المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب المساقاة

تجوز المساقاة على النخل لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، وتجوز على الكرم لانه شجر تجب الزكاة في ثمرته فجازت المساقاة عليه كالنخل، وتجوز على الفسلان وصغار الكرم إلى وقت تحمل لانه بالعمل عليها تحصل الثمرة كما تحصل بالعمل على النخل والكرم، ولا تجوز على المباطخ والمقاثئ والعلف وقصب
السكر لانها بمنزلة الزرع فكان المساقاة عليها كالمخابرة على الزرع.
واختلف قوله في سائر الاشجار المثمرة كالتين والتفاح، فقال في القديم: تجوز المساقاة عليها، لانها شجر مثمر فأشبه النخل والكرم.
وقال في الجديد: لا تجوز لانه لا تجب الزكاة في ثماره فلم تجز المساقاة عليه كالغرب (1) والخلاف.
واختلف قوله في المساقاة على الثمرة الظاهرة فقال في الام: تجوز لانه إذا جاز على الثمرة المعدومة مع كثرة الغرر فلان تجوز على الثمرة الموجودة وهى من الغرر أبعد أولى.
وقال في البويطى: لا تجوز، لان المساقاة عقد على غرر، وإنما أجيز على الثمرة المعدومة للحاجة إلى استخراجها بالعمل، فإذا ظهرت الثمرة زالت الحاجة، فلم تجز.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه الجماعة، وقد جاء في رواية الصحيحين عن ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ظهر على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف الثمرة، فقال لهم: نقركم بها على ذلك ما شئنا "
__________
(1) قال ابن بطال: الغرب ضرب من الشجر يسمى بالفارسية اسبنددار.
والخلاف شجر يستخرج منه ماء طيب كماء الورد، وسمعناه بالتخفيف وروى بالتشديد.
وذكر ابن قتيبة في كتاب عيون الاخبار ان الخلاف شجر سقط ثمره قبل تمامه وهو الصفصاف.

(14/399)


وعن عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامل يهود خيبر على أن نخرجهم متى شئنا رواه أحمد والبخاري بمعناه.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قالت الانصار للنبى صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخل.
قال لا، فقالوا تكفونا العمل ونشرككم في الثمرة، فقالوا سمعنا وأطعنا.
رواه البخاري.
وعن طاوس
أن معاذ بن جبل أكرى الارض عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع، فهو يعمل به إلى يومك هذا.
رواه ابن ماجه.
قال البخاري وقال قيس بن مسلم عن أبى جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع على وسعد بن مالك وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبى بكر وآل على وآل عمر.
قال وعامل عمر الناس على أن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر.
وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا.
وقال الشافعي: ساقى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ خيبر على أن نصف الثمر لهم فكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم وان شئتم فلى.
والمساقاة على إطلاقها أن يدفع الرجل إلى آخر شجره ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره، إلا أن هذا التعريف على سعتة يقتضى وقوع غبن وغرر إذا ظل على إطلاقه، فقيد الشافعي هذا المفهوم الواسع وقصره على ما يكفل الرفق بالعامل وصاحب المال، فخص المساقاة في قوله الجديد بالنخل والكروم وخصها داود بالنخل فقط، وتجاوز مالك فجعلها تشمل الزرع والشجر واستثنى منها البقول، وأجازها عبد الله بن دينار في البقول، وجعلها أحمد في الشجر والنخل والكرم وقد ثبتت المساقاة بالسنة والاجماع، فأما السنة فقد مضى حديث ابن عمر المتفق عليه، وأما الاجماع فقد قال أبو جعفر محمد بن على بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: عامل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع، وهذا عمل به الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم، واشتهر ذلك فلم ينكره أحد، فإن عبد الله ابن عمر الذى روى حديث معاملة أهل خيبر قد رجع عنه وقال: كنا نخابر

(14/400)


أربعين سنة حتى حدثنا رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن المخابرة.
وهذا يمنع انعقاد الاجماع ويدل على نسخ حديث ابن عمر لرجوعه عن العمل به إلى حديث رافع.
(قلت) هذا الكلام فيه نظر، لانه لا يجوز حمل حديث رافع على مخالفة الاجماع، ولا حديث ابن عمر، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يزل يعامل أهل خيبر حتى مات ثم عمل به الخلفاء من بعده، ثم من بعدهم، فكيف يتصور نهى الرسول عن شئ ثم يخالفه؟ أم كيف يعمل بذلك في عهد الخلفاء ولم يخبرهم من سمع النهى وهو حاضر معهم وعالم بفعلهم فلم يخبرهم.
قال ابن قدامة: فلو صح خبر رافع لوجب حمله على ما يوافق السنة والاجماع وعلى أنه قد روى في تفسير خبر رافع عنه ما بدل على صحة قولنا، فروى البخاري بإسناده قال: كنا نكرى الارض بالناحية منها تسمى لسيد الارض، فربما يصاب ذلك وتسلم الارض، وربما تصاب الارض ويسلم ذلك فنهينا.
فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ، روى تفسيره أيضا بشئ غير هذا من أنواع الفساد وهو مضطرب جدا وسئل أحمد بن حنبل عن حديث رافع فقال: رافع روى عنه في هذا ضروب قال الاثرم كأنه يرى أن اختلاف الروايات عنه يوهن حديثه، وقال طاوس: إن أعلمهم - يعنى ابن عباس - أخبر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ ينه عنه ولكن قال " لان يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجا معلوما " متفق عليه وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع عليه، وكيف يجوز نسخ أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات وهو يفعله ثم أجمع عليه خلفاؤه وأصحابه بعد بخبر لا يجوز العمل به ولو لم يخالفه غيره، ورجوع ابن عمر إليه يحتمل أنه رجع عن
شئ من المعاملات الفاسدة التى فسرها رافع في حديثه.
وأما غير ابن عمر فقد أنكر على رافع ولم يقبل حديثه وحمله على أنه غلط في روايته والمعنى يدل عليه.
فإن كثيرا من اصحاب النخيل والكروم يعجزون عن سقيه والقيام على شئونه، وقال الماوردى في الحاوى: والمساقاة في تسميتها ثلاثة تأويلات، أحدها أنها

(14/401)


سميت بذلك لانها مفاعلة على ما تشرب بساق.
والثانى: أنها سميت بذلك لان موضع النخل والشجر سمى سقيا فاشتقوا اسم المساقاة منه.
والثالث أنها سميت بذلك لان غالب العمل المقصود فيها هو السقى فاشتق اسمها منه.
قال والمساقاة جائزة لا يعرف خلاف بين الصحابة والتابعين في جوازها وهو قول الفقهاء كافة إلا أبا حنيفة وحده دون سائر أصحابه، فانه تفرد بابطالها، وحكى عن النخعي كراهتها.
واستدل من نصر قول أبى حنيفة على إبطال المساقاة بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الغرر، وغرر المساقاة متردد بين ظهور الثمرة وعدمها، وبين قلتها وكثرتها، فكان الغرر فيها أعظم: فاقتضى أن يكون بابطال العقد أحق، ولانه عقد على منافع أعيان باقية فامتنع أن يكون معقودا ببعضها كالمخابرة، ولانه عقد تناول ثمرة لم تخلق فوجب أن يكون باطلا كالبيع، لانه عمل العوض عليه ثمرة لم تخلق فوجب أن يكون باطلا كما لو استؤجر على عمل بثمرة هذه الثمار في القابل ولان المساقاة اجارة على عمل جعلت الثمرة فيه أجرة والاجرة لا تصح إلا أن تكون معينة أو ثابته في الذمة، وما تثمره نخل المساقاة غير معين ولا ثابت في الذمة فوجب أن تكون باطلة ولان ما امتنع من المساقاة فيما سوى النخل والكرم من الشجر من جهالة الثمن منع فيها من النخل لجهالة الثمن.
فإذا ثبت ما ذكرنا فان المساقاة لا تصح في الزروع لانها كالمخابرة على الزروع
وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه أحمد ومسلم عن جابر قال " كنا نخابر عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فنصيب من القصرى ومن كذا ومن كذا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ له أرض فليزرعها وليحرثها أخاه وإلا فليدعها " وأختلف قوله في سائر الاشجار فأجازها في قوله القديم في التين والتفاح لانها شجر مثمر فأشبه النخل إلا أنه قال في الجديد " والمساقاة جائزة بما وصفت في النخل والكرم دون غيرهما، لان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ صدقتهما بالخرص وثمرهما مجتمع بائن من شجره، ولا حائل دونه يمنع احاطة النظر إليه، وثمر غيرهما متفرق بين أصفاف ورق شجره ولا يحاط بالنظر إليه.

(14/402)


وجملة الثمر من النبات مثمرا على ثلاثة أقسام، قسم لا يختلف مذهب الشافعي في جواز المساقاة عليه وهو النخل والكرم، وقال داود: المساقاة جائزة في النخل دون الكرم، وحكى عن الليث بن سعد جواز المساقاة فيما لم يكن بعلا من النخل ومنع منها في البعل من النخل وفى الكرم، واختلف أصحابنا في جواز المساقاة في الكرم، هل قال به الشافعي نصا أو قياسا، فقال بعضهم: بل قال به نصا وهو مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساقى في النخل والكرم، وقال آخرون - وهو الاشبه: إنه قال به قياسا على النخل من وجهين ذكرهما، أحدهما لاشتراكهما في وجوب الزكاة فيها، والثانى: بروز ثمرهما وإمكان خرصهما (والقسم الثاني) ما لا يختلف مذهب الشافعي في بطلان المساقاة فيه، وهو المقاثى والمباطخ والباذنجان ويسميها الزراعيون النباتات الزاحفة (1) وهى التى تمتد أوراقها وعروقها على الارض.
وحكى عن مالك جوازها في هذا كله ما لم يبد صلاحه.
(والقسم الثالث) ما كان شجرا وهو الذى له ساق من الخشب ففى جواز
المساقاة عليه قولان، أحدهما: وبه قال في القديم وهو قول أبى ثور: ان المساقاة عليه جائزة، ووجهه أنه لما اجتمع في الاشجار معنى النخل مع بقاء أصلها ومنع إجارتها كانت كالنخل في جواز المساقاة عليها، مع أنه قد كان بأرض خيبر شجر لم يَرْوِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إفرادها عن حكم النخل، ولان المساقاة مشتقة مما يشرب بساق.
والقول الثاني: وبه قال في الجديد، وهو قول أبى يوسف أن المساقاة على الشجر باطلة اختصاصا بالنخل والكرم لما ذكره الشافعي من المعنيين في الفرق بين النخل والكرم وبين الشجر.
__________
(1) عند علماء النبات: الزاحفة كالبطيخ والشمام والدباء والقثاء والخيار، والمتسلقة كالعنب والياسمين واللوف، والنباتات الدرنيه كالبطاطس والقلقاس والبطاطا وهذه كلها لا يجوز المساقاة فيها واختلفوا كما ذكرنا في الاشجار الخشبية المثمرة للفواكه كالتفاح والبرتقال والمانجو فعلى الجديد لا تصح فيها المساقاة.

(14/403)


(أحدهما)
اختصاص النخل والكرم بوجوب الزكاة فيهما دون ما سواهما من جميع الاشجار.

(والثانى)
بروز ثمرهما وإمكان خرصهما دون غيرهما من سائر الاشجار، فأما إذا كان بين النخيل شجر قليل فساقاه عليها صحت المساقاة فيها وكان الشجر تبعا كما تصح المخابرة في البياض الذى بين النخل ويكون تبعا.
(فوائد أصولية) انعقد اجماع الصحابة عن سيرة أبى بكر وعمر رضى الله عنهما في مساقاة أهل خيبر بعد النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا له إلى أن حدث من أجلائهم ما حدث، ثم الدليل من طريق المعنى هو أنها عين تنمى بالعمل فإذا لم تجز اجارتها جاز العمل
عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير في القراض ثم الاستدلال بالقراض من وجهين، أحدهما ذكره أبو على بن أبى هريرة أن الامة مجمعة على جواز القراض وما انعقد الاجماع عليه فلا بد أن يكون حكمه مأخوذا عن توقيف أو اجتهاد يرد إلى أصل، وليس في المضاربة توقيف نص عليه، فلم يبق الا توقيف اجتهاد أدى إلى الحاقه بأصل، وليس في المضاربة في الشرع أصل ترد إليه الا المساقاة، وإذا كانت المساقاة أصلا لفرع مجمع عليه كانت أحق بالاجماع عليه، والثانى: ذكره أبو حامد الاسفرايينى وهو أنه لما جازت المضاربة اجماعا وكانت عملا على عوض مظنون من ربح مجوز كانت المساقاة أولى بالجواز لانها عوض على عمل معتاد من ثمرة نمائية.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تجوز الا على شجر معلوم، وان قال: ساقيتك على أحد هذين الحائطين لم يصح، لانها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الاعيان فلم يجز على حائط غير معين كالبيع وهل يجوز على حائط معين لم يره؟ فيه طريقان أحدهما: أنه على قولين كالبيع: والثانى: أنه لا يصح قولا واحدا لان المساقاة معقودة على الغرر فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر لعدم الرؤية بخلاف البيع.

(14/404)


(فصل)
ولا تجوز الا على مدة معلومة لانه عقد لازم، فلو جوزناه مطلقا استبد العامل بالاصل فصار كالمالك، ولا تجوز على اقل من مدة توجد فيها الثمرة فإن ساقاه على النخل أو على الودى إلى مدة لا تحمل لم يصح، لان المقصود أن يشتركا في الثمرة، وذلك لا يوجد، فإن عمل العامل فهل يستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
لا يستحق، وهو قول المزني، لانه رضى أن يعمل بغير عوض
فلم يستحق الاجرة كالمتطوع في غير المساقاة
(والثانى)
أنه يستحق، وهو قول أبى العباس، لان العمل في المساقاة يقتضى العوض فلا يسقط بالرضا بتركه كالوطئ في النكاح، وان ساقاه إلى مدة قد تحمل وقد لا تحمل ففيه وجهان.
أحدهما: أنها تصح لانه عقد إلى مدة يرجى فيها وجود الثمرة، فأشبه إذا ساقاه إلى مدة توجد الثمرة فيها في الغالب.
والثانى: أنها لا تصح وهو قول أبى اسحاق لانه عقد على عوض غير موجود، ولا الظاهر وجوده، فلم يصح، كما لو أسلم في معدوم إلى محل لا يوجد في الغالب، فعلى هذا ان عمل استحق أجرة المثل، لانه لم يرض أن يعمل من غير ربح، ولم يسلم له الربح، فرجع إلى بدل عمله.
واختلف قوله في أكثر مدة الاجارة والمساقاة، فقال في موضع: سنة، وقال في موضع: يجوز ما شاء، وقال في موضع: يجوز ثلاثين سنة، فمن أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: لا تجوز بأكثر من سنة، لانه عقد على غرر أجيز للحاجة ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من سنة، لان منافع الاعيان تتكامل في سنة.
والثانى: تجوز ما بقيت العين، لان كل عقد جاز إلى سنة جاز إلى أكثر منها كالكتابة والبيع إلى أجل.
والثالث: أنه لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة، لان الثلاثين شطر العمر، ولا تبقى الاعيان على صفة أكثر من ذلك، ومنهم من قال: هي على القولين الاولين، وأما الثلاثون فانما ذكره على سبيل التكثير، لا على سبيل التحديد، وهو الصحيح.
فان ساقاه إلى سنة لم يجب ذكر قسط كل شهر، لان شهور السنة لا تختلف

(14/405)


منافعها، وإن ساقاه إلى سنتين ففيه قولان، أحدهما: لا يجب ذكر كل سنة كما
إذا اشترى أعيانا بثمن واحد لم يجب ذكر قسط كل عين منها، والثانى: يجب، لان المنافع تختلف باختلاف السنين، فإذا لم يذكر قسط كل سنة لم نأمن أن ينفسخ العقد فلا يعرف ما يرجع فيه من العوض، ومن أصحابنا من قال: القولان في الاجارة، فأما في المساقاة فإنه يجب ذكر قسط كل سنه من العوض، لان الثمار تختلف باختلاف السنين، والمنافع لا تختلف في العادة باختلاف السنين.

(فصل)
وإذا ساقاه إلى عشر سنين فانقضت المدة ثم أطلعت ثمرة السنة العاشرة لم يكن للعامل فيها حق لانها ثمرة حدثت بعد انقضاء العقد وان أطلعت قبل انقضاء المدة وانقضت المدة وهى طلع أو بلح تعلق بها حق العامل لانها حدثت قبل انقضاء المدة (الشرح) قال الشافعي: فإذا ساقى على النخل والعنب بجزء معلوم فهى المساقاة التى ساقى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اه.
(قلت) إذا تقرر هذا، فإن المساقاة من العقود اللازمة وليست من العقود الجائزة كالمضاربة، والفرق بينهما أن نماء النخل في المساقاة متأخر عن العمل، فكان في ترك لزومه تفويت العمل بغير بدل، ونماء المال في المضاربة متصل بالبيع فلم يكن في ترك لزومه تفويت للعمل بغير بدل فلذلك انعقد لازما في المساقاة وجائزا في المضاربة، وإذا كان كذلك فان صحة العقد فيها معتبرة بأربعة شروط 1 - أن تكون النخل معلومة، فان كانت مجهولة بأن قال: ساقيتك أحد حوائطي، أو على مال يثبت من نخلى كان باطلا، لان النخل أصل في العقد فبطل بالجهالة كالبيع، فلو ساقاه على نخل غائب بشرط خيار الرؤية فقد اختلف أصحابنا فيه، فخرجه بعضهم على قولين كالبيع، وذهب آخرون منهم - وهو الاصح - إلى فساد العقد قولا واحدا.
وفرقوا بين المساقاة والبيع بأن البيع يغرى بالغرر، فإذا دخل عليه غرر العين
الغائبة بخيار الرؤية، جرى على احتماله فصح فيه، وعقد المساقاة غرر فإذا دخل

(14/406)


عليه غرر العين الغائبة صعب احتماله فبطل فيه، وإذا لم يكن يجوز إلا على معين مشاهد - فإن كانت عند عقد المساقاة مثمرة - فقد قال المزني: إن كان ذلك قبل بدو الصلاح جاز.
وإن كان بعده لم يجز.
وقال أبو ثور: إن احتاجت إلى القيام بها حتى يطيب جاز، وإن لم تحتج لم يجز.
وقال أبو يوسف ومحمد: إن كانت تزيد جاز، وإن لم تزد لم يجز.
فأما الشافعي فقد حكى عنه في الاملاء جوازه من غير تفصيل، لانه لما جازت المساقاة على ثمرة معدومة كان جوازها بالمعلومة أولى، ولعل هذا على قوله في الام إنه أجير، والمشهور من مذهبه والاصح على أصله أن المساقاة باطلة بكل حال.
وقد حكى البويطى ذلك عنه نصا كما أشار إليه الماوردى، لان علة جوازها عنده أن لعمله تأثيرا في حدوث الثمرة، كما أن لعامل المضاربة تأثيرا في حصول الربح، ولو حصل ربح المال قبل عمل العامل لم يكن له فيه حق، كذلك المساقاة، فلو ساقاه على النخل المثمرة على ما تحدث من ثمرة العام المقبل لم يجز لانه قد يتعجل العمل فيها استصلاحا لثمرة قائمة من غير بدل.
(فرع)
فإذا ثبت أن المساقاة عقد لازم فإنها لا تجوز إلا على مدة معلومة وهذا الشرط هو أحد الشروط الاربعة أن يكون النخل معلوما، وأن يكون نصيب العامل من الثمرة معلوما مدة تكون لهما معلومة.
وأن يعقد بلفظ المساقاة وقال بعض أصحاب الحديث: يجوز اطلاقها من غير تقدير بمدة محددة، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يقدر لاهل خيبر مدة.
وقال أبو ثور: إن قدر مدة لزمت إلى انقضائها، وإن لم يقدر مدة صحت وكانت على سنة واحدة، وكلا القولين خطأ عندنا، فإذا كانت المدة المعلومة
شرطا فيها فأقلها مدة تطلع فيها الثمرة وتستغني عن العمل، ولا يجوز أن يقدرها بذلك حتى يقدرها بالشهور التى قد أجرى الله تعالى العادة بأن الثمار تطلع فيها طلوعا متناهيا، فإن تأخر طلوعها فيها بحادث أطلعت بعد تقضيها فعلى الاصح من المذهب في أن العامل شريك تكون بينهما، وإن انقضت المدة، وإن استحق الثمرة إلا فيما اخنص بالثمرة من تأبير وتلقيح إن قيل بأن العامل أجير فلا حق

(14/407)


له في الثمرة الحادثة بعد انقضاء المدة وانقطاع العمل، ولا يستهلك عمله بغير بدل فيحكم له حينئذ بأجرة المثل، فأما أكثر مدة المساقاة فقد قال الشافعي: تجوز المساقاة سنين.
(قلت) فإذا عرفنا أن أقلها مدة تطلع فيها الثمرة وتستغني عن العمل فان أقصاها، فقد حكى الماوردى أنها كالاجارة.
وقد رأينا كيف اختلف قول الشافعي في أكثر مدة الاجارة على قولين
(أحدهما)
لا يجوز إلا سنة واحدة لزيادة الغرر فيما زاد على السنة.
والقول الثاني: يجوز سنين كثيرة قال الشافعي يجوز ثلاثين سنة.
فمن أصحابنا من جعل الثلاثين حدا لاكثر المدة اعتبارا بظاهر كلامه.
وذهب سائرهم - وهو الصحيح - إلى أن قوله ثلاثين سنة ليس بحد لاكثر المدة، ولهم فيه تأويلان
(أحدهما)
أنه قاله على وجه التكثير
(والثانى)
أنه محمول على ما لا يبقى أكثر من ثلاثين سنة فعلى هذا تجوز الاجارة سنين كثيرة، فهل ذكر أجرة كل سنة لازم فيها على قولين
(أحدهما)
يلزم أن يبين أجرة كل سنة منها
(والثانى)
لا يلزم فأما المساقاة فأحد القولين أنها لا تجوز أكثر من سنة واحدة كما لا تجوز الاجارة أكثر من سنة
(والثانى)
تجوز سنين كثيرة يعلم بقاء النخل إليها كما تجوز الاجارة سنين كثيرة

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تجوز إلا على جزء معلوم، فإن ساقاه على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز، لحديث ابن عمر، فإن عقد على جزء غير مقدر كالجزء والسهم والنصيب لم يصح، لان ذلك يقع على القليل والكثير، فيعظم الغرر.
وإن ساقاه على صاع معلوم لم يصح، لانه ربما لم يحصل ذلك فيستضر العامل، وربما لا يحصل إلا ذلك فيستضر رب النخل، وإن ساقاه على أن له ثمر نخلات بعينها لم يصح لانه قد لا تحمل تلك النخلات فيستضر العامل، أو لا يحمل إلا هي فيستضر رب النخل، وإن ساقاه عشر سنين وشرط له ثمرة سنة غير السنة العاشرة

(14/408)


لم يصح، لانه شرط عليه بعد حقه عملا لا يستحق عليه عوضا.
وإن شرط له ثمرة السنة العاشرة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يصح كما يصح أن يعمل في جميع السنة، وإن كانت الثمرة في بعضها
(والثانى)
لا يصح لانه يعمل فيها مدة تثمر فيها ولا يستحق شيئا من ثمرها.

(فصل)
ولا يصح إلا على عمل معلوم فإن قال إن سقيته بالسيح فلك الثلث وان سقيته بالناضح فلك النصف لم يصح لانه عقد على مجهول.

(فصل)
وتنعقد بلفظ المساقاة لانه موضوع له وتنعقد بما يؤدى معناه، لان القصد منه المعنى، فصح بما دل عليه، فان قال استأجرتك لتعمل فيه على نصف ثمرته لم تصح لانه عقد الاجارة بعوض مجهول القدر فلم تصح
(فصل)
ولا يثبت فيه خيار الشرط لانه إذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه وفى خيار المجلس وجهان
(أحدهما)
يثبت فيه لانه عقد لازم يقصد به المال فيثبت فيه خيار المجلس كالبيع
(والثانى)
لا يثبت لانه عقد لا يعتبر فيه قبض العوض في المجلس، فلو ثبت فيه خيار المجلس لثبت فيه خيار الشرط كالبيع.

(فصل)
وإذا تم العقد لم يجز لواحد منهما فسخه لان النماء متأخر عن العمل، فلو قلنا انه يملك الفسخ لم يأمن أن يفسخ بعد العمل ولا تحصل له الثمرة
(فصل)
وعلى العامل أن يعمل ما فيه مستزاد في الثمرة من التلقيح وصرف الجريد واصلاح الاجاجين وتنقية السواقى والسقى وقلع الحشيش المضر بالنخل، وعلى رب النخل عمل ما فيه حفظ الاصل من سد الحيطان ونصب الدولاب وشراء الثيران، لان ذلك يراد لحفظ الاصل ولهذا من يريد انشاء بستان فعل هذا كله واختلف أصحابنا في الجذاذ واللقاط، فمنهم من قال لا يلزم العامل ذلك، لان ذلك يحتاج إليه بعد تكامل النماء، ومنهم من قال يلزمه لانه لا تستغنى عنه الثمرة.

(فصل)
وان شرط العامل في القراض والمساقاة أن يعمل معه رب المال لم يصح لان موضوع العقد أن يكون المال من رب المال والعمل من العامل، فإذا لم يجز شرط المال على العامل لم يجز شرط العمل على رب المال، وان شرط أن

(14/409)


يعمل معه غلمان رب المال فقد نص في المساقاة أنه يجوز.
واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه، فمنهم من قال لا يجوز فيهما لان عمل الغلمان كعمل رب المال، فإذا لم يجز شرط عمله لم يجز شرط عمل غلمانه، وحمل قوله في المساقاة على أنه أراد ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره
(والثانى)
يجوز فيهما، لان غلمانه ماله، فجاز أن يجعل تابعا لماله كالثور والدولاب والحمار لحمل المتاع، بخلاف رب المال فإنه مالك، فلا يجوز أن يجعل تابعا لماله (والثالث) أنه يجوز في المساقاة ولا يجوز في القراض، لان في المساقاة ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره، فجاز أن يشترط فيها عمل غلمانه،
وليس في القراض ما يلزم رب المال، فلم يجز شرط غلمانه.
فإذا قلنا إنه يجوز لم يصح حتى تعرف الغلمان بالرؤية أو الوصف، ويجب أن يكون الغلمان تحت أمر العامل، وأما نفقتهم فإنه إن شرط على العامل جاز، لان بعملهم ينحفظ الاصل وتزكو الثمرة، وإن لم يشرط ففيه ثلاثة أوجه: (أحدها) أنها على العامل، لان العمل مستحق عليه فكانت النفقة عليه.

(والثانى)
أنها على رب المال، لان شرط عملهم عليه فكانت النفقة عليه: (والثالث) أنها من الثمرة لان عملهم على الثمرة فكانت النفقة منها.

(فصل)
وإذا ظهرت الثمرة ففيه طريقان من أصحابنا من قال هي على القولين في العامل في القراض
(أحدهما)
تملك بالظهور
(والثانى)
بالتسليم.
ومنهم من قال في المساقاة تملك بالظهور قولا واحدا، لان الثمرة لم تجعل وقاية لرأس المال فملك بالظهور.
والربح جعل وقاية لرأس المال فلم يملك بالظهور في أحد القولين
(فصل)
والعامل أمين فيما يدعى من هلاك وفيما يدعى عليه من خيانة، لانه ائتمنه رب المال فكان القول قوله، فان ثبتت خيانته ضم إليه من يشرف عليه ولا تزال يده، لان العمل مستحق عليه ويمكن استيفاؤه منه فوجب أن يستوفى وإن لم ينحفظ استؤجر عليه من ماله من يعمل عنه لانه لا يمكن استيفاء العمل بفعله فاستوفى بغيره
(فصل)
وان هرب رفع الامر إلى الحاكم ليستأجر من ماله من يعمل عنه فان لم يكن مال افترض عليه، فإن لم يجد من يقرضه فلرب النخل أن يفسخ،

(14/410)


لانه تعذر استيفاء المعقود عليه فثبت له الفسخ، كما لو اشترى عبدا فأبق من يد البائع فان فسخ نظرت فان لم تظهر الثمرة فهى لرب النخل لان العقد زال قبل ظهورها وللعامل أجرة ما عمل، وان ظهرت الثمرة فهى بينهما فان عمل فيه رب
النخل أو استأجر من عمل فيه بغير اذن الحاكم لم يرجع لانه متبرع وان لم يقدر على اذن الحاكم فان لم يشهد لم يرجع لانه متبرع، وان أشهد ففيه وجهان.
أحدهما يرجع لانه موضع ضرورة، والثانى لا يرجع لانه يصير حاكما لنفسه على غيره وهذا لا يجوز لا لضرورة ولا لغيرها
(فصل)
وان مات العامل قبل الفراغ فان تمم الوارث العمل استحق نصيبه من الثمرة وان لم يعمل، فان كان له تركة استؤجر منها من يعمل لانه حق عليه يمكن استيفاؤه من التركة فوجب أن يستوفى كما لو كان عليه دين وله تركة، وان لم تكن له تركة لم يلزم الوارث العمل لان ما لزم الموروث لا يطالب به الوارث كالدين ولا يقترض عليه لانه لا ذمة له ولرب النخل أن يفسخ لانه تعذر استيفاء المعقود عليه فان فسخ كان الحكم فيه على ما ذكرناه في العامل إذا هرب.

(فصل)
وان ساقى رجلا على نخل على النصف فعمل فيه العامل وتقاسما الثمرة ثم استحق النخل رجع العامل على من ساقاه بالاجرة لانه عمل بعوض ولم يسلم له العوض فرجع ببدل عمله، فان كانت الثمرة باقية أخذها المالك فان تلفت رجع بالبدل، فان أراد تضمين الغاصب ضمنه الجميع لانه حال بينه وبين الجميع، وان أراد أن يضمن العامل ففيه وجهان، أحدهما يضمنه الجميع لانه ثبتت يده على الجميع فضمنه كالعامل في القراض في المال المغصوب، والثانى لا يضمن الا النصف لانه لم يحصل في يده الا ما أخذه بالقسمة وهو النصف، فأما النصف الآخر فانه لم يكن في يده، لانه لو كان في يده لزمه حفظه كما يلزم العامل في القراض
(فصل)
إذا اختلف العامل ورب النخل في العوض المشروط، فقال العامل شرطت لى النصف وقال رب النخل شرطت لك الثلث تحالفا لانهما متعاقدان اختلفا في العوض المشروط ولا بينة فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن وبالله التوفيق.

(14/411)


(الشرح) حديث ابن عمر هو حديث معاملة الرسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل خيبر وقد مضى تخريجه وبيان طرقه وما قيل من رجوع ابن عمر عنه، أما قوله: السيح فهو الماء الجارى ويسميه الفلاحون في ديارنا المصرية (السقى بالراحة) وهو ما لا يحتاج إلى شد للماء بالسواقي أو الشواديف وإنما يرتفع الماء في جداوله على أعلى من مستوى سطح الارض فيفتح الزارع فتحة من المسقاة فينساب الماء سيحانا إلى الارض المراد سقيها فيغمرها في لحظات قصيرة، أما التلقيح فهو التأبير، أما صرف الجريد وهو تنحيته وتخفيفه وبتر أسافله لتهذيب النخل والخلوص إلى العذوق بغير أن تؤذى سلاها والاجاجين جمع أجانة وهو الطسوت والمواجير والمراكن الكبير التى تغسل فيها الثياب.
أما الاحكام: فقد قال الشافعي: ولا تجوز المساقاة إلا على أجر معلوم.
قلت: لانه عقد معاوضة فلم يصح مع جهالة العوض كالبيع والاجارة، فلو ساقاه على ما يكفيه أو ما يرضيه بطلت المساقاة للجهل بقدر نصيبه منها، إذ قد لا يرضيه إلا جميعها، ولا يكفيه إلا أكثرها، فإن قيل: فإذا صحت المساقاة مع الجهالة بقدر الثمرة فهل صحت مع الجهاله بقدر نصيبه من الثمرة؟ قيل: لان العلم بقدر ما يحدث من الثمرة غير ممكن فلم يعتبر العلم بقدر نصيبه منها.
(فرع)
قال الشافعي: وان ساقاه على أن له ثمر نخلات بعينها من الحائط لم يجز، قال الماوردى: هذا صحيح، لان عقد المساقاة يوجب اشتراك العامل ورب النخل في الثمر فإذا عقداها على أن للعامل ثمر نخلات بعينها منها وأفضى إلى أن يستبد أحدهما بجميع الثمرة دون صاحبه لانه قد يجوز أن لا تحمل تلك النخلات فينصرف العامل بغير شئ، ويجوز أن لا تحمل الا تلك النخلات فينصرف رب المال بغير شئ فلذلك بطل اه.
(فرع)
وتحديد نصيب العامل من الثمرة بقدر معلوم أحد شروط عقد المساقاة على أن يكون شائعا في الثمرة غير معين من نصف أو ربع أو ثلث أو عشر قل ذلك الجزء أو كثر، فإن جهل نصيبه بأن جعل له ما يرضيه أو ما يكفيه أو ما يحكم له

(14/412)


الحاكم لم يجز للجهل به، وهكذا لو جعل له منها مائة صاع مقدرة لم يجز للجهل به من جملة الثمرة، وأنه ربما كان جميعها أو سهما يسيرا منها، فلو قال: قد ساقيتك على هذه النخل سنة ولم يذكر قدر نصيبه من ثمرها فقد حكى عن أبى العباس بن سريج جوازها وجعل الثمرة بينهما نصفين بالسوية حملا لهما على عرف الناس في المساقاة وتسويته بينهما في الثمرة، وقد خطأ الماوردى هذا لان ترك ذكر العوض في العقد لا يقتضى حمله على معهود الناس عرفا، كالبيع والاجارة، مع أن العرف مختلف.
فإذا قال: عاملتك على هذه النخل سنة ولم يذكر قدر نصيبه منها لم يجز عند أبى العباس لانه ليس للمعاملة عنده عرف، فلو قال: ساقيتك على مثل ما ساقى زيد عمرا فإن علما قدر ذلك جاز، وان جهلاه أو أحدهما لم يجز ويجوز أن يكون النصيب مختلفا فيكون في السنة الاولى النصف والثانية الثلث والثالثة الربع ومنع مالك من اختلاف نصيب العامل في كل عام حتى يتساوى نصيبه في جميع الاعوام وهذا خطأ لان ما جاز أن يكون العوض في أحواله متفقا جاز أن يكون مختلفا كالبيع والاجارة، فإذا علم نصيب العامل ورب المال فمذهب الشافعي أن العامل شريك في الثمرة بقدر حصته.
وقد خرج قول آخر أنه أجير كالمضاربة، ويختص رب المال بتحمل الزكاة دون العامل والاصح أنه شريك تجب الزكاة عليه إن بلغت حصة كل واحد نصابا ففى وجوب الزكاة قولان من اختلاف قولين في الخلطة في غير المواشى هل يكون
كالخلطة في المواشى، وقد مضى في الزكاة للامام النووي إفاضة وإفادة فيه.
(فرع)
الشرط الرابع من شروطها عقدها بلفظ ساقيتك لينتفي الاحتمال عنها فان عقداه بلفظ الاجارة بأن قال: استأجرتك للعمل فيها كان العقد باطلا لان الاجارة فيها لا تصح، فإذا عقدا بلفظ الاجارة، انصرف إلى الاجارة فبطل، وان لم يعقداه بواحدة من اللفظين وقال.
قد عاملتك عليها بالعمل فيها على الشطر من ثمرها ففيه وجهان.

(14/413)


أحدهما: أن العقد صحيح لان هكذا يكون عقد المساقاة.
والثانى: أن العقد باطل، لان هذا من أحكام العقد فلم ينعقد به العقد، وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا في البيع على ما فصله واستقصاه مجيدا السبكى في التكمله الاولى إذا عقد بلفظ التمليك.
(فرع)
فإذا اشتمل العقد على شروطه المعتبرة فيه صح ولم يجز فيه خيار الثلاث، واختلف أصحابنا هل يثبت فيه خيار المجلس أم لا؟ على وجهين كالاجارة ويجوز أن يستوثق فيه بالشهادة ولا يجوز أن يستوثق فيه بالرهن والضمان، لانه عقد غير مضمون، ثم يؤخذ العامل بالعمل المشروط عليه، فان لم يعمل في النخل حتى أثمرت كان له نصيبه من الثمرة ان قيل: انه شريك، ولا شئ له فيها ان قيل: انه أجير، ولرب العمل أن يأخذ العامل جبرا بالعمل للزوم العقد، فان أراد العامل أن يساقى غيره عليها مدة مساقاته جاز بمثل نصيبه فما دون كالاجارة، ولا يجوز بأكثر من نصيبه لانه لا يملك الزيادة، والفرق بين المساقاة حيث كان للعامل أن يساقى عليها وبين المضاربة حيث لم يجز للعامل أن يضارب بها أن تصرف العامل في المضاربة تصرف في حق رب المال لان العقد ليس بلازم فلم يملك الافتيات عليه في تصرفه، وتصرف العامل في المساقاة تصرف في حق نفسه
للزوم العقد فملك الاستنابة في تصرفه.
(فرع)
قال الشافعي: وكل ما كان مستزادا في الثمرة من اصلاح للمار وطريق الماء وتصريف الجريد، وابار النخل وقطع الحشيش الذى يضر بالنخل أو ينشف عنه الماء حتى يضر بثمرتها جاز شرطه على المساقاة، وأما سد الحظار فليس فيه مستزاد لاصلاح في الثمرة ولا يصلح شرطه على المساقى، فان قال: فان كان أصلح للنخل أن يسد الحظار - بحاء مفتوحة كسحاب ومكسورة ككاب بعد ظاء معجمة: الحائط - فكذلك أصلح لها أن يبنى عليها حظار لم يكن، وهو لا يجيزه في المساقاه، وليس هذا الاصلاح من الاستزاده في شئ من النخل انما هو دفع الداخل، قلت: والعمل المشروط في المساقاه على أربعة أنواع: 1 - ما يعود نفعه على الثمرة دون النخل.
2 - ما يعود نفعه على النخل دون الثمرة.

(14/414)


3 - ما يعود نفعه على النخل والثمرة 4 - مالا يعود نفعه على الثمرة ولا النخل.
فالاول مثل الابار وتصريف الجريد وتلقيح الثمرة ولقاطها رطبا أو جدادها تمرا.
فهذا النوع يجوز اشتراطه على العامل وينقسم إلى (ا) ما يجب عليه فعله من غير شرط وهو كل مالا تصلح الثمرة إلا به كالتلقيح والابار (ب) مالا يجب عليه فعله إلا بالشرط، وهو كل ما فيه مستزاد للثمرة، وقد تصلح بعدمه كتصريف الجريد وتدلية الثمرة (ج) ما هو مختلف فيه، وهو كل ما تكاملت الثمرة قبله كاللقاط والجداد ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا يجب على العامل إلا بشرط لتكامل الثمرة بعدمه.
(الثاني) أنه واجب على العامل بغير شرط، لان الثمرة لا تستغنى عنه،
وإن تكاملت قبله.
وأما النوع الثاني وهو ما يعود على النخل دون الثمرة، فمثل سد الحظار وحفر الآبار وشق السواقى ورفع مياه الانهار، فكل هذا مما يعود نفعه على النخل دون الثمرة، فلا يجوز اشتراط شئ من ذلك على العامل.
وكذا ما شاكله من عمل الدواليب وإصلاح الزرانيق، فإن شرط رب المال على العامل شيئا مما ذكرنا كان الشرط باطلا، والمساقاة فاسدة.
وقال بعض أصحابنا: يبطل الشرط وتصح المساقاة حملا على الشروط الزائدة في الرهن تبطل ولا تبطل معها الرهن في أحد القولين، وقد خطأ جمهور فقهائنا هذا لان عقود المعاوضات إذا تضمنت شروطا فاسدة بطلت كالشروط الفاسدة في البيع والاجارة والنوع الثالث وهو ما يعود نفعه على النخل والثمرة، فكالسقى والابارة وقطع الحشيش المضر بالنخل إلى ما جرى هذا المجرى مما فيه اصلاح النخل ومستزاد في الثمرة مما لا تصلح الثمرة الا به كالسقى فيما لا يشرب بعروقه كنخل البصرة فهو وغيره من شروط هذا الفعل سواء، وفيه لاصحابنا ثلاثة أوجه: (أحدها) أنه واجب على العامل بنفس العقد واشتراطه عليه تأكيدا لما فيه من صلاح النخل وزيادة الثمرة (والوجه الثاني) أنه واجب على رب النخل، واشتراطه عليه مبطل للعقد

(14/415)


لانه بصلاح النخل أخص منه بصلاح الثمرة (والثالث) أنه يجوز اشتراطه على العامل لما فيه من زيادة الثمرة، ويجوز اشتراطه على رب النخل لما فيه من صلاح النخل فلم يتناف الشرطان فيه، فإن شرط على العامل لزمه، وإن شرط على رب النخل لزمه، وان أغفل لم يلزم واحدا منهما، أما العامل فلانه لا يلزمه إلا ما كان من موجبات العقد أو من شروطه، وأما رب النخل فلانه لا يجبر
على تثمير ماله.
وأما النوع الرابع، وهو مالا يعود نفعه على النخل ولا على الثمرة، فهو كالاشتراط على العامل أن يبنى له قصرا أو يخدمه شهرا أو يسقى له زرعا تنافى العقد وتمنع من صحته، لانه لا تعلق لها به ولا تختص بشئ من مصلحته (فرع)
قال الشافعي: ساقى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، والمساقون عمالها لا عامل للنبى صلى الله عليه وسلم فيها غيرهم، فإذا كان يجوز للساقي أن يساقى نخلا على أن يعمل فيه عمال الحائط، لان رب الحائط رضى ذلك جاز أن يشترط رقيقا ليسوا في الحائط يعملون فيه، لان عمل من فيه وعمل من ليس فيه سواء، وإن لم تجز إلا بأن يكون على الداخل في المساقاة العمل كله لم يجز أن يعمل في الحائط أحد من رقيقه، وجواز الامرين من أشبه الامور عندنا والله أعلم قال ونفقة الرقيق على ما تشارطا عليه، وليس نفقة الرقيق بأكثر من أجرتهم، فإذا جاز أن يعملوا للمساقي بغير أجرة جاز أن يعملوا له بغير نفقة.
اه وبقية الفروع التى فصلها المصنف على وجهها، والله تعالى الموفق للصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب المزارعة)
لا تجوز المزارعة على بياض لا شجر فيه لما روى سليم بن بشار أن رافع بن خديج قال: كنا نخابر عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أمر كان لنا نافعا وطاعة الله ورسوله أنفع لنا وأنفع.
قلنا وما ذاك؟ قال رسول الله صلى الله عليه: من كانت له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى.
فأما إذا كانت

(14/416)


الارض بين النخل لا يمكن سقى الارض إلا بسقيها نظرت فإن كان النخيل كثيرا
والبياض قليلا جاز أن تساقيه على النخل وتزارعه على الارض لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع فان عقد المزارعة على الارض ثم عقد المساقاة على النخل لم تصح المزارعة لانها إنما أجيزت تبعا للمساقاة للحاجة ولا حاجة قبل المساقاة، وإن عقدت بعد المساقاة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تصح لانه أفرد المزارعة بالعقد فأشبه إذا قدمت
(والثانى)
تصح لانهما يحصلان لمن له المساقاة، وان عقدها مع المساقاة وسوى بينهما في العوض جاز لان النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، فإن فاضل بينهما في العوض ففيه وجهان، أحدهما: يجوز وهو الصحيح لانهما عقدان فجاز أن يفاضل بينهما في العوض، والثانى لا يجوز لانهما إذا تفاضلا تميزا فلم يكن أحدهما تابعا للآخر، فان كان النخل قليلا والبياض كثيرا ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه لا يمكن سقى النخل الا بسقي الارض فأشبه الكثير
(والثانى)
لا يجوز لان البياض أكثر فلا يجوز أن يكون الاكثر تابعا للاقل.
(الشرح) حديث رافع بن خديج راه البخاري ومسلم بلفظ " كنا أكثر الانصار حقلا فكنا نكرى الارض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك.
فأما الورق فلم ينهنا " وفى لفظ للبخاري " كنا أكثر أهل الارض مزدرعا، كنا نكرى الارض بالناحية منها لسيد الارض قال فربما يصاب ذلك وتسلم الارض، وربما تصاب الارض ويسلم ذلك فنهينا.
فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ " وفى لفظ عند مسلم وأبى داود والنسائي " انما كان الناس يؤاجرون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بما على الماذيانات (1)
__________
(1) الماذيانات: حكى القاضى عياض عن بعض الرواة فتح الذال في غير صحيح مسلم، وهى ما ينبت على حافة النهر ومسايل الماء، وليست عربية لكنها
سوادية، وهى في الاصل مسايل المياه فتسمية النابت عليها باسمها، كما وقع في بعض الروايات يؤاجرون على الماذيانات مجاز مرسل والعلاقة المجاورة والمحلية والاربعاء جمع ربع وهو النهر الصغير كنبى وأنبياء.

(14/417)


وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كرى إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شئ معلوم مضمون فلا بأس به.
وفى رواية عند أحمد والبخاري والنسائي عن رافع قال " حدثنى عماى أنهما كانا يكريان الارض عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بما ينبت على الاربعاء وبشئ يستثنيه صاحب الارض قال: فَنَهَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ".
وفى رواية عند أحمد " إن الناس كانوا يكرون المزارع فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالماذيانات وما يسقى الربيع وشئ من التين فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كرى المزارع بهذا ونهى عنها ".
وقد حكى في الفتح الحافظ بن حجر عن الجمهور أن النهى محمول على الوجه المفضى إلى الغرر والجهالة، لا عن إكرائها مطلقا حتى بالذهب والفضة قال: ثم اختلف الجمهور في جواز إكرائها بجزء مما يخرج منها فمن قال بالجواز حمل أحاديث النهى على التنزيه قال: ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج قال: النبي عن كرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الارض ناحية منها أو شرط ما ينبت على النهر لصاحب الارض لما في كل ذلك من الغرر والجهاله.
وفى رواية رافع عند البخاري أنه قال: ليس بها بأس بالدينار والدرهم، قال ابن حجر: يحتمل أن يكون رافع قال ذلك باجتهاده، ويحتمل أن يكون علم ذلك
بطريق التنصيص على جوازه أو علم أن النهى عن كرى الارض ليس على إطلاقه بل بما إذا كان بشئ مجهول ونحو ذلك فاستنبط من ذلك جواز الكرى بالذهب والفضه ويرجح كونه مرفوعا بما أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عَنْهُ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن المحاقله والمزابنة وقال: إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض ورجل منح أرضا، ورجل اكترى أرضا بذهب أو فضة " لكن بين النسائي من وجه آخر أن المرفوع منه النهى عن المحاقلة والمزابنه، وأن بقيته مدرج من كلام سعيد بن المسيب.

(14/418)


وقد أخرج أبو داود والنسائي ما هو أظهر في الدلالة على الرفع من هذا، وهو حديث سعد بن ابى وقاص " إن أصحاب المزارع فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقى وما صعد بالماء مما حول النبت فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا في بعض ذلك فنهاهم أن يكروا بذلك وقال: اكروا بالذهب والفضة " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهذا الحديث يدل على تحريم المزارعة على ما يفضى إلى الغرر والجهالة ويوجب المشاجرة وعليه تحمل الاحاديث الواردة في النهى عن المخابرة التى فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر لما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم استمر عليها إلى موته واستمر على مثل ذلك جماعة من الصحابة، ويؤيد هذا تصريح رافع في هذا الحديث بجواز المزارعة على شئ معلوم مضمون، ولا يشكل على جواز المزارعة بجزء معلوم حديث أسيد ابن حضير قال " كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أو افتقر إليه أعطاها بالنصف والثلث والربع، ويشترط ثلاث جداول، والقصارة وما يسقى الربيع وكان يعمل فيها عملا شديدا، ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أمر كان لكم نافعا، وطاعة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ لكم، نهاكم
عن الحقل " رواه أحمد وابن ماجه.
والقصارة بقية الحب في السنبل بعدما يداس.
نعم لا يشكل هذا الحديث لان مجموع ما في الحديث غير المخابرة التى أجازها صلى الله عليه وسلم وفعلها في خيبر، نعم حديث رافع عند أبى داود والنسائي وابن ماجه " من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يكارها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى ".
وكذلك حديثه أيضا عند أبى داود باسناد فيه بكر بن عامر البجلى الكوفى وهو فيه مقال قال: إنه زرع أرضا فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يسقيها فسأله: لمن الزرع؟ ولمن الارض؟ فقال زرعي ببذرى وعملى ولى الشطر ولبنى فلان الشطر فقال أربيتما، فرد الارض على أهلها وخذ نفقتك.
ومثله حديث زيد بن ثابت عند أبى داود قال " نهى رسول الله عن المخابرة قلت: وما المخابرة؟ قال: أن يأخذ الارض بنصف أو ثلث أو ربع " فيها دليل

(14/419)


على المنع من المخابرة بجزء معلوم، ومثل هذه الاحاديث، حديث أسيد على فرض أنه نهى عن المزارعة بجزء معلوم وعدم تقييده بما فيه من كلام أسيد ولكنه لا سبيل إلى جعلها ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وهو مستمر على ذلك إلى موته وتقريره لجماعة من الصحابة عليه ولا سبيل إلى جعل هذه الاحاديث المشتملة على النهى منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم وتقريره لصدور النهى عنه في أثناء مدة معاملته، ورجوع جماعة من الصحابة إلى رواية من روى النهى، والجمع ما أمكن هو الواجب.
قال الشوكاني: النهى يحمل على معناه المجازى وهو الكراهة.
قال الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: سمعت ابن عمر يقول كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نهى عنها فتركناها لقول رافع.
قال الشافعي: والمخابرة استكراء الارض ببعض ما يخرج منها فدلت سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نهيه عن المخابرة على أن لا يجوز المزارعة على الثلث ولا على الربع ولا جزء من أجزاء، وذلك أن المزارع يقبض الارض بيضاء لا أصل فيها ولا زرع ثم يستحدث فيها زرعا، والزرع ليس بأصل والذى هو في معنى المزارعة الاجارة، ولا يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على أن يعمل له شيئا الا بأجر معلوم يعلمانه قبل أن يعمله المستأجر لما وصفت من السنة.
ثم قال الشافعي بعد أن جوز كراء الارض بالذهب والفضة: وإذا كان النخل منفردا فعامل عليه رجل وشرط أن يزرع ما بين ظهرانى النخل على المعاملة، وكان ما بين ظهرانى النخل ومنافعها من الجريد والكرانيف، وان كان الزرع منفردا عن النخل له طريق يؤتى منها أو ماء يشرب متى شربه لا يكون ريا للنخل ولا شرب للنخل ريا له لم تحل المعاملة عليه، وجازت اجارته، وذلك أنه في حكم المزارعة لا حكم المعاملة على الاصل، وسواء قل البياض في ذلك أو كثر اه ومن هنا نرى الامام الشافعي يجيز المزارعة في بياض النخل تبعا للمساقاة، وقد قال في المساقاة: وإذا كان البياض بين أضعاف النخل جاز فيه المساقاة كما تجوز

(14/420)


في الاصل، وإن كان منفردا عن النخل له طريق غيره لم تجز فيه المساقاة ولم تصح إلا أن يكترى كراء، وسواء قليل ذلك وكثيره ولا حد فيه إلا ما وصفت اه.
وقال الماوردى: وإذا كانت المخابرة هي استكراء الارض لزراعتها ببعض ما يخرج منها فهى على ضربين، ضرب أجمع الفقهاء على فساده، وضرب اختلفوا فيه، فأما الضرب الذى أجمعوا على فساده فهو أن تكون حصة كل واحد منهما من زرع الارض مفردة عن حصة صاحبه مثل أن يقول: قد زارعتك على هذه
الارض على ما نبت من الماذيانات كان لى، وما نبت على السواقى والجداول كان لك أو على أن ما سقى بالسماء فهو لى وما سقى بالرشا فهو لك، فهذه مزارعة باطلة اتفق الفقهاء على فساده لرواية سعيد بن المسيب عن سعد بن أبى وقاص ثم ساق الحديث، وأما الضرب الثاني الذى اختلف الفقهاء فيه فهو أن يزارعه على ارضه ليكون العمل على الاجير والارض لربها والبذر منهما أو من أحدهما بحسب شرطهما على أن ما أخرج الله تعالى من زرع كان بينهما على سهم معلوم من نصف أو ثلث أو ربع ليأخذ الزارع سهمه بعمله، ويأخذ رب الارض سهمه بأرضه فهذه هي المخابرة، والمزارعة التى اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة مذاهب: أحدها وهو مذهب الشافعي أنها باطلة سواء شرط البذر على الزارع أو على رب الارض، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله ورافع ابن خديج رضى الله عنهم ومن التابعين سعيد بن جبير وعكرمة ومن الفقهاء الشافعي ومالك وأبو حنيفة.
والمذهب الثاني أنها جائزة سواء شرط البذر على الزارع أو على رب الارض وبه قال من الصحابة على بن أبى طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد ابن أبى وقاص ومعاذ بن جبل رضى الله عنهم ومن التابعين سعيد بن المسيب ومحمد ابن سيرين وعبد الرحمن بن أبى ليلى، ومن الفقهاء سفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد، والمذهب الثالث: أنه إن شرط البذر على صاحب الارض لم يجز، وإن شرطه على الزارع جاز وهو مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، واستدل من أجاز ذلك برواية عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم

(14/421)


عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من ثمر وزرع، وروى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قال: قلت لطاوس يا أبا عبد الرحمن لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عنها فقال: يا عمرو أخبرني أعلمهم ابن عباس أنه لم ينه عنها، ولكن قال: لان يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما.
والدليل على فسادها ما رواه الشافعي عن ابن عمر، وروى يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال: كنا نخابر إلى أن قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا ربع ولا طعام مسمى.
وروى أبو خيثم عن أبى الزبير عن جابر قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: من لم يدع المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله، ولان الاصول التى تصح إجارتها ولا تصح المعاملة عليها ببعض كسبها، وكذا الارض لما جازت إجارتها لم تجز المخابرة عليها فهذه دلائل الفريقين في صحة المخابرة وفسادها، ولما اقترن بدلائل الصحه عمل أهل الامصار مع الضرورة الماسة إليها، وكان ما عارضها محتملا أن يكون جاريا على ما فسره زيد بن ثابت، وقال عبد الله بن عباس كان صحة المخابرة أولى من فسادها مع شهادة الاصول لها في المساقاة والمضاربة، ومن خلال هذا الحوار المفتوح بين المؤيدين والمعارضين تبرز حقيقة ماثلة وهى أن الاصل هو التغلب على أسباب الغبن والغرر، ثم إن ما منيت به البشريه من بلشفيه ملحدة قتلت الحوافز، وكفت الارادة، وجعلت من الانسان آلة صماء لا تعقل ليجعلنا أحوج ما نكون إلى فهم روح الشريعة السمحة.
تم الجزء الرابع عشر ويليه الجزء الخامس عشر وأوله كتاب الاجارة

(14/422)