المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

التكملة الثانية
المجموع شرح المهذب

للامام ابي زكريا محيى الدين بن شرف النووي
المتوفى سنة 676 هـ
الجزء الخامس عشر
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع

(15/1)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الإجارة

يجوز عقد الاجارة على المنافع المباحة، والدليل عليه قوله تعالى (فان ارضعن لكم فآتوهن أجورهن) وروى سعيد بن المسيب عن سعد رضى الله عنه قال: كنا نكرى الارض بما على السواقى من الزرع، فنهى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذلك وامرنا ان نكريها بذهب أو ورق.
وروى أبو أمامة التيمى قال: سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكرى في هذا الوجه، وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا، فقال ابن عمر: ألستم تلبون وتطوفون بين الصفا والمروة، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فسأل عما تسألونني عنه فلم يرد عليه حتى نزل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم) فتلاها عليه.
وروى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره، ولان الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الاعيان، فلما جاز عقد البيع على الاعيان وجب أن يجوز على المنافع

(فصل)
ولا تجوز على المنافع المحرمة لانه يحرم فلا يجوز أخذ العوض عليه كالميتة والدم.

(فصل)
واختلف أصحابنا في استئجار الكلب المعلم، فمنهم من قال يجوز لان فيه منفعة مباحة فجاز استئجاره كالفهد، ومنهم من قال: لا يجوز، وهو الصحيح، لان اقتناءه لا يجوز إلا للحاجة.
وهو الصيد وحفظ الماشية وما لا يقوم غير الكلب فيه مقامه إلا بمؤن، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ وما ابيح للحاجة لم يجز أخذ العوض عليه كالميتة، ولانه لا يضمن منفعته بالغصب فدل على أنه لا قيمة لها.

(فصل)
واختلفوا في استئجار الفحل للضراب، فمنهم من قال يجوز لانه

(15/3)


يجوز أن يستباح بالاعارة فجاز أن يستباح بالاجارة كسائر المنافع، ومنهم من قال لا يجوز، وهو الصحيح، لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل، ولان المقصود منه هو الماء الذى يخلف منه وهو محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عليه كالميتة والدم
(فصل)
واختلفوا في استئجار الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان واستئجار الاشجار لتجفيف الثياب والاستظلال، فمنهم من قال يجوز، لانه منفعة مباحة فجاز الاستئجار لها كسائر المنافع.
ومنهم من قال لا يجوز، وهو الصحيح، لان الدراهم والدنانير لا تراد للجمال ولا الاشجار لتجفيف الثياب والاستظلال، فكان بذل العوض فيه من السفه وأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل، ولانه لا يضمن منفعتها بالغصب فلم يضمن بالعقد (الشرح) حديث سعد بن أبى وقاص رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقد
سكت عنه أبو داود والمنذري.
قال ابن حجر في فتح الباري: رجاله ثقات إلا أن محمد بن عكرمة المخزومى لم يرو عنه الا ابراهيم بن سعد.
وأما حديث أبى أمامة التيمى فاخرجه احمد وغيره، وقد مضى تخريجه وبيان ما يشتمل عليه من احكام في كتاب الحج.
واما حديث (مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ ماشية) فقد أخرجه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر.
وأما حديث النهى عن ثمن عسب الفحل فقد رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود، ورواه الدارقطني عن أبى سعيد الخدرى بلفظ (نهى عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان) وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، الا أن ابراهيم النخعي لم يسمع من أبى سعيد فيما أحسب.
وأخرجه أيضا البيهقى وعبد الرزاق واسحاق في مسنده وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع والاصل في جواز الاجارة الكتاب والسنة والاجماع، فأما الكتاب فقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) (قالت إحداهما: يا أبت استأجره

(15/4)


إن خير من استأجرت القوى الامين، قال إنى أريد أن أنكحك إحدى إبنتى هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) وروى ابن ماجه عن عتبة بن المنذر قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقرأ (طس) حتى إذا بلغ قصة موسى قال (إن موسى عليه السلام أجر نفسه ثمانى حجج أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه) وقال تعالى (فوجد فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) وأما السنة فقد ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر استأجرا
عبد الله بن الاريقط الديلى وكان خريتا - وهو الخبير بمسالك الصحراء والوهاد العالم بجغرافية بلاد العرب على الطبيعة - ليكون هاديا ومرشدا لهما في هجرتهما من مكة إلى المدينة.
وفى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره) والاحاديث في هذا كثيرة أما الاجماع فقد انعقد بين أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الاجارة إلا ما روى عن عبد الرحمن الاصم الذى قيل فيه: إنه عن الحق أصم من أنه لا يجوز ذلك لانه غرر، لانه يعقد على منافع لم تخلق، ولو تحقق ما يتصوره الاصم صوابا لتعطلت الصنائع والمساكن والمتاجر والموصلات بكل أنواعها لانها كلها - وهى تستغرق مظاهر الحياة قديما وحديثا - قائمة على المؤاجرات والمعاوضات على المنافع كالمعاوضات على الاعيان سواء بسواء.
بل إن المعاوضات على المنافع أوسع مدى وأكثر عددا وأشمل مرفقا، ولان المنافع المتاحة أوسع آفاقا من الاعيان والعروض.
فإذا ثبت هذا فإن الاجارة كالبيع تنعقد بأربعة: بمؤجر ومستأجر ومؤاجر وأجرة.
فالاول فهو باذل المنفعة كالبائع، والثانى طالب المنفعة كالمشترى، وكل من صح شراؤه صح استئجاره.
والثالث فهو كل عين صح الانتفاع بها مع بقائها صحت إجارتها كالدور والعقار إذا لم يكن المقصود من منافعها أعيانا كالنخل

(15/5)


والشجر، وما تم الانتفاع به مع عينه لم تصح اجارته كالدراهم والمأكول، لان منفعة الدراهم بإزالتها عن الملك، ومنفعة المأكول بالاستهلاك كاستئجار الدراهم والدنانير للجمال والزينة والطعام ليعتبر مكيلا ففيه لاصحابنا وجهان:

(أحدهما)
يصح لوجود المعنى وحصول الانتفاع مع بقاء العين (والوجه الثاني) لا يصح لان هذا نادر من منافع ذلك، والاغلب سواه، فصار حكم الاغلب هو المغلب، ولان المنافع المضمونة بالاجارة هي المضمونة بالغصب، ومنافع الدراهم والطعام لا تضمن بالغصب كنشر الثياب فوق الشجر فلم يصح أن تضمن بالاجارة.
وهكذا كل ما كانت منافعها أعيانا من النخل والشجر، لان منافعها ثمار هي أعيان يمكن العقد عليها بعد حدوثها، فلم يصح العقد عليها قبله.
فإن استأجر ذلك لمنفعة تستوفى مع بقاء العين كالاستظلال بالشجر أو ربط ماشية إليها فذلك ضربان:
(أحدهما)
أن يكون هذا غالبا فيها ومقصودا من منافعها فتصح الاجارة عليها
(والثانى)
أن يكون نادرا غير مقصود في العرف، فيكون على ما مضى من الوجهين.
ثم العقد وان توجه إلى العين فهو أنه ربما تناول المنفعة لان الاجرة في مقابلتها وانما توجه إلى العين لتعتبر المنفعة بها.
وقال أبو إسحاق المروزى: العقد انما تناول العين دون المنفعة ليستوفى من العين مقصوده من المنفعة، لان المنافع غير موجودة حين العقد فلم يجز أن يتوجه العقد إليها.
وهذا خطأ، ألا ترى أنه قد يصح العقد على منفعة مضمونة في الذمة غير مضافة إلى عين؟ كرجل استأجر من رجل عملا مضمونا في ذمته، وإذا كان كذلك فلا بد أن تكون المنفعة معلومة كما لابد أن يكون المبيع معلوما، فإن كانت مجهولة لم تصح الاجارة، كما لو كان المبيع مجهولا، والعلم بها قد يكون من وجهين:
(أحدهما)
تقدير العمل مع الجهل بالمدة
(والثانى)
تقدير المدة مع الجهل بقدر العمل، وسيأتى تفصيلهما وبالله والتوفيق.

(15/6)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلفوا في الكافر إذا استأجر مسلما إجارة معينة، فمنهم من قال فيه قولان لانه عقد يتضمن حبس المسلم فصار كبيع العبد المسلم منه.
ومنهم من قال يصح قولا واحدا لان عليا كرم الله وجهه كان يستقى الماء لامرأة يهودية كل دلو بتمرة
(فصل)
ولا يصح إلا من جائز التصرف في المال لانه عقد يقصد به المال فلم يصح الا من جائز التصرف في المال كالبيع
(فصل)
وينعقد بلفظ الاجارة لانه لفظ موضوع له، وهل ينعقد بلفظ البيع، فيه وجهان
(أحدهما)
ينعقد لانه صنف من البيع لانه تمليك يتقسط العوض فيه على المعوض كالبيع فانعقد بلفظه
(والثانى)
لا ينعقد لانه يخالف البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح.

(فصل)
ويجوز على منفعة عين حاضرة، مثل أن يستأجر ظهرا بعينه للركوب ويجوز على منفعة عين في الذمة مثل أن يستأجر ظهرا في الذمة للركوب، ويجوز على عمل معين مثل أن يكترى رجلا ليخيط له ثوبا أو يبنى له حائطا، ويجوز على عمل في الذمة، مثل أن يكترى رجلا ليحصل له خياطة ثوب أو بناء حائط لانا بينا أن الاجارة بيع والبيع يصح في عين حاضرة وموصوفة في الذمة، فكذلك الاجارة.
وفى استئجار عين لم يرها قولان
(أحدهما)
لا يصح
(والثانى)
يصح ويثبت الخيار إذا رآها كما قلنا في البيع
(فصل)
وتجوز على عين مفردة وعلى جزء مشاع لانا بينا أنه بيع، والبيع يصح في المفرد والمشاع فكذلك الاجارة.

(فصل)
ولا تجوز إلا على عين يمكن استيفاء المنفعة منها، فان استأجر أرضا للزراعة لم تصح حتى يكون لها ماء يؤمن انقطاعه، كماء العين والمد بالبصرة
والثلج والمطر في الجبل لان المنفعة في الاجارة كالعين في البيع فإذا لم يجز بيع عين لا يقدر عليها لم تجز إجارة منفعه لا يقدر عليها فإن اكترى أرضا على نهر إذا زاد سقى وإذا لم يزد لم يسق، كأرض مصر والفرات وما انحدر من دجلة نظرت فان اكتراها بعد الزيادة صح العقد لانه يمكن استيفاء المعقود عليه، فهو كبيع الطير

(15/7)


في القفص، وإن كان قبل الزيادة لم يصح لانه لم يعلم هل يقدر على المعقود عليه أو لا يقدر فلم يصح كبيع الطير في الهواء، وان اكترى أرضا لا ماء لها ولم يذكر أنه يكتريها للزراعة ففيه وجهان، أحدهما: لا يصح لان الارض لا تكترى في العادة الا للزراعة، فصار كما لو شرط أنه يكتريها للزراعة، والثانى: ان كانت الارض عالية لا يطمع في سقيها صح العقد لانه يعلم أنه لم يكترها للزراعة.
وان كانت مستفلة يطمع في سقيها بسوق الماء إليها من موضع لم يصح لانه اكتراها للزراعة مع تعذر الزراعة، فإن اكترى أرضا غرقت بالماء لزراعة ما لا يثبت في الماء كالحنطة والشعير نظرت فان كان للماء مغيض إذا فتح انحسر الماء عن الارض وقدر على الزراعة صح العقد، لانه يمكن زراعتها بفتح المغيض، كما يمكن سكنى الدار بفتح الباب، وان لم يكن له مغيض ولا يعلم أن الماء ينحسر عنها لم يصح العقد لانه لا يعلم هل يقدر على المعقود عليه أم لا يقدر فلم يصح العقد كبيع ما في يد الغاصب، فان كان يعلم أن الماء ينحسر وتنشفه الريح ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لانه لا يمكن استيفاء المنفعة في الحال.
والثانى يصح وهو قول أبى إسحاق وهو الصحيح لانه يعلم بالعادة امكان الانتفاع به، فان اكترى أرضا على ماء إذا زاد غرقت فاكتراها قبل الزيادة صح العقد لان الغرق متوهم فلا يمنع صحة العقد (الشرح) خبر على رضى الله عنه رواه أحمد وجود الحافظ بن حجر اسناده ولفظه (جعت مرة جوعا شديدا فخرجت لطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا
بامرأة قد جمعت مدرا فظننتها تريد بله، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداى، ثم أتيتها فعدت لى ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأكل معى منها) وقد أخرجه ابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس أن عليا أجر نفسه من يهودى يسقى له كل دلو بتمرة) وعندهما أن كل عدد التمر سبع عشرة تمرة.
وفى اسناده حنش راويه عن عكرمة وهو ضعيف، وقوله (ذنوبا) الدلو مطلقا أو التى فيها ماء أو الممتلئة أو غير الممتلئة وكلها في القاموس، وقوله (مجلت) بكسر الجيم أي غلظت وتنفطت وقد أمجلها العمل أو المجل أن يكون بين الجلد واللحم ماء، أو المجلة جلدة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل.

(15/8)


وهذا الخبر يدل دلالة يعجز القلم عن استقصاء ما توحى به، من بيان ما كانت الصحابة عليه من الحاجة وشدة الفاقة والصبر على الجوع وبذل الوسع وإتعاب النفس في تحصيل القوام من العيش للتعفف عن السؤال وتحمل المتن، وأن تأجير النفس لا يعد دناءة، وإن كان المستأجر غير شريف أو كافرا والاجير من أشراف الناس وعظمائهم، وقد أورده صاحب المنتقى ليستدل به على جواز الاجارة معاددة يعنى أن يفعل الاجير عددا معلوما من العمل بعدد معلوم من الاجرة.
(فرع)
الاجارة عوض في مقابلة المنفعة كالثمن في مقابلة المبيع وحكمه كحكمه في جوازه معينا وفى الذمة، قال الشافعي: فالاجارات صنف من البيوع لانها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه اه.
ومن هذا اخذ الفقهاء انه عقد لازم لا يجوز فسخه إلا بعيب كالبيع، فإن كان العيب موجودا في الشئ المؤاجر كالدار إذا خربت والدابة إذا مرضت فللمستأجر أن يفسخ دون المؤجر كما لو وجد بالمبيع عيب كان للمشترى أن يفسخ
دون البائع، وإن كان العيب موجودا في الاجرة فان كانت في الذمة أبدل المعيب بغيره ولا خيار، وان كانت معيبة فللمؤجر ان يفسخ دون المستاجر كما يفسخ البائع بوجود العيب في الثمن المعين دون المشترى: ولا يجوز فسخ الاجارة بعذر يطرأ إذا لم يطرأ في المعقود عليه عيب، ومن هنا كان لاصحابنا وجهان في انعقاده بلفظ البيع، ونظرا لان عقد الاجارة كعقد النكاح يؤخذ جانب البيع فيه بمفهوم المعاوضه وليس بمنطوق التعاقد لذلك قالوا: إنه يخالف البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح، والوجه الثاني: ينعقد بلفظ البيع لانه تمليك يتقسط العوض فيه على الباذل كالبيع سواء بسواء.
إذا ثبت هذا: فهل المعقود عليه العين لانها الموجودة فيقال: أجرتك دارى أم أن العقد يتعلق بالمنفعه دون الاعيان، فيقال: أجرتك دارى أو منفعة دارى بكذا، أو بعتك منفعتها، وهذا الاخير هو قول مالك وأبى حنيفة وأحمد وأكثر أصحاب الشافعي، ويصح العقد على منفعة مضمونه في الذمه غير مضافه إلى عين كرجل استأجر من رجل عملا مضمونا في ذمته، وإذا كان كذلك فلابد أن تكون

(15/9)


المنفعة معلومة كما لا بد ان يكون المبيع معلوما، فإن كانت مجهوله لم تصح الاجارة كما لو كان المبيع مجهولا، ومن ثم كانت الاجارة على نوعين، نوع يكون عقده على مدة معلومه: ونوع يكون على عمل معلوم فالاول كالدار والارض فلا تجوز إجارتها إلا على مدة ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد، لان الجمع بينهما يزيدها غررا، لانه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما تعاقدا عليه وإن لم يعمل كان تاركا للعمل في بعض المدة، وقد لا يفرغ من العمل في المدة، فإن أتمه عمل في غير المدة، وهذا غرر أمكن التحرز منه، ولم يوجد مثله في محل الوفاق
فلم يجز العقد معه، (فرع)
قال الشافعي: إذا تكارى الرجل الارض ذات الماء من العين أو النهر نيل أو غير نيل أو الغيل أو الآبار على أن يزرعها غلة الشتاء والصيف فزرعها إحدى الغلتين والماء قائم ثم نضب فذهب قبل الغلة الثانية فأراد رد الارض بذهاب الماء فذلك له ويكون عليه من الكراء بحصة ما زرع إن كانت حصة الزرع الذى زرع الثلث أو النصف أو الثلثين أو أقل أو أكثر أدى ذلك وسقطت عنه حصه الزرع الثاني اه.
قال النووي في المنهاج: ولا يصح استئجار آبق ومغصوب وأعمى للحفظ وأرض للزراعة لا ماء لها دائم، ولا يكفيها المطر المعتاد، ويجوز إن كان لها ماء دائم، وكذا إن كفاها ماء المطر الدائم أو الثلوج المجتمعة، والغالب حصولها في الاصح اه.
قال الشربينى الخطيب في المغنى: ومجرد الامكان لا يكفى كإمكان عود الآبق والمغصوب، نعم لو قال المكرى أنا أحفر لك بئرا وأسقى أرضك منها أو أسوق الماء إليها من موضع آخر صحت الاجارة كما قال الرويانى.
أما لو استأجرها للسكنى فإنه يصح، وإن كانت بمحل لا يصلح لها كالمفازة، إلى أن قال: ويجوز استئجار أراضي مصر للزراعة بعد ريها بالزيادة، وكذا قبله على الاصح إن كانت ترزى من الزيادة الغالبة كخمسة عشر ذراعا فما دونها كما نقله في الكفايه عن أبى الطيب وابن الصباغ واقتضاه كلام الشيخين.
وقال السبكى: وما يروى من خمسة عشر كالموثوق به عادة.
وما يروى من

(15/10)


ستة عشر وسبعة عشر غالب الحصول، وإن كان الاحتمال متطرقا إلى الستة عشر وإلى السبعة عشر كثيرا اه وتصح الارض للزراعة قبل انحسار الماء عنها، وإن سترها عن الرؤية، لان
الماء من مصلحتها كاستتار اللوز والجوز بالقشرة، فإن قيل: ينبغى عدم الصحة لان الانتفاع عقب العقد شرط، والماء يمنعه أجيب بأن الماء من مصالح الزرع، وبأن صرفه ممكن في الحال بفتح موضع ينصب إليه فيتمكن من الزرع حالا كاستئجار دار مشحونة بالامتعة التى يمكن نقلها في زمن لا أجرة له هذا إن وثق بانحساره وقت الزراعة وإلا فلا يصح، وإن كانت الارض على شط نهر، والظاهر أنه يجرفها بفيضانه أو تنهار من أمواجه لم يصح استئجارها لعدم القدرة على تسليمها، وإن احتمله ولم يظهر جاز لان الاصل والغالب السلامة.
وإن استأجر أرضا للزراعة وأطلق دخل فيها شربها ان اعتيد دخوله بعرف مطرد والشرب بكسر الشين النصيب من الماء، بخلاف مالو باعها لا يدخل، لان المنفعة هنا لا تحصل بدونه أو شرط في العقد، فإن اضطرب العرف فيه أو استثنى الشرب ولم يوجد شرب غيره لزوال المانع بالاغتناء عن شربها، والامتناع الشرعي لتسليم المنفعة كالحسى في حكمه.
وقد أورد المصنف وجهين في الارض التى يغطيها الماء وعلم انحسار أو احتمال تبخرها وجفافها، أحدهما: عدم صحة العقد لعدم امكان استيفاء المنفعة حالا، والثانى: وهو قول أبى اسحاق المروزى وهو الصحيح والذى عليه الفتوى من أئمه المذهب أنه يصح، لانه يعلم بالعادة المطردة إمكان الانتفاع وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وان استأجر رجلا ليعلمه بنفسه سورة وهو لا يحسنها ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح كما يصح أن يشترى سلعه بدراهم، وهو لا يملكها ثم يحصلها ويسلم
(والثانى)
لا يصح لانه عقد على منفعة معينة لا يقدر عليها فلم يصح كما لو أجر عبد غيره.

(فصل)
ولا تصح الاجارة الا على منفعة معلومة القدر لانا بينا أن الاجارة

(15/11)


بيع والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر فكذلك الاجارة ويعلم مقدار المنفعة بتقدير العمل أو بتقدير المدة، فإن كانت المنفعة معلومة القدر في نفسها كخياطة ثوب وبيع عبد والركوب إلى مكان قدرت بالعمل لانها معلومة في نفسها فلا تقدر بغيرها، وإن قدر بالعمل والمدة بأن استأجره يوما ليخيط له قميصا فالاجارة باطله لانه يؤدى إلى التعارض وذلك انه قد يفرغ من الخياطة في بعض اليوم فان طولب في بقية اليوم بالعمل اخل بشرط العمل وان لم يطالب اخل بشرط المدة، فان كانت المنفعة مجهولة المقدار في نفسها كالسكنى والرضاع وسقى الارض والتطيين والتجصيص قدر بالمدة لان السكنى وما يشبع به الصبى من اللبن وما تروى به الارض من السقى يختلف ولا ينضبط، ومقدار التطيين والتجصيص لا ينضبط لاختلافهما في الرقة والثخونة فقدر بالمدة، واختلف اصحابنا في استئجار الظهر للحرث، فمنهم من قال يجوز ان يقدر بالعمل بان يستأجره ليحرث أرضا بعينها، ويجور ان يقدر بالمدة بأن يستأجره ليحرث له شهرا، ومنهم من قال لا يجوز تقديره بالمدة والاول أظهر لانه يمكن تقديره بكل واحد منهما فجاز التقدير بكل واحد منهما
(فصل)
وما عقد على مدة لا يجوز الا على مدة معلومة الابتداء والانتهاء.
فان قال أجرتك هذه الدار كل شهر بدينار فالاجارة باطلة، وقال في الاملاء تصح في الشهر الاول وتبطل فيما زاد، لان الشهر الاول معلوم وما زاد مجهول فصح في المعلوم وبطل في المجهول، كما لو قال اجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه، والصحيح هو الاول لانه عقد على الشهر وما زاد من الشهور.
وذلك مجهول فبطل، ويخالف هذا إذا قال أجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه لان هناك أفرد الشهر الاول بالعقد وههنا لم يفرد الشهر عما بعده بالعقد، فبطل
بالجميع، فإن أجره سنة مطلقة حمل على سنة بالاهلة، لان السنة المعهودة في الشرع سنة الاهلة.
والدليل عليه قوله عزوجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج.
فوجب ان يحمل العقد عليه، فإن كان العقد في أول الهلال عد اثنا عشر شهرا بالاهلة، تاما كان الشهر أو ناقصا، وان كان في اثناء الشهر عد ما بقى من الشهر وعد بعده احد عشر شهرا بالاهلة ثم كمل عدد الشهر

(15/12)


الاول بالعدد ثلاثين يوما لانه تعذر اتمامه بالشهر الهلالي فتمم بالعدد، فان أجره سنة شمسيه ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يصح لانه على حساب انسئ فيه أيام والنسئ حرام، والدليل عليه قوله تعالى، (انما النسئ زيادة في الكفر)
(والثانى)
انه يصح لانه وان كان النسئ حراما، الا أن المدة معلومة فجاز العقد عليها كالنيروز والمهرجان، وفى أكثر المدة التى يجوز عقد الاجارة عليه طريقان ذكرناهما في المساقاة
(فصل)
ولا تصح الاجارة الا على منفعة معلومة، لان الاجارة بيع والمنفعة فيها كالعين في البيع، والبيع لا يصح الا في معلوم فكذلك الاجارة، فان كان المكترى دارا لم يصح العقد عليها حتى تعرف الدار لان المنفعة تختلف باختلافها فوجب العلم بها ولا يعرف ذلك الا بالتعيين لانها لا تضبط بالصفة فافتقر إلى التعيين كالعقار والجواهر في البيع، وهل يفتقر إلى الرؤية؟ فيه قولان بناء على القولين في البيع، ولا يفتقر إلى ذكر السكنى ولا إلى ذكر صفاتها لان الدار لا تكترى الا للسكنى وذلك معلوم بالعرف فاستغنى عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف، وان اكترى ارضا لم يصح حتى تعرف الارض لما ذكرناه في الدار، ولا يصح حتى يذكر ما يكترى له من الزراعة
والغراس والبناء، لان الارض تكترى لهذه المنافع وتاثيرها في الارض يختلف فوجب بيانها.
وان قال: أجرتك هذه الارض لتزرعها ما شئت جاز، لانه جعل له زراعة أضر الاشياء، فأى صنف زرع لم يستوف به أكثر من حقه، وان قال اجرتك لتزرع واطلق ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح لان الزروع مختلفة في التأثير في الارض فوجب بيانها
(والثانى)
يصح لان التفاوت بين الزرعين يقل وان قال أجرتك لتزرعها أو تغرسها لم يصح لانه جعل له أحدهما ولم يعين فلم يصح، كما لو قال بعتك أحد هذين العبدين، وان قال أجرتك لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح وهو قول المزني وأبى العباس وأبى اسحاق لانه

(15/13)


لم يبين المقدار من كل واحد منهما
(والثانى)
يصح وله ان يزرع النصف ويغرس النصف، وهو ظاهر النص، وهو قول أبى الطيب بن سلمة، لان الجمع يقتضى التسوية فوجب ان يكون نصفين (الشرح) هذا الحكم في تعليم القران ينبنى على ان تعليم القرآن هل يجوز بأجر أو لا؟ فقد روى ابن ماجه والبيهقي والرويانى في مسنده عن أبى بن كعب قال: علمت رجلا القرآن فاهدى لى قوسا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (إن أخذتها أخذت قوسا من نار) فرددتها.
قال البيهقى وابن عبد البر: هو منقطع، يعنى عطية الكلاعى وأبى بن كعب وكذلك قال المزى، وتعقبهم الحافظ بن حجر بأن عطية ولد فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعله ابن القطان بالجهل بحال عبد الرحمن بن سلم الراوى عن عطية،
*
*
*
وورد عن عبادة بن الصامت عند أبى داود وابن ماجه بلفظ (علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فاهدى إلى رجل منهم قوسا فقلت: ليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله عزوجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاسألنه فاتيته فقلت: يا رسول الله، إنه رجل اهدى إلى قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب ان تطوق طوقا من نار فاقبلها) وفى اسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي، وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وتكلم فيه جماعة.
وقال احمد: ضعيف الحديث، حدث بأحاديث مناكير وكل حديث رفعه فهو منكر.
وقال أبو زرعة الرازي: لا يحتج بحديثه، ولكنه قد روى عن عبادة من طريق اخرى عند أبى داود بلفظ (فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال جمرة

(15/14)


بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها) وفى هذه الطريق بقية بن الوليد، وقد تكلم فيه جماعة ووثقة الجمهور إذا روى عن الثقات، وقد أورد ابن حجر حديث عبادة هكذا في كتاب النفقات من تخليص الحبير وتكلم عليه، وفى هذا المعنى ورد عن معاذ عند الحاكم والبزار بنحو حديث أبى، وعن أبى الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضا.
وقد استدل بهذه الاحاديث القائلون بعدم جواز الاجرة على تعليم القرآن كاحمد بن حنبل واصحابه وأبى حنيفة، وبهذا قال عطاء والضحاك بن قيس والزهرى واسحاق بن راهوية وعبد الله بن شقيق، وذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية إلى أنها تحل الاجرة على تعليم القرآن، وأجابوا عن هذه الاحاديث بأجوبة منها ان حديثى عبادة وأبى قضيتان في عين فيحتمل أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أنهما فعلا ذلك خالصا لله فكره أخذ العوض عنه، وأما من علم القرآن على أنه لله وأن يأخذ من المتعلم ما دفعه إليه بغير سؤال ولا استشراف نفس فلا بأس به.
وقد استدلوا على الجواز بحديث سهل بن سعد عند الشيخين (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امرأة فقالت: يا رسول الله إنى قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها ان لم يكن لك بها حاجة فقال صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي الا إزارى هذه، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ أعطيتها إزارك، جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال، ما اجد شئا فقال: التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل معك من القران شئ؟ فقال: نعم سورة كذا وسورة كذا يسميها، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زوجتكها بما معك من القرآن) وفى رواية (قد ملكتكها بما معك من القرآن) ولمسلم (زوجتكها تعلمها القرآن) وفى رواية لابي داود (علمها عشرين آية وهي امرأتك) ولاحمد (قد أنكحتكها على ما معك من القرآن)

(15/15)


ومن أدلة الجواز حديث عمر المتقدم في كتاب الزكاة (إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ له: ما اتاك من هذا المال من غير مسألة ولا اشراف نفس فخذه، ومن ادلة الجواز حديث الرقية المشهور الذى اخرجه البخاري عن ابن عباس وفيه (ان أحق ما اخذتم عليه اجرا كتاب الله) .
فإذا ثبت هذا: فان كان الاجر على تعليم السورة لا يحفظها ففى صحة ذلك وجهان (احدهما) يصح كما يصح شراء مالا يملكه ثمنه على ان يحصلها ثم يدفعها

(والثانى)
لا يصح لان المنفعة غير مقدور عليها فلم يصح.
قال العلامة الشربينى في المغنى على المنهاج: اما إذا استاجره مدة لجميعه فانه لا يصح على الاصح فان فيه جمعا بين الزمان والعمل وحينئذ كان ينبغى ان يقول المصنف - يعنى النووي - تعليم قرآن بالتنكير، فان الشافعي رضى الله عنه في باب التدبير نص على ان القران بالالف واللام لا يطلق الا على جميعه، فإذا قدر التعليم بمدة كشهر هل يدخل الجميع اولا؟ أفتى الغزالي بان ايام السبوت مستثناة في استئجار اليهودي شهرا لاطراد العرف به.
وقال البلقينى: ويقاس عليه الاحد للنصارى، والجمع في حق المسلمين، ثم قال ويشترط على المنعاقدين بما يقع العقد على تعليمه، فان لم يعلماه وكلا من يعلم ذلك ولا يكفى ان يفتح المصحف ويقول: تعلمني من هنا إلى هنا، لان ذلك لا يفيد معرفة المشار إليه بسهولة أو صعوبة، فإذا اطلق العقد في تعلم القرآن ولم يشترط قراءة بعينها فقد قال الماوردى والرويانى تفريعا على ذلك: يعلمه الاغلب من قراءة البلد كما لو اصدقها دراهم فانه يتعين دراهم البلد، أي فان لم يكن فيها أغلب علمه ما شاء من ذلك وهذا أوجه، فان عين له قراءة تعينت.
فان أقرأه غيرها ولم يستحق اجرة في احد وجهين يظهر ترجيحه، ولا يشترط رؤية المتعلم، ويشترط في المتعلم أن يكون مسلما أو يرجى إسلامه، فان لم يرج لم يعلم كما يباع المصحف من الكافر.
(فرع)
قال الشافعي وكذلك يملك المستأجر المنفعة التى في العبد والدار والدابة إلى المدة التى اشترط حتى يكون أحق بها من مالكها، ويملك بها صاحبها

(15/16)


العوض فهى منفعة معقولة من عين معروفة فهى كالعين المبيعة، ولو كان حكمها خلاف حكم العين لكان في حكم الدين ولم يجز أن يكترى بدين لانه حينئذ يكون
دينا بدين، وقد نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدين بالدين، فإذا وقع ما أكرى وجب له جميع الكراء كما إذا دفع ما باع وجب له جميع الثمن إلا أن يشترط أجلا اه.
وجملة القول في عقد الاجارة أن يتضمن تمليك منافع في مقابلة أجرة، فأما المنافع فلا خلاف أنها تملك بالعقد ويستقر الملك بالقبض، وأما الاجارة فلها ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن يشترطا حلولها وتكون حالة اتفاقا.

(والثانى)
أن يشترطا تأجيلها أو تنجيمها فتكون مؤجلة أو منجمه اجماعا (والثالث) ان يطلقاها فلا يشترطا فيها حلولا ولا تأجيلا، فقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة مذاهب: فمذهب الشافعي منها أن الاجرة تكون حالة تملك بالعقد وتستحق بالتمكين، وقال أبو حنيفة: لا يتعجل الاجرة بل تكون في مقابلة المنفعة، فكلما مضى من المنفعة جزء ملك ما في مقابلته من الاجرة، وقال مالك: لا يستحق الاجرة الا بمضي جميع المدة استدلالا بقوله تعالى، فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن، فاقتضى أن تكون باستكمال الرضاع يستحق الاجرة، وبما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف عرقه) فكان ذلك منه حثا على تعجيلها في أول زمان استحقاقها، وذلك بعد العمل الذى يعرف به، ولان أصول العقود موضوعة على تساوى المتعاقدين فيما يملكانه بالعقد ويكون ملك العوض تاليا لملك المعوض كالبيع إذا ملك على البائع المبيع ملك به الثمن، وإذا سلم المبيع استحق قبض المنافع مؤجلا وجب أن يكون قبض الاجرة مؤجلا، وتحريره قياسا أنه عقد معاوضه فوجب أن يكون استحقاق العوض بعد اقباض المعوض كالبيع، ولان ما استحق من الاعواض على المنافع يلزم أداؤه بعد تسليم المنافع كالجعالة والقراض، ولان
من ملك للاجرة يمنع من استحقاقها عليه بالعقد، وقد ثبت أن الدار المؤجرة من الاجرة فدل على أنه لم يكن مالكا للاجرة.

(15/17)


ودليلنا هو أن ما لزم من عقود المنافع استحق العوض فيه حالا كالنكاح، ولان كل عوض تعجل بالشرط فإطلاقه يوجب حلوله كالثمن، ولان الاصول موضوعة على أن تسليم المعوض يوجب تسليم العوض ليستوي حكم المتعاقدين فيما يملكانه من عوض ومعوض كما هو مقرر في الاصول فلا يكون حظ أحدهما فيه أقوى من حظ الآخر كالبيع إذا سلم المبيع فيه وجب تسليم الثمن، وكالنكاح إذا حصل التمكين وجب تسليم الصداق، كذلك الاجارة إذا حصل تسليم المنفعة وجب تسليم الاجرة، والمنافع ههنا مقبوضة بالتمكين حكما، وإن لم يكن القبض مستقرا.
(فرع)
قال الشافعي: وله أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة، أما عقد الاجارة على سنة واحدة فيجوز لان الغرر يسير فيها والضرورة داعية إليها فأما ما زاد على السنة الواحدة فقد حكى مالك أنه جوزها إلى خمس سنين أو ست سنين لا غير، وللشافعي فيما زاد على السنة الواحدة قولان.

(أحدهما)
لا تجوز الاجارة أكثر من سنة، لان الاجارة غرر لانها عقد قد تسلم وقد لا تسلم، فإذا قل الزمان قل غررها فجاز، وإذا طال الزمان كثر غررها فبطل كالخيار، ولان السنه هي المدة التى تكمل فيها منافع الزراعة في الارضين، ولا تتغير فيها غالبا الحيوانات والدور فلذلك تقدرت مدة الاجارة بها وبطلت فيما جاوزها.
(والقول الثاني) وهو أصح القولين هنا، أن الاجارة تجوز أكثر من سنة بثلاثين سنة قدرها الشافعي على سبيل الكثرة، أما أدناها فأقل مدتها ما أمكن
فيه استيفاء المنفعة المعقود عليها وذلك قد يختلف باختلاف المؤاجر، فإن كان ذلك دارا للسكنى جازت إجارتها يوما واحدا، وان كان ذلك أرضا للزراعة فأقلها مدة زراعتها، فأما أكثر المدة فهو ما علم بقاء الشئ المؤاجر فيها، فإن كان ذلك أرضا تأيد بقاؤها، وإن كان دارا روعى فيها مدة يبقى فيها بناؤها، وإن كان حيوانا روعى فيه الاغلب من مدة حياته.

(15/18)


(فرع)
فأما إذا آجر داره كل شهر بدينار ولم يذكر عدد الشهور وغايتها لم تصح الاجارات فيما عدا الشهر الاول للجهالة بمبلغه، فصار كقوله: أجرتكها مدة، واختلف أصحابنا في صحتها ولزومها في الشهر الاول على وجهين.

(أحدهما)
أن الاجارة فيه صحيحه لكونه معلوما.
(والوجه الثاني) وهو الاصح أنها باطلة لكونه واحدا من عدد مجهول فلم يتميز في الحكم.
وقال أبو حنيفة: الاجارة صحيحه وللمستأجر فسخ الاجارة في كل شهر قبل دخوله، فإذا دخل قبل فسخه لزمه وجعل إطلاق الشهور مع تسمية الاجرة لكل شهر جاريا مجرى بيع الصبرة المجهولة القدر إذا سمى ثمن كل قفيز، وهذا خطأ للخطأ بما تناوله العقد من الشهور بخلاف الصبرة التى قد أشير إليها وينحصر كيلها، ولانه لا يخلو أن تصح الاجارة فلا يكون له فسخها من غير عذر أو تبطل، فلا يجوز أن يقيم عليها مع العذر، ويلزم أجرة المثل إن سكن دون المسمى.
فإذا قدر المدة بسنه حملت على السنه الهلاليه المعهودة شرعا فان شرط هلاليه كان تأكيدا، وإن قال عدديه أو سنه بالايام كان له ثلاثمائة وستون يوما، لان الشهر العددى يكون ثلاثين يوما، وإن استأجر سنه هلاليه أول الهلال عد اثنى عشر شهرا بالاهلة سواء كان الشهر تاما أو ناقصا، لان الشهر الهلالي ما بين
الهلالين ينقص مرة ويزيد أخرى، وإن كان العقد في أثناء شهر عد ما بقى من الشهر وعد بعده أحد عشر شهرا بالهلال ثم كمل الشهر الاول بالعدد ثلاثين يوما لانه تعذر اتمامه بالهلال فتممناه بالعدد وأمكن استيفاء ما عداه بالهلال فوجب ذلك لانه الاصل، وقد مضى في السلم بحث في الشهور العربية الهلاليه والشمسية الرومية ويعد ذلك أساسا لتوقيت التعامل هنا كمثله هناك.
(فرع)
قال في المنهاج: يشترط كون المنفعة معلومة ثم تارة تقدر بزمان كدار سنه، وتارة بعمل كدابه إلى مكة وكخياطه ذا الثوب فلو جمعهما فاستأجره ليخيطه بياض النهار لم يصح في الاصح، ويقدر تعليم القرآن بمدة أو تعيين سور وفى البناء يبين الموضع والطول والعرض والسمك وما يبنى به إن قدر بالعمل،

(15/19)


وإذا صلحت الارض لبناء وزراعة وغراس اشترط تعيين المنفعة، ويكفى تعيين الزراعة عن ذكر ما يزرع في الاصح، ولو قال: لتنتفع بما شئت صح، وكذا لو قال: إن شئت فازرع وإن شئت فاغرس في الاصح، ويشترط في إجارة دابة لركوب معرفة الراكب بمشاهدة أو وصف تام، وقيل لا يكفى الوصف، وكذا الحكم فيما يركب عليه من محمل وغيره إن كان له.
وقال السبكى: لا بد في تصوير هذه المسألة من زيادة ما شئت فيقول: إن شئت فازرع ما شئت أو اغرس ما شئت، فإن لم يزد ما ذكر عاد الخلاف في وجوب تعيين ما يزرع، اه وإذا صلحت الارض لغراس أو بناء أو زراعة أو لاثنين من هذه الثلاثة اشترط تعيين المنفعة في الصورتين لاختلاف الضرر اللاحق باختلاف منافع هذه الجهات، فإن أطلق لم يصح، أما إذا لم تصلح إلا لجهة واحدة فإنه يكفى الاطلاق فيها كأراضي الاحكار فإنه يغلب فيها البناء، وبعض البساتين فانه
يغلب فيها الغراس، ويكفى في أرض استؤجرت للزراعة تعيين الزراعة عن ذكر ما يزرع فيها، كقوله أجرتكها للزراعة أو لتزرعها، فيصح لقلة التفاوت بين أنواع الزرع، ويزرع ما شاء للاطلاق قال الرافعى: وكان يحتمل أن ينزل على أقل الدرجات.
وما قاله حكاه الخوارزمي وجها، فيكون الوجه الثاني أنه لا يكفى لان ضرر الزرع مختلف.
نعم إن أجر على غيره بولاية أو نيابة لا يكفى الاطلاق لوجوب الاحتياط.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن استأجر ظهرا للركوب لم يصح العقد حتى يعرف جنس المركوب، لان الغرض يختلف باختلافه، ويعرف ذلك بالتعيين والوصف لانه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والوصف كما قلنا في البيع، فإن كان في الجنس نوعان مختلفان في السير كالمهماج والقطوف من الخيل ففيه وجهان
(أحدهما)
يفتقر إلى ذكره لان سيرهما يختلف
(والثانى)
لا يفتقر لان التفاوت

(15/20)


في جنس واحد يقل ولا يصح حتى يعرف الراكب، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لانه يختلف بثقله وخفته وحركته وسكونه، ولا يضبط ذلك بالوصف فوجب تعيينه، ولا يصح حتى يعرف ما يركب به من سرج وغيره، لانه يختلف ذلك على المركوب والراكب.
فإن كان عماريه أو محملا ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يجوز العقد عليه بالوصف لانه يمكن وصفه فجاز العقد عليه بالصفة كالسرج والقتب، والثانى إن كانت من المحامل البغدادية الخفاف جاز العقد عليه بالصفة لانها لا تختلف وإن كانت من الخراسانيه الثقال لم يجز إلا بالتعيين لانها تختلف وتتفاوت
(والثالث) وهو المذهب انه لا يجوز إلا بالتعيين لانها تختلف بالضيق والسعه والثقل والخفه وذلك لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه.
واختلف أصحابنا في المعاليق كالقدر والسطيحه، فمنهم من قال لا يجوز حتى يعرف قولا واحدا لانها تختلف فوجب العلم بها.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
لَا يَجُوزُ حتى يعرف لما ذكرناه
(والثانى)
يجوز وتحمل على ما جرت به العادة لانه تابع غير مقصود فلم تؤثر الجهالة فيه كالغطاء في الاجارة والحمل في البيع، وان كان السير في طريق فيه منازل معروفه جاز العقد عليه مطلقا لانه معلوم بالعرف فجاز العقد عليه مطلقا كالثمن في موضع فيه نقد متعارف، فان لم يكن فيه منازل معروفه لم يصح حتى يبين لانه مختلف لا عرف فيه فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه.

(فصل)
فان استأجر ظهر الحمل متاع صح العقد من غير ذكر جنس الظهر لانه لا غرض في معرفته ولا يصح حتى يعرف جنس المتاع انه حديد أو قطن لان ذلك يختلف على البهيمه ولا يصح حتى يعرف قدره لانه يختلف، فان كان موزونا ذكر وزنه، وان كان مكيلا ذكر كيله، فإن ذكر الوزن فهو أولى لانه أخصر وأبعد من الغرر، فان عرف بالمشاهدة جاز كما يجوز بيع الصبرة بالمشاهدة وان لم يعرف كيلها، فان شرط أن يحمل عليها ما شاء بطل العقد لانه دخل في الشرط ما يقتل البهيمه، وذلك لا يجوز فبطل به العقد.
فأما الظروف التى فيها المتاع فانه ان دخلت في وزن المتاع صح العقد لان

(15/21)


الغرر قد زال بالوزن وإن لم تدخل في وزن المتاع نظرت فان كانت ظروفا معروفة كالغرائر الجبلية جاز العقد عليها من غير تعيين لانها لا تتفاوت، وإن كانت غير معروفة لم يجز حتى تعين لانها تختلف ولا تضبط بالصفة فوجب تعيينه.
(الشرح) المهملج.
قال في القاموس: والهملجة فارسي معرب، وشاة هملاج لا مخ فيها لهزالها، وأمر مهملج مذلل منقاد، والهملاج بالكسر من البراذين، والقطوف الدابة ضاق مشيها، قال زهير: بارزة الفقارة لم يخنها قطاف في الركاب ولا خلاء والعمارية نسبة إلى موضع باليمامة والمحمل كمجلس الهودج فكأن منها ما يصلح للركوب، ومنها ما يصلح للحمل، والمعاليق جميع معلاق، وهو ما يعلق بعروة بلا شد ولا ربط، والسطيحة إناء مسطح من الجلد.
أما الاحكام فإنه يشترط في إجارة الظهر للركوب عينا أو ذمة معرفة الراكب بمشاهدة أو وصف تام له لينتفي الغرر.
وذلك بنحو ضخامة أو نحافة، كما في الحاوى الصغير خلافا للبلقينى وغيره من اعتبار الوزن، إذ أن ثقل الوزن يخل بتوازنه أو بحشمته، وإنما اعتبروا في نحو المحمل الوصف مع الوزن لانه إذا عين لا يتغير، والراكب قد يتغير بسمن أو هزال، فلم يعتبر جمعهما فيه، وقيل لا يكفى الوصف وتتعين المشاهدة لانه ليس الخبر كالعيان، ولما يأتي من عدم الاكتفاء بوصف الرضيع، وكذا الحكم فيما معه من متاع، وفيما يركب عليه من محمل وسرج وأكاف إن فحش تفاوته ولم يكن هناك عرف مطرد أو كان ذلك تحت يد المكترى ولو بعارية فيشترط معرفته بمشاهدته أو وصفه التام، فإذا كان الراكب مجردا فلا حاجة إلى ذكر ما يركب عليه، ويركبه المؤجر على ما شاء من سرج يليق بالدابة ويناسب قوتها، فان كان هناك عرف مطرد فلا حاجة إلى ذكره أو النص عليه خلافا للاذرعي، ولا بد في نحو المحمل من وطاء وهو ما يجلس عليه.
وكذا غطاء إن شرط في العقد، فان كان ثمة عرف مطرد حمل الاطلاق عليه، ولو شرط في عقد الاجارة حمل المعاليق فسد العقد في الاصح لاختلاف الناس فيها قلة وكثرة
(والثانى)
يصح ويحمل على الوسط المعتاد،

(15/22)


وإن لم يشرطه لم يستحق حملها في الاصح، هكذا أفاده النووي والرملى وغيرهما ويقاس على هذا ما ينبغى أن تكون عليه مؤاجرة السيارات للركوب لانتقال أو ارتحال، فقد تحددت في زماننا هذا حمولة السيارات الركوبية بعدد الراكبين وما يجوز حمله بالعرف المطرد من حقائب، وكذلك السيارات الحمولية تحددت حمولتها بالوزن ومقصد الشرع المحافظة على البهيمة من وجهين: حرمة الحياة وحرمة المال.
(فرع)
وأما الآلات والعربات ففيها حرمة يجب في الايجار أن يعرف المحمول وقدره وجنسه، فإذا كان في أو طبه وأجوله أو صناديق امتحنها وعرف ما فيها، فان كانت عارية فلا كلام وإن كانت مظروفة في أكياس أو معبأة وجب امتحانها ومعرفتها جنسا ووزنا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَجُوزُ من ذلك شئ على شئ مغيب لا يجوز حتى يرى الراكب والراكبين، وظرف المحمل والوطاء وكيف الظل إن شرطه لان ذلك يختلف فيتباين أو تكون الحمولة بوزن معلوم أو كيل معلوم أو ظرف ترى أو تكون إذا شرطت عرفت مثل غرائر الحلبه وما أشبه هذا.
وقال أيضا (وإذا تكارى الرجل الدابه إلى موضع فجاوزه إلى غيره فعليه كراء الموضع الذى تكاراها إليه الكراء الذى تكاراها به وعليه من حين تعدى إلى أن ردها كراء مثلها من ذلك الموضع، وإذا عطبت عليه لزمه الكراء إلى الموضع التى عطبت فيه وقيمتها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان استأجر ظهرا للسقي لم يصح العقد حتى يعرف الظهر، لانه لا يجوز الا على مدة، وذلك يختلف باختلاف الظهر فوجب العلم به على الاظهر
ويجوز أن يعرف ذلك بالتعيين والصفة، لانه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والصفة، كما يجوز بيعه بالتعيين والصفة، ولا يصح حتى يعرف الدولاب لانه يختلف، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين، لانه لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه.

(15/23)


(فصل)
وإن استأجر ظهرا للحرث لم يصح حتى يعرف الارض، لانه يختلف ذلك بصلابة الارض ورخاوتها، فإن كان على جربان لم يفتقر إلى العلم بالظهر لانه لا يختلف، وإن كان على مدة وقلنا إنه يصح لم يجز حتى يعرف الظهر الذى يحرث به، لان العمل يختلف باختلافه، ويعرف ذلك بالتعيين والصفه لما ذكرناه في السقى.

(فصل)
وان استأجر ظهرا للدياس لى يصح حتى يعرف الجنس الذى يداس لان العمل يختلف باختلافه، فان كان على زرع معين لم يفتقر إلى ذكر الحيوان الذى يداس به، لانه لا غرض في تعيينه، فان كان على مدة لم يصح حتى يعرف الحيوان الذى يداس به، لان العمل يختلف باختلافه
(فصل)
وإن استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنس الجارحه لان الصيد يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والصفه لانه يضبط بالصفة ولا يصح حتى يعرف ما يرسله عليه من الصيد، لان لكل صنف من الصيد تأثيرا في اتعاب الجارحه.
(الشرح) يجوز اكتراء الدابه للاستقاء بالغرب وهو الدلو العظيمه ونحوه كالدولاب، فلا بد من معرفته لانه يختلف بكبره وصغره، ويقدر بكيله متريا أو قياسه أو وزنه، ولا يجوز تقدير ذلك بحوض في الارض أو حفرة فيها للجهالة ولتسرب الماء في باطن التربه
فإن قدره بعدد المرات احتاج إلى معرفة الموضع الذى يستقى منه والذى يذهب إليه، لان ذلك يختلف بالقرب والبعد والسهولة والحزونه، وان قدره بملء شئ معين احتاج إلى معرفته ومعرفة ما يستقى منه، هذا ما يقال في الاستيقاء.
ولما كانت البهيمة تؤجر للحرث والدراس والطحن غير ما مضى من الحمل والنقل فنقول: ان جواز كراء الدابة للحمل ثابت بالكتاب (وتحمل أثقالكم إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الانفس)

(15/24)


أما كراء البقر للحرث فقد ثبت بالنص والعرف قال النبي صلى الله عليه وسلم (بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها فقالت: إنى لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث، رواه الشيخان، على أن هذا يحتاج إلى شرطين، معرفة الارض وتقدير العمل، فأما الارض فلا تعرف الا بالمشاهدة لاختلافها صلابة ورخاوة وسعة وضيقا وقد كانت الارض تقدر مساحتها بالجربان جمع جريب وهو ما يبلغ ستين ذراعا مربعا مهيا للزرع ولذلك كانوا يقولون فلان يملك ألف جريب وألف خريب ويعنون بالخريب غير المهيأ للزراعة ويحتاج إلى اصلاح حتى يكون جريبا، ومن هنا اختلف كراء الجريب عن الخريب لان الجريب تكون مستوية السطح خالية من الحجارة والحفر بعكس الخريب لذلك وجب رؤيتها لانها لا تعرف الا بالمشاهدة وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين اما بالمدة كيوم ويومين واما بالارض كهذه القطعة، أو من هذا المكان أو بالمساحة كقصبة أو قصبتين (والقصبة 355 س م.
) والفدان 333 وثلث قصبة.
أما الدراس أو الدياس والدياس جعلوها مصدرا لداس يدوس دوسا
ودياسا مثل الدراس فمن علماء اللغة من ينكر كون الدياس من كلام العرب، ومنهم من يقول: هو مجاز وكأنه مأخوذ من داس الارض دوسا إذا شدد وطأه عليها بقدمه، والمدوس الذى تداس به الحنطة بكسر الميم لانه آلة.
وأما المداس الذى ينتعله الانسان فإن صح سماعه فقياسه كسر الميم لانه آلة والا فالكسر أيضا حملا على النظائر الغالبة من العربية، ولا أدرى وجه صاحب القاموس المحيط في جعله زنة سحاب قلت: أما تأجير البقر للدراس أو غير البقر فأشبه الحرث في معرفة نوع الزرع المراد دياسه وهل بالنورج أم بدونه وعلى مدة ومعرفة الحيوان، لان الغرض يختلف باختلافه، فمن الحيوانات ما يكون نجس البول والروث فيختلط بالطعام فيحتاج إلى اختياره وتحديد نوعه وكذلك ادارة الرحى للطحن يفتقر إلى شيئين، معرفة الحجر بالمشاهدة، واما بصفة تعرف بها حالته من الثقل أو الخفة وتقدير العمل اما بالزمان كيوم ويومين ونوع المطحون فقد يكون عسير الطحن لصلابته.

(15/25)


(فرع)
إذا استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنسها لانها إذا كانت الجارحة كلبا فلا يصح استئجاره كما صحح ذلك النووي، وحكى الرملي والشربينى منازعة النووي في هذا، وقال الاذرعى: المختار قول الغزالي، يعنى من حيث جواز إجارة الكلب المعلم للصيد.
أما الجوارح الاخرى كالبازي والعقاب والفهد فيجوز استئجارها قولا واحدا كما يجوز استئجار السنور لصيد الفأر وعلى هذا يصح استئجارها أعنى الجوارح من ذمى أو مجوسي ويجرى عليها حكم صيد المسلم بكلب النصراني واليهودى، إن قلنا بصحة استئجاره فإن صيده جائز.
أما الجوارح الاخرى فإنه يصح استئجارها من يهودى أو نصراني ويصح صيدها
قال العبدرى: وبه قال الفقهاء كافة.
وقال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَكَمُ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وهو أصح الروايتين عن عطاء وَمِمَّنْ كَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ راهويه، وقال أحمد: كلب النصراني واليهودى عندي أهون من المجوسى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان استأجر رجلا ليرعى له مدة لم يصح حتى يعرف جنس الحيوان: لان لكل جنس من الماشية تأثيرا في اتعاب الراعى.
ويجوز أن يعقد على جنس معين وعلى جنس في الذمة، فإن عقد على موصوف لم يصح حتى يذكر العدد، لان العمل يختلف باختلافه، ومن أصحابنا من قال: يجوز مطلقا ويحمل على ما جرت به العادة أن يرعاه الواحد من مائه أو أقل أو أكثر، والاول أظهر لان ذلك يختلف وليس فيه عرف واحد.

(فصل)
وان استأجر امرأة للرضاع لم يصح العقد حتى يعرف الصبى الذى عقد على ارضاعه، لانه يختلف الرضاع باختلافه، ولا يعرف ذلك الا بالتعيين، لانه لا يضبط بالصفة ولا يصح حتى يذكر موضع الرضاع لان الغرض يختلف باختلافه.

(15/26)


(فصل)
وان استأجر رجلا ليحفر له بئرا أو نهرا لم يصح العقد حتى يعرف الارض لان الحفر يختلف باختلافها ولا يصح حتى يذكر الطول والعرض والعمق، لان الغرض يختلف باختلافها، وان استأجر لبناء حائط لم يصح العقد حتى يذكر الطول والعرض وما يبنى به من الآجر واللبن والجص والطين، لان الاغراض تختلف باختلافها، وان استأجره لضرب اللبن لم يصح حتى يعرف
موضع الماء والتراب، ويذكر الطول والعرض والسمك والعدد، وعلى هذا جميع الاعمال التى يستأجر عليها.
وان كان فيما يختلف الغرض باختلافه، رجع فيه إلى أهل الخبره ليعقد على شرطه، كما إذا أراد أن يعقد النكاح، ولم يعرف شروط العقد رجع إلى من يعرفه ليعقد بشروطه، وان عجز عن ذلك فوضه إلى من يعرفه ليعقد بشرطه كما يوكل الاعمى في البيع والشراء من يشاهد المبيع.

(فصل)
وان استأجر رجلا ليلقنه سورة من القرآن لم يصح حتى يعرف السورة لان الغرض يختلف باختلافها، وان كان على تلاوة عشر آيات من القرآن لم يصح حتى يعينها لان آيات القرآن تختلف، فإن كان على عشر آيات من سورة معينة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح، لان الاعشار تختلف
(والثانى)
يصح، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرضت نفسها عليه، فقال لها: اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك، ولكن تملكيننا أمرك؟ قالت: نعم، فنظر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وجوه القوم، فدعا رجلا منهم فقال لها: انى أريد أن أزوجك هذا ان رضيت فقالت: ما رضيت لى يا رسول الله فقد رضيت، ثم قال للرجل: هل عندك من شئ؟ قَالَ لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: ما تحفظ من القرآن؟ قال سورة البقرة والتى تليها، قال: قم فعلمها عشرين آية وهى امرأتك) وهل يفتقر إلى تعيين الحرف؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح حتى يعين الحرف، لان الاغراض تختلف باختلاف الحرف
(والثانى)
لا يحتاج إلى تعيين الحرف، لان ما بين الاحرف من الاختلاف قليل.

(15/27)


(فصل)
وإن استأجر للحج والعمرة لم يصح حتى يذكر أنه إفراد أو قران أو تمتع، لان الاغراض تختلف باختلافها، فأما موضع الاحرام فقال في الام لا يجوز حتى يعين وقال في الاملاء: إذا استأجر أجيرا أحرم من الميقات ولم يشرط التعيين، واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق المروزى: فيه قولان:
(أحدهما)
لا يجوز حتى يعين، لان الاحرام قد يكون من الميقات، وقد يكون من دويرة أهله، وقد يكون من غيرهما، فإذا أطلق صار العقد على مجهول فلم يصح
(والثانى)
أنه يجوز من غير تعيين ويحمل على ميقات الشرع، لان الميقات معلوم بالشرع فانصرف الاطلاق إليه كنقد البلد في البيع ومن أصحابنا من قال: إن كان الحج عن حى لم يجز حتى يعين، لانه يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه، وإن كان عن ميت جاز من غير تعيين، لانه لا يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه، وحمل القولين على هذه الحالين.
ومنهم من قال: إن كان للبلد ميقاتان لم يجز حتى يبين لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فوجب بيانه كالثمن في موضع فيه نقدان.
وإن لم يكن له إلا ميقات واحد جاز من غير تعيين، كالثمن في موضع ليس فيه إلا نقد واحد، وحمل القولين على هذين الحالين، فإن ترك التعيين وقلنا إنه لا يصح فحج الاجير، انعقد الحج للمستأجر لانه فعله بإذنه مع فساد العقد فوقع له كما لو وكله وكالة فاسدة في بيع (الشرح) أوردنا في صدر هذا الباب آية استئجار شعيب لموسى، وقد روى أحمد والبخاري وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ قال نعم.
كنت أرعاها على قراريط لاهل مكة، وقال سويد بن سعيد: يعنى كل شاة بقيراط.
وقال ابراهيم الحربى: قراريط اسم موضع، وقد صوب ابن الجوزى وابن ناصر التفسير الذى ذكره ابراهيم الحربى: لكن الذى رجح تفسير ابن سويد
أن أهل مكة لا يعرفون مكانا يقال له: قراريط وقد روى النسائي من حديث نصر بن حزن قال: افتخر أهل الابل والغنم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بعث موسى وهو راعى غنم، وبعث داود

(15/28)


وهو راعى غنم وبعثت وأنا راعى غنم أهلى بجياد، وفى الحديث دليل على جواز الاجارة على رعى الغنم، ويلحق بها في الجواز غيرها من الحيوان، وهل يصح أن يرعى قطيعا بغير عدد من الغنم، أو قطيعا بغير عدد من البقر قل أو كثر؟ قولان
(أحدهما)
وهو الاصح أن يذكر العدد وأن يكون الاجر مناسبا لقدر المنفعة والعمل
(والثانى)
إذا جرى عرف مطرد بأن يرعى القطيع من غير عدد صح عقده.
(فرع)
مذهب الشافعي رضى الله عنه على أنه يجوز استئجار الام لارضاع ولدها.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة اه.
ولا يجوز استئجار امرأة حرة منكوحة لرضاع أو غيره مما يؤدى إلى خلوة محرمة إلا بإذن زوجها على الاصح، ويؤخذ من قول الاذرعى أنه يجوز لها ذلك إذا كان زوجها غائبا فأجرت نفسها لعمل مباح لا خلوة فيه بأجنبى ينقضى أجله قبل قدومه، وقد اعترض الغزى على هذا بأن المرأة ومنافعها مستحقة لزوجها بعقد النكاح.
قال الرملي: وهذا الاعتراض ممنوع بأنه لا يستحقها، وانما يستحق المنفعة منها وهى متعذرة منه، ولو اختلفت الزوجة مع زوجها حول الاذن صدق الزوج ولا كلام.
على أن الاقيس على ظاهر المذهب أنه يصح لها ذلك على حد قول الاذرعى لانه لما جاز للزوج أن يستأجر زوجته لارضاع ولده ولو كان منها فان ذلك يفيد بمفهومه ملكها المنفعة، إذا تقرر هذا فهل يجوز أن يستأجر المرضعة بطعامها
وكسوتها؟ مذهب الشافعي على أن ذلك لا يجوز في الظئر ولا في غيره من أنواع الاجارات وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن استأجر أجيرا بطعامه وكسوته أو جعل أجرا وشرط طعامه وكسوته فروى عنه جواز ذلك وهو مذهب مالك واسحاق وروى عن أبى بكر وعمر وأبى موسى أنهم استأجروا الاجراء بطعامهم وكسوتهم، وروى عن أحمد أن ذلك جائز في الظئر دون غيره لقوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فأوجب لهن النفقة والكسوة

(15/29)


على الرضاع، ولم يفرق بين المطلقة وغيرها، بل في الآية قرينة تدل على طلاقها لان الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية وإن لم ترضع، لان الله تعالى قال (وعلى الوارث مثل ذلك) والوارث ليس بزوج، ولان المنفعة في الحضانة والرضاع غير معلومة، فجاز أن يكون عوضها كذلك.
وروى عنه رواية ثالثة: لا يجوز ذلك بحال، لا في الظئر ولا في غيرها.
وبهذا قال الشافعي وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لان ذلك يختلف اختلافا كثيرا متباينا فيكون مجهولا، والاجر من شرطه أن يكون معلوما.
إذا ثبت هذا فهل تدخل الحضانة في الرضاع أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
لا تدخل وهو قول أبى ثور وابن المنذر لان العقد لم يتناولها
(والثانى)
تدخل وهو قول أصحاب الرأى، لان العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبى فحمل الاطلاق على ما جرى به العرف والعادة.
ويشترط لعقد الرضاعة أربعة شروط: 1 - أن تكون مدة الرضاع معلومة، لانه لا يمكن تقديره إلا بها، فإن السقى والعمل فيها يختلف.
2 - معرفة الصبى بالمشاهدة، لان الرضاع يختلف باختلاف الصبى في كبره وصغره ونهمته وقناعته.
3 - موضع الرضاع لانه يختلف فيشق عليها في بيته ويسهل عليها في بيتها
4 - معرفة العوض وكونه معلوما كما سبق (فرع)
إذا استأجر عاملا يحفر له بئرا وحدد له مكان البئر وسعتها وأجره، أو استأجر عاملا يضرب له لبنا وهيأ له الماء والتبن والتراب والمكان الصالح اضرب اللبن، ثم انهارت البئر أو تلف اللبن بمطر أو داست عليه بهيمة فأتلفته فقد استحق العامل أجره، ولا ضمان عليه في البئر ولا في اللبن (فرع)
يجوز أن يأخذ الاجرة على تعليم القرآن أو سورة منه مع تعيينها أو قدر منه مع تعيينه وتحديده كما يجوز أن يأخذ الاجرة على تعليم الفقه والحديث ونحوهما ان كان محتاجا وهو وجه في المذهب، ولا يصح الاستئجار على القراءة على الموتى لنصه في الام حيث قال: إن القراءة لا تحصل له.
وقال الشربينى في المغنى: الاجارة للقرآن على القبر مدة معلومة أو قدرا معلوما

(15/30)


جائزة للانتفاع بنزول الرحمة حيث يقرأ القرآن ويكون الميت كالحى الحاضر، سواء أعقب القرآن بالدعاء أم جعل قراءته له أم لا فتعود منفعة القرآن إلى الميت في ذلك، ولان الدعاء يلحقه وهو بعدها أقرب إلى الاجابة وأكثر بركة، ولانه إذا جعل أجرة الحاصل بقراءة للميت فهو دعاء بحصول الاجر فينتفع به.
فقول الشافعي رضى الله عنه أن القراءة لا تحصل له محمول على غير ذلك.
وقد أفتى الشهاب الرملي بذلك وأفاده ولده شمس الدين في نهاية المحتاج قلت: وقد أجمع أهل العلم على أن القارئ إذا قرأ ابتغاء المال وطلبا للنقود لا سيما في زماننا الذى عمت فيه حرفة القراءة، وصاروا يتقاولون على القراءة ويتزيدون كما يتزيد المتبذلون من أهل الغناء والفتنة فإنه لا ثواب له وقد يكون مأزورا آثما لانه لا يبتغى بالقرآن وجه الله، ولم يقف عند عجائبه فيحرك به قلبه، وكما يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: الموعظة زكاة نصاب الاتعاظ
ومن لا نصاب عنده لا زكاة عليه، ففاقد الاتعاظ بكتاب الله ليس عنده ما يمنحه غيره من الموعظة (فرع)
قال أصحابنا: أعمال الحج معروفة فإذا علمها المتعاقدان عند الاجارة صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ جَهِلَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ والبغوى وَالْمُتَوَلِّي، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمِيقَاتِ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ الْأَجِيرُ؟ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، وَنَصَّ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لا يشترط وللاصحاب أَرْبَعُ طُرُقٍ، أَصَحُّهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَوَافَقَ الْمُصَنَّفُونَ عَلَى تَصْحِيحِهِ: فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُشْتَرَطُ، وَيُحْمَلُ عَلَى مِيقَاتِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَقَعُ عَلَى حَجٍّ شَرْعِيٍّ، وَالْحَجُّ الشَّرْعِيُّ لَهُ مِيقَاتٌ مَعْقُودٌ شَرْعًا وَغَيْرُهَا فَانْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُقَرِّرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ وَمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَوْ الْعُرْفِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ النَّقْدُ الْغَالِبُ ويكون كما لو قَرَّرَاهُ.
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَصْحِيحِ هَذَا الْقَوْلِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ والرافعي وآخرون.
والثانى: يُشْتَرَطُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمِيقَاتِ وَفَوْقَهُ وَدُونَهُ، وَالْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ فَوَجَبَ بَيَانُهُ

(15/31)


والطريق الثاني: إن كان للبلد طريقان مختلفان إلى الميقات أو طريق يفضى إلى ميقاتين اشترط بيانه وإلا فلا.
والطريق الثالث: إنْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَنْ حَيٍّ اُشْتُرِطَ، وَإِنْ كان عن ميت فلا لانه قد يتعلق للحى غرض فيه وهذا الطريق هو الذى حكاه المصنف هنا وحكاه الشيخ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَضَعَّفَهُ الشَّيْخُ أبو حامد الاسفرايينى وآخرون، وهذا والذى قبله ليس بشئ عندهم ونقله إمام الحرمين.
والطريق الرابع: ما حكاه الدارمي من أنه يشترط قولا واحدا، وعلى هذا إن شرطاه فأهملاه فسدت الْإِجَارَةُ، لَكِنْ يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَيْهِ أجرة المثل، أما تَعْيِينُ زَمَانِ الْإِحْرَامِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِلَا خِلَافٍ.
قالوا: وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ اُشْتُرِطَ بِلَا خلاف بيان أنهما إفراد أو تمتع أو قران لاختلاف الغرض بذلك، هذا وقد نَقَلَ الْمُزَنِيّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمَعْضُوبُ: مَنْ حَجَّ عَنَى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَحَجَّ عَنْهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ، قَالَ الْمُزَنِيّ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، لِأَنَّ هَذَا إجَارَةٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْأَجْرِ، هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، وقد ذكر المصنف المسألة في باب الجعالة، وللاصحاب فيها ثلاثة أوجه (أصحها) صحة الحج عن المستأجر واستحقاق الاجير أجرة المثل، لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ وَالْجَعَالَةُ تَجُوزُ عَلَى عمل مجهول فوقوعها عن معلوم أولى، هذا وبقيه ما يتعلق بالاجارة عن الحج من انفراد أجير أو تعدد أجراء أو حصول الاجارة بمكة أو غيرها مفصل مبسوط في كتاب الحج من المجموع فاشدد به يديك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا تصح الاجارة الا على أجرة معلومة لانه عقد يقصد به العوض، فلم يصح من غير ذكر العوض كالبيع، ويجوز اجارة المنافع من جنسها ومن غير جنسها: لان المنافع في الاجارة كالاعيان في البيع، ثم الاعيان يجوز بيع بعضها ببعض فكذلك المنافع.

(فصل)
ولا تجوز الا بعوض معلوم لم روى أبو سعيد الخدرى (رض)

(15/32)


إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من استأجر أجيرا فليعلمه أجره) ولانه عقد معاوضة فلم يجز بعوض مجهول كالبيع، وان عقد بمال جزاف نظرت، فإن كان
العقد على منفعة في الذمة ففيه قولان، لان اجارة المنفعة في الذمة كالسلم، وفى السلم على مال جزاف قولان، فكذلك في الاجارة، فإن كان العقد على منفعة معينه ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يجوز قولا واحدا، لان اجارة العين كبيع العين، وفى بيع العين يجوز أن يكون العوض جزافا قولا واحدا، فكذلك في الاجارة، ومنهم من قال: فيه قولان
(أحدهما)
يجوز
(والثانى)
لا يجوز، لانه عقد على منتظر، وربما انفسخ فيحتاج إلى الرجوع إلى العوض، فكان في عوضه جزافا قولان كالسلم.
وان كانت الاجارة على منفعه معينه جاز بأجرة حالة ومؤجلة، لان اجارة العين كبيع العين، وبيع العين يصح بثمن حال ومؤجل، فكذلك الاجارة، فإن أطلق العقد وجبت الاجرة بالعقد، ويجب تسليمها بتسليم العين، لما روى أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف رشحه) .
ولان الاجارة كالبيع ثم في البيع يجب الثمن بنفس العقد ويجب تسليمه بتسليم العين، فكذلك في الاجارة، فإن استوفى المنفعة استقرت الاجرة لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ ربكم عزوجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره ولانه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل كما لو قبض المبيع، فان سلم إليه العين التى وقع العقد على منفعتها ومضت مدة يمكن فيها الاستيفاء استقر البدل لان المعقود عليه تلف تحت يده فاستقر عليه البدل كالمبيع إذا تلف في يد المشترى فان عرض العين على المستأجر ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء استقرت الاجرة لان المنافع تلفت باختياره فاستقر عليه ضمانها كالمشترى إذا أتلف المبيع
في يد البائع.
فإن كان هذا في اجارة فاسدة استقر عليه أجرة المثل، لان الاجارة كالبيع

(15/33)


والمنفعة كالعين، ثم البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل، فكذلك في الاجارة فإن كان العقد على منفعة في الذمة لم يجز بأجره مؤجلة، لان إجارة ما في الذمة كالسلم، ولا يجوز السلم بثمن مؤجل، فكذلك الاجارة، ولا يجوز حتى يقبض العوض في المجلس كما لا يجوز في السلم، ومن أصحابنا من قال: إن كان العقد بلفظ السلم وجب قبض العوض في المجلس لانه سلم، وإن كان بلفظ الاجارة لم يجب لانه إجارة والاول أظهر، لان الحكم يتبع المعنى لا الاسم.
ومعناه معنى السلم فكان حكمه كحكمه، ولا تستقر الاجرة في هذه الاجارة إلا باستيفاء المنفعة، لان المعقود عليه في الذمة فلا يستقر بدله من غير استيفاء كالمسلم فيه: (الشرح) حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رواه أحمد ولفظه (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن استئجار الاجير حتى يبين له أجره، وعن النجش واللمس والقاء الحجر) قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح الا أن ابراهيم النخعي لم يسمع من أبى سعيد فيما أحسب.
وأخرجه أيضا البيهقى وعبد الرزاق وإسحاق بن راهويه وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع، ولفظ بعضهم (من استأجر أجيرا فليسلم له أجرته) وفى هذا الحديث دليل على وجوب بيان قدر الاجرة، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال مالك وأحمد بن حنبل وابن شبرمة: لا يجب للعرف واستحسان المسلمين، قال صاحب البحر: لا نسلم بل الاجماع على خلافه اه.
ويؤيد قول المذهب القياس على ثمن المبيع.
اما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقُولُ الله
تعالى: ثلاثة انا خصمهم يوم القيامة، الحديث) فقد أخرجه أحمد والبخاري، وأخرجه أيضا البزار وفى اسناد البزار هشام بن زياد (أبو المقدام) وهو ضعيف قال ابن التين: هو سبحانه خصم لجميع الظالمين الا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح، والخصم يطلق على الواحد والاثنين وعلى أكثر من ذلك.
وقال الهروي: الواحد بكسر أوله، قال الفراء في الطلاق الخصم على الواحد فاكثر هو قول الفصحاء، ويجوز في الاثنين خصمان، قلت: استعمل القرآن

(15/34)


في الاثنين خصمان في قوله تعالى (خصمان بغى بعضنا على بعض) وهو ابلغ استعمال وافصحه.
قوله (من كنت خصمه خصمته) هذه الزيادة ليست في صحيح البخاري ولكنه أخرجها أحمد وابن حبان وابن خزيمة والاسماعيلي، قوله (باع حرا وأكل ثمنه) في رواية لابي داود (ورجل اعتبد محرره) وهو أعم في الفعل وأخص في المفعول.
قال الخطابى: اعتباد الحر يقع بأمرين، ان يعتقه ثم يكتم ذلك أو يجحده، والثانى أن يستخدمه كرها بعد العتق، والاول أشدهما.
قال في الفتح: الاول أشد لان فيه مع كتم الفعل أو جحده العمل بمقتضى ذلك من البيع وأكل الثمن فمن ثم كان الوعيد عليه أشد.
وفى قضاء الاجر عند توفية العمل خلاف بين العلماء فعند أبى حنيفة وأصحابه إنما تملك بالعقد فتتبعها أحكام الملك، وعند الشافعي واصحابه أنها تستحق بالعقد وهذا في الصحيحة، وأما الفاسدة فقال في البحر: لا تجب بالعقد إجماعا وتجب بالاستيفاء إجماعا.
والاجارة أصول في أنفسها تتنوع على وجهها، وهى كالبيع سواء بسواء، قال الشافعي رضى الله عنه: البيوع الصحيحة صنفان بيع عين يراها المشترى
والبائع، وبيع صفة مضمونة على البائع، وبيع ثالث وهو الرجل يبيع السلعة بعينها غائبة عن البائع والمشترى، غير مضمونة على البائع إن سلمت السلعة حتى يراها المشترى كان فيها بالخيار باعه إياها على صفة وكانت على تلك الصفة التى باعه إياها، أو مخالفة لتلك الصفة، لان بيع الصفات التى تلزم المشترى ما كان مضمونا على صاحبه، ولا يتم البيع في هذا حتى يرى المشترى السلعة فيرضاها ويتفرقان بعد البيع من مقامهما الذى رآه فيه، فحينئذ يتم البيع ويجب عليه الثمن كما يجب عليه الثمن في سلعة حاضرة اشتراها حتى يتفرقا بعد البيع عن تراض ولا يجوز أن تباع هذه السلعة بعينها إلى أجل من الآجال قريب ولا بعيد من قبل أنه إنما يلزم بالاجل ويجوز فيما حل لصاحبه، وأخذه مشتريه ولزمه بكل وجه اه.
ونقل السبكى في فتاويه عن القفال قوله: أما الاجارة على الذمة فيثبت فيها خيار المجلس لا محالة بناء على أنها ملحقه بالسلم حتى يجب فيها قبض البدل في المجلس

(15/35)


وقال: أما الرجل يؤاجر نفسه فالاجارة تجوز معينا، وفى الذمة، فإن أجره معينا فلا بد أن تكون المنفعة معلومة بأحد أمرين بتقدير العمل أو المدة، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وما عقد من الاجارة على منفعة موصوفة في الذمة يجوز حالا ومؤجلا في الذمة كالسلم، والسلم يجوز حالا ومؤجلا، فكذلك الاجارة في الذمة وإن استاجر منفعة في الذمة وأطلق وجبت المنفعة حالة، كما إذا أسلم في شئ واطلق وجب حالا، فان استأجر رجلا للحج في الذمة لزمه الحج من سنته، فإن أخره عن السنة نظرت، فان كانت الاجارة عن حى كان له أن يفسخ، لان حقه تأخر، وله في الفسخ فائدة، وهو أن يتصرف في الاجرة، فإن كانت عن ميت
لم يفسخ، لانه لا يمكن التصرف في الاجرة إذا فسخ العقد، ولابد من استئجار غيره في السنة الثانية، فلم يكن للفسخ وجه، وما عقد على منفعة معينة لا يجوز إلا حالا، فإن كان على مدة لم يجز إلا على مدة يتصل ابتداؤها بالعقد، وإن كان على عمل معين لم يجز الا في الوقت الذى يمكن الشروع في العمل لان إجارة العين كبيع العين وبيع العين لا يجوز الا على ما يمكن الشروع في قبضها فكذلك الْإِجَارَةِ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ لَمْ يَجُزْ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّوَجُّهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاءُ المعقود عليه عن حال العقد، وإن كان فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ إلَّا أَنْ يَسِيرَ قَبْلَ أَشْهُرِهِ لَمْ يَسْتَأْجِرْ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الشروع في الاستيفاء، فإن قال أجرتك: هذه الدار شهرا لم يصح.
لانه ترك تعيين المعقود عليه في عقد شرط فيه التعيين، فبطل كما لو قال: بعتك عبدا، فإن أجر دارا من رجل شهرا من وقت العقد ثم أجرها منه الشهر الذى بعده قبل انقضاء الشهر الاول، ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يصح، لانه اجارة منفعة معينة على مدة متأخرة عن العقد، فأشبه إذا أجرها من غيره.

(15/36)


(والثانى)
أنه يصح، وهو المنصوص، لانه ليس لغيره يد تحول بينه وبين ما استاجره.
ولان أحد شهريه لا ينفصل عن الآخر، فأشبه إذا جمع بينهما في العقد.
(الشرح) قال المحاملى في المجموع: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ إلا في الوقت الذى يتمكن فيه.
وقال النووي: إن كان في موضع قريب لم يجز استئجاره قبل أشهر الحج.
وإن كان في موضع بعيد لم يستأجره إلَّا فِي الْوَقْتِ
الَّذِي يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ وقت الشروع في الاستيفاء.
وقال أبو الطيب لا يمكن إجارة إلَّا فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِيهِ أَوْ يحتاج فيه إلى السبب.
اه ومن هنا إذَا لَمْ يَشْرُعْ فِي الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ الاجارة على العين انفسخت لفوات موضوع العقد قولا واحدا، وإن كانت في الذمة، فإن لم تتعين السنة فهو كتعيين السنة الاولى، وعند بعض اصحابنا يجوز التأخر عن السنة الاولى ويثبت الخيار للمستأجر، وإن عينا السنة وتأخر عنها فطريقان أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فيه عند حلول الاجل (أ) لا ينفسخ العقد وهو الاظهر (ب) يَنْفَسِخُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هنا.
وإن كان الاستئجار عن ميت فلا خيار للمستأجر، وهذا هو رأى المصنف وأصحابنا العراقيين، وقد قال إمام الحرمين: وفيما ذكروه نظر لانه لا يمنع أن يثبت للورثة الخيار ويستردون الاجرة بالفسخ، وهذا استدراك على المصنف يجعل للورثة الحق في أن يبذلوا الاجرة لاجير آخر، وهذا أجدر بحصول المقصود وقد تابع الغزالي شيخه على هذا.
وقال البغوي وآخرون بوجوب مراعاة الولى المصلحة في ذلك، فإن رأى الفسخ لخوف إفلاس الاجير أو هربه وإلا تركه وضمن، وصحح الرافعى هذا وحمل الرافعى قول المصنف وأصحابه من العراقيين على أن الْمَيِّتُ قَدْ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ فتكون الوصية مستحقة الصرف إليه.
وقال أبو إسحاق المروزى: للمستأجر أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي لِيَفْسَخَ الْعَقْدَ

(15/37)


إن كانت المصلحة تقتضيه.
قال الرافعى: فإن نَزَلَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ ارْتَفَعَ الخلاف، وإن على الثاني هان امره.
قوله (لانه اجارة منفعة معينة على مدة متأخرة) قال النووي في المنهاج: ولا تجوز اجارة عين لمنفعة مستقبلة.
اه وذلك كإجارة هذه الدار السنة المستقبلة أو سنة أولها من غد، وكذا ان قال أولها من أمس، وكإجارة أرض مزروعة لا يمكن تفريغها الا بعد مدة لمثلها أجرة، وذلك كما لو باعه عينا على ان يسلمها له بعد ساعة بخلاف اجارة الذمة كما مر، ولو قال وقد عقد آخر النهار: اولها يوم تاريخه لم يضر لان القرينة ظاهرة في أن المراد باليوم الوقت أو في التعبير باليوم عن بعضه، ويستثنى من المنع في المستقبلة صور، كما لو أجره ليلا ليعمل نهارا.
وهذا عرف شائع في ديارنا ابان الحصاد وجنى القطن ونقاوة الدودة وشتل الارز وتعفير الطماطم بالكبريت قبل جفاف الندى.
ومثله اجارة دار بغير بلد المتعاقدين، كمن يستأجر عشة برأس البر ليصطاف فيها فأجرها قبل الصيف لان استيفاء العقد لا يكون الا صيفا، وإذا لم يؤجرها فاته الانتفاع بمقصوده.
فلو آجر الشهر الثاني لمستأجر الشهر الاول أو السنة الثانية لمستأجر السنة الاولى قبل انقضائها جاز في الاصح لاتصال المدتين مع اتحاد المستأجر، كما لو آخر منه السنتين في عقد، ولا نظر إلى احتمال انفساخ العقد الاول لان الاصل عدمه، فان وجد ذلك لم يقدح في الثاني.
(فرع)
في جواز الوارث ما آجره الميت من المستأجر تردد.
أفاد شمس الدين الرملي أن الاقرب منه الجواز لانه نائبه.
وقال الزركشي: أنه الظاهر، وهذا إذا لم يحصل فصل بين السنين، والا فلا يصح، وهذا يشمل الطلق والوقف، نعم لو شرط الواقف أن لا يؤجر الوقف أكثر من ثلاث سنين فأجره الناظر ثلاثا في عقد آخر قبل مضى المدة فالمعتمد كما افتى به ابن الصلاح ووافقه السبكى والاذرعى وغيرهما عدم صحة
العقد الثاني.
وان قلنا بصحة اجارة الزمان القابل من المستأجر اتباعا لشرط الواقف، لان المدتين المتصلتين في العقدين في معنى العقد الواحد.
وهذا بعينه

(15/38)


يقتضى المنع في هذه الصورة لوقوعه زائدا على ما شرطه الواقف، وان خالفه ابن الاستاذ وقال: ينبغى ان يصح نظرا إلى ظاهر اللفظ.
(فرع)
مذهبنا انه لا تصح اجارة المسلم للجهاد في سبيل الله لحرب أعداء الدين، لان الجهاد فرض عليه ما دام مستطيعا، ولانه إذا حضر الصف تعين عليه القتال فريضة، ويصح للامام ان يستأجر غير المسلمين لقتال غير المسلمين من الكفار.
ولا يصح استئجار المسلم لعبادة تحتاج إلى نية الا الحج وتفرقة الزكاة أو تعليم قرآن، وتصح الاجارة لتجهيز ميت ودفنه، وتصح الاجارة للصوم عن الميت، وتصح لذبح الهدى والاضاحي ونحوها.
ويصح الاستئجار لشعار غير فرض كالاذان.
قال الشربينى في المغنى: ولا يصح الاستئجار للامامة ولو نافلة كالتراويح لان فادتها من تحصيل فضيلة الجماعة لا تحصل للمستأجر بل للاجير، ويصح استئجار بيت ليتخذه مصلى، وصورته كما قال صاحب الانتصار ان يستأجره للصلاة، اما إذا استأجره ليجعله مسجدا فلا يصح بلا خلاف، ولا يصح الاستئجار لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الرملي وغيره: فزيارة قبر غيره أولى.
هكذا افاده الخطيب الشربينى وشمس الدين الرملي الشبراملسى في شروحهم لمنهاج النووي، وعزا الرملي إلى الماوردى هذا ووافقه عليه.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
فإن اكرى ظهرا من رجلين يتعاقبان عليه أو اكترى من رجل عقبة ليركب في بعض الطريق دون بعض جاز.
وقال المزني: لا يجوز اكتراء
العقبة الا مضمونا لانه يتأخر حق احدهما عن العقد فلم يجز، كما لو اكراه ظهرا في مدة تتأخر عن العقد، والمذهب الاول، لان استحقاق الاستيفاء مقارن للعقد، وانما يتأخر عن القسمة وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو باع من رجلين صبرة فانه يصح، وان تأخر حق أحدهما عند القسمة، فان كان ذلك في طريق فيه عادة في الركوب والنزول، جاز العقد عليه مطلقا، وحملا في الركوب والنزول على العقادة لانه معلوم بالعادة.
فحمل الاصلاق عليه كالنقد المعروف

(15/39)


في البيع، وإن لم يكن فيه عادة لم يصح حتى يبين مقدار ما يركب كل واحد منهما لانه غير معلوم بالعادة، فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه، فان اختلفا في البادئ في الركوب أقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة قدم لانهما تساويا في الملك فقدم بالقرعة.
(الشرح) التعاقب التناوب، فينزل هذا نوبة وهذا نوبة.
وفى الحديث (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكه بالنهار) والعقب بضم العين جمع عقبة، أي نوبة قال الشافعي رضى الله عنه: فان تكارى منه لعبده فأراد أن يركب الليل دون النهار بالاميال، أو أراد ذلك به الجمال فليس ذلك لواحد منهما، ويركب على ما يعرف الناس العقبة، ثم ينزل فيمشي بقدر ما يركب، ثم يركب بقدر ما مشى، فيفدحه ولا الركوب فيضر بالبعير اه.
ويفهم من كلامه ان القصد من عقد الاجارة تحقيق المنفعة للمستأجر وعدم المضارة بالبهيم لحرمته.
قال النووي رضى الله عنه (ويجوز كراء العقب في الاصح) وبيان ذلك ان يؤجر دابة رجلا ليركبها بعض الطريق ويمشى بعضها أو يركبه المالك تناوبا
أو يؤجرها رجلين ليركب ذا أياما وذا أياما كذلك تناوبا، أو يقول: آجرتك نصفها لمكان كذا أو كلها لتركبها نصف الطريق فيصح كبيع المشاع، ويبين البعضين في الصورتين كنصف أو ربع ما لم يكن ثم عادة معروفه مضبوطة بالزمن أو المسافة ثم يقتسمان بالتراضى، فإذا تنازعا أيهما يبدأ أقرع بينهما، لانهما يملكان المنفعة معا، ويغتفر التأجير الواقع لضرورة القسمة.
نعم شرط الصحه في الاولى تقدم ركوب المستأجر، وإلا بطلت لتعلقها حينئذ بزمن مستقبل، ومقابل الاصح في قول النووي أوجه أصحها المنع لانها إجارة أزمان متقطعه.
وفى الروضة أنه ليس لاحدهما أن يطلب المشى ثلاثا والركوب ثلاثا للمشقه.
اه

(15/40)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وما عقد من الاجارة على مدة لا يجوز فيه شرط الخيار، لان الخيار يمنع من التصرف، فان حسب ذلك على المكرى زدنا عليه المدة، وإن حسب على المكترى نقصنا من المدة وهل يثبت فيه خيار المجلس؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يثبت لما ذكرناه من النقصان والزيادة في خيار الشرط.

(والثانى)
يثبت لانه قدر يسير، ولكل واحد منهما إسقاطه، وإن كانت الاجارة على عمل معين ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يثبت فيه الخياران، لانه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار
(والثانى)
يثبت فيه الخياران، لان المنفعة المعينة كالعين في البيع، ثم العين المعينه يثبت فيها الخياران فكذلك المنفعة (والثالث) يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط، لانه عقد على منتظر فيثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط كالسلم.
وإن كانت الاجارة على منفعه في الذمه ففيه وجهان (احدهما) لا يثبت فيه
الخياران، لانه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار
(والثانى)
يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط، لان الاجارة في الذمة كالسلم، وفى السلم يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط، فكذلك في الاجارة.

(فصل)
وإذا تم العقد لزم ولم يملك واحد منهما ان ينفرد بفسخه من غير عيب لان الاجارة كالبيع، ثم البيع إذا تم لزم فكذلك الاجارة وبالله التوفيق (الشرح) مذهبنا أنه لا خيار بعد لزوم العقد.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمستأجر فسخ الاجارة بالاعذار الظاهرة مع السلامه من العيوب، ولا يجوز للمؤجر أن يفسخ بالاعذار، مثل أن يستأجر دارا ليسكنها ثم يريد النقلة عن البلد أو يستأجر حرز لمتاعه ثم يريد بيعه، أو يستأجر من يطحن له برا ثم يريد بذره.
إلى ما أشبه ذلك من الاعذار، فيجعل له بها فسخ الاجارة للعذر.
ألا ترى أن من استؤجر لقلع فدانين من الحطب جاز للمستأجر فسخ الاجارة للعذر الطارئ ولم يجبر على قلع فدانيه، وكذا كل عذر.

(15/41)


ودليلنا على أبى حنيفة قوله تعالى (يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) فكان عموم هذا الامر يوجب الوفاء بكل عقد ما لم يقم دليل بتخصيصه، ولان كل عقد لزم العاقدين مع سلامة الاحوال لزمهما ما لم يحدث بالعوضين نقص كالبيع، ولان كل عقد لزم العاقد عند ارتفاع العذر لم يحدث له خيار بحدوث عذر كالزوج، ولان كل سبب لا يملك المؤجر الفسخ لم يملك المستأجر به الفسخ كالاجرة لا يكون حدوث الزيادة فيها موجبا لفسخ المؤجر كما لم يكن حدوث النقصان فيها موجبا لفسخ المستأجر، لان نقصانها في حق المستأجر كزيادتها في حق المؤجر ولانه عقد إجارة فلم يجز فسخه بعذر كالمؤجر، ولان العقود نوعان، لازمة فلا يجوز فسخها بعذر كالبيع، وغير لازمة فيجوز فسخها بغير عذر كالقراض.
فلما لم يكن عقد الاجارة ملحقا بغير اللازم في جواز فسخه بغير عذر وجب أن يكون ملحقا باللازم في إبطال فسخه بعذر.
فأما الجواب عن قياسه على الوكالة فهو أن الوكالة غير لازمة يجوز فسخها بعذر وغير عذر، وليس كذلك الاجارة، وأما استدلاله بأن للاعذار تأثيرا في عقود الاجارات كالضرس المستأجر على قلعه إذا برئ، فالجواب عنه هو أن من ملك منفعة بعقد إجارة فقد استحقها، وليس يجب عليه استيفاؤها، ألا ترى أن من استأجر سكنى دار فله أن يسكنها، ولا يجبر على سكناها، فإن مكن من سكناها فلم يسكن فعليه الاجرة، هذا أصل مقرر في الاجارة، وإذا كان كذلك - فإن كان الضرس على حال مرضه وألمه - فقلعه مباح، وللمستأجر أن يأخذ الاجير بقلعه إن شاء، فإن أبى المستأجر أن يقعله من ألمه لم يجبر عليه.
وقيل له: قد بذل لك الاجير القلع وأنت ممتنع، فإذا مضت مدة يمكن فيها قلعه فقد استحق أجرته كما لو مضت مدة السكنى، وان برئ الضرس في الحال قبل إمكان القلع بطلت الاجارة، لان قلعه قد حرم، وعقد الاجارة انما يتناول مباحا لا محظورا، فصار محل العمل معدوما، فلذلك بطلت الاجارة كما لو استأجر لخياطة ثوب فلف، إذ لا فرق بين تعذر العمل بالتلف وبين تعذره بالحظر.

(15/42)


فإذا تقرر أن عقد الاجارة من العقود اللازمة، وأن فسخه بالعذر غير جائز فلا يجوز اشتراط الثلاث فيه، وقال أبو حنيفة: يجوز اشتراط الخيار فيه كما يجوز في البيع لانهما معا من عقود المعاوضات.
ودليلنا: هو ان ما لزم من عقود المنافع لم يصح اشتراط الخيار فيه كالنكاح ولان اشتراط الثلاثة يتضمن اتلاف بعض المعقود عليه فيما ليس متابع للمعقود
عليه مع بقاء العقد في جميعه فلم يصح، كما لو شرط في ابتياع جوادين أنه ان تلف أحدهما في يد البائع لم يبطل البيع.
ولان المعقود إذا لم يبق جميعه في مدة الخيار لم يصح اشتراط الخيار قياسا على بيع الطعام الرطب.
فإذا صح ان خيار الشرط لا يدخله فقد اختلف أصحابنا هل يدخله خيار المجلس ام لا؟ على وجهين.
(احدهما) يدخله كالبيع لكونهما عقدى معاوضة.
فعلى هذا ان أخرها المؤجر من غير المستأجر في خيار المجلس صحت الاجارة الثانية وكان ذلك فسخا للاجارة الاولى.
هكذا أفاده الماوردى.
وقال بعض أصحابنا: تفسخ الاجارة الاولى ولا تصح الاجارة الثانية لتقدم الفسخ.
لانه لا يصير الفعل الواحد فسخا وعقدا لتنافيهما.
ولهذا القول وجه فإن كان المذهب هو ان استقرار العقد الثاني يوجب فسخ العقد الاول بالتأهب الثاني.
وعلى هذا الوجه لو أخره المستأجر كانت اجارته باطلة سواء قبضه أو لم يقبضه.
لان خيار المؤجر يمنع من امضاء المستأجر.
وعلى هذا الوجه لو افترقا عن تراض لم يكن للمستأجر أن يؤجر قبل قبضه كما ليس للمشترى بيع ما لم يقبضه (والوجه الثاني) ان خيار المجلس لا يدخله.
ويصير العقد بالبذل والقبول لازما.
لان خيار المجلس يفوت بعض المدة فاشبه خيار الشرط.
فعلى هذا لو أجره المؤجر قبل الافتراق أو بعده لم يجز.
ولو آجره المستأجر.
فان كان بعد القبض جاز.
وان كان قبله؟ فعلى وجهين.

(أحدهما)
يجوز لمفارقته البيع في الخيار ففارقه في القبض.
(الوجه الثاني) لا يجوز لكون المنفعة مضمونه على المستأجر فأشبه ضمان

(15/43)


المبيع على البائع وان فارق البيع في حكم الخيار وهذان الوجهان في اجارة ما لم يقبض مبنى
على اختلاف اصحابنا في عقد الاجارة هل تناول الدار المؤاجرة لاستيفاء المنفعة منها أو تناول المنفعة؟ فقال أبو إسحاق المروزى: عقد الاجارة انما تناول الدار الموجودة، لان المنافع غير مخلوقة، فعلى هذا يمنع من إجارتها قبل القبض كما يمنع من البيع.
(والوجه الثاني) وهو الاكثر من أصحابنا أن العقد إنما تناول المنفعة دون الرقبة لان العوض في مقابلتها، ولا يصح أن يتوجه العقد إلى ما لم يقابله العوض وتصير المنافع بتسليم الرقبة مقبوضة حكما، وإن لم يكن القبض مستقرا إلا بمضي المدة فعلى، هذا تجوز إجارتها قبل قبضها.
وقال النووي: لا تنفسخ الاجارة بعذر كتعذر وقود حمام وسفر ومرض مستأجر دابة لسفر، ولو استأجر أرضا لزراعه فزرع فهلك الزرع بجائحه فليس له الفسخ، ولا حط شئ من الاجرة، وتنفسخ بموت الدابه والاجير المعينين في المستقبل لا الماضي في الاظهر، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(بَابُ مَا يلزم المتكاريين وما يجوز لهما) يجب على المكرى ما يحتاج إليه المكترى للتمكين من الانتفاع كمفتاح الدار وزمام الجمل والبرة التى في أنفه والحزام والقتب والسرج واللجام للفرس لان التمكين عليه ولا يحصل التمكين إلا بذلك، فان تلف شئ منه في يد المكترى لم يضمنه كما لا يضمن العين المستأجرة وعلى المكرى بدله لان التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفى المستأجر المنفعة وما يحتاج إليه لكمال الانتفاع كالدلو والحبل والمحمل والغطاء فهو على المكترى، لان ذلك يراد لكمال الانتفاع، واختلف أصحابنا فيما يشد به أحد المحملين إلى الآخر، فمنهم من قال: هو على المكرى لانه من آلة التمكين، فكان على المكرى، ومنهم من قال: هو على المكترى
لانه بمنزلة تأليف المحمل وضم بعضه إلى بعض.

(15/44)


(فصل)
وعلى المكرى إشالة المحمل وحطه وسوق الظهر وقوده، لان العادة أنه يتولاه المكرى فحمل العقد عليه، وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض لانه لا يمكن ذلك على الظهر، ولا يجب ذلك للاكل وصلاة النفل، لانه يمكن فعله على الظهر وعليه أن يبرك الجمل للمرأة والمريض والشيخ الضعيف، لان ذلك من مقتضى التمكين من الانتفاع، فكان عليه فأما أجرة الدليل فينظر فيه فإن كانت الاجارة على تحصيل الراكب فهو على المكرى لان ذلك من مؤن التحصيل، وإن كانت الاجارة على ظهر بعينه فهو على المكترى لان الذى يجب على المكرى تسليم الظهر وقد فعل، وعلى المكرى تسليم الدار فارغة الحش، لانه من مقتضى التمكين، فإن امتلا في يد المكترى ففى كسحه وجهان:
(أحدهما)
أنه على المكرى لانه من مقتضى التمكين فكان عليه
(والثانى)
أنه على المكترى لانه حصل بفعله فكان تنقيته عليه كتنظيف الدار من القمامة وعلى المكرى إصلاح ما تهدم من الدار وإبدال ما تكسر من الخشب، لان ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه.
واختلف أصحابنا في المستأجرة على الرضاع هل يلزمها الحضانة وغسل الخرق؟ فمنهم من قال يلزمها لان الحضانة تابعة للرضاع، فاستحقت بالعقد على الرضاع ومنهم من قال لا يلزمها لانهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الاخرى فلا تلزم بالعقد على إحداهما الاخرى وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح به، وللمستأجر أن يطالبها بذلك لانه من مقتضى التمكين من الرضاع، وفى تركه إضرار بالصبى

(فصل)
وعلى المكرى علف الظهر وسقيه لان ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه، فان هرب الجمال وترك الجمال فللمستأجر أن يرفع الامر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف لان ذلك مستحق عليه فجاز أن يتوصل بالحكم إليه فإن أنفق المستأجر ولم يستأذن الحاكم لم يرجع لانه متطوع، وإن رفع الامر الحاكم ولم يكن للجمال مال اقترض عليه، فإن اقترض من المستأجر وقبضه منه

(15/45)


ثم دفعه إليه لينفق جاز، وان لم يقبض منه ولكنه أذن له في الانفاق عليها قرضا على الجمال ففيه قولان.

(أحدهما)
لا يجوز لانه إذا أنفق احتجنا أن يقبل قوله في استحقاق حق له على غيره
(والثانى)
يجوز لانه موضع ضرورة، لانه لا بد للجمال من علف وليس ههنا من ينفق غيره، فإن أذن له وأنفق ثم اختلفا في قدر ما أنفق فان كان ما يدعيه زيادة على المعروف لم يلتفت إليه لانه ان كان كاذبا فلا حق له وان كان صادقا فهو متطوع بالزيادة فلم تصح الدعوى، وإن كان ما يدعيه هو المعروف فالقول قوله لانه مؤتمن في الانفاق فقبل قوله فيه، فان لم يكن حاكم فأنفق ولم يشهد لم يرجع لانه متطوع، وإن أشهد فهل يرجع؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يرجع لانه يثبت حقا لنفسه على غيره من غير اذن ولا حاكم.

(والثانى)
يرجع لانه حق على غائب تعذر استيفاؤه منه فجاز أن يتوصل إليه بنفسه، كما لو كان له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه، فان لم يجد من يشهد أنفق.
وفى الرجوع وجهان
(أحدهما)
لا يرجع، لما ذكرناه فيه إذا أشهد،
(والثانى)
يرجع، لان ترك الجمال مع العلم أنه لا بد لها من العلف إذن في الانفاق.
(الشرح) قوله (برة) محذوفة اللام، هي حلقة تجعل في أنف البعير تكون
من النحاس ونحوه، وأبريت البعير جعلت له برة، وقوله (القماش) وهو ما على وجه الارض من فتات الاشياء، حتى يقال لرذالة الناس قماش.
وما أعطاني إلا قماشا، أي أردأ ما وجد، أفاده في القاموس.
وقوله في ترجمة الباب (ما يلزم المتكاريين) أي ما يتعين لدفع الخيار، فعلى المكرى تسليم مفتاح ضبة الدار إلى المكترى لتوقف الانتفاع عليه، وهو أمانة بيده، فو تلف ولو بتقصير فعلى المكرى تجديده، فان امتنع لم يجبر ولم يأثم وينبنى على ذلك سؤال: هل تصح إجارة دار لا باب لها؟ ففى هذه الصورة نظر وقد تتوجه الصحه إن أمكن الانتفاع بها بلا باب، كأن أمكن التسلق من الجدار، وعلى القول

(15/46)


بالصحة هل يثبت الخيار للجاهل، كأن رآها قبل سد بابها ثم استأجرها اعتمادا على الرؤية السابقة؟ قلنا يثبت له الخيار وجها واحدا.
فأما القفل فلا يجب تسليمه فضلا عن مفتاحه لانه منقول وليس بتابع، كما أن عليه من أسباب التمكين مبنيا على أصل المذهب إضاءة المدخل واستكمال المرافق الصحيه، فإن لم يفعل لم يجبر، وكان المكترى بالخيار والمستأجر عليه كنس السلم والفناء لان ذلك ميسور لَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كراء الابل والدواب من الام: وعلى المكرى أن يركب المرأة البعير باركا وتنزل عنه باركا، لان ذلك ركوب النساء.
اما الرجال فيركبون على الاغلب من ركوب الناس، وعليه أن ينزله للصلوات وينتظر حتى يصليها غير معجل له ولما لا بد له منه كالوضوء، وليس عليه أن ينتظره لغير ما لابد له منه.
قال وليس للجمال إذا كانت القرى هي المنازل أن يتعداها إن أراد الكلا، ولا للمكترى إذا أراد عزلة الناس، وكذلك إن اختلفا
في الساعة التى يسيران فيها، فان أراد الجمال أو المكترى ذلك في حر شديد نظر إلى مسير الناس بقدر المرحلة التى يريدان وقال الشافعي رضى الله عنه: وعلف الدواب والابل على الجمال أو مالك الدواب، فان تغيب واحد منهما فعلف المكترى فهو متطوع إلا أن يرفع ذلك إلى السلطان، وينبغى للسلطان أن يوكل رجلا من أهل الرفقة بأن يعلف ويحسب ذلك على رب الدابه والابل، وإن ضاق ذلك فلم يوجد أحد غير الراكب.
فان قال قائل: يأمر الراكب أن يعلف لان من حقه الركوب والركوب لا يصلح إلا بعلف ويحسب ذلك على صاحب الدابة، وهذا موضع ضرورة، ولا يوجد فيه الا هذا، لانه لابد من العلف والا تلفت الدابه ولم يستوف المكترى الركوب كان مذهبا ثم قال الشافعي رضى الله عنه: وفى هذا أن المكترى يكون أمين نفسه، وأن رب الدابه إن قال لم يعلفها الا بكذا، وقال الامين: علفتها بكذا لاكثر،

(15/47)


فإن قبل قول رب الدابة في ماله سقط كثير من حق العالف، وإن قبل قول المكترى العالف كان القول قوله فيما يلزم غيره، وإن نظر إلى علف مثلها فصدق به فيه فقد خرج مالك الدابة والمكترى من أن يكون القول قولهما، وقد ترد أشباه من هذا في الفقه فيذهب بعض أصحابنا إلى أن لا قياس، وأن القياس ضعيف، وقد ذكر في غير هذا الموضع، ويقولون: يقضى بين الناس بأقرب الامور في العدل فيما يراه إذا لم يجد فيه متقدما من حكم يتبعه.
قال الشافعي رضى الله عنه: فيعيب هذا المذهب بعض الناس من كره الرأى فإن جاز أن يحكم فيه بما يكون عدلا عند الناس فيما يرى الحاكم فهو مذهب أصحابنا في بعض أقاويلهم، وإن لم يجز فقد يترك أهل القياس القياس،
والله تعالى أعلم.
(فرع)
إذا استأجر دارا فانطمت آبارها وامتلات حشوشها فالذي عليه أصحابنا أن تنقية ذلك وتنظيفه على المؤجر دون المستأجر من غير تفصيل لما عليه من حقوق التمكين.
قال الماوردى: والذى عندي وأراه مذهبا أن تنقية ما انطم من آبارها على المؤجر وتنقية ما امتلا من حشوشها على المستأجر، لان امتلاء الحشوش من فعله فصار كتحويل القماش وليس كذلك انطمام الآبار، فلو امتنع المستأجر من تنقية الحشوش أجبر عليه، ولو امتنع المؤجر ما يلزمه من الآبار لم يجبر عليه، وكان المستأجر بالخيار، والله أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
واختلف أصحابنا في رد المستأجر بعد انقضاء الاجارة، فمنهم من قال: لا يلزمه قبل المطالبة لانه أمانة فلا يلزمه ردها قبل الطلب كالوديعة، ومنهم من قال: يلزمه لانه بعد انقضاء الاجارة غير مأذون له في إمساكها، فلزمه الرد كالعارية المؤقتة بعد انقضاء وقتها، فإن قلنا: لا يلزمه الرد لم يلزمه مؤنة الرد كالوديعة، وان قلنا: يلزمه لزمه مؤنة الرد كالعارية.

(فصل)
وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها بالمعروف، لان إطلاق العقد يقتضى المتعارف، والمتعارف كالمشروط، فإن استأجر دارا للسكنى

(15/48)


جاز أن يطرح فيها المتاع، لان ذلك متعارف في السكنى، ولا يجوز أن يربط فيها الدواب ولا يقصر فيها الثياب ولا يطرح في أصول حيطانها الرماد والتراب، لان ذلك غير متعارف في السكنى، وهل يجوز أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد، فيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجوز لان الفأر ينقب الحيطان للوصول إلى ذلك.

(والثانى)
يجوز، وهو الاظهر، لان طرح ما يسرع إليه الفساد من الطاهر المأكول متعارف في سكنى الدار، فلم يجز المنع منه، وإن اكترى قميصا للبس لم يجز أن ينام فيه بالليل، ويجوز بالنهار، لان العرف أن يخلع لنوم الليل دون نوم النهار.
وإن استأجر ظهرا للركوب ركب عليه لا مستلقيا ولا منكبا: لان ذلك هو المتعارف، وإن كان في طريق العادة فيه السير في أحد الزمانين من ليل أو نهار لم يسر في الزمان الآخر لان ذلك هو المتعارف، وان اكترى ظهرا في طريق العادة فيه النزول للرواح ففيه وجهان.

(أحدهما)
يلزمه النزول، لان ذلك متعارف والمتعارف كالمشروط.

(والثانى)
لا يلزمه، لانه عقد على الركوب في جميع الطريق فلا يلزمه تركه في بعضه، فإن اكترى ظهرا إلى مكة لم يجز أن يحج عليه، لان ذلك زيادة على المعقود عليه، وإن اكتراه للحج عليه، فله أن يركبه إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى المزدلفة ثم إلى منى ثم إلى مكة، وهل يجوز أن يركبه من مكة عائدا إلى منى للمبيت والرمى؟ فيه وجهان
(أحدهما)
له ذلك لانه من تمام الحج
(والثانى)
ليس له لانه قد حل من الحج.
(الشرح) قد عرفنا مما سبق من الشواهد والادله والنصوص أن عقد الاجارة يصح على العين مدة تبقى بصفاتها غالبا لامكان استيفاء المعقود عليه كسنة أو عشر سنين أو ثلاثين سنة على ما يليق بكل عين مستأجرة.
قال البغوي: الا أن الحكام اصطلحوا على أن لا يؤجروا الوقف أكثر من ثلاث سنين لئلا يندرس الوقف.
قال السبكى: ولعل سببه أن اجارة الوقف

(15/49)


تحتاج إلى أن تكون بالقيمة وتقويم المدة المستقبلة البعيدة صعب.
وللمستأجر
في اجارة العين أن ينتفع بها من أول العقد ويده عليها يد أمانة فيأتى فيه ما مر في الوديع مدة الاجارة ان قدرت بزمن، أو مدة امكان استيفاء المنفعة ان قدرت بمحل عمل لعدم امكان الاستيفاء للمنفعة بدون وضع يده، وبه فارق كون يده يد ضمان على طرف مبيع قبضه فيه لتمحض قبضه لغرض نفسه، ويجوز السفر للمكترى بالعين المكتراة عند انتفاء الخطر لملكه المنفعة فجاز له استيفاؤها حيث شاء، وظاهره عدم الفرق بين اجارة العين وهو ظاهر، والذمة وهو محتمل، نعم سفره بها كسفر الوديع فيما يظهر أخذا مما مر في الوديعة.
ووجه ما قررنا أنه عقد لا يقتضى الضمان لان العين أمانة في يد المستأجر ان تلفت بغير تفريط لم يضمنها، وسئل أحمد بن حنبل عن المظل والخيمة إلى مكة فتذهب من المكترى بسرق أو ذهاب هل يضمن؟ قال: أرجو أن لا يضمن، وكيف يضمن؟ إذا ذهب لا يضمن.
اه فإذا انقضت المدة فعليه رفع يده، وليس عليه الرد في قول غير أن عليه أن يتوقف عن الانتفاع، وفارق العارية فإنه عليه أن يردها من حيث أخذها، ووجهه أنه عقد لا يقتضى الضمان فلا يقتضى رده ومؤنته كالوديعه وفارق العارية فإن ضمانها يجب فكذلك ردها، وعلى هذا متى انقضت المدة كانت العين في يده أمانة كالوديعه، ان تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه.
والقول الآخر: يضمن إذا انتهت مدة الاجارة لانه بعد انقضاء الاجارة غير مأذون له في امساكها أشبه العارية المؤقته بعد وقتها، فإن ضمن المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد لانه ينافى مقتضى العقد، وهل تفسد الاجارة به؟ فيه وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع.
وروى عن ابن عمر أنه قال: لا يصلح الكراء بالضمان.
وعن فقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون: لا تكترى بضمان، الا أنه من شرط على كراء أنه لا ينزل
متاعه بطن واد أو لا يسير به ليلا مع أشباه هذه الشروط فتعدى ذلك فتلف شئ مما حمل في ذلك التعدي فهو ضامن، فأما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان

(15/50)


فيه، وإن شرطه لم يصح الشرط لان ما لا يجب ضمانه لا يصير بالشرط مضمونا وما يجب ضمانه لا ينتفى ضمانه بشرط نفيه.
فأما إن أكراه عينا وشرط عليه أن لا يسير بها في الليل أو وقت القائلة أو لا يتأخر بها عن القافلة أو لا يجعل سيره في آخرها؟ أو لا يسلك بها الطريق الفلانية وأشباه هذا مما له فيه غرض مخالف ضمن لانه متعد لشرط كرائه فضمن ما تلف به، كما لو شرط عليه أن لا يحمل عليها إلا قفيزا فحمل قفيزين، فإذا كانت العين دارا فلا يصح أن يقتنى فيها ما يؤدى إلى المضارة بالبناء إلى الحد الذى جعل بعض الاصحاب يمنع أن يكون في متاعه بعض المأكولات التى تحدث رائحة تجلب الفيران لما يترتب عليه من احداث شقوق في جدار البيت، وقد رد هذا القول جمهور العلماء بأن المتعارف بين الناس وما تحكم به ضرورات المعيشة أن كل مأكولات الانسان تغرى الفيران وتجذبها إليها ولذا فقد عفى في الاصح عما لا يمكن التحرز منه أو الاستغناء عنه ومقتضى أصول المذهب أن كل متعارف هو كالمشروط فلا يلزمه تركه.
(فرع)
يشترط في اجارة الذمة أو العين للركوب بيان قدر السير كل يوم وكونه ليلا أو نهارا والنزول في عامر أو صحراء لتفاوت الاغراض بذلك، ولو أراد أحدهما مجاوزة المحل المشروط أو نقصا منه لخوف لحوق ضرر منه ولو كان ظنا جاز دون غيره كما لو استأجر مطية للذهاب والاياب فإنه لا تحسب عليه مدة اقامتها لخوف الا أن يكون بالطريق منازل مضبوطة بالعادة، فينزل عليها، فإن لم تنضبط اشترط بيان المنازل أو التقدير بالزمن وحده، والا امتنع التقدير بالسير
به لعدم تعلقه بالاختيار، وحينئذ يتعذر الاستئجار في طريق مخوفة لا منازل فيها (فرع)
من اكترى مطية ليحج عليها فله الركوب عليها إلى مكة ومن مكة إلى عرفة والخروج عليها إلى منى لانه من تمام الحج، وقيل ليس له الركوب إلى منى لانه بعد التحلل من الحج، والاولى له ذلك لانه من تمام الحج وتوابعه، ولذلك وجب على من وجب عليه دون غيره فدخل فِي قَوْله تَعَالَى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا) ومن اكترى إلى مكة فقط فليس له الركوب

(15/51)


إلى الحج لانها زيادة، ويحتمل أن له ذلك لان الكراء إلى مكة عبارة عن الكراء إلى الحج لكونها لا يكترى إليها الا للحج غالبا فكان بمنزلة المكترى للحج، هذا مذهبنا وبه قال أحمد وأصحابه.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا تكارى رجل محملا من المدينة إلى مكة فشرط سيرا معلوما فهو أصح، وان لم يشترط فالذي أحفظ أن المسير معلوم وأنه المراحل فيلزمان المراحل لانها الاغلب من سير الناس، فإن قال قائل كيف لا يفسد في هذا الكراء والسير يختلف؟ قيل: ليس للافساد ههنا موضع، فان قال: فبأى شئ قسته، قيل: بنقد البلد، البلد له نقد وصنج وغلة مختلفة فيبيع الرجل بالدراهم ولا يشترط نقدا بعينه، ولا يفسد البيع، ويكون له الاغلب من نقد البلد وكذلك يلزمهما الغالب من مسير الناس اه.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
فان اكترى ليحمل له أرطالا من الزاد فهل له أن يبدل ما يأكله فيه قولان.

(أحدهما)
له أن يبدل وهو اختيار المزني كما أن له أن يبدل ما يشرب من الماء
(والثانى)
ليس له أن يبدله، لان العادة أن الزاد يشترى موضعا واحدا
بخلاف الماء قال أبو إسحاق: هذا إذا لم تختلف قيمة الزاد في المنازل، فأما إذا كانت قيمته تختلف في المنازل جاز له أن يبدله قولا واحدا لان له غرضا أن لا يشترى موضعا واحدا.

(فصل)
وان اكترى ظهرا فله أن يضربه ويكبحه باللجام ويركضه بالرجل للاستصلاح لما روى جابر قال: سافرت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشترى منى بعيرا وحملنى عليه إلى المدينة، وكان يسوقه وأنا راكبه وأنه ليضربه بالعصا ولا يتوصل إلى استيفاء المنفعة الا بذلك فجاز له فعله.

(فصل)
وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها وما دونها في الضرر ولا يملك أن يستوفى ما فوقها في الضرر، فإن اكترى ظهرا ليركبه في طريق فله أن يركبه في مثله وما دونه في الخشونه ولا يركبه فيما هو أخشن منه،

(15/52)


فإن استأجر أرضا ليزرع فيها الحنطة فله أن يزرع مثلها وما دونها في الضرر ولا يزرع ما فوقها، لان في مثلها يستوفى قدر حقه وفيما دونها يستوفى بعض حقه، وفيما فوقها يستوفى أكثر من حقه، فان اكترى ظهرا ليحمل عليه القطن لم يحمل عليه الحديد لانه أضر على الظهر من القطن لاجتماعه وثقله، فان اكتراه للحديد لم يحمل عليه القطن لانه أضر من الحديد، لانه يتجافى ويقع فيه الريح فيتعب الظهر، فان اكتراه ليركبه بسرج لم يجز أن يركبه عريا لان ركوبه عريا أضر، فان اكتراه عريا لم يركبه بسرج لانه يحمل عليه أكثر مما عقد عليه، فان اكترى ظهرا ليركبه لم يجز أن يحمل عليه المتاع لان الراكب يعين الظهر بحركته والمتاع لا يعينه، فان اكتراه لحمل المتاع لم يجز أن يركبه لان الراكب أشد على الظهر لانه يقعد في موضع واحد والمتاع يتفرق على جنبيه، فان اكترى قميصا للبس لم يجز أن يتزر به، لان الاتزار أضر من اللبس، لانه يعتمد فيه على طاقين وفى
اللبس يعتمد فيه على طاق واحد، وهل له أن يرتدى به فيه وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه أخف من اللبس
(والثانى)
لا يجوز لانه استعمال غير معروف فلا يملكه كالاتزار
(فصل)
وله أن يستوفى المنفعة بنفسه وبغيره، فان اكترى دارا ليسكنها فله أن يسكنها مثله ومن هو دونه في الضرر، ولا يسكنها من هو أضر منه، فان اكترى ظهرا ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه ولا يركبه من هو أثقل منه لما ذكرناه في الفصل قبله.
(الشرح) حديث جابر رواه البخاري ومسلم بلفظ (أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: ولحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لى وضربه فسار سيرا لم يسر مثله فقال: بعنيه، فقلت لا، ثم قال: بعنيه فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلى، وفى لفظ لاحمد والبخاري (وشرطت ظهره إلى المدينة) وتمام الحديث في الصحيحين (فلما بلغت أتيته فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثرى فقال: أتراني ماكستك لا آخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهو لك) أما أحكام هذه الطائفة من الفصول فانه إذا اكترى دابة في الذمة فانه لا خيار

(15/53)


في عقدها إذا وجد بالدابة عيبا، لان المعقود عليه في الذمة بصفة السلامة، والمعقود عليه هنا غير سليم، فإذا لم يرض به رجع إلى ما في الذمة، ولو عجز عن الابدال ثبت للمستأجر الخيار، كما ذكر ذلك الاذرعى، ويخص المكترى بما تسلمه فله إيجار، ويمتنع إبدالها بغير رضاه ويتقدم بمنفعتها على جميع الغرماء.
فإذا ثبت هذا بالنسبة للدابة فانه يلزم ثبوته للطعام المحمول ليؤكل في الطريق إذا لم يتعرض في العقد لابداله ولا لعدمه فانه يبدل إذا أكل في الاظهر عملا بمقتضى اللفظ لتناوله حمل كذا إلى كذا.
وكأنهم قدموه على العادة بأنه لا ببدل
لعدم اطرادها.

(والثانى)
لا، لان العادة عدم الابدال للزاد ولو لم يجده فيما بعد محل الفراغ بسعره فيه أبدل جزما.
نعم لو شرط عدم إبداله اتبع الشرط، ولو شرط قدرا فلم يأكل منه فالظاهر كما قاله السبكى أنه ليس للمؤجر مطالبته بنقص قدر أكله اتباعا للشرط، ويحتمل أن له ذلك للعرف، لانه لم يصرح بحمل الجميع في جميع الطريق.
قال: وهو الذى إليه نميل.
وخرج بعض الفقهاء ما يحمل عما يؤكل، وما حمل فتلف قبل الوصول فانه يبدل قطعا.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإن اختلفا في الرحله رحل لا مكبوبا ولا مستلقيا، وان انكسر المحمل أو الظل أبدل محملا مثله أو ظلا مثله، وإن اختلفا في الزاد الذى ينفد بعضه، فقال صاحب الزاد: أبدله بوزنه فالقياس أن يبدل له حتى يستوفى الوزن وقال: ولو قال قائل: ليس له أن يبدل من قبل أنه معروف أن الزاد ينقص قليلا ولا يبدل مكانه كان مذهبا والله تعالى أعلم من مذاهب الناس.
(فرع)
يجوز للمستأجر ضرب الدابة بقدر ما جرت به العادة، ويكبحها باللجام وحثها على السير بحسب طبيعتها، فان كانت من النوع الذى قال فيه علقمة: فأدركها ثانيا من عنانه
* يمر كمر الرائح المتحلب فليس له أن يضربها لادراكها المقصود مع راحة الراكب في سرعتها

(15/54)


وأما إن كانت غير ذلك فعلى حد قول امرئ القيس: فللساق ألهوب وللسوط درة
* وللزجر منه وقع أهوج منعب إلا أنه لا يجوز أن يكون أهوج منعب، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نخس بعير جابر وضربه، وكان أبو بكر رضى الله عنه يخرش بعيره بمحجنه.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا اكترى الرجل من الرجل الدابة فضربها أو نخسها بلجام أو ركضها فماتت سئل أهل العلم بالركوب، فان كان فعل من ذلك ما تفعل العامه فلا يكون عندهم فيه خوف تلف أو فعل بالكبح والضرب مثل ما يفعله بمثلها عندما فعله فلا أعد ذلك خرقه ولا شئ عليه، وان فعل ذلك عند الحاجه إليه بموضع قد يكون بمثله تلف أو فعله في الموضع الذى لا يفعل في مثله ضمن في كل حال من قبل أن هذا تعد، والمستعير هكذا إن كان صاحبه لا يريد أن يضمنه، فان أراد صاحبه أن يضمنه العارية فهو ضامن تعد أو لم يتعد.
وأما الرائض فان من شأن الرواض الذى يعرف به إصلاحهم للدواب الضرب على حملها من السير، والحمل عليها من الضرب أكثر ما يفعل الركاب غيرهم، فإذا فعل من ذلك ما يكون عند اهل العلم بالرياضة اصلاحا وتأديبا للدابة بلا إعناف بين لم يضمن إن عيت، وان فعل خلاف هذا كان متعديا وضمن والمستعير الدابة هكذا كالمكترى في ركوبها إذا تعدى ضمن، وإذا لم يتعد لم يضمن ثم قال: والذى ناخذ به في المستعير انه يضمن تعدى أو لم يتعد، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم (العارية مضمونه مؤداة) وهو آخر قوله صلى الله عليه وسلم اه هذا وقد سئل احمد رضى الله عنه عن ضرب الصبيان فقال: على قدر ذنوبهم ويتوقى يجهده الضرب.
وإذا كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه.
ومن ضرب من هؤلاء الضرب المأذون فيه لم يضمن ما تلف.
وبهذا في الدابة قال مالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد.
وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمن لانه تلف بجنايته فضمنه كغير المستأجر، وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبى لانه يمكنه تأديبه بغير الضرب (فرع)
إذا كترى دابة إلى مسافة فسلك أشق منها فهى مثل مسألة الزرع

(15/55)


ولانه متعد فلرب الدابة منعه من سلوك تلك الطريق.
وان اكترى لحمل القطن فحمل بوزنه حديدا أو حديدا فحمل بوزنه قطنا فالصحيح أن عليه أجر المثل لان ضرر أحدهما مخالف لضرر الآخر، فلم يتحقق كون المحمول مشتملا على المستحق بعقد الاجارة وزيادة عليه، فإذا أكراه لحمل قفيزين فحملها فوجدهما ثلاثة، فان كان المكترى تولى الكيل ولم يعلم المكرى بذلك رطل حنطة فحمل مائة شعيرا أو عكس ذلك لاجتماعهما بسبب ثقلها في محل واحد، وهو لخفته يأخذ من ظهر الدابة أكثر، فضررهما مختلف، وكذا كل مختلفى الضرر كما قلنا في الحديد والقطن.
فلو اكترى لعشرة اقفزة شعير فحمل عشرة اقفزة حنطة لانها أثقل دون عكسه بأن اكتراه لحمل عشرة أقفزة حنطة فحمل عشرة أقفزة شعيرا من غير زيادة أصلا فلا ضمان عليه لاتحاد جرمهما باتحاد كيلهما مع كون الشعير أخف، فلو اكترى لحمل مائة فحمل مائة وعشرة لزمه مع المسمى أجرة المثل للزيادة لتعديه، وان تلفت بذلك المحمول أو بسبب آخر ضمنها ضمان يد إن لم يكن صاحبها معها لكونه غاضبا لها بحمل الزيادة.
فان كان صاحبها معا وتلفت بسبب الحمل دون غيره إذ ضمانها ضمان جناية لاسيما ومالكها معها ضمن قسط الزيادة فقط لاختصاص يده بها، ولهذا لو سخره مع دابته فتلفت لم يضمنها المسخر لتلفها في يد مالكها، وفى قول يضمن نصف القيمة توزيعا على الرؤس.
ولو سلم المائة والعشرة إلى المؤجر فحملها جاهلا بالزيادة، كان قال له: مائه فصدقه ضمن المكترى القسط واجرة الزيادة على المذهب إذ المكرى لجهله صار كالآلة بتأثير تدليس المكترى.
والطريق الثاني أنه على القولين في تعارض الغرر والمباشرة، فان كان عالما كان وزن المؤجر وحمل، أو رأى المكترى يكيل ويحمل، أو أعلمه المكترى بحقيقة الكيل فلا أجرة للزيادة لعدم تدليس المستأجر ولا ضمان إن تلفت، وبهذا قال أحمد وأصحابه، الا أنهم اختلفوا في أجر القدر الزائد على العقد

(15/56)


على وجهين
(أحدهما)
لا اجر له كمذهبنا
(والثانى)
له أجر الزائد لانهما اتفقا على حمله على سبيل الاجارة فجرى مجرى المعاطاة في البيع ودخول الحمام من غير تقدير اجره.
قالوا وان كاله المكرى وحمله المكترى على الدابة عالما بذلك من غير ان يامر بحمله عليها فعليه اجر القفيز الزائد.
وان امره ففى وجوب الاجر وجهان عندهم.
(فرع)
قال النووي (رض) : وللمكترى استيفاء المنفعة بنفسه وبغيره.
قلت: وينبغى ان يكون غيره امينا، فلو شرط المكرى استيفاء المنفعة بنفسه بطل العقد، لان المكترى يملك المنفعة فلا ينازعه فيها المكرى، ومثله كمثل من يشترط على المشترى الا يبيع ما اشتراه، وله ان يركب ويسكن من هو مثله في الضرر اللاحق بالعين ودونه بالاولى، لان ذلك استيفاء للمنفعة المستحقة من غير زيادة، ولا يسكن حدادا ولا قصارا لما يحدثه القصار من الدق والازعاج وتاثير الدق في المبنى والازعاج للجار.
قال الرملي: الا إذا قال: لتسكن من شئت كازرع ما شئت، ونظر فيه الاذرعى فقال ان مثل ذلك يقصد به التوسعه دون الاذن في الاضرار، وقد رد الرملي بان الاصل خلافه، كما لا يجوز ابدال ركوب بحمل ويجوز عكسه، وان قال اهل الخبرة لا يتفاوت الضرر.
وبهذا قال احمد واصحاب الراى قال الشافعي مقررا: وهم يزعمون ان رجلا لو تكارى من رجل بيتا لم يكن
له ان يعمل فيه رحى ولا قصارة ولا عمل حدادين لان هذا مضر بالبناء، فأن عمل هذا فانهدم البيت فهو ضامن لقيمة البيت، وان سلم البيت فله اجره.
ويزعمون ان من تكارى قميصا فليس له ان ياتزر به، لان القميص لا يلبس هكذا، فان فعل فتخرق ضمن قيمة القميص، وان سلم كان له اجره، ويزعمون انه لو تكارى قبة لينصبها فنصبها في شمس أو مطر فقد تعدى لاضرار ذلك بها.
فان عطبت ضمن وان سلمت فعليه اجرها مع اشياء من هذا الضرب يكتفى باقلها حتى يستدل على انهم قد تركوا ما قالوا ودخلوا فيما عابوا مما مضت به الآثار، ومما فيه صلاح الناس.
اه

(15/57)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان استأجر عينا لمنفعة وشرط عليه ان لا يستوفى مثلها أو دونها أو لا يستوفيها لمن هو مثله أو دونه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن الاجارة باطله لانه شرط فيها ما ينافى موجبها فبطلت
(والثانى)
أن الاجارة جائزة، والشرط باطل، لانه شرط لا يؤثر في حق المؤجر، فألغى وبقى العقد على مقتضاه (والثالث) أن الاجارة جائزة والشرط لازم، لان المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به.

(فصل)
وللمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها لان الاجارة كالبيع وبيع المبيع يجوز بعد القبض فكذلك إجارة المستأجر، ويجوز من المؤجر وغيره كما يجوز بيع المبيع من البائع وغيره وهل يجوز قبل القبض فيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يجوز كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ
(والثانى)
يجوز لان المعقود عليه هو المنافع، والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين، فلم يؤثر فيها قبض العين (والثالث) أنه يجوز إجارتها من المؤجر لانها في قبضته، ولا يجوز من
غيره لانها ليست في قبضته، ويجوز أن يؤجرها برأس المال وبأقل منه وبأكثر لانا بينا أن الاجارة بيع وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه، فكذلك الاجارة
(فصل)
وإن استأجر عينا لمنفعة فاستوفى أكثر منها فإن كانت زيادة تتميز بأن اكترى ظهرا ليركبه إلى مكان فجاوز أو ليحمل عليه عشرة أقفزة فحمل عليه أحد عشر قفيزا لزمه المسمى لما عقد عليه وأجرة المثل لما زاد لانه استوفى المعقود عليه فاستقر عليه المسمى واستوفى زيادة فلزمه ضمان مثلها، كما لو اشترى عشرة أقفزة فقبض أحد عشر قفيزا.
فان كانت الزيادة لا تتميز بأن اكترى أرضا ليزرعها حنطة فزرعها دخنا، فقد اختلف أصحابنا فيه، فذهب المزني وأبو اسحاق إلى أن المسألة على قولين
(أحدهما)
يلزمه أجرة المثل للجميع، لانه تعدى بالعدول عن المعقود عليه إلى غيره، فلزمه ضمان المثل كما لو اكترى أرضا للزراعة فزرع أرضا أخرى.

(15/58)


(والثانى)
يلزمه المسمى وأجرة المثل للزيادة، لانه استوفى ما استحقه وزيادة، فأشبه إذا استأجر ظهرا إلى موضع فجاوزه، وذهب القاضى أبو حامد المروروذى إلى أن المسألة على قول واحد، وأن صاحب الارض بالخيار بين أن يأخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وبين أن يأخذ أجرة للجميع، لانه أخذ شبها ممن استأجر ظهرا إلى مكان فجاوزه، وشبها ممن اكترى أرضا للزرع فزرع غيرها، فخير بين الحكمين.

(فصل)
وان أجره عينا ثم أراد أن يبدلها بغيرها لم يملك لان المستحق معين فلم يملك إبداله بغيره كما لو باع عينا فأراد أن يبدلها بغيرها.
(الشرح) إذا اشترط ألا يستوفى في المنفعة مثلها أو ما دونها أو اشتراط أن
لا يستوفيها بمثله أو من هو دونه، فعلى ثلاثة أوجه.
أحدها: أن الاجارة باطله لاشتراط ما ينافى موجبها وقد عرفنا من الشواهد الماضية أنه لو اشتراط أمرا كأن قال: أتكارى منك محملا أو زاملة على المنصوص في الام، فإن هذا الشرط يبطل العقد، كما لو قال أبيعك أقل من عشرة فما دونها بكذا فان هذا البيع باطل، لانه ينافى موجب العقد الذى يوجب ملك المنفعة والتسلط على استيفائها بنفسه وبنائبه، واستيفاء بعضها بنفسه وبعضها بنائبه.
والشرط ينافى ذلك فكان باطلا.
والوجه الثاني: أن الاجارة جائزة والشرط باطل لانه شرط لا يؤثر في حق المستأجر من استيفاء المنفعة، وفارق البيع، لان البائع يده هنا على المبيع والمستأجر يده على المنفعة، وبهذا قال أحمد، لان المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به.
والوجه الثالث: صحة الشرط وصحة العقد لان المستأجر يملك المنفعة من قبل المؤجر فليس للمستأجر أن يتعدى بامتلاك لم يرض به فلزمه الشرط وصحت الاجارة وقد فصلنا ذلك على أصل المذهب، ونصه في الام على ما سيأتي.
(فرع)
يجوز للمستأجر أن يؤجر العين التى استأجرها إذا قبضها، ونص أحمد على ذلك، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة

(15/59)


وأبى سليمان بن عبد الرحمن والنخعي والشعبى والثوري والشافعي وأصحاب الرأى وذكر القاضى من الحنابلة فيه رواية أخرى أنه لا يَجُوزُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ربح ما لم يضمن، والمنافع لم تدخل في ضمانه، ولانه عقد على ما لم يدخل في ضمانه فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه، والاول أصح، لان قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يجوز التصرف فيها فجاز العقد
عليها كبيع الثمرة على الشجرة، وقياس الرواية الاخرى باطل على هذا الاصل إذا ثبت هذا: فإنه لا تجوز إجارته إلا لمن يقوم مقام أو دونه في الضرر لما مضى فأما اجارتها قبل قبضها فلا تجوز من غير المؤجر في أحد الوجوه الثلاثة عندنا وأحد الوجهين عند الحنابلة، وهو قول أبى حنيفة، لان المنافع مملوكة بعقد معاوضة فاعتبر في جواز العقد عليها القبض كالاعيان.
والوجه الثاني يجوز العين لان قبض العين لا ينتقل به الضمان إليه، فلم يقف جواز التصرف عليه، فأما إجارتها قبل القبض من المؤجر - وهو الوجه الثالث عندنا وهو قول عند الحنالبة - فإذا قلنا: لا يجوز من غير المؤجر كان فيه وجهان أحدهما: لا يجوز لانه عقد عليها قبل قبضها، والثانى: يجوز لان القبض لا يتعذر عليه بخلاف الأجنبي، وأصلهما: بيع الطعام قبل قبضه لا يصح من غير بائعه رواية واحدة، وهل يصح من بائعه؟ على روايتين، فأما إجارتها بعد قبضها من المؤجر فجائزة، وبهذا قال أحمد والشافعي رضى الله عنه.
وقال أبو حنيفة لا يجوز لان ذلك يؤدى إلى تناقض الا حاكم، لان التسليم مستحق على الكراء، فإذا اكتراها صار مستحقا له فيصير مستحقا لما يستحق عليه، وهذا تناقض.
دليلنا أن كل عقد جاز مع غير العاقد جاز مع العاقد كالبيع وما ذكروه لا يصح لان التسليم قد حصل، وهذا المستحق له تسليم آخر يبطل بالبيع فإنه يستحق عليه تسليم العين، فإذا اشتراها استحق تسليمها، فان قال: التسليم ههنا مستحق في جميع المدة بخلاف البيع.
قلنا: المستحق تسليم العين وقد حصل، وليس عليه تسليم آخر غير أن العين من ضمان المؤجر، فإذا تعذرت المنافع بتلف الدار وغصبها رجع عليه لانها بسبب كان في ضمانه.

(15/60)


(فرع)
ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الاجر وزيادة، وهذا قول أحمد
والشافعي وأبى ثور وابن المنذر، وروى ذلك عن عطاء والحسن والزهرى.
وفى رواية لاحمد: إن أحدث في العين زيادة جاز له أن يكريها بزيادة، والا لم تجز الزيادة، فإن فعل تصدق بالزيادة، وروى هذا عن الشعبى والثوري وأبو حنيفة لانه يربح فيما لم يضمن.
وعن أحمد رواية ثالثة: إذا أذن له فيها المالك جاز، وإذا لم يأذن لم يجز، وكره ابن المسيب وأبو سلمة وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والشعبى والنخعي الزيادة مطلقا لدخولها فيما لم يضمن، دليلنا أنه عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه.
وأما الحديث فإن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه، فانها لو فاتت من غير استيفائه كانت من ضمانه، ولا يصح القياس على بيع الطعام قبل قبضه.
فإن البيع ممنوع منه بالكلية سواء ربح أو لم يربح، وههنا جائز في الجملة.
وتعليلهم بأن الربح في مقابلة عمله ملغى بما إذا كنس الدار ونظفها، فان ذلك يزيد في أجرها في العادة.
(فرع)
كل عين استأجرها لمنفعة فله أن يستوفى تلك المنفعة وما دونها في الضرر.
هذا ما سبق ان بيناه.
وبه قال أحمد.
ولا نعرف في ذلك مخالفا، ومتى فعل ما ليس له كان ضامنا، وقد ضرب المصنف مثلا بالارض يستأجرها لزرعها حنطة فزرعها دخنا.
قال الماوردى في الحاوى الكبير 1) بعد ان أورد قول الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: وَلَوْ اكتراها ليزرعها قمحا فله أن يزعها ما لا يضر بالارض إضرار القمح، وهذا كما قال: إذا استأجر أرضا ليزرعها حنطة فله أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، وليس له
__________
(1) الحاوى الكبير مخطوطة في دار الكتب العربية ذات أربعة وعشرين مجلدا ومن نوعها المجلد الاول في دار الكتب الازهرية والحاوى الصغير مخطوطة
في دار الكتب العربية ذات أربعة عشر مجلدا.
على أن نقولنا التى اعتمدناها هنا في التكملة هذه من الحاوى الكبير.

(15/61)


أن يزرعها ما ضرره اكثر من ضرر الحنطة.
وقال داود بن على: لا يجوز إذا استأجرها لزرع الحنطة أن يزرعها غير الحنطة، وان كان ضرره أقل من ضرر الحنطة استدلالا بقوله تعالى (أوفوا بالعقود) فلم يجز العدول عما تضمنه العقد قال: ولانه لما لم يجز إذا اشترى بدراهم بأعيانها أن يدفع غيرها من الدراهم وان كانت مثلها لما فيه من العدول عما اقتضاه العقد، كذلك في اجارة الارض لزرع الحنطة لا يجوز أن يعدل فيها عن زرع الحنطة.
ودليلنا ان ذكر الحنطة في اجارة الارض انما هو لتقدير المنفعة به لا لتعيين استيفائه، الا تراه لو تسلم الارض ولم يزرعها لزمته الاجرة، فإذا ثبت أن ذكر الحنطة لتقدير المنفعة فهو إذا استوفى المنفعة فقدرت به في العقد وبغيره جاز، كما لو استأجر لحمل قفيز من حنطة فحمل قفيزا غيره، وكما لو استاجر ليزرع حنطة بعينها فزرع غيرها، ولان عقد الاجارة يتضمن اجرة يملكها المؤجر ومنفعه يملكها المستأجر، فلما جاز للمؤجر ان يستوفى حقه كيف شاء بنفسه وبوكيله وبمن يحيله جاز للمستأجر أن يستوفى حقه من المنفعة كيف شاء بزرعها الحنطة وغير الحنطة، وباعارتها لمن يزرعها وبتركها وتعطيلها.
فأما استدلاله بقوله تعالى (أوفوا بالعقود) فمثل الحنطة ما يتضمنه العقد بما دللنا.
وأما الجواب عما استدل به من تعيين الاثمان بالعقد فكذا في الاجارة، فهو أن الفرق بينهما في التعيين متفق عليه، لان الدارهم تتعين بالعقد حتى لا يجوز العدول إلى جنسها والحنطة لا تتعين في عقد الاجارة وانما الخلاف في تعيين جنسها لاقراره لو استاجرها لزرع حنطة بعينها جاز له العدول إلى غيرها من
الحنطة، فكذلك يجوز ان يعدل إلى غير الحنطة.
اه فإذا تقرر هذا لم يخل حال المستأجر ليزرع الارض حنطة من ثلاثة اقسام: 1 - أن يستأجرها لزرع الحنطة وما أشبهها، فيجوز له مع موافقة داود أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، الا أن داود يجيزه بالشرط ونحن نجيزه بالعقد والشرط تأكيدا 2 - أن يستأجرها لزرع الحنطة ويغفل ذكر ما سوى الحنطة مما ضره أكثر من الحنطة أو أقل،

(15/62)


3 - أن يستأجرها لزرع الحنطة على ان لا يزرع سواها ففيه ثلاثة أوجه حكاها ابن أبى هريرة (أحدها) أن الاجارة باطلة
(والثانى)
أن الاجارة جائزة والشرط باطل، وله أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة لانه لا يؤثر في حق المؤجر ما يفى (والثالث) أن الاجارة جائزة والشرط لازم، وليس له أن يزرعها غير الحنطة لان منافع الاجارة إنما تملك بالعقد على ما سمى فيه، ألا تراه لو استأجرها للزرع لم يكن له الغرس فكذلك إذا استأجرها لنوع من الزرع، قال الشافعي: وان كان يضرها مثل عروق تبقى فليس ذلك له، فان فعل فهو متعد ورب الارض بالخيار ان شاء أخذ الكراء وما نقص الارض على ما ينقصها زرع القمح ويأخذ منه كراء مثلها.
قال المزني: يشبه أن يكون قوله الاول أولى، لانه أخذ ما كرى وزاد على الكرى ضررا، كرجل اكترى منزلا يدخل فيه ما يحتمل سقفه فجعل فيه أكثر.
إذا عرف هذا فانه إذا استأجر أرضا لزرع حنطة لم يكن له ان يزرعها ولا أن يغرسها ما هو أكثر ضررا منها لانه غير مأذون فيه فصار كالغاصب، وهل يصير بذلك ضامنا لرقبة الارض حتى يضمن قيمتها ان غصبت أو تلفت بسيل،
على وجهين
(أحدهما)
وهو قول أبى حامد الاسفرايينى أنه يضمنها لانه قد صار بالعدول عما استحقه غاصبا.
والغاصب ضامن
(والثانى)
وهو الاصح، أنه لا يضمن رقبة الارض لان تعديه في المنفعة لا في الرقبة، فإن تمادى الامر بمستأجرها حتى حصد زرعه ثم طولب بالاجرة فالذي نص عليه الشافعي أن رب الارض بالخيار بين أن يأخذ المسمى وما نقصت الارض وبين أن يأخذ أجرة المثل، فاختلف أصحابنا، فكان المزني وأبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يخرجون تخيير الشافعي على قولين
(أحدهما)
أن رب الارض يرجع بأجرة المثل دون المسمى لان تعدى الزارع بعدوله عن الحنطة إلى ما هو أضر منها كتعديه بعدوله عن الارض إلى غيرها، فلما كان بعدوله عن الارض إلى غيرها ملتزما لاجرة المثل دون المسمى فكذلك بعدوله إلى غير الحنطة.
والقول الثاني: أنه يرجع بالمسمى من الاجرة، وينقص الضرر الزائد على

(15/63)


الحنطه لانه قد استوفى ما استحقه وزاد، فصار كمن استأجر بعيرا من مكة إلى المدينة فتجاوز به إلى البصرة فعليه المسمى وأجرة المثل في الزيارة.
وقال الربيع وأبو العباس ابن سريج وأبو حامد المروروذى: إن المسألة على قول واحد، وليس التخيير فيه اختلافا للقول فيها، فيكون رب الارض بالخيار بين أن يرجع بالمسمى وما نقصت الارض بالزيادة كالمجاوز بركوب الدابة وبين أن يفسخ الاجارة ويرجع بأجرة المثل لانه عيب قد دخل عليه فجاز أن يكون مخيرا به بين المقام أو الفسخ فأما المزني فإنه اختار أن يرجع بالمسمى وما نقصت الارض.
وتابعه أبو اسحاق المروزى واستدلا بمسألتين: (إحداهما) أن يستأجر بيتا لحمولة مسماة فيعدل إلى غيرها فهذا أمر ينظر،
فان استأجر أسفل البيت ليحرز، فيه مائة رطل حديد فأحرز فيه مائة وخمسين رطلا، أو عدل عن الحديد إلى القطن فلا ضمان عليه، لان سفل البيت لا تؤثر فيه هذه الزيادة ولا العدول عن الجنس، وان كان علو البيت تكون فيه الحمولة على سقفه، فإن كانت الاجارة لمائة رطل من حديد فوضع عليه مائة وخمسين رطلا فهذه زيادة متميزة فيلزمه المسمى من الاجرة وأجرة مثل الزيادة.
وان كان قد استأجر لمائة رطل قطنا فوضع فيه مائة رطل من حديد فهذا ضرر لا يتميز، لان القطن يتفرق على السقف والحديد مجتمع في موضع منه، فكان أضر فيكون رجوع المؤجر على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا في القولين.
والمسألة الثانية من دليل المزني على اختيار أن يستأجر دارا للسكنى فيسكن فيها حدادين أو قصارين أو ينصب رحى، فهذه زيادة ضرر لا تتميز، فيكون رجوع المؤجر على ما وصفنا من اختلاف أصحابنا في القولين.
قال الماوردى: ليس للمزني من دليل فيما استشهد به من مذهب ولا حجاج.
(فرع)
قوله: وان أجره عينا ثم أراد أن يبدلها الخ.
قال الشافعي في الام: وإذا تكارى ابلا بأعيانها ركبها، قال وان تكارى حمولة ولم يذكر بأعيانها وركب ما يحمله، فان حمله على بعير غليظ فان كان ذلك ضررا متفاحشا أمر أن يبدله، وان كان شبيها بما يركب الناس لم يجبر على ابداله.
والله أعلم بالصواب

(15/64)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن استأجر أرضا مدة للزراعة فأراد أن يزرع ما لا يستحصد في تلك المدة، فقد ذكر بعض أصحابنا أنه لا يجوز، وللمؤجر أن يمنعه من زراعته فإن بادر المستأجر وزرع لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة، ويحتمل عندي أنه لا يجوز منعه من الزراعة، لانه يستحق الزراعة إلى أن تنقضي المدة فلا يجوز
منعه قبل انقضاء المدة، ولانه لا خلاف أنه إن سبق وزرع لم يجبر على نقله، فلا يجوز منعه من زراعته.

(فصل)
وإن اكترى أرضا مدة للزرع لم يخل إما أن يكون لزرع مطلق أو لزرع معين، فان كان لزرع مطلق فزرع وانقضت المدة ولم يستحصد الزرع نظرت، فان كان بتفريط منه بأن زرع صنفا لا يستحصد في تلك المدة أو صنفا يستحصد في المدة إلا أنه أخر زراعته، فللمكرى أن يأخذه بنقله، لانه لم يعقد إلا على المدة فلا يلزمه الزيادة عليها لتفريط المكترى، فان لم يستحصد لشدة البرد أو قلة المطر ففيه وجهان.

(أحدهما)
يجبر على نقله، لانه كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة الاجارة، فإذا لم يفعل لم يلزم المكرى أن يستدرك له ما تركه.

(والثانى)
لا يجبر وهو الصحيح، لانه تأخر من غير تفريط منه، فان قلنا يجبر على نقله وتراضيا على تكره باجارة أو إعارة جاز، لان النقل لحق المكرى وقد رضى بتركه، وإن قلنا: لا يجبر فعليه المسمى إلى انقضاء المدة بحكم العقد وأجرة المثل لما زاد لانه كما لا يجوز الاضرار بالمستأجر في نقل زرعه، لا يجوز الاضرار بالمؤجر في تفويت منفعة أرضه.
فان كان لزرع معين لا يستحصد في المدة وانقضت المدة والزرع قائم نظرت فان شرط عليه القلع فالاجارة صحيحة لانه عقد على مدة معلومة ويجبر على قلعه لانه دخل على هذا الشرط، فان تراضيا على تركه باجاره أو إعارة جاز لما ذكرناه وإن شرط التبقيه بعد المدة فالاجارة باطلة لانه شرط ينافى مقتضى العقد فأبطله فان لم يزرع كان لصاحب الارض أن يمنعه من الزراعة لانها زراعة في عقد باطل

(15/65)


فان بادر وزرع لم يجبر على القلع، لانه زرع مأذون فيه، وعليه أجرة المثل لانه
استوفى منفعة الارض باجارة فاسدة، فان أطلق العقد ولم يشرط التبقية ولا القلع فَفِيهِ وَجْهَانِ.

(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: أنه يجبر على قلعه لان العقد إلى مدة وقد انقضت فأجبر على قلعه كالزرع المطلق.

(والثانى)
لا يجبر لانه دخل معه على العلم بحال الزرع وأن العادة فيه الترك إلى الحصاد، فلزمه الصبر عليه، كما لو باع ثمرة بعد بدو الصلاح وقبل الادراك ويخالف هذا إذا اكترى لزرع مطلق، لان هناك يمكنه أن يزرع ما يستحصد في المدة، فإذا ترك كان ذلك بتفريط منه فأجر على قلعه، وههنا هو زرع معنى علم المكرى أنه لا يستحصد في تلك المدة، فإذا قلنا: يجبر فتراضيا على تركه باجارة أو إعارة جاز لما ذكرناه، وإن قلنا: لا يجبر لزمه المسمى للمدة، وأجرة المثل للزيادة، لانه كما لا يجوز الاضرار بالمكترى في نقل زرعه لا يجوز الاضرار بالمكرى في إبطال منفعة أرضه.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا تكاراها سنة فزرعها فانقضت السنة والزرع فيها لم يباغ أن يحصد - فان كانت السنة يمكنه أن يزرع فيها زرعا يحصد قبلها فالكراء جائز، وليس لرب الارض أن يثبت زرعه وعليه أن ينقله عن الارض إلا أن يشاء رب الارض تركه، وإذا شرط أن يزرعها صنفا من الزرع يستحصد أو يستقصل قبل السنة فأخره إلى وقت من السنة فانقضت السنة قبل بلوغه فكذلك أيضا، وإن تكارى مدة أقل من سنة وشرط أن يزرعها شيئا بعينه ويتركه حتى يحصد فكان يعلم أنه لا يمكنه أن يستحصد في مثل هذه المدة تكاراها فالكراء فاسد من قبل أن أثبت بينهما شرطهما ولم أثبت على رب الارض أن يبقى زرعه فيها بعد انقضاء المدة أبطلت شرط الزارع أن يتركه حتى يستحصد، وإن أثبت له زرعه حتى يستحصد أبطلت شرط رب الارض فكان
هذا كراء فاسدا ولرب الارض كراء مثل أرضه إذا زرع، وعليه تركه حتى يستحصد.

(15/66)


وصورة هذه المسألة أن يستأجر الرجل أرضا مدة معلومة ليزرعها موصوفا فزرعها، ثم انقضت المدة قبل استحصاد زرعها، فلا يخلو حال المدة من ثلاثة أحوال (احداها) أن يعلم أن ذلك الزرع يستحصد في مثلها (والثانية) أن يعلم أنه لا يستحق في مثلها (والثالثة) أن يقع الشك فيه، فأما الاولى فلا تخلو من ثلاثة أقسام.
(أحدها) أن تأخير استحصاده لعدوله عن الجنس الذى شرطه إلى غيره مثل أن يستأجر خمسة أشهر لزرع الباقلا فيزرعها برا فتنقضى المدة، والبر غير مستحصد فهذا يؤخذ بقلعه قبل استحصاده، لانه بعدوله عن الباقلا إلى البر يصير متعديا فلم يستحق استيفاء زرع تعدى فيه، فان تراضى المؤجر والمستأجر على تركه إلى أوان الحصاد بأجرة المثل فيما زاد على المدة أقر، وان رضى المستأجر وأبى المؤجر أو رضى المؤجر وأبى المستأجر من بذل أجرة المثل قلع.
(والقسم الثاني) أن يكون تأجير استحصاده لتأخير بذره من عدول عن جنسه فهذا مفرط ويؤخذ بقلع زرعه قبل استحصاده لان تفريطه لا يلزم غيره، فان بذل أجرة مثل المدة الزائدة ورضى المؤجر بقبولها ترك والا قلع.
(والقسم الثالث) أن يكون تأخير استحصاده لامر سماوي من طول برد أو تأخر مطر أو انخفاض نيل أو دوام ثلج ففيه وجهان.
أحدهما: يترك إلى وقت استحصاده لانه لم يكن من المستأجر عدوان ولا تفريط، فإذا ترك إلى وقت الحصاد ضمن المستأجر أجرة مثل المدة الزائدة على عقده.
الوجه الثاني: أن يؤخذ بقلعه ولا يترك لانه قد كان بقدر على الاستظهار لنفسه في استزادة المدة
خوفا مما عساه يحتمل من أسباب سماوية فلو لم يأخذ لنفسه فرصة صار مفرطا.
أما الحال الثانية: وهو أن يعلم مجارى العادة أن مثل ذلك الزرع لا يستحصد في مثل تلك المدة، مثل أن يستأجرها أربعة أشهر لزرعها برا أو شعيرا فهذا اما: (أ) أن يشترط قلعه عند انقضاء المدة، فهذه اجارة جائزة، لانه قد يريد زرعه قصيلا ولا يريده حبا، فإذا انقضت المدة أخذ بقلع زرعه وقطعه.
(ب) أن يشترط تركه إلى وقت حصاده فهذا اجارة فاسدة، لان اشتراط

(15/67)


استيفاء الزرع بعد مدة الاجارة ينافى موجبها فبطلت، ثم للزارع استيفاء زرعه وقت حصاده، وإن بطلت الاجارة، ولا يؤخذ بقلع زرعه لانه زرع عن إذن اشترط فيه الترك وعليه أجرة المثل، والفرق بين هذه المسألة في استيفاء الزرع مع فساد الاجارة وبين أن يؤخذ بقلعه فيما تقدم من الاحوال والاقسام مع صحة الاجارة أن الاجارة إذا بطلت روعى الاذن دون المدة، وإذا صحت روعيت المدة (ج) أن يطلق العقد فلا يشترط فيه قلعا ولا تركا فقد اختلف أصحابنا هل إطلاقه يقتضى القلع أو الترك؟ على وجهين.

(أحدهما)
وهو قول أبى إسحاق المروزى: أنه يقتضى القلع اعتبارا بموجب العقد، فعلى هذا الاجارة صحيحة، ويؤخذ المستأجر بقلع زرعه عند تقضى المدة
(والثانى)
وهو ظاهر كلام الشافعي أن الاطلاق يقتضى الترك إلى أوان الحصاد اعتبارا بالعرف فيه، كما أن ما لم يبد صلاحه من الثمار يقتضى إطلاق بيعه للترك إلى وقت الجداد اعتبارا بالعرف فيه، فعلى هذا تكون الاجارة فاسدة، ويكون للمستأجر ترك زرعه إلى وقت حصاده، وعليه أجرة المثل كما لو شرط الترك.
الحال الثالثة: وهو أن يقع الشك في المدة هل يستحصد الزرع فيها؟ كأن استأجرها خمسة أشهر لزرع البر والشعير، فقد يجوز أن يستحصد الزرع في هذه
المدة في بعض البلاد وبعض السنين، ويجوز أن لا يستحصد فيكون حكم هذه الحال حكم ما علم أنه يستحصد فيه، على ما مضى إسقاطا للشك واعتبارا باليقين هكذا أفاده الماوردى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن اكترى أرضا للغراس مدة لم يجز أن يغرس بعد انقضائها، لان العقد يقتضى الغرس في المدة فلم يملك بعدها، فإن غرس في المدة وانقضت المدة نظرت، فإن شرط عليه القلع بعد المدة أخذ بقلعه لما تقدم من شرطه ولا يبطل العقد بهذا الشرط، لان الذى يقتضيه العقد هو الغراس في المدة، وشرط القلع بعد المدة لا يمنع ذلك، وإنما يمنع من التبقية بعد المدة، والتبقة بعد

(15/68)


المدة من مقتضى الاذن لا من مقتضى العقد، فلم يبطل العقد بإسقاطها، فإذا قلع لم يلزمه تسوية الارض لانه لما شرط القلع رضى بما يحصل به من الحفر، فإن أطلق العقد ولم يشترط القلع ولا التبقية لم يلزمه القلع، لان تفريغ المستأجر على حسب العادة، ولهذا لو اكترى دارا وترك فيها متاعا وانقضت المدة لم يلزمه تفريغها إلا على حسب العادة في نقل مثله، والعادة في الغراس التبقية إلى أن يجف ويستقلع.
فإن اختار المكترى القلع نظرت، فإن كان ذلك قبل انقضاء المدة ففه وجهان أحدهما: يلزمه تسوية الارض، لانه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه، فلزمه تسوية الارض، والثانى: لا يلزمه لانه قلع الغراس من أرض له عليها يد فإن كان ذلك بعد انقضاء المدة لزمه تسوية الارض وجها واحدا لانه قلع الغراس من أرض غيره من غير إذن ولا يد، فان اختار التبقية نظرت، فان أراد صاحب الارض أن يدفع إليه قيمة الغراس ويتملكه أجبر المكترى على
ذلك لانه يزول عنه الضرر بدفع القيمة، فان أراد أن يقلع نظرت، فان كانت قيمة الغراس لا تنقص بالقلع أجبر المكترى على القلع، لانه لا ضرر عليه في القلع، فان كانت قيمة الغراس تنقص بالقلع، فان ضمن له أرش ما نقص بالقلع أجبر عليه، لانه لا ضرر عليه بالقلع مع دفع الارش، فان أراد أن يقلع ولا يضمن أرش النقص لم يجبر المكترى.
وقال المزني يجبر لانه لا يجوز أن ينتفع بأرض غيره من غير رضاه، وهذا خطأ، لان في قلع ذلك من غير ضمان الارش إضرارا بالمكترى، والضرر لا يزال بالضرر.
فان اختار أن يقر الغراس في الارض ويطالب المكترى بأجرة المثل أجبر المكترى، لانه كما لا يجوز الاضرار بالمكترى بالقلع من غير ضمان، لا يجوز الاضرار بالمكرى بابطال منفعة الارض عليه من غير أجرة، فان أراد المكترى أن يبيع الغراس من المكرى جاز، وإن أراد بيعه من غيره ففيه وجهان، وقد بيناهما في كتاب العارية، فان اكترى بشرط التبقية بعد المدة جاز، لان إطلاق

(15/69)


العقد يقتضى التبقية فلا يبطل بشرطها، والحكم في القلع والتبقية على ما ذكرناه فيه إذا أطلق العقد.

(فصل)
فإن اكترى أرضا بإجارة فاسدة وغرس كان حكمها في القلع والاقرار على ما بيناه في الاجارة الصحيحة لان الفاسد كالصحيح فيما يقتضيه من القلع والاقرار فكان حكمهما واحدا، وبالله التوفيق (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وان قال اغرسها وازرعها ما شئت فالكراء جائز، قال المزني: أولى بقوله ألا يجوز هذا لانه لا يدرى يغرس أكثر فيكثر الضرر على صاحبها أو لا يغرس
وهذه العبارة تشتمل على ثلاث مسائل، احداهن أن يقول: أجرتكها لتزرعها ان شئت أو تغرسها ان شئت فالاجارة صحيحة، وهو مخير بين زرعها ان شاء وبين غرسها، فان زرع بعضها وغرس بعضها جاز، لانه لما جاز له غرس الجميع كان غرس البعض أولى بالجواز.
الثانية أن يقول: قد أجرتكها لتزرعها أو تغرسها، فالاجارة باطلة، لانه لم يجعل له الامرين معا، ولا أحدهما معينا، فصار ما أجره له مجهولا الثالثة أن يقول: قد أجرتكها لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو مذهب المزني أن الاجارة باطلة، لانه لما لم يخيره بين الامرين وجمع بينهما صار ما يزرع منها ويغرس مجهولا، وهذا قول أبى اسحاق المروزى
(والثانى)
وهو ظاهر كلام الشافعي.
وقال ابن أبى هريرة: أن الاجارة صحيحة وله أن يزرع النصف ويغرس النصف لان جمعه بين الامرين يقتضى التسوية بينهما، فلو زرعها جميعا جاز، لان زرع النصف المأذون في غرسه أقل ضررا، ولو غرسها جميعا لم يجز لان غرس النصف المأذون في زرعه أكثر ضررا قال الشافعي رضى الله عنه: وان انقضت سنوه لم يكن لرب الارض أن يقلع الغراس حتى يعطيه قيمته وقيمة ثمرته ان كانت فيه يوم نقلعه، ولرب الارض الغراس ان شاء أن نقلعه على أن عليه ما نقص من الارض، والغراس كالبناء إذا كان باذن مالك الارض مطلقا.

(15/70)


قال المزني: القياس عندي أنه إذا حد له أجلا يغرس فيه فانقضى الاجل وأذن له أن يبنى في عرصة له، فانقضى الاجل فالارض والعرصة بعد انقضاء الاجل مردودان.
وصورتها فيمن استأجر أرضا ليبنى فيها ويغرس فانقضى الاجل والبناء
والغراس قائم في الارض فليس له بعد انقضاء الاجل أن يحدث بناء ولا غرسا، فإن فعل كان متعديا وأخذ بقلع ما أحدثه بعد الاجل من غرس وبناء، فأما القائم في الارض قبل انقضاء الاجل فلا يخلو حالهما فيه عند العقد من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يشترطا قلعه عند انقضاء المدة فيؤخذ المستأجر بقلع غرسه وبنائه لما تقدم من شرطه، وليس عليه تسوية ما حدث من حفر الارض لانه مستحق بالعقد (الثانية) أن يشترطا تركه بعد انقضاء المدة فيقر ولا يفسد العقد بهذا الشرط لانه من موجباته لو أخل بالشرط ويصير بعد انقضاء المدة مستعيرا على مذهب الشافعي فلا يلزمه أجرة، وعلى مذهب المزني عليه الاجرة ما لم يصرح له بالعارية فإن قلع المستأجر غرسة وبنائه لزمه تسوية ما حدث في حفر الارض لانه لم يستحقه بالعقد، وإنما استحقه بالملك، وهذا قول جميع أصحابنا وإنما اختلفوا في تعليله فقال بعضهم: العلة فيه أنه لم يستحقه بالعقد، وهو التعليل الذى ذكرناه فعلى هذا لو قلعه قبل انقضاء المدة لالزمه تسوية الارض.
والحال الثالثة: أن يطلقا العقد فلا يشرطا فيه قلعه ولا تركه فينظر، فإن كانت قيمة الغرس والبناء مقلوعا كقيمته قائما أخذ المستأجر بقلعه لانه لا ضرر يلحقه فيه ولا نقص.
وان كانت قيمته مقلوعا أقل من قيمته قائما وهو الاغلب نظر، فان بذل رب الارض قيمة الغرس والبناء قائما، أو ما بين قيمته مقلوعا لم يكن للمستأجر تركه، لان ما يدخل عليه من الضرر بقلعه يزول ببذل القيمة أو النقص، وقيل: لا يجبرك على أخذ القيمة ولكن يخيرك بين أن تقلعه أو تأخذ قيمته وليس لك إقراره وتركه، وإن لم يبذل رب الارض قيمة الغرس والبناء ولا قدر النقص نظر في المستأجر، فان امتنع من بذل أجرة المثل بعد تقضى

(15/71)


المدة لم يكن له إقرار الغرس والبناء وأخذ بقلعه، وإن بذل له أجرة المثل مع امتناع رب الارض من بذل القيمة أو النقص، فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أن الغرس والبناء مقران لا يؤخذ المستأجر بقلعهما ولا يجبر رب الارض بعد انتهاء المدة على تركهما استدلالا بما ذكره المزني من قول الله تَعَالَى (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) وليس من رب الارض رضى بالترك فلم يجبر عليه، ولانه لما أخذ بقلع زرعه عند انقضاء المدة لم يقر إلى أوان حصاده مع أن زمان حصاده محدود، فلان يؤخذ بقلع الغرس والبناء مع الجهل بزمانهما أولى، ولان تحديد المدة يوجب اختلاف الحكم في الاستيفاء كما أوجب اختلاف الحكم في إحداث الغرس والبناء، وهذا المذهب أظهر حجاجا وأصح اجتهادا.
واستدل أصحابنا على تركه وإقراره بقوله صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) رواه أبو داود والدارقطني عن عروة بن الزبير مرسلا، فاقتضى ذلك وقوع الفرق بين الظالم والمحق، فلم يجز أن يسوى بينهما في الاخذ بالقلع.
قالوا ولان من أذن لغيره في إحداث حق في ملك كان محمولا فيه على العرف المعهود في مثله كمن اذن لجاره في وضع اجزاعه في جداره كان عليه تركه على الدوام، ولم يكن له اخذه بقلعها، لان العادة جارية باستدامة تركها، كذلك الغرس والبناء العادة فيهما جارية بالترك والاستبقاء دون القلع، والتناول محمول على العادة.
وهذا الاستدلال يفسد بالزرع لان العادة جارية بتركه إلى أوان حصاده.
ثم هي غير معتبرة حين يؤخذ بقلعه.
(فرع)
وإذا كانت الاجارة فاسدة فبنى المستأجر فيها وغرس أو زرع فهو في الاقرار والترك على ما ذكرنا في الاجارة الصحيحة، لان الفاسد في كل عقد حكمه حكم الصحيح في الامانة والضمان.
والله تعالى أعلم بالصواب

(15/72)


قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(بَابُ مَا يوجب فسخ الاجارة) إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيبا جاز له ان يرد، لان الاجارة كالبيع، فإذا جاز رد المبيع بالعيب جاز رد المستأجر، وله أن يرد بما يحدث في يده من العيب، لان المستأجر في يد المستأجر كالمبيع في يد البائع، فإذا جاز رد المبيع بما يحدث من العيب في يد البائع، جاز رد المستأجر بما يحدث من العيب في يد المستأجر.

(فصل)
والعيب الذى يرد به ما تنقص به المنفعة، كتعثر الظهر في المشي والعرج الذى يتأخر به عن القافلة وضعف البصر والجذام والبرص في المستأجر للخدمة، وانهدام الحائط في الدار، وانقطاع الماء في البئر والعين والتغير الذى يمتنع به الشرب أو الوضوء وغير ذلك من العيوب التى تنقص بها المنفعة.
فاما إذا اكترى ظهرا فوجده خشين المشي لم يدر، لان ذلك لا تنقص به المنفعة.
وان اكترى ظهرا للحج عليه فعجز عن الخروج بالمرض أو ذهاب المال لم يجز له الرد، وان اكترى حماما فتعذر عليه ما يوقده لم يجز له الرد، لان المعقود عليه باق، وانما تعذر الانتفاع لمعنى في غيره فلم يجز له الرد، كما لو اشترى ظهرا ليحج عليه فعجز عن الحج لمرض أو ذهاب المال، وان اكترى أرضا للزراعة فزرعها ثم هلك الزرع بزيادة المطر أو شدة برد أو دوام ثلج أو أكل جراد لم يجز له الرد لان الجائحة حدثت على مال المستأجر دون منفعة الارض فلم يجز له الرد، وان اكترى دارا فتشعثت فبادر المكرى إلى اصلاحها لم يكن للمستأجر ردها لانه لا يلحقه الضرر، فان لم يبادر ثبت له الفسخ لانه يلحقه ضرر بنقصان المنفعة، فان رضى سكناها ولم يطالب بالاصلاح فهل يلزمه جميع الاجرة ام لا؟ فيه وجهان

(أحدهما)
لا يلزمه جميع الاجرة لانه لم يستوف جميع ما استحقه من المنفعة فلم يلزمه جميع الاجرة، كما لو اكترى دارا سنة فسكنها بعض السنة ثم غصبت
(والثانى)
يلزمه جميع الاجرة لانه استوفى جميع المعقود عليه ناقصا بالعيب

(15/73)


فلزمه جميع البدل، كما لو اشترى عبدا فتلفت يده في يد البائع ورضى به.

(فصل)
ومتى رد المستأجر العين بالعيب، فان كان العقد على عينها انفسخ العقد، لانه عقد على معين فانفسخ برده، كبيع العين.
وان كان العقد على موصوف في الذمة لم ينفسخ العقد برد العين، بل يطالب ببدله، لان العقد على ما في الذمة، فإذا رد العين رجع إلى ما في الذمة، كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده.

(فصل)
وان استأجر عبدا فمات في يده، فان كان العقد على موصوف في الذمة طالب ببدله لما ذكرناه في الرد بالعيب، وان كان العقد على عينه فان لم يمض من المدة ما له أجرة انفسخ العقد.
وقال أبو ثور من أصحابنا: لا ينفسخ، بل يلزم المستأجر الاجرة لانه هلك بعد التسليم فلم ينفسخ العقد، كما لو هلك المبيع بعد تسليم فلم ينفسخ العقد، والمذهب الاول، لان المعقود عليه هو المنافع، وقد تلفت قبل قبضها فانفسخ العقد كالمبيع إذا هلك قبل القبض.
وان مضى من المدة ماله أجرة انفسخ العقد فيما بقى بتلف المعقود عليه، وفيما مضى طريقان:
(أحدهما)
لا ينفسخ فيه العقد قولا واحدا
(والثانى)
انه على قولين بناء على الطريقين في الهلاك الطارئ في بعض المبيع قبل القبض، هل هو كالهلاك المقارن للعقد ام لا؟ لان المنافع في الاجارة كالمبيع قبل القبض، وفى المبيع قبل القبض طريقان فكذلك الاجارة.

(فصل)
وان اكترى دارا فانهدمت فقد قال في الاجارة ينفسخ العقد،
وقال في المزارعة إذا اكترى أرضا للزراعة فانقطع ماؤها ان المكترى بالخيار بين أن يفسخ وبين أن لا يفسخ.
واختلف أصحابنا فيهما على طريقين، فمنهم من نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى الاخرى فخرجهما على قولين، وهو الصحيح
(أحدهما)
ان العقد ينفسخ فيهما، لان المنفعة المقصودة هي السكنى والزراعة وقد فاتت فانفسخ العقد، كما لو اكترى عبدا للخدمة فمات.

(والثانى)
لا ينفسخ لان العين باقية يمكن الانتفاع بها وانما نقصت منفعتها فثبت له الخيار كما لو حدث به عيب.
ومنهم من قال إذا انهدمت الدار انفسخ

(15/74)


العقد، وان انقطع الماء من الارض لم ينفسخ لان الارض باقية مع انقطاع الماء والدار غير باقية مع الانهدام.
(الشرح) لا ينفسخ عقد الاجارة عينية كانت أو في الذمة بنفسها ولا يفسخ احد العاقدين بالاعذار التى لا توجب خللا في المعقود عليه، كمن استأجر حماما وتعذر عليه جلب الوقود له، أو استأجر سيارة وتعذر على شراء وقودها، أو مرض فحال مرضه دون السفر عليها، أو استأجر بيتا ولم يجد أثاثا يتخذه فراشا فيها، ويقاس على هذه الامثلة كل عذر لا يلحق المعقود عليه خلل في عينه بعيب فيه، وإذا استأجر دارا فوجد ماء بئرها متغيرا، قال أبو حنيفة: إن استطيع الوضوء به فلا خيار للمستأجر.
وعندنا انه ان خالف معهود الآبار في تلك الناحية فله الخيار، فان كان معهودهم الشرب من آبارهم - فإذا كان تغيره يمنع من شربه - فله الخيار، وان أمكن الوضوء منها، وان كان معهودهم الا يشربوا منها فلا خيار، وإن كان غير معهود في ذلك الوقت - فان كان مع نقصانه كافيا لما يحتاج المستأجر من شرب أو طهور، فلا خيار له، وان كان مقصرا عن الكفاية فله الخيار.
فأما رجاء الحصول على الماء إذا تغير ماؤه فلا خيار لمستأجره، ولو نقص ماؤه فله الخيار الا أن يكون معهودا في وقته فلا خيار فيه.
قال الشافعي: وإذا اكترئ الرجل الارض من الرجل بالكراء الصحيح ثم أصابها غرق منعه الزرع أو ذهب بها سيل أو غصبها فحيل بينه وبينها سقط عنه الكراء من يوم أصابها ذلك، وهى مثل الدار يكتريها سنة ويقبضها فتهدم في أول السنة أو آخرها، والعبد يستأجره السنة فيموت في أول السنة أو آخرها فيكون عليه من الاجارة بقدر ما سكن واستخدم ويسقط عنه ما بقى، وان أكراه أرضا بيضاء يصنع فيها ما شاء، أو لم يذكر انه اكتراها للزرع ثم انحسر الماء عنها في أيام لا يدرك فيها زرعا، فهو بالخيار بين أن يأخذ ما بقى بحصته من الكراء أو يرده لانه قد انتقص مما اكترى.
وكذلك ان اكتراها للزرع، وكراؤها للزرع أبين في ان له أن يردها ان شاء، وإن كان مر بها فافسد زرعه أو أصابه

(15/75)


حريق أو ضريب 1) أو جراد أو غير ذلك فهذا كله جائحة على الزرع لا على الارض فالكراء له لازم، فان أحب أن يجدد زرعا جدده ان كان ذلك يمكنه، وان لم يمكنه فهذا شئ أصيب به في زرعه لم تصب به الارض فالكراء له لازم، وهذا مفارق للجائحة في الثمرة يشتريها الرجل فتصيبها الجائحة في يديه قبل أن يمكنه جدادها.
ومن وضع الجائحة ثم ابتغى أن لا يضعها ههنا، فان قال قائل: إذا كانتا جائحتين فما بال احداهما توضع والاخرى لا توضع، فان من وضع الجائحة الاولى فانما يضعها بالخبر، وبانه إذا كان البيع جائزا في شراء الثمرة إذا بدا صلاحها وتركها حتى تجدد فانما ينزلها بمنزلة الكراء الذى يقبض به الدار ثم تمر به أشهر ثم تتلف الدار فيسقط عنه الكراء من يوم تلف.
اه وقد اختلف أصحابنا في الفساد الطارئ على المستأجر - بفتح الجيم - على
حسب اختلافهم في الفساد الطارئ على بعض الصفقة، هل يكن كالفساد المقارن للعقد؟ فقال بعض أصحابنا هما سواء، فيكون بطلان الاجارة فيما مضى من المدة على قولين من تفريق الصفقة.
وقال آخرون: ان الفساد الطارئ على العقد مخالف للفساد المقارن للعقد، فتكون الاجارة فيما مضى من المدة غير فاسدة قولا واحدا.
فان قبل ببطلان الاجارة فيما مضى من المدة لزم المستأجر أجرة المثل في الماضي دون المسمى.
وان قيل بصحة الاجارة فيما مضى فقد اختلف أصحابنا هل له الخيار في فسخه أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
لا خيار له لفواته على يده، فعلى هذا ان كانت اجرة السنة كلها متساوية لتساوي العمل فيها فعليه نصف الاجرة المسماة لاستيفاء نصف العمل المستحق بنصف السنة المسماة وان كان العمل فيها مختلفا والاجرة فيه مختلفة مثل ان تكون اجرة النصف الماضي من السنة مائة درهم واجرة النصف الباقي خمسين درهما تقسطت الاجرة على العمل المختلف دون المدة، وكان على المستأجر ثلثى ثلثا الاجرة بمضي نصف المدة لانها تقابل ثلثى العمل
__________
(1) الضريب يقال للثلج الدائب ولسموم الماء انشفه الارض.
هكذا في القاموس

(15/76)


(والوجه الثاني) أن له الخيار لتفريق الصفقة عليه بين المقام على الاجارة فيما مضى وبين فسخها فيه، فان أقام على الماضي لزمه من الاجرة ما ذكرناه من الحساب والقسط، وكان بعض أصحابنا يخرج قولا آخر أن يقيم بجميع الاجرة والا فسخ، وهو قول من يجعل الفساد الطارئ كالفساد المقارن، وان فسخ الاجارة في الماضي لزمه فيه أجرة المثل، لان الفسخ قد رفع العقد فسقط حكم المسمى فيه.
(فرع)
وجملة بيان هذه الفصول ان من استأجر عينا مدة فحيل بينه وبين الانتفاع بها لم يخل من أقسام ثلاثة.
(احدها) ان تتلف العين كنفوق دابة فهذا على ثلاثة أضرب، أحدها: ان تتلف العين قبل قبضها، فان الاجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه، لان المعقود عليه تلف قبل قبضه فاشبه ما لو تلف الطعم المبيع قبل قبضه.

(والثانى)
أن تتلف عقيب قبضها، فان الاجارة تنفسخ ايضا ويسقط الاجر عند عامة الفقهاء الا أبا ثور حكى عنه أنه قال: يستقر الاجر، لان المعقود عليه اتلف بعد قبضه أشبه المبيع، وهذا غلط، لان المعقود عليه المنافع، وقبضها استيفاؤها أو التمكن من استيفاؤها، ولم يحصل ذلك فاشبه تلفها قبل قبض العين (والثالث) أن تتلف بعد مضى شئ من المدة، فان الاجارة تنفسخ فيما بقى من المدة دون ما مضى، ويكون للمؤجر من الاجر بقدر ما استوفى من المنفعة، هذا معنى ما نقلناه من الام قبل.
وقال أحمد فيما رواه عنه ابراهيم بن الحارث: إذا اكترى بعيرا بعينه فنفق البعير يعطيه بحساب ما ركب، وذلك لما ذكرنا من ان المعقود عليه المنافع، وقد تلف بعضها قبل قبضه فبطل العقد فيما تلف دون ما قبض، كما لو اشترى صبرتين فقبض احداهما وتلفت الاخرى قبل قبضها.
فان كان المستأجر مختلف الاجر حسب اختلاف الازمان كدار بسيف البحر ايجارها صيفا أكثر من أجرها شتاء، أو دار بأسوان أجرها شتاء أكثر من أجرها صيفا أو دار لها موسم كدور مكة شرفها الله رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة

(15/77)


ويقسط الاجر المسمى على حسب قيمة المنفعة كقسمة الثمن على الاعيان المختلفة في البيع، وكذلك لو كان الاجر على قطع المسافة وكانت معروفة بالاميال أو الكيلو مترات.
القسم الثاني: ان يحدث على العين ما يمنع نفعها كدار انهدمت وأرض غرقت أو انقطع عنها الماء فهذه ينظر فيها فان لم يبق فيها أصلا فهى كالتالفة سواء، وان بقى فيها نفع غير ما استأجرها له انفسخت الا في انقطاع الماء لانه لم يحدث في المعقود عليه خلل يفسد العقد فاشبه ما لو نقص نفعها مع بقائه، فهو مخير بين الفسخ والامضاء، فان فسخ فعليه ما مضى من العقد، وان اختار امضاءه فعليه جميع الاجر لان العيب إذا رضى به سقط حكمه.
فإذا انهدمت الدار أو مرض الخادم، فان الاجارة لا تنفسخ لبقاء المعقود عليه، ولكن المستأجر بالخيار لاجل العيب الحادث المؤثر في منفعته بين المقام والفسخ، والخيار فيه على التراخي لا على الفور بخلاف الخيار في البيع لانه يتجدد بمرور الاوقات لحدوث النقص فيها فان كان مرض الخادم مرضا لا يؤثر في العمل نظر فيما استؤجر له من العمل، فان كان مما لا تعاف النفس مرضه فيه كالكنس والرعى وحرث الارض فلا خيار للمستأجر، وان كان مما تعاف النفس مرضه فيه كخدمته في مأكله ومشربه وملبسه فله الخيار.
وقال النووي في الدار: تنفسخ بهدمها.
وقال شمس الدين الرملي: في الاصح وان كانت الاجارة في دار حرث شارعها أو دكان بطلت سوقه فلا خيار له لانه عيب خدث في غير المعقود عليه، فإذا استأجر دارا فانهدم فيها حائط أو سقط فيها سقف نظر، فان لم يمكن سكنى الدار بانهدام حائطها وسقوط سقفها كان كما لو انهدم جميعها في بطلان الاجارة فيها، وان أمكن سكناها لم تبطل الاجارة وكان مخيرا في الفسخ للعيب الحادث.
وأما ان انهدم نصفها وبقى نصفها والباقى منها يمكن سكناه بطلت الاجارة في النصف المنهدم، وهى صحيحة في النصف السليم والمستأجر بالخيار، ومن جعل من أصحابنا الفساد الطارئ على بعض الصفقة كالفساد المقارن للصفقة خرج الاجارة فيما سلم من الدار على قولين.

(15/78)


(فرع)
فإذا انهدمت الدار فبناها المؤجر لم تعد الاجارة فيها بعد فسادها الا بعقد جديد: لان بطلانه يمنع من عوده الا باستحداث عقد ولكن لو اشتركت وتشعبت فلم يختر المستأجر الفسخ حين عمرها المؤجر ففى خيار المستأجر وجهان أحدهما: قد سقط لارتفاع موجبة، والثانى: انه باق بحاله لما تقدم من استحقاقه ولكن له لو رام المؤجر ان يمنع المستأجر من الفسخ حتى يعمرها له لم يكن ذلك للمؤجر، وكان المستأجر على خيار.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو اكترى أرضا سنة فغصبها رجل لم يكن عليه كراه لانه لم يسلم له ما اكترى، قلت: ومن هنا نعلم أن الارض إذا غصبت من يد المستأجر فله الفسخ، وهل تبطل الاجارة بالغصب؟ على قولين.
أصحهما: باطلة، والمستأجر برئ من اجرة مدة الغصب، ولا يكون المستأجر خصما للغاصب فيها، لان خصم الغاصب انما هو المالك أو وكيله وليس المستأجر مالكا ولا وكيلا فلم يكن خصما.
والقول الثاني: ان الاجارة لا تبطل لان غاصبها ضامن لمنافعها لكن يكون المستأجر بحدوث الغصب مخيرا بين المقام أو الفسخ فان فسخ سقطت عنه الاجرة ولم يكن خصما للغاصب فيها، وان أقام فعليه المسمى ويرجع باجرة المثل على الغاصب ويصير خصما له في الاجرة دون الرقبة، الا ان يبقى من مدة الاجارة شئ فيجوز أن يصير خصما في الرقبة ليستوفى حقه من المنفعة وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان اكرى نفسه فهرب أو أكرى عينا فهرب بها نظرت، فان كانت الاجارة على موصوف في الذمة استؤجر عليه من ماله كما لو اسلم إليه في شئ فهرب، فانه يبتاع عليه المسلم فيه، وان لم يمكن الاستئجار عليه ثبت للمستأجر
الخيار بين أن يفسخ وبين ان يصبر، لانه تأخر حقه فيثبت له الخيار، كما لو اسلم في شئ فتعذر، وان كانت الاجارة على عين فهو بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر، لانه تأخر حقه فثبت له الخيار، كما لو ابتاع عبدا فابق قبل القبض، فان لم يفسخ نظرت، فان كانت الاجارة على مدة انفسخ العقد بمضي المدة يوما بيوم

(15/79)


لان المنافع تتلف بمضي الزمان فانفسخ العقد بمضيه، وان كانت على عمل معين لم ينفسخ لانه يمكن استيفاؤه إذا وجده
(فصل)
وان غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر - فان كان العقد على موصوف في الذمة - طولب المؤجر باقامة عين مقامها على ما ذكرناه في هرب المكرى، وان كان على العين فللمستأجر أن يفسخ العقد، لانه تأخر حقه فثبت له الفسخ، كما لو ابتاع عبدا فغصب فان لم يفسخ - فان كانت الاجارة على عمل - لم تنفسخ لانه يمكن استيفاؤه إذا وجده، وان كانت على مدة فانقضت ففيه قولان:
(أحدهما)
ينفسخ العقد فيرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى، ويرجع المؤجر على الغاصب باجرة المثل
(والثانى)
لا ينفسخ، بل يخير المستأجر بين ان يفسخ ويرجع على المؤجر بالمسمى، ثم يرجع المؤجر على الغاصب باجرة المثل، وبين ان يقر العقد ويرجع على الغاصب بأجرة المثل، لان المنافع تلفت في يد الغاصب، فصار كالمبيع إذا اتلفه الأجنبي.
وفى المبيع قولان إذا اتلفه الأجنبي فكذلك ههنا.

(فصل)
وان مات الصبى الذى عقد الاجارة على إرضاعه فالمنصوص انه ينفسخ العقد، لانه تعذر استيفاء المعقود عليه، لانه لا يمكن اقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع فبطل.
ومن أصحابنا من خرج فيه قولان آخر انه
لا ينفسخ، لان المنفعة باقية، وانما هلك المستوفى فلم ينفسخ العقد، كما لو استأجر دارا فمات، فعلى هذا ان تراضيا على ارضاع صبى آخر جاز.
وان تشاحا فسخ العقد، لانه تعذر امضاء العقد ففسخ.

(فصل)
وان استأجر رجلا ليقلع له ضرسا فسكن الوجع، أو ليكحل عينه فبرئت، أو ليقتص له فعفا عن القصاص، انفسخ العقد على المنصوص في المسألة قبلها، لانه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ، كما لو تعذر بالموت، ولا ينفسخ على قول من خرج القول الآخر.

(15/80)


(الشرح) إذا هرب الاجير أو شردت الدابة المتاجرة أو أخذ المؤجر العين وهرب بها، أو منعه استيفاء المنفعة من غير هرب على نحو ما، لم تنفسخ الاجارة، لكن يثبت للمستأجر خيار الفسخ، فان فسخ فلا كلام، وان لم يفسخ انفسخت الاجارة بمضي المدة يوما فيوما، فان عادت العين في اثناء المدة استوفى ما بقى منها، فان انقضت المدة انفسخت الاجارة لفوات المعقود عليه، وان كانت الاجارة على موصوف في الذمة، كخياطة ثوب أو بناء حائط أو حمل إلى موضع معين استؤجر من ماله من يعلمه، كما لو أسلم إليه في شئ فهرب ابتيع من ماله، فان لم يمكن ثبت للمستأجر الفسخ، فان فسخ فلا كلام، وان لم يفسخ وصبر إلى ان يقدر عليه فله مطالبته بالعمل، لان ما في الذمة لا يفوت بهربه، وكل موضع امتنع الاجير من العمل فيه، أو منع المؤجر المستأجر من الانتفاع إذا كان بعد عمل البعض فلا أجر له فيه على ما سبق، الا أن يرد العين قبل انقضاء المدة أو يتم العمل - ان لم يكن على مدة - قبل فسخ المستأجر، فيكون له أجر ما عمل.
فأما ان شردت الدابة أو تعذر استيفاء المنفعة بغير فعل المؤجر فله من الاجر بقدر ما استوفى بكل حال، والى هذا كله ذهب الحنابله (فرع)
إذا غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر ففيه قولان: أحدهما للمستأجر الفسخ لان فيه تأخير حقه، فان فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ العقد بتلف العين سواء، وان لم يفسخ حتى انقضت مدة الاجارة فله الخيار بين الفسخ والرجوع بالمسمى، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب باجرة المثل، لان المعقود عليه لم يفت مطلقا بل إلى بدل وهو القيمة، فاشبه ما لو اتلف الثمرة المبيعة آدمى قبل قطعها، ويتخرج انفساخ العقد بكل حال على القول بأن المنافع الغصب لا تضمن، وهو محل خلاف بين أصحابنا، وهو قول أصحاب الرأى وأصحاب أحمد.

(والثانى)
لا تخيير، بل ينفسخ ويرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى ويرجع المؤجر على الغاصب بأجرة المثل

(15/81)


وقول ثالث لم يذكره المصنف، وهو قول ابن الرفعة: لا خيار ولا فسخ أخذا من النص، وقد استشهد له الغزى.
قال الرملي: فيه نظر.
وقال الاذرعى هو مشكل وما أظن الاصحاب يسمحون به وان كانت الاجارة على عمل في الذمة كخياطة ثوب أو حمل شئ إلى موضع معين فغصبت الماكينة التى يخيط.
بها، أو العربة التى يحمل عليها لم ينفسخ العقد وللمستأجر مطالبة الاجير بعوض المغصوب وإقامة من يعمل العمل، لان العقد على ما في الذمة، كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده، فان تعذر البدل ثبت للمستأجر الخيار بين الفسخ أو الصبر إلى أن يقدر على العين المغصوبة فيستوفى منها (فرع)
وتنفسخ الاجارة بموت الطفل، لانه يتعذر استيفاء المعقود عليه
لانه لا يمكن اقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن باختلافهم، فانه قد يدر على احد الوالدين دون الآخر، وهذا هو منصوص الشافعي، فإذا انفسخ العقد بطلت الاجارة من أصلها بالاجر كله.
وان كان في اثناء المدة رجع بحصة ما بقى.
ومن أصحابنا من خرج قولا آخر انه لا ينفسخ، لان المنفعة باقية ببقاء المرضعة وانما المستوفى هو الذى هلك والعقد باق بين المتعاقدين فإذا تراضيا على إرضاع صبى آخر جاز والا انفسخ العقد.
أما إذا ماتت المرضعة فان الاجارة تنفسخ لفوات المنفعة بهلاك محلها، وحكى عن بعض أصحاب أحمد أنها لا تنفسخ، وكذلك ذهب بعض الاصحاب وقالوا: يجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت لانه كالدين.
(فرع)
يجوز أن يستأجر طبيبا يخلع له ضرسه لانها منفعة مباحة مقصوده فجاز الاستئجار على فعلها كالختان، فإذا برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الاجارة لان قلعه سليما لا يجوز، وان لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه لان اتلاف جزء من الادمى محرم في الاصل، وانما أبيح القلع إذا صار بقاؤه ضررا، والامر مفوض إلى الانسان في نفسه إذا كان أهلا لذلك.
وصاحب الضرس أعلم بمضرته ومنفعته، وكذلك.
وإذا استأجر طبيبا في الرمد ليكحل عينه بالنترات والاكاسيد فلم يبرأ عينه استحق الاجر، وبه قال أكثر الفقهاء.

(15/82)


وقال مالك: إنه لا يستحق أجرا حتى تبرأ عينه، ولم يحك ذلك أصحابه، وهو فاسد، لان المستأجر قد وفى العمل الذى وقع العقد عليه فوجب له الاجر وإن لم يحصل الغرض، كما لو استأجره لبناء حائط يوما أو لخياطة قميص فلم يتمه فيه فان برئت عينه فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ من مدة، لانه قد تعذر
العمل فاشبه ما لو حجر عنه امر غالب، وكذلك لو مات، فان امتنع من العلاج فلم يستعمله مع بقاء المرض استحق الطبيب الاجر بمضي المدة، كما لو استأجره يوما للبناء فلم يستعلمه فيه، فاما ان شارطه على البرء فان مذهبنا ومذهب أحمد ابن حنبل ان ذلك يكون جعالة فلا يستحق شيئا حتى يتحقق البرء، سواء وجد قريبا أو بعيدا، فان برئ بغير دوائه أو تعذر علاجه لموته أو غير ذلك من الموانع التى هي من جهة المستاجر فله أجر مثله، كما لو عمل العامل في الجعالة ثم فسخ العقد، وان امتنع لامر من جهة المعالج أو غير الجاعل فلا شئ له على تفصيل سيأتي في الجعالة ان شاء الله.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان مات الاجير في الحج قبل الاحرام نظرت، فان كان العقد على حج في الذمة استؤجر من تركته من يحج، فان لم يمكن ثبت المستأجر الخيار في فسخ العقد كما قلنا في السلم، وان كان على حجة بنفسه انفسخ العقد، لانه تلف المعقود عليه قبل القبض، فان مات بعدما أتى بجميع الاركان وقبل المبيت والرمى سقط الفرض لانه أتى بالاركان، ويجب في تركته الدم لما بقى كما يجب ذلك في حج نفسه.
وان مات بعد الاحرام وقبل أن يأتي بالاركان فهل يجوز أن يبنى غيره على علمه؟ فيه قولان، قال في القديم: يجوز لانه عمل تدخله النيابة فجاز البناء عليه كسائر الاعمال.
وقال في الجديد: لا يجوز، وهو الصحيح، لانه عبادة يفسد أولها بفساد آخرها فلا تتأدى بنفسين كالصوم والصلاة، فان قلنا لا يجوز البناء فان كانت الاجارة على عمل الاجير بنفسه بطلت، لانه فات المعقود عليه ويستأجر المستأجر من يستأنف الحج.

(15/83)


وان كانت الاجارة على حج في الذمة تبطل، لان المعقود عليه لم يفت بموته، فان كان وقت الوقوف باقيا استؤجر من تركته من يحج، وان فات وقت الوقوف فللمستأجر ان يفسخ لانه تأخر حقه فثبت له الفسخ.
وان قلنا: يجوز البناء على فعل الاجير: فان كانت الاجارة على فعل الاجير بنفسه، بطلت لان حجه فات بموته، فان كان وقت الوقوف باقيا أقام المستأجر من يحرم بالحج ويبنى عمل الاجير، وان كان بعد فوات وقت الوقوف أقام من يحرم بالحج ويتم.
وقال أبو إسحاق: لا يجوز للبانى أن يحرم بالحج، لان الاحرام بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد، بل يحرم بالعمرة ويتم، والصحيح هو الاول لانه لا يجوز ان يطوف في العمرة ويقع عن الحج، وقوله: ان الاحرام بالحج لا ينعقد في غير أشهر الحج لا يصح، لان هذا بناء على إحرام حصل في أشهر الحج، وان كانت الاجارة على حج في الذمة استؤجر من تركه الاجير من يبنى على إحرامه على ما ذكرناه.

(فصل)
ومتى انفسخ العقد بالهلاك أو بالرد بالعيب أو بتعذر المنفعة بعد استيفاء بعض المنفعة قسم المسمى على ما استوفى وعلى ما بقى، فما قابل المستوفى استقر، وما قابل الباقي سقط، كما يقسم الثمن على ما هلك من المبيع وعلى ما بقى، فإذا كان ذلك مما يختلف رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة، وان كان العقد على الحج فمات الاجير أو أحصر نظرت، فان كان بعد قطع المسافة وقبل الاحرام فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: انه لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ بِنَاءُ عَلَى قوله في الام: إن الاجرة لا تقابل قطع المسافة وهو الصحيح، لان الاجرة في مقابلة الحج وابتداء الحج من الاحرام وما قبله من قطع المسافة تسبب إلَى الْحَجِّ وَلَيْسَ بِحَجٍّ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِي مُقَابَلَتِهِ أُجْرَةً كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ فَأَحْضَرَ الْآلَةَ
وَأَوْقَدَ النَّارَ وَمَاتَ قَبْلَ أن يخبز.

(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي بكر الصيرفى أنه يستحق من مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ مِنْ الْمَسَافَةِ بناء على قوله في الاملاء أن الاجرة تقابل قطع المسافة والعمل لان الحج لا يتأدى الا بهما فقسطت الاجرة عليهما.

(15/84)


وان كان بعد الفراغ من الاركان وقبل الرمى والمبيت ففيه طريقان، أحدهما يلزمه أن يرد من الاجرة بقدر ما ترك قولا واحدا لانه ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه رد بدله، كما لو استؤجر على بناء عشرة أذرع فبنى تسعة، ومنهم من قال: فيه قولان
(أحدهما)
يلزمه لما ذكرناه
(والثانى)
لا يلزمه لان ما دخل على الحج من النقص بترك الرمى والمبيت جبره بالدم، فصار كما لو لم يتركه، وان كان بعد الاحرام وقبل أن ياتي بباقى الاركان ففيه قولان (احدهما) لا يستحق شيئا كما لو قال من رد عبدى الابق فله دينار فرده رجل إلى باب البلد ثم هرب
(والثانى)
انه يستحق بقدر ما علمه وهو الصحيح، لانه عمل بعض ما استؤجر عليه فاشبه إذا استؤجر على بناء عشرة اذرع فبنى بعضها ثم مات.
فإذا قلنا: انه يستحق بعض الاجرة فهل تقسط الاجرة على العمل والمسافة أو على العمل دون المسافة؟ على ما ذكرناه من القولين.

(فصل)
وان اجر عبدا ثم اعتقه صح العتق لانه عقد على منفعة فلم يمنع العتق كما لو زوج امته ثم اعتقها، ولا تنفسخ الاجارة كما لا ينفسخ النكاح، وهل يرجع العبد على مولاه بالاجرة؟ فيه قولان، قال في الجديد: لا يرجع وهو الصحيح، لانها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدلها بعد العتق
كما لو زوج امته ثم اعتقها، وقال في القديم: يرجع لانه فوت بالاجارة ما ملكه من منفعته بالعتق، فوجب عليه البدل.
فان قلنا يرجع بالاجرة كانت نفقته على نفسه لانه ملك بدل منفعته فكانت نفقته عليه، كما لو أجر نفسه بعد العتق، وان قلنا: لا يرجع بالاجرة ففى منفعته وجهان.

(أحدهما)
انها على المولى، لانه كالباقي على ملكه بدليل أنه يملك بدل منفعته بحق الملك، فكانت نفقته عليه.

(والثانى)
أنها في بيت المال لانه لا يمكن ايجابها على المولى، لانه زال ملكه عنه، ولا على العبد لانه لا يقدر عليها في مدة الاجارة، فكانت في بيت المال.

(15/85)


(الشرح) إذَا مَاتَ الْأَجِيرُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ فَلَهُ احوال: 1 - يموت بعد الشروع في الاركان وقبل الفراغ منها.
2 - أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي السَّفَرِ وَقَبْلَ الاحرام.
3 - أن يموت بعد الفراغ من الاركان وقبل الفراغ من باقى الاعمال.
فأما الاولى وهى الموت بعد الشروع وقبل الفراغ من الاركان ففى استحقاق الاجرة قولان مشهوران أوردهما المصنف هنا
(أَحَدُهُمَا)
لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ ضالتي فَلَهُ دِينَارٌ فَرَدَّهُ إلَى بَابِ الدَّارِ ثُمَّ هربت أو ماتت فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، ووافقه النووي والاصحاب يستحق بقدر عمله، لقيامه بجزء مما استؤجر له فوجب له بقدره كمن استؤجر لقطع عشرة اميال فقطع بعضها أو بناء عَشْرَةِ أَذْرُعِ فَبَنَى بَعْضَهَا ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يستحق بقدره بخلاف الجعالة فانها ليست عقدا لازما، ولكنها التزام بشرط فان لم يوجد الشرط تاما فانه لا يلزمه شئ كالطلاق المعلق، ونقل النووي عن الشيخ أبى حامد والاصحاب القول الاول وهو نص الشافعي في القديم، والثانى
نصه في الجديد والام وهو الاصح.
وسواء مات بعد الوقوف بعرفة أَوْ قَبْلَهُ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.
وحكى الرافعى وجها شاذا أنه يستحق بعده، ثم في استحقاقه إذا قلنا به هل يكون على الاعمال والمسافة معا أم على الاعمال فقط؟ قولان، أصحهما: على الاعمال والمسافة جميعا عند الاكثرين، وممن صححه الرافعى، وأصحهما عند المصنف وطائفة على الاعمال فقط، وفى المسألة طريق آخر ساقه النووي عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ إنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي قُسِّطَ عَلَى الْعَمَلِ فَقَطْ، وَإِنْ قَالَ: لِتَحُجَّ مِنْ بَلَدِ كَذَا قُسِطَ عَلَيْهِمَا جميعها، وحمل القولين على هذين الحالين.
وأما الحال الثانية: وهى أن يموت قبل الاحرام وبعد الشروع في السفر، ففيه وجهان مشهوران الصحيح ومنصوص الشافعي فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَا يستحق شيئا من الاجرة لانه لم يقم بشئ من أعمال الحج، وليست المسافة بسبب الحج من الحج كما لو أجر خبازا ليخبز له فاستحضر أدواته

(15/86)


وأوقد تنوره ثم مات قبل أن يخبز فلا استحقاق له: وساق النووي تعليلا لغير المصنف بأنه لم يحصل شيئا من المقصود.
والوجه الثاني وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ: يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ من المسافة.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا عَنْ أَبِي الْفَضْلِ ابن عَبْدَانَ أَنَّهُ إنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ مِنْ بلد كذا استحق بقسطه، ثم في البناء على فعل الاجير نظر، إنْ كَانَتْ إجَارَةُ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ وَلَا بِنَاءَ لِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَهَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَبْنِيَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ فَلِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا مَنْ يَسْتَأْنِفُ الْحَجَّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ
فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِبَقَاءِ الوقت فذاك، وان تأخر إلى القابل ثبت الخيار في فسخ الاجارة، فان جوزنا البناء فلورثة الاجير أن يبنوا.
وأما الحال الثالثة: وهى موتة قبل الفراغ من الاعمال بعد أدائه الاركان فينظر، ان كان قد فات وقتها أو لم يفت ولم نجوز البناء يجبر الباقي بالدم من مال الاجير، وفى رد شئ من الاجرة الخلاف فِيمَنْ أَحْرَمَ بَعْد مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ وَلَمْ يَعُدْ إليه وجبره بالدم، الْمَذْهَبُ وُجُوبُ الرَّدِّ وَإِنْ جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ وَكَانَ الوقت متسعا فان كانت الاجارة على العين انفسخت في الباقي من الاعمال، ووجب رد ما يقابلها مِنْ الْأُجْرَةِ، وَيَسْتَأْجِرُ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْ يَرْمِي وَيَبِيتُ، ولا حاجة إلى الاحرام لان الرمى والمبيت يؤديان بعد التحلل، ولا يلزم بذلك دم ولا شئ من الاجرة، هكذا ذكره المتولي وغيره، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان أجر عينا ثم باعها من غير المستأجر ففيه قولان، أحدهما: أن البيع باطل لان يد المستأجر تحول دونه فلم يصح البيع، كبيع المغصوب من غير الغاصب، والمرهون من غير المرتهن، والثانى: يصح لانه عقد على المنفعة فلم يمنع صحة البيع، كما لو زوج أمته ثم باعها ولا تنفسخ الاجارة كما لا ينفسخ النكاح في بيع الامة المزوجة.
وان باعها من المستأجر صح البيع قولا واحدا

(15/87)


لانه في يده لا حائل دونه فصح بيعها منه، كما لو باع المغصوب من الغاصب، والمرهون من المرتهن، ولا تنفسخ الاجارة بل يستوفى المستأجر المنفعة بالاجارة لان الملك لا ينافى الاجارة، والدليل عليه أنه يجوز أن يستأجر ملكه من المستأجر، فإذا طرأ عليها لم يمنع صحتها، وإن تلفت المنافع قبل انقضاء المدة انفسخت الاجارة ورجع المشترى بالاجرة لما بقى على البائع.

(فصل)
فإن أجر عينا من رجل ثم مات أحدهما لم يبطل العقد، لانه عقد لازم فلا يبطل بالموت مع سلامة المعقود عليه كالبيع، فإن أجر وقفا عليه ثم مات ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يبطل لانه أجر ما يملك إجارته فلم يبطل بموته كما لو أجر ملكه ثم مات فعلى هذا يرجع البطن الثاني في تركه المؤجر المدة الباقيه لان المنافع في المدة الباقيه حق له، فاستحق أجرتها.

(والثانى)
تبطل لان المنافع بعد الموت حق لغيره فلا ينفذ عقده عليها من غير إذن ولا ولايه، ويخالف إذا أجر ملكه ثم مات، فان الوارث يملك من جهة الموروث: فلا يملك ما خرج من ملكه بالاجارة والبطن الثاني يملك غلة الوقف من جهة الواقف، فلم ينفذ عقد الاول عليه، وإن أجر صبيا في حجره أو أجر ماله ثم بلغ ففيه وجهان.
أحدهما: لا يبطل العقد لانه عقد لازم عقده بحق الولاية فلا يبطل بالبلوغ كما لو باع داره، والثانى يبطل لانه بان بالبلوغ أن تصرف الولى إلى هذا الوقت والصحيح عندي في المسائل كلها أن الاجارة لا تبطل وبالله التوفيق.
(الشرح) قال الماوردى في الحاوى الكبير: فإذا بيعت الدار المستأجرة فذلك ضربان.
أحدهما: أن تباع على المستأجر فالبيع جائز والاجارة بحالها، ويصير جامعا بين ملك المنفعة بالاجارة والرقبه بالبيع، والفرق بنى أن يرثها المستأجر فتبطل الاجارة وبين أن يبتاعها فلا تبطل أنه بالارث صار قائما مقام المؤجر فلم يجز له عقد على نفسه، وهو بالبيع لا يقوم مقام البائع إلا فيما سمى بالعقد.

(15/88)


والضرب الثاني أن تباع على أجنبي غير المستأجر، ففى البيع قولان: أحدهما
أنه باطل والاجارة لحالها، لان يد المستأجر ممنوعة بحق فصارت أسوأ حالا من المغصوب الذى يمنع يد المشترى منه بظلم.
والقول الثاني وهو الصحيح أن البيع صحيح والاجارة لازمة لان ثبوت العقد على المنفعة لا يمنع من بيع الرقبة كالامة المزوجة، فعلى هذا ان كان المشترى عالما بالاجرة فلا خيار له والاجرة للبائع لانه قد ملكها بعقده.
وان كان غير عالم فله الخيار بين المقام والفسخ.
اه قلت: وقد نص أحمد رضى الله عنه على صحة البيع سواء باعها من المستأجر أو من غيره.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقال في الآخر: ان باعها لغير المستأجر لم يصح البيع، لان يد المستأجر حائلة تمنع التسليم إلى المشترى فمنعت الصحة كما في المغصوب.
فإذا ثبت هذا فان المشترى يملك مسلوب المنفعة إلى حين انقضاء الاجارة، ولا يستحق تسليم العين الا حينئذ، لان تسليم العين انما يراد لاستيفاء نفعها، ونفعها انما يستحقه إذا انقضت الاجارة فيصير هذا بمنزلة من اشترى عينا في مكان بعيد، فانه لا يستحق تسليمها الا بعد مضى مدة يمكن احضارها فيها، كالمسلم إلى وقت لا يستحق تسلم المسلم فيه الا في وقته، فان لم يعلم المشترى بالاجارة فله الخيار بين الفسخ وامضاء البيع بكل الثمن.
لان ذلك عيب ونقص.
وعلى هذا إذا اشتراها المستأجر صح البيع أيضا: لانه يصح بيعها لغيره فله أولى لان العين في يده، وهل تبطل الاجارة؟ لا تبطل الاجارة عندنا قولا واحدا.
وعند أحمد وأصحابه وجهان:
(أحدهما)
وهو المذهب عندنا عدم البطلان لانه تملك المنفعة بعقد ثم ملك الرقبة المسلوبة بعقد آخر فلم يتنافيا، كما يملك الثمرة بعقد ثم يملك الاصل بعقد آخر، ولو أجر الموصى بالمنفعة مالك الرقبة صحت الاجارة، فدل على أن ملك
المنفعة لا ينافى العقد على الرقبة.
وكذلك لو استأجر المالك العين المستأجرة من مستأجرها جاز.
فعلى هذا يكون الاجر باقيا على المشترى وعليه الثمن ويجتمعان للبائع كما لو كان المشترى غيره

(15/89)


والوجه الثاني: تبطل الاجارة فيما بقى من المدة لانه عقد على منفعة العين فبطل ملك العاقد للعين كالنكاح، فإنه لو تزوج أمة ثم اشتراها بطل نكاحه.
قالوا ولان ملك الرقبة يمنع ابتداء الاجارة فمنع استدامتها كالنكاح، فعلى هذا يسقط عن المشترى الاجر فيما بقى من الاجارة، كما لو بطلت الاجارة بتلف العين، وإن كان المؤجر قد قبض الاجر كله حسب عليه باقى الاجر من الثمن والله تعالى أعلم.
(فرع)
قال المزني: قال الشافعي ولا يفسخ بموت أحدهما إذا كانت الدار قائمة وليس الوارث بأكثر من الموروث الذى عنه ورثوا.
اه فإذا ثبت هذا فان عقد الاجارة لازم لا ينفسخ بموت المؤجر ولا المستأجر وبه قال مالك واحمد واسحاق.
وقال أبو حنيفة وسفيان والليث بن سعد: الاجارة تبطل بموت المؤجر والمستأجر استدلالا بأن عقود المنافع تبطل بموت العاقد كالنكاح والمضاربة والوكالة، ولان الاجارة تفتقر إلى مؤجر ومواجر فلما بطلت بتلف المواجر بطلت بتلف المؤجر، وتحريره قياسا أنه عقد اجارة يبطل بتلف المواجر فوجب ان يبطل بتلف المؤجر قياسا عليه إذا أجر نفسه، ولان زوال ملك المؤجر عن رقبة المواجر يوجب فسخ الاجارة قياسا عليه إذا باع ما أجره برضى المستأجر، ولان منافع الاجارة انما تستوفى بالعقد والملك، وقد زال ملك المؤجر بالموت وان كان عاقدا.
والوارث لا عقد عليه وان صار مالكا، فصارت منتقلة من العاقد إلى من ليس بعاقد، فوجب أن يبطل لتنافى اجتماع
العقد والملك.
ودليلنا هو ان ما لزم من عقود المعاوضات المحضة لم تنفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع، فان قيل ينتقض بموت من أجر نفسه لم يصح لان العقد انما يبطل بتلف المعقود عليه لا بموت العاقد، ألا تراه لو كان حيا فزمن بطلت الاجارة، وان كان العاقد حيا، ولان السيد قد يعاوض على بضع أمته بعقد النكاح كما يعاوض على خدمتها بعقد الاجارة.
فلما لم يكن موته مبطلا للعقد على بضعها لم يبطل بالعقد على استخدامها.
ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان:
(أحدهما)
أنه عقد لازم على منافع ملكه فلم يبطل بموته كالنكاح على أمته

(15/90)


(والثانى)
أنه أحد منفعتي الامة فلم يبطل بموت السيد كالمنفعة الاخرى، ولان المنافع قد تنتقل بالمعاوضة كالاعيان فجاز أن تنتقل بالارث كالاعيان.
ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان:
(أحدهما)
أن ما صح أن ينتقل بعوض صح أن تنقل به المنافع في الاجارات ولان بالموت يعجز عن إقباض ما استحق تسليمه بعقد الاجارة فلم يبطل بعد العقد كالجنون والزمانة، ولانه عقد لا يبطل بالجنون فلم يبطل بالموت كالبيع، ولان منافع الاعيان مع بقاء ملكها قد يستحق بالرهن تارة وبالاجارة أخرى.
فلما كان ما تستحق منفعته بارتهانه إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان رهنه وجب أن يكون ما استحقت منفعته بالاجارة إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان إجارته، وقد استدل الشافعي بهذا في الام.
ولان الوارث إنما يملك بالارث ما كان يملكه الموروث، والموروث إنما كان يملك الرقبة دون المنفعة فلم يجز أن يصير الوارث مالكا للرقبة والمنفعة، ولان إجارة الوقف لا تبطل بموت موجره بوفاق أبى حنيفة.
وإن قال بعض
أصحابنا: تبطل، فكذلك إجارة الملك لا تبطل بموت موجره كالوقف وأما الجواب عن قياسه على النكاح والمضاربة مع انتقاضه بالوقف فهو أنه إن رده إلى النكاح، فالنكاح لم يبطل بالموت، وانما انقضت مدته بالموت فصار كانقضاء مدة الاجارة.
وان رده إلى المضاربة والوكالة فالمعنى فيهما عدم لزومهما في حال الحياة، وجواز فسخهما بغير عذر، وليست الاجارة كذلك للزومهما في حال الحياة.
وأما الجواب عن قياسه على انهدام الدار، فهو أن المعنى فيه فوات المعقود عليه قبل قبضه.
وأما الجواب عن قياسه على ما إذا باع ما أجر برضى المستأجر فهو غير مسلم الاصل لان الاجارة لا تبطل بالبيع عن رضاه كما لا تبطل بالبيع عن سخطه، وإنما البيع مخطب في إبطاله ثم ينتقص على أصله بعتق العبد المواجر قد زال ملك

(15/91)


سيده عن رقبته مع بقاء الاجارة عليها، فكذلك إذا زال بالبيع والموت.
وأما الجواب عن استدلاله بأن المنافع تستوفى بعقد وملك وهذا مفترق بالموت، فهو أن اجماعهما يعتبر عند العقد ولا يعتبر فيما بعد كما لو أعتق أو باع ولا يمتنع أن يستوفى من يد الوارث ما لم يعاقد عليه كما يستوفى منه ثمن ما اشتراه الموروث ويقبض منه أعيان ما ترك الموروث، لان الموروث قد ملك عليه ذلك بعقده فلم يملكه الوارث بموته.
فأما قول الشافعي: فان قيل: فقد انتفع المكترى بالثمن قيل: كما لو أسلم في متاع لوقت فانقطع ذلك أو ابتاع متاعا غائبا ببلد ودفع الثمن فهلك المتاع رجع بالثمن وقد انتفع به البائع فهذا سؤال أورده الشافعي، وقد اختلف أصحابنا في مراده فقال أبو إسحاق المروزى: أراد به الرد على من اجل الاجره ومنع من
حلولها لئلا ينتفع المكرى بالاجرة قبل انتفاع المكترى بالمنفعة، وقد تنهدم الدار فتفوت المنفعة فقال الشافعي: مثل هذا ليس يمتنع كما أن بائع السلم قد يتعجل مقتضى الثمن وينتفع به وقد يهلك المسلم فيه عند محله فيسترجع ثمن ما انتفع به البائع دون المشترى، وكما يقبض غائب عنه فيتلف قبل قبضه فيرد ثمنه بعد الانتفاع به.
وقال أبو العباس بن سريج: يحتمل أن يريد به الرد على من أبطل الاجاره بموت المؤجر لئلا ينتفع المؤجر بالاجرة ويلزم وارثه تسليم المنفعة فأجاب عنه بما ذكرنا من الجوابين.
وقال أبو حامد الاسفرايينى: انما أراد به ان انهدام الدار وموت العبد في تضاعيف المدة يبطل الاجاره فيما بقى ويوجب أن يرد من الاجره بقسطها، وان انتفع المكرى بها ولم ينتفع المكترى بما قابلها فأجاب بما ذكرنا من انتفاع البائع بثمن المسلم فيه وتلف العين الغائبة.
وقال المزني: هذا تجويز بيع الغائب، وعنه جوابان
(أحدهما)
أنه محمول على أحد قوليه
(والثانى)
أنه محمول على بيع غائب قدراه: فإذا ثبت أن اجارة الملك لا تبطل بموت المؤجر والمستأجر انتقل الكلام إلى اجارة الوقف، فإن أجر ولا حق له في غلته صحت اجارته ولم تبطل بموته

(15/92)


لانه لم يؤجل ملكه وإنما ناب عن غيره، وإن أجره من يستحق غلته ويستوجب أجرته لكونه وقفا عليه فقد اختلف أصحابنا في بطلان الاجارة بموته على وجهين
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن الاجارة قد بطلت بموته وانتقال المنفعة إلى غيره، وفرق بين المالك والوقف بأن وارث الملك يملك عن المؤجر فلم يملك ما خرج عن ملك المؤجر، وليس كذلك الوقف، لان مؤجره يملك منفعته مدة حياته، فإذا فقد انقطع ملكه وانتقل إلى من بعده بشرط
الوقف بالارث.
(والوجه الثاني) وهو الاظهر: الاجارة لا تبطل لان مؤجره وال قد أجره في حق نفسه وحق من بعده بولايته، فإذا انقضى حقه بموته صحت إجارته في حق من بعده بولايته، فإذا كان قد استوفى الاجرة استرجع من تركته أجرة ما بقى من المدة بعد موته.
وإذا استأجر الرجل من أبيه دارا سنة ودفع إليه الاجرة ثم مات الاب نظرت فان لم يكن له غير هذا الابن المستأجر فقد سقط حكم الاجارة لانه صار مالكا للدار والمنفعة إرثا فامتنع بقاء عقده على المنفعة، فان لم يكن على أبيه دين فقد صارت الدار مع التركة إرثا، وإن كان على أبيه دين ضرب مع الغرماء بقدر الاجرة، لانها صارت بانفساخ الاجارة بالارث دينا على الاب فساوى الغرماء فيها، فلو كان للاب ابن آخر انفسخت الاجارة في نصف الدار وهو حصة المستأجر ولزمت في حصة الابن الآخر ورجع المستأجر منهما بنصف الاجره في تركة أبيه لانها صارت دينا عليه.
فإذا أجر الاب أو الوصي صبيا ثم بلغ في الصبى في مدة الاجارة رشيدا لاجارة لازمة لا تنفسخ ببلوغه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(15/93)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
* (باب تضمين المستأجر والاجير)
* إذا تلفت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير فعله لم يلزمه الضمان، لانه عين قبضها ليستوفى منها ما ملكه، فلم يضمنها بالقبض كالمرأة في يد الزوج، والنخلة التى اشترى ثمرتها، وإن تلفت بفعله نظرت فان كان بغير عدوان كضرب الدابة وكبحها باللجام للاستصلاح لم يضمن لانه هلك من فعل مستحق فلم يضمنه كما لو هلك تحت الحمل، وان تلفت بعدوان كالضرب من غير حاجة لزمه الضمان،
لانه جناية على مال الغير لزمه ضمانه.

(فصل)
وان اكترى ظهرا إلى مكان فجاوز به المكان فهلك نظرت، فان لم يكن معه صحابه لَزِمَهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ جاوز به المكان إلى أن تلف لانه ضمنه باليد من حين جاوز فصار كالغاصب، وان كان صاحبه معه نظرت، فان هلك بعد نزوله وتسليمه إلى صاحبه لم يضمن، لانه ضمنه باليد فبرئ بالرد كالمغصوب إذا رده إلى مالكه، وان تلف في حال السير والركوب ضمن، لانه هلك في حال العدوان، وفى قدر الضمان قولان.

(أحدهما)
نصف قيمته، لانه تلف من مضمون وغير مضمون، فكان الضمان بينهما نصفين، كما لو مات من جراحته وجراحة مالكه.

(والثانى)
أنه تقسط القيمة على المسافتين، فما قابل مسافة الاجارة سقط، وما قابل الزيادة يجب، لانه يمكن تقسيطه على قدرهما فقط بناء على القولين في الجلاد إذا ضرب رجلا في القذف احدى وثمانين فمات، وان تعادل اثنان ظهرا استأجراه وارتدف معهما ثالث من غير اذن فتلف الظهر ففيه ثلاثه أوجه.
(أحدها) أنه يجب على المرتدف نصف القيمة، لانه هلك من مضمون وغير مضمون.

(والثانى)
يجب عليه الثلث، لان الرجال لا يوزنون فقسط الضمان على عددهم.

(15/94)


(والثالث) أنه يقسط على أوزانهم، فيجب على المرتدف ما يخصه بالوزن لانه يمكنه تقسيطه بالوزن فقسط عليه.

(فصل)
وان استأجر عينا واستوفى المنفعة وحبسها حتى تلفت، فإن كان حبسها لعذر لم يلزمه الضمان، لانه أمانة في يده فلم يضمن بالحبس لعذر كالوديعة
وان كان لغير عذر فإن قلنا لا يجب الرد قبل الطلب لم يضمن كالوديعة قبل الطلب، وان قلنا يجب ردها ضمن كالوديعة بعد الطلب
(فصل)
وان تلفت العين التى استؤجر على العمل فيها نظرت، فإن كان التلف بتفريط بأن استأجره ليخبز له فأسرف في الوقود أو ألزقه قبل وقته أو تركه في النار حتى احترق ضمنه لانه هلك بعدوان فلزمه الضمان.
وان استؤجر على تأديب غلام فضربه فمات ضمنه، لانه يمكن تأديبه بغير الضرب، فإذا عدل إلى الضرب كان ذلك تفريطا منه فلزمه الضمان.
وان كان التلف بغير تفريط، نظرت، فإن كان العمل في ملك المستأجر بأن دعاه إلى داره ليعمل له، أو كان العمل في دكان الاجير والمستأجر حاضر، أو اكتراه ليحمل له شيئا وهو معه لم يضمن، لان يد صاحبه عليه فلم يضمن من غير جناية.
وان كان العمل في يد الاجير من غير حضور المستأجر نظرت، فان كان الاجير مشتركا، وهو الذى يعمل له ولغيره، كالقصار الذى يقصر لكل أحد والملاح الذى يحمل لكل أحد ففيه قولان:
(أحدهما)
يجب عليه الضمان، لما روى الشعبى عن أنس رضى الله عنه قال: استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين متاعى.
فضمنيها عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه.
وعن خلاس بن عمرو أن عليا رضى الله عنه كان يضمن الاجير.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن على كرم الله وجهه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال لا يصلح الناس الا ذلك.
ولانه قبض العين لمنفعته من غير استحقاق فضمنها كالمستعير، والثانى: لا ضمان عليه، وهو قول المزني، وهو الصحيح.

(15/95)


قال الربيع: كان الشافعي رحمه الله يذهب إلى أنه لا ضمان على الاجير، ولكنه لا يفتى به لفساد الناس، والدليل عليه أنه قبض العين لمنفعته ومنفعة المالك فلم يضمنه كالمضارب.
وإن كان الاجير منفردا وهو الذى يعمل له ولا يعمل لغيره، فقد اختلف أصحابنا فيه، من قال: هو كالاجير المشترك وهو المنصوص، فان الشافعي رحمه الله قال: والاجراء كلهم سواء، فيكون على قولين لانه منفرد باليد فأشبه الاجير المشترك، ومنهم من قال: لا يجب عليه الضمان قولا واحدا لانه منفرد بالعمل فأشبه إذا كان عمله في دار المستأجر.
فإن قلنا إنه أمين فتعدى فيه ثم تلف ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين تعدى إلى أن تلف، لانه ضمن بالتعدي فصار كالغاصب، وان قلنا انه ضامن لَزِمَهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إلَى حِينِ التَّلَفِ كالغاصب.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه قيمته وقت التلف كالمستعير.
وليس بشئ
(فصل)
وان عمل الاجير بعض العمل أو جميعه ثم تلف نظرت فان كان العمل في ملك صاحبه أو بحضرته وجبت له الاجرة أنه تحت يده فكل ما عمل شيئا صار مسلما له، وان كان في يد الاجير فان قلنا انه أمين لم يستحق الاجرة لانه لم يسلم العمل، وان قلنا انه ضامن استحق الاجرة لانه يقوم عليه معمولا فيصير بالتضمين مسلما للعمل فاستحق الاجرة
(فصل)
وان دفع ثوبا إلى خياط وقال: ان كان يكفيني لقميص فاقطعه فقطعه ولم يكفه لزمه الضمان، لانه أذن له بشرط فقطع من غير وجود الشرط فضمنه.
وان قال: أيكفينى للقميص؟ فقال نعم، فقال اقطعه فقطعه فلم يكفه لم يضمن لانه قطعه بإذن مطلق.
(الشرح) الاخبار الواردة في هذه الفصول كرواية الشعبى عن أنس وخبر
خلاس بن عمرو ففى الام.
وقد روى الشافعي خبر جعفر الصادق قال: أخبرنا بذلك ابراهيم بن أبى يَحْيَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عليا ضمن الغسال

(15/96)


والصباغ وقال: لا يصلح الناس الا بذلك.
وقد أعلها الشافعي كما سيأتي في شرح الفصل.
أما الاحكام، فان الدابة إذا لم يكن صاحبها معها لزم المكترى قيمتها كلها، وان كان معها فتلفت في يد صاحبها لم يضمنها المكترى لانها تلفت في يد صاحبها أشبه ما لو تلفت بعد مدة التعدي، وان تلفت بفعل تحت الراكب ففيه قولان.

(أحدهما)
يلزمه نصف قيمتها لانها تلفت بفعل مضمون وغير مضمون أشبه ما لو تلفت بجراحته وجراحة مالكها.

(والثانى)
تقسط القيمة على المسافتين، فما قابل مسافة الاجارة سقط ووجب الباقي، ونحو هذا قول أبى حنفيه فانه قال: من اكترى جملا لحمل تسعة فحمل عشرة فتلف فعلى المكترى عشر قيمته، وموضع الخلاف في لزوم كمال القيمة إذا كان صاحبها مع راكبها أو تلفت في يد صاحبها.
فأما إذا تلفت حال التعدي ولم يكن صاحبها مع راكبها فلا خلاف في ضمانها بكمال قيمتها لانها تلفت في يد عادية فوجب ضمانها كالمخصوبة، وكذلك إذا تلفت تحت الراكب أو تحت حمله وصاحبها معها، لان اليد للراكب وصاحب الحمل، بدليل أنهما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل والآخر آخذ بزمامها لكانت للراكب ولصاحب الحمل، ولان الراكب متعد بالزيادة وسكوت صاحبها لا يسقط الضمان.
كمن جلس إلى انسان فحرق ثيابه وهو ساكت ولانها ان تلفت بسبب تعبها فالضمان على المتعدى، كمن ألقى حجرا في سفينة موقرة فغرقت.
فأما ان تلفت في يد صاحبها بعد نزول الراكب عنها فينظر، فان كان تلفها بسبب تعبها بالحمل والسير فهو كما لو تلفت تحت الحمل والراكب.
وان تلفت بسبب آخر من افتراس سبع أو سقوط في هوة ونحو ذلك فلا ضمان فيها لانها لم تتلف في يد عادية ولا بسبب عدوان.
واختلف أصحاب أحمد في الضمان فظاهر كلام الخرقى وجوب قيمتها إذا تلفت سواء تلفت في الزيادة أو بعد ردها إلى المسافة، وسواء كان صاحبها مع المكترى

(15/97)


أو لم يكن.
وهذا ظاهر مذهب فقهاء المدينة السبعة فيما رواه الاثرم بإسناده عن أبى الزناد وقال: ربما اختلفوا في الشئ فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا، فكان الذى وعيت عنهم على هذه الصفة: أن من اكترى دابة إلى بلد ثم جاوز ذلك إلى بلد سواه، فإن الدابة إن سلمت في ذلك كله أدى كراءها وكراء ما بعدها وإن تلفت في تعديها ضمنها وأدى كراءها الذى تكاراها به.
وهذا هو قول الشافعي والحكم وابن شبرمة وأحمد.
وقال القاضى من الحنابلة: إن كان المكترى نزل عنها وسلمها إلى صاحبها ليمسكها أو يسقيها فتلفت فلا ضمان على المكترى، وإن هلكت والمكترى راكب عليها أو حمله عليها فعليه ضمانها.
وقال أبو الخطاب من الحنابلة أيضا: إن كانت يد صاحبها عليها احتمل أن يلزم المكترى جميع قيمتها، واحتمل أن يلزمه نصف قيمتها.
ولنا أن ما نقلنا عن الشافعي رضى الله عنه في ضرب الدابة ونخسها مما مضى في شرح هذه الفصول كاف في توضيح المذهب.
وقال الشافعي أيضا في اختلاف العراقيين: وإذا تكارى الرجل الدابة إلى موضع فجاوزه إلى غيره فعليه كراء الموضع الذى تكاراها إليه الكراء الذى
تكاراها به، وعليه من حين تعدى إلى أن ردها كراء مثلها من ذلك الموضع.
وإذا عطبت لزمه الكراء إلى الموضع الذى عطبت فيه وقيمتها، وهذا مكتوب في كتاب الاجارات.
قال الشافعي رضى الله عنه: الاجراء كلهم سواء، فإذا تلف في أيديهم شئ من غير جنايتهم فلا يجوز أن يقال فيه الا واحد من قولين
(أحدهما)
أن يكون كل من أخذ الكراء على شئ كان ضامنا له يؤديه على السلامة أو يضمنه أو ما نقصه.
ومن قال هذا القول فينبغي أن يكون من حجته أن يقول: الامين هو من دفعت إليه راضيا بأمانته لا يعطى أجرا على شئ مما دفعت إليه، واعطائي هذا الاجر تفريق بينه وبين الامين الذى أخذ ما استؤمن عليه بلا جعل، أو يقول قائل: لا ضمان على أجير بحال من قبل أنه انما يضمن من تعدى فأخذ

(15/98)


ما ليس له أو أخذ الشئ على منفعة له فيه، اما يتسلط على اتلافه كما يأخذ سلفا فيكون مالا من ماله فيكون ان شاء ينفقه ويرد مثله.
واما مستعير سلط على الانتفاع بما أعير فيضمن، لانه أخذ ذلك لمنفعة نفسه لا لمنفعة صاحبه فيه.
وهذان معا نقص على المسلف والمعير أو غير زيادة له، والصانع والاجير من كان ليس في هذا المعنى فلا يضمن بحال الا ما جنت يده كما يضمن المودع ما جنت يده.
وليس في هذا سنة أعلمها ولا أثر يصح عند أهل الحديث عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد روى فيه شئ عن عمر وعلى وليس يثبت عند أهل الحديث عنهما ولو ثبت عنهما لزم من يثبته أن يضمن الاجراء من كانوا فيضمن أجير الرجل وحده والاجير المشترك والاجير على الحفظ والرعى وحمل المتاع والاجير على الشئ يصنعه لان عمر ان كان ضمن الصناع فليس في تضمينه لهم معنى الا أن يكون ضمنهم بأنهم أخذوا أجرا على ما ضمنوا فكل من كان أخذ أجرا فهو في معناهم.
وان كان على رضى الله عنه ضمن القصار والصائع، فكذلك كل صانع.
وكل من أخذ أجرة.
وقد يقال للراعي صناعته الراعية، وللحمال صناعته الحمل للناس، ولكنه ثابت عن بعض التابعين ما قلت أولا من التضمين أو ترك التضمين.
ومن ضمن الاجير بكل حال فكان مع الاجير ما قلت مثل أن يستحمله الشئ على ظهره أو يستعمله الشئ في بيته أو غير بيته، وهو حاضر لماله أو وكيل له بحفظه فتلف ماله بأى وجه ما تلف به إذا لم يجن عليه جان فلا ضمان على الصانع ولا على الاجير.
وكذلك ان جنى عليه غيره فلا ضمان عليه، والضمان على الجاني.
اه كلام الشافعي رضى الله عنه (فرع)
إذا ترك الاجير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه والاجير على ضربين: خاص ومشترك، فالخاص هو الذى يقع العقد عليه في مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها، كرجل استؤجر لخدمة أو عمل في بناء أو خياطة أو رعاية يوما أو شهرا سمى خاصا لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس، والمشترك الذى يقع العقد معه على عمل معين كخياطة ثوب وبناء حائط وحمل شئ إلى مكان معين، أو على عمل في مدة

(15/99)


لا يستحق جميع نفعه فيها كالكحال والطبيب، سمى مشتركا لانه يتقبل أعمالا لاثنين أو ثلاثة أو أكثر لاشتراكهم في منفعته، فالاجير المشترك ضامن لما جنت يده إلا إذا كان المستأجر حاضرا في دكان الاجير وقت العمل كانت يده عليه فيكون كالاجير الخاص لم يضمن من غير جناية ويجب له أجر عمله، فكلما عمل شيئا صار مسلما إليه.
وذهب مالك إلى ما ذهب إليه الاصحاب.
وذهب أحمد إلى أنه لا فرق بين كونه في ملك نفسه أو ملك مستأجره أو كان صاحب العمل حاضرا عنده أو غائبا عنه قياسا على الطبيب والختان إذا جنت يداهما
ضمنا مع حضور المطيب والمختون فأما الاجير الخاص فهو الذى يستأجره مدة فلا ضمان عليه ما لم يتعد.
قال قال أحمد في رواية مهنا في رجل أمر غلامه أن يكيل لرجل بزرا فسقط الرطل من يده فانكسر لا ضمان عليه، فقيل: أليس هو بمنزلة القصار؟ قال لا، القصار مشترك.
قيل: فرجل اكترى رجلا يحرث له على بقرة فكسر الذى يحرث به؟ قال لا ضمان عليه.
قلت وهذا ظاهر مذهب الشافعي ومذهب مالك وأبى حنيفة وأصحابه، وللشافعي قول آخر أن جميع الاجراء يضمنون، والقول الاول أظهر.
قال الربيع: هذا مذهب الشافعي وإن لم يبح به.
وروى ذلك عن عطاء وطاوس وزفر لانها عين مقبوضة بعقد الاجارة فلم تصر مضمونة كالعين المستأجرة.
وما تلف بتعدى الخباز الذى يسرف في الوقود أو يلزقه قبل أوانه من حيث التخمر المطلوب عند خبزه، أو يتركه بعد وقته حتى يحترق، فانه يضمن في كل ذلك.
(فرع)
إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال: إن كان يقطع قميصا فاقطعه، فقال هو يقطع، وقطعه فلم يكف فعليه ضمانه.
وإن قال: انظر هذا يكفيني قميصا؟ قال نعم.
قال اقطعه، فقطعه فلم يكفه لم يضمن، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأى.
وقال أبو ثور: لا ضمان عليه في المسألتين لانه لو كان غره في الاولى لكان قد غره في الثانية.
أفاده ابن قدامة في المغنى.

(15/100)


دليلنا أنه إنما أذن له في الاولى بشرط كفايته فقطعه بدون شرطه.
وفى الثانية أذن له من غير شرط فافترقا، ولم يجب عليه الضمان في الاولى لتغريره، بل لعدم الاذن في قطعه، لان إذنه مقيد بشرط كفايته فلا يكون إذنا في غير ما وجد فيه
الشرط بخلاف الثانية.
والله أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف أصحابنا فيما يأخذ الحمامى، هل هو ثمن الماء أو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب، فمنهم من قال هو ثمن الماء وهو متطوع بحفظ الثياب ومعير للسطل، فعلى هذا لا يضمن الثياب إذا تلفت وله عوض السطل إذا تلف.
ومنهم من قال هو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب، فعلى هذا لا يضمن الداخل السطل إذا هلك لانه مستأجر، وهل يضمن الحمامى الثياب؟ فيه قولان لانه أجير مشترك.

(فصل)
وان استأجر رجلا للحج فتطيب في إحرامه أو لبس، وجبت الفدية على الاجير، لانه جناية لم يتناولها الاذن فوجب ضمانها، كما لو استأجره ليشترى له ثوبا فاشتراه ثم خرقه.
وإن أفسد الحج صار الاحرام عن نفسه، لان الفاسد غير مأذون فيه فانعقد له كما لو وكله في شراء عبد فاشترى أمة، فإن كان العقد على حجه في هذه السنة انفسخ، لانه فات المعقود عليه، وإن كان على حج في الذمة ثبت له الخيار، لانه تأخر حقه، فإن استأجر للحج من ميقات فأحرم من ميقات آخر لم يلزمه شئ لان المواقيت المنصوص عليها متساوية في الحكم، وإن كان بعضها أبعد من بعض، فإذا ترك بعضها إلى بعض لم يحصل نقص يقتضى الجبران.
وإن أحرم دون الميقات لزمه دم، لانه ترك الاحرام من موضع يلزمه الاحرام منه، فلزمه دم كما لو ترك ذلك في حجه لنفسه، فإن استأجره ليحرم من دويرة أهله فأحرم دونه لزمه دم، لانه وجب عليه ذلك بعقد الاجارة فصار كما لو لزمه في حجه لنفسه بالشرع أو بالنذر فتركه.
وهل يلزمه أن يرد من الاجرة بقسطه؟ قال في القديم يهرق دما وحجه تام

(15/101)


وقال في الام: يلزمه أن يرد من الاجرة بقدر ما ترك، فمن اصحابنا من قال يلزمه قولا واحدا، والذى قاله في القديم ليس فيه نص أنه لا يجب.
ومنهم من قال فيه قولان وهو الصحيح
(أحدهما)
لا يلزمه لان النقص الذى لحق الاحرام جبره بالدم فصار كما لو لم يترك
(والثانى)
انه يلزمه لان ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه رد بدله، كما لو استأجره لبناء عشرة أذرع فبنى تسعة، فعلى هذا يرد ما بين حجه من الميقات وبين حجه من الموضع الذى أحرمه منه فإن استأجره ليحرم بالحج من الميقات فأحرم من الميقات بعمرة عن نفسه ثم أحرم بالحج عن المستأجر من مكة لزمه الدم لترك الميقات، وهل يرد من الاجرة بقدر ما ترك؟ على ما ذكرناه من الطريقين، فإن قلنا يلزمه ففيه قولان قال في الام: يرد بقدر ما بين حَجَّةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ وَحَجَّةٍ مِنْ مَكَّةَ، لِأَنَّ الحج من الاحرام وما قبله ليس من الحج.
وقال في الاملاء: يلزمه أن يرد ما بين حجه من بلده وبين حجه من مكة.
لانه جعل الاجرة في مقابلة السفر والعمل وجعل سفره لنفسه، ويخالف المسألة قبلها لان هناك سافر للمستأجر، وإنما ترك الميقات.
وان استأجره للحج فحج عنه وترك الرمى أو المبيت لزمه الدم كما يلزمه لحجه وهل يرد من الاجرة بقسطه؟ على ما ذكرناه فيمن ترك الاحرام من الميقات.
(الشرح) لا تتوقف منفعة الحمام على مجرد وجود الماء، وإنما المطلوب تبليط الحمام وعمل الابواب والبزل وهى الثقوب والفتحات التى يأتي منها الماء أو النور ومجرى الماء.
وما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة فعلى المكترى.
وإن احتاج المكترى للتمكن من الانتفاع إلى تنقية الكف والبالوعة فعلى المكرى، وان امتلات بفعل المكترى فعليه تفريغها، وهذا
مذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما.
وقال أبو ثور: هو على رب الدار، لان به يتمكن من الانتفاع، فأشبه مالو اكترى وهى ملآى.

(15/102)


وقال أبو حنيفة: القياس أنه على المكترى والاستحسان أنه على رب الدار لان عادة الناس ذلك.
وإذا انقضت الاجارة وفى الحمام قمامة من فعله فعليه رفعه.
وهو مذهب الشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى.
قال الشمس الرملي: نعم دخول الحمام بأجرة جائز بالاجماع مع الجهل بقدر المكث وغيره، لكن الاجرة في مقابلة الآلات لا الماء، فعليه ما يغرف به الماء غير مضمون على الداخل، وثيابه غير مضمونة على الحمامى إن لم يستحفظه عليها ويجيبه إلى ذلك، ولا يجب بيان ما يستأجره له في الدار لقرب التفاوت من السكنى ووضع المتاع، ومن ثم حمل العقد على المعهود في مثلها من سكانها، ولم يشترط عدد من يسكن اكتفاء بما اعتيد في مثلها (فرع)
إذا استأجر رجلا للحج فارتكب ما يوجب الفدية، كمس الطيب ولبس المخيط في الاحرام، فعلى الاجير الفدية من ماله، فإن أفسد أعمال الحج انقلب الْحَجُّ إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فِي مَالِهِ وَالْمُضِيُّ في فاسده والقضاء، وهذا هو الذى قطع الجمهور بصحته وتظاهرت عليه نصوص الشافعي.
وفى قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ وَلَا يَفْسُدُ وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، بَلْ يَبْقَى صَحِيحًا وَاقِعًا عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَلَا تَفْسُدُ بفعل غيره.
وبهذا القول قال المزني.
ولكن المذهب الاول.
قال الشافعي رضى الله عنه: الْوَاجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الواجب بالشرع أو الشرط اه.
فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْهُ فَقَدْ فَعَلَ وَاجِبًا، وَإِنْ أحرم قبله
فقد زاد خيرا كما قال أبو حامد الاسفرايينى وغيره.
أما إذا عدل الاجير عن الميقات المعتبر إلى طريق آخر مِثْلُ الْمُعْتَبَرِ أَوْ أَقْرَبُ إلَى مَكَّةَ فَطَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ وَبِهِ قَطَعَ البندنيجى والجمهور أنه لا شئ عليه.
وحكى القاضى حسين والبغوى وغيرهما فيه وجهين ساقهما النووي في الحج أصحهما أنه لا شئ عليه لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمِيقَاتِ الْمُعْتَبَرِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ كمن ترك الميقات وأحرم بعده.
وهذا القول الثاني يعتبر الشرط في تعيين المكان.

(15/103)


أما إذا اتفقا على تعيين موضع آخَرَ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ الشرعي فالشرط فاسد يفسد الاجارة إذ لا يجوز لمريد النسك تجاوز الميقات دون إحرام وإن كان أبعد كدويرة أهله فيلزم الاجير الاحرام منها وفاء بالشرط، فان جاوزها ثم أحرم فهل يلزمه الدم؟ فيه وجهان (أصحهما) كما هو منصوص: عليه الدم لانه جاوز الميقات المشروط فأشبه مجاوزة الميقات الشرعي
(والثانى)
لا دم، فَإِنْ قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَجَبَ حَطُّ قسط من الاجرة.
قال الشيخ أبو حامد والاصحاب: إن تَرَكَ نُسُكًا لَا دَمَ فِيهِ كَالْمَبِيتِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ إذَا قُلْنَا: لَا دَمَ فِيهِمَا لَزِمَهُ رد شئ من الاجرة بقسطه بلا خلاف فإن لزمه بفعل محظور كاللبس والقلم والطيب لم يحط عنه شئ من الاجرة بلا خلاف.
نقل الغزالي وغيره الاتفاق عليه فإذا اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِرَانِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَتَارَةً يَمْتَثِلُ وتارة يعدل، فإن امتثل فعلى من يجب دم القران؟ وجهان (أصحهما) على المستاجر، ولو شرطاه على الاجير فقد نص الشافعي على فساد الاجارة لجمعه بين مجهول الصفة وهو الدم، وبين الاجارة.
فإذا قلنا بالاصح إنه على الاجير، فان كان معسرا فعليه الصوم الايام الثلاثة في الحج، لان الذى في الحج منهما هو الاجير وعلى المستاجر الاجرة بكمالها.
هذا وقد أفرد الامام النووي رضى الله عنه في كتاب الحج من المجموع فصلا عن الاجير أو في والله تعالى أعلم بالصواب.

(15/104)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
* (باب اختلاف المتكاريين)
* إذا اختلف المتكاريان في مقدار المنفعة أو قدر الاجرة ولم تكن بينة تحالفا لانه عقد معاوضة فأشبه البيع وإذا تحالفا كان الحكم في فسخ الاجارة كالحكم في البيع، لان الاجارة كالبيع، فكان حكمها في الفسخ كالحكم في البيع، فان اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فادعاه المؤجر وأنكره المستأجر، فالقول قول المستأجر، لان الاصل عدم العدوان، والبراءة من الضمان، فان اختلفا في الرد فادعاه المستأجر وأنكره المؤجر، فالقول قول المؤجر أنه لم يرد عليه، لان المستاجر قبض العين لمنفعته، فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير، وان اختلف الاجير المشترك والمستاجر في رد العين فادعى الاجير انه ردها وانكر المستاجر فان قلنا: ان الاجير يضمن العين بالقبض لم يقبل قوله في الرد، لانه ضامن فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير والغاصب.
وان قلنا: انه لا يضمن العين بالقبض فهل يقبل قوله في الرد؟ فيه وجهان كالوكيل يجعل: وقد مضى توجيههما في الوكالة، وان هلكت العين فادعى الاجير انها هلكت بعد العمل، وانه يستحق الاجرة وانكر المستاجر، فالقول قول المستاجر، لان الاصل عدم العمل وعدم البدل.

(فصل)
وان دفع ثوبا إلى خياط فقطعه قباء ثم اختلفنا فقال رب الثوب:
امرتك ان تقطعه قميصا فتعديت بقطعه قباء فعليك ضمان النقص.
وقال الخياط بل امرتي ان اقطعه قباء فعليك الاجرة، فقد حكى الشافعي رحمه الله في اختلاف العراقيين قول ابن أبى ليلى أن القول قول الخياط.
وقول أبى حنيفة رحمه الله عليه ان القول قول رب الثوب.
ثم قال: وهذا اشبه، وكلاهما مدخول.
وقال في كتاب الاجير والمستاجر: إذا دفع إليه ثوبا ليصبغه احمر نصبغه اخضر فقال: امرتك ان تصبغه احمر، فقال الصباغ: بل امرتني ان اصبغه اخضر، انهما يتحالفان.

(15/105)


واختلف اصحابنا فيه على ثلاث طرق، فمنهم من قال: فيه ثلاثة اقوال (احدهما) ان القول قول الخياط، لانه ماذون له في القطع فكان القول قوله في صفته
(والثانى)
ان القول قول رب الثوب، كما لو اختلفا في اصل الاذن (والثالث) انهما يتحالفان وهو الصحيح، لان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه لان صاحب الثوب يدعى الارش والخياط ينكره، والخياط يدعى الاجرة وصاحب الثوب ينكره فتحالفا كالمتابعين إذا اختلفا في قدر الثمن.
ومن اصابنا من قال: المسألة على القولين المذكورين في اختلاف العراقيين وهو قول أبى العباس وأبى اسحاق وأبى على بن أبى هريرة والقاضى أبى حامد.
ومن اصحابنا من قال: هو على قول واحد انهما يتحالفان، وهو قول أبى حامد الاسفرايينى لان الشافعي رحمه الله ذكر القولين الاولين، ثم قال وكلاهما مدخول فان قلنا: ان القول قول الخياط فحلف لم يلزمه ارش النقس، لانه ثبت بيمينه انه ماذون له فيه، وهل يستحق الاجرة؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه لا يستحق الاجرة، لان قوله قبل في سقوط الغرم لانه منكر.
فاما في الاجرة فانه مدع فلم يقبل قوله.

(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ان له الاجرة لانا قبلنا قوله في الاذن، فعلى هذا هل يجب المسمى أو اجرة المثل فيه وجهان احدهما يجب المسمى لانا قبلنا قوله انه اذن له فوجب ما اقتضاه
(والثانى)
يجب له اجرة المثل لانا إذا قبلنا قوله لم نامن ان يدعى الفا واجرة مثله درهم.
(وان قلنا) ان القول قول صاحب الثوب فحلف لم تجب الاجرة لانه فعل ما لم يؤمن فيه ويلزمه ارش القطع لانه قطع ما لم يكن له قطعه.
وفى قدر الارش قولان (احدهما) يلزمه ما بين قيمته مقطوعا وصحيحا لانا حكمنا انه لم يؤذن له في القطع فلزمه ارش القطع
(والثانى)
يلزمه ما بين قيمته مقطوعا قميصا وبين قيمته مقطوعا قباء، لانه قد اذن له في القطع، وانما حصلت المخالفة في الزيادة فلزمه ارش الزيادة، فان لم يكن بينهما تفاوت لم يلزمه شئ وإذا قلنا: انهما يتحالفان فتحالفا لم تجب الاجرة، لان التحالف يوجب رفع العقد، والخياطة من غير عقد لا توجب الاجرة وهل يجب ارش القطع فيه قولان

(15/106)


(احدهما) يجب، لان كل واحد منهما حلف على ما ادعاه ونفى ما ادعى عليه فبرئا كالمتبايعين
(والثانى)
انه يجب ارش النقص لانا حكمنا بارتفاع العقد بالتحالف، فإذا ارتفع العقد حصل القطع من غير عقد فلزمه ارشه.
ومتى قلنا انه يستحق الاجرة لم يرجع بالخيوط، لانه اخذ بدلها، فان قلنا: لا يستحق الاجرة فله ان ياخذ خيوطه، لانه عين ماله فكان له ان ياخذه (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا اختلف الرجلان في الكراء وتصادقا في العمل تحالفا، وكان للعامل اجر مثله فيما عمل، قال وإذا اختلفا في الصفة فقال: امرتك ان تصبغه اصفر أو تخيط قميصا فخطته قباء.
وقال الصانع عملت ما قلت لى، تحالفا وكان على الصانع ما نقص الثوب ولا اجر له، وان
زاد الصبغ فيه كان شريكا بها زاد الصبغ في الثوب، وان نقصت منه فلا ضمان عليه ولا اجره له.
وقال الربيع: الذى ياخذ به الشافعي في هذا ان القول قول رب الثوب وعلى الصانع ما نقص الثوب، وان كان نقصه شيئا لانه مقر باخذ الثوب صحيحا ومدع على انه امره بقطعه أو صبغه كما وصفت فعليه البينة بما قال، فان لم يكن بينة حلف رب الثوب ولزم الصانع ما نقصته الصنعة، وان كانت زادت الصنعة فيه شيئا كان الصانع شريكا بها ان كانت عينا قائمة فيه مثل الصبغ، ولا ياخذ من الاجرة شيئا، فان لم تكن عين قائمة فلا شئ له.
وقال في اختلاف العراقيين: وإذا اختلف الاجير والمستاجر في الاجرة، فان ابا حنيفة كان يقول: القول قول المستاجر مع يمينه إذا عمل العمل وبهذا ياخذ.
وكان ابن أبى ليلى يقول: القول قول الاجير فيما بينه وبين اجرة مثله، الا ان يكون الذى ادعى اقل فيعطيه اياه، وان لم يكن عمل العمل تحالفا وترادا في قول أبى حنيفة.
وينبغى كذلك في قول ابن أبى ليلى.
وقال أبو يوسف بعد: إذا كان شيئا متقاربا قبلت قول المستاجر واحلفته، وإذا تفاوت لم أقبل وجعلت العمل اجر مثله إذا حلف.

(15/107)


فلو اعطاه ثوبا ليخيطه بعد قطعه فخاطه قباء وقال امرتني بقطعه قباء، فقال بل قميصا فالاظهر تصديق المالك بيمينه، لانه منكر اذنه له في قطعه قباء، إذ هو المصدق في اصل الاذن فكذا في صفته والقول الثاني: يتحالفان، وانتصر الاسنوى له نقلا ومعنى، ونبه على انهما لو اختلفا قبل القطع تحالفا اتفاقا، وكل ما وجب التحالف مع بقائه وجب مع تغير احواله، فعلى هذا يبدا بالمالك كما حكاه الرملي، ونقل عن الاستوى المنع
منه بل يبدا بالخياط لانه بائع المنفعة.
قال النووي: ولا اجرة عليه - يعنى المؤجر - بعد حلفه، وعلى الخياط ارش النقص لما ثبت من عدم الاذن، والاصل الضمان، وهو ما بين قيمته مقطوعا قميصا ومقطوعا قباء كما رجحه السبكى.
ولان اصل القطع ماذون فيه، وان رجح الاسنوى كابن أبى عصرون.
وجزم به القونوى والبارزي وغيرهما من شراح الحاوى وغيره انه مابين قيمته صحيحا ومقطوعا لانتفاء الاذن من اصله ولا يقدح في ترجيح الاول عدم الاجرة له، إذ لا تلازم بينها وبين الضمان، وللخياط نزع خيطه، وعليه ارش نقص النزع ان حصل، كما قاله الماوردى والرويانى في البحر، وله منع المالك من شد خيط فيه بجره مكانه.
هكذا افاده الشمس الرملي في النهاية.
ويمكننا ان نستلخص مما مضى من اقاويل انهما إذا اختلفا في قدر الاجر فقال اجرتنيها سنة بدينار، قال بل بدينارين تحالفا، ويبدا بيمين الاجر، وهو قول الشافعي واحمد، لان الاجارة نوع من البيع، فإذا تحالفا قبل مضى شئ من المدة فسخا العقد ورجع كل واحد منهما في ماله، وان رضى احدهما بما حلف عليه الآخر قر العقد، وان فسخا العقد بعد المدة أو شئ منها سقط المسمى ووجب اجر المثل، كما لو اختلفا في المبيع بعد تلفه وهذا قول احمد واصحابه، وبه قال أبو حنيفة ان لم يكن عمل العمل، وان كان عمله فالقول قول المستاجر لانه منكر للزيادة في الاجر والقول قول المنكر فإذا عرفنا ان الاجارة نوع من المبيع عرفنا انهما يتحالفان عند اختلافهما في العوض كالبيع، وكما قبل ان يعمل العمل عند أبى حنيفة.

(15/108)


وقال ابن أبى موسى: القول قول المالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا
اختلف المتبايعان فالقول قول البائع وقال الشافعي في اول اختلاف العراقيين: إذا اسلم الرجل إلى الخياطة ثوبا فخاطه قباء فقال رب الثوب: امرتك بقميص.
وقال الخياط امرتني بقباء، فان ابا حنيفة رحمه الله كان يقول: القول قول الخياط في ذلك، ولو ان الثوب ضاع من عند الخياط ولم يختلف رب الثوب والخياط في عمله فان ابا حنيفة قال: لا ضمان عليه ولان على القصار والصباغ، وما اشبه ذلك من العمال الا فيما جنت ايديهم، بلغنا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه انه قال: لا ضمان عليهم، وكان ابن أبى ليلى يقول: هم ضامنون لما هلك عندهم وان لم تجن ايديهم فيه.
وقال أبو يوسف: هم ضامنون الا ان يجئ شئ غالب.
وقال الشافعي: وثابت عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ قَالَ: لا ضمان على صانع ولا على اجير، فاما ما جنت ايدى الاجراء، والصناع فلا مسألة فيه فهم ضامنون كما يضمن المستودع ما جنت يده، ولان الجناية لا تبطل عن احد، وكذلك لو تعدوا ضمنوا.
قال الربيع: الذى يذهب إليه الشافعي فيما رايت انه لا ضمان على الصانع الا ما جنت ايديهم، ولم يكن يبوح بذلك خوفا من الضياع.
اه، يعنى خوفا من ان يتمادى الصناع في الاهمال فيفضى ذلك إلى ضياع اموال الناس بفشو التلف بين اصحاب الحرف
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا استاجر صانعا على عمل من خياطة أو صباغة فعمل فهل له ان يحبس العين على الاجرة؟ فيه وجهان (احدهما) لا يجوز لانه لم يرهن العين عنده فلم يجز له احتباسها، كما لو استاجره ليحمل له متاعا فحمله ثم اراد ان يحبس المتاع على الاجرة
(والثانى)
يجوز لان عمله ملكه فجاز له حبسه على العوض
كالمبيع في يد البائع.

(15/109)


(فصل)
وإن دفع ثوبا إلى رجل فخاطه ولم يذكر له أجرة فقد اختلف أصحابنا فيه اربعة أوجه.
أحدها: أنه تلزمه الاجرة، وهو قول المزني رحمه الله، لانه استهلك عمله فلزمه أجرته.
والثانى: أنه إن قال له: خطه لزمه، وإن بدأ الرجل فقال: أعطني لاخيطه لم تلزمه وهو قول أبى إسحاق لانه إذا أمره فقد ألزمه بالامر، والعمل لا يلزم من غير أجرة فلزمته، وإذا لم يأمره لم يوجد ما يوجب الاجرة فلم تلزم.
والثالث: أنه إذا كان الصانع معروفا بأخذ الاجرة على الخياطة لزمه، وإذا لم يكن معروفا بذلك لم يلزمه، وهو قول أبى العباس، لانه إذا كان معروفا بأخذ الاجرة صار العرف في حقه كالشرط، وإن لم يكن معروفا لم يوجد ما يقتضى الاجرة من جهة الشرط ولا من جهة العرف.
والرابع: وهو المذهب: أنه لا يلزمه بحال، لانه بذل ماله من غير عوض فلم يجب له العوض، كما لو بذل طعامه لمن أكله، وان نزل رجل في سفينة ملاح بغير اذنه فحمله فيها إلى بلد لزمه الاجرة، لانه استهلك منفعة موضعه من السفينة من غير اذن فلزمه أجرتها، وان نزل فيها عن اذنه ولم يذكر الاجرة، فعلى ما ذكرناه من الوجوه الاربعة في الخياطة، وبالله التوفيق.
(الشرح) قال الماوردى في الحاوى الكبير: وليس لمؤجر الارض أن يحتبس الارض على المستأجر على دفع الاجرة، ولا للجمال أن يحبس ما استؤجر على حمله من المبتاع ليأخذ الاجرة لانه في يده أمانة وليس برهن.
فأما الصانع المستأجر على عمل من خياطة أو صباغة هل له احتباس ما بيده من العمل على
أجرته؟ فيه وجهان.
أحدهما: ليس له ذاك قياسا على ما ذكرنا، والثانى: له ذاك لان عمله ملك له كالبائع، فإذا حبس الصانع الثوب بعد عمله على استيفاء الاجر فتلف ضمنه، لانه لم يرهنه عنده، ولا اذن له في امساكه، فلزمه الضمان كالغاصب، وبهذا قال أصحاب أحمد كما أفاده ابن قدامة.
(فرع)
إذا عمل الصانع عملا لغيره بإذنه كأن دفع ثوبا إلى قصار ليقصره

(15/110)


أو إلى خياط ليخيطه ففعل ولم يذكر أحدهما أجرة فلا أجرة له لتبرعه، ولانه لو قال: أسكني دارك شهرا فأسكنه لم يستحق عليه أجرة بالاجماع كما في البحر والاوجه كما بحثه الاذرعى وجوبها في قن ومحجور سفه لانهما غير أهل للتبرع ومثلهما غير المكلف بالاولى.
قال النووي: وقيل: له أجرة مثله، وقيل: أن كان معروفا بذلك العمل بالاجرة فله والا فلا وقد يستحسن اه.
وصورة المسألة إذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليخيطه أو يقصره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض بأجر مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله وأنا أعلم أنك انما تعمل بأجر، وكان الخياط والقصار متوفرين على ذلك وقد عرف عنهما الاجر الذى يأخذانه، وكان لصاحب الدكان لافتة سجل فيها أسعار أجرته كما يفعل الكواءون والحلاقون والخياطون والساعاتيون كان ذلك يجرى مجرى الافهام الذى هو شرط عندنا في صحة الاجارة.
وعند أصحاب أحمد أن العرف الجارى بذلك يقوم مقاوم القول فصار كنقد البلد، ولان شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعيريض، إذا عرف هذا فإن في المسألة أربعة أوجه.

(أحدهما)
وهو قول المزني يستحق الاجر مطلقا لانه استهلك عمله فلزمه عوضه
والثانى: التفريق بين طلب رب الثوب منه أن يخيطه وبين أن يطلب من رب الثوب أن يخيطه له، فإذا قال له رب الثوب خط هذا لى فقد كلفه بعمل له ما يقابله من الاجر فيلزمه لانه يأمره بالعمل والعمل لا يلزم بغير أجرة، وإذا قال الخائط أعطني هذا الثوب لاخيطه لك لم تلزمه أجرته وهو قول أبى اسحاق المروزى، حيث لم يأمره فليس ثم ما يوجب له الاجرة (والثالث) وهو قول أبى العباس بن سريج، وهو الذى أخذ به أحمد واصحابه، وذكره النووي في المنهاج بصيغة التمريض بقوله: وقيل وهو أنه إذا كان الصانع معروفا بأخذ الاجرة على الخياطة لزمه، والا لم يلزمه لان العرف يجرى مجرى الشرط (والرابع) وهو الظاهر من المذهب أنه لا أجرة لن كمن قدم طعامه لمن يأكل فليس له أن يطلب ثمنه.
وخص المصنف والاصحاب السفينة إذا نزلها أو شحن فيها متاعة بغير اذن

(15/111)


الملاح فإنه يلزمه عوض استهلاك منفعة موضعه من السفينة.
وقال الشمس الرملي وقد يستحسن ترجيحه لوضوح مدركه وهو يقصد أن يكون الصانع معروفا بأخذ الاجرة إذ هو العرف، وهو يقوم مقام اللفظ كثيرا، ونقل عن الاكثرين، والمعتمد الاول، فإن ذكر أجرة استحقها قطعها إن صح العقد، وإلا فأجرة المثل، وأما إذا عرض كأرضيك أو لا أخيبك أو ترى ما تحبه أو يسرك أو أطعمك فتجب أجرة المثل، نعم في الاخيرة يحسب على الاجير ما أطمعه إياه كما هو ظاهر، وقد تجب من غير تعريض بها كما في عامل الزكاة اكتفاه بثبوتها بالنص فكأنها مسماة شرعا، وكعامل مساقاة عمل ما ليس بلازم له بإذ المالك اكتفاء بذكر المقابل له في الجملة.
قال: ولا يستثنى وجوبها على داخل الحمام أو راكب السفينة مثلا من غير إذن لاستيفائه المنفعة من غيرب أن يصرفها صاحبها إليه
بخلافه بإذنه، وسواء في ذلك أسيسر السفينة بعلم مالكها أم لا.
وقول ابن الرفعة في المطلب لعله فيما إذا لم يعلم به مالكها حين سيرها، وإلا فيشبه أن يكون كما لو وضع متاعة على دابة غيره فسيرها مالكها، فإنه لا أجرة على مالكه، ولا ضمان مردود، فقد فرق العراقى بينهما بأن راكب السفينة بغير إذن غاصب للبقعة التى هو فيها ولو لم يسير، بخلاف واضع متاعه على الدابة لا يصير غاصبا لها بمجرد وضع متاعة، ويفرق أيضا بأن مجرد العلم لا يسقط الاجرة ولا الضمان، فإن السكوت على إتلاف المال لا يسقط الضمان، وهو علم وزيادة، ومالك الدابة بسبيل من إلقاء المتاع قبل تسييرها بخلافه في راكب السفينة اه.
قال الرملي الصغير في النهاية وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(15/112)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
* (باب الجعالة)
* يجوز عقد الجعالة وهو أن يبذل الجعل لمن عمل له عملا من رد ضالة ورد آبق وبناء حائط وخياطة ثوب وكل ما يستأجر عليه من الاعمال، والدليل عيله قوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وروى أبو سعيد الخدرى (أن ناسا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أتو احيا من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا هل فيكم راق فقالوا لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم قطيع شاء فجعل رجل يقرأ بام القرآن ويجمع بزاقة ويتفل فبرا الرجل فأتوهم بالشاء فقالوا: لا نأخذها حتى نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذلك فضحك وقال: ما أدراك إنها رقية؟ خذوها واضربوا إلى فيها بسهم ولان الحاجة تدعو إلى ذلك من رد ضالة وآبق وعمل لا يقدر عليه فجاز كالاجارة والمضاربة.

(فصل)
ويجوز ان يعقد لعامل غير معين للآية، ولانه قد يكون له عمل
ولا يعرف من يعمله، فجاز من غير تعيين، وروى المزني في المختصر عن الشافعي رحمه الله في المنثور انه قال إذا قال أول من يحج عنى فله مائة فحج عنه رجل أنه يستحق المائة.
وقال المزني: ينبغى أن يستحق أجرة المثل لانه اجازة فلم تصح من غير تعيين، وهذا خطا، لان ذلك جعالة، وقد بينا ان الجعالة تجوز من غير تعيين العامل.

(فصل)
وتجوز على عمل مجهول للآية، ولان الحاجة تدعو إلى ذلك فجاز مع الجهالة كالمضاربة، ولا تجوز الا بعوض معلوم، لانه عقد معاوضة فلا تجوز بعوض مجهول كالنكاح، فان شرط له جعلا مجهولا فعمل استحق أجرة المثل، لان كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب المثل في فاسده، كالبيع والنكاح.

(15/113)


(فصل)
ولا يستحق العامل الجعل الا بإذن صاحب المال، فأما إذا عمل له عملا من غير إذنه بأن وجد له آبقا فجاء به، أو ضالة فردها إليه، لم يستحق الجعل لانه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحق العوض، فان عمل باذنه ولم يشرط له الجعل، فعلى الاوجه الاربعة التى ذكرناها في الاجارة، فان اذن له وشرط له الجعل فعمل استحق الجعل، لانه استهلك منفعته بعوض فاستحق العوض كالاجير، فان نادى فقال: من رد عبدى فله دينار فرده من لم يسمع النداء لم يستحق الجعل لانه متطوع بالرد من غير بدل، فان أبق عبد لرجل فنادى غيره ان من رد عبد فلان فله دينار، فرده رجل وجب الدينار على المنادى، لانه ضمن العوض فلزمه، فان قال في النداء: قال فلان: من رد عبدى فله دينار فرده رجل لم يلزمه المنادى، لانه لم يضمن.
وانما حكى قول غيره.

(فصل)
ولا يستحق العامل الجعل الا بالفراغ من العمل، فان شرط له
جعلا على رد الآبق فرده إلى باب الدار ففر منه أو مات قبل ان يسلمه لم يستحق شيئا من الجعل، لان المقصود هو الرد، والجعل في مقابلته ولم يوجد منه شئ، وان قال: من رد عبدى الآبق من البصرة فله دينار وهو ببغداد فرده رجل من واسط استحق نصف الدينار، لانه رد من نصف الطريق، وان رده من أبعد من البصرة لم يستحق اكثر من الدينار، لانه لم يضمن له لما زاد شيئا.
وان أبق له عبدان فقال من ردهما فله دينار، فرد رجل أحدهما استحق نصف الجعل، لانه عمل نصف العمل.
وان قال: من رد عبدى فله دينار، فاشترك في رده اثنان اشتركا في الدينار، لانهما اشتركا في العمل فاشتركا في الجعل وان قال لرجل: ان رددت عبد فلك دينار، وقال لآخر: ان ردته فلك ديناران، فاشتركا في الرد استحق كل واحد منهما نصف ما جعل له، وان جعل لاحدهما دينارا وللآخر ثوبا مجهولا فرداه استحق صاحب الدينار نصف دينار وصاحب الثوب نصف أجرة المثل، لان الدينار جعل صحيح، فاستحق نصفه، والثوب جعل باطل فاستحق نصف اجرة المثل، وان قال لرجل ان رددت عبدى فلك دينار فشاركه غيره في رده، فان قال: شاركته معاونة له كان الدينار للعامل

(15/114)


لان العمل كله له فكان الجعل كله له، وان قال شاركته لاشاركه في الجعل كان للعامل نصف الجعل، لانه عمل نصف العمل، ولا شئ للشريك لانه لم يشرط له شيئا.
(الشرح) هي بتثليث الجيم عند ابن مالك وغيره.
واقتصر النووي والجوهري والفيومى صاحب المصباح على كسرها، وابن الرفعة في الكفاية والمطالب على فتحها، وهى لغة اسم لما يجعله الانسان لغيره على شئ يفعله، وكذا الجعل والجعيلة، وأما تعريفها شرعا فهو التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو
مجهول بمعين أو مجهول.
وقد أورد المصنف الجعالة عقب الاجارة، وكذلك فعل النووي في الروضة وصاحب الشرح، لان التلازم بين الاجارة والجعالة واضح، لانها عقد على عمل، إلا أن أكثر المصنفين في الفقه جعلوها بعد اللقطة، لانها طلب النقاط الدابة الضالة.
وقد استدل المصنف على انها من العقود الجائزة بقوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير) واعتبر الرملي سوقه الاية استئناسا وليس استدلالا، وعلل ذلك الشبراملسى في حاشيته على النهاية هذه العبارة بان شرع من قبلنا ليس شرعا لنا وان ورد في شرعنا ما يقرره.
اما الحديث الذى ساقه المصنف عن أبى سعيد فقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وأتم هذه الطرق جميعا رواية البخاري ولفظها (انطلق نفر مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفرة سافروها حتى نزلوا على حى من احياء العرب فاستضافوهم فابوا ان يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحى فسعوا له بكل شئ، لا ينفعه شئ، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم ان يكون عندهم بعض شئ، فاتوهم فقالوا: يا ايها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شئ لا ينفعه فهل عند احد منكم من شئ؟ قال بعضهم إنى والله لا رقى لكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما انا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من غنم فانطلق يتفل عليه، ويقرأ الحمد لله

(15/115)


رب العالمين، فكانما نشط من عقال، فانطلق يمشى وما به قلبة، قال فاوفواهم جعلهم الذى صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذى رقى: لا تفعلوا حتى ناتى النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذى كان، فننظر الذى
يامرنا، فقدموا على النبي صلى الله عليه واسلم فذكروا له ذلك فقال: وما يدريك انه رقية؟ ثم قال: قد اصبتم واضربوا إلى معكم سهما، وضحك النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَى البخاري رواية عن ابن عباس بلفظ (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من اهل الماء فقال: هل فيكم من راق فان الماء رجلا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم فقرا بفاتحة الكتاب على شاء، فجاء بالشاء إلى اصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: اخذت على كتاب الله اجرا؟ حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله اخذ على كتاب الله اجرا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ان احق ما أخذتم عليه اجرا كتاب الله) قوله (فاستضافوهم) في رواية للترمذي انهم ثلاثون رجلا.
وقد روى الحاكم رواية أبى سعيد الخدرى على انه هو الرقى، وهى على شرط مسلم.
قال الزركشي: ويستنبط منه جواز الجعالة على ما ينتفع به المريض من داوء أو رقبة وان لم يذكروه.
وهو متجه ان حصل به تعب والا فلا اخذا مما ياتي.
على ان الاجماع منعقد على جوازها لما تدعو إليه الحاجة من ضالة، أو عمل لا يقدر عليه ولا يجد من يتطوع به، ولا تصح الاجارة عليه لجهالة، فجاز ان يجعل له جعلا كالاجارة والقراض.
واركان الجعالة اربعة: صيغة ومتعاقدان وعمل وعوض.
ولما كان الجعل لا يستحق الا باذن صاحب المال كالاجارة، فانه فارق الاجارة في استحاقه بالعمل، اما الاجارة فانها تستحق بالعقد، لانه لو قال: من رد على ضالتي فله درهم قبلها بطل، هكذا افاده الغزالي في كتاب الدور، وعدم اشتراط قبضه في المجلس مطلقا، ويشترط في المللتزم للجعل مالكا أو غيره ان يكون مطلق التصرف كما في الاجارة فلا يصح بالتزام الصبى أو المحجور عليه للسفه أو
المجنون.
كما يشترط في العامل المعين اهلية العمل بان يكون قادرا عليه ولا

(15/116)


تشترط الحرية وغير المكلف، وان يقوم بالعمل باذن وبغير اذن، كما قال ذلك السبكى خلافا لابن الرفعة في اشتراط اذن السيد، ويخرج بذلك العاجز عن العمل كالصغير والضعيف إذا غلبهما العمل، فاشبه استئجار الاعمى للحراسة.
هكذا افاده الزركشي وابن العماد ونقل المزني ان الشافعي نص في المنشور أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمَعْضُوبُ: مَنْ حَجَّ عَنَى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَحَجَّ عَنْهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ.
قَالَ الْمُزَنِيّ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، لِأَنَّ هَذَا إجَارَةٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْأَجْرِ.
هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، والمسألة التى ساقها المصنف بذكر النووي رضى الله عنه ان للاصحاب فيها ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ وُقُوعُ الْحَجِّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ ويستحق الاجرة المسماة.
وبهذا نص الشافعي واختاره النووي، لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ.
وَالْجَعَالَةُ تَجُوزُ عَلَى عمل مجهول، فمن باب اولى المعلوم،
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى.
وقد حَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ مُعْظَمَ الْإِصْحَابِ مَالُوا إلى هذا.
قال النووي.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: لَا تَجُوزُ الْجَعَالَةُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.
(وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ يَفْسُدُ الْإِذْنُ وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْأَجِيرِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ إلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ دَارِي فِي بَيْعِهَا.
فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا التَّوْكِيلِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.
وذكر امام الحرمين ان شيخ وَالِدَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ أَشَارَ إلَيْهِ فَقَالَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسَادِ الْإِذْنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا بَلْ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْمَذْهَبِ
وَالدَّلِيلِ.
فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ.
فَقَالَ مَنْ حج عنى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَسَمِعَهُ رَجُلَانِ وَأَحْرَمَا عَنْهُ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْأَصْحَابُ: إنْ سَبَقَ إحْرَامُ أَحَدِهِمَا وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْقَائِلِ وَيَسْتَحِقُّ السَّابِقُ المائة.
واحرام الثاني يقع عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَصَارَ كَمَنْ عَقَدَ نِكَاحَ أُخْتَيْنِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَلَوْ قَالَ مَنْ حَجَّ عَنِّي فَلَهُ مائة دينار فحج عَنْهُ رَجُلَانِ.
أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ.

(15/117)


وَقَعَ إحْرَامُ السَّابِقِ بِالْإِحْرَامِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْقَائِلِ وله عليه المائة.
ولو احراما معا وقع حج كل منهما عن نفسه ولا شئ لهما على القائل، لانه لَيْسَ فِيهَا أَوَّلٌ.
وَلَوْ كَانَ الْعِوَضُ مَجْهُولًا بأن قال: من حج عنى فله ثوب أو دراهم أو ناقة وقع الحج عن القائل بأجرة المثل.
(فرع)
استدل المصنف من قوله تعالى (ولمن جاء به) على جواز عقدها لغير المعين، كما في المثال الذى سبق فيمن يحج عنه، كما استدل بالآية أيضا على جوازها على عمل مجهول.
وكذلك لو قال: من رد ضالتي من سامعي ندائى فله كذا فرده من علم ندائه ولم يسمع منه لم يستحق، هكذا أفاده الماوردى وصرح بمثله القاضى حسين.
قال الاذرعى، وقول القاضى فان رده بنفسه أو بعده استحق، يفهم عدم الاستحقاق إذا استقل العبد بالرد.
قال النووي، ولو قال أجنبي من رد عبد زيد فله كذا استحقه الراد على الأجنبي.
قال الرملي استحقه الراد العالم به على الأجنبي لانه التزمه فصار كخلع الأجنبي، وكما لو التمس إلقاء متاع غيره في البحر لخوف الهلاك وعليه ضمانه.
إذا ثبت هذا فان العامل بلا إذن لا يستحق الجعالة، لانه لو أذن لشخص
فعمل غيره فلا شئ له ولو كان معروفا برد الضال بعوض لانه لم يلتزم عوضا له فوقع عمله تبرعا.
وقال الشبراملسى عند قوله (فلو عمل أحد بلا إذن فقال ومن ذلك ما جرت به العادة في قرى مصرنا من أن جماعة اعتادوا حراسة الجرين نهارا وجماعة اعتادوا حراسته ليلا، فان اتفقت معاقدتهم على شئ من أهل الجرين أو من بعضهم باذن الباقين لهم في العقد استحق الحارسون ما شرط لهم ان كانت الجعالة صحيحة وإلا فأجرة المثل وأما ان باشروا الحراسة بلا إذن من أحد اعتمادا على ما سبق من دفع أرباب الزرع للحارس سهما معلوما عندهم لم يستحقوا شيئا.
وليس كما لو التزم الثمن في شراء غيره أو الثواب في هبة غيره، لانه عوض تمليك فلا يتصور وجوبه على غير من حصل له الملك، والجعل ليس عوض تمليك.
واستشكل ابن الرفعة هذه بأنه لا يجوز لاحد وضع يده على مال غيره بقول

(15/118)


الأجنبي بل يضمنه فكيف يستحق الاجرة.
وأجيب بأنه لا حاجة إلى الاذن في ذلك لان المالك راض به قطعا، أو بأن صورة ذلك أن يأذن المالك لمن شاء في الرد والتزم الأجنبي بالجعل، أو يكون للاجنبي ولاية على المالك، وقد يصور أيضا بما إذا ظنه العامل المالك أو عرفه وظن رضاه.
وظاهر كلام المصنف أنه يلزمه العوض المذكور وإن لم يقل على.
قال الرملي: وهو كذلك فقد قال الخوارزمي في الكافي: ولو قال الفضولي: من رد عبد فلان فله على دينار، أو قال فله دينار، فمن رده استحق على الفضولي ما سمى.
وصرح به ابن يونس في شرح التعجيز، فانه صور المسألة بما إذا قال على ثم قال وألحق الائمة به قوله فله كذا.
وإن لم يقل عليه، لان ظاهره التزام.
ولو قال أحد الشريكين في رقيق: من رد رقيقي فله كذا فرده شريكه فيه استحق
الجعل.
وصورة المسألة إذا لم يكن القائل ولى المالك.
فأما إذا كان وليه وقال ذلك عن محجوره على وجه المصلحة بحيث يكون الجعل قدر أجرة مثل ذلك العمل أو أقل استحقه الراد في مال المالك بمقتضى قول وليه، ويعلم مما تقرر أنه لا يتعين على العامل المعين العمل بنفسه.
فلو قال لشخص معين: إن رددت على ضالتي فلك كذا لم يتعين عليه السعي بنفسه، بل له أن يستعين بغيره، فإذا حصل الفعل استحق الاجرة.
قاله الغزالي في البسيط قال الرملي: وحاصله أن توكيل العامل المعين غيره في الرد كتوكيل الوكيل فيجوز له أن يوكله فيما يعجز عنه وعلم به القائل أو لا يليق به كما يستعين به، وتوكيل غير المعين بعد سماعه النداء غيره، كالتوكيل في الاحتطاب والاستقاء ونحوهما فيجوز، فعلم أن العامل المعين لا يستنيب فيها إلا إن عذر وعلم به الجاعل حال الجعالة.
اه (فرع)
تصح الجعالة على عمل مجهول كما ذكر ذلك المصنف لان الجهالة احتملت في القراض لحصول زيادة، فاحتمالها في رد الحاصل أولى، وهو مقيد كما أفاده جمع بما إذا عسر ضبطه لا كبناء حائط فيذكر محله وطوله وسمكه وارتفاعه وما يبنى به، وخياطة ثوب فيصفه كالاجارة.
أما صحتها على المعلوم فأولى.
ومثال ذلك قوله: من رد على ضالتي من مكان كذا فله كذا، وهذا هو الاصح.

(15/119)


(والثانى)
المنع للاستغناء عنه بالاجارة، وقد عرفت أنه لا بد من كون العمل فيه كلفة أو مؤنة، كرد آبق أو ضال، أو أداء حج أو خياطة ثوب أو تعليم علم أو حرفة، أو إخبار فيه غرض وصدق فيه، فلو رد من هو بيده ولا كلفة فيه فلا شئ له، إذ مالا كلفة فيه لا يقابل بعوض فلو قال من دلنى على مالى فله كذا فدله غير من هو بيده استحق، لان الغالب
أنه تلحقه مشقة.
قال الاذرعى ويجب أن يكون هذا فيما إذا بحث عنه بعد جعل المالك.
أما البحث السابق والمشقة السابقة قبل الجعل فلا عبرة بهما ويلزم عدم التوقيت في الجعالة.
لانه لو قال من رد على ضالتي إلى شهر كذا فله كذا لو يصح كما في القراض، لان تقدير المدة مخل بمقصود العقد، فقد لا يظفر به فيها فيضيع سعيه ولا يحصل الغرض، سواء أضم إليه من محل كذا أم لا، وغير واجب على العامل.
فلو قال من دلنى على مالى فله كذا فدله من المال في يده لم يستحق شيئا لان ذلك واجب عليه شرعا، فلا يأخذ عليه عوضا.
وكذا لو قال من رد مالى فله كذا فرده من هو في يده ويجب عليه رده.
وقضيته أنه لو كان الدال أو الراد غير مكلف استحق.
وقد أفتى الامام النووي كما حكى ذلك صاحب نهاية المحتاج فيمن حبس ظلما فبذل مالا لمن يتكلم في خلاصه بجاهه وغيره بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها حلال، ونقله عن جماعه، ثم قال وفى ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا (قلت) فإذا كان العرف هو الذى يبنى عليه حد الاباحة والمنع في الجعالة فمقتضى العرف الذى نعلمه اليوم أن ذلك رشوة، فإذا كان صاحب جاه يستطيع أن يرفع ظلما وقع على إنسان بجاهه وجب عليه العمل على رفعه، وبذلك تبطل الجعالة، لانها لا تكون إلا عوضا عما لا يجب على العامل.
ومقتضى النصيحة والعمل لاحقاق الحق الذى يلزمه كل مسلم يمنع هذه الصورة التى أفتى بها النووي رحمه الله تعالى.
ولانهم قالوا إن السعي والعمل وبذلك المجهود هي مع حصول المقصود توجب

(15/120)


الجعالة، وجعلو إخبار الطبيب للمريض بدوائه عملا تافها لا جهد فيه ولا سعى
فلا يستحق عليه جعلا، فكيف بمن له جاه يمكن أن يؤثر به في رفع ظلم أو قضاء مصلحة بدون مشقة أو جهد أو سعى إلا أن يتفوه بكلمة هل يحل له أن يأخذ جعالة؟ إن قياس المذهب والبناء على أصله يمنع ذلك.
ولا أعلم في ذلك خلاف في الاصل الذى بنينا عليه، لانه يستمد قوته من قوله صلى الله عليه وسلم (الحلال بين والحرام بين) ويشترط لصحة العقد كون الجعل مالا معلوما لانه عوض كالاجرة والمهر ولانه عقد جوز للحاجة، ولا حاجة لجهالة العوض بخلاف العمل، ولان جهالة العوض تفوت مقصود العقد إذ لا يرغب أحد في العمل مع جهالة العوض، ويحصل العلم بالمشاهدة إن كان معينا، وبالوصف إن كان في الذمة.
فلو قال: من رد ضالتي فله ما حملت، وكان ما تحمله معروفا كسرجها ولجامها أو شيئا آخر تنقله ضلت به وكان معروفا للعامل، واستشكل ابن الرفعة اعتبار الوصف في المعين لانهم منعوه في البيع والاجارة وغيرهما.
قال البلقينى: ويمكن الفرق بدخول التخفيف هنا فلم يشدد فيها بخلاف نحو البيع، وقياسه صحته فله نصفه إن علم، وإن لم يعرف محله وهو أوجه الوجهين.
وما قاسه عليه الرافعى من استئجار المرضعة بنصف الرضيع بعد الفطام أجاب عنه في الكفاية بأن الاجرة المعينة تملك بالعقد فجعلها جزءا من الرضيع بعد الفطام يقتضى تأجيل ملكه، وهنا إنما تملك بتمام فلا مخالفة لمقتضى العقد ولا عمل يقع في مشترك، كذا أفاده الرملي (فرع)
إذا قال: من رد على ضالتي من بلد كذا فرده من جهه ذلك البلد لكن من أبعد منه فلا زيادة له لتبرعه بها.
أما إذا قال: من رده من بلد كذا فرده من أقرب منه فلا يستحق الاقسطه من الجعل، لانه جعل كل الجعل
في مقابلة العمل، فبعضه في مقابلة بعضه، فإن رده من نصف الطريق استحق نصف الجعل.

(15/121)


فإذا كانت الطريق غير متساوية في الحزونة والسهولة بأن كان النصف الذى قطعه يمكن أن تكون أجرته ضعف أجرة النصف الآخر استحق الثلثين من الجعل، فإن كان من البلد أو من مسافة مثل مسافته ولو من جهة أخرى استحق المسمى.
ولو رد من البلد المعين، ورأى المالك في نصف الطريق فدفعه إليه استحق نصف الجعل.
ولو قال: من رد على ضالتي فله كذا، فرد احدهما استحق نصف الجعل، استوت قيمة الضالتين أو اختلفت.
ولو قال لرجلين ان رددتما ضالتي فلكما كذا فرد أحدهما احداهما استحق الربع أو كليهما استحق النصف أو رداهما استحقا المسمى.
ولو قال أول من يرد ضالتي فله كذا فرداها استحقا المسمى مناصفة لوصفهما بالاوليه في الرد.
ولو قال لكل واحد من ثلاثة ردها ولك دينار، فردوها جميعا استحق كل واحد منهم ثلث دينار توزيعا بالحصص على الرؤوس، هذا إذا عمل كل منهم لنفسه ليأخذ الدينار.
أما لو قال: أعنت صاحبي فلا شئ له ويقتسمان في الدينار، أو قال اثنان ذلك أخذ الثالث الدينار وحده ولا شئ لهما وللآخر جميع المشروط، فان شاركهم رابع فلا شئ له.
أما إذا قصد بمعاونته المالك أو أخذ الجعل منه فلكل واحد من الثلاثة ربع المشروط، فان أعانا أحدهما فلكل واحد من الاثنين ربع المشروط وللمعاون
بفتح الواو النصف، فان شرط لاحدهم جعلا مجهولا، ولكل من الآخرين دينارا فردوه فله ثلث أجرة المثل ولهما ثلثا المسمى.
وهكذا قال النووي إذا اشترك اثنان في رده اشتركا في الجعل.
ولو التزم جعلا لمعين فشاركه غيره في العمل ان قصد اعانته فله كل الجعل.

(15/122)


وهنا يقول صاحب النهاية: لان قصد الملتزم الرد ممن التزم له بأى وجه أمكن فلم يقصر لفظه على المخاطب وحده بخلاف ما مر فيما إذا أذن لمعين فرد نائبه مع قدرته، لان المالك لم يأذن فيه اصلا.
ولا شئ للمعين إلا إن التزم له المخاطب أجرة، ويؤخذ من كلامهم هنا، وفى المساقاة كما أفاده السبكى جواز الاستنابة في الامامة والتدريس وسائر الوظائف التى تقبل النيابة، أي ولو بدون عذر فيما يظهر، ولو لم يأذن الواقف إذا استناب مثله أو خيرا منه، ويستحق المستنيب جميع المعلوم، وان أفتى ابن عبد السلام والنووي بأنه لا يستحقه واحد منهما، إذ المستنيب لم يباشر والنائب لم يأذن له الناظر، فلا ولاية له، وما نازع به الاذرعى من كون ذلك سببا لفتح باب أكل أرباب الجهالات مال الوقف دائما مما أرصد للمناصب الدينية، واستنابة من لا يصلح أو يصلح بنذر يسير.
قال غيره: وهكذا جرى فلا حول ولا قوه إلا بالله مردود باشتراط كونه مثله أو خيرا منه.
ولو قال لواحد: إن رددته فلك دينار.
وقال لآخر: إن رددته أرضيك، أو أحلى بالحلوى فمك، فرداه، فللاول نصف الدينار، وللآخر نصف أجرة مثل عمله.
وينقسم العقد باعتبار لزومه وجوازه إلى ثلاثة أقسام: (أحدها) لازم من الطرفين قطعا كالبيع والاجارة والسلم والصلح والحواله
والمسافاة والهبة لغير الفروع بعد القبض والخلع، ولازم من أحدهما قطعا، ومن الاخر على الاصح وهو النكاح فإنه لازم من جهة المرأة قطعا، ومن جهة الزوج على الاصح، وقدرته على الطلاق ليست فسخا.
(ثانيها) لازم من أحد الطرفين جائز من الاخر قطعا كالكتابة، والرهن وهبة الاصول للفروع بعد القبض والضمان والكفالة.
(ثالثها) جائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية والوديعة، وكذا الجعل له قبل فراغ العمل.

(15/123)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز لكل واحد منهما فسخ العقد لانه عقد على عمل مجهول بعوض، فجاز لكل واحد منهما فسخه كالمضاربة، فإن فسخ العامل لم يستحق شيئا لان الجعل يستحق بالفراغ من العمل، وقد تركه فسقط حقه، وإن فسخ رب المال، فان كان قبل العمل لم يلزمه شئ، لانه فسخ قبل أن يستهلك منفعة العامل فلم يلزمه شئ، كما لو فسخ المضاربة قبل العمل، وإن كان بعدما شرع في العمل لزمه أجرة المثل لما عمل، لانه استهلك منفعته بشرط العوض فلزمه أجرته، كما لو فسخ المضاربة بعد الشروع في العمل.

(فصل)
وتجوز الزيادة والنقصان في الجعل قبل العمل، فان قال: من رد عبدى فله دينار، ثم قال: من رده فله عشره، فرده رجل استحق عشرة، وان قال: من رد عبدى فله عشرة، ثم قال: من رده فله دينار، استحق الدينار، لانه مال بذل في مقابلة عمل في عقد جائز فجائز والزيادة والنقصان فيه قبل العمل كالربح في المضاربة.

(فصل)
وإن اختلف العامل ورب المال فقال العامل: شرطت لى الجعل
وأنكر رب المال، فالقول قول رب المال، لان الاصل عدم الشرط وعدم الضمان، وان اختلفا في عين العبد فقال السيد: شرطت الجعل في رد غيره.
وقال العامل: بل شرطت الجعل في رده، فالقول قول المالك، لان العامل يدعى عليه شرط الجعل في عقد، الاصل عدمه، فكان القول فيه قوله، وان اختلفا في قدر الجعال تحالفا كما قلنا في البيع، فإذا تحالفا رجع إلى أجرة المثل كما رجع في البيع بعد هلاك السلعة إلى قيمة العين.
وان اختلف العامل والعبد فقال العامل: أنا رددته.
وقال العبد جئت بنفسى وصدقة المولى، فالقول قول المولى مع يمينه، لان الاصل عدم الرد، وعدم وجوب الجعل، وبالله التوفيق.
(الشرح) قلنا: ان العقود منها الجائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية

(15/124)


والوديعة (والجعالة قبل الفراغ من العمل) ومن ثم يجوز لاى منهما الفسخ قبل تمام العمل، لانه عقد جائز من الطرفين، أما من جهة الجاعل فمن حيث إنها تعلن استحقاق بشرط فأشبهت الوصية.
وأما من جهة العامل فلان العمل فيها مجهول، وما كان كذلك لا يتصف باللزوم كالفراض، وإنما يتصور الفسخ من العامل في الابتداء إذا كان معينا بخلاف غيره فلا يتصور فسخه إلا بعد شروعه في العمل، والمراد بالفسخ رفع العقد ورده، وخرج بقوله: قبل العمل، ما بعده، فإنه لا أثر للفسخ، لان الجعل قد لزم واستقر، وعلم من جوازها انفساخها بموت أحد المتعاقدين أو جنونه أو إغمائه.
فلو مات المالك بعد الشروع في العمل فرده إلى وارثه استحق قسط ما عمله في الحياة من المسمى.
وإن مات العامل فرده وارثه استحق القسط منه أيضا، فإن فسخ قبل الشروع
أو فسخه العامل بعد الشروع فلا شئ له، لانه لم يعمل شيئا في الاولى، ولان الجعل إنما يستحق في الثانية بتمام العمل، وقد فوته باختياره.
وان فسخ المالك بعد الشروع في العمل فعليه أجرة المثل لما مضى في الاصح لان جوازه يقتضى التسلط على رفعه، وإذا ارتفع لم يجب المسمى كسائر الفسوخ لكن عمل العامل وقع محترما فلا يحبط بفسخ غيره فرجع إلى بدله وهو أجرة المثل كالاجارة إذا فسخت بعيب.
والثانى: لا شئ للعامل كما لو فسخ بنفسه، ولا فرق على هذا القول بين أن يكون ما صدر من العامل لا يحصل به مقصود أصلا كرد الضال إلى بعض الطريق أو يحصل به بعضه كما لو قال: ان علمت ابني القرآن فلك كذا ثم منعه من تعليمه ولا يشكل ما رجحوه هنا كما يقول الرملي من استحقاق أجرة المثل بقولهم: إذا مات العامل أو المالك في أثناء العمل حيث ينفسخ ويجب القسط من المسمى لان الجاعل أسقط حكم المسمى في مسئلتنا بفسخه بخلافه في تلك، وما فرق به بعض الشراح من أن العامل في الانفساخ تمم العمل بعده ولم يمنعه المالك منه

(15/125)


بخلافه في الفسخ، محل نظر، إذ لا أثر له في الفرق بين خصوص الوجوب من المسمى تارة، ومن أجرة المثل أخرى كما هو ظاهر للمتأمل.
(فرع)
ويجوز للمالك أن يزيد وينقص في العمل وفى الجعل ولو من غير جنسه ونوعه قبل الفراغ كالمبيع في زمن الخيار، سواء ما قبل الشروع في العمل أو بعده، لانه عقد جائز، فلو قال: من رد ضالتي فله عشرة، ثم قال من ردها فله خمسة أو عكس فالاعتبار بالاخير من قوليه، أما بعد الشروع ففائدته وجوب أجرة المثل له، لان النداء الاخير فسخ للاول، والفسخ في أثناء العمل يقتضى
الرجوع إلى أجرة المثل، ومحله قبل الشروع أن يعلم العامل بالتغيير، فإن لم يعلم به فيما إذا كان معينا ولم يعلن به الملتزم فيما إذا كان غير معين، هكذا أفاده في النهاية.
وقال الغزالي في الوسيط: ينقدح أن يقال: يستحق أجرة المثل وهو الراجح وقال الماوردى والرويانى وأقره السبكى: يستحق الجعل الاول، كما أقر ذلك البلقينى وغيره، فعلى الاول لو عمل من سمع النداء الاول خاصة، ومن سمع النداء الثاني استحق الاول نصف أجرة المثل والثانى نصف المسمى الثاني، وعلى قول الماوردى والرويانى والسبكي والبلقيني للاول نصف الجعل الاول وللثاني نصف الثاني.
أما التغيير بعد الفراغ فلا يؤثر، لان المال قد لزم، ويتوقف لزوم الجعل على تمام العمل، ولهذا قال النووي: ولو مات الآبق في بعض الطريق أو هرب فلا شئ للعامل.
قال الشراح: لانه لم يرده والاستحقاق معلق بالرد، ويخالف موت أجير الحج في أثناء العمل فإنه يستحق من الاجرة بقدر ما عمله في الاصح لان القصد بالحج الثواب، وقد حصل للمحجوج عنه الثواب بالبعض، والقصد هنا الرد ولم يوجد، ولو لم يجد المالك سلم المردود إلى الحاكم واستحق الجعل، فإن لم يكن حاكم أشهد واستحقه، ويجرى ذلك في سائر ما يتلف من محال الاعمال.

(15/126)


(فرع)
إذا اختلف المالك والعامل فقد قال النووي رضى الله عنه يصدق المالك بيمينه إذا أنكر شرط الجعل أو سعى العامل اه.
والاول كأن يقول: ما شرطت الجعل، أو شرطته في شئ آخر.
والثانى كأن يقول: لم ترده أنت وانما رده غيرك، أو عادت الضالة بنفسها
من غير سعى منك، لان الاصل عدم الرد والشرط وبراءة ذمته، فلو اختلفا بعد الاستحقاق في قدر الجعل أو جنسه أو صفته أو في قدر العمل كأن قال شرطت مائة على رد ضالتين فقال العامل بل على رد هذا فقط تحالفا، وللعامل أجرة المثل كما في القراض والاجارة ن كل هذا إذا اختلفا بعد الفراغ من العمل والتسليم، أو قبل الفراغ فيما إذا وجب للعامل قسطه من العمل الذى عمله وجعالة، فان كان العمل مضبوطا مقدرا فاجارة ولو احتاج إلى تردد غير مضبوط فجعالة والمراد أنه يجوز عقد الاجارة في الشق الاول دون الثاني، ويد العامل على المأخوذ إلى رده يد أمانة.
ولو رفع يده عنه وخلاه بتفريط كأن خلاه بمضيعة ضمنه لتقصيره، وان خلاه بلا تفريط كأن خلاه عند الحاكم لم يضمنه ونفقته على مالكه، فان انفق عليه مدة الرد فمتبرع الا ان أذن له الحاكم فيه أو أشهد عند فقده ليرجع، والله تعالى أعلم بالصواب.

(15/127)