بالمال إلى حيث لا يلزمه إليه مؤونة.
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " ان المسافر وماله على قلت الا ما وقى الله " يعنى على خطر، وهو لا يجوز أن يخاطر بالمال، ولانه مؤتمن فلم يجز أن يسافر بالمال كالوكيل، ولان كل سفر منع منه الوكيل منع منه العامل، كالسفر البعيد.
(فرع)
قال الشافعي: فإن قارض العامل بالملك آخر من غير اذن صاحبه فهو ضامن، فإن ربح به صاحب المال شطر الربح ثم يكون للذى عمل شطره مما قى

(14/373)


قال المزني: هذا قوله في القديم وأصل قوله الجديد المعروف أن كل عقد فاسد لا يجوز.
قال المزني: فإن اشترى بعين المال فهو فاسد، وإن اشترى بغير العين جائز والربح للعامل الاول وعليه الضمان، وللعامل الثاني أجرة مثله في قياس قوله.
وقال الماوردى: إن العامل في القراض ممنوع أن يقارض غيره بمال القراض ما لم يأذن له رب المال به إذنا صحيحا صريحا.
وقال أبو حنيفة: إن قال له رب المال عند دفعه له: اعمل فيه برأيك جاز أن يدفع منه قراضا إلى غيره لانه مفوض إلى رأيه فجاز أن يقارض لانه من رأيه.
وهذا خطأ لان قوله: اعمل فيه برأيك يقتضى أن يكون عمله فيه موكولا إلى رأيه، فإذا قارض به كان
العمل لغيره ولانه لو قارض بجميع المال لم يجز، وإن كان ذلك من رأيه لعدوله بذلك عن عمله إلى عمل غيره، فكذلك إذا قارض ببعضه، فإذا تقرر أنه لا يجوز أن يقارض غيره بالمال الا بإذن صريح من رب المال فلا يخلو رب المال من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يأذن له في العمل بنفسه ولا يأذن له في مقارضة غيره
(والثانى)
أن يأذن له في مقارضة غيره فأما القسم الاول فإن قارض غيره بالمال فقد تعدى وصار ضامنا للمال بعدوانه كالغاصب فيكون ربحه حكمه حكم الغاصب.
ولمن يكون الربح؟ على قولين: أحدهما وهو القديم أن ربح المغصوب لرب المال، فعلى هذا قال المزني ههنا ان لرب المال نصف الربح والنصف الآخر بين العاملين الاول والثانى فاختلف أصحابنا في ذلك، فكان أبو العباس بن سريج يقول: يجب أن يكون على هذا القول جميع الربح لرب المال، لانه ربح مال مغصوب فأشبه المغصوب من غير مقارضه، فإذا أخذ رب المال ماله وربحه كله رجع العامل الثاني على العامل الاول بأجرة مثله لانه هو المستهلك لعمله والضامن له بقراضه، فلو تلف المال في يد العامل الثاني كان رب المال بالخيار في الرجوع برأس ماله وربحه على من شاء منهما، لان الاول ضامن بعدوانه والثانى ضامن بيده، فإن أغرم الاول لم يرجع على الثاني بشئ لانه أمينه فيما غرمه.
وان أغرم الثاني رجع على الاول بما غرمه مع أجرة مثل عمله، ولا يلزم رب المال - وان

(14/374)


أخذ جميع الربح - أن يدفع إلى واحد من العاملين أجرة المثل لاجراء حكم الغصب عليهما بالمخالفة.
وذهب أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة وجمهور أصحابنا إلى أن ما رواه المزني على هذا القول صحيح، وأن رب المال ليس له من الربح الا نصفه
خلاف المأخوذ غصبا محضا، لاب رب المال في هذا الموضع دفع المال راضيا بالنصف من ربحه وجاعلا نصفه الباقي لغيره، فلذلك لم يستحق منه الا النصف.
فأما النصف الثاني فقد روى المزني أنه يكون بين العاملين، فاختلف أصحابنا على وجهين.

(أحدهما)
وهو قول أبى اسحاق المروزى أن هذا خطأ من المزني في نقله، ويجب أن يكون النصف الباقي من الربح للعامل الاول ولا حق فيه للثاني لفساد عقده، ويرجع على الاول بأجرة مثل عمله، فجعل الربح بين رب المال والعامل الاول، ويجعل للثاني أن يرجع بأجرة مثله على الاول.
والوجه الثاني وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن نقل المزني صحيح ويكون النصف الباقي من الربح بين العاملين نصفين على شرطهما، لانه لما جرى على العامل الاول حكم القراض مع رب المال جرى على العامل الاول حكم القراض مع العامل الثاني، فهذا حكم قوله الجديد.

(والثانى)
وهو قوله في الجديد: ان ربح المال المغصوب للغاصب، فعلى هذا لا شئ لرب المال في الربح وله مطالبة أي العاملين شاء برأس ماله، لان الاول ضامن بعدوانه والثانى ضامن بيده.
وقال أبو حنيفة: ان الربح للغاصب دون المغصوب لان كل نماء حدث عن سبب كان ملك النماء لمالك السبب، وربح المال المغصوب ناتج عن التقلب والعمل دون المال فاقتضى أن يكون ملكا لمن له العمل دون من له المال، وهذه هي النظرية الحديثة المعاصرة التى تقول بأن فائض القيمة ناتج عن عمل العامل وأما الثالث وهو أن يأذن له في مقارضة غيره ولا يأذن له في العمل بنفسه فهو وكيل في عقد القراض مع غيره، فلم يجز أن يقارض نفسه كوكيل البيع لا يجوز له أن يبايع نفسه.
ثم ينظر فإن كان رب المال قد عين له من يقارضه لم

(14/375)


يجز أن يعدل عنه إلى غيره وإن لم يعينه له اجتهد رأيه فيمن يراه أهلا لقراضه من ذوى الامانة والخبرة، فإن قارض أمينا غير خبير بالتجارة لم يجز، وإن قارض خبيرا بالتجارة غير أمين لم يجز حتى يجتمع الشرطان، فإن عدل عن ذلك كان ضامنا.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ولا يتجر العامل إلا فيما أذن فيه رب المال فان أذن له في صنف لم يتجر في غيره، لان تصرفه بالاذن فلم يملك ما لم يأذن له فيه، فإن قال له اتجر في البز جاز أن يتجر في أصناف البز من المنسوج من القطن والابريسم والكتان وما يلبس من الاصواف، لان اسم البز يقع على ذلك كله، ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش لانه لا يطلق عليه اسم البز.
وهل يجوز أن يتجر في الاكسية البركانية؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه يلبس فأشبه الثياب
(والثانى)
لا يجوز لانه لا يطلق عليه اسم البز.
ولهذا لا يقال لبائعه بزاز، وإنما يقال له كسائي، ولو أذن له في التجارة في الطعام لم يجز أن يتجر في الدقيق ولا في الشعير، لان الطعام لا يطلق إلا على الحنطة.

(فصل)
ولا يشترى العامل بأكثر من رأس المال، لان الاذن لم يتناول غير رأس المال، فإن كان رأس المال ألفا فاشترى عبدا بألف، ثم اشترى آخر بألف قبل أن ينقد الثمن في البيع الاول فالاول للقراض لانه اشتراه بالاذن.
وأما الثاني فينظر فيه فان اشتراه بعين الالف فالشراء باطل، لانه اشتراه بمال استحق تسليمه في البيع الاول فلم يصح، وإن اشتراه بألف في الذمة كان العبد له ويلزمه الثمن في ماله لانه اشترى في الذمة لغيره ما لم يأذن فيه فوقع الشراء له

(فصل)
ولا يتجر إلا على النظر والاحتياط فلا يبيع بدون ثمن المثل ولا بثمن مؤجل لانه وكيل فلا يتصرف الا على النظر والاحتياط، وإن اشترى معيبا رأى شراءه جاز لان المقصود طلب الحظ وقد يكون الربح في المعيب، وان

(14/376)


اشترى شيئا على أنه سليم فوجده معيبا جاز له الرد، لانه فوض إليه النظر والاجتهاد فملك الرد
(فصل)
وان اختلفا فدعا أحدهما إلى الرد والآخر إلى الامساك فعل ما فيه النظر لان المقصود طلب الحظ لهما، فإذا اختلفا حمل الامر على ما فيه الحظ.

(فصل)
وان اشترى من يعتق على رب المال بغير إذنه لم يلزم رب المال لان القصد بالقراض شراء ما يربح فيه وذلك لا يوجد في شراء من يعتق عليه وإن كان رب المال امرأة فاشترى العامل زوجها بغير اذنها ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يلزمها لان المقصود شراء ما تنتفع به وشراء الزوج تستضر به لان النكاح ينفسخ وتسقط نفقتها واستمتاعها
(والثانى)
يلزمها لان المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه والزوج كغيره في الربح فلزمها شراؤه
(فصل)
ولا يسافر بالمال من غير اذن رب المال لانه مأمور بالنظر والاحتياط، وليس في السفر احتياط، لان فيه تغريرا بالمال، ولهذا يروى أن المسافر ومتاعه لعلى قلت، فان أذن له في السفر فقد قال في موضع له أن ينفق من مال القراض، وقال في موضع آخر لا نفقة له، فمن أصحابنا من قال لا نفقة له قولا واحدا لان نفقته على نفسه فلم تلزم من مال القراض كنفقة الاقامة، وتأول قوله على ما يحتاج إليه لنقل المتاع وما يحتاج إليه مال القراض.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
لَا ينفق لما ذكرناه
(والثانى)
ينفق لان سفره لاجل المال فكان
نفقته منه كأجرة الحمال.
فإن قلنا ينفق من مال القراض ففى قدره وجهان
(أحدهما)
جميع ما يحتاج إليه، لان من لزمه نفقة غيره لزمه جميع نفقته
(والثانى)
ما يزيد عل؟ نفقة الحضر لان النفقة انما لزمته لاجل السفر فلم يلزمه الا ما زاد بالسفر
(فصل)
وإن ظهر في المال ربح ففيه قولان
(أحدهما)
أن الجميع لرب المال فلا يملك العامل حصته من الربح إلا بالقسمة لانه لو ملك حصته من الربح لصار شريكا لرب المال حتى إذا هلك شئ كان هالكا من المالين، فلما لم يجعل التالف من المالين دل على أنه لم يملك منه شيئا
(والثانى)
أن العامل يملك حصته من

(14/377)


الربح لانه أحد المتقارضين فملك حصته من الربح بالظهور كرب المال.

(فصل)
وإن طلب أحد المتقارضين قسمة الربح قبل المفاصلة فامتنع الآخر لم يجبر لانه إن امتنع رب المال لم يجز إجباره لانه يقول الربح وقاية لرأس المال فلا أعطيك حتى تسلم لى رأس المال، وإن كان الذى امتنع هو العامل لم يجز إجباره لانه يقول لا نأمن أن نخسر فنحتاج أن نرد ما أخذه، وإن تقاسما جاز لان المنع لحقهما وقد رضيا، فإن حصل بعد القسمة خسران لزم العامل أن يجبره بما أخذ لانه لا يستحق الربح إلا بعد تسليمه رأس المال
(فصل)
وإن اشترى العامل من يعتق عليه فإن لم يكن في المال ربح لزم الشراء في مال القراض لانه لا ضرر فيه على رب المال، فإن ظهر بعد ما اشتراه ربح، فإن قلنا انه لا يملك حصته قبل القسمة لم يعتق، وإن قلنا إنه يملك بالظهور فهل يعتق بقدر حصته؟ فيه وجهان
(أحدهما)
إنه يعتق منه بقدر حصته لانه ملكه فعتق.

(والثانى)
لا يعتق لان ملكه غير مستقر، لانه ربما تلف بعض المال فلزمه
جبرانه بماله، وإن اشترى وفى المال ربح، فان قلنا إنه لا يعتق عليه صح الشراء لانه لا ضرر فيه على رب المال، وإن قلنا يعتق لم يصح الشراء لان المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه، وهذا لا يوجد فيمن يعتق عليه.
(الشرح) قد ذكرنا أن القراض خاص وعام، فأما العام فهو أن يطلق تصرف العامل في كل ما يرجو فيه ربحا، فهذا جائز على عموم التصرف، وأما الخاص فهو أن يختص بالعامل على نوح واحد فهو على ثلاثة أضرب: (أحدها) ما يوجد في عموم الاحوال كالحنطة والبر فيجوز، ويكون مقصور التصرف على النوع الذى أذن فيه، فلو أذن له أن يتجر في البز جاز له أن يتجر في صنوف البز كلها وجاز أن يتجر في القطن والكتان والحرير والصوف ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش.
وهل يجوز أن يتجر في الثياب والاكسية أم لا؟ على وجهين:
(أحدهما)
يجوز لانها ملبوسة
(والثانى)
لا يجوز لخروجها عن اسم البز

(14/378)


فلو أذن له أن يتجر في الطعام اقتصر على الحنطة وحدها دون الدقيق.
وقال محمد بن الحسن: يجوز أن يتجر في الحنطة والدقيق، وعندي أن تصنيف السلع يمكن أن تقوم على ما جرى العرف بتناسقه وانسجامه واعتبار التاجر فيه جامعا لما يندرج تحته بالعرف لمفردات المجموعة من الاصناف المتشابهة التى يتجر فيها فلو أذن له في البقالة اندرج تحت هذا الاسم أنواع الجبن والزيتون والمعلبات والصابون والمأكولات المجففة.
وإذا أذن له في الخردوات (البازار) اندرج تحت هذا الاسم مجموعة من الاصناف كالخيوط والاشرطة والعطور وما أشبه ذلك.
وهكذا في كل مجموعة من السلع المتشابهة يطلق على من يتجر فيها اسم عند ما يسمعه المرء مثلت للذهن
أصناف متجره بغير عناء.
فإذا أذن له في فتح محل حاتى فلا يفتح مسمطا ولا فوالا ولا طباخا، وان كانت كلها مأكولات، ولكن العرف حدد لكل نوع منها اسمه الذى لا يختلط بغيره وهكذا.
فإذا أذن له في أن يتجر فيما ندر وجوده وعز مطلبه، كالياقوت الاحمر والخيل البلق والعبيد الخصيان فالقراض باطل سواء وجده أو لم يجده لانه على غير ثقة من وجوده.
فإذا أذن له أن يتجر في ثمار موسمية كالثمار والفواكه فينظر في عقد القراض، فان كان في غير أوان تلك الثمار فالقراض باطل، فان جاءت تلك الثمار من بعد لم يصح القراض بعد فساده، وان كان ذلك في أوان الثمار وإبانها فالقراض جائز ما كانت تلك الثمار باقية، فان انقطعت ففى القراض وجهان
(أحدهما)
قد بطل بانقطاعها، وليس له في العام المقبل أن يتجر فيها الا باذن وعقد مستجد.
والوجه الثاني: أن القراض على حاله ما لم يصرح بفسخه في كل عام أتت فيه تلك الثمرة فيتجر فيها بالعقد الاول.
أما إذا كان انقطاعه في العام قليلا فالقراض على وجهه وحاله.

(14/379)


(فرع)
إذا تقرر أنه لا يشترى إلا في حدود رأس المال المأذون فيه كان ممنوعا من البيع والشراء نسيئة، فإذا عاقد بالنساء فذلك نوعان بيع وشراء فالشراء ضربان.

(أحدهما)
أن يشترى بالنساء في مال القراض فيكون الشراء باطلا.

(والثانى)
أن يشترى بالنساء في ذمته فيكون الشراء لازما له، وأما البيع فباطل ولا ضمان عليه ما لم يقبضه فإن قبضه ضمنه حينئذ بالاقباض، وعليه
استرجاعه ما كان باقيا، فإن تلف فلرب المال أن يأخذ بضمانه وغرمه من شاء من العامل أو المشترى، فإن أغرم العامل رجع بما غرمه على المشترى، وإن أغرم المشترى لم يرجع على العامل لان الغرم ثبت على من كان في يده التلف.
فلو قال رب المال للعامل: اعمل في القراض برأيك لم يجز أن يعاقد بالنساء وإذا قارضه على غير مال ليشترى بالنساء فإن القراض باطل لانه يصح في الاعيان ولا يصح في الذمم، ولو قارضه على مال فأذن له في الشراء بالنساء لم يكن للعامل أن يشترى نساء بأكثر من مال القراض قدرا لان ما زاد عليه خارج منه.
(فرع)
لا يجوز له أن يبيع بأقل من ثمن المثل إلا إذا كان عن رغبة في تأليف المبتاعين وترويج السلعة والقناعة بالقليل من الربح ما دام يتصرف على النظر والاحتياط وتوخى ما فيه الحظ له ولصاحبه بشرط أن لا يكون كثيرا لا يتغابن الناس بمثله.
(فرع)
قال الشافعي: ومتى شاء رب المال أخذ ماله قبل العمل وبعده ومتى شاء العامل أن يخرج من القراض يخرج منه، وقد سبق أن قررنا أن عقد القراض عقد جواز وليس عقد لزوم فلكل واحد من رب المال والعامل أن ينفرد بالفسخ قبل العمل وبعده مع وجود الربح أو حدوث الخسران، فإذا فسخها أحدهما انفسخت فصار كاجتماعهما على قسمها، فإذا كان المال من جنس رأس المال فالعامل ممنوع من التصرف فيه ببيع أو شراء سواء كان هو الفاسخ أو صاحبه، ثم نظر فان كان فيه فضل تقاسماه على شرطهما، وإن لم يكن فيه فضل أو كان فيه خسران أخذه رب المال ولا شئ فيه للعامل، وإن كان من غير جنس رأس المال فحكم

(14/380)


هذا كحكمه لو كان عرضا، ولهما في العرض بعد فسخ القراض أربعة أحوال.
(ا) أن يجتمعا على بيعه فيلزم العامل أن يبيعه لانه من لوازم عقده فإذا قضى
ثمنه أخذ رب المال ماله فضلا إن كان فيه.
(ب) أن يتفقا على ترك بيعه فهذا على نوعين: أحدهما: لا يكون في ثمنه - لو بيع - فضل، فقد سقط حق العامل منه فصار العرض ملكا لرب المال بزيادته ونقصه، فان زاد ثمنه بعد ترك العامل له لم يكن له حق في زيادته لخروجه بالترك عن قراضه.
والنوع الثاني: أن يكون في ثمنه فضل لو بيع عند تركه نظر في ترك العامل فان كان قد تركه إسقاطا لحقه فقد صار العرض بزيادته ونقصه ملكا لرب المال ولا شئ للعامل فيه، وإن كان قد ترك تأخير البيع فهو على حقه من فضل ثمنه وله بيعه متى شاء.
(ج) أن يدعو العامل إلى بيعه ويمنعه رب المال منه فهذا على ضربين.
أحدهما: أن لا يرجو في ثمنه فضلا، ولا يأمل ربحا فليس له بيعه، ويمنع منه لانه لا يستفيد ببيعه شيئا.
والضرب الثاني: أن يرجو في ثمنه فضلا ويأمل ربحا فله بيعه وليس لرب المال أن يمنعه ليصل بالبيع إلى حقه من الربح، فلو بذل له رب المال حصته من ربحه ففى منعه من بيعه وجهان مخرجان من اختلاف قولين في سيد العبد الجاني إذا امتنع المجني عليه من بيعه وبذل له قدر قيمته.

(أحدهما)
يمنع المجني عليه من بيعه لوصوله إلى قيمته ويمنع العامل من بيع العرض لوصوله إلى حقه.
(والقول الثاني) أن المجني عليه لا يمنع من بيع الجاني، وكذلك لا يمنع العامل من بيع القراض لانه قد يرجو زيادة على القيمة لوجود راغب.
(د) أن يدعو رب المال إلى بيعه ويمتنع العامل منه، فان كان امتناعه تركا لحقه منه ففى إجباره على بيعه وجهان، أحدهما: لا يجبر عليه لان البيع والشراء
انما يلزم في حقيهما وببطلان القراض قد سقط أن يكون ذلك حقا لهما.

(14/381)


والثانى: أن يجبر على بيعه، لان رأس المال مستحق عليه وليس العرض هو رأس المال وانما هو بدل عنه.
(فرع)
سبق أن قررنا أنه لا يجوز له أن يسافر بغير إذن رب المال وأوضحنا من النفقات ما يؤخذ من القراض بالمعروف كنفقة الاقارب أو مقدرة كنفقة الزوجة، وقال أبو حنيفة: له في نفقته أجرة حمامه وعلاجه وطبيبه وما يباج من شهواته، وهذا غير صحيح من وجهين.

(أحدهما)
أن نفقات الزوجات أوكد من نفقات العامل ومع ذلك ليس فيها شئ من ذلك.

(والثانى)
أن ذلك مما لا يختص بالسفر ولا بعمله، على أن من أصحابنا من جعل له نفقة السفر ما زاد على نفقة الحضر، وحكاه أبو على بن أبى هريرة عن بعض متقدميهم وهو أشبه بالقياس، فان دخل في سفره بيتا فله النفقة ما أقام فيه مقام المسافر ما لم يتجاوز أربعا فإن زاد على إقامة أكثر من أربع نظر، فان كان بغير مال القراض من مرض طرأ أو عارض يختص به فنفقته في ماله دون القراض وإن كان مقامه لاجل مال القراض انتظارا لبيعه وقبض ثمنه أو التماسا لحمله أو لسبب يتعلق به فنفقته في سفره لاختصاصه بالقراض.
قال الشافعي: وإن خرج بمال لنفسه كانت النفقة على قدر المالين بالحصص، ويستفاد من ذلك أنه يصح أن يسافر بمال نفسه مع مال القراض، ومنعه بعض العراقيين لان عمله مستحق في مال القراض فصار كالاجير، وقد خطأ بعض أصحابنا هذا لانه إذا كان له أن يعمل في ماله ومال القراض حضرا جاز له ذلك سفرا ولان عمله في القراض لا يمنعه من العمل في جميع الاعمال ما دام يؤدى ما لزمه من
عمل القراض وسواء فيما لسواه ممسكا أو عاملا فلو شرطه في العقد أن لا يسافر بمال لنفسه بطل القراض لانه قد أوقع عليه حجرا غير مستحق، والمطلوب منه أن لا يخلط ماله بمال القراض، وعليه تمييز كل واحد من المالين، فان خلطهما فعلى ضربين.

(أحدهما)
أن يكون باذن رب المال فيجوز ويصير شريكا ومضاربا، ومؤونة

(14/382)


المال مقسطة على قدر المالين، ونفقة نفسه إن قيل: إنها لا تجب في مال القراض فهو مختص بها، وإن قيل انها تجب في مال القراض فهى مقسطة على قدر المالين
(والثانى)
أن يخلط المالين بغير إذن رب المال فيبطل القراض لانه يصير كالعادل به عن حكمه فيلتزم نفقة نفسه، وتكون نفقة المالين بقدر الحصص وربح مال القراض كله لرب المال لفساد القراض وللعامل أجرة المثل بحيث لا يوجب له أجرة كاملة لان عمله قد توزع على ماله ومال القراض (فرع)
إذا أبضع رب المال عامله في مال القراض بضاعة - أي أعطاه قطعة من المال يتجر فيها لنفسه - يختص بربحها جاز إن كان من غير شرط في القراض ولم يجز ان كان عن شرط وخالف مالك (فرع)
إذا ادعى ظهور الربح في المال وطالب بالقسمة لم يجبر المالك ما لم يعترف بظهور الربح أو يتحاسبان فيظهر له الربح، ولا يلزم رب المال أن يحاسبه إلا بعد حضور المال لانه قد لا يصدق فيما يخبر به من وفوره أو سلامته فإذا حضر المال وتحاسبا فوجدا رأس المال ناقصا ترادا الربح ليستكمل رأس المال، ولو رضى رب المال والعامل بالمحاسبة عليه مع غيبة المال عنهما ففى جوازه وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه احتياط لهما تركاه
(والثانى)
لا يجوز.
وقد ذكره الشافعي في موضع لانهما يتحاسبان على جهالة والله أعلم بالصواب

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والعامل أمين فيما في يده فان تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن لانه نائب عن رب المال في التصرف فلم يضمن من غير تفريط كالمودع، فان دفع إليه ألفا فاشترى عبدا في الذمة ثم تلف الالف قبل أن ينقده في ثمن العبد انفسخ القراض لانه تلف رأس المال بعينه.
وفى الثمن وجهان:
(أحدهما)
أنه على رب المال لانه اشتراه له فكان الثمن عليه، كما لو اشترى الوكيل في الذمة ما وكل في شرائه فتلف الثمن في يده قبل أن ينقده.

(والثانى)
أن الثمن على العامل، لان رب المال لم يأذن له في التجارة إلا في رأس المال فلم يلزمه ما زاد.

(14/383)


وان دفع إليه ألفين فاشترى بهما عبدين ثم تلف أحدهما ففيه وجهان: أحدهما: يتلف من رأس المال وينفسخ فيه القراض لانه بدل عن رأس المال فكان هلاكه كهلاكه.
والثانى: أنه يتلف من الربح لانه تصرف في المال فكان في القراض، وان قارضه رجلان على مالين، فاشترى لكل واحد منهما جارية ثم أشكلتا عليه ففيه قولان " أحدهما " تباعان فان لم يكن فيهما ربح قسم بين ربى المال، وإن كان فيهما ربح شاركهما العامل في الربح، وان كان فيهما خسران ضمن العامل ذلك لانه حصل بتفريطه، والقول الثاني أن الجاريتين للعامل ويلزمه قيمتهما، لانه تعذر ردهما بتفريطه فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما
(فصل)
ويجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء لانه تصرف في مال الغير باذنه فملك كل واحد منهما فسخه كالوديعة والوكالة، فان فسخ العقد والمال من غير جنس رأس المال وتقاسماه جاز.
وإن باعاه جاز لان الحق لهما، وان
طلب العامل البيع وامتنع رب المال أجبر، لان حق العامل في الربح، وذلك لا يحصل الا بالبيع فان قال رب المال أنا أعطيك مالك فيه من الربح وامتنع العامل، فان قلنا انه ملك حصته من الربح بالظهور لم يجبر على أخذه، كما لو كان بينهما مال مشترك وبذل أحدهما للآخر عوض حقه.
وان قلنا لا يملك ففيه وجهان بناء على القولين في العبد الجاني إذا امتنع المولى عن بيعه وضمن للمجني عليه قيمته " أحدهما " لا يجبر على بيعه لان البيع لحقه وقد بذل له حقه " والثانى " أنه يجبر لانه ربما زاد مزايد ورغب راغب فزاد في قيمته.
وان طلب رب المال البيع وامتنع العامل أجبر على بيعه لانه حق رب المال في رأس المال ولا يحصل ذلك الا بالبيع، فان قال العامل أنا أترك حقى ولا أبيع فان قلنا ان العامل يملك حصته بالظهور لم يقبل منه، لانه يريد أن يهب حقه وقبول الهبات لا يجب.
وان قلنا انه لا يملك بالظهور ففيه وجهان: " أحدهما " لا يجبر على بيعه لان البيع لحقه وقد تركه فسقط " والثانى " يجبر لان البيع لحقه ولحق رب المال في رأس ماله، فإذا رضى

(14/384)


بترك حقه لم يرض رب المال بترك رأس ماله، وإن فسخ العقد وهناك دين وجب على العامل أن يتقاضاه لانه دخل في العقد على أن يرد رأس المال فوجب أن يتقاضاه ليرده.

(فصل)
وإن مات أحدهما أو جن انفسخ لانه عقد جائز فبطل بالموت والجنون كالوديعة والوكالة.
وإن مات رب المال أو جن وأراد الوارث أو الولى أن يعقد القراض والمال عرض، فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق يجوز لانه ليس بابتداء قراض، وإنما هو بناء على مال القراض فجاز.
ومنهم
من قال لا يجوز وهو الصحيح لان القراض قد بطل بالموت وهذا ابتداء قراض على عرض فلم يجز.

(فصل)
وإن قارض في مرضه على ربح أكثر من أجرة المثل ومات اعتبر الربح من رأس المال، لان الذى يعتبر من الثلث ما يخرجه من ماله والربح ليس من ماله، وإنما يحصل بكسب العامل فلم يعتبر من الثلث، وإن مات وعليه دين قدم العامل على الغرماء لان حقه يتعلق بعين المال فقدم على الغرماء
(فصل)
وإن قارض قراضا فاسدا وتصرف العامل نفذ تصرفه لان العقد بطل وبقى الاذن فملك به التصرف، فان حصل في المال ربح لم يستحق العامل منه شيئا لان الربح يستحقه بالقراض وقد بطل القراض.
فأما أجرة المثل فإنه ينظر فيه فان لم يرض إلا بربح استحق لانه لم يرض أن يعمل إلا بعوض، فإذا لم يسلم له رجع إلى أجرة المثل، وان رضى من غير ربح بأن قارضه على أن الربح كله لرب المال ففى الاجرة وجهان
(أحدهما)
لا يستحق وهو قول المزني لانه رضى أن يعمل من غير عوض فصار كالمتطوع بالعمل من غير قراض
(والثانى)
أنه يستحق وهو قول أبى العباس لان العمل في القراض يقتضى العوض فلا يسقط بإسقاطه كالوطئ في النكاح.
وإن كان له على رجل دين فقال اقبض مالى عليك فعزل الرجل ذلك وقارضه عليه لم يصح القراض، لان قبضه له من نفسه لا يصح، فإذا قارضه عليه فقد

(14/385)


قارضه على مال لا يملكه فلم يصح، فإن اشترى العامل شيئا في الذمة ونقد في ثمنه ما عزله لرب المال وربح ففيه وجهان
(أحدهما)
أن ما اشتراه مع الربح لرب المال لانه اشتراه له بإذنه ونقد فيه
الثمن باذنه وبرئت ذمته من الدين، لانه سلمه إلى من اشترى منه باذنه ويرجع العامل بأجرة المثل لانه عمل ليسلم له الربح ولم يسلم فرجع إلى أجرة عمله.

(والثانى)
أن الذى اشتراه مع الربح له لا حق لرب المال فيه، لان رب المال عقد القراض على مال لا يملكه فلم يقع الشراء له
(فصل)
وان اختلف العامل ورب المال في تلف المال، فادعاه العامل وأنكره رب المال، أو في الخيانة فادعاها رب المال وأنكر العامل فالقول قول العامل لانه أمين والاصل عدم الخيانة فكان القول قوله كالمودع
(فصل)
فان اختلفا في رد المال فادعاه العامل وأنكره رب المال ففيه وجهان: " أحدهما " لا يقبل قوله لانه قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير " والثانى " يقبل قوله لان معظم منفعته لرب المال، لان الجميع له إلا السهم الذى جعله للعامل فقبل قوله عليه في الرد كالمودع
(فصل)
فان اختلفا في قدر الربح المشروط فادعى العامل انه النصف وادعى رب المال انه الثلث تحالفا، لانهما اختلفا في عوض مشروط في العقد فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، فان حلفا صار الربح كله لرب المال ويرجع العامل بأجرة المثل لانه لم يسلم له المسمى فرجع ببدل علمه
(فصل)
وان اختلفا في قدر رأس المال، فقال رب المال ألفان، وقال العامل ألف فان لم يكن في المال ربح فالقول قول العامل لان الاصل عدم القبض فلا يلزمه إلا ما أقر به، وان كان في المال ربح ففيه وجهان

(14/386)


أحدهما: أن القول قول العامل لما ذكرناه.
والثانى: أنهما يتحالفان لانهما اختلفا فيما يستحقان من الربح فتحالفا كما لو اختلفا في قدر الربح المشروط، والصحيح هو الاول لان الاختلاف في الربح المشروط اختلاف في صفة العقد فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن وهذا اختلاف فيما قبض فكان الظاهر مع الذى ينكر كالمتبايعين إذا اختلفا في قبض الثمن فان القول قول البائع.

(فصل)
وإن كان في المال عبد فقال رب المال اشتريته للقراض، وقال العامل اشتريته لنفسي أو قال رب المال اشتريته لنفسك، وقال العامل اشتريته للقراض فالقول قول العامل لانه قد يشترى لنفسه وقد يشتريه للقراض ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالنية فوجب الرجوع إليه، فان أقام رب المال البينة انه اشتراه بمال القراض ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يحكم بالبينة لانه لا يشترى بمال القراض الا للقراض.

(والثانى)
أنه لا يحكم بها لانه يجوز أن يشترى لنفسه بمال القراض على وجه التعدي فلا يكون للقراض لبطلان البيع.

(فصل)
وان كان في يده عبد فقال رب المال كنت نهيتك عن شرائه وأنكر العامل فالقول قول العامل لان الاصل عدم النهى ولان هذا دعوى خيانة والعامل أمين فكان القول فيهما قوله.

(فصل)
وإن قال ربحت في المال ألفا ثم ادعى أنه غلط فيه أو أظهر ذلك خوفا من نزع المال من يده لم يقبل قوله لان هذا رجوع عن الاقرار بالمال لغيره فلم يقبل كما لو أقر لرجل بمال ثم ادعى أنه غلط، فان قال قد كان فيه ربح ولكنه هلك قبل قوله لان دعوى التلف بعد الاقرار لا تكذب اقراره فقيل.
(الشرح) سبق أن قررنا أن القراض عقد معونة وارفاق يجوز بين المتعاقدين ما أقاما عليه مختارين وليس بلازم لهما، ويجوز فسخه لمن شاء منهما، فهو عقد
ائتمان كالوديعة والعارية، فإذا تلف في يده فعلى تفصيل نضرب له مثلا تجتمع فيه

(14/387)


صور المسألة: رب مال دفع ألفى دينار قراضا فتلف أحد الالفين في يد العامل وبقى ألف، فلا يخلو حال تلفها من ثلاثة أقسام.
(أحدها) أن يكون تلفها قبل ابتياع العامل لهما فهذا يكون رأس المال فيه الالف الباقية ولا يلزم العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة لانها بالتلف قبل التصرف قد خرجت عن أن تكون قراضا.
(والقسم الثاني) أن يكون تلفها بعد أن اشترى بها وباع ثم تلفت الالف من ثمن ما باع فيكون رأس المال كلا الالفين ويلزم العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة لانها بالتصرف الكامل قد صارت قراضا.
(القسم الثالث) أن يكون تلفها بعد أن اشترى بها عرضا وتلف العرض قبل بيعه ففيه وجهان.
أحدهما: أنها قراض لتلفها بعد التصرف بها في الابتياع فعلى هذا يكون رأس المال الفى دينار، وعلى العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة لانها قد صارت قراضا.
(والوجه الثاني) أن الالف التالفة لا تصير قراضا لتلفها قبل كمال التصرف ببيع ما اشترى بها فعلى هذا يكون رأس المال ألفى درهم ولا يلزم العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة لانها لم تصر قراضا.
فإذا دفع رب المال ألف درهم قراضا فاشترى العامل بها عرضا ثم تلفت الالف قبل دفعها في ثمن العرض فلا يخلو حال الشراء من أمرين
(أحدهما)
أن يكون قد تعين الالف فيكون الشراء باطلا، لان تلف الثمن المعين قبل القبض موجب لبطلان البيع، فعلى هذا قد بطل القراض ويسترجع البائع عرضه
(والثانى)
أن يكون الشراء في ذمة العامل ولم يعقده على عين الالف ففى الشراء وجهان.

(أحدهما)
يكون للعامل لانه لم يبق بيده من مال القراض ما يكون الشراء مصروفا إليه، وهذا على الوجه الذى يقول فيه الشافعي: ان ما تلف بعد الشراء وقبل البيع خارج من القراض.
(والوجه الثاني) أن الشراء يكون في القراض لانه معقود له، وهذا على الوجه الذى يقول فيه الشافعي: ان ما تلف بعد الشراء وقبل البيع داخل في

(14/388)


القراض، فعلى هذا يجب على رب المال أن يدفع ألفا ثانية، تصرف في ثمن العرض، يصير رأس المال ألفى دينار، وعلى العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة فلو تلفت الالف الثانية قبل دفعها في ثمن العرض لزم رب المال أن يدفع ألفا ثالثة، ويصير رأس المال ثلاثة آلاف دينار، وعلى العامل أن يجبر بالربح كلا الالفين التالفتين.
فإذا دفع ألفا قراضا فعمل بها العامل وخسر مائة وأخذ منها رب المال مائة ثم عمل العامل بالباقي فصارت ألفا وخمسمائة وأرادا أن يعرفا قدر رأس المال ليقتسما الربح، فوجه العمل فيه أن يقال لما خسر في الالف مائة لزم تقسيطها على التسعمائة فيكون قسط كل مائة دينار أحد عشر دينارا وتسع، وهو القدر المسترجع من الالف ويبقى رأس المال ثمانمائة وثمانية وثمانين وثمانية أتساع دينار فلو كان قد خسر العامل مائتي دينار واسترجع رب المال مائة صار رأس المال ثمانمائة وخمسة وسبعين لان قسط كل مائة من الخسران خمسة وعشرون ثم على هذا القياس.
(فرع)
قال الشافعي: وإن مات رب المال صار لوارثه فإن رضى ترك المقارض على قراضه وإلا فقد انفسخ قراضه، وإن مات العامل لم يكن لوارثه أن يعمل مكانه
وهذا كما قال: عقد القراض يبطل بموت كل واحد من رب المال والعامل لان العقود الجائزة دون اللازمة تبطل بموت عاقدها وهما في العقد سواء، لانه تم بهما وهو غير لازم، فإذا بطل بموت كل واحد منهما لم يخل أن يكون الميت هو رب المال أو العامل، فان كان الميت منهما هو رب المال لم يخل أن يكون المال ناضا أو عرضا، فان كان ناضا - والناض النقود - منع العامل أن يتصرف فيه ببيع أو شراء ثم لورثة رب المال أن يسترجعوا رأس المال ويقاسموا العامل على ربح إن كان، فان أدنوا له في المقام على قراض أبيهم كان ذلك عقدا مبتدأ، فلا يخلو حالهم فيه من أحد أمرين، إما أن يكونوا عالمين بقدر المال أو جاهلين به، فان

(14/389)


كانوا عالمين بقدره صح القراض إن كانوا أهل رشد لا يولى عليهم ولم يتعلق بتركة ميتهم ديون ولا وصايا وإن كانوا بخلاف ذلك لم يصح إذنهم، ثم إذا صح فلا يخلو أن يكون قد حصل للعامل فيه ربح قبل موت رب المال أو لم يحصل، فان لم يحصل فكل المال الذى في يده قراض لورثة ربه، وإن كان قد حصل فيه ربح قبل موت ربه فهو شريك في المال بحصته من ربحه، ويختص بما يحصل من فضله ومضاربته فيما يبقى من الربح مع رأس المال بما شرط له من ربحه.
وإن كان الورثة جاهلين بقدر المال عند إذنهم له بالقراض ففيه وجهان مخرجان من وجهين.

(أحدهما)
أن القراض باطل لانه معقود بمال مجهول.

(والثانى)
أن القراض صحيح لانه مبتدأ لعقد صحيح، فإن كان مال القراض عند موت ربه عرضا فقد قال الماوردى: للعامل بيعه من غير استئذان الورثة، ولا يجوز ان يشترى بثمنه شيئا من غير إذن الورثة لان البيع من حقوق العقد الماضي، وليس الشراء من حقوقه إلا بعقد مستأنف، فإن أذن له الورثة في
المقام على قراض أبيهم - فإن كان بعد بيعه للعرض فقد صار الثمن ناضا - أي نقودا - فيكون كاذنهم له بالقراض والمال ناض.
وان كان قبل بيع العرض ففى جواز القراض وجهان خرج منهما الوجهان المذكوران، أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إن القراض باطل لان عقده بالقرض باطل.
الثاني وهو قول أبى إسحاق المروزى أن القراض جائز لانه استصحاب لعقد جائز.
وإن كان الميت منهما هو العامل فليس لوارثه أن يبيع ويشترى سواء كان المال ناضا أو عرضا، والفرق بين أن يموت رب المال فيجوز للعامل أن يبيع بغير إذن الوارث وبين أن يموت العامل فلا يجوز لوارثه أن يبيع إلا باذن رب المال أن عقد القراض قد أوجب ائتمان العامل على التصرف في المال سواء كان المال لربه أو لوارثه، وما أوجب ائتمان وارث العامل في المال لا مع ربه ولا مع وارثه، وإذا كان كذلك نظر في المال، فان كان ناضا استرجع رب المال رأس ماله واقتسما

(14/390)


ربحا ان كان فيه، فلو أذن رب المال لوارث العامل في المقام على القراض صح ان كانا عالمين بقدر المال.
ويبطل ان كانا جاهلين بقدره وجها واحدا.
والفرق بين هذا حيث بطل بجهالة القدر وبين أن يموت رب المال من جهة ربه والعمل من جهة العامل، فإذا مات رب المال كان المقصود من الامرين باقيا فجاز استصحاب العقد المقدم لبقاء مقصوده، ولم يبطل بحدوث الجهالة فيه، وإذا مات العامل فقد فات أخذ المقصود به فلم يكن استصحاب العقد المتقدم وكان استئنإف عقد مع وارثه فبطل بحدوث الجهالة فيه.
وان كان مال القراض عند موت العامل عرضا لم يجز لوارثه أن ينفرد ببيع العرض من غير اذن رب المال به، فإذا أذن له باعه واقتسما بعد رد رأس المال
بفضل ان كان فيه، فلو أذن رب المال لوارث العامل أن يقيم على عقد القراض كالعامل - فان كان بعد بيع العرض والعمل بثمنه - صح، وان كان العرض باقيا أو ثمنه مجهولا بطل وجها واحدا لما ذكرنا.
(فرع)
قال الشافعي: وبيع ما كان في يديه مع ما كان من ثياب أو أداة للسفر أو غير ذلك مما قل أو كثر، فان كان فيه فضل كان لوارثه وان كان خسرانا كان ذلك في المال، وهذا كقوله: وإذا بطل القراض بموت أحدهما وجب بيع كل ما كان من مال القراض من غير عرض للتجارة أو أداة للسفر.
قال الشافعي: مع ما كان من ثياب فتمسك بذلك من ذهب من أصحابنا إلى أن للعامل أن ينفق على نفسه في سفره من مال القراض، لانه لو لم يشتر ثياب سفره من مال القراض لم يجز بيعها في القراض وهو لعمري ظاهر يجوز التمسك به وقد تأوله من ذلك إلى أنه لا نفقة له على ثياب اشتراها العامل للتجارة، أو اشتراها لنفسه وهى غير مختصة بسفره، فإذا بيع جميع ما وصفنا فلا يخلو ما حصل من ثمن جميعه من ثلاثة أنواع.
1 - أن يكون بقدر رأس المال فهو لرب المال ولا حق للعامل فيه لعدم ربحه 2 - أن يكون أكثر من رأس المال فلرب المال أن يأخذ رأس ماله ثم العامل

(14/391)


شريكه في الربح على مقتضى الشرط من نصف أو ثلث أو ربع، فلو تلف بعض المال بعد أن صار ناضا - نقودا - نظر فيه، فإن كانا قد عينا حق العامل منها فيه كان التالف منه تالفا بالحصص.
وإن لم يكونا قد عينا حق العامل فيه فالتالف منه تالف من الربح وحده، لان الربح قبل أن يتعين ملك للعامل مرصد لجبران رأس المال.
3 - أن يكون أقل من رأس المال، إما بخسران حصل في المال أو لحادث أتلف شيئا منه فيكون ذلك عائدا على رب المال دون العامل، لان الربح يعود عليهما والخسران مختص برب المال.
فإن قيل فهلا كان الخسران عليهما كما كان الربح لهما؟ قيل هما في الحكم سواء وإن عاد الخسران على رب المال لان الخسران يعود إليه، إلى ما تناوله عقد القراض، لانه إنما تناول عملا من جهة العامل ومالا من جهة رب المال، فعاد الخسران على العامل بذهاب عمله وعلى رب المال بذهاب ماله.
فعلى هذا لو شرطا في عقد القراض تحمل العامل الخسران كان القراض باطلا لاشتراطهما خلاف موجبه.
(فرع)
قال المزني " وإن دفع مالا قراضا في مرضه وعليه دين ثم مات بعد أن اشترى وباع وربح أخذ العامل ربحه واقتسم الغرماء ما بقى من ماله " وهذا صحيح لانه يجوز للمريض أن يدفع مالا قراضا لما فيه من تثمير ماله، وسواء قارض العامل على تساو في الربح أو تفاضل فكان أقلهما سهما أو أكثر، ويكون ما يصل إلى العامل من كثير الربح من رأس المال دون الثلث، لانه بيسير الربح واصل إلى ما لم يكن واصلا إليه لو كف عن القراض.
وهكذا الخلاف فيمن أجر دارا بأقل من أجرة المثل لانه قد كان مالكا للمنفعة، فإذا عاوض عليها في مرضه ببعض الاجرة فقد أتلف بعض ملكه فكان معتبرا في الثلث، وليس رب المال مالكا لربح المال الذى صار إلى بعضه فلذا كان من رأس المال فإذا تقرر صحة القراض من رأس المال في قليل الربح وكثيره تولى رب المال وان كان حيا محاسبة العامل واستيفاء الحقين من أصل وربح، فإن مات مفلسا وكثرت ديونه عن ماله قدم العامل بحصته من الربح على سائر الغرماء لانه إن كان

(14/392)


شريكا فالشريك لا يدفعه الغرماء عن شركته، وإن كان أجيرا فحقه متعلق بعين المال كالمرتهن، والمرتهن لا يزاحمه الغرماء في رهنه.
وهكذا لو أخذ المريض مالا قراضا صح.
وإن كان بأقل السهمين من الربح وكان من رأس المال، لان قليل الربح كسب وليس بإتلاف (فرع)
قال المزني: من ذلك لو دفع إليه ألف درهم فقال: خذها فاشتر بها هرويا أو مرويا (1) بالنصف كان فاسدا لانه لم يبين، فان اشترى فجائز وله أجرة مثله، وإن باع فباطل لان البيع بغير أمره إذا دفع رب المال إلى العامل ألف درهم وقال: اشتر بها هرويا أو مرويا كان فاسدا باتفاق أصحابنا، وانما اختلفوا في علة فساده على ثلاثة أوجه: أحدها: أن علته أنه قال: فاشتر بها هرويا أو مرويا فلم يبين أحد النوعين من المروى والهروى ولا جمع بينهما فجعله مشكلا، والقراض انما يصح بأن يعم جميع الاجناس أو يعين أحد الاجناس وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هريرة أن علة فساده أنه قال بالنصف ولم يبين النصف هل يكون لرب المال أو للعامل.
قال واشتراطه نصف الربح للعامل غير مبطل له فصار لنفسه مبطلا للقراض ما لم يبين نصيب العامل، واشتراطه نصف الربح للعامل غير مبطل للقراض، فصار القراض بهذا القول مترددا بين الصحة والفساد فبطل والثالث: وهو اختيار أبى إسحاق المروزى: أنه بطل بقوله فاشترى ولم يقل وبع، والقراض انما يصح بالشراء والبيع فلذلك بطل، فإذا تقرر ما وصفنا من اختلاف أصحابنا في علة فساده، فان اشترى كان الشراء جائزا لانه مأمور به وله أجرة مثله، وان باع كان البيع باطلا لانه غير مأمور به وإذا قال: خذ هذا المال قراضا، ولم يزد على ذلك كان قراضا فاسدا للجهل
بنصيب كل واحد منهما من الربح.
الا أن شراء العامل وبيعه جائز، لانه أمر
__________
(1) ثياب تنسب إلى مدنها التى صنعت فيها مثل هراه ومرو وهما مدينتان بين بخارى ونيسابور وراء بحر قزوين.

(14/393)


أمر بهما لكونهما من موجبات القراض وللعامل أجرة مثله.
وحكى عن أبى العباس بن سريج أن القراض جائز ويكون الربح بينهما نصفين، لان ذلك هو الغالب من أحوال القراض فحمل إطلاقه عليه.
قال الماوردى: وهذا المحكى عنه غير صحيح لانه لو جاز ذلك في إطلاق القراض لجاز مثله في البيع إذا أغفل فيه الثمن أن يكون محمولا على ثمن المثل وهو القيمة، وكذا في الاجارة وكل العقود.
فأما إذا قال: خذ هذا المال فاشتر به وبع ولم يزد عليه فلا خلاف بين أصحابنا أنه لا يكون قراضا صحيحا، ويصح شراء العامل وبيعه، وهل يكون قراضا فاسدا أو معونة؟ على وجهين: أحدهما: يكون استعانة بعمله كما لو قال: اشتر وبع على أن جميع الربح لى.
فعلى هذا لا أجرة للعامل في عمله والثانى: أنه يكون قراضا فاسدا لانه الاغلب من حال أمره وحال قوله: على أن جميع الربح لى لما فيه من التصريح بأن لا شئ له فيه.
فعلى هذا يكون للعامل أجرة مثله، وسواء حصل في المال فضل أو لم يحصل (فرع)
قال المزني: وإن قال خذها قراضا أو مضاربة على ما شرط فلان من الربح لفلان، فان علما ذلك فجائز، وإن جهلاه أو أحدهما ففاسد.
وهذا كما قال: إذا دفع المال قراضا من غير أن يسمى في الربح قدرا ففعله محمول على مثل ما قارض
زيد عمرا.
فان علما ما تقارض زيد وعمرو عليه صح قراضهما، لانهما عقداه بمعلوم من الربح، إذ لا فرق بين قوله على أن الربح بيننا نصفين وبين قوله: على مثل ما قارض به زيد عمرا كان القراض باطلا لجهلهما بقدره.
والجهالة بقدر الربح مبطلة للقراض فان علما بعد ذلك ما تقارض عليه زيد وعمرو لم يصح لوقوعه فاسدا.
وهكذا لو علمه أحدهما حال العقد وجهله الآخر لم يصح القراض، لان جهل

(14/394)


أحد المتعاقدين بالعوض كجهلهما معا به، فلو قال: خذه قراضا على ما تقارض به زيد وعمرو كان باطلا، لان زيدا قد يقارض عمرا وقد لا يقارضه، وقد يقارض على قليل أو كثير.
وهكذا لو قال خذه قراضا على ما يوافقك عليه زيد لم يجز للجهل بما يكون من موافقته.
وهكذا لو قال: خذه قراضا على أن لك من الربح ما يكفيك أن يقنعك لم يجز لجهله بكفايته وقناعته، فان اشترى وباع في هذه المسائل كلها صح بيعه وشراؤه وكان جميع الربح والخسران لرب المال وعليه، وللعامل أجرة المثل: (فرع)
إذا اختلف رب المال والعامل في قدر رأس المال فقال العامل: هو ألف دينار وقال رب المال هو ألفان، فان لم يكن ربح فالقول قول العامل مع يمينه، وان كان في المال ربح بقدر ما ادعاه رب المال من رأس ماله، مثل أن يدعى العامل - وقد أحضر الفى دينار - أن أحد الالفين رأس مال وليس فيها ربح، ففيه لاصحابنا وجهان، وعن أبى حنيفة روايتان مخرجان من اختلاف قولين في العامل هل هو وكيل أو شريك؟
(أحدهما)
أن القول قول رب المال إذا قيل: ان العامل وكيل مستأجر.
وهذا قول زفر بن الهذيل

(والثانى)
أن القول قول العامل إذا قيل انه شريك مساهم.
وهذا قول محمد ابن الحسن، وهو أصح الوجهين في اختلافهما، لان قوله نافذ فيما بيده، فعلى هذا لو أحضر ثلاثة آلاف دينار وذكر أن رأس المال منها ألف والربح ألفان.
وقال رب المال: رأس المال منها ألفان والربح ألف حكم بقول العامل واقتسما الالفين ربحا، وجعل رأس المال ألفا.
فلو قال العامل وقد أحضر ثلاثة آلاف: رأس المال منها ألف والربح ألف والالف الثالثة لى، أو وديعة في يدى، أو هي دين على من قراض وادعاها رب المال ربحا فالقول قول العامل مع يمينه لمكان يده والله أعلم.

(14/395)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب العبد المأذون له في التجارة) لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن المولى لان منافعه مستحقة له فلا يملك التصرف فيها بغير إذنه فإن رآه يتجر فسكت لم يصر مأذونا له لانه تصرف يفتقر إلى الاذن فلم يكن السكوت إذنا فيه كبيع مال الأجنبي فان اشترى شيئا في الذمة فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الاصطخرى وأبو إسحاق لا يصح لانه عقد معاوضة فلم يصح من العبد بغير إذن المولى كالنكاح.
وقال أبو على بن أبى هريرة: يصح لانه محجور عليه لحق غيره فصح شراؤه في الذمة كالمفلس ويخالف النكاح فانه تنقص به قيمته ويستضر به المولى فلم يصح من غير اذنه، فإن قلنا: أنه يصح دخل المبيع في ملك المولى لانه كسب للعبد فكان للمولى كما لو احتش أو اصطاد ويثبت الثمن في ذمته لان اطلاق البيع يقتضى إيجاب الثمن في الذمة، فإن علم البائع برقه لم يطالبه حتى يعتق لانه رضى بذمته فلزمه الصبر إلى أن يقدر كما نقول فيمن باع من مفلس، وإن لم يعلم ثم علم فهو
بالخيار بين أن يصبر إلى أن يعتق وبين أن يفسخ البيع ويرجع إلى عين ماله لانه تعذر الثمن فثبت الخيار كما نقول فيمن باع من رجل ثم أفلس بالثمن، وان قلنا ان الشراء باطل وجب رد المبيع لانه مقبوض عن بيع فاسد فان تلف في يد العبد أتبع بقيمته إذا عتق لانه رضى بذمته وان تلف في يد السيد جاز له مطالبة المولى في الحال ومطالبة العبد إذا عتق لانه ثبتت يد كل واحد منهما عليه بغير حق.

(فصل)
وان أذن له في التجارة صح تصرفه لان الحجر عليه لحق المولى وقد زال وما يكتسبه للمولى لانه ان دفع إليه مالا فاشترى به كان المشترى عوض ماله فكان له، وان أذن له في الشراء في الذمة كان المشترى من أكسابه لانه تناوله الاذن فان لم يكن في يده شئ اتبع به إذا عتق لانه دين لزمه برضى من له الحق فتعلق بذمته ولا تباع فيه رقبته لان المولى لم يأذن له في رقبته فلم يقض منها دينه.

(14/396)


(فصل)
ولا يتجر الا فيما أذن به لان تصرفه بالاذن فلا يملك الا ما دخل فيه فان أذن له في التجارة لم يملك الاجارة، ومن أصحابنا من قال: يملك اجارة ما يشتريه للتجارة لانه من فوائد المال فملك العقد عليه كالصوف واللبن، والمذهب الاول لان المأذون فيه هو التجارة.
والاجارة ليست من التجارة فلم يملك بالاذن في التجارة.

(فصل)
ولا يبيع بنسيئة ولا بدون ثمن المثل لان اطلاق الاذن يحمل على العرف والعرف هو البيع بالنقد وثمن المثل ولانه يتصرف في حق غيره فلا يملك إلا ما فيه النظر والاحتياط وليس فيما ذكرناه نظر ولا احتياط فلا يملك ولا يسافر بالمال لان فيه تغريرا بالمال فلا يملك من غير إذن، وان اشترى من يعتق على مولاه بغير إذنه ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه لا يصح وهو الصحيح لان الاذن في التجارة يقتضى ما ينتفع به ويربح فيه وهذا لا يوجد فيمن يعتق عليه
(والثانى)
أنه يصح لان العبد لا يصح منه الشراء لنفسه فإذا أذن له فقد أقامه مقام نفسه فوجب أن يملك جميع ما يملك فان قلنا يصح فان لم يكن عليه دين عتق، وان كان عليه دين ففيه قولان، أحدهما يعتق لانه ملكه، والثانى: لا يعتق لان حقوق الغرماء تعلقت به فان اشتراه باذنه صح الشراء فان لم يكن عليه دين عتق عليه، وان كان عليه دين فعلى القولين ومتى صح العتق لزمه أن يغرم قيمته للغرماء لانه أسقط حقهم منه بالعتق.

(فصل)
وإذا اكتسب العبد مالا بأن احتش أو اصطاد أو عمل في معدن فأخذ منه مالا أو ابتاع أو اتهب أو أوصى له بمال فقبل دخل ذلك في ملك المولى لانها اكتساب ماله فكانت له فان ملكه مالا ففيه قولان، قال في القديم: يملكه لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ولانه يملك البضع فملك المال كالحر، وقال في الجديد.
لا يملك لانه سبب يملك به المال فلا يملك به العبد كالارث فان ملكه جارية وأذن له في وطئها ملك وطأها في قوله القديم ولا يملك في الجديد وان ملكه نصابا لم يجب زكاته على المولى في قوله القديم ويجب في الجديد، فان

(14/397)


وجب كفارة عليه كفر بالطعام والكسوة في قوله القديم وكفر بالصوم في قوله الجديد، وأما العتق فلا يكفر به على القولين لان العتق يتضمن الولاء والعبد ليس من أهل الولاء وان باعه وشرط المبتاع ماله جاز في قوله القديم أن يكون المال مجهولا لانه تابع ولا يجوز في الجديد لانه غير تابع والله أعلم.
(الشرح) الاحكام: لا يبطل الاذن بالاباق، وقال أبو حنيفة: يبطل لانه يزيل به ولاية السيد عنه في التجارة بدليل أنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا رهنه
فأشبه ما لو باعه.
وقال أحمد: ان الاباق لا يمنع ابتداء الاذن له في التجارة فلم يمنع استدامته كما لو غصبه غاصب أو حبس بدين عليه أو على غيره، وما ذكره أبو حنيفة غير صحيح، فان سبب الولاية باق وهو الرق، ويجوز بيعه واجارته ممن يقدر عليه ويبطل بالمغصوب.
ولا يجوز للمأذون في التجارة التبرع بهبة الدراهم ولا كسوة الثياب ولا الهبة بالمأكول ولا اعارة الدابة، وقال أحمد: يجوز هبته واعارته دابته واتخاذ الدعوة ما لم يكن اسرافا، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: أنه تبرع بمال مولاه فلم يجز كهبة دراهمه، وقد استدل أحمد وأبو حنيفة بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يجيب دعوة المملوك، وروى أبو سعيد مولى أبى أسيد أنه تزوج فحضر دعوته أناس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منهم عبد الله بن مسعود وحذيفة وأبو ذر فأمهم وهو يومئذ عبد، رواه صالح في مسائله باسناده، قال ابن قدامة: ولان العادة جارية بذلك بين التجار فجاز كما جاز للمرأة الصدقة بكسرة الخبز من بيت زوجها وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(14/398)