المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله:

كتاب الطلاق

يصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار، فأما غير الزوج فلا يصح طلاقه وإن قال: إذا تزوجت إمرأة فهى طالق لم يصح لما روى المسور بن مخرمة " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك " وأما الصبى فلا يصح طلاقه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ عن يفيق " فأما من لا يعقل فإنه ان لم يعقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمجنون والمريض ومن شرب دواء؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ فزال عقله أو أكره على شرب الخمر حتى سكر، لم يقع طلاقه، لانه نص في الخبر على النائم والمجنون وقسنا عليهما الباقين، وان لم يعقل بسبب لا يعذر فيه كمن شرب الخمر لغير عذر فسكر أو شرب دواء لغير حاجة فزال عقله، فالمنصوص في السكران أنه يصح طلاقه.
وروى المزني أنه قال في القديم: لا يصح ظهاره، والطلاق والظهار واحد فمن أصحابنا من قال: فيه قولان.
(أحداهما) لا يصح وهو اختيار المزني وأبى ثور، لانه زائل العقل فأشبه النائم، أو مفقود الارادة فأشبه المكره.
(والثانى) أنه يصح، وهو الصحيح، لما روى أبو وبرة الكلبى قال " أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضى الله عنه فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعلى وعبد الرحمن وطلحة والزبير رضى الله عنهم، فقلت ان خالدا يقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة، فقال عمر: هم هؤلاء عندك فاسألهم، فقال على عليه السلام: تراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفترى ثمانون جلدة، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجعلوه كالصاحي " ومنهم من
قال: يصح طلاقه قولا واحدا، ولعل ما رواه المزني حكاه الشافعي رحمه الله عن غيره، وفى علته ثلاثة أوجه.

(17/56)


أحدها - وهو قول أبى العباس - أن سكره لا يعلم إلا منه، وهو متهم في دعوى السكر لفسقه، فعلى هذا يقع الطلاق في الظاهر.
ويدين فيما بينه وبين الله عزوجل.

(والثانى)
أنه يقع طلاقه تغليظا عليه لمعصيته، فعلى هذا يصح ما فيه تغليظ عليه كالطلاق والعتق والردة، وما يوجب الحد ولا يصح ما فيه تخفيف كالنكاح والرجعة وقبول الهبات.
(والثالث) أنه لما كان سكره بمعصية أسقط حكمه فجعل كالصاحي، فعلى هذا يصح منه الجميع، وهذا هو الصحيح، لان الشافعي رحمه الله نص على صحة رجعته (الشرح) حديث المسور بن مخرمة في الزوائد إسناده حسن لان اسناده عند ابن ماجه حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي ثنا على بن الحسين بن واقد ثنا هشام بن سعد عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك " ففيه على بن الحسين بن واقد مختلف فيه فقد قال الذهبي: صدوق.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال النسائي وغيره: ليس به بأس، وذكره العقيلى وقال: مرجئ، قال البخاري مات سنة احدى عشرة ومائتين.
وكذلك هشام بن سعد هكذا في متن ابن ماجه طبعة المطبعة العلمية وعليه شرح أبى الحسن بن عبد الهادى الحنفي يقول: وهشام بن سعيد ضعيف وكلام الاسمين يطلقان على رجلين في كل منهما قيل كلام فهشام بن سعيد الطالقاني لقى ابن لهيعة وأبا شهاب الحناط.
وعنه أحمد بن حنبل وأحمد بن أبى خثيمة وجماعه.
وثقه
أحمد وكان ابن معين لا يروى عنه.
قال الذهبي ما أدرى لاى شئ.
وقال النسائي ليس به بأس.
ووثقه ابن سعد وهشام بن سعد أبو عباد المدنى مولى بن مخزوم يقال له يتيم زيد بن أسلم صحبه وأكثر عنه.
وروى عن عمرو بن شعيب والمقبرى ونافع.
وعنه ابن وهب والقعنبى وجماعة كثيرة.
قال أحمد لم يكن بالحافظ.
وكان يحيى القطان لا يحدث عنه.
وقال أحمد أيضا لم يكن من محكم الحديث.
وقال ابن معين ليس بذلك القوى

(17/57)


وقال النسائي: ضعيف، وقال مرة: ليس بالقوى.
وقال ابن عدى: مع ضعفه يكتب حديثه إلى آخر ما قيل في أنه أثبت الناس في زيد بن أسلم وله مناكير كثيرة.
وأنا أخلص من هذا بأن كلا الرجلين قيل فيه كلام فأى الرجلين هو المعنى في الرواية هل متن السنن أم حاشية ابن عبد الهادى؟ إذا نظرنا في زمن كل من الرجلين فنجد ابن سعيد وهو من شيوخ أحمد والذين تكلموا في ضعفه قلة فهو مختلف فيه وزمنه يمكن أن يكون من طبقة تروى عن الزهري، فإذا عرفت أن الحفاظ قرروا أن هذا الحديث حسن عرفت أن الاسناد كان لا يكون حسنا لو أنه هشام بن سعد لكثرة ما أخذ عليه الحفاظ من مناكير فرجل مثله لا يكون حديثه حسنا من جهة إسناده، ومن ثم تكون حاشية ابن عبد الهادى أضبط من متن السنن وأنه هشام بن سعيد، وقد أخرج له مسلم في الشواهد، والحديث أخرجه أحمد وأهل السنن والبزار والبيهقي، وقال هو أصح شئ في هذا الباب وأشهر.
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما
لا يملك " وقال الترمذي: حديث حسن وهو أحسن شئ روى في هذا الباب.
وفى أبى داود: وقال فيه " ولا وفاء نذر إلا فيما يملك " ولابن ماجه فيه " لا طلاق فيما لا يملك " واختلف في حديث المسور على الزهري فروى عنه عن عروة عن المسور، وروى عنه عن عروة عن عائشة، وروى بمعنى هذا الحديث عن أبى بكر الصديق وأبى هريرة وأبى موسى الاشعري وأبى سعيد الخدرى وعمران بن الحصين وغيرهم، وفى مستدرك الحاكم عن جابر مرفوعا بلفظ " لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك " قال الحاكم: صحيح، وأنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، وقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وابن عباس ومعاذ بن جبل وجابر اه.

(17/58)


وأما حديث " رفع القلم عن ثلاثة إلخ " فقد رواه على وعائشة رضى الله عنهما وأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَيَاهُ هُمَا وَابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ، وَقَدْ كَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ المهذب وقل أن يذكر راويه، وقد أورده في كتاب السير من رواية على كرم الله وجهه.
أما أثر أبى وبرة الكلبى فقد أخرجه الطبري والطحاوى والبيهقي وفيه " أن رجلا من بنى كلب يقال له: ابن وبرة أخبره أن خالد بن الوليد بعثه إلى عمر، وقال له: إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله ما ترون فقال على " وذكر ما تقدم في الفصل، وأخرج نحوه عبد الرزاق عن عكرمة وسيأتى في كتاب الحدود مزيد من الاستقصاء لرواته وطرقه والكلام على أحكامه هناك ان شاء الله.
أما اللغات: فإن طلق الرجل امرأته تطليقا فهو مطلق، فإن كثر تطليقه
للنساء قيل: مطليق ومطلاق، والاسم الطلاق وطلقت هي من باب قتل وفى لغة من باب قرب فهى طالق بغير هاء.
قال الازهرى: وكلهم يقول بغير هاء.
قال: وأما قول الاعشى: أيا جارتنا بينى فإنك طالقه
* كذاك أمور الناس غاد وطارقه فقال الليث أراد طالقة غدا، وانما اجترأ عليه لانه يقال: طلقت فحمل النعت على الفعل.
وقال ابن فارس أيضا: امرأة طالق طلقها زوجها، وطالقة غدا، فصرح بالفرق، لان الصفه غير واقعه، وقال ابن الانباري إذا كان النعت منفردا به الانثى دون الذكر لم تدخله الهاء نحو طالق وطامث وحائض، لانه لا يحتاج إلى فارق لاختصاص الانثى به.
وقال الجوهرى يقال طالق وطالقه، وأنشد بيت الاعشى، وأجيب عنه بجوابين
(أحدهما)
ما تقدم
(والثانى)
أن الهاء لضرورة التصريع على أنه معارض بما رواه ابن الانباري عن الاصمعي قال أنشدني أعرابي من شقى اليمامة البيت فإنك طالق من غير تصريع، فتسقط الحجه به.

(17/59)


قال البصريون: إنما حذفت العلامة لانه أريد النسب.
والمعنى امرأة ذات طلاق وذات حيض، أي هي موصوفة بذلك حقيقة ولم يجروه على الفعل.
ويحكى عن سيبويه أن هذه نعوت مذكرة وصف بهن الاناث كما يوصف المذكر بالصفة المؤنثة نحو علامة ونسابة، وهى سماعي.
وقال الفارابى: نعجة طالق بغير هاء إذا كانت مخلاة ترعى وحدها، فالتركيب يدل على الحل والانحلال.
يقال: أطلقت الاسير إذا حللت اساره وخليت عنه فانطلق، أي ذهب في سبيله، وأطلقت البينة إذا شهدت من غير تقييد بتاريخ، وأطلقت الناقة من عفالها، وناقة طلق بضمتين بلا قيد، وناقة طالق أيضا مرسلة ترعى حيث شاءت، وقد
طلقت طلوقا من باب قعد إذا انحل وثاقها وأطلقتها إلى الماء فطلقت، والطلق بفتحتين جرى الفرس، لا تحتبس إلى الغاية فيقال عدا الفرس طلقا أو طلقتين، كما يقال شوطا أو شوطين، وتطلق الظبى مر لا يلوى على شئ.
وطلق الوجه بالضم طلاقة، ورجل طلق وطلق الوجه أي فرح ظاهر البشر، وهو طلبق الوجه قال أبو زيد " متهلل بسام " وهو طلق اليدين بمعنى سخى، وليلة طلقة، إذا لم يكن فيها قر ولا حر، وكله وزان فلس وشئ طلق، وزان حمل أي حلال، وافعل هذا طلقا لك أي حلالا ويقال الطلق المطلق الذى يتمكن صاحبه فيه من جميع التصرفات فيكون فعل بمعنى مفعول مثل الذبح بمعنى المذبوح، وأعطيته من طلق مالى أي من حله أو من مطلقه وطلقت المرأة بالبناء للمفعول طلقا فهى مطلوقة إذا أخذها المخاض وهو وجع الولادة، وطلق لسانه بالضم وطلوقة فهو طلق اللسان، وطليقه أيضا، أي فصيح عذب المنطق، واستطلقت من صاحب الدين كذا فأطلقه، واستطاق بطنه لازما، وأطلق الدواء، وفرس مطلق اليدين إذا خلا من النحجبل أما قوله " أنهمكوا في الخمر " فانه يقال انهمك فلان في الامر أي جد ولج.
وكذلك تهمك في الامر.
تحاقروا العقوبة استصغروها.
والحقير الصغير.
ومحقرات الذنوب صغارها.
قوله " إذا سكر هذى " يقال هذى في منطقه يهذى ويهذو.
وهذا هذيانا إذا كثر كلامه وقلت فائدته.
وإذا هذى افترى أي كذب والافتراء والفرية الكذب

(17/60)


وأصله الخلق، من فريت المزادة إذا خلقتها وصنعتها، كأنه اختلق الكذب أي صنعه وابتدأه، هكذا أفاده ابن بطال في شرح غريب المهذب والفيومى في غريب الشرح الكبير للرافعي المسمى بالمصباح المنير
أما الاحكام فإن الطلاق ملك للازواج على زوجاتهم، والاصل فيه الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " وقوله تعالى " الطلاق مرتان " الاية.
وأما السنة فروى أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصه بنت عمر ثم راجعها.
وروى عن ابن عمر أنه قال كان تحتي امرأة أحبها وكان أبى يكرهها فأمرني أن أطلقها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني أن أطلقها.
وأجمعت الامة على جواز الطلاق، إذا ثبت هذا فإن الطلاق لا يصح الا بعد النكاح.
فأما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهى طالق، أو إذا تزوجت امرأة من القبيله الفلانية فهى طالق، أو إذا تزوجت فلانة فهى طالق، أو قال لاجنبية إذا دخلت الدار وأنت زوجتى فأنت طالق، فلا يتعلق بذلك حكم، وإذا تزوج لم يقع عليها الطلاق.
وكذلك إذا عقد العتق قبل الملك فلا يصح.
هذا مذهبنا وبه قال من الصحابة على بن أبى طالب وابن عباس وعائشة.
ومن التابعين شريح وابن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والحسن وعروة، ومن الفقهاء أحمد واسحاق، الا أن أحمد له في العتق روايتان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه تنعقد الصفة في عموم النساء وخصوصهن، وكذلك إذا قال لامرأة أجنبية إذا دخلت الدار وأنت زوجتى فأنت طالق فتزوجها ودخلت الدار طلقت.
وكذلك يقول في عقد العتق قبل الملك مثله، وحكى ذلك عن ابن مسعود، وبه قال الزهري.
وقال مالك: ان عين ذلك في قبيلة بعينها أو امرأة بعينها انعقدت الصفة.
وان عمم لم ينعقد.
وبه قال النخعي وربيعة والاوزاعي وابن أبى ليلى دليلنا ما رواه المسور بن مخرمة مرفوعا " لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك " ولان من لم ينعقد طلاقه بالمعاشرة لم ينعقد طلاقه بصفة كالمجنون والصغير.

(17/61)


(مسأله) ولا يصح طلاق الصبى والنائم والمجنون.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: إذا عقل الصبى الطلاق وقع.
دليلنا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، ولا يصح طلاق المعتوه ومن زال عقله بمرض أو بسبب مباح لِمَا رَوَى جَابِرٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كل الطلاق جائز الا طلاق المعتوه والصبى ولانه يلفظ بالطلاق ومعه علم ظاهر يدل على قدر قصده بوجه هو معذور فيه فلم يقع طلاقه كالطفل.
(فرع)
وان شرب خمرا أو نبيذا فسكر فطلق في حال سكره فالمنصوص أن طلاقه يقع.
وحكى المزني أنه قال في القديم " في ظهار السكران قولان " فمن أصحابنا من قال.
إذا ثبت هذا كان في طلاقه أيضا قولان.

(أحدهما)
لا يقع واليه ذهب ربيعة والليث وداود وأبو ثور والمزنى، لانه زال عقله فأشبه المجنون.

(والثانى)
يقع طلاقه لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " فخاطبهم في حال السكر فدل على أن السكران مكلف.
وروى أن عمر رضى الله عنه استشار الصحابة رضى الله عنهم وقال ان الناس قد تباغوا في شرب الخمر واستحقروا حد العقوبة فيه، فما ترون؟ فقال على انه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحده حد المفترى، فلولا أن لكلامه حكما لما زيد في حده لاجل هذيانه.
وقال أكثر أصحابنا: يقع طلاقه قولا واحدا لما ذكرناه من الآية والاجماع.
واختلف أصحابنا في نيته فمنهم من قال: لان سكره لا يعلم الا من جهته وهو متهم في دعوى السكر لفسقه، فعلى هذا يقع الطلاق في الظاهر وليس فيما بينه
وبين الله تعالى.
ومنهم من قال يقع الطلاق تغليظا عليه، فعلى هذا يقع منه كل ما فيه تغليظ عليه كالطلاق والردة والعتق، وما يوجب الحد، ولا يقع ما فيه تخفيف كالكناح والرجعة وقبول الهبة، ومنهم من قال لما كان سكره معصية سقط حكمه، فجعل كالصاحي، فصح منه الجميع.

(17/62)


قال العمرانى من أصحابنا: وهذا هو الصحيح، فان شرب دواء أو شرابا غير الخمر والنبيذ فسكر - فان شربه لحاجة - فحكمه حكم المجنون، وإن شربه ليغيب عقله، فهو كالسكران بشرب الخمر، لانه زال عقله بمعصية فهو كمن شرب الخمر والنبيذ.
وقد استدل بعدم صحة إقرار السكران بقصة ماعز حين قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أشرب خمرا، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر إلخ الحديث، وقد قاس صاحب المنتقى إقرار السكران على طلاقه حين ساق حديث ماعز في كتاب الطلاق مع أن الحديث لا صلة له بالطلاق البتة، وهو اجتهاد سليم وقد قال الشوكاني: وقد اختلف أهل العلم في ذلك فأخرج ابن أبى شيبة بأسانيد صحيحة عدم وقوع طلاق السكران عن أبى الشثاء وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز.
قال في الفتح: وبه قال ربيعة والليث وإسحق والمزنى، واختاره الطحاوي، واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع، قال والسكران معتوه بسكره وقال بوقوعه طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهرى والشعبى، وبه قال الاوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة.
قال: وعن الشافعي قولان المصحح منهما وقوعه، والخلاف عند الحنابلة،
وقد حكى القول بالوقوع في البحر عن على وابن عباس وابن عمر ومجاهد والضحاك وسليمان بن يسار وزيد بن على والهادي والمؤيد بالله، وحكى القول بعدم الوقوع عن عثمان وجابر بن زيد، ورواية عن ابن عباس والناصر وأبى طالب والبتى وداود بن على اه.
وقد ذكرنا احتجاج القائلين بالوقوع بمفهوم التكليف في قوله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) وقد أجيب بأن النهى في الآية إنما هو عن أصل السكر الذى يلزم منه قربان الصلاة كذلك، وقيل إنه نهى للثمل الذى يعقل الخطاب وأيضا قوله في آخر الاية (حتى تعلموا ما تقولون) دليل على أن السكران يقول مالا يعلم، ومن كان كذلك فكيف يكون مكلفا وهو غير فاهم، والفهم شرط التكليف كما تقرر في الاصول.

(17/63)


واحتجوا ثانيا بأنه عاص بفعله فلا يزول عنه الخطاب بالسكر ولا الاثم لانه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر، وأجاب الطحاوي بأنها لا تختلف أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره.
إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من الله أو من قبل نفسه، كمن كسر رجل نفسه فإنه يسقط عنه فرض القيام.
وتعقب بأن القيام انتقل إلى بدل وهو القعود فافترقا وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء بالصلوات بأن النائم يجب عليه قضاء الصلاة ولا يقع طلاقه لانه غير مكلف حال النوم بلا نزاع واحتجوا ثالثا بأن ربط الاحكام بأسبابها أصل من الاصول المأنوسة في الشريعة، والتطليق سبب للطلاق فينبغي ترتيبه عليه وربطه به وعدم الاعتداد بالسكر كما في الجنايات.
وأجيب بأن الاستفسار عن السبب للطلاق هل هو إيقاع
لفظه مطلقا؟ ان قلتم نعم لزمكم أن يقع من المجنون والنائم والسكران الذى لم يعص بسكره إذا وقع من أحدهم لفظ الطلاق.
وإن قلتم إنه ايقاع اللفظ من العاقل الذى يفهم ما يقول فالسكران غير عاقل ولا فاهم، فلا يكون ايقاع لفظ الطلاق منه سببا.
واحتجوا رابعا بأن الصحابة رضى الله عنهم جعلوه كالصاحي، ويجاب بأن ذلك محل خلاف بين الصحابة كما بينا واحتجوا خامسا بأن عدم وقوع الطلاق من السكران مخالف للمقاصد الشرعية لانه إذا فعل حراما واحدا لزمه حكمه، فإذا تضاعف جرمه بالسكر وفعل المحرم الاخر سقط عنه الحكم، مثلا لو أنه ارتد بغير سكر لزمه حكم الردة فإذا جمع بين السكر والردة لم يلزمه حكم الردة لاجل السكر ويجاب بأنا لم نسقط عنه حكم المعصية الواقعة منه حال السكر لنفس فعله للمحرم الاخر وهو السكر، فإن ذلك مما لا يقول به عاقل، وانما أسقطنا عنه حكم الصاحى فلم يكن فعله لمعصية الشرب هو المسقط.
ومن الادلة الدالة على عدم الوقوع ما في صحيح البخاري وغيره أن حمزة سكر وقال للنبى صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه هو وعلى " وهل أنتم الا عبيد لابي "

(17/64)


في قصة الشارفين المشهورة، فتركه صلى الله عليه وسلم وخرج ولم يلزمه حكم تلك الكلمة، مع أنه لو قالها غير سكران لكان كفرا.
وأجيب بأن الخمر كانت إذ ذاك مباحة، والخلاف انما هو بعد تحريمها.
وحكى الحافظ في فتح الباري عن ابن بطال أنه قال " الاصل في السكران العقل " والسكر شئ طرأ على عقله.
فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الاصل حتى يثبت فقدان عقله اه.
وقال القائلون يعد الوقوع " لا يقال ان ألفاظ الطلاق ليست من الاحكام التكليفية، بل من الاحكام الوضعية، وأحكام الوضع لا يشترط فيها التكليف لانا نقول الاحكام الوضعية تقيد بالشروط كما تقيد الاحكام التكليفية.
وأيضا السبب الوضعي هو طلاق العاقل لا مطلق الطلاق وبالاتفاق.
والا لزم وقوع طلاق المجنون.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وأما المكره فإنه ينظر فإن كان اكراهه بحق كالمولى إذا أكرهه الحاكم على الطلاق وقع طلاقه.
لانه قول حمل عليه بحق فصح كالحربي إذا أكره على الاسلام.
وان كان بغير حق لم يصح لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَلِأَنَّهُ قول حمل عليه بغير حق فلم يصح كالمسلم إذا أكره على كلمة الكفر.
ولا يصير مكرها الا بثلاثة شروط (أحدها) أن يكون المكره قاهرا له لا يقدر على دفعه
(والثانى)
أن يغلب على ظنه أن الذى يخافه من جهته يقع به (والثالث) أن يكون ما يهدده به مما يلحقه ضرر به كالقتل والقطع والضرب المبرح والحبس الطويل والاستخفاف بمن يغض منه ذلك من ذوى الاقدار لانه يصير مكرها بذلك.
وأما الضرب القليل في حق من لا يبالى به والاستخفاف بمن لا يغض منه أو أخذ القليل من المال ممن لا يتبين عليه.
أو الحبس القليل.
فليس بإكراه.

(17/65)


وأما النفى فإن كان فيه تفريق بينه وبين الاهل فهو إكراه، وإن لم يكن فيه تفريق بينه وبين الاهل ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه إكره لانه جعل النفى عقوبة كالحد، ولانه تلحقه الوحشة
بمفارقة الوطن
(والثانى)
ليس بإكراه لتساوي البلاد في حقه.
وإذا أكره على الطلاق فنوى الايقاع ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقع لان اللفظ يسقط حكمه بالاكراه، وبقيت النية من غير لفظ، فلم يقع بها الطلاق.

(والثانى)
انه يقع لانه صار بالنية مختارا
(فصل)
وان قال الاعجمي لامرأته أنت طالق وهو لا يعرف معناه ولا نوى موجبه لم يقع الطلاق، كما لو تكلم بكلمة الكفر وهو لا يعرف معناه ولم يرد موجبه، وان أراد موجبه بالعربية ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول الماوردى البصري أنه يقع لانه قصد موجبه فلزمه حكمه
(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفرايينى رحمه الله أنه لا يصح كما لا يصير كافرا إذا تكلم بكلمة الكفر وأراد موجبه بالعربية.
(الشرح) الحديث أخرجه ابن ماجه وابن حبان والدارقطني والطبراني والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس بهذا اللفظ الذى ساقه المصنف " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وحسنه النووي، وقد أطال الحافظ ابن حجر في باب شروط الصلاة من التلخيص الحبير أما الاحكام فإن أكره على الطلاق فطلق - فإن كان مكرها بحكم قضائي وقع الطلاق، كما نقول في الحربى إذا أكره على كلمة التوحد، وان كان مكرها بغير حق ولم ينو إيقاع الطلاق فالمنصوص أنه لا يقع طلاقه.
وحكى المسعودي وابن الصباغ وجها آخر أنه لا يقع إذا ورى بغير الطلاق، مثل أن يريد به طلاقها من وثاق أو يريد امرأة اسمها كاسم امرأته والمذهب الاول وبه قال عمر وعلى وابن الزبير وابن عمر وشريح والحسن وعمر بن عبد العزيز وعطاء ومجاهد وطاوس ومالك والاوزاعي.

(17/66)


وقال أبو حنيفة والثوري والنخعي والشعبى: يقع طلاقه.
دليلنا ما رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وروى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا طلاق ولا عتاق في اغلاق " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وأبو يعلى والحاكم والبيهقي وصححه الحاكم، والاغلاق بكسر الهمزة وسكون الغين فسره علماء الغريب بالاكراه، روى ذلك في التلخيص الحبير عن ابن قتيبة والخطابى وابن السيد وغيرهم، وقيل: الجنون، واستبعده المطرزى.
وقال أبو عبيدة: الاغلاق التضييق.
وقد استدل بهذا الحديث من قال بعدم صحة طلاق المكره، وبه قال جماعة ما أهل العلم، وحكى ذلك عمن ذكرناهم، ولانه قول حمل عليه بغير حق، فلم يصح كما لو أكره على الاقرار بالطلاق، وقولنا: بغير حق احتراز ممن أكرهه الحاكم على الطلاق.
إذا ثبت هذا: فلا يكون مكرها حتى يكون المكره له قاهرا له لا يقدر على الامتناع منه، وإن غاب على ظنه أنه إذا لم يطلق فعل به ما أوعده به، فإن أوعده بالقتل أو قطع طرف، كان ذلك مكرها، وان أوعده بالضرب أو الحبس أو الشتم أو أخذ المال، فاختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق: إن ذلك لا يقع به الاكراه.
وقال عامة أصحابنا - وهو المذهب - ان أوعده بالضرب والحبس والشتم - فان كان المكره من ذوى الاقدار والمرءوة ممن يؤثر ذلك تأثيرا بالغا في حاله كان اكراها له، لان ذلك يسيئه.
وان كان من العوام، أو سخفاء الرعاع، لم يكن ذلك اكراها في حقه، لانه لا يبالى به، وان أوعده بأخذه القليل من ماله مما لا يبين عليه، لم يكن اكراها،
وان أوعده بأخذ ماله أو أكثره كان مكرها، وان أوعده باتلاف الولد، ففيه وجهان حكاهما المسعودي، وان أوعده بالنفى عن البلد، فان كان له أهل في البلد كان ذلك اكراها، وان لم يكن له أهل ففيه وجهان.

(17/67)


(أحدهما)
أنه اكراه لانه يستوحش بمفارقة الوطن
(والثانى)
ليس باكراه لتساوي البلاد في حقه هذا مذهبنا.
وقال أحمد في احدى الروايتين ما أوعده به فليس باكراه، لانه لم يصبه ما يستضر به، وهذا ليس بصحيح، لان الاكراه لا يكون الا بالتوعد، فأما ما فعله به فلا يمكن ازالته.
(فرع)
إذا أكره على الطلاق ونوى بقلبه من وثاق أو نوى غيرها ممن يشاركها في الاسم وأخبر بذلك قبل منه لموضع الاكراه من القضيه، فان نوى ايقاع الطلاق، ففيه وجهان.

(أحدهما)
يقع لانه صار مختارا لايقاعه
(والثانى)
لا يقع لان حكم اللفظ سقط بالاكراه وتبقى النية، والنية لا يقع بها الطلاق.
(فرع)
ويقع الطلاق في حال الرضى والغضب والجد والهزل، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة " رواه أصحاب السنن.
وقال الترمذي حسن غريب ورواه الحاكم وصححه.
وفى اسناد الدارقطني عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك وهو مختلف فيه.
قال الحافظ: فهو على هذا حسن.
وقد أخرج الطبراني وعبد الرزاق أحاديث أخرى بمعناه.
إذا ثبت هذا: فان الطلاق يقع من المسلم والكافر، والحر والعبد والمكاتب لاجماع الامة على ذلك، فان تزوج امرأة فنسى أنه تزوجها فقال: أنت طالق، وقع عليها الطلاق لانه صادف ملكه.
(مسألة) قوله: فصل.
وان قال الاعجمي لامرأته: أنت طالق الخ.
وهو كما قال، فان العجمي إذا قال لامرأته: أنت طالق ولم يعرف معناه ولا نوى موجبه لم يقع الطلاق.
كما لو تكلم بالكفر ولا يعرف معناه.
وان نوى موجبه بالعربية ففيه وجهان.

(أحدهما)
يقع عليها الطلاق لانه نوى موجبه
(والثانى)
لا يقع كما لو تكلم بالكفر ولا يعلم معناه ونوى موجبه.
أفاده العمرانى في البيان اه قلت: لاننا إذا جعلنا الحكم على النية وحدها كان الحكم باطلا وإذا جعلناه على اللفظ وحده كان مثله، واقترانهما لا يفيد التلازم بينهما لفقدان الفهم،

(17/68)


واقترانهما لا يسوغ معه اعطاء حكمهما الا إذا اقترن اللفظ بالفهم.
ومن ثم يتوجه الوجه الثاني عندي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
ويملك الحر ثلاث تطليقات.
لما روى أبو رزين الاسدي قَالَ " جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال: أرأيت قول الله عزوجل: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فأين الثلاثة؟ قال: تسريح بإحسان الثالثة، ويملك العبد طلقتين لما روى الشافعي رحمه الله: أن مكاتبا لام سلمة طلق إمرأته وهى حرة تطليقتين، وأراد أن يراجعها فأمره أَزْوَاجِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يأتي عثمان رضى الله عنه فيسأله، فذهب إليه فوجده آخذا بيد زيد بن ثابت فسألهما عن ذلك، فابتدراه وقالا: حرمت عليك حرمت عليك ".

(فصل)
ويقع الطلاق على أربعة أوجه واجب ومستحب ومحرم ومكروه فأما الواجب فهو في حالتين
(أحدهما)
إذا وقع الشقاق ورأى الحكمان الطلاق،
وقد بيناه في النشوز
(والثانى)
إذا آلى منها ولم يفئ إليها ونذكره في الايلاء إن شاء الله تعالى.
وأما المستحب فهو في حالتين: إحداهما: إذا كان يقصر في حقها في العشرة أو في غيرها، فالمستحب أن يطلقها لقوله عز وجل " فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " ولانه إذا لم يطلقها في هذه الحال لم يؤمن أو يفضى إلى الشقاق أو إلى الفساد.
والثانى أن لا تكون المرأة عفيفة فالمستحب أن يطلقها، لما روى أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ان امرأتي لا ترد يد لامس فقال النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ولانه لا يأمن أن تفسد عليه الفراش وتلحق به نسبا ليس منه.
(الشرح) حديث أبى رزين الاسدي.
قال ابن أبى حاتم أخبرنا يونس بن عبد الاعلى قراءة أخبرنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري حدثنى اسماعيل بن سميع قال: سمعت أبا رزين يقول " جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ

(17/69)


يا رسول الله أرأيت قول الله عزوجل: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أين الثالثة قال التسريح باحسان.
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ولفظه: أخبرنا يزيد بن أبى حكيم عن سفيان عن اسماعيل بن سميع أن أبا رزين الاسدي يقول، قال رجل يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى " الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال التسريح باحسان الثالثة " ورواه الامام أحمد أيضا، وهكذا رواه سعيد بن منصور عن خالد بن عبد الله عن اسماعيل بن زكريا وأبى معاوية عن اسماعيل بن سميع عن أبى رزين به، وكذا رواه ابن مردويه أيضا من طريق قيس بن الربيع عن اسماعيل بن سميع عن أبى رزين به مرسلا، ورواه ابن مردويه أيضا من طريق عبد الواحد بن زياد عن اسماعيل بن سميع عن أنس بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
فذكره، ثم قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا عبد الله بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أَنَسٍ قَالَ، جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة؟ قال امساك بمعروف أو تسريح باحسان، قال في الدر المنثور وأخرجه البيهقى وابن المنذر والنحاس وأبو داود في ناسخه ومنسوخه وابن جرير ووكيع وعبد الرزاق قلت وأبو رزين هذا هو مسعود بن مالك الاسدي الكوفى ثقة فاضل من الطبقة الثانية مات سنة خمس وثمانين وهو غير أبى رزين عبيد الذى قتله ابن زياد بالبصرة ووهم من خلط بينهما، وهو أيضا غير أبى رزين الذى ترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب بقوله والد عبد الله بن أبى رزين الذى لم يرو عنه غير ابنه حديثه في الصيد يتوارى، وهما مجهولان أما حديث مكاتب أم سلمة فقد رواه الشافعي في الام، أخبر مالك قال وحدثني ابن شهاب عن ابن المسيب أن نفيعا مكاتبا لام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم طلق امرأته حرة تطليقتين فاستفتى عثمان بن عفان فقال له عثمان حرمت عليك وأخرجه الشافعي أيضا عن مالك، حدثنى عبد ربه بن سعيد عن محمد بن ابراهيم ابن الحرث أن نفيعا مكاتبا لام سلمة استفتى زيد بن ثابت فقال انى طلقت امرأة لى

(17/70)


حرة تطليقتين، فقال زيد حرمت عليك.
وأخرجه أيضا عن مالك، حدثنى أبو الزناد عن سليمان بن يسار أن نفيعا مكاتبا لام سلمة أو عبد كان تحته امرأة حرة فطلقها اثنتين ثم أراد أن يراجعها، فأمره أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يأتي عثمان بن عفان فيسأله عن ذلك فذهب إليه فلقيه عند الدرج آخذا بيد زيد بن ثابت فسألهما فابتدراه جميعا فقالا: حرمت عليك اه
قلت: ويعارضه ما روى عن عمر بن معتب " أن أبا حسن بنى نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس في مملوك تحته أمة فطلقها تطليقتين ثم عتقا، هل يصلح أن يخطبها.
قال نعم.
قضى بذلك رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رَوَاهُ النسائي وابن ماجه وأبو داود، إلا أن عمر بن معتب قال فيه على بن المدينى أنه منكر الحديث وسئل عنه أيضا فقال انه مجهول لم يرو عنه غير يحيى بن أبى كثير.
وقال النسائي ليس بالقوى.
وقال الامير أبو نصر: منكر الحديث.
وقال الذهبي لا يعرف.
ومعتب بضم الميم وفتح العين وتشديد المثناة، وقد استدل بهذا الحديث من قال ان العبد يملك من الطلاق ما يملكه الحر من ثلاث تطليقات وقال أبو حنيفة " انه لا يملك في الامة الا اثنتين أما في الحرة فكالحر " واستدلوا بحديث ابن مسعود " الطلاق بالرجال والعدة بالنساء " عند الدارقطني والبيهقي وأجيب بأنه موقوف قالوا.
أخرج الدارقطني والبيهقي أيضا عن ابن عباس نحوه، وأجيب بأنه موقوف أيضا.
وكذلك روى نحوه أحمد من حديث على، وهو أيضا موقوف.
وقد أخرج ابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعا " طلاق الامة اثنتان وعدتها حيضتان " وأجيب بأن في إسناده عمر بن شبيب وعطيه العوفى وهما ضعيفان.
وقال الدارقطني والبيهقي الصحيح أنه موقوف، ولكن في السنن نحو من حديث عائشة واعترض بأن في إسناده مظاهر بن أسلم.
قال الترمذي حديث عائشة هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا الا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث.

(17/71)


وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهو قول
سقيان والشافعي وإسحاق اه وقال العمرانى: عدد الطلاق معتبر بالرجال دون النساء فيملك الحر ثلاث تطليقات، سواء كانت زوجته حرة أو أمة، ولا يملك العبد إلا طلقتين سواء كانت زوجته حرة أو أمة.
وبه قال ابن عمر وابن عباس، ومن الفقهاء مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة والثوري: عدد الطلاق معتبر بالنساء، فإن كانت الزوجة حرة ملك زوجها عليها ثلاث تطليقات، سواء كان حرا أو عبدا.
وإن كانت أمة لم يملك عليها إلا طلقتين، سواء كان حرا أو عبدا، وبه قال على ابن ابى طالب.
اه دليلنا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ " كان الرجل يطلق امرأته في صدر الاسلام ما شاء أن يطلقها وهى امرأته إذا ارتجعها وهى في العدة.
وإن طلقها مائة وأكثر حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبينى منى ولا آويك أبدا، قالت وكيف ذلك؟ قال أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها، فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن: الطلاق مرتان، فامساك بمعروف أو تسريح باحسان.
قالت عائشة فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يكن طلق " رواه الترمذي ورواه أيضا عن عروة مرسلا، وذكر أنه أصح، والمرفوع من طريق قتيبة عن يعلى بن شبيب عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، والمرسل من طريق أبى كريب عن عبد الله بن ادريس عن هشام عن عروة ولم يذكر عائشة.
وحديث الرجل الذى سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين الثالثه؟ فقال تسريح باحسان.
وقد مضى كلامنا عليه وهذه الايه إنما وردت في الحر لقوله تعالى " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما
آتيتموهن شيئا الا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جناح عليهما فيما افتدت به " فأحل الله تعالى الاخذ له، والذى أحل له الاخذ هو الحر دون المولى، ولم يفرق بين أن تكون الزوجه حرة أو أمة

(17/72)


فان قيل: الامة تفتدي، قلنا الامة لا تفتدي فان افتدت باذن سيدها كان ذلك مما في يدها أو كسبها، والا كان ذلك في ذمتها.
(فرع)
إذا طلق الذمي الحر امرأته طلقه فنقض الامان ولحق بدار الحرب فسبى واسترق ثم تزوج زوجته التى طلقها باذن سيدها قال ابن الحداد: لم يملك عليها أكثر من طلقه واحدة، لان النكاح الثاني يبنى على الاول في عدد الطلقات، وان طلقها طلقتين ونقض الامان ولحق بدار الحرب فسبى واسترق ثم تزوجها باذن سيده كانت عنده على واحدة، لان الطلقتين الاولتين لم يحرماها عليه، فلم يتعين الحكم بالرق عليه الصارئ بعده، كذلك إذا طلق العبد امرأته طلقة فأعتق ثم تزوجها ملك عليها تمام الثلاث وهو طلقتان، لان الطلقه الاولى لم تحرمها عليه ولو طلق العبد امرأته طلقتين ثم أعتق العبد لم يجز له أن يتزوجها قبل زوج آخر لانها حرمت عليه بالطلقتين الاولتين فلا يتعين الحكم بالعتق الطارئ.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وأما المحرم فهو طلاق البدعه وهو اثنان
(أحدهما)
طلاق المدخول بها في حال الحيض من غير حمل
(والثانى)
طلاق من يجوز أن تحبل في الطهر الذى جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل.
والدليل عليه ما روى عن ابن عمر رضى الله عنه أنه طلق امرأته وهى
حائض، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده مرة أخرى، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده أخرى، ثم يمسكها حتى تطهر من حيضها، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر قبل ان يجامعها، فتلك العدة التى أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء " ولانه إذا طلقها في الحيض أضر بها في تطويل العدة، وإذا طلقها في الطهر الذى جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل لم يأمن أن تكون حاملا فيندم على مفارقتها مع الولد،

(17/73)


ولانه لا يعلم هل علقت بالوطئ فتكون عدتها بالحمل، أو لم تعلق فتكون عدتها بالاقراء.
وأما طلاق غير المدخول بها في الحيض فليس بطلاق بدعة، لانه لا يوجد تطويل العدة.
فأما طلاقها في الحيض وهى حامل على القول الذى يقول ان الحامل تحيض فليس ببدعة.
وقال أبو إسحاق هو بدعة لانه طلاق في الحيض.
والمذهب الاول، لما روى سالم أن ابن عمر رضى الله عنه " طلق امرأته وهى حائض، فذكر عمر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: مره فليراجعها ثم ليطلقها وهى طاهر أو حامل " ولان الحامل تعتد بالحمل فلا يؤثر الحيض في تطويل عدتها وأما طلاق من لا تحمل في الطهر المجامع فيه وهى الصغيرة والايسة من الحيض فليس ببدعة لان تحريم الطلاق للندم على الولد أو للريبة بما تعتد به من الحمل.
والاقراء.
وهذا لا يوجد في حق الصغيرة والايسة وأما طلاقها بعدما استبان حملها فليس ببدعة، لان المنع للندم على الولد وقد علم بالولد أو للارتياب بما تعتد به وقد زال ذلك بالحمل وإن طلقها في الحيض أو الطهر الذى جامع فيه وقع الطلاق، لان ابن عمر
رضى الله عنه طلق امرأته وهى حائض، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يراجعها فدل على أن الطلاق وقع.
والمستحب أن يراجعها لحديث ابن عمر رضى الله عنه ولانه بالرجعة يزول المعنى الذى لاجله حرم الطلاق، وان لم يراجعها جاز لان الرجعة إما أن تكون كابتداء النكاح أو كالبقاء على النكاح، ولا يجب واحد منهما
*
*
*
(فصل)
وأما المكروه فهو الطلاق من غير سنة ولا بدعة، والدليل عليه ما روى محارب بن دثار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطلاق " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّمَا المرأة خلفت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فان استمتعت بها استمتعت وبها عوج، وان ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها "

(17/74)


(الشرح) حديث ابن عمر رواه أحمد في مسنده ومسلم وأصحاب السنن الاربعة بلفظ " أنه طلق إمرأته وهى حائض فذكر ذلك عمر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " وفى رواية " أنه طلق إمرأة له وهى حائض فذكر ذلك عمر للنبى صلى الله عليه وسلم فتغيظ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله تعالى " وفى لفظ " فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء " رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا الترمذي ولمسلم والنسائي نحوه وفى آخره " قال ابن عمر: وقرأ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن " وفى رواية لاحمد والشيخين " وكان عبد الله طلق تطليقه فحسبت من طلاقها " وفى رواية عند أحمد ومسلم والنسائي " كان ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال لاحدهم: أما إن طلقت إمرأتك
مرة أو مرتين فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بهذا، وان كنت طلقت ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت الله عز وجل فيما أمرك به من طلاق إمرأتك ".
وفى رواية عند الدارقطني وفيه تنبيه على تحريم الوطئ والطلاق قبل الغسل " أنه طلق إمرأته وهى حائض تطليقة، فانطلق عمر فَأَخْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مر عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت فليتركها حتى تحيض، فإذا اغتسلت من حيضتها الاخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن يمسكها فليمسكها، فانها العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء ".
أما بعد - فان قوله (البدعة) فهى الحدث بعد الاكمال، وابتدع الشئ أحدثه وابتدأه فهو مبتدع.
وقوله " طلق إمرأته " اسمها آمنة بنت غفار هكذا حكاه النووي وابن باطش، وفى مسند أحمد أن اسمها النوار.
وقوله (فذكر ذلك عمر) قال ابن العربي: سؤال عمر محتمل لان يكون ذلك لكونهم لم يروا قبلها مثلها فسأله ليعلم.

(17/75)


ويحتمل أن يكون لما رأى في القرآن (فطلقوهن لعدتهن) ويحتمل أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم النهى فجاء ليسأل عن الحكم عبد ذلك.
وقوله: (مره فليراجعها) .
قال ابن دقيق العبد: يتعلق بذلك مسألة أصولية وهى أن الامر بالامر بالشئ هل هو أمر بذلك الشئ أو لا؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ: مره، والمسألة معروفة في كتب الاصول والخلاف فيها مشهور.
وفى لفظ لابي داود وأحمد والنسائي عن ابن عمر أيضا " أنه طلق إمرأته وهى حائض، فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لم يرها شيئا، وقال: إذا طهرت
فليطلق أو ليمسك ".
وقد تضمن الحكم بموجب هذه الاخبار أن الطلاق على أربعة أوجه، حلالان وحرامان، فالحلالان أن يطلق إمرأته طاهرا من غير جماع أو يطلقها حاملا مستبينا حملها.
والحرامان أن يطلقها وهى حائض أو يطلقها في طهر جامعها فيه هذا في طلاق المدخول بها، أما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حايضا وطاهرا كما قال تَعَالَى " لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ".
وقال ابن القيم في زاد المعاد تضمنت النصوص أن المطلقة نوعان، مدخول بها وغير مدخول بها، وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثا مجموعة، ويجوز تطليق غير المدخول بها طاهرا وحائضا، وأما المدخول بها فان كانت حائضا أو نفساء حرم طلاقها، وإن كانت طاهرا، فان كانت مستبينة الحمل جاز طلاقها بعد الوطئ وقبله، وان كانت حائلا لم يجز طلاقها بعد الوطئ في طهر الاصابة، ويجوز قبله هذا الذى سرعه الله على لسان رسوله من الطلاق.
وأجمع المسلمون على وقوع الطلاق الذى أذن الله فيه وأباحه إذا كان من مكلف مختار عالم بمدلول اللفظ قصد له، واختلفوا في وقوع المحرم من ذلك وفيه مسالتان.
(الاولى) الطلاق في الحيض أو في الطهر الذى واقعها فيه.
(المسألة الثانية) في جمع الثلاث، ثم ذكر المسألتين تفصيلا ورأى كل جماعة

(17/76)


من العلماء ودليل كل فريق منهم مما أثبتناه في مظانه ومواطنه من شرح المهذب، فإذا ثبت هذا: فإن الطلاق يقع على كل زوجة كبيرة كانت أو صغيرة عاقلة كانت أو مجنونة، مدخول بها كانت أو غير مدخول بها لعموم الاية والاجماع وينقسم
الطلاق على أربعة أضرب، واجب ومستحب ومكروه ومحرم، فأما الواجب فهو طلاق الحكمين عند شقاق الزوجين - إذا قلنا: إنهما حكمان - وكذلك طلاق المؤلى إذا انقضت مدة الايلاء وامتنع من الفئ على ما سيأتي في الايلاء وأما المستحب فأن تقع الخصومة بين الزوجين وخافا أن لا يقيما حدود الله، فيستحب له أن يطلقها، لما روى أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ إمرأتى لا ترد يد لامس فقال: طلقها، فقال: إنى أحبها، قال: أمسكها.
وأما المكروه فأن تكون الحال بينهما مستقيمة ولا يكره شيئا من خلقها ولا دينها، فيكره أن يطلقها، لقوله صلى الله عليه وسلم أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
وأما المحرم فهو طلاق المرأة المدخول بها في الحيض أو في الطهر الذى جامعها فيه قبل أن يتبين حملها، ويسمى طلاق البدعة، لقوله تعالى " فطلقوهن لعدتهن " أي لوقت عدتهن، ووقت العدة هو الطهر، كما روينا أن ابن عمر طلق إمرأته وهى حائض فسأل عمر النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فقال: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر قبل أن يجامعها، فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء.
وفى رواية " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " ولانه إذا طلقها في حال الحيض أضر بها في تطويل العدة، وإذا طلقها في حال الطهر الذى جامعها فيه قبل أن يتبين حملها ربما كانت حاملا فيندم على مفارقتها - فان كانت غير مدخول بها وطلقها في الحيض - لم يكن طلاق بدعة لانه لا عدة عليها، وإن طلق الصغيرة أو الآيسة في الطهر الذى جامعها فيه لم يكن طلاق بدعة: لانها لا تحبل فيندم على مفارقتها، وإن طلقها وهى حامل في الطهر الذى جامعها فيه لم يكن طلاق بدعة لقوله صلى الله عليه فليطلقها طاهرا أو حاملا.
فان رأت الدم على الحمل - فان قلنا: إنه ليس بحيض - فليس بطلاق بدعه، وإن قلنا: إنه

(17/77)


حيض، فيه وجهان.
قال أبو إسحاق: هو طلاق بدعة، لانه طلقها على الحيض والثانى - وهو المذهب - أنه ليس بطلاق بدعى لقوله صلى الله عليه وسلم: فليطلقها طاهرا أو حاملا، ولم يفرق.
إذا ثبت هذا: فان خالف وطلقها في الحيض أو الطهر الذى جامعها فيه وقع عليها الطلاق، وبه قال أهل العلم كافة.
وذهب ابن علية وهشام بن الحكم وبعض أهل الظاهر والشيعة والقاضى أحمد شاكر من المشتغلين بمراجعة الكتب في عصرنا رحمه الله إلى أن الطلاق لا يقع.
ويرد عليهم برواية متفق عليها في الصحيحين في حديث طلاق ابن عمر " فحسبت من طلاقها " وفى رواية عند أحمد ومسلم والشافعي " كان ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال لاحدهم ان طلقت إمرأتك مرة أو مرتين فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بهذا، وإن كنت طلقت ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت الله عز وجل فيما أمرك به من طلاق امرأتك ".
وفى رواية للبخاري " فحسبت على بتطليقة " وأخرجه أبو نعيم كذلك " وزاد - يعنى حين طلق امرأته - فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب الجمهور إلى وقوع الطلاق البدعى، وأما القائلون بعدم الوقوع كالباقر والصادق وابن حزم وحكاه الخطابى عن الروافض والخوارج، وحكاه ابن العربي وغيره عن ابن علية وهو من فقهاء المعتزلة.
قال ابن عبد البر: لا يخالف في ذلك الا أهل البدع والضلال، قال: وروى مثله عن بعض التابعين وهو شذوذ.
وقد أجاب ابن حزم عن قول ابن عمر بأنه لم يصرح بمن حسبها عليه، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعقب بأنه مثل قول الصحابة أمرنا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكذا
فانه في حكم المرفوع إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الحافظ ابن حجر: وعندي أنه لا ينبغى أن يجئ فيه الخلاف الذى فيه قول الصحابي أمرنا بكذا، فان ذلك محله حيث يكون اطلاع النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ليس صريحا، وليس كذلك في قصة ابن عمر هذه فان النبي صلى الله عليه وسلم

(17/78)


هو الامر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك وإذا أخبر ابن عمر أن الذى وقع منه حسب عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذى حسبها عليه غير النبي صلى الله عليه وسلم بعيدا جدا مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل شيئا في القصة برأيه - وهو يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغيظ من صنعه، حيث لم يشاور فيما يفعل في القصة المذكورة.
واستدل الجمهور بما أخرجه الدارقطني عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " هي واحدة " قال في الفتح: وهذا نص في محل النزاع يجب المصير إليه وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم فأجابه بأن قوله " هي واحدة " لعله لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألزمه بأنه نقض أصله، لان الاصل لا يدفع بالاحتمال.
وقد أجاب ابن القيم عن هذا الحديث بأنه لا يدرى أقاله - يعنى قوله هي واحدة - ابن وهب من عنده أم ابن أبى دئب أم نافع، فلا يجوز أن يضاف إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالا يتيقن أنه من كلامه.
قال الشوكاني: ولا يخفى أن هذا التجويز لا يدفع الظاهر المتبادر من الرفع، ولو فتحنا باب دفع الادلة بمثل هذا ما سلم لنا حديث، فالاولى في الجواب المعارضة، ومن حجج الجمهور ما أخرجه الدارقطني أيضا " أن عمر قال يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم " ورجاله إلى شعبة ثقات كما قال الحافظ
ابن حجر وشعبة رواه عن أنس بن سيرين عن ابن عمر.
واحتج الجمهور أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم " مره فليراجعها " فإن الرجعة لا تكون إلا بعد طلاق.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك بأن الرجعة قد وقعت فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثلاثة معان.
(أحدها) بمعنى النكاح، قال الله تعالى " فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا " ولا خلاف بين أحد من أهل العلم أن المطلق ههنا هو الزوج الثاني، وأن التراجع بينها وبين الزوج الاول، وذلك كابتداء النكاح.
(وثانيها) الرد الحسن إلى الحالة الاولى التى كانت عليها أولا، كقوله

(17/79)


صلى الله عليه وسلم لابي النعمان بن بشير لما أنحل ابنه غلاما خصه به دون ولده " ارجعه " أي رده، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائزة والثالث: الرجعة التى تكن بعد الطلاق، ولا يخفى أن الاحتمال يوجب سقوط الاستدلال، ولكنه يؤيد حمل الرجعة هنا على الرجعة بعد الطلاق ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر " أن رجلا قال: انى طلقت امرأتي البتة وهى حائض فقال عصيت ربك وفارقت امرأتك.
قال فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابن عمر أن يراجع امرأته؟ قال انه أمر ابن عمر ان يراجعها بطلاق بقى له.
وأنت لم تبق ما ترتجع به امرأتك " قال ابن حجر: وفى هذا السياق رد على من حمل الرجعة في قصة ابن عمر على المعنى اللغوى.
ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم الوقوع أثر ابن عباس " الطلاق على أربعة أوجه، وجهان حلال ووجهان حرام.
فأما اللذان هما حلال فأن يطلق الرجل امرأته طاهرا من غير جماع، أو يطلقها حاملا مستبينا حملها، وأما اللذان هما
حرام فأن يطلقها حائضا أو يطلقها عند الجماع لا يدرى اشتمل الرحم على ولد أم لا " رواه الدارقطني ولا دليل فيه على عدم الوقوع، بل ان اقتران الوقوع بالحرمة أدعى للتغليظ عليه، ثم إنه قول غير مرفوع، ومع عدم الرفع فنحن لا نرى فيه حجة لهم.
ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم وقوع الطلاق البدعى ما اخرجه احمد وابو داود والنسائي عن ابن عمر بلفظ " طلق عبد الله بن عمر امرأته وهى حائض قال عبد الله: فردها عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يرها شيئا " قال الحافظ ابن حجر: وإسناد هذه الزيادة على شرط الصحيح، وهذا الحديث رواه ابو داود عن احمد بن صالح عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: اخبرني ابو الزبير " انه سمع عبد الرحمن بن ايمن مولى عزة يسأل ابن عمر كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا؟ فقال ابن عمر، طلق ابن عمر امرأته حائضا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فسأل عمر عن ذَلِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ان عبد الله - إلى أن قال - فردها على ولم يرها شيئا " وقد أخرجه أحمد

(17/80)


عن روح ابن عبادة عن ابن جريج فلم يتفرد به عبد الرزاق عن ابن جريج ولكنه قد أعل هذا الحديث بمخالفة أبى الزبير لسائر الحفاظ.
وقال ابن عبد البر: قوله " ولم برها شيئا - منكر " ولم يقله غير أبى الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف إذا خالفه من هو أوثق منه، ولو صح فمعناه عندي - والله أعلم - ولم يرها شيئا مستقيما، لكونها لم تكن عن السنة، وقال الخطابى: قال أهل الحديث لم يقل أبو الزبير حديثا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه ولم يرها شيئا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار.
وقد حكى البيهقى عن الشافعي نحو ذلك
ويمكن أن يجاب بأن أبا الزبير غير مدفوع في الحفظ والعدالة، وإنما يخشى من تدليسه، فإذا قال سمعت أو حدثنى زال ذلك، وقد صرح هنا بالسماع، وليس في الاحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبى الزبير حتى يصار إلى الترجيح ويقال قد خالفه الاكثر، بل غاية ما هناك الامر بالمراجعة على فرض استلزامه لوقوع الطلاق.
قالوا ويؤيد رواية أبى الزبير ما أخرجه سعيد بن منصور من طريق عبد الله ابن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهى حائض، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ ذلك بشئ.
وقد روى ابن حزم في المحلى بسنده المتصل إلى ابن عمر من طريق عبد الوهاب الثقفى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهى حائض: لا يعتد بذلك.
وهذا إسناد صحيح.
وروى ابن عبد البر عن الشعبى أنه قال: إذا طلق امرأته وهى حائض لم يعتد بها في قول ابن عمر.
وقد روى زيادة أبى الزبير الحميدى في الجمع بين الصحيحين، وقد التزم أن لا يذكر فيه إلا ما كان صحيحا على شرطهما.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: إنه تابع أبا الزبير على ذلك أربعة.
عبد الله ابن عمر، ومحمد بن عبد العزيز بن أبى رواد، ويحيى بن سليم، وابراهيم بن أبى حسنه، ولا شك أن الصيرورة إلى الجمع، وهو ممكن بما ذكره ابن عبد البر

(17/81)


من تأويله لمعنى " ولم يرها شيئا " وكذلك الخطابى وغيره ممن ذكرنا أفضل وأخرى من الترجيح المتعذر.
قال ابن حجر وهو متعين - يعنى الجمع - وهو أولى من تغليط بعض الثقات.
وذهب القائلون بعدم الوقوع إلى الاستدلال بقوله تعالى " يا أيها النبي إذا طلقتم
النساء فطلقوهن لعدتهن " والمطلق في حال الحيض أو الطهر الذى وطئ فيه لم يطلق بتلك العدة التى أمر الله بتطليق النساء لها كما صرح بذلك في الحديث المذكور.
وقد تقرر في الاصول أن الامر بالشئ نهى عن ضده، والمنهى عنه نهيا لذاته أو لجزئه أو لوصفه اللازم يقتضى الفساد، والفساد لا يثبت حكمه.
ومنها قوله تعالى " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " وليس أقبح من التسريح الذى حرمه الله ومنها قوله تعالى " الطلاق مرتان " ولم يرد إلا المأذون فيه " فدل على أن ما عداه ليس بطلاق لما في هذا التركيب من الحصر، أعنى تعريف المسند إليه باللام الجنسية.
قلت.
وهذه كلها أدلة احتمالية وليست قاطعة حاسمة في موطن النزاع، وكما قلنا الجمع أحرى بأهل الاحتياط.
وحديث محارب بن دثار يؤخذ على المصنف روايته هكذا بالارسال، لان محارب بن دثار من الطبقة الرابعة من التابعين وهو من علماء الكوفة وشهد بيعة معاوية وكان معه، ولعل المصنف عول على ترجيح أبى حاتم والدارقطني والبيهقي الارسال.
وقد رويناه في سنن أبى داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر، وفى الرواية المتصلة يحيى بن سليم وفيه مقال، والرواية المرسلة في إسنادها عبد الله بن الوليد الوصافى، وهو ضعيف، ولكنه قد تابعه معرف بن الواصل.
ولفظ هذه الروايات كلها " أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطلاق " ورواه الدارقطني عن معاذ بلفظ " ما خلق الله شيئا أبغض إليه من الطلاق " قال الحافظ بن حجر واسناده ضعيف ومنقطع، وأخرج ابن ماجه وابن حبان من حديث أبى موسى مرفوعا " ما بال أحدكم يلعب بحدود الله يقول قد طلقت قد راجعت " وحديث أبى هريرة متفق عليه عند البخاري وأحمد ومسلم والحديث الاول فيه دليل على ان ليس كل حلال محبوبا، بل ينقسم إلى ما هو

(17/82)


محبوب وإلى ما هو مبغوض، وقد مضى كلامنا على المكروه.
وقوله " من ضلع " بكسر الضاد وفتح اللام وتسكن قليلا، والاكثر الفتح وهو واحد الاضلاع، والفائدة في تشبيه المرأة بالضلع التنبيه إلى أنها معوجة فمن حاول أن يحملها على الاعتدال كسرها، وإن تسامح معها على ما هي عليه انتفع بها، وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه، المبالغة في الاعوجاج والتأكيد لمعنى الاعوجاج هو المراد من هذا اللفظ والتأكيد لمعنى الكسر وقيل يحتمل أن يكون ذلك مثلا لاعلى المرأة لان أعلاها رأسها وفيه لسانها وهو الذى ينشأ منه الاعوجاج، قيل وأعوج هنا من باب الصفة لا من باب التفضيل، لان أفعل التفضيل لا يصاغ من الالوان والعيوب.
وأجيب بأن الظاهر ههنا أنه للتفضيل، وقد جاء ذلك على قلة مع عدم الالتباس بالصفة.
والضمير في قوله: فإن ذهبت تقيمه كسرته يرجع إلى الضلع لا إلى أعلاه، وهو يذكر ويؤنث.
ولهذا جاء في رواية " إن ذهبت تقيمها كسرتها " وفى رواية " فإن ذهبت تقيمه كسرته " وقوله " خلقت من ضلع " أي من ضلع آدم الذى خلقت منه حواء.
قال الفقهاء: انها خلقت من ضلع آدم، ويدل على ذلك قوله " خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها " وقد روى ذلك من حديث ابن عباس عند ابن اسحق وروى من حديث مجاهد مرسلا عند ابن أبى حاتم.
والحديث يرشد إلى ملاطفة النساء والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، والتنبيه على أنهن خلقن على تلك الصفة لى لا يفيد معها التأديب ولا ينجع عندها النصح فلم يبق إلا الصبر والمحاسنة وترك التأنيب والمخاشنة.
وقال النووي: ضبط بعضهم قوله: استمتعت بها على عوج بفتح العين،
وضبطه بعضهم بكسرها، ولعل الفتح أكثر، وضبطه ابن عساكر وآخرون بالكسر، قال وهو الارجح، ثم ذكر كلام أهل اللغة في تفسير معنى المكسور والمفتوح، وهو معروف، وقد صرح صاحب المطالع بأن أهل اللغه يقولون في الشخص المرئى عوج، وفيما ليس بمرأى كالرأى والكلام عوج بالكسر.
قال وانفرد أبو عمرو الشيباني فقال: كلامهما بالكسر ومصدرهما بالفتح، وكسرها

(17/83)


طلاقها.
وهذه العبارة ليست في الروايتين المتفق عليهما.
وقد حقق الزمخشري الكلام في تفسير قوله " لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وإذا أراد الطلاق فالمستحب أن يطلقها طلقة واحدة لانه يمكنه تلافيها.
وإن أراد الثلاث فرقها في كل طهر طلقة ليخرج من الخلاف، فإن عند ابى حنيفة لا يجوز جمعها، ولانه يسلم من الندم، وإن جمعها في طهر واحد جاز لما روى " أن عويمرا العجلاني قال عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين لاعن امرأته: كذبت عليها ان أمسكتها فهى طالق ثلاثا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سبيل لك عليها " ولو كان جمع الثلاث محرما لانكر عليه، فإن جمع الثلاث أو أكثر بكلمة واحدة وقع الثلاث، لما روى الشافعي رحمه الله أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه فقال: يا رسول الله إنى طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت إلا واحدة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله ما أردت الا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَلَوْ لم يقع الثلاث إذا أرادها بهذا اللفظ لم يكن لاستحلافه معنى.
وروى أن رجلا قال لعثمان رضى الله عنه: إنى طلقت امرأتي مائة، فقال
ثلاث يحرمنها وسبعة وتسعون عدوان " وسئل ابن عباس رضى الله عنه عن رجل طلق امرأته ألفا فقال " ثلاث منهن يحرمن عليه، وما بقى فعليه وزره " (الشرح) حديث عويمر العجلاني أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا الترمذي عن سهل بن سعد " أن عويمرا العجلاني أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا رأى مع امرأته رجلا أيقتله؟ فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ نزل فيك وفى صاحبتك.
فاذهب فأت بها.
قال سهل فتلاعنا - وأنا مع الناس عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(17/84)


فلما فرغ قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين " وهذا الحديث سيأتي في كتاب اللعان.
والمقصود من إيراده هنا ان الثلاث إذا وقعت في موقف واحد وقعت كلها وبانت الزوجة وأجاب القائلون بأنها لا تقع إلا واحدة فقط عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم انما سكت عن ذلك لان الملاعنة تبين بنفس اللعان، فالطلاق الواقع من الزوج بعد ذلك لا محل له، فكأنه.
طلق أجنبيه، ولا يجب إنكار مثل ذلك فلا يكون السكوت عنه تقريرا وأما حديث ركانة بن عبد الله فقد أخرجه الشافعي وابو داود والدارقطني، وقال أبو داود: هذا حديث حسن صحيح.
وكذلك اخرجه الترمذي وصححه أيضا ابن حبان والحاكم.
وقال الترمذي: لا يعرف الا من هذا الوجه، وسألت محمدا عنه، يعنى البخاري فقال: فيه اضطراب.
اه
قلت: وقد جاء اسناده ضعيفا ولذلك لم يخرجه البخاري ولا مسلم لان في اسناده الزبير بن سعيد الهاشمي.
وقد ضعفه غير واحد.
قال ابن كثير: لكن قد رواه ابو داود من وجه آخر وله طرق أخر فهو حسن ان شاء الله.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: تكلموا في هذا الحديث اه وقال الشوكاني: وهو مع ضعفه مضطرب ومعارض.
واما الاضطراب (فكما تقدم) وقد أخرج احمد انه طلق ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثا.
قال قد علمت ارجعها، ثم تلا " إذا طلقتم النساء " الآية.
اخرجه ابو داود.
وأما معارضته فيما روى ابن عباس ان طلاق الثلاث كان واحدة، وسيأتى، وهو اصح اسنادا وأوضح متنا وروى النسائي عن محمود بن لبيد قال " أخبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وانا بين اظهركم، حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ " قال ابن كثير اسناده جيد.
وقال الحافظ بن حجر في بلوغ المرام: رواته موثقون

(17/85)


وقد روى حديث ركانة عن ابن عباس بلفظ " طلق أبو ركانة أم ركانة فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: راجع إمرأتك فقال: إنى طلقتها ثلاثا قال: قد علمت راجعها " أخرجه أبو داود رواه أحمد والحاكم وهو معلول بابن إسحاق فإنه في سنده.
أما خبر عثمان فقد أخرجه وكيع وتابعه برواية مثلها عز على، وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر أنه رفع إليه أن رجلا طلق إمرأته ألفا فقال له عمر: أطلقت إمرأتك؟ قال: لا، وإنما كنت ألعب، فعلاه بالدرة وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث.
وأخرج عبد الرزاق البيهقى عن ابن مسعود أنه قيل له: إن رجلا طلق إمرأته البارحة مائة، قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم، قال: تريد أن تبين منك إمرأتك؟ قال: نعم، قال: هو كما قلت، وأتاه آخر فقال: رجل طلق إمرأته عدد النجوم قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم، قال: هو كما قلت: والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله عنكم إذا ثبت هذا: فإن أصحابنا قرروا أنه يستحب لمن أراد أن يطلق إمرأته أن يطلقها واحدة، لانه إن ندم على طلاقها أمكنه تلافى ذلك بالرجعة، وإن أراد أن يطلقها ثلاثا فالمستحب أن يفرقها في كل طهر طلقة.
وحكى أبو على الشيخى عن بعض أصحابنا أنه قال: لا سنة في عدد الطلاق ولا بدعة، وانما السنة والبدعة في الوقت، والمنصوص هو الاقل، لانه يسلم بذلك من الندم ويجوز أن يكون فعل الشئ سنة ولا يكون تركه بدعة كتحية المسجد والاضحية، وما أشبه، وان كانت صغيرة أو آيسة وأراد أن يطلقها فالمستحب أن يطلقها في كل شهر طلقة، لان كل شهر بدل عن قرء في حقها، وان كانت حاملا - فقد قال بعض أصحابنا: يطلقها كل شهر طلقة.
وقال أبو على الشيخى: يطلقها على الحمل واحدة، فإذا طهرت من النفاس طلقها ثانية، فإذا طهرت من الحيض بعد النفاس طلقها الثالثة، وأراد أبو على إذا استرجعها قبل وضع الحمل، فإن خالف وطلقها ثلاثا في طهر واحد أو في كلمة واحدة وقع عليها الثلاث وكان مباحا ولم يأتي محرما، وبه قال عبد الرحمن بن

(17/86)


عوف والحسن بن على بن أبى طالب ومن التابعين ابن سيرين.
ومن الفقهاء أحمد بن حنبل.
وقال مالك وأبو حنيفة: جمع الثلاث في وقت واحد محرم، الا أنه يقع
كالطلاق في الحيض، وبه قال عمر وعلى وابن عباس وابن مسعود، وذهب أهل الظاهر وكذا ابن القيم وشيخه ابن تيمية إلى أن الثلاث إذا أوقعها في وقت واحد لا يقع وهو مذهب العترة، وقال بعضهم: يقع.
قال العمرانى من أصحابنا: دليل الوقوع قوله تعالى " فطلقوهن لعدتهن " وقوله صلى الله عليه وسلم: ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا، ولم يفرق بين أن يطلقها واحدة أو ثلاثا، فلو كان الحكم يختلف لبينه، ورواية عويمر العجلاني عند ما لاعن امرأته عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قال: ان أمسكتها فقد كذبت عليها هي طالق ثلاثا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا سبيل لك عليها، فموضع الدليل أن العجلاني لم يعلم أنها قد بانت منه باللعان فطلقها ثلاثا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان محرما أو كان لا يقع لا نكره، ومعنى قوله: لا سبيل لك عليها، أي لا سبيل لك عليها بالطلاق، لانها قد بانت باللعان، وروى أن ركانة ابن عبد يزيد طلق امرأته البتة فسأل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فقال: ما أردت بقولك البتة؟ قال: واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت الا واحدة؟ فقال: والله ما أردت الا واحدة، فردها النبي صلى الله عليه وسلم فدل على أنه لو أراد الثلاث وقعن، إذ لو لم يقعن لم يكن لاستحلافه معنى.
وروى أن ابن عمر قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو طلقتها ثلاثا فقال صلى الله عليه وسلم: أبنت امرأتك وعصيت ربك.
قال في البيان: وهذا يبطل قول أهل الظاهر والشيعة.
اه أما بعد: فإن أصحاب الفكر من المنادين بالاصلاح الاجتماعي واحكام بناء الاسرة المسلمة، وتوطيد العلائق بين الازواج يذهبون كل مذهب في سن القوانين لتقييد حرية الازواج في تطليق نسائهم فمن قائل بحظر الطلاق الا بين يدى القاضى، ومن قائل ببذل تعويض للزوجة غير المتأخر من الصداق ونفقة
العدة تشبه مكافأة العامل عن مدة عمله في خدمة رب العمل إلى غير ذلك من

(17/87)


صيحات يدفعهم إليها ما فشا من استهتار بميثاق الزوجية الغليظ وانتشار الاطفال المشردين نتيجة الشقاق بين آبائهم وأمهاتهم، ولو أنهم فطنوا إلى ما شرعه الله تبارك وتعالى من قيود للطلاق وملابسات له لالقم هؤلاء أفواههم حجارة.
ولسكتوا إزاء ما أحاط الله به عقد النكاح من صيانة وحصانه وحفظ، فقد عرفنا مما مضى أن الله تعالى حرم طلاق المرأة حال حيضها، وفى زمن طهرها إذا جامعها فلو عرف الناس ما يرتكبونه من الاثم حين يفعلون ذلك لخفت وطأة هذه الظاهرة، وما على الموثق (المأذون) إلا أن يعظ الزوج إذا جاءه بشرع الله ويذكره بأحكام السنة، ويبغضه في هذه البدعة، وعلى خطباء الجمعة ووعاظ الازهر أن ينشروا بين الناس حكم الله في تحريم الطلاق في هذه الاوقات المذكورة حتى يقلع الناس عن هذه البدعة، وليطلقوا - إذا عزموا الطلاق - وفقا للسنة المطهرة، وهم إذا تربصوا بزوجاتهم حتى يحل الطهر ولم يمسوهن، فإن الرغبة في التسريح قد تتحول إلى رغبة في السكن والاستقرار، وتكون النفوس حينئذ قد هدأت والخواطر قد صفت.
وكفى الله المؤمنين مآثم الطلاق.
والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز أن يفوض الطلاق إلى امرأته لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " لما أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه بدأ بى فقال: إنى مخبرك خبرا وما أحب أن تصنعي شيئا حتى تستأمرى أبويك، ثم قال إن الله قال: قل لازواجك (ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) إلى قوله (منكن أجرا عظيما) فقلت: أو في هذا
أستأمر أبوى؟ فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلته " وإذا فوض الطلاق إليها فالمنصوص أن لها أن تطلق ما لم يتفرقا عن المجلس أو يحدث ما يقطع ذلك، وهو قول أبى العباس بن القاص.
وقال أبو إسحاق: لا تطلق الا على الفور، لانه تمليك يفتقر إلى القبول

(17/88)


فكان القبول فيه على الفور كالبيع.
وحمل قول الشافعي رحمه الله على أنه أراد مجلس الخيار لا مجلس القعود، وله أن يرجع فيه قبل ان تطلق وقال أبو على ابن خيران: ليس له أن يرجع لانه طلاق معلق بصفة فلم يجز الرجوع فيه، كما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، وهذا خطأ لانه ليس بطلاق معلق بصفة، وإنما هو تمليك يفتقر إلى القبول يصح الرجوع فيه قبل القبول كالبيع.
وان قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة وقعت، لان من ملك ايقاع ثلاث طلقات ملك ايقاع طلقة كالزوج وان قال لها طلقي نفسك طلقة فطلقت ثلاثا وقعت الطلقة، لان من ملك ايقاع طلقة إذا أوقع الثلاث وقعت الطلقة كالزوج إذا بقيت له طلقة فطلق ثلاثا.
وان قال لوكيله: طلق امرأتي جاز أن يطلق متى شاء، لانه توكيل مطلق فلم يقتض التصرف على الفور كما لو وكله في بيع.
وان قال له: طلق امرأتي ثلاثا فطلقها طلقة، أو قال: طلق امرأتي واحدة فطلقها ثلاثا ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه كالزوجة في المسئلتين
(والثانى)
لا يقع لانه فعل غير ما وكل فيه
(فصل)
وتصح اضافة الطلاق إلى جزء من المرأة كالثلث والربع واليد
والشعر لانه لا يتبعض وكان اضافته إلى الجزء كالاضافة إلى الجميع كالعفو عن القصاص، وفى كيفية وقوعه وجهان
(أحدهما)
يقع على الجميع باللفظ، لانه لما لم يتبعض كان تسمية البعض كتسمية الجميع.

(والثانى)
انه يقع على الجزء المسمى ثم يسرى، لان الذى سماه هو البعض ولا يجوز اضافته إلى الربق والحمل لانه ليس بجزء منها وانما هو مجاور لها، وان قال بياضك طالق أو سوادك طالق أو لونك طالق ففيه وجهان
(أحدهما)
يقع لانه من جملة الذات التى لا ينفصل عنها فهو كالاعضاء
(والثانى)
لا يقع لانها أعراض تحل في الذات
(فصل)
ويجوز اضافة الطلاق إلى الزوج بأن يقول لها: أنا منك طالق.

(17/89)


أو يجعل الطلاق إليها فتقول: أنت طالق، لانه أحد الزوجين فجاز إضافة الطلاق إليه كالزوجة.
واختلف أصحابنا في إضافة العتق إلى المولى، فمنهم من قال يصح.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لانه إزالة ملك يجوز بالصريح والكناية، فجاز إضافته إلى المالك كالطلاق وقال أكثر أصحابنا: لا يصح، والفرق بينه وبين الطلاق أن الطلاق يحل النكاح وهما مشتركان في النكاح، والعتق يحل الرق، والرق يختصر به العبد.
والله تعالى أَعْلَمُ.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَوَاهُ أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده بلفظ " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدها شيئا " وفى رواية عندهم الا أبا داود بلفظ " قالت: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتخيير أزواجه بدأ بى، فقال انى ذاكر لك أمرا فلا عليك ان لا تعجلى حتى
تستأمرى أبويك، قالت: وقد علم ان أبوى لم يكونا ليأمراني بفراقه.
قالت: ثم قال: ان الله عز وجل قال لى: يا أيها النبي قل لازواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا - الآية - وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة - الايه - قالت فقلت: في هذا استأمر ابوى؟ فإنى أريد الله ورسوله والدار الاخرة.
قالت: ثم فعل أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ما فعلت " قوله " خيرنا " في لفظ لمسلم " خير نساءه " وقوله " فلم يعدها شيئا " بتشديد الدال من العدد.
وفى رواية " فلم يعدد " بفك الادغام.
وفى اخرى " فلم يعتد بسكون العين فتح المثناة وتشديد الدال من الاعتداد، وفى رواية لمسلم " فلم يعده طلاقا " وفى رواية للبخاري " افكان طلاقا؟ " على طريقة الاستفهام الانكارى.
وفى رواية لاحمد " فهل كان طلاقا " وكذا للنسائي وقد استدل بهذا من قال: انه لا يقع بالتخيير شئ إذا اختارت الزوج.
وبه قال جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الامصار، لكن اختلفوا فيما إذا اختارت نفسها هل يقع طلقة واحدة رجعية أو بائنة، أو يقع ثلاثا؟ فحكى

(17/90)


الترمذي عن على عليه السلام أنها إن اختارت نفسها فواحدة بائنة وعنهما رجعية وإن اختارت زوجها فلا شئ.
ويؤيد قول الجمهور من حيث المعنى أن التخيير ترديد بين شيئين: فلو كان اختيارها لزوجها طلاقا لا تحدا، قدل على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق.
واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة.
وقد أخرج ابن أبى شيبة من طريق زادان قال " كنا جلوسا عند على عليه السلام فسئل عن الخيار فقال: سألني عنه عمر فقلت: إن اختارت نفسها فواحدة رجعية.
قال ليس كما قلت، إن اختارت زوجها فلا شئ.
قال فلم أجد بدأ من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف.
قال على: وأرسل عمر
إلى زيد بن ثابت قال، فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذي وأخرج ابن ابى شيبة من طريق على نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره.
وأخذ مالك بقول زيد بن ثابت.
واحتج بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها يقع ثلاثا، بأن معين الخيار بت أحد الامرين أما الاخذ أو الترك يكون طلقة رجعية لم يعمل بمقتضى اللفظ، لانها تكون بعد في أسر الزوج وتكون كمن خير بين شيئين فاختار غيرهما.
وأخذ ابو حنيفة بقول عمر وابن مسعود فيما إذا اختارت نفسها فواحدة بائنة وقال الشافعي التخيير كناية، فإذا خير الزوج امرأته وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلق منه وبين ان تستمر في عصمته، فاختارت نفسها وأرادت بذلك الطلاق طلقت، فلو قالت لم أرد باختار نفسي الطلاق صدقت وقال الخطابى يؤخذ من قول عائشة فاخترناه فلم يكن ذلك طلاقا، أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقا، ووافقه القرطبى في المفهم فقال في الحديث أن المخيرة إذا اختارت نفسها أن نفسه ذلك الاختيار يكون طلاقا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يد على الطلاق.
قال وهو مقتبس من مفهوم قول عائشة المذكور قال الحافظ بن حجر لكن الظاهر من الآية أن ذلك بمجرده لا يكون طلاقا.
بل لابد من إنشاء الزوج الطلاق لان فيها (فتعالين أمتعكن وأسرحكن) أي بعد الاختيار، ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم.
قال واختلفوا في التخيير

(17/91)


هل هو بمعنى التمليك أو بمعنى التوكيل.
وللشافعي فيه قولان، المصحح عند أصحابه أنه تمليك، وهو قول المالكية بشرط المبادرة منها حتى لو تراخت بمقدار ما ينقطع القبول عن الايجاب ثم طلقت لم يقع.
وفى وجه لا يضر التأخير مادام المجلس، وبه جزم ابن القاص من أصحابنا وهو الراجح من مذهب مالك ومذهب
أبى حنيفة.
وهو قول الثوري والليث والاوزاعي وقال ابن المنذر الراجح أنه لا يشترط فيه الفور، بل متى طلقت نفذ، وهو قول الحسن والزهرى، وبه قال أبو عبيدة ومحمد بن نصر من أصحابنا والطحاوى من أصحاب ابى حنيفة.
واحتجوا بحديث عائشة وفيه " إنى ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلى حتى تستأمرى أبويك، وذلك يقتضى عدم اشتراط الفور في جواب التخيير، قال الحافظ بن حجر ويمكن أن يقال يشترط الفور في جواب التخيير إلا أن يقع التصريح من الزوج بالفسحة لامر يقتضى ذلك فيتراخى، كما وقع في قصة عائشة ولا يلزم ذلك أن يكون كل خيار كذلك وقد قال الشافعي رضى الله عنه لا أعلم خلافا أنها ان طلقت نفسها قبل أن يفترقا من المجلس ويحدثا قطعا أن الطلاق يقع عليها، فاختلف أصحابنا فيه فقال ابن القاص إذا فوض إليها طلاق نفسها فلها أن تطلق نفسها مادام في المجلس، ولم تخض في حديث آخر فإن خاضت في حديث آخر وقامت من ذلك المجلس لم يكن لها أن تطلق نفسها وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو إسحاق لا يتقدر بالمجلس، بل ان طلقت نفسها عقيب قوله بحيث يكون جوابا لكلامه وقع الطلاق، لانه نوع تمليك، وان أخرته عن ذلك ثم طلقت لم يقع الطلاق لانه نوع تمليك فكان قبوله على الفور كسائر التمليكات، وحمل النص على أنه أراد مجلس خيار القبول لا مجلس العقود - هذا ترتيب الشيخ أبى حامد.

(17/92)


وقال المسعودي: فيه قولان بناء على أن تفويض الطلاق إليها تمليك
أو توكيل، وفيه قولان، إن قلنا: تمليك اشترط القبول فيه على الفور، وان قلنا: توكيل بقدر بالمجلس، هذا مذهبنا، وقال الحسن البصري وقتادة: لها الخيار أبدا، واختاره ابن المنذر.
دليلنا ما روى عن عمر وعثمان أنهما قالا: إذا خير الرجل إمرأته وملكها أمرها فافترقا من ذلك المجلس ولم تحدث شيئا فأمرها إلى زوجها، وكذلك روى عن ابن مسعود وجابر ولا يعرف لهم مخالف، وإن قال: طلقي نفسك متى شئت كان لها ذلك لانه قد صرح لها بذلك.
(فرع)
إذا فوض إليها الطلاق أو خيرها ثم رجع قبل أن يطلق أو يختار بطل التفويض والتخيير.
وقال ابن خيران: لا يبطل، وبه قال مالك وأبو حنيفة كما لو قال لها: إذا اخترت فأنت طالق، ثم رجع قبل أن تختار، والمذهب الاول لان النص انما هو تمليك أو توكيل، وله الرجوع فيهما قبل القبول، وان قال لها: طلقي نفسك فإن طلق بالكناية مع النية وقع الطلاق، والثانى وهو قول ابن خيران وابن عبيد: أن من خير ونوى لم يقع، والاصح الاول لان الكناية مع النية كالصريح، وان قال لها: طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة أو طلقتين وقع عليها ما أوقعت، وقال أبو حنيفة: لا يقع عليها شئ.
دليلنا أن من ملك ايقاع الثلاث ملك ايقاع الواحدة والاثنتين كالزوج، وان قال لها: طلقي نفسك واحدة فطلقت ثلاثا وقع عليها واحدة، وقال مالك لا يقع عليها شئ، دليلنا أن الواحدة المأذون فيها داخلة في الثلاث فوقعت دون غيرها.
وقال ابن القاص: ولو قال لها: طلقي نفسك ان شئت واحدة فطلقت ثلاثا أو قال: طلقي نفسك ان شئت ثلاثا فطلقت واحدة لم يقع الطلاق عليها لانه فوض إليها الطلاق في الاولة بشرط ان شاء واحدة، وفى الثانية بشرط ان شاء
ثلاثا ولم توجد الصفة فلم يقع.
قال الطبري: فإن أخر المشيئة بأن قال: طلقي نفسك ثلاثا ان شئت فطلقت

(17/93)


واحدة، أو قال: طلقي نفسك واحدة ان شئت فطلقت ثلاثا وقع عليها واحدة فيهما، والفرق أنه إذا قدم المشيئة كان التمليك معلقا بشرط أن يشاء العدد المأذون فيه، فإذا أوقعت غيره فما شاءته فلم يقع عليها طلاق، وإذا أخر المشيئة كانت المشيئة راجعة إلى الطلاق لا إلى العدد.
(فرع)
وان وكل رجلا ليطلق له امرأته كان له أن يطلق متى شاء كما قلنا في الوكيل في البيع والشراء.
بخلاف إذا فوض الطلاق إليها فإنه تمليك لمنفعتها، والتمليك يقتضى القبول في الحال، وان وكله أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة، أو وكله بطلاقها واحدة فطلقها ثلاثا ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه كالزوجة فيما ذكرناه
(والثانى)
لا يقع عليها طلاق فيهما لانه فعل غير ما أذن له فيه فلم يصح.
(مسألة) قوله: ويصح اضافة الطلاق الخ، وهذا صحيح فإنه إذا أضاف الطلاق إلى جزء منها معلوم أو مجهول أو إلى عوض من أعضائها بأن قال: نصفك أو بعضك أو يدك أو رجلك أو شعرك أو ظفرك طالق، فإنها تطلق، وقال أبو حنيفة: إذا أضاف الطلاق إلى جزء منها معلوم أو مجهول أو إلى خمسة اعضاء وهى الرأس والوجه والرقبه والظهر والفرج وقع عليها الطلاق، وان أضاف الطلاق إلى سائر أعضائها وقع عليها الطلاق.
دليلنا ان الطلاق لا يتبعض، فكانت اضافته إلى جزء منها أو إلى عضو منها كإضافته إلى جميعها كالعفو عن القصاص، ولانه أشار بالطلاق إلى ما يتصل ببدنها اتصال حلقه، فكان كالاشارة إلى جملتها كالاشارة إلى الاعضاء الخمسه، وان
أضاف الطلاق إلى ذمتها، فقد قال أصحابنا البغداديون: لا يقع عليها الطلاق لانه غير متصل بالبدن.
وانما هو يجرى في البدن.
وقال المسعودي: إذا أضافه إلى دمها وقع عليها الطلاق لانه كلحمها، وان قال: ريقك أو بولك أو عرقك طالق، فقال أصحابنا البغداديون: لا تطلق، لانه ليس بجزء منا، وانما هو من فضول بدنها.
وقال المسعودي: فيه وجهان
(أحدهما)
هذا
(والثانى)
يقع عليها الطلاق،

(17/94)


وإن قال: حملك طالق - فقال البغداديون من أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق، لانه غير متصل بالبدن وإنما يدور في الرحم، وقال المسعودي: فيه وجهان، وإن قطعت أذنها وانبتت منها ثم ألصقت بالدم فلصقت أو أجريت لها خياطة طبية لاعادتها إلى مكانها فطلق أذنها قبل أن تبرأ من جراحتها.
قال أصحابنا البغداديون: لا يقع عليها الطلاق، وقال المسعودي فيه وجهان وإن قال: منيك ولبنك طالق، قال المسعودي: فمن أصحابنا من قال فيه وجهان كالدمع والعرق، ومنهم من قال: يقع عليها الطلاق وجها واحدا كالدم، وهذا على أصله، وان قال: سوادك أو بياضك طالق، فيه وجهان
(أحدهما)
يقع عليها الطلاق لانها أعراض تحل بالذات.
إذا ثبت هذا: وأضاف الطلاق إلى عضو منها أو إلى جزء منها فكيف يقع عليها الطلاق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يقع على جملتها لان الطلاق لا يتبعض
(والثانى)
يقع الطلاق على الذى أوقعه منها ثم يسرى اعتبارا بما سمى.
(مسألة) قوله: ويجوز إضافة الطلاق إلى الزوج إلخ، وهذا صحيح فإنه إذا قال لامرأته: أنا منك طالق، أو قال لها: طلقي نفسك فقالت: أنت طالق،
فهو كناية في الطلاق، فإن نوى الطلاق في الاولة ونوته في الثانية وقع عليها الطلاق، وقال أبو حنيفة: لا يقع عليها، فلو قال: على الطلاق، فإنه لا يقع عند أبى حنيفة وأصحابه، لان الطلاق عندهم إذا لم يضف إلى المرأة فليس بواقع لانه من صفات المرأة، قالوا: لان الطلاق انما يقع من الرجل على المرأة ولا يقع على الرجل.
دليلنا: أن كل لفظ صح أن يكون طلاقا بإضافته إلى الزوجة صح أن يكون طلاقا بإضافته إلى الزوج كالبينونة.
فإن أبا حنيفة وافقنا عليها، ولانه أحد الزوجين فصح إضافة الطلاق إليه كالزوجة، وإن قال لعبده أو أمته أنا منك حر ففيه وَجْهَانِ.
قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هو كناية في العتق فيعتق به إذا نواه لانه إزالة ملك يصح الصريح والكناية فجاز إضافته إلى المالك كإضافة الطلاق إلى الزوج

(17/95)


وقال أكثر أصحابنا: لا يقع به العتق لان كل واحد من الزوجين يقال له: زوج فهما مشتركان في الاسم، فإذا جاز اضافة الطلاق إلى الزوجة جاز اضافته إلى الزوج، وليس كذلك الحرية، لانها تقع بملك، والذى ينفرد بملك هو السيد فلم يجز اضافة الحرية إليه والله تعالى الموفق للصواب.

قال المصنف رحمه الله:

باب ما يقع به الطلاق ومالا يقع

لا يقع الطلاق الا بصريح أو كنايه مع النية، فان نوى الطلاق من غير صريح ولا كنايه لم يقع الطلاق، لان التحريم في الشرع علق على الطلاق ونية الطلاق ليست بطلاق، ولان ايقاع الطلاق بالنيه لا يثبت الا بأصل أو بالقياس على ما ثبت بأصل، وليس ههنا أصل ولا قياس على ما ثبت بأصل فلم يثبت.

(فصل)
والصريح ثلاثة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح، لان الطلاق
ثبت له عرف الشرع واللغة، والسراح والفراق ثبت لهما عرف الشرع، فانه ورد بهما القرآن، فإذا قال لامرأته: أنت طالق، أو طلقتك، أو أنت مطلقه أو سرحتك، أو أنت مسرحه، أو فارقتك، أو أنت مفارقه، وقع الطلاق من غير نيه، فان خاطبها بأحد هذه الالفاظ، ثم قال: أردت غيرها فسبق لساني إليها لم يقبل، لانه يدعى خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يحتمل ما يدعيه، وان قال: أنت طالق وقال أردت طلاقا من وثاق، أو قال سرحتك وقال أردت تسريحا من اليد، أو قال فارقتك، وقال أردت فراقا بالجسم، لم يقبل في الحكم، لانه يدعى خلاف ما يقتضيه اللفظ في العرف، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يحتمل ما يدعيه، فان علمت المرأة صدقه فيما دين فيه الزوج جاز لها أن تقيم معه، وان رآهما الحاكم على الاجتماع ففيه وجهان.

(أحدهما)
يفرق بينهما بحكم الظاهر، لقوله صلى الله عليه وسلم " أحكم بالظاهر والله عز وجل يتولى السرائر ".

(والثانى)
لا يفرق بينهما لانهما على اجتماع يجوز اباحته في الشرع، وان قال

(17/96)


أنت طالق من وثاق، أو سرحتك من اليد، أو فارقتك بجسمى لم تطلق، لانه اتصل بالكلام ما يصرف اللفظ عن حقيقته.
ولهذا إذا قال لفلان على عشرة إلا خمسة لم يلزمه عشرة.
وإذا قال لا إله إلا الله لم يجعل كافرا بابتداء كلامه.
وإن قال أنت طالق ثم قال قلته هازلا وقع الطلاق ولم يدين، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة "
(فصل)
قال في الاملاء، لو قال له رجل طلقت امرأتك؟ فقال نعم.
طلقت عليه في الحال، لان الجواب يرجع إلى السؤال، فيصير كما لو قال طلقت
ولهذا لو كان هذا جوابا عن دعوى لكان صريحا في الاقرار.
وإن قال أردت به في نكاح قبله - فإن كان لما قاله أصل - قبل منه، لان اللفظ يحتمله، وإن لم يكن له أصل لم يقبل لانه يسقط حكم اللفظ.
وإن قال له أطلقت امرأتك فقال له قد كان بعض ذلك وقال أردت أنى كنت علقت طلاقها بصفة، قبل منه لانه يحتمله اللفظ.
وإن قال لامرأته أنت طالق لولا أبوك لطلقتك، لم تطلق، لان قوله أنت طالق لولا أبوك، ليس بإيقاع طلاق، وإنما هو يمين بالطلاق، وأنه لولا أبوها لطلقها، فتصير كما لو قال والله لولا أبوك لطلقتك.
(الشرح) الحديث الاول جزء من حديث مضى في كتاب الصلح تخريجه وطرقه.
والحديث الثاني عن أبى هريرة أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي، وقال الترمذي حسن غريب.
وأخرجه الحاكم وصححه وأخرجه الدارقطني وفى إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك وقد روى الطبراني عن فضالة بن عبيد بلفظ " ثلاث لا يجوز فيهن اللعب.
الطلاق والنكاح والعتق " وفى إسناده ابن لهيعه وعن عبادة بن الصامت عند الحرث بن أسامة في مسنده رفعه بلفظ " ثلاث لا يجوز اللعب فيهن.
الطلاق والنكاح والعتاق، فمن قالهن فقد وجبن " وإسناده منقطع.
وعن أبى ذر عند عبد الرزاق رفعه " من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز " وفى

(17/97)


إسناده انقطاع أيضا، وعن على موقوفا عند عبد الرزاق أيضا.
وعن عمر عنده أيضا.
أما غريب الفصل فقوله " يدين فيما بينه وبين الله تعالى " قال في شرح غريب الشرح الكبير للرافعي " ودان بالاسلام دينا " بالكسر تعبد به، وتدين به كذلك فهو دين مثل ساد فهو سيد، ودينته بالتثقيل وكلته إلى دينه وتركته وما يدين لم
أعترض عليه فيما يراه سائغا في اعتقاده، ودنته أدينه جازيته اه وقوله " طلاقا من وثاق " يقال أوثقه بالوثاق إذا شده، ومنه قوله تعالى (فشدوا الوثاق) والوثاق بالكسر لغة فيه، وقوله " قلته هازلا " أي مازحا غير مجد، والهزل ضد الجد، قال الكميت أرانا على حب الحياة وطولها
* يجد بنا في كل يوم ونهزل هكذا أفاده ابن بطال اما الاحكام فإن الرجل إذا نوى طلاق امرأته ولم ينطق به لم يقع عليها الطلاق، وقال مالك في احدى الروايتين يقع، دليلنا ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال تجاوز الله لامتي ما حدثت به نفسها ما لم يكلم أو يعمد به " وأما الكلام الذى يقع به الطلاق فينقسم قسمين، صريح وكفاية، فالصريح ما يقع به الطلاق، فينقسم قسمين من غير نية، وهو ثلاثة ألفاظ " الطلاق والفراق والسراح " وقال أبو حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق لا غير، وأما الفراق والسراح فهما كناية في الطلاق، وقال الطبري في العدة والمحاملى وهذا قول الشافعي وشأنه في القديم، لان العرف غير جار بها بين الطلقتين، والمشهور من المذهب هو الاول، لان الفراق ورد بهذه الالفاظ الثلاثة على وجه الامر فقال تعالى (فطلقوهن لعدتهن) وقال (فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) وقال في موضوع آخر (أو سرحوهن) إذا ثبت هذا فالصريح من لفظة الطلاق ثلاثة وهى قوله " طلقتك، أو أنت طالق، أو أنت مطلقة " وقال ابو حنيفة، قوله " انت مطلقة " ليس بصريح، وانما هو كناية.
دليلنا قوله " انت طالق " ليس بإيقاع الطلاق، وانما هو

(17/98)


وصف لها بالطلاق كقوله: أنت نائم، فإن كان صريحا فكذلك قوله أنت مطلقة مثله، وأما السراح والفراق فالصريح منهما لفظتان لا غير وهو قوله.
فارقتك أو أنت مفارقة أو سرحتك أو أنت مسرحة، هذا ترتيب الشيخ أبى حامد والبغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي: في قوله: أنت مفارقة أو أنت مسرحة وجهان، أحدهما: أنه صريح كقوله: أنت مطلقة، والثانى: أنه كناية، لانه لم يرد به الصريح ولا الاستعمال، والاول هو المشهور، فان خاطبها بلفظة من الالفاظ الصريحة في الطلاق، ثم قال: لم أقصد الطلاق، وإنما سبق لساني إليها.
قال الصيمري: فقد قيل: إن كان هناك حال يدل على ما قال بأن كان في حال جرت العادة فيها بالدهش جاز أن يقبل منه، وقيل: لا يلتفت إليه، بل يقع عليها وهو المشهور، لانه يدعى خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يحتمل ما يدعيه.
(فرع)
وإن قال: أنت طالق، وقال أردت طلاقها من وثاق، أو قال: فارقتك، وقال أردت به إلى المسجد، أو قال سرحتك وأردت به إلى البيت أو إلى أهلك لم يقبل منه في الحكم، لانه يعدل بالكلام عن الظاهر، ويدين فيما يدعيه بينه وبين الله تعالى.
وقال مالك إن قال هذا في حال الرضى لم يقبل منه في الحكم، وقبل فيما بينه وبين الله تعالى، وان قاله في حال الغضب لم تقبل منه في الحكم، ولا فيما بينه وبين الله تعالى.
دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تحاسبوا العبد حساب الرب واعملوا على الظاهر ودعوا الباطن " ولان اللفظ يصلح في الحالين لما ذكره فيقبل منه فيما بينه وبين الله تعالى، وكل ما قلنا لا يقبل فيه قول الزوج من هذا وما أشبهه، ويقبل فيما بينه وبين الله تعالى، فان الزوجة إذا صدقته على ما يقول جاز لها أن
تقيم معه، فان رآهما الحاكم على اجتماع ظاهر ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يفرق بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم " أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ".

(والثانى)
لا يفرق بينهما لانهما على اجتماع يجوز إباحته في الشرع، وإن لم

(17/99)


تصدقه الزوجة على قوله واستفتت فإنا نقول لها: امتنعي عنه ما قدرت عليه.
وإذا استفتى قلنا له: إن قدرت على وصلها في الباطن حل لك فيما بينك وبين الله تعالى.
وإن قال لها: أنت طالق من وثاق، أو فارقتك مسافرا إلى المسجد أو سرحتك إلى أهلك لم يحكم عليه بالطلاق لانه وصله بكلام أخرجه عن كونه صريحا، فهو كما لو قال: لا إله وسكت كان كافرا، أو إذا قال: لا إله إلا الله كان توحيدا، وكما لو قال: له عشرة إلا خمسة.
الخلاصة لما تقدم: يدل حديث أبى هريرة على أن من تلفظ هازلا بلفظ نكاح أو طلاق أو رجعة أو عتاق كما في الاحاديث التى سقناها وقع منه ذلك.
أما في الطلاق فقد قال بذلك أصحابنا من الشافعية والحنفية وغيرهم، وخالف في ذلك أحمد ومالك فقالا: إنه يفتقر اللفظ الصريح إلى النية، وبه قال جماعة من الائمة منهم جعفر الصادق ومحمد الباقر.
واستدلوا بقوله تعالى " وان عزموا الطلاق " فدلت على اعتبار العزم.
والهازل لا عزم منه وأجاب صاحب البحر بالجمع بين الآية والحديث فقال: يعتبر العزم في غير الصريح لا في الصريح فلا يعتبر، والاستدلال بالآية على تلك الدعوى غير صحيح من أصله فلا يحتاج إلى الجمع، فإنها نزلت في حق المولى (مسألة) قوله: لو قال رجل طلقت امرأتك؟ فقال نعم إلى الخ وهو كما قال فإنه إذا قال له رجل: طلقت امرأتك؟ أو امرأتك طالق؟ أو فارقتها أو سرحتها
فقال نعم، فيه قولان حكاهما ابن الصباغ والطبري (إحداهما) أن هذا كناية فلا يقع به الطلاق إلا بالنية، ولان قوله نعم ليس بلفظ صريح.

(والثانى)
أنه صريح في الطلاق، وهو اختيار المزني، ولم يذكر الشيخان غيره - أعنى أبا إسحاق الاسفرايينى وأبا حامد المروزى - وهو الاصح، لانه صريح في الجواب وتقديره نعم طلقت، كما لو قيل: لفلان عليك كذا؟ فقال نعم، كان إقرارا.
قال الطبري، قال أصحابنا: وهذا يخرج على ما لو قال: زوجتك ابنتى بكرا؟ فقال الولى نعم، فهل يصح النكاح؟ على قولين

(17/100)


إذا ثتب هذا - وقلنا يقع الطلاق - نظرت، فإن كان صادقا فيما خبر به من الطلاق وقع عليها الطلاق في الظاهر والباطن، وإن لم يكن طلاق قبل ذلك وإنما كذب بقوله نعم، وقع الطلاق في الظاهر دون الباطن، فإن قال أردت أنى كنت علقت طلاقها بصفة، قبل منه لانه يحتمل ما يدعيه (فرع)
إذا قال لامرأته أنت طالق لولا أبوك لطلقتك، فذكر المزني في فروعه أنها لا تطلق لانه ليس بإيقاع للطلاق، وانما حلف بطلاقها انما يمسكها لاجل أبيها وأنه لولا أبوها لطلقها، كما لو قال والله لولا أدبك لطلقتك.
قال صاحب الفروع ويحتمل أن يقع عليها الطلاق لان قوله لولا أبوك لطلقتك كلام مبتدأ منفصل عن الاولة، ولهذا ينفرد بجواب، والاول هو المشهور.
فإن كان صادقا بأن امتنع من طلاقها لاجل أبيها لم يقع الطلاق لا ظاهرا ولا باطنا، وان كان كاذبا وقع الطلاق في الباطن دون الظاهر، الا أن يقر بكذبه فيقع في الظاهر أيضا، فإن قال أنت طالق لولا أبوك أو لولا الله لم يقع عليها الطلاق.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وأما الكناية فهى كثيرة، وهى الالفاظ التى تشبه الطلاق وتدل على الفراق، وذلك مثل قوله أنت بائن، وخلية وبرية وبتة وبتلة وحرة وواحدة وبيني وابعدى واغربى واذهبي واستفلحي والحقى بأهلك وحبلك على غاربك، واستتري وتقنعى واعتدى وتزوجي وذوقي وتجرعي وما أشبه ذلك، فإن خاطبها بشئ من ذلك ونوى به الطلاق وقع، وان لم ينو لم يقع، لانه يحتمل الطلاق وغيره، فإذا نوى به الطلاق صار طلاقا، وإذا لم ينو به الطلاق لم يصر طلاقا، كالامساك عن الطعام والشراب لما احتمل الصوم وغيره، إذا نوى به الصوم صار صوما، وإذا لم ينو به الصوم لم يصر صوما وان قال أنا منك طالق، أو جعل الطلاق إليها فقالت طلقتك أو أنت طالق فهو كناية يقع به الطلاق مع النية، ولا يقع من غير نية، لان استعمال هذا اللفظ في الزوج غير متعارف، وانما يقع به الطلاق مع النية من جهة المعنى، فلم يقع به

(17/101)


من غير نية كسائر الكنايات، وان قال له رجل: ألك زوجة؟ فقال لا، فإن لم ينو به الطلاق لم تطلق، لانه ليس بصريح، وان نوى به الطلاق وقع لانه يحتمل الطلاق
(فصل)
واختلف أصحابنا في الوقت الذى تعتبر فيه النية في الكنايات، فمنهم من قال إذا قارنت النية بعض اللفظ من أوله أو من آخره وقع الطلاق كما أن في الصلاة إذا قارنت النية جزءا منها صحت الصلاة، ومنه من قال لا تصح حتى تقارن النية جميعها، وهو أن ينوى ويطلق عقيبها، وهو ظاهر النص لان بعض اللفظ لا يصلح للطلاق فلم تعمل النية معه، فأما الصلاة فلا تصح حتى
تقارن النية جميعها بأن ينوى الصلاة ويكبر عقيبها، ومتى خلا جزء من التكبير عن النية لم تصح صلاته.

(فصل)
وأما ما لا يشبه الطلاق ولا يدل على الفراق من الالفاظ، كقوله اقعدي واقربي واطعمي واسقيني، وما أحسنك وبارك الله فيك وما أشبه ذلك فإنه لا يقع به الطلاق وان نوى، لان اللفظ لا يحتمل الطلاق، فلو أوقعنا الطلاق لاوقعناه بمجرد النية، وقد بينا أن الطلاق لا يقع بمجرد النية
(فصل)
واختلف أصحابنا في قوله: أنت الطلاق.
فمنهم من قال: هو كناية، فإن نوى به الطلاق فهو طلاق لانه يحتمل أن يكون معناه أنت طالق، وأقام المصدر مقام الفاعل كقوله تعالى " أرأيتم ان أصبح ماؤكم غورا " أراد غائرا وان لم ينو لم يقع، لان قوله أنت الطلاق لا يقتضى وقوع الطلاق.
ومنهم من قال هو صريح ويقع به الطلاق من غير نيه، لان لفظ الطلاق يستعمل في معنى طالق، والدليل عليه قول الشاعر: أنوهت باسمى في العالمين
* وأفنيت عمرى عاما فعاما فأنت الطلاق وأنت الطلاق
* وأنت الطلاق ثلاثا تماما وقال آخر: فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن
* وان تخرقى يا هند فالخرق آلم فأنت الطلاق والطلاق عزيمة
* ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم فبيني بها ان كنت غير رفيقة
* فما لامرئ بعد الثلاثه مقدم

(17/102)


(فصل)
واختلفوا فيمن قال لامرأته كلى واشربي ونوى الطلاق، فمنهم من قال لا يقع وهو قول أبى إسحاق، لانه لا يدل على الطلاق فلم يقع به الطلاق كما لو قال أطعمينى واسقيني، ومنهم من قال يقع وهو الصحيح، لانه يحتمل معنى
الطلاق وهو أن يريد كلى ألم الفراق واشربي كأس الفراق، فوقع به الطلاق مع النية، كقوله ذوقي وتجرعي
*
*
* (الشرح) الكناية صورة تذكر يراد بها اما تكنى عنه وترمز إليه، ومع هذا يجوز أن يراد بها معناها الاصلى، وأنواعها ثلاثة: كناية عن صفة وكناية عن موصوف وكناية عن نسبة.
وقوله " بائن الخ " أي مفارقة من البين وهو الفراق، وخلية، أي خالية عن الزوج فارغة منه، وبرية أي بريئة عما يجب من حقوقي وطاعتي، وبتة القطع وبتلة مثلها، ومنه التبتل أي الانقطاع عن النكاح، وسميت البتول لانقطاعها عن الازواج.
وقوله تعالى (وتبتل إليه تبتيلا) أي انقطع إليه انقطاعا.
وأما تسمية فاطمة عليها السلام بالبتول فقد قال ثعلب لانقطاعها عن نساء زمانها دينا وفضلا وحسبا: وحرة أي لا سلطان لى على بضعك كما لا ملك في رقبة الحرة، وواحدة أي أنت فردة عن الزوج، ويحتمل طلقة واحدة وبيني وهو من البعد والفراق واغربى مثله.
واستفلحي من الفلاح والفوز، أي فوزى بأمرك واستبدى برأيك ويحتمل أن يكون من الفلح وهو القطع، أي اقطعي حبل الزواج من غير نزاع وحبلك على غاربك، أي امضى حيث شئت: والتعبير هنا عن الدابة يكون مقودها على غاربها، وهو ما بين السنام والعنق ولا قائد لها فتذهب حيث شاءت بغير ممسك لها، وتقنعى، أي غطى رأسك وقال ابن بطال: أظن معناه استترى منى ولا يحل لى نظرك.
وتجرعي.
يقال: جرعه غصص الغيظ إذا أذاقه الشدة مما يكره

(17/103)


أما الاحكام: فإن الكنايات كل كلمه تدل على الطلاق وغيره كهذه الالفاظ
إلى ساقها المصنف وما أشبهها من الكلام فإن نوى بذلك الطلاق وقع عليها الطلاق وإن لم ينو به الطلاق لم يقع عليها الطلاق سواء قال ذلك في حالة الرضا أو في حالة الغضب، وسواء سألته الطلاق أو لم تسأله.
وقال أبو حنيفة: إذا كان ذلك في حال مذاكرة الطلاق وقال لها: أنت بائن وبتة وبتلة وحرام وخلية وبرية والحقى بأهلك واذهبي، فلا يحتاج إلى النية، وان قال لها: حبلك على غاربك، واعتدى، واستبرئى رحمك، وتقنعى، فإنه يحتاج إلى النية.
وقال مالك: الكنايات الظاهرة لا تحتاج إلى النية كقوله بائن وبنة وبتلة وحرام وخلية وبرية والفراغ والسراح في الكنايات الظاهرة، وأما الكنايات الباطنة، فتفتقر إلى النية، وهى مثل قوله: اعتدى واستبرئى رحمك وتقنعى واذهبي وحبلك على غاربك وما أشبه ذلك.
وقال أحمد: دلالة الحال في جميع الكنايات تقوم مقام النية.
دليلنا أن هذه الالفاظ تحتمل الطلاق وغيره ولا تتميز إلا بالنية كالامساك عن الطعام والشراب يحتمل الصوم وغيره ولا يتميز إلا بالنية، ولان هذه كنايات في الطلاق، فإذا لم تقترن بها النية لم يقع بها الطلاق كالالفاظ التى سقناها.
(فرع)
قال ابن القاص: إذا قال لزوجته: أغناك الله ونوى به الطلاق كان طلاقا، فمن أصحابنا من قال: لا يقع عليها الطلاق لان هذا دعاء لها، فهو كقوله بارك الله فيك، ومنهم من وافقه لانه يحمل أن يريد به الغنى الذى قال الله فيه: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته، وإن قال لها: كلى واشربي ونوى به الطلاق ففيه وجهان.
وقال أبو إسحاق لا يقع عليها الطلاق، وبه قال أبو حنيفة، كقوله أطعمينى واسقيني والثانى: يقع به الطلاق، وهو اختيار الشيخين أبى حامد وأبى إسحاق لانه يحتمل
كلى ألم الفراق واشربي كأسه، وان قال لامرأته: لست بإمرأتى ونوى به الطلاق كان طلاقا، وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
وقال أبو يوسف: لا يقع، دليلنا أنه محتمل للطلاق لانه إذا طلقها لا تكون

(17/104)


امرأته، فهو كقوله: أنت بائن.
وان قال له رجل: ألك زوجه؟ فقال: لا: ونوى به الطلاق كان طلاقا.
قال في الفروع: ويحتمل أن لا يكون كنايه ولا صريحا، والاول هو المشهور لانه يحتمل الطلاق.
(فرع)
وان قال لامرأته: أنت حرة ونوى به الطلاق كان طلاقا، وان قال لامته أنت طالق ونوى به العتق كان عتقا، لانه لفظ يتضمن ازالة ملك الزوجية فكان كنايه في العتق، كقوله لا سبيل لى عليك، وان قال لامرأته أنت الطلاق أو أنت طلاق ففيه وجهان
(أحدهما)
كنايه فلا يقع به الطلاق الا مع النية، لان الطلاق مصدر، والاعيان لا توصف بالمصادر، فكان مجازا
(والثانى)
أنه صريح، وبه قال مالك وأبو حنيفة، لان الطلاق قد يستعمل في معنى طالق كما في قول الشاعر: فأنت الطلاق وأنت الطلاق
* وأنت الطلاق ثلاثا ثلاثا (مسألة) قال صاحب الهدى: ثبت في صحيح البخاري أن ابنة الجون لما دخلت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها عذت بعظيم الحقى بأهلك، وثبت في الصحيحين أن كعب بن مالك رضى الله عنه لما أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يعتزل امرأته قال لها الحقى بأهلك، فاختلف الناس في هذا، فقالت طائفة ليس هذا بطلاق ولا يقع به الطلاق نواه أو لم ينوه، وهذا قول أهل الظاهر، قالوا والنبى صلى الله عليه وسلم
لم يكن عقد على ابنة الجون وانما أرسل إليها ليخطبها.
ويدخل على ذلك ما في صحيح البخاري من حديث حمزة بن أبى أسيد عن أبيه أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أتى بالجونية فأنزلت في بيت اميمة بنت النعمان بن شراحيل في نخل ومعها دابتها فدخل عَلَيْهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لها هبى لى نفسك فقالت وهل تهب الملكه نفسها للسوقة، فأهوى ليضع يده عليها فقالت أعوذ بالله منك فقال: قد عذت بمعاذ، ثم خرج فقال: يا اسيد اكسها رازقتين وألحقها بأهلها، وفى صحيح مسلم عن سهل بن سعد: ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة

(17/105)


من العرب فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها فأرسل إليها فقدمت فنزلت في أجم بنى ساعدة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فلما كلها قالت: أعوذ بالله منك قال قد أعذتك منى، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت لا، قالوا هذا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ ليخطبك والظاهر أنها الجونية، لان سهلا قال في حديثه: فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها، فالقصة واحدة دارت على عائشة رضى الله عنها وأبى أسيد وسهل بن سعد وكل منهم رواها وألفاظهم فيها متقاربة ويبقى التعارض بين قوله: جاء ليخطبك وبين قوله: فلما دخل عليها ودنا منها، فإما أن يكون أحد اللفظين وهما، أو الدخول ليس دخول الرجل على امرأته، بل الدخول العام.
وهذا محتمل وحديث ابن عباس في قصة اسماعيل وابراهيم صريح، ولم يزل هذا اللفظ من الالفاظ التى يطلق بها في الجاهلية والاسلام، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم بل أقرهم عليه.
وقد أوقع أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطلاق وهم القدوة بأنت حرام وأمرك بيدك واختارى ووهبتك لاهلك وأنت خلية، وقد خلوت منى وأنت بريئة وقد أبرأتك وأنت مبرأة وحبلك على غاربك وأنت
الخروج، فقال على وابن عمر رضى الله عنهما.
الخلية ثلاث.
وقال عمر رضى الله عنه: واحدة وهو أحق بها.
وفرق معاوية رضى الله عنه بين رجل وامرأته قال لها: ان خرجت فأنت خلية، وقال على وابن عمر وزيد في البرية أنها ثلاث.
وقال عمر هي واحدة وهو أحق بها.
وقال على في الخروج هي ثلاث.
وقال عمر واحدة قال: والله تعالى ذكر الطلاق ولم يعين له لفظا، فعلم أنه رد الناس إلى ما يتعارفونه طلاقا، فأى لفظ جرى عرفهم به وقع به الطلاق مع النية، والالفاظ التى لا تراد لعينها بل للدلالة على مقاصد لافظها، فإذا تكلم بلفظ دال على معنى وقصد به ذلك المعنى ترتب عليه حكمه، ولهذا يقع الطلاق من العجمي والتركى والهندي بألسنتهم، بل لو طلق أحدهم بصريح الطلاق بالعربية ولم يفهم معناه لم يقع به شئ قطعا.
فإنه تكلم بما لا يفهم معناه ولا قصده، وقد دل حديث كعب بن مالك على أن الطلاق لا يقع بهذا اللفظ وأمثاله إلا بالنية.

(17/106)


والصواب أن ذلك جار في سائر الالفاظ صريحها وكنايتها.
ولا فرق بين ألفاظ العتق والطلاق، فلو قال غلامي غلام حر لا يأتي الفواحش، أو أمتى حرة لا تبغى الفجور ولم يخطر بباله العتق ولا نواه لم يعتق بذلك قطعا، وكذلك لو كان معه امرأته في طريق فقيل له أين امرأتك؟ فقال فارقتها أو سرح شعرها وقال سرحتها ولم يردها طلاقها لم تطلق.
وكذا إذا ضربها الطلق وقال لغيره اخبارا عنها بذلك انها طالق لم تطلق بذلك.
وكذلك إذا كانت المرأة في وثاق فأطلقت منه فقال لها: أنت طالق وأراد من الوثاق.
هذا كله مذهب مالك وأحمد في بعض هذه الصور وبعضها نظير ما نص عليه ولا يقع به الطلاق حتى ينويه ويأتى بلفظ دال عليه، فلو تفرد احد الامرين عن
الآخر لم يقع الطلاق ولا العتاق، وتقسيم الالفاظ إلى صريح وكناية، وان كان تقسيما صحيحا في أصل الوضع، لكن يختلف باختلاف الاشخاص والازمنة والامكنة فليس حكما ثابتا للفظ لذاته، قرب لفظ صريح عند قوم كنايه عند آخرين أو صريح في زمان أو مكان كناية في غير ذلك الزمان والمكان، والواقع شاهد بذلك، فهذا لفظ السراح لا يكاد أحد يستعمله في الطلاق لا صريحا ولا كناية فلا يسوغ أن يقال: إن من تكلم به لزمه طلاق امرأته نواه أو لم ينوه ويدعى أنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال، فإن هذه دعوة باطلة شرعا واستعمالا.
أما الاستعمال فلا يكاد أحد يطلق به البتة.
وأما الشرع فقد استعمله في غير الطلاق كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) فهذا السراح غير الطلاق قطعا.
وكذلك الفراق استعمله الشرع في غير الطلاق كقوله تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن - إلى قوله - فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " فالامساك هنا الرجعة والمفارقة ترك الرجعة لا انشاء طلقه ثانيه.
هذا مما لا خلاف فيه البتة: فلا يجوز أن يقال: ان من تكلم به طلقت زوجته، فهم معناه أو لم يفهم، وكلاهما في البطلان سواء وقال في البيان: ان قال له رجل: أخليت امرأتك أو أبنتها؟ وما أشبه ذلك

(17/107)


من الكنايات فقال الزوج نعم، فإن اعترف الزوج أنه نوى الطلاق بذلك كان إقرارا منه بالطلاق، وإن لم يعترف أنه نوى بذلك الطلاق لم يلزمه شئ اه (فرع)
وإذا خاطبها بشئ من الكنايات التى يقع بها الطلاق بأن قال: أنت خلية، فإن لم ينو الطلاق في اللفظ وإنما نواه قبله أو بعده لم يكن لهذه النية حكم
لانها لم تقارن اللفظ ولا بعضه، فهو كما لو نوى الطلاق من غير لفظ، وإن نوى الطلاق في بعض اللفظ بأن نوى الطلاق في قوله: أنت - وعريت نيته في قوله خلية، أو نوى الطلاق في قوله خلية دون قوله أنت، أو نوى في سائر حروف ذلك، ففيه وجهان
(أحدهما)
يقع الطلاق - قال الشيخ أبو حامد وهو المذهب، لان النية إذا قارنت بعض الشئ عمته أو استصحب حكمها إلى آخره وإن عريت في أثنائه صح كالعبادات من الطهارة والصلاة إذا قارنها النية في أولها، ذكرا واستصحب حكمها في باقيها.

(والثانى)
لا يطلق.
قال الشيخ ابو اسحاق: وهو ظاهر النص، لان النية قارنت لفظا لا يصلح للطلاق.
وأما الالفاظ التى لا تدل على الفراق إذا خاطبها به، كقوله بارك الله منك وما أحسن وجهك وأطعميني واسقيني.
قومي واقعدى وما أشبه ذلك فلا يقع به الطلاق وإن نواه، لانها لا تصلح للفرقه، فلو أوقعنا الطلاق بذلك لاوقعنا الطلاق بمجرد النية، والطلاق لا يقع بالنية من غير لفظ، واختلف أصحابنا هل للفارسية صريح في الطلاق؟ فذهب أكثرهم إلى أن له صريحا في لغتهم كما نقول في لغة العرب.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: لا صريح له في لغتهم ومثل هذا يقال في اللغة الانجليزية كقوله " توبى دايفور سد " فإنها تحتمل الطلاق فإذا نواه من لا يتكلم إلا بالانجليزية أو يتكلم بغيرها مخاطبا زوجته التى لا تفهم إلا الانجليزية وقع الطلاق ومثل هذا يقال في اللغة الفرنسية إذا قال من لا يتكلم الا بها " رنفوييه " أو يتكلم بغيرها لمن لا تحسن التخاطب الا بها فإنه يقع طلاقه إذا نواه.
والله أعلم

(17/108)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قال لامرأته اختاري أو أمرك بيدك، فقالت اخترت لم يقع الطلاق حتى ينويا لانه كناية لانها تحتمل الطلاق وغيره فلم يقع به الطلاق حتى يتفقا على نية الطلاق.
وان قال اختاري ونوى اختيار الطلاق، أو قال أمرك بيدك ونوى تمليك أمر الطلاق فقالت اخترت الزوج لم يقع الطلاق، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه " فلم تجعل ذلك طلاقا، ولان اختيار الزوج اختيار النكاح لا يحتمل غيره فلم يقع به الطلاق، فإن قالت اخترت نفسي لم يقع الطلاق حتى تنوى الطلاق لانه يحتمل أن يكون معناه اخترت نفسي للنكاح ويحتمل اخترت نفسي للطلاق، ولهذا لو صرحت به جاز فلم يقع به الطلاق من غير نية.
وان قالت: اخترت الازواج ونوت الطلاق فَفِيهِ وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه لا يقع لان الزوج من الازواج.

(والثانى)
يقع وهو الاظهر عندي لانها لا تحل للازواج الا بمفارقته، كما لو قال لها الزوج تزوجي ونوى به الطلاق وان قالت اخترت أبوى ونوت الطلاق ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقع الطلاق، لان اختيار الابوين لا يقتضى فراغ الزوج
(والثانى)
أنه يقع لانه يتضمن العود اليهما بالطلاق، فصار كقوله الحقى بأهلك.
وان قال لها امرك بيدك ونوى به ايقاع الطلاق ففيه وجهان (احدهما) لا يقع الطلاق لانه صريح في تمليك الطلاق وتعليقه على قبولها فلم يجز صرفه إلى الايقاع
(والثانى)
أنه يقع لان اللفظ يحتمل الايقاع فهو كقوله حبلك على غاربك.
(الشرح) حديث عائشة رواه الستة وأحمد.
وقد مضى تخريجه وألفاظه.
أما الاحكام فإنه يجوز للزوج أن يخير زوجته فيقول لها اختاري أو أمرك بيدك لقوله تعالى " يا أيها النبي قل لازواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " الآية فخير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه

(17/109)


إذا ثبت هذا فقال لزوجته اختاري، واختارت زوجها لم يقع عليها الطلاق.
وبه قال ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وعائشة.
وبه قال أكثر الفقهاء.
وروى عن على بن أبى طالب وزيد بن ثابت روايتان إحداهما كقولنا، والثانية أنها إذا اختارت زوجها وقع عليها طلقة واحدة رجعية، وبه قال الحسن البصري وربيعة، دليلنا ما روى أن رجلا سأل عائشة عن رجل خير زوجته فاختارته أكان ذلك طلاقا؟ فقالت " خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، ولم يجعل ذلك طلاقا " وهى أعلم الناس بهذه القصة، لان النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها.
وإن اختارت نفسها فهو كناية في الطلاق، فإن نويا الطلاق وقع الطلاق وإن نوى أحدهما دون الاخر لم يقع الطلاق، لان الزوج إذا لم ينو لم يقع الطلاق لانه لم يجعل إليها الطلاق.
وإن نوى الزوج ولم تنو الزوجة لم يقع، لانها لم توقع الطلاق.
هذا مذهبنا وقال مالك هو صريح، فإذا اختارت الطلاق وقع سواء نويا أو لم ينويا.
وقال أبو حنيفة لا يفتقر إلى نية الزوجة.
دليلنا أن قوله اختاري يحتمل الطلاق وغيره.
وكذلك قولها اخترت نفسي يحتمل الطلاق وغيره.
وما كان هذا سبيله فلابد فيه من النية كسائر الكنايات، وهل من شرط اختيارها لنفسها أن يكون على الفور بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه؟ أو يجوز إذا وقع منها في المجلس قبل ان تخوض المرأة في حديث غيره، على وجهين مضى ذكرهما وإن قالت المرأة اخترت الازواج ونوت الطلاق ففيه وجهان: أحدهما لا يقع
الطلاق، لان زوجها من الازواج.
والثانى يقع عليها الطلاق.
قال الشيخ أبو إسحق الشيرازي: وهو الاظهر عندي، لانها لا تحل للازواج الا بعد مفارقتها لهذا.
وإن قالت اخترت أبوى ونوت الطلاق ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقع الطلاق، لان ذلك لا يتضمن فراق الزوج
(والثانى)
يقع لانه يتضمن العود اليهما بالطلاق.
وإن قال لها أمرك بيدك ونوى به إيقاع الطلاق قال أصحابنا فيه وجهان
(أحدهما)
يقع الطلاق قبل أن تختار، لانه يحتمل الطلاق فكان كقوله: حبلك على غاربك.

(17/110)


(والثانى)
لا يقع عليها الطلاق لانه صريح في تملكها الطلاق.
ووقوعه لقبولها، فلا يجوز صرفه إلى الايقاع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قال لامرأته: أنت على حرام ونوى به الطلاق فهو طلاق.
لانه يحتمل التحريم بالطلاق، وإن نوى به الظهار فهو ظاهر، لانه يحتمل التحريم بالظهار ولا يكون ظهارا ولا طلاقا من غير نية لانه ليس بصريح في واحد منهما.
وإن نوى تحريم عينها لم تحرم: لما روى سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضى الله عنه فقال: إنى جعلت امرأتي على حراما.
قال كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم، قد فرض الله لكن تحلة أيمانكم " إلى آخر الاية.
ويجب عليه بذلك كفارة يمين، لان النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية القبطية أم إبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ الله عزوجل: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم.
قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم " فوجبت الكفارة في الامة بالاية.
وقسنا الحرة عليها لانها في معناها في تحليل البضع وتحريمه.
وإن قال أنت على حرام ولم ينو شيئا ففيه قولان.

(أحدهما)
يجب عليه الكفارة، فعلى هذا يكون هذا اللفظ صريحا في إيجاب الكفارة، لان كل كفارة وجبت بالكنايه مع النية كان لوجوبها صريح ككفارة الظهار
(والثانى)
لا يجب، فعلى هذا لا يكون هذا اللفظ صريحا في شئ، لان ما كان كنايه في جنس لا يكون صريحا في ذلك الجنس، ككنايات الطلاق.
وان قال لامته: أنت على حرام، فإن نوى به العتق كان عتقا، لانه يحتمل أنه أراد تحريمها بالعتق، وإن نوى الظهار لم يكن ظهارا لان الظهار لا يصح من الامة، وان نوى تحريم عينها لم تحرم ووجب عليه كفارة يمين لما ذكرناه، وان لم يكن له نية ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يجب عليه الكفارة قولا واحدا لعموم الاية.
ومنهم من قال: فيه قولان كالقولين في الزوجة لما ذكرناه،

(17/111)


وإن كان له نسوة أو إماء فقال: أنتن على حرام ففى الكفارة قولان
(أحدهما)
يجب لكل واحدة كفارة
(والثانى)
يجب كفارة واحدة كالقولين فيمن ظاهر من نسوة وإن قال لامرأته أنت على كالميتة والدم، فإن نوى به الطلاق فهو طلاق، وإن نوى به الظهار فهو ظهار، وإن نوى به تحريمها لم تحرم، وعليه كفارة يمين لما ذكرناه في لفظ التحريم.
وإن لم ينو شيئا فإن قلنا إن لفظ التحريم صريح في إيجاب الكفارة لزمته الكفارة، لان ذلك كناية عنه.
وإن قلنا إنه كناية لم يلزمه شئ، لان الكناية لا يكون لها كنايه.
(الشرح) خبر سعيد بن جبير ثبت في صحيح البخاري أنه سمع ابن عباس يقول: إذا حرم امرأته فليس بشئ، لكم في رسول الله أسوة حسنة.
قد
روى هذا عن عمر رضى الله عنه قال عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبى كثير وأيوب السختيانى كلاهما عن عكرمة عن عمر قال: هي يمين، يعنى التحريم.
وروى اسماعيل بن اسحاق حدثنا المقدمى حدثنا حماد بن زيد عن صخر بن جويريه عن نافع عن ابن عمر قال: الحرام يمين.
أما قوله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم " الاية، فقد ثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب عسلا في بيت ميمونة، فاحتالت عليه عائشة وحفصة حتى قال: لن أعود له - وفى لفظ - وقد حلفت " وفى سنن النسائي عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة رضى الله عنها وحفصة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " وفى جامع الترمذي عن عائشة رضى الله عنها قالت " إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين كفارة.
قال الترمذي: هكذا رواه مسلم بن علقمة عن داود عن الشعبى عن مسروق عن عائشة، ورواه على بن مسهر وغيره عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وهو أصح.
اه وقولها " جعل الحرام حلالا " أي على الذى حرمه وهو العسل أو الجارية

(17/112)


حلالا بعد تحريمه إياه.
قال الواحدى: قال المفسرون: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بيت حفصه فزارت أباها فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت.
فلما رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها: لا تخبرى عائشة ولك على أن لا أقربها أبدا، فأخبرت حفصة عائشة - وكانتا متصافيتين - فغضبت عائشة، ولم تزل
بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقرب مارية، فأنزل الله هذه السورة (التحريم) وقال القرطبى: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة (وذكر القصة) وقال العلامة صديق خان في نيل المرام: والجمع ممكن بوقوع القصتين.
قصة العسل وقصة مارية وأن القرآن نزل فيهما جميعا وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبى حبيب عن عبد الله بن هبيرة عن قبيصة ابن ذؤيب قال: سألت زيد بن ثابت وابن عمر رضى الله عنهم عمن قال لامرأته أنت على حرام فقال جميعا كفارة يمين.
وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ان أبى نجيح عن مجاهد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ في التحريم.
هي يمين يكفرها.
قال أبو محمد بن حزم: وروى ذلك عن أبى بكر الصديق وعائشة أم المؤمنين رضى الله عنهما.
أما اللغات فقوله " مرضاة " اسم مصدر وهو الرضا.
قوله " تحلة " هي تحللة تفعلة من الحلال فأدغمت أي يحل بها ما كان حراما.
أما الاحكام: فإذا قال لزوجته أنت حرام على - فإن نوى به الطلاق كان طلاقا، وان نوى به الظهار - وهو أن ينوى أنها محرمة كحرمة ظهر أمه كان مظاهرا، وإن نوى تحريم عينها أو تحريم وطئها أو فرجها بلا طلاق وجب كفارة يمين وإن لم يكن يمينا وإن لم ينو شيئا ففيه قولان
(أحدهما)
يجب عليه كفارة يمين فيكون هذا صريحا في إيجاب الكفارة
(والثانى)
لا يجب عليه شئ فيكون هذا كناية في إيجاب الكفارة ويأتى توجيههما

(17/113)


وأما إذا قال لامته: أنت حرام على - فإن نوى عتقها عتقت، وان نوى
الظهار أو أراد به الطلاق أو كليهما فقد قال عامة أصحابنا: لا يلزمه شئ، لان الطلاق والظهار لا يصحان من السيد في أمته.
وقال ابن الصباغ: عندي أنه إذا نوى الظهار لا يكون ظهارا أو يكون بمنزلة ما لو نوى تحريمها، لان معنى الظهار أن ينوى أنها عليه كظهر أمه في التحريم، وهذه نية التحريم المتأكد، وان نوى تحريم عينها وجب عليه كفارة اليمين.
وان طلق ولم ينو شيئا فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان كالزوجه، ومنهم من قال تجب الكفارة قولا واحدا، لان النص ورود فيها والزوجه مقيسه عليها، فهذا جملة المذهب وقد اختلف الصحابة فيمن قال لزوجته: أنت على حرام، واختلف فقهاء الامصار في هذ المسألة حتى ذهبوا فيها عشرين مذهبا.
فذهب أبو بكر الصديق رضى الله عنه وعائشة إلى أن ذلك يمين تكفر.
وبه قال الاوزاعي.
وقال عمر ابن الخطاب طلقه رجعيه وبه قال الزهري.
وقال عثمان هو ظهار، وبه قال أحمد وقال هو ظهار بإطلاقه نواه أو لم ينوه إن لم يصرفه بالنية إلى الطلاق أو اليمين فينصرف إلى ما نواه.
هذا ظاهر مذهب أحمد وعنه روايه ثانيه أنه بإطلاقه يمين الا أن يصرفه بالنيه إلى الظهار أو الطلاق فينصرف إلى ما نواه.
وعنه رواية ثالثه أنه ظهار بكل حال.
ولو نوى غيره، وفيه رواية رابعه حكاها أبو الحسين في فروعه أنه طلاق بائن، ولو وصله بقوله أعنى به فعنه فيه روايتان: أحداهما أنه طلاق فعلى هذا هل تلزمه الثلاث أو واحدة على روايتين، والثانيه أنه ظهار أيضا، كما لو قال أنت على كظهر أمي، أعنى به الطلاق.
هذا ملخص مذهبه كما أفاده ابن القيم في الهدى.
وقال على بن أبى طالب وزيد بن ثابت وابو هريرة: يقع به الطلاق الثلاث.
ذكر هذا العمرانى في البيان، ونعى ابن القيم على ابن حزم عزوه هذا
القول إلى على وزيد بن ثابت وابن عمر فقال: الثابت ما رواه هو من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبى حبيب عن ابى هبيرة عن قبيصه انه سأل زيد بن ثابت وابن عمر عمن قال لامرأته: أنت على حرام، فقالا جميعا كفارة يمين،

(17/114)


ولم يصح عنهما خلاف ذلك.
وأما على كرم الله وجهه فقد روى أبو محمد من طريق يحيى القطان حدثنا اسماعيل بن أبى خالد عن الشعبى قال: يقول رجال في الحرام: هي حرام حتى تنكح زوجا غيره ولا والله ما قال ذلك على كرم الله وجهه وإنما قال على: ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليك، إن شئت فتقدم وإن شئت فأخر.
وأما الحسن رضى الله عنه فقد روى أبو محمد بن حزم من طريق قتادة عنه أنه قال: كل حلال على حرام فهو يمين، ولعل أبا محمد غلط على على وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة: فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث وقال هو عن على وابن عمر صحيح، فوهم أبو محمد وحكاه في أنت على حرام وهو وهم ظاهر، فإنهم فرقوا بين التحريم فأفتوا فيه بأنه يمين، وبين الخلية فأفتوا فيها بثلاث، ولا أعلم أحدا قال: إنه ثلاث بكل حال اه قلت: والحرام طلاق ثلاث هو المعروف من مذهب مالك وابن أبى ليلى في المدخول بها.
أما غير المدخول بها فإنه يقع ما نواه من واحدة واثنين وثلاث فإن أطلق فواحدة.
وإن قال لم أرد طلاقا، فإن كان تقدم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه وإن كان ابتداء لم يقبل.
وعند ابن عباس في إحدى الروايتين هو كفارة يمين.
وهو قولنا.
واختلف الناس بعد الصحابة في هذه الكلمة، فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ومسروق: لا يجب فيها شئ.
وقال حماد بن أبى سليمان: هو طلقة بائنة.
وقال أبو حنيفة: إن نوى الطلاق
كان طلاقا، وإن نوى الظهار كان ظهارا.
وان نوى طلقة كانت بائنة وإن نوى اثنتين كانت واحدة.
وان نوى الثلاث وقع الثلاث، وإن لم ينو شيئا كان مؤليا فإن فاء في المدة كفر، وان لم يفئ حتى انقضت المدة بانت منه.
وقال سفيان الثوري: ان نوى به واحدة فهى واحدة وان نوى ثلاث فهى ثلاث وان نوى يمينا فهى يمين، وان لم ينو شيئا فهى كذبة دليلنا ما روى ابن عباس في صحيح مسلم: إذا حرم الرجل إمرأته فهى يمين يكفرها وتلا قوله " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حسنة " ولان اللفظ يحتمل

(17/115)


الانشاء والاخبار، فإن أراد الاخبار فقد استعمله فيما هو صالح له فيقبل منه، وان أراد الانشاء سئل عن السبب الذى حرمها به.
فإن قال: أردت واحدة أو اثنتين أو ثلاثا قبل منه لصلاحية اللفظ له واقترانه بنيته، وان نوى الظهار كان كذلك لانه صرح بموجب الظهار لان قوله أنت على كظهر أمي موجبه التحريم، فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم كان ظهارا واحتماله للطلاق بالنية لا يزيد على احتماله للظهار بها، وإن أراد تحريمها مطلقا فهو يمين مكفرة لانه امتناع منها بالتحريم فهو كامتناعه منها باليمين.
وروينا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أتى منزل حفصة فلم يجدها وكانت عند أبيها، فاستدعى جاريته مارية القبطية، فأتت حفصة فقالت: يا رسول الله في بيتى وفى نومى وعلى فراشي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرضيك وأسر اليك سرا فاكميه، هي على حرام، فأنزل الله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك؟ تبتغى مرضاة أزواجك؟ الآية " فقال: لم تحرم؟ ولم يقل: لم تحلف؟ أو لم تطلق، أو لم تظاهر، ولم تولى، فإذا ثبت هذا في الامة قسنا الزوجة عليها لانها في معناها في تحليل البضع وتحريمه.
وروى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حرم على نفسه جاريته مارية، فأنزل الله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " الآية، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حرم على نفسه حلالا له أن يعتق رقبة أو يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم.
فإذا قلنا: ان لفظة الحرام صريح في ايجاب الكفارة فوجهه حديث ابن عباس ولان كل كفارة وجبت بالكناية مع النية وجب أن يكون لوجوب تلك الكفارة صريح كالظهار، وبيان هذا أنه إذا قال لامرأته: أنت على حرام ونوى به الظهار وجب عليه كفارة الظهار وكان كناية عن الظهار، ثم كان للظهار صريح وهو قوله أنت على كظهر أمي، كذلك كفارة التحريم لما وجب بالكفارة مع النية، وهو قوله: أنت على حرام كالميتة والدم ونوى به تحريم عينها وجب أن يكون لهذه الكفارة صريح، وهو قوله: أنت على حرام كالميتة وإذا قلنا إن التحريم كناية لا يجب به شئ من غير نية فوجهه أن كل ما كان

(17/116)


كناية في جنس لم يكن صريحا في ذلك الجنس، كقوله: أنت خلية (فرع)
إذا قال لامرأته: أنت كالميته والدم - فإن نوى به الطلاق - كان طلاقا، وان نوى به الظهار كان ظهارا لانه يصلح لها، وان لم ينو شيئا لم يكن عليه شئ لانها كناية تعرت عن النية فلم تعمل في التحريم وإن قال نويت بها أنت على حرام - فإن قلنا إن قوله أنت على حرام صريح في إيجاب الكفارة وجب عليه الكفارة، لان الصريح له كناية، وان قلنا ان التحريم كناية في إيجاب الكفارة لم يجب عليه ههنا كفارة، لان الكناية لا تكون لها كناية.
هكذا ذكر الشيخ أبو حامد وذكر الشيخ أبو إسحاق والمحاملى أنه إذا نوى بذلك تحريم عينها لزمته الكفارة
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وإن نوى إصابته قلنا له: أصبت وكفر وجملة ذلك أنه إذا قال لامرأته: إصابتك على حرام أو فرجك على حرام، أو قال أنت على حرام ثم قال نويت به إصابتك فيجب عليه الكفارة لان موضع الاصابة هو الفرج إلا أن ينوى به الطلاق أو الظهار فيقع ما نواه وقول الشافعي: أصبت وكفر، أراد أن يبين أن له أن يطأها قبل أن يكفر بخلاف المظاهرة.
وإن قال لها أنت على حرام ثم قال نويت ان أصبتها فهى حرام، لم يقبل قوله في الحكم لانه يدعى خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يحتمل ما يدعيه، (فرع)
إذا قال الرجل كل ما أملك على حرام - فإن كان له مال ولا زوجات له ولا إماء لم ينعقد بهذا اللفظ يمين ولا يجب عليه شئ.
وقال أبو حنيفة يكون معناه والله لا انتفعت بمالى، فإن انتفع به حنث ووجب عليه كفارة يمين دليلنا أن التحريم ليس بيمين فلم يجب به كفارة في الاموال كغيره من الالفاظ، ويخالف الابضاع، فإن للتحريم تأثيرا في الابضاع بالرضاع والظهار والعتق والطلاق فأثره التحريم وأما إذ كان له زوجات وإماء، فإن نوى طلاق نسائه وعتق إمائه أو

(17/117)


الظهار في النساء والعتق في الاماء حمل على ما نوى، وإن نوى تحريم أعيانهن وجب عليه الكفارة وإن أطلق.
فإن قلنا إنه صريح في إيجاب الكفارة وجب عليه الكفارة، وإن قلنا إنه كناية في إيجاب الكفارة لم تجب عليه الكفارة إذا ثبت هذا فإن كان له زوجة واحدة أو أمة واحدة ونوى تحريم عينها،
أو قلنا إنه صريح في إيجاب الكفارة وجب عليه كفارة واحدة، وإن كان له زوجات وإماء ونوى الظهار عن زوجاته، فهل يجب عليه كفارة أو كفارتان؟ فيه قولان يأتي توجيهما في الظهار.
وإن نوى تحريم أعيانهن فمن أصحابنا من قال فيه قولان كالظهار.
ومنهم من قال: يجب عليه كفارة واحدة قولا واحدا، كما لو قال لاربع نسوة والله لا أصبتكن فأصابهن، فإنه لا يجب عليه إلا كفارة واحدة.
هذا نقل البغداديين وقال المسعودي: إذا قال الرجل: حلال الله على حرام فقد قال المتقدمون من أصحابنا: ذلك كناية.
وقال المتأخرون منهم: انه صريح لانه اكثر استعمالهم لذلك، وكان القفال إذا استفتاه واحد عن هذا قال له: ان سمعت هذا من غيرك قاله لامرأته ماذا كنت تفهم منه؟ فإن قال: فهمت منه الصريح، قال هو صريح لك.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا كتب طلاق امرأته بلفظ صريح ولم ينو لم يقع الطلاق، لان الكتابة تحتمل ايقاع الطلاق وتحتمل امتحان الخط، فلم يقع الطلاق بمجردها، وان نوى بها الطلاق ففيه قولان، قال في الاملاء: لا يقع به الطلاق لانه فعل ممن يقدر على القول فلم يقع به الطلاق كالاشارة وقال في الام هو طلاق وهو الصحيح، لانها حروف يفهم منها الطلاق فجاز أن يقع بها الطلاق كالنطق.
فإذا قلنا بهذا فهل يقع بها الطلاق من الحاضر والغائب فيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يقع بها الا في حق الغائب لانه جعل في العرف لافهام الغائب كما جعلت الاشارة لافهام الاخرس، ثم لا يقع الطلاق بالاشارة الا في

(17/118)


حق الاخرس، وكذلك لا يقع الطلاق بالكتابة الا في حق الغائب
(والثانى)
أنه
يقع بها من الجميع، لانها كناية فاستوى فيها الحاضر والغائب كسائر الكنايات.

(فصل)
فإن أشار إلى الطلاق - فان كان لا يقدر على الكلام كالاخرس صح طلاقه بالاشارة، وتكون اشارته صريحا لانه لا طريق له إلى الطلاق الا بالاشارة، وحاجته إلى الطلاق كحاجة غيره، فقامت الاشارة مقام العبارة، وان كان قادرا على الكلام لم يصح طلاقه بالاشارة، لان الاشارة إلى الطلاق ليست بطلاق، وإنما قامت مقام العبارة في حق الاخرس لموضع الضرورة، ولا ضرورة ههنا فلم تقم مقام العبارة (الشرح) الاحكام: إذا كتب طلاق امرأته وتلفظ به وقع الطلاق، لانه لو تلفظ به ولم يكتبه وقع الطلاق، فكذلك إذا كتبه ولفظ به، وان كتب طلاقها ولم يلفظ به ولا نواه لم يقع الطلاق، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أحمد: يقع به الطلاق، وحكاه أبو على الشيخى وجها لبعض أصحابنا وليس بمشهور، لان الكتابة قد يقصد بها الحكاية، وقد يقصد بها تجويد الخط فلم يقع به الطلاق وبه قال أبو حنيفة وأحمد وهو الصحيح، فوجهه أن الانسان يعبر عما في نفسه بكتابته كما يعبر عنه بلسانه، ولهذا قيل: القلم أحد اللسانين، وقد ثبت أنه لو عبر عن الطلاق باللسان لوقع فكذلك إذا عبر عنه بالكتابة وإذا قلنا: لا يقع به الطلاق فوجهه أنه فعل من يقدر على القول فلم يقع به الطلاق كالاشارة، وفيه احتراز من اشارة الاخرس إذا ثبت هذا - فان قلنا لا يقع به الطلاق - فلا تفريع عليه، وان قلنا يقع به الطلاق - فان كانت غائبة عنه وكتب بطلاقها - وقع، وان كانت حاضرة معه فهل يقع طلاقها بكتابته؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يقع لان الكتابة انما جعلت كالعبارة في حق الغائب دون الحاضر، كالاشارة في حق الاخرس دون الناطق
(والثانى)
يقع لانه كناية في
الطلاق فصحت من الغائب والحاضر كسائر الكنايات (فرع)
إذا كتب امرأته طالق ونواه وقع عليها سواء وصلها أو لم يصلها

(17/119)


إياه، وإن كتب: إذا وصلك كتابي هذا سليما فأنت طالق.
ونواه - فإن وصلها سليما لوجود الصفة، وإن ضاع الكتاب ولم يصلها لم يقع الطلاق، لان الصفة لم توجد، وإن أتاها الكتاب - وقد تحرقت الحواشى - وقع عليها الطلاق لان الحرق لم يتناول الكتابة.
وإن وصلها الكتاب وقد انمحى جميع الكتاب حتى صار القرطاس أبيض أو انطمس حتى لا يفهم منه شئ لم يقع الطلاق، لان الكتاب هو المكتوب: وإن انمحى موضع الطلاق لم تطلق لان المقصود لم يأتها، وإن انمحى جميعه إلا موضع الطلاق - اختلف أصحابنا - فقال أبو إسحاق المروزى: يقع الطلاق لان المقصود من الكتاب موضع الطلاق.
وقد أتاها.
ومنهم من قال لا يقع لان قوله كتابي هذا.
يقتضى جميعه ولم يوجد ذلك، وإن قال إذا أتاك كتابي فأنت طالق، وأتاها الكتاب، وقع عليها الطلاق لوجود الصفتين (فرع)
قال المسعودي: إذا قال: إذا قرأت كتابي فأنت طالق، فلا تطلق ما لم تقرأه بنفسها ان كانت تحسن القراءة أو يقرأ عليها ان كانت أمية.
وحكى الصيمري وجها آخر: إذا قرئ عليها لم تطلق، لان حقيقة الوصف لم توجد (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه " وإذا شهد عليه أنه خطه لم يلزمه حتى يقربه " وهذا كما قال، فإنه إذا شهد رجلان على رجل بأن هذا الكتاب خطه بطلاق امرأته فلا يجوز لهما أن يشهدا الا إذا رأياه يكتبه ولم يغب الكتاب عن أعينهما فأما إذا رأياه يكتبه ثم غاب الكتاب عن أعينهما لم يجز لهما أن يشهدا به، لان الخط قد يزور على الخط.
وإذا ثبت أنه خطه بالشهادة أو بالاقرار لم يحكم عليه
الطلاق الا إذا أقر أنه نوى الطلاق، لان ذلك لا يعلم الا من جهته، وهذا بامراد الشافعي بقوله: حتى يقر به (مسألة) قوله: فان أشار إلى الطلاق الخ، وهذا كما قال، فإن أشار الناطق إلى الطلاق ونواه لم يقع الطلاق به، لان ذلك ليس بصريح ولا كناية.
هذا هو المشهور.
وقال أبو على في الافصاح: إذا قلنا ان الكتابة كناية ففى الاشارة وجهان
(أحدهما)
أنه كناية لانه علم يعلم به المراد فهو كالكناية
(والثانى)
أنه ليس بكناية لانه ليس من الاعلام الجارية فيما بينهم في فهم المراد.

(17/120)


وان أشار الاخرس إلى الطلاق وكانت اشارته مفهومة حكم عليه بالطلاق لان اشارته كعبارة غيره، وان كتب الاخرس بطلاق امرأته وأشار إلى أنه نواه، فإن قلنا لا يقع الطلاق بالكتابة في الناطق لم يقع به من الاخرس، وان قلنا ان الطلاق يقع من الناطق بالكتابة وقع أيضا من الاخرس.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب عدد الطلاق والاستثناء فيه)

إذا خاطب امرأته بلفظ من ألفاظ الطلاق كقوله: أنت طالق أو بائن أو بنة أو ما أشبهها، ونوى طلقتين أو ثلاثا، وقع لما روى " أن ركانة بن عبد يزيد قال يا رسول الله انى طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت الا واحدة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله ما أردت الا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت الا واحدة، فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه " فدل على أنه لو أراد ما زاد على واحدة لوقع، ولان اللفظ يحتمل العدد بدليل أنه يجوز أن يفسره به، وهو أن يقول أنت طالق طلقتين أو ثلاثا أو بائن بطلقتين وثلاث
وما احتمله اللفظ إذا نواه وقع به الطلاق، كالكناية وان قال أنت واحدة ونوى طلقتين أو ثلاثا ففيه وجهان
(أحدهما)
يقع لانه يحتمل أن يكون معناه أنت طالق واحدة مع واحدة أو مع اثنتين.

(والثانى)
لا يقع ما زاد على واحدة لانه صريح في واحدة، ولا يحتمل ما زاد، فلو أوقعنا ما زاد لكان ايقاع طلاق بالنية من غير لفظ، وذلك لا يجوز وان قال لها اختاري وقالت المرأة اخترت - فان اتفقا على عدد ونوياه - وقع ما نوياه.
وان اختلفا فنوى أحدهما طلقة ونوى الآخر ما زاد لم يقع ما زاد على طلقة، لان الطلاق يفتقر إلى تمليك الزوج وايقاع المرأة وإذا نوى أحدهما طلقة ونوى الآخر ما زاد لم يقع لانه لم يوجد الاذن والايقاع الا في طلقة فلم يقع ما زاد.

(17/121)


(الشرح) حديث ركانة بن عبد الله رواه الشافعي وأبو داود والدارقطني وفيه " فردها إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب والثالثة في زمان عثمان " وقد أخرجه أيضا بن حبان والحاكم والترمذي وقال: لا يعرف إلا من هذا الوجه.
وسألت محمدا - يعنى البخاري عنه - فقال فيه اضطراب.
اه وفى إسناده الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد.
وقيل إنه متروك وذكر الترمذي عن البخاري أنه يضطرب فيه، تارة يقال فيه ثلاثا، وتارة قيل واحدة وأصحها أنها طلقة البتة، وأن الثلاث ذكرت فيه على المعنى قال ابن كثير: لكن قد رواه أبو داود من وجه آخر، وله طرق أخر فهو حسن إن شاء الله.
وقال ابن عبد البر تكلموا في هذا الحديث.
وقال الشوكاني:
وهو مع ضعفه مضطرب ومعارض، أما الاضطراب فكما تقدم.
وقد أخرج أحمد أنه طلق ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثا فحزن عليها.
وروى ابن اسحق عن ركانة أنه قال: يا رسول الله انى طلقتها ثلاثا.
قال قد علمت ارجعها.
ثم تلا إذا طلقتم النساء " الآيه.
أخرجه أبو داود وأما معارضته فبما روى ابن عباس " أن طلاق الثلاث كان واحدة عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم " رواه أحمد ومسلم، ورواه أبو داود بهذا المعنى، وهو أصح إسنادا وأوضح متنا من حديث ركانة.
وروى النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم - حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ " قال ابن كثير إسناده جيد.
وقال الحافظ في بلوغ المرام: رواته موثقون.
وفى الباب عن ابن عباس قال " طلق أبو ركانة أم ركانة، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: راجع

(17/122)


امرأتك، فقال: إنى طلقتها ثلاثا، قال قد علمت، راجعها " أخرجه أبو داود ورواه أحمد والحاكم وهو معلول بابن إسحاق فإنه في سنده قلت: وقد أعل قوم حديث محمود بن لبيد بأن ابن وهب قد رواه عن مخرمة ابن بكير عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد فذكره فقالوا إن مخرمة لم يسمع من أبيه بكير بن الاشج وإنما هو كتاب.
ولما كان مخرمة ثقة باتفاق المحدثين، قال فيه أحمد بن حنبل ثقة ولم يسمع من أبيه وإنما هو كتاب مخرمة فنظر فيه كل شئ
يقول: بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة، ولا ضير في هذا فإن كتاب أبيه كان محفوظا عنده مضبوطا فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به أو رآه في كتابه، بل الاخذ عن المكتوب أحوط إذا تيقن الراوى أن هذه نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقة الصحابة والسلف، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث بكتبه إلى الملوك وتقوم عليهم بها الحجة.
وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الاسلام فعملوا بها واحتجوا بها، وهو أمر مستفيض أما الاحكام فإنه إذا قال لامرأته أنت طالق أو طلقتك - فان لم ينو عددا - انصرف ذلك إلى طلقه، وان نوى أكثر منها إلا أن يقول: أنت طالق أو طلقي نفسك ثلاثا، إذا نوى بذلك ثلاثا وقعن، لان كل لفظ اقترن به لفظ الثلاث وقعن به، فإذا اقترن به نية الثلاث وقعن كقوله: أنت الطلاق، وان خاطبها بشئ من الكنايات ونوى به الطلاق - فان لم ينو به العدد انصرف ذلك إلى طلقة رجعيه، وان نوى اثنتين أو ثلاثا انصرف ذلك إلى ما نواه، سواء في ذلك الكنايات الظاهرة أو الباطنه وقال مالك: الكنايات الظاهرة وهى قوله: أنت خلية وبريه وبته وبتلة وبائن وحرام، وفارقتك وسرحتك يقع بها الثلاث إذا خاطب بها مدخولا بها سواء نوى بها الطلاق أو لم ينو، وان خاطب بها غير مدخول بها فان لم ينو الطلاق وقع بها الثلاث.
وان نوى الطلاق وقع ما نواه.
وأما الكنايات الباطنه وهو قوله: اعتدى واستبرئى رحمك وتقنعى واذهبي وحبلك على غاربك وما أشبهها.
فان لم ينو بها العدد كانت طلقه رجعيه وان نوى بها أكثر وقع ما نواه كقولنا

(17/123)


وقال أبو حنيفة: الكنايات الظاهرة إذا نوى بها طلقة وقعت طلقة بائنة،
وان نوى بها طلقتين لم تقع الا واحدة.
وان نوى بها ثلاثا وقعت الثلاث.
وأما الكنايات الباطنة فلا يقع بها الا طلقة واحدة رجعية، وان نوى بها اكثر منها دليلنا حديث ركانة بن عبد يزيد أنه طلق امرأته البتة فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أردت بالبتة؟ قال: والله ما أردت الا واحدة فردها عليه.
فدل على أنه لو أراد ما زاد على واحدة لوقع، وعلى انه لو وقع به الثلاث لما سأله عنه ولما استحلفه ولا ردها عليه.
وان قال لها أنت طالق واحدة وأنت واحدة ونوى طلقتين أو ثلاث ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يقع عليها ما نواه لانه يحتل أنت طالق واحدة مع واحدة أو مع اثنتين
(والثانى)
لا يقع عليها الا واحدة لانه صريح فيها، فلو أوقعنا ما زاد عليها لكان ايقاع طلاق بالنية من غير لفظ (والثالث) وهو اختيار القفال: ان نوى ما زاد على واحدة عند قوله أنت وقع ما نواه.
وان نوى ذلك بمجموع الكلام لم تقع الا واحدة (مسألة) قال الشافعي: إذا قال للمدخول بها أنت طالق واحدة بائنا وقعت عليه طلقة رجعية.
قال الصيمري: وهكذا إذا قال أنت طالق واحدة لا رجعة لى بها، كان له الرجعة، لان الواحدة لا تبين بها المدخول بها، وله الرجعة بها فلا يسقط ذلك بشرطه (فرع)
وان قال لامرأته: أنت طالق طلاقا، أو أنت طالق الطلاق.
فإنه لا يقع عليها الا طلقة، لان المصدر لا يزيد به الكلام، وانما يدخل للتأكيد كقوله ضربت زيدا ضربا، الا أن ينوى به ما زاد على واحدة فيقع ما نواه، كما لو لم يأت المصدر.
(فرع)
وان قال لامرأته أنت طالق فماتت، ثم قال ثلاثا متصلا بقوله ففيه ثلاثة أوجه حكاها الطبري في العدة، وهو قول ابن سريج أنه يقع عليها الثلاث
لانه قصده بقوله أنت طالق
(والثانى)
لا يقع عليها الا واحدة، لان الثلاث لا تعلم الا بقوله، ولم يقل ذلك الا بعد موتها، والميتة لا يلحقها الطلاق.
(والثالث) أنه لا يقع عليها شئ لان الجملة كلها انما تقع بجميع اللفظ ولا يتقدم

(17/124)


وقوع واحدة على الاثنتين.
ألا ترى أنه لو قال العين المدخول بها: أنت طالق ثلاثا لوقع الثلاث، وقع باللفظ أولا واحدة لبانت بها ولم يقع ما بعدها ولم يتم الكلام إلا وهى ميتة، والميتة لا يلحقها الطلاق وقال الطبري " والصحيح أنه لا يقع إلا واحدة، كما لو قال أنت طالق وجن ثم قال ثلاثا.
(فرع)
إذا قال لزوجته اختاري فقالت اخترت نفسي - فان نويا عددا من الطلاق واتفقا في عدد ما نوياه وقع ما نوياه، وإن اختلفا فنوى أحدهما أكثر مما نوى الاخر وقع العدد الاقل ويقع رجعيا وقال أبو حنيفة لا يفتقر إلى نية الزوجة، فان نوى الزوج وقعت بائنه.
وان نوى ما زاد عليها لم يقع إلا واحدة بائنة وقال مالك إذا نوى الطلاق وقع الثلاث ان كانت مدخولا بها، وإن لم تكن مدخولا بها قبل منها أنها أرادت واحدة أو اثنتين.
وروى أن مروان بن الحكم أجلس زيد بن ثابت فسأله، وأجلس كاتبا يكتب ما قال، فكان فيما سأله " إذا خير الرجل زوجته " فقال زيد " ان اختارت نفسها فهى ثلاث، وان اختارت زوجها فهى واحدة رجعية دليلنا أنه لم يقرن به لفظ الثلاث ولا بينها فلم يقع به الثلاث، ولا يقع بقطع الرجعية، كقوله أنت طالق وان ذكر الزوج لفظ الاختيار ثلاثا ونوى به واحدة كانت واحدة.
وقال
أبو حنيفة " إذا قبلت وقع الثلاث " دليلنا أنه يحتمل أنه يريد به التأكيد، فإذا قيد فيه قبل منه.
كقوله أنت طالق الطلاق.
وان قال لها اختاري من الثلاث طلقات ما شئت فليس لها أن تختار الثلاث ولها أن تختار ما دونها، وبه قال ابو حنيفة وأحمد.
وقال أبو يوسف ومحمد لها ان تختار الثلاث.
دليلنا أن (من) للتبعيض، وقد جعل إليها بعض الثلاث فلا يكون لها ايقاع الثلاث

(17/125)


(فرع)
إذا قال لها: يا مائة طالق أو أنت مائة طالق وقع عليها ثلاث طلقات وإن قال: أنت طالق كمائة أو أنت طالق كألف.
قال ابن الصباغ: وقع عليها الثلاث، وبه قال محمد بن الحسن وأحمد، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن لم يكن له نية لم يقع عليها إلا واحدة، دليلنا: أنه تشبيه بالعدد خاصة فوقع العدد كقوله: أنت طالق كعدد مائة أو ألف.
اه وفى هذا الفرع بحث من السنة يقتضينا المقام اثباته فقد أخرج الدارقطني عن مجاهد عن ابن عباس " أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة قال: عصيت ربك وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ".
وأخرج الدارقطني عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا " أنه سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال: أخطا السنة وحرمت عليه أمرأته " وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر أنه رفع إليه رجل طلق امرأته ألفا فقال له عمر: أطلقت امرأتك؟ قال لا، انما كنت العب، فعلاه بالدرة وقال: انما يكفيك من ثلاث.
وروى وكيع عن على كرم الله وجهه وعثمان رضى الله عنه نحو ذلك واخرج عبد الرزاق والبيهقي عن ابن مسعود " انه قيل له: ان رجلا طلق امرأته
البارحه مائة، قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم، قال: تريد ان تبين منك امراتك؟ قال: نعم، قال: هو كما قلت، واتاه آخر فقال: رجل طلق امرأته عدد النجوم قال: قلتها مرة واحدة؟ قال نعم، قال: تريد ان تبين منك امرأتك قال: نعم، قال هو كما قلت، والله لا تلبسون على انفسكم ونتحمله ".
واخرج عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن العلاء عن عبد الله بن الوليد الوصافى عن ابراهيم بن عبد الله بن عبادة بن الصامت قال " طلق جدى امرأة له ألف تطليقه فانطلق إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر له ذلك فقال: ما اتقى الله جدك اما ثلاث فله، واما تسعمائة وسبع وتسعون فعدوان وظلم ان شاء الله عذبه وان شاء غفر له ".
وفى رواية " ان اباك لم يتق الله فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنه، وتسعمائه وسبع وتسعون اثم في عنقه " وهذا الخبر اعترض عليه علماء

(17/126)


الحديث بأن يحيى بن العلاء ضعيف، وعبيد الله بن الوليد هالك، وابراهيم بن عبيد الله مجهول، فأى حجه في رواية ضعيف عن هالك عن مجهول ثم والد عبادة بن الصامت لم يدرك الاسلام فكيف بجده؟ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
وإن قال: أنت - وأشار بثلاث أصابع ونوى الطلاق الثلاث - لم يقع شئ، لان قوله: أنت ليس من ألفاظ الطلاق، فلو أوقعنا الطلاق لكان بالنية من غير لفظ، وإن قال: أنت طالق هكذا، وأشار بثلاث أصابع وقع الثلاث، لان الاشارة بالاصابع مع قوله هكذا بمنزلة النية في بيان العدد، وان قال: أردت بعد الاصبعين المقبوضتين قبل، لانه يحتمل ما يدعيه، وان قال: أنت طالق، وأشار بالاصابع ولم يقل هكذا، وقال أردت واحدة ولم أرد العدد
قبل، لانه يحتمل ما يدعيه.

(فصل)
وان قال أنت طالق واحدة في اثنتين نظرت - فإن نوى طلقة واحدة مع اثنتين - وقعت ثلاث لان " في " تستعمل بمعنى " مع " والدليل عليه قوله عز وجل " فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " والمراد مع عبادي فإن لم يكن له نية نظرت - فإن لم يعرف الحساب ولا نوى مقتضاه في الحساب - طلقت طلقة واحدة بقوله أنت طالق، ولا يقع بقوله في اثنتين شئ، لانه لا يعرف مقتضاه فلم يلزمه حكمه، كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهو لا يعرف معناه، وان نوى مقتضاه في الحساب ففيه وجهان.

(أحدهما)
وهو قول أبى بكر الصيرفى انه يقع طلقتان، لانه أراد موجبه في الحساب، وموجبه في الحساب طلقتان.

(والثانى)
وهو المذهب انه لا يقع الا طلقة واحدة لانه إذا لم يعلم مقتضاه لم يلزمه حكمه، كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهو لا يعلم، وقال اردت مقتضاه في العربية، فإن كان عالما بالحساب نظرت - فإن نوى موجبه في الحساب - طلقت طلقتين لان موجبه في الحساب طلقتان.
وان قال اردت واحدة في اثنتين باقيتين طلقت واحدة، لانه يحتمل ما يدعيه كقوله: له عندي ثوب في منديل،

(17/127)


وأراد في منديل لى، وان لم يكن له نية فالمنصوص انه تطلق طلقة، لان هذا اللفظ غير متعارف عند الناس، ويحتمل طلقة في طلقتين واقعتين، ويحتمل طلقة في طلقتين باقيتين، فلا يجوز أن يوقع بالشك وقال أبو إسحاق يحتمل أن تطلق طلقتين لانه عالم بالحساب ويعلم أن الواحدة في اثنتين طلقتان في الحساب
(فصل)
وان قال أنت طالق طلقه بل طلقتان، ففيه وجهان

(أحدهما)
يقع طلقتان، كما إذا قال له على درهم بل درهمان، لزمه درهمان
(والثانى)
يقع الثلاث، والفرق بينه وبين الاقرار أن الاقرار اخبار يحتمل التكرار، فجاز أن يدخل الدرهم في الخبرين، والطلاق ايقاع فلا يجوز أن يوقع الطلاق الواحد مرتين، فحمل على طلاق مستأنف، ولهذا لو أقر بدرهم في يوم ثم أقر بدرهم في يوم آخر لم يلزمه الا درهم، ولو طلقها في يوم ثم طلقها في يوم آخر كانتا طلقتين.

(فصل)
وان قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث، لان الجميع صادف الزوجية فوقع الجميع، كما لو قال ذلك للمدخول بها.
وان قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم يكن له نية وقعت الاولى دون الثانيه والثالثه وحكى عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ قال يقع الثلاث، فمن أصحابنا من جعل ذلك قولا واحدا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لان الكلام إذا لم ينقطع ارتبط بعضه ببعض فصار كما لو قال أنت طالق ثلاثا.
وقال أكثر أصحابنا: لا يقع أكثر من طلقة، وما حكى عن القديم إنما هو حكاية عن مالك رحمه الله ليس بمذهب له، لانه تقدمت الاولى فبانت بها فلم يقع ما بعدها.
(الشرح) وإن قال لامرأته أنت، وأشار بثلاث أصابع ونوى الطلاق لم يقع الطلاق، لان قوله أنت ليس بإيقاع، وإن قال لها انت طالق هكذا، وأشار بأصبع وقعت عليها طلقة، وان اشار بأصبعين وقع عليها طلقتان، وان اشار بثلاث اصابع وقع عليها ثلاث طلقات، لانه شبه الطلاق بأصابعه، وهى عدد،

(17/128)


وإن قال أردت بعدد الاصبعين المقبوضتين فقد ذكر الشيخ ابو إسحاق هنا في المهذب والمحاملى في المجموع (1) وابن الصباغ في الشامل أنه يقبل في الحكم لانه
يحتمل الاشارة بهما.
وذكر الشيخ ابو حامد الاسفرايينى في التعليق: انه لا يقبل قوله في الحكم، لان الظاهر خلاف ما يدعيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وإن قال أنت طالق، وأشار بأصبعه ولم يقل هكذا، ثم قال أردت واحدة أو لم أرد بعدد الاصابع قبل منه في الحكم، لانه قد يشير بالاصابع ولا يريد العدد (مسألة) قوله: وإن قال أنت طالق واحد في اثنتين الخ نعم إذا قال لها أنت طالق واحدة في اثنتين - فإن كان غير عالم بالحساب - أعنى لا يحفظ جدول الضرب - قلنا له ما أردت، فان قال أردت واحدة مقرونة مع اثنتين وقع عليها الثلاث لانه قد يعبر عن (مع) ب (في) قال تعالى " فادخلي في عبادي " أي مع عبادي وإن قال لم أنو شيئا وقع عليها طلقة واحدة بقوله أنت طالق واحدة، ولا يلزمه حكم الحساب لانه لا يعرفه ولا نواه، فهو كما لو تكلم العجمي بقوله: أنت طالق ولا يعرف معناه وإن قال نويت موجبه في الحساب ففيه وجهان.
قال ابو بكر الصيرفى يلزمه طلقتان لان هذا موجبه عندهم.
وقال أكثر أصحابنا لا يلزمه إلا طلقة واحدة، لانه لا يعرف معناه فلا يلزمه بنية موجبه، كما لو تكلم العجمي بكلمة الكفر بالعربية وهو لا يعرف معناها ونوى موجبها في لسان العرب وأما إذا كان ممن يعرف الحساب - فان نوى واحدة مقرونة مع اثنتين وقع عليها الثلاث.
وان نوى موجبا في الحساب لزمه طلقتان، لان هذا موجبه في الحساب، وان لم ينو شيئا فالمنصوص انه لا يلزمه الا طلقة لانه غير متعارف عند الناس.
وقال أبو إسحاق الاسفرايينى: يلزمه طلقتان لانه يعرف الحساب ويعلم أن
__________
(1) المجموع للمحاملى وهو غير مجموعنا هذا، وللمحاملي غير المجموع الاوسط
والمقنع واللباب والتجريد

(17/129)


هذا موجبه فيلزمه وان لم ينوه.
وقال ابو حنيفة لا يلزمه الا طلقة سواء نوى موجبه في الحساب أو لم ينو.
دليلنا أن هذا موضوع في الحساب لا يتبين، فإذا نواه وهو ممن يعرفه لزمه كما لو قال أنت طالق اثنتين.
وان قال أنت طالق اثنتين في اثنتين - وليس هو من أهل الحساب - فان نوى اثنتين مع اثنتين لزمه ثلاث، وان لم ينو ذلك ولا غيره لزمه اثنتان، وان نوى موجبه عند أهل الحساب لزمه على قول الصيرفى ثلاث، وعلى قول سائر أصحابنا يلزمه طلقتان، وان كان من أهل الحساب وأراد موجبه في الحساب ونوى مع اثنتين لزمه ثلاث، وان لم ينو شيئا فعلى المنصوص لا يلزمه الا طلقتان، وعلى قول ابى اسحاق يلزمه ثلاث، وعلى قول ابى حنيفة يلزمه طلقتان بكل حال، وقد مضى دليل ذلك.
(فرع)
إذا قال أنت طالق طلقة بل طلقتين ففيه وجهان (احدهما) يقع عليها طلقتان، كما إذا قال له على درهم بل درهمان
(والثانى)
يلزمه الثلاث لان الطلاق ايقاع فحملت كل لفظة على ايقاع، والاقرار اخبار فجاز ان يدخل الدرهم في الخبر مرتين.
وان قال أنت طالق ثلاثا وقع عليها الثلاث، وبه قال جميع الفقهاء الا رواية عطاء فانه قال يقع عليها طلقة.
دليلنا ان قوله أنت طالق اسم لجنس من الفعل يصح للواحدة ولما زاد عليها.
وقوله ثلاث مفسر له فكان وقوع الثلاث عليها دفعة واحدة، وان قال لها أنت طالق انت طالق انت طالق، أو قال انت طالق وطالق وطالق ولم ينو بالاولة الثلاث وقع عليها بقوله الاول أنت طالق وبانت بها ولا يلحقها ما بعدها، وبه قال الثوري وابو حنيفة
وقال مالك والليث بن سعد والاوزاعي يقع عليها الثلاث فقال أبو على بن أبى هريرة للشافعي في القديم ما يدل على ذلك، فجعلها على قولين.
وقال ابو على الطبري فيها وجهان (احدهما) يقع عليها الثلاث، لانه ربط الكلام بعضه ببعض فحل محل الكلمة الواحدة
(والثانى)
انه يقع عليها طلقه واحدة تبين بها ولا يقع ما بعدها، لانه قد فرق فوقع بالاولة طلقه فبانت بها ولم يقع ما بعدها وقال أكثر اصحابنا هي على قول واحد ولا يقع عليها الا طلقه واحدة.
وما ذكره

(17/130)


في القديم فإنما حكى مذهب مالك.
ووجهه ما روى عن عمر وعلى وابن مسعود وزيد بن ثابت أنهم قالوا يقع عليها طلقة واحدة ولا يقع ما بعدها، ولا مخالف لهم، وقد استدل القائلون بأنه لا يقع من المتعدد إلا واحدة بما وقع في حديث ابن عباس عن ركانة " أنه طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ فقال ثلاثا في مجلس واحد فقال له صلى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة فارتجعها " أخرجه احمد وأبو يعلى وصححه.
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة، منها أن في إسناده محمد بن إسحاق.
ورد بأنهم قد احتجوا في غير واحد من الاحكام بمثل هذا الاسناد.
ومنها معارضته لفتوى ابن عباس، ورد بأن المعتبر روايته لا رأيه.
ومنها أن أبا داود رجع أن ركانة إنما طلق امرأته البتة ويمكن أن يكون من روى ثلاثا حمل البتة على معنى الثلاث، وفيه مخالفة للظاهر واستدلوا بحديث ابن عباس " أن الطلاق كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى آخر الحديث الذى سبق إيراده.
وقد اختلف الناس في تأويله فذهب بعض التابعين إلى ظاهره في حق من لم يدخل بها كما دلت عليه رواية ابى داود، وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق، بأن يقول: انت طالق انت طالق انت
طالق، فإنه يلزمه واحدة إذا قصدت التوكيد، وثلاث إذا قصد تكرير الايقاع فكان الناس فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار ولم يظهر فيهم خب ولا خداع فكانوا يصدقون في إرادة التوكيد.
والقائلون بالفرق بين المدخولة وغيرها أعظم حجة لهم حديث ابن عباس الذى لفظه عند أبى داود " أما علمت أن الرجل كان إذا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جعلوها واحدة " الحديث.
ووجهوا ذلك بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغا العدد لوقوعه بعد البينونة.
ويجاب بأن التقييد بقبل الدخول لا ينافى صدق الرواية الاخرى الصحيحة على المطلقة بعد الدخول، وغاية ما في هذه الرواية أنه وقع فيها التنصيص على بعض أفراد مدلول الرواية الصحيحة المذكورة في الباب، وذلك لا يوجب الاختصاص

(17/131)


بالبعض الذى وقع التنصيص عليه، وأجاب القرطبى عن ذلك التوجيه بأن قوله أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل فكيف يصح جعله كلمتين، وتعطى كل كلمة حكما.
هذا حاصل ما في هذه المسألة، وهكذا أفاده الشوكاني في شرح المنتقى.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال للمدخول بها أنت طالق انت طالق انت طالق، نظرت فإن كان أراد به التأكيد لم يقع أكثر من طلقة، لان التكرار يحتمل التأكيد، وإن أراد الاستئناف وقع بكل لفظة طلقه لانه يحتمل الاستئناف، وان أراد بالثاني التأكيد وبالثالث الاستئناف وقع طلقتان، وإن لم يكن له نية ففيه قولان قال في الاملاء: يقع طلقه، لانه يحتمل التكرار والاستئناف، فلا يقع ما زاد على طلقة بالشك.
وقال في الام يقع الثلاث لان اللفظ الثاني والثالث كاللفظ كالاول، فإذا وقع بالاول طلاق وجب أن يقع بالثاني والثالث مثله، وأما إذا غاير بينها في الحروف بأن قال أنت طالق وطالق ثم طالق ولم يكن له نية وقع بكل لفظه طلقه، لان المغايرة بينها باللفظ تسقط حكم التأكيد، فان ادعى أنه أراد التأكيد لم يقبل في الحكم لانه يخالف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لانه يحتمل ما يدعيه وان قال انت طالق وطالق وطالق وقع بالاول طلقه وبالثانى طلقه لتغاير اللفظين ويرجع في الثالث إليه، لانه لم يغاير بينه وبين الثاني.
فهو كقوله أنت طالق انت طالق.
وان غاير بين الالفاظ ولم يغاير بالحروف بأن قال: انت طالق انت مسرحه أنت مفارقه ففيه وجهان:
(أحدهما)
أن حكمه حكم المغايرة في الحروف، لانه إذا تغير الحكم بالمغايرة بالحروف فلان يتغير بالمغايرة في لفظ الطلاق أولى
(والثانى)
أن حكمه حكم اللفظ الواحد لان الحروف هي العاملة في اللفظ، وبها يعرف الاستئناف، ولم توجد المغايرة في الحروف
(فصل)
وان قال أنت طالق بعض طلقه وقعت طلقه، لان ما لا يتبعض من الطلاق كان تسمية بعضه كتسمية جميعه، كما لو قال بعضك طالق، وان قال

(17/132)


أنت طالق نصفى طلقة وقعت طلقة، لان نصفى طلقة هي طلقة، وإن قال أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يقع طلقتان، لان ثلاثة أنصاف طلقة طلقة ونصف فكمل النصف فصار طلقتين.

(والثانى)
تطلق طلقة لانه أضاف الانصاف الثلاثة إلى طلقة وليس للطلقة إلا نصفان فألغى النصف الثالث.
وإن قال أنت طالق نصفى طلقتين وقعت طلقتان
لانه يقع من كل طلقة نصفها ثم يسرى فيصير طلقتين.
وإن قال انت طالق نصف طلقتين ففيه وجهان
(أحدهما)
تقع طلقة واحدة، لان نصف الطلقتين طلقة
(والثانى)
أنه تقع طلقتان لانه يقتضى النصف من كل واحدة منهما ثم يكمل النصف فيصير الجميع طلقتين.
وان قال أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة طلقت واحدة لانها أجزاء الطلقة.
وإن قال أنت طالق نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة وقع ثلاث طلقات، لان بدخول حروف العطف وقع بكل جزء طلقة وسرى إلى الباقي.
وإن قال أنت نصف طالق طلقت، كما لو قال نصفك طالق.
وان قال أنت نصف طلقة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه كناية فلا يقع به طلاق من غير نيه
(والثانى)
أنه صريح فتقع به طلقة بناء على الوجهين فيمن قال لامرأته: أنت الطلاق.
(الشرح) الاحكام: إذا قال للمدخول بها أنت طالق انت طالق انت طالق فإن نوى بالاولة الثلاث لم يسأل عما بعدها، وان لم ينو الثلاث وقع عليها بها طلقة.
وسئل عن الكلمتين بعدها، فإن قال أردت بهما تأكيد الاولة قبل منه ولم يلزمه الا طلقة لان التأكيد يقع بالتكرار، وان قال أردت بهما الاستئناف لزمه ثلاث طلقات، وان قال أردت بالثانية الاستئناف وبالثالثة تأكيد الثانية لزمه طلقتان.
وان قال أردت بالثانية الاستئناف وبالثالثة التأكيد للاوله ففيه وجهان
(أحدهما)
يقبل كما لو قال: أردت بهما تأكيد الاولة
(والثانى)
لا يقبل لانه قد يخلل بين الاولة والثالثة الثانية

(17/133)


وإن قال لم أنو شيئا ففيه قولان: قال في الاملاء: لا يلزمه الا طلقة لانه لما لم يدخل واو العطف كان الظاهر أنه أراد التأكيد كما لو قال له: على درهم درهم
درهم فلا يلزمه الا درهم، ولانه يحتمل أنه أراد التأكيد والاستئناف فلا يلزمه الطلاق بالشك.
وقال في الام: يلزمه ثلاث طلقات - وهو الاصح - لان الثاني والثالث كالاول في الصيغة فكان مثله في الايقاع.
وان قال أنت طالق ثم سكت طويلا وقال أنت طالق، ثم قال أردت بالثاني تأكيد الاول لم يقبل، لان الظاهر أنه أراد الايقاع وان قال أنت طالق وطالق وطالق ولم ينو بالاولة ما زاد على واحدة وقع بالاولة طلقة وبالثانية طلقه لان الثاني عطف لا يحتمل التأكيد ورجع في الثالثة إليه، فإن قال أردت تأكيد الثانيه قبل منه، وان قال، أردت به الاستئناف لزمه ثلاث طلقات، وان قال: أردت به تأكيد الاولة لم يقبل منه وجها واحد، كما لا يقبل إذا قال أردت بالثانية تأكيد الاولة وان قال لم أنو شيئا ففيه قولان كالاولة، والصحيح أنه يقع بها طلقة ثالثة، وهكذا الحكم فيه إذا قال: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، أو قال أنت طالق فطالق فطالق، أو طالق بل طالق بل طالق، وان قال طالق وطالق ثم طالق، أو طالق فطالق بل طالق لزمه بكل لفظة طلقة، فإن قال أردت التأكيد لم يقبل منه في الحكم، لان المغايرة بينهما بحروف العطف يقتضى الاستئناف، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وان قال أنت مطلقة أنت مفارقة وأنت مسرحة ففيه وجهان
(أحدهما)
حكمه حكم ما لو قال: أنت طالق طالق طالق، لانه لم يأت بحرف عطف، والفراق والسراح كالطلاق
(والثانى)
حكمه حكم ما لو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق، لان الحكم إذا تغير لمغايرة حروف العطف فلان يتغير لمغايرة اللفظ أولى (فرع)
قال الشافعي في الاملاء: إذا قال لامرأته أنت طالق وطالق لا بل
طالق، ثم قال: شككت في الثانية فقلت لا بل طالق استدراكا لايقاعها قبل منه لان " بل " للاستدراك فاحتمل ما قاله

(17/134)


وإن قال أنت طالق يا مطلقة بالاولة طلقة، وان لم ينو بها ما زاد عليها أو سأل عن قوله يا مطلقة - فإن قال أردت به الايقاع لزمه ما نوى.
وان قال: أردت به يا مطلقة بالاولة قبل منه في الحكم.
وان قال: أنت طالق البتة ولم ينو ما زاد على واحدة وقع عليها طلقة، كقوله أنت طالق وسئل عن البتة فإن قال: أردت به ايقاع طلاع آخر لزمه.
وان قال: لم أرد به شيئا قبل منه في الحكم لحديث ركانة بن عبد يزيد (مسألة) قوله: وان قال أنت طالق بعض طلقة وقعت طلقة الخ.
وهذا صحيح وبه قال جميع الفقهاء الا داود فإنه قال لا يقع عليها شئ.
دليلنا قوله تعالى " فإن طلقها فلا تحل له من بعد " الآية.
ولم يفرق بين أن يطلقها طلقة أو بعض طلقة.
ولان التحليل والتحريم إذا اجتمعا غلب التحريم، كما لو تزوج نصف امرأة أو اعتق نصف أمة، ولانه لو طلق بعض امرأته لكان كما لو طلق جميعها كذلك إذا طلق بعض طلقة كان كما لو طلقها طلقة وان قال أنت طالق نصفى طلقة وقعت عليها طلقة، ولان نصفى الطلقة طلقة وان قال ثلاثة أنصاف طلقة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقع عليها الا طلقة، لانه لم يوقع عليها الا طلقة، وانما وصفها بأن لها ثلاثة أنصاف وليس لها الا نصفان
(والثانى)
يقع عليها طلقتان، لان ثلاثة أنصاف طلقة ونصف فيسرى النصف، فعلى قول الاول يتعلق الحكم بقوله طلقة ويلغى قوله ثلاثة أنصاف طلقة.
وعلى قول الثاني يلغى قوله طلقة ويتعلق الحكم بقوله ثلاثة أنصاف طلقة قال صاحب الفروع ويحصل وقوع الثلاث، ووجهه أنه إذا ألغى قوله طلقة
وتعلق الحكم بثلاثة أنصاف سرى كل نصف فوقع عليها ثلاث وان قال: انت طالق نصفى طلقتين وقع عليها طلقتان، لان نصفى طلقتين طلقتان.
وان قال ثلاثة أنصاف طلقتين فعلى وجهين
(أحدهما)
يقع عليها طلقتان
(والثانى)
يقع عليها ثلاث وان قال أنت طالق نصف طلقتين ففيه وجهان
(أحدهما)
يلزمه طلقه لانها نصف طلقتين
(والثانى)
يلزمه طلقتان لانه يلزمه نصف من كل طلقه، ثم يكمل النصفان.

(17/135)


(فرع)
وان قال: أنت طالق نصف طلقه ثلث طلقه سدس طلقه لم يقع عليها الا طلقه أجزاء الطلقه، وان قال أنت طالق نصف طلقه وثلث طلقه وسدس طلقه وقعت ثلاثا لانه عطف جزءا من طلقه على جزء من طلقه فظاهره يقتضى طلقات متغايرة.
قال ابن الصباغ في الشامل: وان قال أنت طالق نصف وثلث وسدس طلقه طلقت طلقه، لان هذه أجزاء طلقه.
وان قال أنت نصف وثلث وسدس طلقت طلقه ويرجع إليه في النصف والثلث والسدس، فإن نوى نصفا من طلقه وثلثا من طلقه وسدسا من طلقه وقع عليها الثلاث، وان لم ينو شيئا فلا شئ عليه وان قال أنت نصف طلقه ففيه وجهان كما لو قال أنت طالق
(أحدهما)
انه صريح فيقع عليها طلقه
(والثانى)
أنه كنايه فلا يقع عليها شئ الا بالنيه.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان كان له أربع نسوة فقال: أوقعت عليكن أو بينكن طلقه طلقت كل واحدة منهن طلقه، لانه يخص كل واحدة منهن ربع طلقه وتكمل
بالسرايه.
وان قال أوقعت عليكن أو بينكن طلقتين أو ثلاثا أو أربعا وقع على كل واحدة طلقه، لانه إذا قسم بينهن لم يزد نصيب كل واحدة منهن على طلقه، وان قال أردت أن يقع على كل واحدة من الطلقتين وقع على كل واحدة طلقتان وان قال أردت أن يقع على كل واحدة من الثلاث الطلقات، وقع على كل واحدة ثلاث طلقات، لانه مقر على نفسه بما فيه تغليظ، واللفظ محتمل له.
وان قال أوقعت عليكن خمسا وقع على كل واحدة طلقتان.
لانه يصيب كل واحدة طلقه وربع، وكذلك ان قال أوقعت عليكن سنا أو سبعا أو ثمانيا.
وان قال أوقعت عليكن تسعا طلقت كل واحدة ثلاثا.
وان قال أوقعت بينكن نصف طلقه وثلث طلقه وسدس طلقه، طلقت كل واحدة ثلاثا، لانه لما عطف وجب أن يقسم كل جزء من ذلك بينهن، ثم يكمل
(فصل)
وان قال أنت طالق ملء الدنيا، أو أنت طالق أطول الطلاق،

(17/136)


أو أعرضه.
وقعت طلقه لان شيئا من ذلك لا يقتضى العدد، وقد تتصف الطلقة الواحدة بذلك كله.

(فصل)
وإن قال أنت طالق أشد الطلاق وأغلظه وقعت طلقه لانه قد تكون الطلقة أشد وأغلظ عليه لنعجلها أو لحبه لها أو لحبها له، فلم يقع ما زاد بالشك.
وان قال أنت طالق كل الطلاق أو أكثره وقع الثلاث لانه كل الطلاق وأكثره.

(فصل)
وإن قال للمدخول بها أنت طالق طلقه بعدها طلقه طلقت طلقتين لان الجميع يصادف الزوجية، وإن قال أردت بعدها طلقة أوقعها لم يقبل في الحكم لان الظاهر انه طلاق ناجز ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لانه يحتمل ما يدعيه.
وإن قال انت طالق طلقة قبلها طلقة وقعت طلقتان، وفى كيفية وقوع
ما قبلها وَجْهَانِ: قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يقع مع التى أوقعها لان أيقاعها فيما قبلها أيقاع طلاق في زمان ماض فلم يعتبر كما لو قال أنت طالق أمس.
وقال ابو إسحاق يقع قبلها اعتبارا بموجب لفظه، كما لو قال أنت طالق قبل موتى بشهر ثم مات بعد شهر، ويخالف قوله انت طالق أمس لانا لو أوقعناه في أمس تقدم الوقوع على الايقاع وههنا يقع الطلاقان بعد الايقاع.
وان قال أردت بقولى قبلها طلقة في نكاح قبله، فإن كان لما قاله أصل قبل منه لانه يحتمل ما يدعيه وإن لم يكن له أصل لم يقبل منه لانه يحتمل ما يدعيه
(فصل)
وإن قال لها: أنت طالق طلقه قبلها طلقه وبعدها طلقه طلقت ثلاثا على ما ذكرناه.
وإن قال لها: أنت طالق طلقه وبعدها طلقه طلقت ثلاثا لانه يقع بقوله أنت طالق طلقه ويقع قبلها نصف طلقه وبعدها نصف طلقه ثم يكمل النصفان فيصير الجميع ثلاثا.
(الشرح) الاحكام: إن قال لاربع نسوة له: أوقعت بينكن طلقه، طلقت كل واحد منهن طلقة، لانه يخص كل واحدة ربع طلقه ويكمل بالسراية وإن قال لهن أوقعت بينكن طلقتين وقع على كل واحدة طلقه.
لان ما يخص كل واحدة لا يزيد على طلقه إلا أن يقول: أردت ان تقسم كل طلقه منهما عليهن

(17/137)


فيقع على كل واحدة طلقتان وإن قال أوقعت بينكن ثلاث طلقات أو أربع طلقات وقع على كل واحدة طلقة إلا أن يريد قسمة كل طلقه منهن فيقع على كل واحدة منهن ثلاث هذا هو المشهور الذى أفاده العمرانى في البيان وابن الصباغ في الشامل والماردي في الحاوى وابن القاص في التلخيص.
وقال صاحب الفروع: ويحتمل أن يقع على كل واحدة ثلاث، لان بعض كل طلقه يكمل في حق كل واحدة منهن
وإن قال أوقعت بينكن خمس طلقات ولم يرد قسمة كل واحدة منهن وقع على كل واحدة طلقتان، لانه يخص كل واحدة طلقه وربع، فيكمل الربع.
وكذلك إذا قال أوقعت بينكن ستا أو سبعا أو ثمانيا.
وإن قال: أوقعت بينكن بتسع طلقات طلقت كل واحدة منهن ثلاثا، لانه يخص كل واحدة طلقتان وربع ويكمل الربع.
وإن قال أوقعت بينكن نصف طلقه وسدس طلقه وقع على كل واحدة ثلاث طلقات.
لانه لما عطف قسم كل جزء بينهن وكمل (مسألة) قوله: وإن قال أنت طالق ملء الدنيا إلخ فهو كما قال، فإنه إذا قال أنت طالق ملء الدنيا أو ملء مكة والمدينة وقعت عليها طلقه، لان الطلاق حكم والاحكام لا تشغل الامكنه، فعلم أنه أراد الدنيا أو مكة ذكرا وانتشارا وشوعا وتكون رجعيه.
وقال أبو حنيفة يقع بائنه دليلنا أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد فكان رجعيا كقوله أنت طالق وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق أو أكثر الطلاق بالثاء المعجمه بثلاث نقط وقعت عليها ثلاث طلقات، لان ذلك كل الطلاق وأكثره.
وان قال أنت طالق أكمل الطلاق أو أتم الطلاق أو أكبر الطلاق بالباء المعجمه الموحدة التحتيه وقعت عليها طلقه سنيه، لان أكمل الطلاق وأتمه طلاق السنه.
وقال صاحب الفروع: ويحتمل أن يقع عليها ثلاث طلقات في قوله: أكمل الطلاق وأتمه، لانه هو الاكمل والاتم، والمشهور هو الاول وتكون رجعيه

(17/138)


وقال ابو حنيفة: تقع في قوله أكثر الطلاق واحدة بائنه، دليلنا عليه ما ذكرناه في قوله: ملء مكة
(مسألة) قوله: وإن قال للمدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقه الخ.
وهذا كما قال.
وكذلك إذا قال للمدخول بها أنت طالق طلقه معها طلقه وقع عليها طلقتان في الحال.
وان قال أنت طالق طلقه بعدها طلقه وقع عليها طلقتان لان الجميع صادف الزوجية.
وإن قال أردت بقولى بعدها طلقه اوقعها فيما بعد لم يقبل في الحكم لانه يريد تأخير طلاق واقع في الظاهر.
ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال ما يدعيه وإن قال أنت طالق طلقه قبلها طلقه.
قال الشافعي وقع عليها طلقتان.
واختلف أصحابنا في كيفية وقوعها، فحكى الشيخ أبو إسحاق هنا في المهذب والمحاملى أن أبا إسحاق المروزى قال.
يقع عليها طلقتان (إحداهما) بقوله أنت طالق والاخرى قبلها بالمباشرة، لان الانسان يملك أن يعلق بالصفة طلاقا فيقع قبل الصفه.
كقوله أنت طالق قبل موتى بشهر ثم يموت بعد شهر.
وحكى الشيخ أبو حامد في التعليق أن أبا إسحاق قال يقع عليها طلقه بالمباشرة بقوله أنت طالق، وطلقه بالاخبار أنه طلقها.
وقال أبو على بن ابى هريرة: يقع عليها طلقتان معا، لانه لا يتقدم الوقوع على الايقاع.
هكذا حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عنه وسائر أصحابنا حكوا عنه انه قال: يقع عليها طلقه بقوله أنت طالق طلقه بعدها.
وقوله قبلها طلقه فعلى ما حكاه الشيخ أبو حامد عن أبى اسحاق المروزى يحكم عليه بوقوع الطلقه التى باشرها ظاهرا وباطنا وان قال: أردت بقولى قبلها طلقه في نكاح كنت نكحتها قبل هذا النكاح وطلقتها فيه، فإن كان لما قاله أصل قبل منه، وان لم يكن له أصل لم يقبل منه ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وان قال أنت طالق طلقه قبلها وبعدها طلقه وقع عليها ثلاث طلقات، لان كل واحدة من النصفين يسرى، وحكى المحاملى من اصحابنا من قال: لا يقع عليها
الا طلقتان.
وليس بشئ

(17/139)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقة لم تقع الثانية لانها بائن بالاولى فلم تقع الثانية.
وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تطلق لان وقوع طلقه قبلها ووقوع طلقه عليها يوجب وقوع ما قبلها يمنع وقوعها فتمانعا بالدور وسقطا
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنها تطلق طلقه ليس قبلها شئ، لان وقوع ما قبلها يوجب إسقاطها وإسقاط ما قبلها فوجب إثباتها وإسقاط ما قبلها.
وان قال أنت طالق طلقه معها طلقه، ففيه وجهان
(أحدهما)
انها تطلق واحدة، وهو قول المزني لانه أفردها فجاز، كما لو قال أنت طالق واحدة بعدها واحدة.
والوجه الثاني: أنها تطلق طلقتين لانهما يجتمعان في الوقوع فلا تتقدم إحداهما على الاخرى، فهو كما لو قال: أنت طالق طلقتين.
وان قال أنت طالق طلقتين ونصفا طلقت طلقتين، لانه جمع بين الطلقتين في الايقاع فبانت بهما ثم أوقع النصف بعدما بانت فلم يقع
(فصل)
إذا قال لامرأته أنت طالق طلقه لا تقع عليك طلقت لانه أوقع الطلاق ثم أراد رفعه، والطلاق إذا وقع لم يرتفع.
وان قال أنت طالق أولا لم تطلق لانه ليس بإيقاع (الشرح) الاحكام: إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقه وقعت الاولة وبانت بها ولم تقع الثانية.
وان قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو إسحاق
(أحدهما)
لا يقع عليها الطلاق لان وقوع
طلقة قبلها يقع وقوعها.
وما أدى ثبوته لسقوطه سقط
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يقع عليها طلقه ليس قبلها شئ، لان وقوع ما قبلها يوجب اسقاطها، ووقوعها يوجب اسقاط ما قبلها فوجب اثباتها واسقاط ما قبلها وسببه أن يكون الاول انما هو على ما حكاه المصنف عن أبى اسحاق المروزى في المدخول بها.

(17/140)


فأما على ما حكاه في التعليق عنه أنه إخبار، فإنه يقع عليها الطلقة التى أخبر بوقوعها أولا لا غير.
وان قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة معها طلقه ففيه وجهان:
(أحدهما)
يقع عليها طلقة لا غير، لانه أفردها فبانت بها ولم يقع ما بعدها كما لو قال طلقة بعدها طلقة
(والثانى)
يقع عليها طلقتان لانهما يجتمعان في الوقوع، وإن قال لها أنت طالق طلقتين ونصفا وقع عليها طلقتان لا غير، لانه جمع بينهما فوقعتا وبانت بهما فلم يقع ما بعدهما.
(مسألة) قوله: وإذا قال لامرأته أنت طالق طلقه لا تقع عليك طلقت الخ فهذا صحيح إذا قال لامرأته أنت طالق طلقه لا تقع عليك وقع عليها طلقه لانه رفع لجميع ما أوقعه وذلك لا يصح.
وإن قال لها أنت طالق طلقه لا طلقتين عليك إحداهما، وقعت عليها واحدة لان ذلك استثناء.
وان قال لها أنت طالق طلقه لا قال ابو العباس بن سريج وقعت عليها طلقه، لان ذلك رفع لها فلم ترتفع.
وان قال لها أنت طالق طلقتين لا طلقه، فعلى قياس الاولة لا يقع عليها إلا طلقه، وان قال لها أنت طالق أو لا لم يقع عليها طلاق، لان ذلك استفهام لا طلاق.
وان قال لها أنت طالق واحدة أو لا شئ - قال ابن الصباغ فالذي يقتضيه قياس
قوله أن لا يقع شئ.
وبذلك قال أبو حنيفة وابو يوسف واحمد.
وقال محمد: تقع واحدة، والاول أصح، لان الواحدة صفة للفظة الموقعة فما اتصل بها يرجع إليها، فصار كقوله أنت طالق أو لا شئ.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويصح الاستثناء في الطلاق لانه لغة العرب، ونزل به القرآن وحروفه: الا.
وغير.
وسوى.
وخلا.
وعدا، وحاشا.
فإذا قال أنت طالق ثلاثا الا طلقه، وقعت طلقتان.
وان قال أنت طالق ثلاثا الا طلقتين وقعت طلقه، وان قال أنت طالق ثلاثا الا ثلاثا طلقت ثلاثا، لان الاستثناء يرفع المستثنى منه فيسقط وبقى الثلاث

(17/141)


وان قال أنت طالق ثلاثا الا طلقتين وطلقه ففيه وجهان أحدهما يقع الثلاث لانه استثنى ثلاثا من ثلاث
(والثانى)
تقع طلقه لان الاستثناء الثاني هو الباطل فسقط وبقى الاستثناء الاول.
وان قال أنت طالق ثلاثا الا نصف طلقه، طلقت ثلاثا لانه يبقى طلقتان ونصف ثم يسرى النصف إلى الباقي فيصير ثلاثا.
وان قال أنت طالق ثلاثا الا طلقة وطلقه وقعت طلقه.
لان المعطوف على الاستثناء مضموم إلى الاستثناء، ولهذا إذا قال: له على مائه الا خمسة وعشرين ضمت الخمسة إلى العشرين في الاستثناء ولزمه ما بقى.
وان قال أنت طالق طلقه وطلقه الا طلقه ففيه وجهان
(أحدهما)
تطلق طلقه لان الواو في الاسمين المنفردين كالثنيه فيصير كما لو قال أنت طالق طلقتين الا طلقه
(والثانى)
وهو المنصوص انها تطلق طلقتين لان الاستثناء يرجع إلى ما يليه وهو طلقه، واستثناء طلقه من طلقه باطل فسقط وبقى طلقتان، وان قدم
الاستثناء على المستثنى منه بأن قال أنت الا واحدة طالق ثلاثا، فقد قال بعض أصحابنا انه لا يصح الاستثناء فيقع الثلاث، لان الاستثناء جعل لاستدراك ما تقدم من كلامه، ويحتمل عندي انه يصح الاستثناء فيقع طلقتان، لان التقديم والتأخير في ذلك لغة العرب قال الفرزدق يمدح هشام بن ابراهيم بن المغيرة خال هشام بن عبد الملك: وما مثله في الناس الا مملكا
* أبو أمه حى أبوه يقاربه تقديره وما مثله في الناس حى يقاربه الا مملكا أبو أمه أبو الممدوح (الشرح) بيت الفرزدق الذى ساقه المصنف من قصيدة من الطويل يمدح بها ابراهيم بن هشام بن اسماعيل المخزومى خال هشام بن عبد الملك بن مروان، ويستعمل هذا البيت عند البلاغيين شاهدا في أساليب التعقيد، وهو أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد، اما لخلل في نظم الكلام فلا يتوصل منه إلى معناه، أو لانتقال الذهن من المعنى الاول إلى المعنى الثاني الذى هو لازمه، والمراد به ظاهرا، والاول هو الشاهد في البيت.
والمعنى فيه: وما مثله يعنى

(17/142)


الممدوح في الناس حى يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا، أي ملكا.
يعنى هشاما، أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه، أي ابو الممدوح، فالضمير في أمه للملك وفى أبوه للممدوح، ففصل بين ابو أمه وهو مبتدأ وأبوه وهو خبره بأجنبى وهو حى، وكذا فصل بين حى ويقاربه وهو نعته، بأجنبى وهو ابوه، وقدم المستثنى على المستثنى منه.
فهو كما تراه في غاية التعقيد، وكان من حق الناظم أن يقول وما مثله في الناس أحد يقاربه إلا مملك ابو أمه أبوه أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال انت طالق ثلاثا الا اثنتين فهى واحدة، وجملة ذلك أن الاستثناء جائز في الجملة لان القرآن ورد به
قال الله تعالى " فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين عاما " والاستثناء ضد المستثنى منه، فان استثنى من اثبات كان المستثنى نفيا.
وان استثنى من نفى كان المستثنى اثباتا، وسواء استثنى أقل العدد أو أكثر فإنه يصح وقال بعض اهل اللغة: لا يصح استثناء أكثر العدد، وبه قال احمد.
دليلنا قوله تعالى حاكيا عن إبليس " لاغوينهم أجمعين، الا عبادك منهم المخلصين " ثم قال " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين " فاستثنى العباد من الغاوين، واستثنى الغاوين من العباد، وأيهما كان أكثر فقد استثنى من الآخر، ولا يصح أن يستثنى جميع العدد، لانه غير مستعمل في الشرع، ولا في اللغة.
إذا ثبت هذا فقال لامرأته أنت طالق ثلاثا الا اثنتين طلقت واحدة، لانه أثبت ثلاثا ثم نفى منها اثنتين فبقيت واحدة.
وان قال: أنت طالق ثلاثا الا واحدة طلقت اثنتين وان قال أنت طالق ثلاثا الا اثنتين وواحدة، أو انت طالق ثلاثا الا واحدة وواحدة وواحدة.
ففيه وجهان (احدهما) يقع عليها الثلاث.
وبه قال ابو حنيفة لانه استثناء من ثلاث
(والثانى)
يقع عليها واحدة.
وبه قال ابو يوسف ومحمد، لانه لو لم يعطف بالواحدة لصح فكان العطف بها هو الباطل فسقط

(17/143)


وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا نصف طلقة طلقت ثلاثا، ومن أصحابنا من قال: يقع عليها طلقتان لانه لا يؤدى إلى استثناء صحيح، وليس بشئ، لانه لا يبطل الاستثناء: وإنما بقى طلقتان ونصف فسرى النصف وإن قال لها: أنت طالق طلقتين ونصفا إلا واحدة وقع عليها ثلاث طلقات، واختلف
أصحابنا فيه، فقال ابن الحداد: لان النصف يسرى واحدة، واستثناء واحدة من واحدة لا يصح.
وقال القاضى أبو الطيب: لانه استثناء واحدة من نصف، لان الاعتبار بالمنطوق به في العدد لا ينافى الشرع، وان قال: أنت طالق طلقه وطلقة الا طلقة ففيه وجهان، حكاهما المصنف.

(أحدهما)
تطلق طلقة، لان الواو في الاسمين المنفردين كالتثنية، فصار كما لو قال: أنت طالق طلقتين الا طلقة.

(والثانى)
وهو المنصوص في الام: أنها تطلق طلقتين لان الاستثناء يرجع إلى ما يليه وهو طلقة: واستثناء طلقة من طلقة لا يصح.
قال الشيخ أبو حامد وان قال: أنت طالق ثم طالق بل طالق الا طلقة، أو أنت طالق فطالق ثم طالق الا طلقة، أو أنت طالق وطالق وطالق الا طلقة وقع عليها في هذه المسائل ثلاث طلقات، لانه إذا غاير بين الالفاظ وقع بكل لفظ طلقة واستثناء طلقة من طلقة لا يصح.
وان قال: أنت طالق خمسا الا ثلاثا ففيه وجهان.

(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وأبى على الطبري: أنه يقع عليها ثلاث، لان الاستثناء يرجع إلى ما يملك من الطلقات، والذى يملك هو الثلاث فلم يقع من الخمس الا ثلاث، واستثناء ثلاث من ثلاث لا يصح.
وقال أكثر أصحابنا: انه يقع عليها طلقتان، لان الاستثناء يرجع في العدد المنوطوق به، ويكون بالمستثنى منه مع الاستثناء مما بقى، فإذا استثنى ثلاثا من خمس بقى طلقتان.
وقد نص الشافعي في البويطى على أنه إذا قال: أنت طالق ستا الا أربعا وقع عليها طلقتان، وهذا يرد قول أبى على، وان قال لها: أنت طالق خمسا الا اثنتين وقع عليها طلقة الا على قول أبى على وعلى قول سائر أصحابنا

(17/144)


يقع عليها الثلاث، لان الاستثناء جعل لاستدراك ما تقدم، فلا يتقدم على المستثنى منه.
وقال الشيخ أبو إسحاق: تقع عليها طلقتان، لان الاستثناء يجوز أن يتقدم على المستثنى منه.
قال الشاعر: وما لى إلا آل أحمد شيعة
* ومالى إلا مشعب الحق مشعب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويصح الاستثناء من الاستثناء لقوله عز وجل " إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط لمنجوهم أجمعين إلا امرأته " فاستثنى آل لوط من المجرمين واستثنى من آل لوط امرأته.
وإذا قال أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين إلا طلقة طلقت طلقتين لان تقديره أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين فلا يقعان إلا طلقة فتقع.
وإن قال أنت طالق خمسا إلا ثلاثا ففيه وجهان
(أحدهما)
أنها تطلق ثلاثا لانه لا يقع من الخمس إلا ثلاث، فصار كما لو قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا
(والثانى)
أنها تطلق طلقتين، لانه لما وصل بالاستثناء علم أنه قصد الحساب.
وإن قال أنت طالق خمسا إلا اثنتين، طلقت على الوجه الاول طلقه، وعلى الوجه الثاني تطلق ثلاثا.
وإن قال أنت طالق ثلاثا الا ثلاثا الا اثنتين، ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يقع الثلاث لان الاستثناء الاول يرفع المستثنى منه فيبطل، والاستثناء الثاني فرع عليه فسقط وبقى الثلاث
(والثانى)
تطلق طلقتين لانه لما وصله بالاستثناء صار كأنه أثبت ثلاثا ونفى ثلاثا أثبت اثنتين (والثالث) تقع طلقه لان الاستثناء الاول لا يصح فسقط وبقى الاستثناء الثاني فيصير كما لو قال أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين (الشرح) هذا الفصل يمكن أن تشد يدك في مسائله بما ذكرناه في شرح الفصل قبله، ونزيدك من مسائله أحكاما فنقول وبالله التوفيق: يصح الاستثناء
من الاستثناء لقوله تعالى " انا أرسلنا إلى قوم مجرمين، الا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين الا امرأته " فإذا قال أنت طالق ثلاثا الا اثنتين الا واحدة طلقت

(17/145)


طلقتين لانه أثبت ثلاثا ثم نفى اثنتين فبقيت واحدة، ثم أثبت من الطلقات الثلاث نفى واحدة فصار مثبتا لاثنتين فوقعتا وإن قال أنت طالق ثلاثا الا ثلاثا الا اثنتين ففيه ثلاثة أوجه
(أحدهما)
يقع عليه ثلاث طلقات لان الاستثناء الاول باطل فسقط والثانى عائد إليه وتابع له فسقطا
(والثانى)
من الاوجه الثلاثة يقع عليها طلقه، لان الاستثناء الاول باطل فسقط وبقى الثاني، فكان عائدا إلى الاثبات، فكأنه قال: ثلاثا الا طلقين (والثالث) يقع عليها طلقتان، لان استثناء الثلاث من الثلاث إنما لا يصح إذا اقتصر عليه، فأما إذا أثبته استثناء آخر بنى عليه فكأنه أثبت ثلاثا ونفى ثلاثا، ثم أثبت اثنتين فوقعتا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال أنت طالق ثلاثا الا أن يشاء أبوك واحدة.
وقال أبوها شئت واحدة، لم تطلق، لان الاستثناء من الاثبات نفى، فيصير تقديره أنت طالق ثلاثا الا أن يشاء أبوك واحدة، فلا يقع طلاق
(فصل)
وإن قال امرأتي طالق أو عبدى حر، أو لله على كذا، أو والله لافعلن كذا إن شاء الله، أو بمشيئة الله، أو ما لم يشأ الله، لم يصح شئ من ذلك لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ حلف على يمين ثم قال ان شاء الله كان له ثنيا " وروى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: من حلف فقال ان شاء الله لم يحنث " ولانه علق هذه الاشياء على مشيئة الله تعالى، ومشيئته لا تعلم، فلم يلزم بالشك
شئ.
وان قال أنت طالق الا أن يشاء الله ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تطلق لانه مقيد بمشيئة الله تعالى، فأشبه إذا قال أنت طالق ان شاء الله
(والثانى)
وهو المذهب انها تطلق لانه أوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة الله تعالى، ومشيئة الله لا تعلم فسقط حكم رفعه وبقى حكم ثبوته، ويخالف إذا قال: أنت طالق ان شاء الله، فإنه علق الوقوع على مشيئة الله تعالى

(17/146)


(فصل)
ولا يصح الاستثناء في جميع ما ذكرناه الا أن يكون متصلا بالكلام، فإن انفصل عن الكلام من غير عذر لم يصح لان العرف في الاستثناء أن يتصل بالكلام، فإن انفصل لضيق النفس صح الاستثناء لانه كالمتصل في العرف ولا يصح الا أن يقصد إليه، فأما إذا كانت عادته في كلامه أن يقول: ان شاء الله، فقال ان شاء الله على عادته لم يكن استثناء، لانه لم يقصده، واختلف أصحابنا في وقت نية الاستثناء فمنهم من قال: لا يصح الا أن يكون ينوى ذلك من ابتداء الكلام، ومنهم من قال إذا نوى قبل الفراغ من الكلام جاز.

(فصل)
إذا قال: يا زانية أنت طالق ان شاء الله، أو أنت طالق يا زانية ان شاء الله رجع الاستثناء إلى الطلاق، ولا يرجع إلى قوله يا زانية لان الطلاق ايقاع فجاز تعليقه بالمشيئة، وقوله يا زانية صفة فلا يصح تعليقها بالمشيئة، ولهذا يصح أن يقول أنت طالق ان شاء الله ولا يصح أن يقول أنت زانية ان شاء الله وان كانت له امرأتان حفصة وعمرة، فقال حفصة وعمرة طالقان انشاء الله لم تطلق واحدة منهما، وان قال حفصة طالق وعمرة طالق ان شاء الله فقد قال بعض أصحابنا تطلق حفصة ولا تطلق عمرة، لان الاستثناء يرجع إلى ما يليه وهو طلاق عمرة، ويحتمل عندي أن لا تطلق واحدة منهما، لان المجموع بالواو كالجملة الواحدة.

(فصل)
وان طلق بلسانه واستثنى بقلبه نظرت فإن قال أنت طالق ونوى بقلبه ان شاء الله لم يصح الاستثناء ولم يقبل في الحكم ولا يدين فيه، لان اللفظ أقوى من النية لان اللفظ يقع به الطلاق من غير نية، والنية لا يقع بها الطلاق من غير لفظ، فلو أعملنا النية لرفعنا القوى بالضعيف، وذلك لا يجوز، كنسخ الكتاب بالسنة وترك النص بالقياس.
وان قال نسائى طوالق واسستثنى بالنية بعضهن دين فيه لانه لا يسقط اللفظ بل يستعمله في بعض ما يقتضيه بعمومه، وذلك يحتمل فدين فيه، ولا يقبل في الحكم.
وقال أبو حفص الباب بشامي: يقبل في الحكم لان اللفظ يحتمل العموم والخصوص، وهذا غير صحيح لانه وان احتمل الخصوص الا أن الظاهر العموم فلا يقبل في الحكم دعوى الخصوص، فإن قال امرأتي طالق ثلاثا واستثنى بقلبه

(17/147)


الا طلقه أو طلقتين لم يقبل في الحكم لانه يدعى خلاف ما يقتضيه اللفظ.
وهل يدين؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يدين لانه لا يسقط حكم اللفظ، وانما يخرج بعض ما يقتضيه فدين فيه، كما لو قال نسائى طوالق واستثنى بالنيه بعضهن
(والثانى)
لا يدين وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله، لانه يسقط ما يقتضيه اللفظ بصريحه بما دونه من النية، وان قال لاربع نسوة: أربعكن طالق واستثنى بعضهن بالنيه لم يقبل في الحكم، وهل يدين؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يدين
(والثانى)
لا يدين ووجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها (الشرح) حديث ابن عمر أخرجه مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ.
ورجاله عندهم رجال الصحيح، ولفظه عند أكثرهم " من حلف على يمين فقال ان شاء الله فلا حنث عليه " ولفظ " كان له ثنيا " سيأتي في رواية أبى هريرة.
أما حديث أبى هريرة فقد أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال " فله ثنياه " والنسائي وقال " فقد استثنى " وأخرجه أيضا ابن حبان وهو من حديث عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة.
قال البخاري: أخطأ فيه عبد الرزاق واختصره عن معمر من حديث " أن سليمان بن داود عليه السلام قال لاطوفن الليله على سبعين امرأة الخ الحديث وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قال ان شاء الله لم يحنث " رواه الترمذي عن البخاري.
وللحديث طرق رواها الشافعي وأحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر.
قال الترمذي لا نعلم أحدا رفعه غير أيوب السختيانى.
وقال ابن عليه كان أيوب تارة يرفعه وتارة لا يرفعه.
قال ورواه مالك وعبيد الله بن عمر وغير واحد موقوفا.
قال الحافظ بن حجر: هو في الموطأ كما قال البيهقى.
وقال لا يصح رفعه الا عن أيوب مع أنه شك فيه وتابعه على لفظه العمرى عبد الله وموسى بن عقبه وكثير ابن فرقد وأيوب بن موسى، وقد صححه ابن حببان وقد وردت معنى هذين الحديثين عن عكرمه عن ابن عباس عند أبى داود من فعله صلى الله عليه وسلم " أنه صلى الله عليه وسلم قال: والله لاغزون قريشا، ثم قال ان شاء الله، ثم قال والله لاغزون قريشا، ثم قال ان شاء الله، ثم قال والله لاغزون قريشا ثم سكت ثم قال

(17/148)


ان شاء الله، ثم لم يغزهم.
قال أبو داود: وقد أسنده غير واحد عن عكرمة عن ابن عباس، وقد رواه البيهقى موصولا ومرسلا.
قال ابن أبى حاتم في العلل: الاشبه الارسال، وقال ابن حبان في الضعفاء: رواه مسعر، وشريك أرسله مرة ووصله أخرى.
أما الاحكام: فإنه إذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا أن يشاء أبوك واحدة فقال أبوها: شئت واحدة لم يقع عليها طلاق، لانه أوقع الطلاق بشرط أن
يشاء أبوها واحدة، فإذا شاء أبوها واحدة لم يوجد الشرط فلم يقع الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إلا أن تدخلي الدار أو إن لم تدخلي الدار، فدخلت الدار فإنها لا تطلق.
قال العمرانى: ولا أعلم نصا في اعتبار وقت المشيئة، والذى يقتضى القياس أن المشيئة تعتبر أن تكون عقيب إيقاع الزوج، كما لو علق إيقاع الطلاق على مشيئة الاب.
(مسأله) قوله: وان قال إمرأتى طالق الخ، فهذا كما قال، إذ لو قال لامرأته أنت طالق ان شاء الله.
أو قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ أو على كذا وكذا أو والله لافعلن كذا أو على لفلان كذا ان شاء الله، لم يلزمه شئ من ذلك، وبه قال طاوس والحكم وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك والليث: يدخل الاستثناء في الايمان دون الطلاق والعتق والنذر والاقرار، وقال الاوزاعي وابن أبى ليلى: يدخل الاستثناء في اليمين والطلاق دون غيره، وقال أحمد: يدخل الاستثناء في الطلاق دون العتق.
دليلنا حديث ابن عمر حيث لم يفرق بين أن يحلف بالله أو يحلف بالطلاق، ولانه علق الطلاق بمشيئة من له مشيئه فلم تقع قبل العلم بمشيئته كما لو علق بمشيئة زيد، وفى كتاب الايمان مزيد ان شاء الله.
فإذا ثبت هذا: فقال لامرأته: أنت طالق ان شاء الله أو إذا شاء الله أو متى شاء الله أو بمشيئة الله لم يقع الطلاق لانه علق وقوع الطلاق بمشيئة الله، ومشيئته بذلك لا تعلم، فإن قال: أنت طالق ان لم يشأ الله أو ما لم يشأ الله لم يقع الطلاق، لانه لا نعلم أنه لم يشأ، كما لا يعلم أنه شاء.
وحكى صاحب الفروع وجها آخر أنه يقع عليها الطلاق، وانما علق دفعه

(17/149)


بمشيئة الله ونحن لا نعلمها، والمشهور هو الاول وان قال: أنت طالق الا أن
يشاء الله ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يقع عليها الطلاق، لانه علق الطلاق بمشئية الله فلم يقع، كما لو قال: ان شاء الله.

(والثانى)
وهو المذهب: أنه يقع الطلاق، لانه أوقع الطلاق، وانما علق رفعه بمشيئة الله، ومشيئة الله لا تعلم فثبت الايقاع وبطل الرفع.
(فرع)
ولا يصح الاستثناء الا ان كان متصلا بالكلام لان هذا هو العرف في الاستثناء، فان انفصل لضيق نفس كان كالمتصل لان انفصاله لعذر، ولا يصح الا ان قصد بالنيه، والتقييد بمشيئة الله مانع من الوقوع، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور، وادعى عليه ابن العربي الاجماع قال: أجمع المسلمون على أن قوله: ان شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا، قال: ولو جاز منفصلا كما روى بعض السلف لم يحنث أحد قط في يمين ولم يحتج إلى كفارة، قال: واختلفوا في الاتصال، فقال مالك والاوزاعي والشافعي والجمهور: هو أن يكون قوله: ان شاء الله متصلا باليمين من غير سكوت بينهما ولا يضر سكتة النفس.
وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم.
وقال عطاء: قدر حلبة ناقه.
وقال سعيد بن جبير: يصح بعد أربعة أشهر، وعن ابن عباس: له الاستثناء أبدا، ولا فرق بين الحلف بالطلاق والحلف بالله أو الحلف بالعتاق، واستثنى أحمد رضى الله عنه العتاق قال: لحديث " إذا قال: أنت طالق ان شاء الله لم تطلق، وان قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فإنه حر " وقد تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول كما قال البيهقى، وذهب الهادويه إلى أن التقييد بالمشيئة يعتبر فيه مشيئة الله في تلك الحال باعتبار ما يظهر من الشريعة، فإن كان ذلك الامر الذى حلف على تركه وقيد الحلف بالمشيئة محبوبا لله فعله لم يحنث بالفعل، وان كان محبوبا لله تركه لم
يحنث بالترك، فإذا قال: والله ليتصدقن ان شاء الله حنث بترك الصدقة، لان الله يشاء التصدق في الحال، وان حلف ليقطعن رحمه ان شاء الله لم يحنث بترك القطع لان الله تعالى يشاء ذلك الترك.

(17/150)


قوله: وإن طلق بلسانه واستثنى بقلبه الخ.
وهذا يدل بمفهومه على أنه إذا استثنى بلسانه صح ولم يقع ما استثناه بقلبه، وهو قول جماعة أهل العلم.
وقال الخرقى من الحنابله " إذا طلقها بلسانه واستثنى شيئا بقلبه وقع الطلاق ولم ينفعه الاستثناء.
وجملة ذلك أن ما يتصل باللفظ من قرينة أو استثناء منه مالا يصح نطقا ولا نية، مثل أن يرفع حكم اللفظ كله، وهذا قد مضى بيانه.
ومنها ما يقبل لفظا ولا يقبل نية في الحكم، وهل يقبل فيما بينه وبين الله تعالى؟ وجهان
(أحدهما)
لا يقبل فيما بينه وبين الله تعالى، وبه قال أحمد وأكثر أصحاب الشافعي.
وهذا استثناء الاقل، فإنه لا يصح إلا لفظا لانه من لسان العرب، ولا يصح بالنية لان العدد نص فيما تناوله لا يحتمل غيره، فلا يرتفع بالنية ما ثبت بنص اللفظ، فإن اللفظ أقوى من النية، فلو نوى بالثلاث اثنتين كان مستعملا للفظ في غير ما يصلح له فوقع مقتضى اللفظ ولغت نيته وقال بعض أصحابنا: انه يقبل فيما بينه وبين الله تعالى، كما لو قال: نسائى طوالق واستثنى بقلبه الا فلانة، والفرق بينهما أن نسائى اسم عام يجوز التعبير به عن بعض ما وضع له، وقد استعمل العموم بإزاء الخصوص كثيرا.
فإذا أراد به البعض صح.
وقوله " ثلاثا " اسم عدد للثلاث لا يجوز التعبير به عن عدد غيرها، ولا يحتمل سواها بوجه من الوجوه، فإذا أراد بذلك اثنتين فقد أراد باللفظ ما لا يحتمله.
وإنما تعمل النية في صرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته.
فأما ما لا يحتمل فلا، فإنا لو عملنا به فيما لا يحتمل كان عملا بمجرد النية، ومجرد النية لا يعمل في نكاح ولا طلاق ولا بيع.
ولو قال: نسائى الاربع طوالق، أو قال لهن: أربعتكن طوالق، واستثنى بعضهن بالنية لم يقبل على قياس ما ذكرناه، ولا يدين فيه، لانه عنى باللفظ مالا يحتمل.
ومنها ما يصح نطقا إذا نواه دين فيما بينه وبين الله تعالى، مثل تخصيص اللفظ العام أو استعمال اللفظ في مجازه مثل قوله: نسائى طوالق، يريد بعضهن

(17/151)


أو ينوى بقوله طالق، أي من وثاق، فهذا يقبل كما قررنا من قبل إذا كان لفظا وجها واحد لانه وصل كلامه بما بين مراده وإن كان بنيته قبل فيما بينه وبين الله تعالى لانه أراد تخصيص اللفظ العام واستعماله في الخصوص.
وهذا سائغ في الكلام فلا يمنع من استعماله والتكلم به، ويكون اللفظ بنيته منصرفا إلى ما أراده دون ما لم يرده، وهل يقبل ذلك في الحكم.
مذهبنا أنه لا يقبل في الحكم لانه خلاف الظاهر.
ومن شرط هذا أن تكون النية مقارنة للفظ.
وهو أن يقول: نسائى طوالق، يقصد بهذا اللفظ بعضهن، فأما ان كانت النية متأخرة عن اللفظ فقال نسائى طوالق ثم بعد فراغه نوى بقلبه بعضهن لم تنفعه النية ووقع الطلاق بجميعهن، وكذلك لو طلق نساءه ونوى بعد طلاقهن أي من وثاق لزمه الطلاق لانه مقتضى اللفظ.
والقاعدة في ذلك كله (أولا) ارادة الخاص بالعام شائع في اللغة ومستساغ (ثانيا) ارادة الشرط من غير ذكره غير سائغ فهو كالاستثناء.
واللفظ العام الذى لم يرد به غير مقتضاه وجب العمل بعمومه، والعمل بعموم اللفظ أولى من خصوص السبب، لان دليل الحكم هو اللفظ، فيجب اتباعه والعمل بمقتضاه
في خصوصه وعمومه، ولذلك لو كان أخص من السبب لوجب قصره على خصوصه واتباع صفة اللفظ دون صفة السبب.
والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله:

باب الشرط في الطلاق

إذا علق الطلاق بشرط لا يستحيل كدخول الدار ومجئ الشهر تعلق به.
فإذا وجد الشرط وقع، وإذا لم يوجد لم يقع.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " المؤمنون عند شروطهم " ولان الطلاق كالعتق لان لكل واحدة منهما قوة وسراية.
ثم العتق إذا علق على شرط وقع بوجوده ولم يقع قبل وجوده فكذلك الطلاق.
فإن علق الطلاق على شرط ثم قال: عجلت ما كنت علقت على الشرط لم تطلق في الحال لانه تعلق بالشرط ولا يتغير.
وإذا وجد الشرط طلقت.

(17/152)


وإن قال أنت طالق ثم قال: أردت إذا دخلت الدار، أو إذا جاء رأس الشهر لم يقبل في الحكم، لانه يدعى خلاف ما يقتضيه اللفظ بظاهره.
ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يدعى صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله فدين فيه كما لو قال أنت طاق وادعى انه أراد طلاقا من وثاق فإن قال أنت طالق ان دخلت الدار وقال أردت الطلاق في الحال.
ولكن سبق لساني إلى الشرط لزمه الطلاق في الحال، لانه أقر على نفسه بما يوجب التغليظ من غير تهمة.

(فصل)
والالفاظ التى تستعمل في الشرط في الطلاق: من.
وان.
وإذا ومتى.
واى وقت.
وكلما.
وليس في هذه الالفاظ ما يقتضى التكرار الا قوله كلما فإنه يقتضى التكرار.
فإذا قال من دخلت الدار فهى طالق، أو قال لامرأته ان دخلت الدار أو إذا دخلت الدار، أو متى دخلت الدار أو أي وقت دخلت الدار فأنت طالق، فوجد الدخول وقع الطلاق.
وإن تكرر الدخول لم يتكرر
الطلاق لان اللفظ لا يقتضى التكرار.
وإن قال كلما دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت طلقت.
وان تكرر الدخول تكرر الطلاق لان اللفظ يقتضى التكرار (الشرح) حديث " المؤمنون عند شروطهم " مضى تخريجه في غير موضع من المجموع وتكملتيه أما الاحكام فإنه إذا علق طلاق امرأته بشرط غير مستحيل لم يقع الطلاق قبل وجود الشرط.
سواء كان الشرط يوجد لا محالة، كقوله إذا طلعت الشمس فأنت طالق، أو كان الشرط قد يوجد وقد لا يوجد.
كقوله إذا قدم القطار من الاسكندرية فأنت طالق، هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وقال الزهري وابن المسيب والحسن البصري ومالك: إذا علق الطلاق بشرط يوجد لا محالة كمجئ الليل والنهار والشمس والقمر وما أشبههما وقع عليها الطلاق في الحال قبل وجود الشرط.
دليلنا قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " ولانه علق على شرط غير مستحيل فلم يقع الطلاق قبل وقوع الشرط، كما لو علقه على قدوم

(17/153)


القطار.
وقولنا " على شرط غير مستحيل " احتراز مما إذا علقه على صعود السماء بدون طائرة أو أجهزة للصعود كالصواريخ والاقمار الصناعية وما إليها من وسائل معروفة في عصرنا هذا، وكذلك احتراز مما إذا علقه على شرب جميع البحر وإن علق طلاقها على شرط ثم قال قبل وجود الشرط: عجلت ما كنت علقت على الشرط، لم تطلق في الحال، لانه تعلق بالشرط فلا يتعجل بلفظ التعجيل كالدين المؤجل.
وإن قال أنت طالق ثم قال: أردت إذا دخلت الدار لم يقبل في الحكم لانه
يدعى خلاف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لانه يحتمل ما يدعيه.
وان قال أنت طالق ان دخلت الدار، ثم قال: أردت به الطلاق في الحال وانما سبق لسان إلى الشرط قبل قوله لان في ذلك تغليظا عليه قوله " من وان وإذا ومتى وأى وقت وكلما " ومن هذه تستعمل للشرط وللصلة وان للشرط وللنفي وتأتى زائدة ومخففة من ان " وان نظنك لمن الكاذبين " و " إذا " تأتى للشرط وللمفاجأة، ولربط الجواب بالشرط نحو " وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون " والاشهر أنها ظروف و " متى " للزمان، ومثلهان أيان نحوا لا فقها و " كلما " تقتضي التكرار لجواب شرطها ولا ينبغى جواب الشرط كما يفعل أكثر أهل هذا الزمان من المتعالمين فإنه يكثر في استعمالهم تكرار كلما في الجملة، فيقولون مثلا: كلما استقمت، كلما رضى الله عنك " وهو خطأ فادح، أو كلما أسأت إلى كلما ازددت حلما.
فكلما الثانية في الجملة مقحمة بغير مسوغ.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كانت له امرأة لا سنة في طلاقها ولا بدعة، وهى الصغيرة التى لم تحض أو الكبيرة التى يئست من الحيض أو الحامل أو التى لم يدخل بها، فقال لها أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة، طلقت لوجود الصفة.
وان قال أنت طالق للسنة أو للبدعة، أو أنت طالق للسنة والبدعة، طلقت لانه وصفها صفة لا تتصف بها، فلغت الصفة وبقى الطلاق فوقع، فإن قال للصغيرة أو الحامل

(17/154)


أو التى لم يدخل بها أنت طالق للسنة أو أنت طالق للبدعه، وقال أردت به إذا صارت من أهل سنة الطلاق أو بدعته طلقت في الحال، ولم يقبل ما يدعيه في الحكم، لان اللفظ يقتضى طلاقا ناجزا ويدين فيما بينه وبين الله عزوجل، لانه
يحتمل ما يدعيه.
وان كانت له امرأة لها سنة وبدعة في الطلاق وهى المدخول بها إذا كانت من ذوات الاقراء، فقال لها أنت طالق للسنة - فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه - طلقت في الحال لوجود الصفة.
وان كانت في حيض أو في طهر جامعها فيه لم تطلق في الحال لعدم الصفة، وإذا طهرت من غير جماع طلقت لوجود الصفة وإن قال أنت طالق للبدعة - فان كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه - طلقت في الحال لوجود الصفة، وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه لم تطلق في الحال لفقد الصفة، فإذا جامعها أو حاضت طلقت لوجود الصفة وإن قال أنت طالق للسنة إن كنت في هذه الحالة ممن يقع عليها طلاق السنة - فان كانت في طهر لم يجامعها فيه - طلقت لوجود الصفة، وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه لم تطلق في الحال لعدم الصفة وان صارت في طهر لم تجامع فيه لم تطلق أيضا لانه شرط أن تكون للسنة وأن تكون في تلك الحال.
وذلك لا يوجد بعد انقضاء الحال وإن قال لها أنت طالق للسنة وللبدعة، أو أنت طالق طلقة حسنة قبيحة، طلقت في الحال طلقة، لانه لا يمكن إيقاع طلقة على هاتين الصفتين، فسقطت الصفتان وبقى الطلاق فوقع وإن قال أنت طالق طلقتين طلقة للسنة وطلقة للبدعة طلقت في الحال طلقة فإذا صارت في الحالة الثانية طلقت طلقة.
وان قال أنت طالق طلقتين للسنة وللبدعة ففيه وجهان.

(أحدهما)
يقع طلقة في حال السنه وطلقه في حال البدعه، لانه يمكن إيقاعها على الصفتين فلم يجز إسقاطهما
(والثانى)
يقع في الحال طلقتان، لان الظاهر عود الصفتين إلى كل واحدة
من الطلقتين وإيقاع كل واحدة منهما على الصفتين لا يمكن فلغت الصفتان

(17/155)


ووقعت الطلقتان.
وإن قال أنت طالق ثلاثا للسنة وقع الثلاث في طهر لم يجامعها فيه، لان ذلك طلاق للسنة: وإن قال أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة وقع في الحال طلقتان لان إضافة الطلاق اليهما يقتضى التسوية.
فيقع في الحال طلقة ونصف ثم يكمل فيصير طلقتين، ويقع الباقي في الحالة الاخرى.
وإن قال أردت بالبعض طلقة في هذه الحال وطلقتين في الحالة الاخرى ففيه وجهان
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، إنه لا يقبل قوله في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل، لانه يدعى ما يتأخر به الطلاق فصار كما لو قال أنت طالق وادعى أنه أراد إذا دخلت الدار
(والثانى)
وهو المذهب أنه يقبل في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لان البعض يقع على القليل والكثير حقيقة، ويخالف دعوى دخول الدار، فإن الظاهر إنجاز الطلاق فلم تقبل في الحكم دعوى التأخير.
(الشرح) النساء على ضربين: ضرب لا سنة في طلاقهن ولا بدعة وهن أربع (1) التى لم يدخل بها (2) والصغيرة (3) والآيسة من الحيض (4) والتى استبان حملها.
وضرب في طلاقهن سنة وبدعة وهى المدخول بها إذا كانت من ذوات الاقراء.
إذا ثبت هذا فقال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة أو للبدعة طلقت في الحال لانه علق الطلاق بصفة لا تتصف بها المرأة، فألغيت الصفه وصار كما لو قال أنت طالق.
وان قال أنت طالق لا للسنه ولا للبدعه طلقت في الحال لوجود الصفه.
وان قال للصغيرة المدخول بها أو الحامل أنت طالق للسنه أو للبدعه ثم قال: أردت بها إذا صارت من أهل سنة الطلاق وبدعته لم يقبل في الحكم، لانه يريد تأخير الطلاق من أول وقت يقتضيه فلم يقبل، كما لو قال أنت طالق ثم قال أردت إذا دخلت الدار، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، فيقال أمسك امرأتك فيما بينك وبين الله تعالى إلى أن تحيض الصغيرة وتلد الحامل ان علقه على البدعه،

(17/156)


والى أن تطهر إن علقه على السنه، ولا يجئ هذا في الآيسه، وهل يجئ هذا في التى لم يدخل بها؟ اختلف الشيخان فيهما، فذكر أبو حامد أنه لا يجئ فيها.
وذكر أبو إسحاق المروزى أنه يجئ فيها هذا.
(فرع)
وان قال لمن لا سنه في طلاقها ولا بدعه: أنت طالق للسنه ان كنت في هذا الحال ممن يقع عليها طلاق السنه، أو أنت طالق للبدعه ان كنت الان ممن يقع عليها طلاق البدعه.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: وقع عليها الطلاق في الحال فحكى ابن الصباغ أن القاضى أبا الطيب قال: فيه نظر، وأن الشيخ أبا حامد قال: لا يقع الطلاق لان الشرط لم يوجد، كقوله ان كنت علويه فأنت طالق وليست بعلويه، ويخالف الصفه لانها تلغى إذا لم تتصف بها قال ابن الصباغ: وكما قال الشافعي عندي وجه آخر، وهو أن قوله: أنت طالق للسنه ان كان عليك طلاق السنه، يقتضى طلاقا مضافا إلى السنه وهو يقع عليها.
وقوله: وصفها بصفة محال يريد إذا قال أنت طالق للسنه فإنه تلغو الصفه هكذا أفاده العمرانى في البيان (مسأله) قوله وان كانت له امرأة لها سنة وبدعه في الطلاق الخ فهو كما قال، إذ لو قال لها أنت طالق للسنه - فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه طلقت لوجود السنه، وان كانت في طهر جامعها أو في حيض لم تطلق لعدم الصفه، فإذا
طهرت من الحيض طلقت لوجود الصفه - وان كانت في طهر جامعها فيه أو في حيض لم تطلق لعدم الصفه، فإذا طهرت من الحيض طلقت بأول جزء من الطهر وقال أبو حنيفة: ان طهرت لاكثر الحيض طلقت بأول جزء من الطهر، وان طهرت لدون أكثر الحيض لم تطلق حتى تغتسل.
دليلنا أن كل طهر لو صادف غسلا وقع فيه الطلاق وجب أن يقع فيه الطلاق وان لم يصادف الغسل، كما لو طهرت لاكثر الحيض وان جامعها في آخر الحيض وانقطع الدم في حال الجماع لم يقع عليها طلاق، لانه طهر صادفه الجماع، وان وطئها في أثناء الحيض وطهرت بعده فإن القفال قال: لا يطلق بالطهر إذا علقه بالسنه لاحتمال أن تكون قد علقت منه، ووجود بقية الحيض لا يدل على براءة رحمها، كما لا يكون بعض الحيض استبراء في الامة

(17/157)


وإن قال أنت طالق للبدعة، فإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه وقع عليها الطلاق لوجود الصفة.
وهكذا إن كانت في طهر لم يجامعها فيه، ولكنها اسند خلت ماء الزوج، وقع عليها الطلاق لاحتمال أن تكون علقت منه، وان وطئها في الدبر أو فيما دون الفرج ولم يتحقق وصول الماء إلى رحمها فليس بطلاق توقعه.
وإن كانت العدة واجبة عليها لان العدة تجب مرة لبراءة الرحم ومرة للتعبد.
وان كانت في طهر لم يجامعها فيه لم يقع عليها الطلاق، فإذا طعنت في الحيض أو غيب الحشفة في الفرج بعد ذلك وقع عليها الطلاق لوجود الصفة (فرع)
إذا تزوج امرأة حاملا من الزنا فهل يجوز له وطؤها قبل وضعها؟ فيه وجهان المشهور أنه يجوز.
إذا ثبت هذا ودخل بها ثم قال لها: أنت طالق للسنة لم تطلق حتى تلد وتطهر من النفاس، لان هذا الحمل لا حكم له فكان وجوده كعدمه
ونخلص إلى فرع آخر ذكره الشافعي في الام: إذا قال لمن لها سنة وبدعة في طلاق: أنت طالق للسنة ان كنت ممن يقع عليها طلاق السنة، فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه وقع عليها الطلاق لوجود الصفه وان كانت في طهر جامعها فيه أو حائضا لم يقع عليها الطلاق لعدم الصفه، فان طلقت بعد ذلك في الطهر لم يقع عليها الطلاق لانه شرط أن يكون حال عقد الطلاق ممن يقع عليها طلاق السنه ولم توجد الصفه.
وان قال لها: أنت طالق للبدعه ان كنت الا ممن يقع عليها طلاق البدعه، فان كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه، وقع عليها الطلاق لوجود الصفة، وان كانت في طهر لم يجامعها فيه لم يقع عليها الطلاق، فإن جامعها أو حاضت لم يقع عليها الطلاق، لانه شرط أن يكون حال عقد الطلاق ولم يوجد الشرط، وان كانت في طهر لم يجامعها فيه فقال: أنت طالق للبدعه فقد قلنا: لا يقع عليها الطلاق في الحال، فان قال أن أردت طلاق السنه، وإنما سبق لساني في البدعه، وقع عليها الطلاق، لان فيه تغليظا عليه ونستطرد إلى فرع آخر في المسأله هذه: إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا للسنه وكانت في طهر لم يجامعها فيه وقع عليها الثلاث، لان السنه والبدعه للوصف

(17/158)


عندنا دون العدد، فإن قال أردت السنة على مذهب مالك وأبى حنيفة أنه يقع في كل هذه طلقه لم يقبل في الحكم، لانه تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يحتمل ما يدعيه، بدليل أنه لو صرح به في الطلاق حمل عليه، فيقع عليها في الحال طلقه، فان لم يراجعها فإنها إذا حاضت ثم طهرت طلقت أخرى.
ثم إذا حاضت وطهرت طلقت الثالثة وبانت وان راجعها بعد الاولة ووطئها فانها إذا حاضت وطهرت طلقت الثانية وبأول الطهر
فإذا راجعها ثانيا ووطئها ثم حاضت وطهرت طلقت الثالثة وبانت واستأنفت العدة.
وان راجعها ولم يطأها حتى حاضت ثم طهرت طلقت الثانية بأول الطهر الثاني، فإن راجعها ثانيا ولم يطأها حتى حاضت وطهرت وقعت الثالثة وبانت.
وهل تبنى على عدتها أو تستأنف؟ على القولين اللذين يأتي ذكرهما.
قال الشافعي رضى الله عنه: ويسعه أن يطأها وعليها الهرب وله الطلب، لانه يعتقدها زوجته وهى تعتقد أنها غير زوجته.
وثم فرع آخر وهو: إن قال لمن لها سنة وبدعة في الطلاق: أنت طالق للسنة وأنت طالق للبدعه، وقع عليها في الحال طلقه وفى الحالة الثانية طلقة اخرى.
وإن قال أنت طالق طللقتين للسنة والبدعه ففيه وجهان
(أحدهما)
يقع عليها في الحال طلقتان لان الظاهر عود الصفتين إلى كل واحدة من الطلقتين، وإيقاع كل واحدة من الطلقتين على الصفتين لا يمكن، فسقطت الصفتان وبقيت الطلقتان فوقعتا.

(والثانى)
يقع عليها في الحال طلقه، فإذا صارت في الحالة الثانيه وقعت عليها الثانيه: لان الظاهر أنها تعود إلى غير الانقاص وإن قال لها أنت طالق ثلاثا للسنه وثلاثا للبدعه وقع عليها في الحال ثلاث لانها في إحدى الحالتين وبانت بها.
وإن قال لها أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنه وبعضهن للبدعه وأطلق ذلك ولم يقيده بلفظ ولا نيه وقع عليها في الحال طلقتان.
وإذا صارت إلى الحالة الاخرى وقع عليها الطلقه الثالثه وقال المزني: يقع عليها في الحال الطلقه وفى الحال الثانيه طلقتان، لان

(17/159)


البعض يقع على الاقل والاكثر فأوقعنا الواحدة لانها بيقين، وما زاد مشكوك
فيه، فالمذهب الاول لانه أضاف الثلاث إلى الحالتين وساوى بينهما في الاضافة فالظاهر أنه أراد التسويه بينهما في الثلاث، كما لو قال بعض هذه الدار لزيد وبعضها لعمرو فإنها تكون بينهما نصفين، وإذا كان كذلك كان للحالة الاولة طلقه ونصف فسرى هذا النصف فوقع طلقتان فإن قيل هلا قلتم يقع في الحال ثلاث طلقات لانه يقتضى أن تكون بعض كل طلقه من الثلاث للسنه وبعضها للبدعه، فيخص كل طلقه ثلاثة أبعاض من الثلاث طلقات فنكمل الابعاض فالجواب أنا لا نقول هذا، لان كل عدد أمكن قسمته قسمه صحيحه من غير كسر لم يجز قسمته على الكسر.
وفى مسألتنا يمكن قسم طلقتين من الثلاث جبرا على الحالين فلم يتبعضا.
وإن قيد ذلك باللفظ بأن قال أنت طالق ثلاثا نصفها للسنه ونصفها للبدعه وقع طلقتان وفى الحال الثانيه طلقه لما ذكرناه.
وان قال واحدة للسنه واثنتين للبدعه، أو قال اثنتين للسنه وواحدة للبدعه حمل على ما قيده بقوله وان لم يقيده باللفظ بل قال أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنه وبعضهن للبدعه، ثم قال أنا أردت نصفهن للسنه ونصفهن للبدعه.
أو أردت في الحاله الاولى طلقتين وفى الثانيه طلقه حمله على ذلك، لانه لو لم ينو ذلك لحمل اطلاقه عليه فكذلك إذا نواه.
وان قال أردت في الحالة الاولى طلقه وفى الحاله الثانيه طلقتين، فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو على بن أبى هريرة: لا يقبل في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لان الظاهر أنه أراد التسويه فلا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر ومنهم من قال في الحكم وهو الصحيح، لان البعض يقع على الاقل والاكثر.
فإذا أخبر أنه نوى ذلك قبل منه كما لو قيده باللفظ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن قال ان قدم فلان فأنت طالق، فقدم وهى في طهر لم يجامع فيه وقع طلاق سنه، وان قدم وهى حائض أو في طهر جامعها فيه وقع طلاق بدعه

(17/160)


إلا أنه لا يأثم لانه لم يقصد، كما إذا رمى صيدا فأصاب آدميا فقتله، فإن القتل صادف محرما لكنه لم يأثم لعدم القصد.
وان قال ان قدم فلان فأنت طالق للسنة فقدم وهى في حال السنة طلقت.
وان قدم وهى في حال البدعة لم تطلق حتى تصير إلى السنة، لانه علقه بعد القدوم بالسنة
(فصل)
وان قال أنت طالق أحسن الطلاق وأكمله وأعدله، وما أشبهها من الصفات الحميدة، طلقت للسنة لانه أحسن الطلاق وأكمله وأعدله، وإن قال أردت به طلاق البدعة، واعتقدت أن الاعدل والاكمل في حقها لسوء عشرتها أن تطلق للبدعة نظرت، فإن كان ما يدعيه من ذلك أغلظ عليه، بأن تكون في الحال حائضا أو في طهر جامعها فيه، وقع طلاق بدعة، لان ما ادعاه أغلظ عليه واللفظ يحتمله فقبل منه.
وان كان أخف عليه بأن كانت في طهر لم يجامع فيه دين فيما بينه وبين الله عزوجل، لانه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم، لانه مخالف للظاهر.
فإن قال أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه وما أشبههما من صفات الذم طلقت في حال البدعة لانه أقبح الطلاق وأسمجه.
وان قال أردت طلاق السنة واعتقدت أن طلاقها أقبح الطلاق وأسمجه لحسن دينها وعشرتها، فان كان ذلك أغلظ عليه لما فيه من تعجيل الطلاق، قبل منه لانه أغلظ عليه واللفظ يحتمله، وان كان أخف عليه لما فيه من تأخير الطلاق دين فيما بينه وبين الله عزوجل، لانه يحتمل ولا يقبل في الحكم لانه مخالف للظاهر.
وان قال أنت طالق طلاق الحرج طلقت للبدعة، لان الحرج فيما خالف السنة وأثم به.
(الشرح) إذا قال: قدم فلان فأنت طالق، فقدم وهى في حال السنة، طلقت طلاق السنة، وان قدم وهى في حال البدعة طلقت طلاق البدعة الا أنه لا يأثم لانه لم يقصد إليه وان قال أنت طالق إذا قدم فلان للسنه - فان قدم وهى في حال السنه - طلقت لوجود الصفه وان كانت في حال البدعه لم تطلق لعدم الصفه، فإذا صارت

(17/161)


بعد ذلك إلى حال السنة وقع عليها الطلاق، لان الشرطين قد وجدا.
قال صاحب الفروع: ويحتمل أن لا يقع عليها الطلاق حينئذ أيضا، لان ظاهر الشرطين أن يكونا معتبرين حالة القدوم، والمنصوص هو الاول.
وإن قال أنت طالق رأس الشهر للسنة.
قال في الام: فان كانت رأس الشهر في طهر لم يجامعها فيه طلقت.
وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه رأس الشهر لم تطلق، فإذا طهرت بعد ذلك من غير جماع وقع عليها الطلاق.
وعلى الوجه الذى خرجه صاحب الفروع في التى قبلها يحتمل ان لا يقع عليها الطلاق ههنا بالطهر بعد رأس الشهر، إلا أن المنصوص الاول.
(فرع)
قال في الام: إذا قال لامرأته وهى ممن تحيض قبل الدخول: أنت طالق إذا قدم فلان للسنة، فدخل بها قبل أن يقدم فلان ثم قدم وهى طاهر غير مجامعة وقع عليها الطلاق، وإن قدم وهى حائض أو في طهر جامعها فيه - قال أصحابنا: فالذي يجئ على قول الشافعي أنها لا تطلق حتى تصير إلى زمان السنه، لانه يعتبر صفتها حين قدومه لا حين عقد الصفه، فلو لم يدخل بها وقدم فلان طلقت لانه ليس في طلاقها سنه ولا بدعه - فان دخل بها الزوج وقال ما أردت بقولى طلاق سنة الزمان، وإنما أردت سنة طلاقها قبل الدخول، وقع عليها الطلاق بقدوم فلان، سواء كانت في زمان السنه أو في زمان البدعه
(مسألة) قوله " وإن قال أنت طالق أحسن الطلاق الخ " وهذا صحيح.
فانه إذا قال أنت طالق أعدل الطلاق أو أحسنه أو أكمله أو افضله أو أتمه - ولم يكن له نيه - طلقت للسنه لانه أعدل الطلاق وأحسنه، فان كانت في طهر لم يجامعها فيه وقع عليها الطلاق.
وإن كانت له نيه - فان كانت نيته موافقة لظاهر قوله - كانت تأكيدا، وان خالفت ظاهر قوله بأن قال: أردت به طلاق البدعه واعتقدت أنه الاعدل والاحسن في طلاقها لسوء عشرتها.
وهذا مثل تأويله لقوله تعالى " ادفع بالتى هي أحسن " حين يقول: رأيت أن التى هي أحسن أن أضرب أو أصفع من يرتكب المخالفة أو ما إلى ذلك، لانني لو عاملته باللين لسدر في غوايته وأمعن في ضلالته، ففى الشدة الحسنى وفى اللين السوءى

(17/162)


في بعض الاحوال، فان كانت حال العقد في حال البدعه وقع عليها الطلاق، لان في ذلك تغليظا عليه فقبل، وإن كانت في حال عقد الطلاق في حال السنه لم يقبل قوله في الحكم لانه يريد تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه فلم يقبل ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يحتمل ما يدعيه، ولهذا لو صرح به حال عقد الطلاق قبل.
وإن قال أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه، والسماجه ضد الملاحة.
ولبن سمج لا طعم له.
أو قال أفحشه أو ما أشبه ذلك كان من صفات الذم.
فان لم يكن له نية طلقت للبدعه، فان كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه طلقت لان ذلك أقبح الطلاق وأفحشه.
وان كانت في طهر لم يجامعها فيه لم تطلق.
فإذا طلقت في الحيض أو جامعها طلقت.
وان كانت له نيه.
فان وافقت نيته ظاهر قوله.
وهو أن ينوى طلاق البدعه قبل منه وكانت نيته تأكيدا، وان خالفت ظاهر قوله بأن قال: نويت طلاق السنه واعتقدت أن الافبح في حقها طلاق السنة لحسن عشرتها.
فان كانت حال
عقد الطلاق في طهر لم يجامعها فيه وقع عليها الطلاق لان فيه تغليظا عليه.
وان كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه لم يقبل في الحكم لانه يدعى خلاف الطهر.
ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال ما يدعيه وان قالت أنت طالق أكمل الطلاق اجتنابا.
قال الصيمري طلقت ثلاثا لانه أكمل الطلاق اجتنابا.
وان قال أنت طالق طلقه حسنه قبيحه وقع عليها في الحال طلقه، واختلف أصحابنا في علته، فمنهم من قال لانه وصفها بصفتين لا يمكن وجودهما معا وقد وجدت إحداهما فوقع بها الطلاق، ومنهم من قال لانه وصفها بصفتين متضادتين فسقطتا وبقى مجرد الطلاق فوقع قال ابن الصباغ: وهذا أقيس.
لان وقوع الطلقه باحدى الصفتين ليس بأولى من الاخرى (فرع)
وإن قال لامرأته، أنت طالق طلاق الحرج وقع عليها طلقه رجعيه وقال على بن أبى طالب: يقع عليها الثلاث في الحال، دليلنا أن الحرج الضيق والاثم، ولا يأثم إلا بطلاق البدعه

(17/163)


وان قال: أنت طالق طلاق الحرج والسنه وقع عليها في الحال طلقه، لانه وصفها بصفتين متضادتين فسقطتا وبقى الطلاق مجردا فوقع وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن قال لها وهى حائض: إذا طهرت فأنت طالق، طلقت بانقطاع الدم لوجود الصفة، وإن قال لها ذلك وهى طاهر لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر، لان " إذا " اسم للزمان المستقبل فاقتضى فعلا مستأنفا، ولهذا لو قال لرجل حاضر: إذا جئتني فلك دينار لم يستحق بهذا الحضور حتى يغيب ثم يجيئه وإن قال لها وهى طاهر: إن حضت فأنت طالق، طلقت برؤية الدم، وإن قال
لها ذلك وهى حائض لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض لما ذكرناه في الطهر.
فإن قال لها وهى حائض: إن طهرت طهرا فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض، لانه لا يوجد طهر كامل إلا أن تطعن في الحيض الثاني وإن قال لها ذلك وهى طاهر لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض، لان الطهر الكامل لا يوجد إلا بما ذكرناه.
وإن قال: إن حضت حيضة فأنت طالق، فإن كانت طاهرا لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر، وان كانت حائضا لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، لما ذكرناه في الطهر.

(فصل)
وإن قال أنت طالق ثلاثا في كل قرء طلقه نظرت، فإن كانت لها سنة وبدعة في طلاقها نظرت، فان كانت طاهرا طلقت طلقة لان ما بقى من الطهر قرء، وان كانت حائضا لم تطلق حتى تطهر ثم يقع في كل طهر طلقة، وان لم يكن لها سنة ولا بدعة - نظرت فان كانت حاملا - طلقت في الحال طلقة، لان الحمل قرء يعتد به، وإن كانت تحيض على الحمل لم تطلق في أطهارها لانها ليست بأقراء، ولهذا لا يعتد بها، فإن راجعها قبل الوضع وطهرت في النفاس وقعت طلقة أخرى، فإذا حاضت وطهرت وقعت الثالثه، وإن كانت غير مدخول بها وقعت عليها طلقه وبانت، فإن كان صغيرة مدخولا بها طلقت في

(17/164)


الحال طلقه، فان لم يراجعها حتى مضت ثلاثة أشهر بانت، وان راجعها لم تطلق في الطهر بعد الرجعة لانه هو الطهر الذى وقع فيه الطلاق.
(الشرح) إذا قال لامرأته وهى طاهر: إذا حضت فأنت طالق فرأت الدم في زمان امكانه وقع الطلاق عليها ويكون بدعيا، فإن استمر بها الدم يوما وليلة استقر الطلاق.
وان انقطع لدون اليوم والليلة واتصل بعده طهر صحيح حكمنا
بان الطلاق لم يقع.
وان قال لها وهى حائض: إذا حضت فأنت طالق - فاختلف أصحابنا فيه - فقال الشيخ أبو إسحاق الاسفرايينى والقاضى أبو القاسم الصيمري: لا يقع الطلاق حتى تطهر من هذا الحيض ثم تطعن في الحيضة الثانية، وبه قال أبو يوسف، لان قوله، إذا حضت أو ان حضت، يقتضى الاستقبال.
وقال ابن الصباغ يقع عليها الطلاق بما يتجدد من حيضها، لانه قد وجد منها الحيض فوقع الطلاق لوجود صفته كما لو قال للصحيحه: إذا صححت فأنت طالق، فإنه يقع عليها الطلاق في الحال.
وان قال لامرأته كلما حضت فانت طالق، فإذا رأت الدم طلقت برؤيته فإذا انقطع الدم وطهرت طهرا كاملا ثم رأت الدم طلقت طلقه ثانيه، فإذا طهرت ثم رأت الدم طلقت ثالثه، لان " كلما " تقتضي التكرار وتكون الطلقات كلها بدعيه.
(فرع)
وان قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق - فإن كان طاهرا - لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر لانه قال حيضه.
وذلك لا يوجد الا بطهرها من الحيض، وان كانت حائضا لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ويكون الطلاق سببا لانه يقع بأول الطهر وان قال: كلما حضت حيضة فأنت طالق، فإذا حاضت حيضة كاملة بعد عقد الصفه، وقع عليها طلقه بأول جزء من الظهر بعد الحيض، ثم إذا حاضت الثانية وطهرت منه طلقت ثانية بأول جزء من الطهر، ثم إذا حاضت الثالثه وطهرت منه طلقت الثالثة بأول جزء من الطهر، لان " كلما " تقتضي التكرار، وتكون الطلقات للسنة،

(17/165)


وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، وإذا حضت حيضتين فأنت
طالق، فإنها إذا حاضت حيضة وقع عليها طلقة بانقطاع الدم لوجود الحيضة، فإذا حاضت حيضة ثانية وقع عليها حيضة ثانية بإنقطاع دمها من الحيضة الثانية لانها مع الاولة حيضتان.
وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، ثم إذا حضت حيضتين فأنت طالق، فإذا انقطع دمها من الحيضة الاولة وقع عليها طلقة لوجود الصفة، وان حاضت بعدها حيضة ثانية لم تطلق حتى تطهر من الحيضة الثالثه لان ثم للترتيب والواو للجمع.
(فرع)
وإن قال لامرأته وهى حائض: إذا طهرت فأنت طالق، طلقت بانقطاع الدم لوجود الشرط ويكون الطلاق سببا، لانه يقع في الطهر، وان قال لها كذلك وهى طاهر، قال الشيخ أبو إسحاق هنا: لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر لان " إذا " اسم لزمان مستقبل، وعلى قياس قول ابن الصباغ في الحيض تطلق عقيب قوله.
وان قال لها: إذا طهرت طهرا فأنت طالق - فان كانت حال عقد الصفة حائضا لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض، وان كانت طاهرا لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض، لانه لا يوجد الطهر الكامل الا بذلك، ويكون الطلاق بدعيا، لانه يقع بأول جزء من الحيض ويأثم به.
وان قال لها: أنت طالق في كل طهر طلقة - فإن كانت طاهرا - طلقت طلقه وان رأت الدم وانقطع طلقت الثانية، وإذا رأت الدم ثانيا وانقطع طلقت الثالثة وان كانت حال العقد حائضا لم تطلق حتى ينقطع الدم فتطلق، ثم بانقطاع الحيض الثاني تطلق ثانية، ثم بانقطاع الحيض الثالث تطلق الثالثة، وان رأت الدم على الحمل - فإن قلنا: انه حيض - طلقت بانقطاعه، ويتكرر عليها الطلاق في الحمل بانقطاع كل دم على هذا القول.
قوله " في كل قرء " قال ابن بطال: القرء الحيض والقرء أيضا الطهر وهو
من الاضداد.
وفيه لغتان قرء بالفتح وقرء بالضم وجميعه قروء وأقراء.
قال الشاعر: مورثة مالا وفى الحى رفعة
* لما ضاع فيها من قروء نسائكا

(17/166)


وهو الوقت فقيل للحيض والطهر قرء، لانهما يرجعان لوقت معلوم.
وأصله الجمع، وكل شئ قرأته قد جمعته اه.
وقال في المصباح في غريب الشرح الكبير للرافعي: والقرء فيه لغتان الفتح وجمعه قروء وأقروء مثل فلس وفلوس وأفلس والضم ويجمع على أقراء مثل قفل وأقفال.
قال أئمة اللغة: ويطلق على الطهر والحيض، وحكاه ابن فارس أيضا ثم قال: ويقال: انه للطهر، وذلك أن المرأة الطاهر كأن الدم اجتمع في بدنها وامتسك.
ويقال: انه للحيض، ويقال: أقرأت إذا حاضت، وأقرأت إذا طهرت فهى مقرئ، وأما ثلاثة قروءه، فقال الاصمعي: هذه الاضافة على غير قياس، والقياس ثلاثة أقراء، لانه جمع قلة مثل ثلاثة أفلس، وثلاثة رجلة، ولا يقال: ثلاثة فلوس ولا ثلاثة رجال.
وقال النحويون: هو على التأويل والتقدير ثلاثة من قروء، لان العدد يضاف إلى مميزه وهن من ثلاثة إلى عشرة قليل، والمميز هو المميز، فلا يميز القليل بالكثير.
قال: ويحتمل عندي أنه قد وضع أحد الجمعين في موضع الاخر اتساعا لفهم المعنى، هذا ما نقل عنه، وذهب بعضهم إلى أن مميز الثلاثه إلى العشرة يجوز أن يكون جمع كثرة من غير تأويل، فيقال: خمسه كلاب وستة عبيد، ولا يجب عند هذا القائل أن يقال: خمسة أكلب ولا ستة أعبد، وقرأت أم الكتاب في كل قومة وبأم الكتاب يتعدى بنفسه وبالباء قراءة وقرءآنا ثم استعمل القرآن اسما مثل الشكران والكفران.
وإذا أطلق انصرف شرعا إلى المعنى
القائم بالنفس ولغة إلى الحروف المقطعة لانها هي التى تقرأ نحو كتبت القرآن ومسسته، والفاعل قارئ، وقرأة وقراء.
وقارئون مثل كافر وكفرة وكفار وكافرون.
وقرأت على زيد السلام أقرؤه عليه قراءة أما الاحكام: فإنه ان قال لها: أنت طالق ثلاثا في كل قرء طلقه.
فان كانت حاملا طاهرا وقع عليها في الحال طلقه.
وان كانت حاملا حائضا - فإن قلنا: ان الدم على الحمل ليس بحيض - وقع عليها طلقه.
وان قلنا: انه حيض فاختلف أصحابنا فيه.
فقال الشيخان أبو إسحاق المروزى وأبو حامد الاسفرايينى

(17/167)


يقع عليها الطلاق: لان زمان الحمل كله قرء واحد بدليل أن العدة لا تنقضي إلا بالوضع.
وقال المسعودي والقاضى أبو الطيب: لا يقع عليها الطلاق حتى تطهر لان الاقراء عندنا الاطهار، وهذا حيض فلم يقع عليها الطلاق، وبه قال المسعودي، وهل يتكرر الطلاق في كل طهر على الحمل؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
لا يتكرر، لان العدة لا تنقضي بثلاثة منها.

(والثانى)
يتكرر وهو الاقيس، لانه طهر من حيض، وإذا وقع على الحامل طلقة نظرت - فان لم يراجعها حتى وضعت - انقضت عدتها وبانت منه ولا يلحقها بعد ذلك طلاق، وإن استرجعها قبل أن تضع لم تطلق حتى تطهر من النفاس، ثم إذا طهرت من الحيض بعد النفاس وقعت عليها الثالثة، وان كانت حاملا مدخولا بها نظرت - فإن كانت حائضا - لم يقع عليها الطلاق في الحال، لان الحيض ليس بقرء، فإذا انقطع دمها وقعت عليها طلقة، فإذا حاضت وانقطع دمها وقعت عليها الثانية بأول جزء من الطهر، فإذا حاضت الثالثة وانقطع دمها بأول جزء من الطهر - ولا فرق في هذا بين أن يراجعها أو لا يراجعها - فإن كانت طاهرا حين عقد الطلاق وقع عليها طلقة، لان بقية الطهر قرء إن كان
قد جامعها في هذا الطهر - وقعت الطلقة بدعية، وإن لم يجامعها فيه وقعت سنية فإذا حاضت ثم طهرت طلقت الثانية بأول جزء من الطهر ثم إذا حاضت وطهرت طلقت الثانية بأول جزء من الطهر، ولا فرق في هذا أيضا بين أن يراجعها أو لا يراجعها، وان كانت غير مدخول بها، فان كانت طاهرا وقعت عليها طلقة ولا تقع عليها الثالثة والثانية بالطهر الثاني والثالث، لانها تبين بالاولة فلم يلحقها ما بعدها، وان كانت حال العقد حائضا ففيه وجهان حكاهما ابن الصباغ.

(أحدهما)
تقع عليها طلقة وتبين بها لانها ليست من أهل سنة الطلاق وبدعته
(والثانى)
وهو قول القاضى أبى الطيب: أنه لا يقع عليها طلاق حتى تطهر من حيضها، لان الاقراء هي الاطهار، فإذا طهرت وقعت عليها طلقة بانت بها، وان كانت صغيرة مدخولا بها وقع عليها في الحال طلقة، فإذا مضت ثلاثة أشهر ولم يراجعها بانت ولم تلحقها الثانية ولا الثالثة، وإن راجعها قبل

(17/168)


انقضاء عدتها لم تطلق حتى ترى الحيض ثم تطهر فتقع عليها في الحال طلقة وبانت بها ولا تلحقها الثانية والثالثة، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: هل يقع على الصغيرة طلقة في الحال؟ على وجهين بناء على أنها إذا حاضت فهل يحتسب على فيها؟ على قولين، وإن كانت آيسة غير مدخول بها وقعت عليها طلقة وبانت ولا تلحقها الثانية والثالثة، وإن كانت مدخولا بها وقعت عليها طلقة، فان لم يراجعها حتى انقضت ثلاثة أشهر بانت ولم تلحقها الثانية والثالثة، وان راجعها قبل انقضاء الثلاثة لم تلحقها الثانية والثالثة إلا إن عاودها الدم، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: هل يلحقها في الحال طلقة؟ على وجهين، فان عاودها الدم علمنا أنه وقع عليها طلقة حال عقد الطلاق وجها واحدا والله تعالى أعلم بالصواب
وهو حسبى ونعم الوكيل.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال: ان حضت فأنت طالق فقالت: حضت فصدقها طلقت وان كذبها فالقول قولها مع يمينها لانه لا يعرف الحيض الا من جهتها، وان قال لها قد حضت فأنكرت طلقت باقراره، وان قال: ان حضت فضرتك طالق فقالت: حضت، فان صدقها طلقت ضرتها، وان كذبها لم تطلق، لان قولها يقبل على الزوج في حقها ولا يقبل على غيرها الا بتصديق الزوج كالمودع يقبل قوله في رد الوديعة على المودع، ولا يقبل في الرد على غيره.
وان قال: إذا حضت فأنت وضرتك طالقان، فقالت: حضت، فان صدقها طلقتا، وان كذبها وحلفت طلقت هي ولم تطلق ضرتها.
وان صدقتها الضرة على حيضها لم يؤثر تصديقها، ولكن لها أن تحلف الزوج على تكذيبها، وان قال إذا حضتما فانتما طالقان، فان قالتا: حضنا فصدقهما طلقتا، وان كذبهما لم تطلق واحدة منهما، لان طلاق كل واحدة منهما معلق على شرطين.
حيضها وحيض صاحبتها، ولا يقبل قول كل واحدة منهما الا في حيضها في حقها نفسها دون صاحبتها، ولم يوجد الشرطان.
وان صدق احداهما وكذب الاخرى طلقت

(17/169)


المكذبة لانها غير مقبولة القول على صاحبتها ومقبولة القول في حق نفسها، وقد صدق الزوج صاحبتها فوجد الشرطان في طلاقها، فطلقت، والمصدقة مقبولة القول في حيضها في حق نفسها، وقد صدقها الزوج، وقول صاحبتها غير مقبول في حيضها في طلاقها ولم يوجد الشرطان في حقها فلم تطلق (الشرح) الاحكام: إذا قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق، فقالت حضت فان صدقها الزوج وقع عليها الطلاق لانه اعترف بوجود شرط الطلاق، وان
كذبها فالقول قولها مع يمينها، لان الحيض تستر به المرأة ولا يمكنها اقامه البينة عليه فكان القول قولها.
وان قال لها ان حضت فضرتك طالق، فقالت حضت، فان صدقها وقع على ضرتها الطلاق، وان كذبها لم يقع الطلاق على ضرتها، والفرق بينهما ان في الاولة الحق لها فحلفت على اثبات حق نفسها.
وههنا الحق لضرتها، والانسان لا يحلف لاثبات الحق لغيره فتبقى الخصومه بين الزوج والضرة، فان قالت الضرة قد حاضت، وقال الزوج لم تحض فالقول قول الزوج مع يمينه، لانه يساوى الضرة في الجهل بحيض الاخرى وللزوج ميزته عليها، لان الاصل بقاء الزوجية فكان القول قوله، والذى يقتضى المذهب أنه يحلف: ما يعلم أنها حاضت، لانه يحلف على نفى فعل غيره.
وان قال لها: ان حضت فأنت وضرتك طالقان، فقالت حضت، فان صدقها طلقتا، وان كذبها حلفت ولم تطلق ضرتها لانها تحلف على اثبات حق نفسها ولا تحلف لاثبات حق ضرتها.
وان ادعت عليه الضرة حلف لها على ما مضى، وان قال لهما: ان حضتما فأنتما طالقان، فان قالتا حضنا فصدقهما طاقتا، وان كذبهما لم تطلق واحدة منهما، لان طلاق كل واحدة معلق بحيضها وحيض صاحبتها، وقول كل واحدة منهما لا تقبل في حق غيرها فحلف لهما.
وان صدق احداهما وكذب الاخرى طلقت المكذبه إذا حلفت دون المصدقة لانه قد اعترف بحيض المصدقه، والقول قول المكذبة مع يمينها في حيضتها في حق نفسها، فوجد الشرط في طلاقها.

(17/170)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال لامرأتين إن حضتما حيضة فأنتما طالقان، ففيه وجهان

(أحدهما)
ان هذا الصفة لا تنعقد لانه يستحيل اجتماعهما في حيضة فبطل
(والثانى)
أنهما إذا حاضتا وقع الطلاق، لان الذى يستحيل هو قوله حيضه فيلغى لاستحالتها، ويبقى قوله إن حضتما، فيصير كما لو قال: إن حضتما فأنتما طالقتان، وقد بينا حكمه
(فصل)
وان قال لاربع نسوة: إن حضتن فأنتن طوالق، فقد علق طلاق كل واحدة منهن بأربع شرائط، وهى حيض الاربع.
فإن قلن حضنا وصدقهن طلقن، لانه قد وجد حيض الاربع، وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن، لانه لم يثبت حيض الاربع، لان قول كل واحدة منهن لا يقبل إلا في حقها، وان صدق واحدة أو اثنتين لم تطلق واحدة منهن لانه لم يوجد الشرط، وإن صدق ثلاثا وكذب واحدة طلقت المكذبة.
لان قولها مقبول في حيضها في حق نفسها وقد صدق الزوج صواحبها فوجد حيض الاربع في حقها فطلقت.
ولا تطلق المصدقات لان قول كل واحدة منهن مقبول في حيضها في حقها، غير مقبول في حق صواحبها وقد بقيت واحدة منهن مكذبة فلم تطلق لاجلها.

(فصل)
وإن قال لهن: كلما حاضت واحدة منكن فصواحبها طوالق فقد جعل حيض كل واحدة منهن صفة اطلاق البواقى، فإن قلن حضنا فصدقهن طلقت كل واحدة منهن ثلاثا، لان لكل واحدة منهن ثلاث صواحب تطلق بحيض كل صاحبة طلقة، فطلقت كل واحدة منهن ثلاثا.
وإن كذبن لم تطلق واحدة منهن، لان كل واحدة منهن - وإن قبل قولها في حقها - إلا أنه لا يقبل في حق غيرها.
وان صدق واحدة منهن وقع على كل واحدة منهن طلقه، لان لكل واحدة منهن صاحبه ثبت حيضها، ولا يقع على المصدقه طلاق لانه ليس لها صاحبه ثبت حيضها.
وان صدق اثنتين وقع على كل واحدة منهما طلقه، لان لكل واحدة منهما
صاحبه ثبت حيضها، ويقع على كل واحدة من المكذبتين طلقتان، لان لكل

(17/171)


واحدة منهما صاحبتين ثبت حيضهما، فإن صدق ثلاثا وقع على كل واحدة منهن طلقتان، لان لكل واحدة منهن صاحبتين ثبت حيضهما ووقع على المكذبة ثلاث تطليقات لان لها ثلاث صواحب ثبت حيضهن.
(الشرح) إن قال لامرأتين: إن حضتما حيضه فأنتما طالقتان ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تنعقد هذه الصفه، لانه يستحيل اشتراكهما في حيضه
(والثانى)
ينعقد وهو الاصح، وإذا حاضتا طلقتا، لان الذى يستحيل هو قوله حيضه فسقط وصار كما لو قال: ان حضتما فأنتما طالقتان، هكذا ذكر أصحابنا وذكر الشيخ أبو حامد الاسفرايينى في التعليق أنه يقع عليهما الطلاق في الحال لانه علق الطلاق بشرط يستحيل وجوده، فألغى وقوع الطلاق في الحال كما لو قال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعه: أنت طالق للسنه أو للبدعه، فإنها تطلق في الحال.
(فرع)
وإن كان له أربع زوجات فقال لهن، ان حضتن فانتن طوالق، فقلن حضنا وصدقهن طلقن لوجود الصفة في حقهن.
وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن لانه علق طلاق كل واحدة بحيضهن، ولم توجد الصفه.
وان صدق واحدة أو اثنتين لم تطلق واحد منهن، وان صدق ثلاثا وكذب واحدة طلقت المكذبة إذا حلفت دون المصدقات لانه قد وجد حيض الاربعة في حقها، لانه قد صدق الثلاث، وقولها مقبول مع يمينها في حيضها في حق نفسها، ولا يطلقن لان حيض المكذبه لم يوجد في حقهن بل يحلف الزوج لهن.
(فرع)
وان كان له أربع زوجات فقال لهن: أيتكن حاضت فصواحبها طوالق، فقد علق طلاق كل واحدة بحيض صاحبتها: فإن قلن حضنا، فإن كذبهن
حلف لهن ولم تطلق واحدة منهن، لان كل واحدة منهن لا تحلف لاثبات حق صاحبتها، إن صدقهن وقع على كل واحدة من المصدقات طلقه لانه ما ثبت لكل واحدة منهما الا صاحبة حاضت، ووقع على كل واحدة من المكذبات طلقتان، لان لها صاحبتين ثبت حيضهما.
وان صدق ثلاثا وكذب واحدة طلقت المكذبه لان لها ثلاث صواحب ثبت حيضهن وطلق كل واحدة من المصدقات كل واحدة

(17/172)


طلقتين، لان لكل واحدة منهن صاحبتين ثبت حيضهما، وإن كان له ثلاث نسوة فقال: أيتكن حاضت فصاحبتاها طالقتان، فإن قلنا حضنا فصدقهن طلقت كل واحدة طلقتين، وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن.
وإن صدق واحدة وكذب اثنتين لم تطلق المصدقة وطلقت المكذبتان طلقه طلقه، وإن صدق اثنتين وكذب واحدة طلقت المكذبة طلقتين وطلقت المصدقتان طلقه طلقه لما ذكرناه في الاولة (فرع)
قال أبو القاسم الصيمري: إذا قال لها إذا حضت يوم الجمعة فأنت طالق فابتدأها الحيض قبل الفجر، ثم أصبحت يوم الجمعة حائضا لم يقع عليها الطلاق.
ولو بدأها الحيض بعد الفجر أو عند طلوع الشمس طلقت.
ولو قالت لا أعلم أبدأ قبل الفجر أم بعده وقع الطلاق في الظاهر لانا على يقين من حصوله فإن قال لها: إذا حضت في نهار يوم الجمعة فأنت طالق، فحاضت بعد طلوع الشمس يوم الجمعة وقع عليها الطلاق.
وإن حاضت بعد الفجر وقبل طلوع الشمس ففيه وجهان حكاهما الصيمري وإن قال: إذا رأيت دما فأنت طالق فحاضت أو استحيضت أو نفست وقع الطلاق.
فإن قال: أنا أردت دما غير هذا الذى رأيته لا يقبل منه في الحكم لانه يدعى خلاف الظاهر ودين فيما بينه وبين الله تعالى.
لانه يحتمل ما يدعيه، فلو رعفت أو حكت جرحا فخرج منه دم: قال الصيمري: الظاهر أن لا يقع عليها
الطلاق، لان إطلاق الدم لا ينصرف الا إلى الحيض أو الاستحاضة والنفاس، قال وفيه احتمال.
وإن قال لصغيرة: إذا حضت فأنت طالق لم تطلق حتى تحيض.
وان قال لها ان طهرت فأنت طالق لم تطلق حتى ترى النقاء بعد الحيض.
لان حقيقة الطهر في الاطلاق، هذا وإن قال للآيسة إذا حضت فأنت طالق لم تطلق لان الصفة لا توجد.
وأن قال لها: إن طهرت فأنت طالق.
قال الصيمري لم تطلق، لان حقيقة ذلك أن تدخل في طهر بعد حيض، وهذا لا يوجد في حقها (مسألة) كل ما قررنا في الفروع من هذه متفق عليها بين الفقهاء إلا ما كان من تعليق طلاقه على حيضها، إذ لو بان أن الدم ليس بحيض لانقطاعه لدون أقل الحيض بان أن الطلاق لم يقع، وبهذا قال الثوري وأحمد وأصحاب الرأى

(17/173)


قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا قال غير ذلك إلا مالكا فإن ابن القاسم روى عنه أنه يحنث حين تكلم به، وكذلك ما كان من قوله للحائض: إذا طهرت فأنت طالق طلقت بأول الطهر، أعنى بانقطاع دم الحيض قبل الغسل، ونص على ذلك أحمد في رواية ابراهيم الحربى، إلا أن أبا بكر من أصحاب أحمد في كتابه التنبيه قال: انها لا تطلق حتى تغتسل بناء على أن العدة لا تنقضي بانقطاع الدم حتى تغتسل.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان قال لامرأته: ان لم تكوني حاملا فأنت طالق، لم يجز وطؤها قبل الاستبراء، لان الاصل عدم الحمل ووقوع الطلاق، فإن لم يكن بها حمل طلقت.
وان وضعت حملا لاقل من ستة أشهر من وقت عقد الطلاق لم تطلق لانا تيقنا أنها كانت حاملا عند العقد.
وان وضعته لاكثر من أربع سنين طلقت
طلقه لانا تيقنا أنها لم تكن حاملا عند العقد وان وضعته لما بين ستة أشهر وأربع سنين نظرت فإن لم يطأها الزوج في هذه المدة لم يقع الطلاق لانا حكمنا بأنها كانت حاملا عند العقد.
وان كان وطئها نظرت.
فإن وضعته لاقل من ستة أشهر من وقت والوطئ ولاكثر من ستة أشهر من وقت العقد لم يقع الطلاق لانا حكمنا أنها كانت حاملا وقت العقد وان وضعته لاكثر من ستة أشهر من وقت العقد والوطئ جميعا، فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنها تطلق لانه يجوز أن يكون قبل الوطئ.
ويجوز أن يكون حدث من الوطئ.
والظاهر أنه حدث من الوطئ.
لان الاصل فيما قبل الوطئ لعدم.

(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنها لم تطلق لانه يحتمل أن يكون موجودا عند العقد، ويحتمل أن يكون حادثا من الوطئ بعده والاصل بقاء النكاح.
وإن قال لها ان كنت حاملا فأنت طالق يحرم وطؤها قبل الاستبراء فيه وجهان
(أحدهما)
لا يحرم لان الاصل عدم الحمل وثبوت الاباحة
(والثانى)
يحرم لانه يجوز أن تكون حاملا فيحرم وطؤها، ويجوز أن

(17/174)


لا تكون حاملا فيحل وطؤها فغلب التحريم، فإن استبرأها ولم يظهر الحمل فهى على الزوجية، وان ظهر الحمل نظر، فإن وضعت لاقل من ستة أشهر من وقت عقد الطلاق حكم بوقوع الطلاق، لانا تيقنا أنها كانت حاملا وقت العقد.
وان وضعته لاكثر من أربع سنين من وقت العقد لم تطلق، لانا علمنا أنها لم تكن حاملا، وان وضعته لاكثر من ستة أشهر ودون أربع سنين نظرت فان كان الزوج لم يطأها طلقت لانا حكمنا أنها كانت حاملا وقت العقد.
وان وطئها نظرت فإن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الوطئ وفع الطلاق.
لانا حكمنا
انها كانت حاملا وقت العقد.
وان وضعته بعد ستة أشهر من بعد وطئه لم يقع الطلاق وجها واحدا لانه يجوز أن يكون موجودا وقت العقد ويجوز أن يكون حدث بعده فلا يجوز أن يوقع الطلاق بالشك واختلف أصحابنا في صفة الاستبراء ووقته وقدره، فذكر الشيخ أبو حامد الاسفراينى رحمه الله في الاستبراء في المسئلتين ثلاثة أوجه: أحدهما ثلاثة أقراء وهى أطهار، لانه استبراء حرة فكان بثلاثة أطهار.
والثانى بطهر لان القصد براءة الرحم فلا يزاد على قرء.
واستبراء الحرة لا يجوز الا بالطهر، فوجب أن يكون طهرا.
والثالث أنه بحيضه لان القصد من هذا الاستبراء معرفة براءة الرحم.
والذى يعرف به براءة الرحم الحيض.
وهل يعتد بالاستبراء قبل عقد الطلاق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يعتد لان الاستبراء لا يجوز أن يتقدم على سببه
(والثانى)
يعتد به لان القصد معرفة براءة الرحم.
وذلك يحصل وان تقدم ومن أصحابنا من قال في المسألة الثانيه الاستبراء على ما ذكرناه.
لان الاستبراء لاستباحة الوطئ.
فأما في المسألة الاولى فلا يجوز الاستبراء بدون ثلاثة أطهار ولا يعتد بما وجد منه قبل الطلاق لانه استبراء حرة للطلاق فلا يجوز بما دون ثلاثة أطهار.
ولا بما تقدم على الطلاق كالاستبراء في سائر المطلقات (الشرح) إذا قال لامرأته: ان لم تكوني حاملا فأنت طالق.
وان كنت حاملا فأنت طالق حرم عليه وطؤها قبل أن يستبرئها.
لان الاصل عدم الحمل

(17/175)


وبهذا قال أحمد وأصحابه.
وبماذا يجب استبراؤها؟ فيه وجهان: أحدهما بثلاثة أقراء، لان الحرة تعتد بثلاثة أقراء كذا هذه.
والثانى بقرؤ واحد لان براءة الرحم تعلم بذلك، فإذا قلنا يستبرئ بثلاثة أقراء كانت أطهارا.
وإذا قلنا
تستبرئ بقرؤ ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه الطهر لان القرء عندنا الطهر
(والثانى)
أنه الحيض لان معرفة براءة الرحم لا تحصل إلا بالحيض، فإذا قلنا إنه الطهر.
فإن كانت حائضا وطهرت وطعنت في الحيض الثاني حصل براءة الرحم.
وان كانت طاهرا لم يكن بقية الطهر قرءا حتى يكمل الحيض بعده، لان بعض الطهر لا تحصل به معرفة البراءة فكمل بالحيضة بعده.
وإذا قلنا إنه الحيض، فإن كانت حائضا لم يعتد ببقية الحيض، فإذا طهرت وأكملت الحيضة بعده حصل براءة رحمها.
وان كانت طاهرا فمتى تكمل الحيضه؟ بعده؟ وهل يكفى استبراؤها قبل أن يطلقها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يكفى لان الاستبراء لا يعتد به قبل وجود سببه كالمشتراة
(والثانى)
يعتد به لان الغرض معرفة براءة رحمها.
ولهذا لو كانت صغيرة وقع عليها الطلاق من غير استبراء.
وذلك يحصل باستبرائها قبل الطلاق وإذا استبرأت بثلاثة أقراء أو بقرء - فان لم تظهر بها أمارات الحمل - حكم بوقوع الطلاق حين حلف، فان كانت استبرأت بثلاثة أقراء بعد اليمين فقد انقضت عدتها.
وان استبرأت بقرء فقد بقى عليها من العدة قرءان، وان ظهر بها الحمل نظرت، فان وضعت لدون ستة أشهر من حين حلف لم يقع الطلاق، فان وضعته لاكثر من اربع سنين من حين حلف حكمنا بأنها كانت حائلا وأن الطلاق وقع عليها، وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى تمام أربع سنين بأن لم يطأها الزوج بعد الطلاق حكمنا بأن الحمل كان موجودا حين اليمين وان الطلاق لم يقع، وإن كان الزوج قد راجعها بعد الطلاق ووطئها نظرت، فان وضعته لدون ستة أشهر من حين الوطئ علمنا أن الحمل كان موجودا حين حلف وأن الطلاق لم يقع.
وان وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت الوطئ، ففيه وجهان: قال أبو إسحق: يقع عليها الطلاق، لان الاصل عدم الحمل وقت اليمين.
وقال أبو على
ابن أبى هريرة: لا يقع عليها الطلاق لانه يحتمل أنه كان موجودا وقت اليمين.

(17/176)


ويحتمل أنه حدث من الوطئ، والاصل بقاء النكاح وعدم الطلاق فلا تبطل دلالة اليقين بالشك، وقد رد العمرانى قول أبى هريرة بأن هذا ليس بصحيح لانه ظهر لنا عدمه قبل الوطئ بدلالة وقد نص الامام أحمد أنه ان قال: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق ولم تكن حاملا طلقت، وإن أتت بولد لاقل من ستة أشهر من حين اليمين أو لاقل من أربع سنين ولم يكن يطؤها لم تطلق، لانا تبينا أنها كانت حاملا بذلك الولد.
وان قال: ان كنت حاملا فأنت طالق، فهى عكس المسألة قبلها ففى الموضع الذى يقع الطلاق هناك لا يقع ههنا، وفى الموضع الذى لا يقع هناك يقع ههنا، إلا أنها إذا أتت بولد لاكثر من ستة أشهر من حين وطئ الزوج بعد اليمين ولاقل من أربع سنين من حين عقد الصفة لم تطلق وأن النكاح باق، والظاهر حدوث الولد بعد الوطئ لان الاصل عدمه قبله، ولا يحل له الوطئ حتى يستبرئها.
هكذا نص أحمد كما أفاده ابن قدامة في مغنيه (فرع)
فأما إذا قال لها: ان كنت حاملا فأنت طالق، فعليه أن يستبرئها لانا لا نعلم الحمل وعدمه الا بالاستبراء، وفى كيفية الاستبراء ووقته ما ذكرناه في الاولة.
وهل يحرم عليه وطؤها قبل أن يعلم براءة رحمها بالاستبراء؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يحرم لان الاصل عدم الحمل وثبوت الاباحة
(والثانى)
يحرم لانه يجوز أن تكون حاملا فيحرم وطؤها.
ويجوز أن تكون حاملا فيحل وطؤها فغلب التحريم - فإن استبرأت ولم يظهر بها الحمل - علمنا أنها كانت حائلا وقت الحلف ولم يقع عليها الطلاق.
وإن ظهر بها الحمل فظرت.
فإن وضعته لاقل من ستة أشهر من حين حلف الطلاق - علمنا أنها كانت حاملا وقت اليمين
وأن الطلاق وقع عليها.
وإن وضعته لاكثر من أربع سنين من وقت اليمين علمنا أنها كانت حاملا حين اليمين وأن الطلاق لم يقع عليها، وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين أو ما دونها من حين اليمين، فإن لم يطأها الزوج بعد اليمين، فإن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الوطئ حكمنا بوقوع الطلاق لانا لا نعلم أنه كان موجودا حين

(17/177)


اليمين، وان وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت الوطئ لم يقع الطلاق وجها واحدا، لانه يجوز أن يكون موجودا حال اليمين، ويجوز أن يكون حدث من الوطئ فلا يقع الطلاق بالشك.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
إذا قال لامرأته: ان ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدا طلقت حيا كان أو ميتا، لان اسم الولد يقع على الجميع، فان ولدت آخر لم تطلق لان اللفط لا يقتضى التكرار.
وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدين من حمل، واحدا بعد واحد، طلقت بالاول ولم تطلق بالثاني.
وان ولدت ثلاثة أولاد واحدا بعد واحد طلقت بالاول طلقة وبالثانى طلقه ولا يقع بالثالث شئ.
وحكى أبو على بن خيران عن الاملاء قولا آخر أنه يقع بالثالث طلقه أخرى، والصحيح هو الاول، لان العدة انقضت بالولد الاخير فوجدت الصفة وهى بائن فلم يقع بها طلاق، كما لو قال: إذا مت فأنت طالق، وان ولدت ثلاثة دفعه واحدة طلقت ثلاثا: لان صفة الثلاث قد وجدت وهو زوجة فوقع، كما لو قال: ان كلمت زيدا فأنت طالق، وان كلمت عمرا فأنت طالق، وان كلمت بكرا فأنت طالق، فكلمتهم دفعة واحدة طلقت ثلاثا
وان قال: ولدت ذكرا فأنت طالق طلقه واحدة.
وان ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فوضعت ذكرا وأنثى دفعة واحدة طلقت ثلاثا.
وان وضعت أحدهما بعد الآخر وقع بالاول ما علق عليه ولم يقع بالثاني شئ لبينونتها بانقضاء العدة وهذا ظاهر.
وان لم تعلم كيف وضعتهما طلقت طلقة لانها يقين، والورع أن يلتزم الثلاث.
وإن قال: يا حفصة ان كان أول ما تلدين ذكرا فعمرة طالق، وان كان أنثى فأنت طالق، فولدت ذكرا وأنثى دفعة واحدة لم تطلق واحدة منهما لانه ليس فيهما أول: وان قال ان كان في بطنك ذكر فأنت طالق طلقه، وان كان في بطنك أنثى فأنت طالق طلقتين فوضعت ذكرا وأنثى طلقت ثلاثا لاجتماع الصفتين

(17/178)


وإن قال: إن كان حملك أو ما في بطنك ذكرا فأنت طالق، فوضعت ذكرا وأنثى لم تطلق، لان الصفة أن يكون جميع ما في البطن ذكرا ولم يوجد ذلك.
(الشرح) الاحكام.
قوله: إذا قال لامرأته: إن ولدت ولدا فأنت طالق الخ فجملة ذلك أنه إذا قال لها ذلك فولدت ولدا حيا كان أو ميتا وقع عليها الطلاق لوقوع اسم الولد عليه، فإن قالت ولدت فصدقها الزوج أو كذبها فأقامت عليه بينة حكم عليه بوقوع الطلاق.
والذى يقتضى المذهب انها إذا أقامت أربع نسوة على الولادة وقع عليها الطلاق ويثبت النسب بذلك.
وان ولدت آخر لم تطلق به لان قوله لا يقتضى التكرار وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق، فولدت ثلاثة أولاد واحدا بعد واحد، بين كل ولدين دون ستة أشهر، طلقت بالاول طلقة، وطلقت بالثاني طلقة لانها رجعية عند وضع الثاني، والرجعية يلحقها الطلاق، وكل ما يقتضى التكرار، فإذا ولدت الثالث لم يقع به طلاق
وحكى أبو على بن خيران أن الشافعي قال في بعض أماليه القديمة: إنها تطلق به طلقه ثالثة، وأنكر أصحابنا هذا وقالوا: لا نعرف هذا للشافعي في قديم ولا جديد، لان عدتها تنقضي بوضع الثالث، فتوجد الصفة وهى ليست بزوجته.
فلم يقع عليها طلاق، كما لو قال لها: إذا مت فأنت طالق فمات فإنها لا تطلق، وتأولوا هذه الحكاية على أنه راجعها بعد ولادة الثاني فولدت الثالث وهى زوجة وان ولدت أربعة واحدا بعد واحد من حمل طلقت بالاول طلقة، وبالثانى طلقة وبالثالث طلقه، وبانت وانقضت عدتها بوضع الرابع وان وضعت الثلاثة دفعة واحدة طلقت الثلاث، لان الصفات وجدت وهى زوجة، وان وضعت الثاني لستة أشهر فما زاد من وضع الاول طلقت بالاول طلقه ولم تطلق بالثاني ولا بالثالث، لانها من حمل آخر، وان ولدت ولدين واحدا بعد الآخر من حمل واحد طلقت بالاول طلقه وانقضت عدتها بوضع الثاني، ولم تطلق به إلا على الحكاية التى حكاها ابن خيران، وان وضعتها دفعة واحدة طلقت بوصفها طلقتين

(17/179)


(فرع)
وان قال لها: ان ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وان ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا طلقت واحدة واعتدت بالاقراء، وان ولدت أنثى طلقت طلقتين واعتدت بالاقراء، وان ولدت ذكرا وأنثى دفعه واحدة طلقت ثلاثا لوجود الصفتين واعتدت بالاقراء، وان ولدت الذكر أولا ثم ولدت الانثى بعده وبينهما أقل من ستة أشهر طلقت لولادة الذكر طلقة وانقضت عدتها بوضع الانثى ولم تطلق بولادتها إلا على الحكايه التى حكاها ابن خيران، وان ولدت الانثى أولا ثم ولدت الذكر بعده من حمل واحد طلقت بولادة الانثى طلقتين وانقضت عدتها بولادة الذكر ولا تطلق به الا على ما حكاه
ابن خيران.
وان ولدتهما واحدا بعد واحد ولم يعلم السابق منهما طلقت واحدة لانه هو اليقين وما زاد مشكوك فيه، والورع يقتضيه أن يلتزم اثنتين، وان لم يعلم هل وضعتهما معا أو واحدا بعد واحد؟ لم تطلق الا واحدة لانه يقين، والورع أن يلتزم الثلاث لجواز أن تكون ولدتهما معا وإن ولدت ذكرا وأنثيين من حمل واحد نظرت فإن ولدت الذكر أولا ثم أنثى ثم أنثى طلقت بولادة الذكر طلقة وبالانثى طلقتين وبانت وانقضت عدتها بوضع الثانية وان ولدت أولا أنثى ثم الذكر ثم الانثى، طلقت بالانثى الاولة طلقتين وبالذكر طلقه وبانت وانقضت عدتها بوضع الثالثة وان ولدت الانثيين أولا واحدة بعد واحدة ثم الذكر بعدهما طلقت بالاولة طلقتين ولم تطلق بالانثى الثانية لئلا يقتضى التكرار، وانقضت عدتها بوضع الذكر، ولا تطلق به على المذهب الا على ما حكاه ابن خيران وإن ولدت الذكر أولا ثم ولدت الانثيين بعده دفعة واحدة طلقت بالذكر طلقة وانقضت عدتها بوضع الانثيين ولا تطلق بهما على المذهب، وان ولدت الذكر وأنثى بعده دفعة واحدة ثم ولدت الانثى بعدهما طلقت بوضع الانثى والذكر ثلاثا وانقضت عدتها بوضع الثانيه، بهذا كله قال أحمد وأصحابه وأبو ثور وأصحاب الرأى.
(فرع)
وإن قال لامرأته: ان كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، وان كان أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا وأنثى نظرت فإن ولدت الذكر

(17/180)


أولا طلقت طلقه.
فإذا ولدت الانثى بعده انقضت عدتها بولادتها ولا تطلق بولادتها، وإن ولدت الانثى أولا طلقت بها طلقتين وانقضت عدتها بولادة الذكر ولا تطلق به، وإن أشكل الاول منهما طلقت واحدة لانها يقين وما زاد
مشكوك فيه.
وإن ولدتهما معا لم تطلق لانه ليس فيهما أول وإن قال: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت طالق طلقه، وإن كان آخر ولد تلدينه جارية فأنت طالق ثلاثا فولدت غلاما وجاريه من حمل واحد.
واحدا بعد الآخر - فإن ولدت الغلام أولا - طلقت طلقة، لان الاسم الاول يقع عليه وانقضت عدتها بولادة الجارية، ولا يقع عليها طلاق بولادتها وإن ولدت الجارية أولا ثم الغلام بعدها لم تطلق، لانه لا يقال لها آخر الا إذا كان قبلها أول.
وإذا ولدت الغلام بعدها لم تطلق لانه ليس بأول.
وان ولدت ولدا واحدا لا يمين.
قال ابن الحداد: فإن كان غلاما وقع عليها طلقه، لان اسم الاول واقع عليه، وإن كان جارية لم يقع عليها شئ لان اسم الآخر لا يقع عليها، لان الآخر يقتضى أن يكون قبله أول.
ولا يقتضى الاول أن يكون بعده آخر.
قال القاضى أبو الطيب: ينبغى أن يقال في الغلام مثله، لانه لما لم يقع اسم الآخر إلا لما قبله أولا، فكذلك لا يقع اسم الاول إلا لما بعده آخر.
(فرع)
وإن قال لها: إن ولدت ولدا فأنت طالق، وإن ولدت غلاما فأنت طالق، فإن ولدت أنثى طلقت طلقة لانه يقع عليها اسم الولد.
وإن ولدت غلاما طلقت طلقتين لانه توجد فيه الصفتان وهما ولد والغلام، كما لو قال لها: إن كلمت رجلا فأنت طالق، وإن كلمت شيوعيا فأنت طالق، فكلمت رحلا شيوعيا طلقت طلقتين.
(فرع)
وان قال لها: ان كان في جوفك ذكر فأنت طالق طلقه، وان كان في جوفك أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا طلقت طلقه من حين حلف وانقضت عدتها بوضع الغلام، وان ولدت أنثى طلقت طلقتين حين حلف وانقضت عدتها بالولادة، وان ولدت ذكرا وأنثى من حمل واحد طلقت ثلاثا
لوجود الصفتين، سواء ولدتهما واحدا بعد واحد أو ولدتهما معا لان الصفة أن

(17/181)


ما في جوفها وينبغى أن يقال انها تطلق إذا ولدت لدون ستة أشهر من حين عقد الصفة، سواء وطئها أو لم يطأها.
وان ولدت لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من حين اليمين نظرت - فإن لم يطأها بعد اليمين - طلقت، وان وطئها بعد اليمين - فان ولدت لستة أشهر فما زاد من وقت الوطئ - لم تطلق لجواز أن يكون الولد حدث من الوطئ بعد اليمين، فلم يكن في جوفها وقت اليمين.
وان ولدت لدون ستة أشهر من وقت الوطئ طلقت لانا تيقنا أنه لم يحدث من الوطئ بعد اليمين.
وان قال لها: ان كان ما في جوفك أو حملك ذكرا فأنت طالق طلقة، وان كان أنثى فأنت طالق طلقتين فولدت لاقل من ستة أشهر من وقت اليمين أو لستة أشهر فما زاد ولم يطئها أو وطئها بعد اليمين وولدته لاقل من ستة أشهر من حين الوطئ نظرت فإن ولدت ذكرا طلقت طلقه حين العقد وانقضت عدتها بولادته وان ولدت أنثى من حمل واحد لم تطلق سواء ولدت أحدهما بعد الاخر أو ولدتهما معا، لانه شرط أن يكون ما في جوفها أو جميع حملها ذكرا أو جميع حملها أنثى ولم يوجد ذلك فلم تطلق (فرع)
وان قال لها: ان كنت حاملا بغلام فأنت طالق طلقه، وان ولدت جاريه فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت غلاما طلقت طلقه حين عقد الصفه وانقضت عدتها بوضع الغلام.
وان ودلت جاريه لا غير طلقت طلقتان بولادتها واعتدت بثلاثة أقراء، وان ولدت غلاما وجاريه من حمل واحد نظرت، فإن ولدت الغلام أولا ثم الجارية بعده، تبينا أنه وقع عليها طلقه حين عقد الصفه.
وانقضت عدتها بولادة الجارية ولا يقع عليها طلاق بولادة الجارية لان الصفه
وجدت وهى غير زوجه، الا على حكاية ابن خيران وان ولدت الجارية ثم الغلام بعدها تبينا أنه وقع عليها طلقه حين عقد الصفه لكونها حاملا بغلام ووقع عليها طلقتان بولادة الجارية وانقضت عدتها بولادة الغلام.
وهكذا الحكم إذا ولدتهما معا.
وان ولدت أحدهما بعد الاخر ونسى الاول منهما طلقت طلقه لانها يقين.
وما زاد مشكوك فيه فلم يقع

(17/182)


(فرع)
قال ابن الحداد: إذا قال لها: كلما ولدت فأنت طالق للسنة فولدت ولدا وبقى في بطنها آخر طلقت بالاول طلقة لانها حامل بعد ولادة الاول ولا سنة في طلاقها ولا بدعة، لان عدتها تنقضي بوضع الولد الثاني، فإن لم يراجعها قبل وضع الولد الثاني لم تطلق بولادة الثاني، لان عدتها تنقضي بولادته، فإن راجعها قبل ولادة الثاني لم تطلق حتى تطهر من نفاسها.
وإن قال لها: إن ولدت فأنت طالق فخرج بعض الولد ومات أحد الزوجين قبل استكمال خروج الولد لم تطلق، لانه بخروج بعض الولد لا يقال ولدت، بخلاف ما لو علق الطلاق على الحيض، فإنها تطلق برؤية الدم، لانه يقال لها: حاضت.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا قال للمدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق وقعت طلقتان، إحداهما بقوله أنت طالق والاخرى بوجود الصفة، وإن قال لم أرد بقولى إذا طلقتك فأنت طالق عقد الطلاق بالصفة، وإنما أردت أنى إذا طلقتك تطلقين بما أوقع عليك من الطلاق لم يقبل قوله في الحكم لان الظاهر انه عقد طلاقا على صفة ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لانه يحتمل ما يدعيه
وإن قال: ان طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار وقعت طلقتان إحداهما بدخول الدار والاخرى بوجود الصفة، لان الصفة أن يطلقها، وان علق طلاقها بدخول الدار فدخلت فقد طلقها.
وان قال لها مبتدئا: ان دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال إذا طلقتك فأنت طالق فدخلت الدار وقعت طلقه بدخول الدار ولا تطلق بقوله إذا طلقتك فأنت طالق لان هذا يقتضى ابتداء إيقاع بعد عقد الصفه، وما وقع بدخول الدار ليس بابتداء ايقاع بعد عقد الصفه، وانما هو وقوع بالصفة السابقة لعقد الطلاق، فإن قال ان طلقتك فأنت طالق، ثم وكل من يطلقها فطلقها وقعت الطلقه التى أوقعها الوكيل ولا يقع ما عقده على الصفه، لان الصفه أن يطلقها بنفسه.
وان قال إذا أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق ثم قال لها ان دخلت الدار فأنت طالق

(17/183)


فدخلت فقد قال بعض أصحابنا انها تطلق طلقه بدخول الدار ولا تطلق بقوله إذا أوقعت عليك، لان قوله إذا أوقعت عليك يقتضى طلاقا يباشر ايقاعه، وما يقع بدخول الدار يقع حكما قال الشيخ الامام: وعندي أنه يقع طلقتان.
احداهما بدخول الدار والاخرى بالصفة.
كما قلنا فيمن قال: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار.
وان قال كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها أنت طالق طلقت طلقتين.
احداهما بقوله أنت طالق والاخرى بوجود الصفه ولا تقع الثالثه بوقوع الثانيه لان الصفه ايقاع الطلاق والصفه لم تتكرر فلم يتكرر الطلاق
(فصل)
وان قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال لها أنت طالق وقعت طلقتان، طلقه بقوله أنت طالق وطلقه بوجود الصفه.
وان قال
لها بعد هذا العقد أو قبله: ان دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار طلقت طلقتين طلقه بدخول الدار وطلقه بوجود الصفه، وان وكل وكيلا بعد هذا العقد في طلاقها فطلقها ففيه وجهان:
(أحدهما)
يقع ما أوقعه الوكيل ولا يقع ما علقه بالصفة كما قلنا فيمن قال إذا طلقتك فأنت طالق ثم وكل من يطلق
(والثانى)
أنه يقع طلقتان، طلقه بإيقاع الوكيل وطلقه بالصفة، لان الصفه وقوع طلاق الزوج، وما وقع بإيقاع الوكيل هو طلاق الزوج.
وان قال إذا طلقتك فأنت طالق وإذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال لها أنت طالق وقع الثلاث طلقه بقوله أنت طالق وطلقتان بالصفتين، وان قال كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم أوقع عليها طلقه بالمباشرة أو نصفه عقدها قبل هذا العقد أو بعده طلقت ثلاثا واحدة بعد واحدة، لان بالطلقه الاولى توجد صفة الطلقه الثانيه وبالثانية توجد صفة الطلقه الثالثه (الشرح) الاحكام: إذا قال لها: إذا وقع عليك الطلاق فأنت طالق ثم قال: أنت طالق وقع عليها طلقتان، طلقه بالمباشرة وطلقه بالصفة.
وهكذا

(17/184)


لو قال لها بعد عقد الصفة أو قبلها: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وقع عليها طلقتان بخلاف ما لو قال ان دخلت الدار فأنت طالق ثم قال لها بعد ذلك إذا طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار، فإنها لا تطلق إلا طلقة، لان الصفه ههنا وقوع طلاقه، وقد وجد، وفى تلك الصفة إحداثه الطلاق ولم يوجد.
وإن قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق ثم دخلت الدار وقع عليها طلقة بدخول الدار ولا تطلق بقوله: إذا طلقتك فأنت طالق، لان معنى قوله: طلقتك أي إذا أحدثت طلاقك، وعقد
الطلاق بدخول الدار كان سابقا لهذا.
وان قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق ثم وكل من يطلقها وقع عليها ما أوقعه الوكيل لا غير، ولا تطلق بالصفة لانه لم يطلقها، وان قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق ثم أعاد هذا القول لم تطلق، لان تعليق الطلاق ليس بشرط.
وان قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم وكل من يطلقها، ففيه وجهان
(أحدهما)
يقع عليها ما أوقعه الوكيل لا غير، كما قلنا في قوله: إذا طلقتك فأنت طالق
(والثانى)
يقع عليها طلقتان، طلقة بايقاع الوكيل، وطلقه بالصفة، لان الصفة وقوع طلاق الزوج، وما أوقعه الوكيل هو طلاق الزوج.
وان قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، وإذا طلقتك فأنت طالق، فانه لا يقع بهذا طلاق لانهما تعليقان للطلاق، فان أوقع عليها بعد ذلك طلقة بالمباشرة أو بالصفة وقع عليها ثلاث طلقات، طلقه بايقاعه وطلقتان بالصفتين وان قال لها: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم أوقع عليها طلقة بالمباشرة أو بصفة عقدها بعد هذا القول أو قبله وقع عليها ثلاث طلقات لان " كلما " تقتضي التكرار فإذا أوقع عليها طلقه اقتضى وقوعها وقوع طلقه ثانيه واقتضى وقوع الثانيه وقوع الثالثه.
وان قال لها كلما طلقتك فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق وقع عليها طلقه بالمباشرة وطلقه بالصفة ولا تقع عليها الثالثه بوقوع الثانيه.
لان الصفه ايقاع الطلاق، والصفه لم تكرر فلم يتكرر الطلاق.
قال ابن الصباغ: وهكذا إذا قال: كلما أوقعت عليك طلاقي فأنت طالق

(17/185)


ثم قال لها أنت طالق وقع عليها طلقتان ولا تقع الثالثة لما ذكرناه.
وإن قال: كلما أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق ثم قال لها: أنت طالق وقع عليها طلقتان طلقة بالمباشرة وطلقة بالصفة ولا تقع الثالثة بوقوع الثانية لانه لم يوقع الثانية،
وإنما وقعت حكما.
وإن قال: إذا أوقعت عليك أو كلما أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: ان دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار وقع عليها طلقه بدخول الدار، وهل تقع عليها طلقة بالصفة الاولة؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال الشيخ أبو حامد والمحاملى: لا يقع عليها لان الصفة إن وقع عليها الطلاق ولم يوقع هذه الطلقه وإنما وقعت بالصفة فلم يوجد شرط الثانية.
وقال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: تقع الثانية لان الصفة توقع الطلاق عليها، وإذا علق الطلاق بصفة فوجدت الصفة فهو الموقع للطلاق كما قلنا فيه: إذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق (فرع)
ان كان له زوجتان حفصة وزينب، فقال لزينب كلما طلقت حفصة فأنت طالق وقال لحفصة كلما طلقت زينب فأنت طالق فقد جعل طلاق كل واحدة منهما صفة للاخرى وعقد صفة طلاق زينب أولا فينظر فيه، فإن بدأ وقال لزينب أنت طالق وقع عليها طلقه بالمباشرة ويقع على حفصة بهذه الطلقه طلقه بالصفة وبوقوع هذه الطلقه على حفصه تقع طلقه ثانيه على زينب بالصفة لان حفصه بهذه الطلقه طلقت بصفة تأخرت عن عقد صفة طلاق زينب فهو محدث لطلاقها فصار كما قلنا فيه: إذا قال لها كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: ان دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار وقع عليها طلقه بدخول الدار وأخرى بوجود الصفه، لانه قد أحدث طلاقها بعد أن عقدت لها الصفه.
وان كان أحدثه بصفة لا بمباشرة وإن بدأ فقال لحفصه: أنت طالق وقع عليها طلقه بالمباشرة، وبوقوع هذه الطلقه على حفصه تقع طلقه على زينب بالصفة ولا يعود الطلاق إلى حفصه لانه ما أحدث طلاق زينب بعد عقد صفة طلاق حفصه، وإنما هذه الصفه سابقه
لصفة طلاق حفصه فهو كما قلنا فيه: إذا قال لها ان دخلت الدار فأنت طالق،

(17/186)


ثم قال بعد ذلك: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار لم تطلق الا واحدة بدخول الدار.
وإن قال لزينب: إذا طلقتك فحفصه طالق، ثم قال لحفصه: إذا طلقتك فزينب طالق، فان بدأ وقال لزينب أنت طالق وقع عليها طلقه بالمباشرة وبوقوع هذه الطلقه على زينب تطلق حفصه طلقه بالصفة، وبوقوع هذه الطلقه على حفصه لا يعود الطلاق على زينب، لانه ما وجد شرط وقوعها، لان قوله لحفصه: إذا طلقتك فزينب طالق، معناه إذا أحدثت طلاقك ولم يحدث طلاقها بعد هذا العقد، وانما طلقتك بالصفة السابقة، فهو كما قلنا فيه: إذا قال لها ان دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إذا طلقت فأنت طالق ثم دخلت الدار فانها تطلق طلقه بدخول الدار لا غير.
وان بدأ فقال لحفصه: إذا طلقت زينب أنت طالق طلقت حفصه بالمباشرة وبوقوع هذه الطلقه بقع على زينب طلقه بالصفة، وبوقوع هذه الطلقه على زينب تقع على حفصه طلقه بائنه بالصفة، لانه قال لزينب إذا طلقتك فحفصه طالق، قيل ان قال لحفصه: إذا طلقتك فزينب طالق فهو كما قلنا فيه: إذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق ثم دخلت الدار وقع عليها طلقتان، طلقه بدخول الدار وطلقه بوجود الصفه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال لغير المدخول بها إذا طلقتك فأنت طالق أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوقعت عليها طلقه بالمباشرة أو بالصفة لم يقع غيرها لانها تبين بها فلم يلحقها ما بعدها

(فصل)
وان قال متى لم أطلقك أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق فهو على الفور، فإذا مضى زمان يمكنه أن يطلق فيه فلم يطلق وقع الطلاق.
وان قال: ان لم أطلقك فأنت طالق فالمنصوص أنه على التراخي ولا يقع به الطلاق الا عند فوات الطلاق وهو عند موت أحدهما وإن قال: إذا لم أطلقك فأنت طالق فالمنصوص أنه على الفور، فإذا مضى

(17/187)


زمان يمكنه أن يطلق فلم يطلق وقع الطلاق، فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الاخرى فجعلهما على قولين، ومنهم من حملهما على ظاهرهما فجعل قوله إن لم أطلقك على التراخي، وجعل قوله إذا لم أطلقك على الفور، وهو الصحيح، لان قوله إذا اسم لزمان مستقبل، ومعناه أي وقت ولهذا يجاب به عن السؤال عن الوقت فيقال متى ألقاك؟ فتقول إذا شئت كما تقول أي وقت شئت فكان على الفور، كما لو قال أي وقت لم أطلقك فأنت طالق وليس كذلك (إن) فإنه لا يستعمل في الزمان، ولهذا لا يجوز أن يقال متى ألقاك، فتقول إن شئت وإنما يستعمل في الفعل ويجاب بها عن السؤال عن الفعل فيقال هل ألقاك فنقول ان شئت فيصير معناه ان فاتني أن أطلقك فأنت طالق، والفوات يكون في آخر العمر.
وإن قال لها كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى ثلاثة أوقات لم تطلق فيها وقع عليها ثلاث طلقات واحدة بعد واحدة، لان معناه كلما سكت عن طلاقك فأنت طالق، وقد سكت ثلاث سكنات (الشرح) الاحكام: إذا كان له امرأة غير مدخول بها.
فقال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، أو كلما أوقعت عليك الطلاق أو كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك أنت طالق لم يقع عليها
الا الطلقة التى أوقعها لانها بائنة بها، والبائن لا يلحقها طلاق.
وان قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق وطالق، فدخلت الدار فقيه وجهان حكماهما العمرانى عن القاضى أبى الطيب
(أحدهما)
يقع طلقتان لانهما يقعان بالدخول من غير ترتيب
(والثانى)
لا يقع الا واحدة، كما إذا قال لها أنت طالق وطالق.
قال القاضى أبو الطيب: ويحتمل أن يكون هذا الوجه على قول من قال من أصحابنا ان الواو للترتيب: والاول أصح (مسألة) قوله: وان قال متى لم أطلقك الخ، فقد قال الشافعي رضى الله عنه ولو قال أنت طالق إذا لم أطلقك أو متى لم أطلقك فسكت مدة يمكنه فيها الطلاق طلقت.
قال في البيان: وجملة ذلك أن الحروف التى تستعمل في الطلاق المعلق

(17/188)


بالصفات سبعة: ان، وإذا، ومتى، ومتى ما، وأى وقت، وأى حين، وأى زمان.
وإذا استعملت في الطلاق فله ثلاثة أحوال (أحدها) أن يستعمل في الطلاق متجردا عن العوض وعن كلمة لم
(والثانى)
أن تستعمل فيه مع العوض (الثالث) أن يستعمل فيه كلمة لم، فإن استعملت في الطلاق متجردا عن العوض وعن كلمة لم مثل ان قال: ان دخلت الدار فأنت طالق، أو إذا دخلت الدار أو متى أو متى ما دخلت أو أي وقت دخلت أو أي حين دخلت أو أي زمان دخلت فجميع هذا لا يقتضى الفور، بل أي وقت دخلت الدار طلقت، لان ذلك يقتضى دخولها الدار، فأى وقت دخلت الدار فقد وجد الشرط اه.
وان استعملت في الطلاق مع العوض بأن قال: ان أعطيتني أو ان ضمنت لى ألفا فأنت طالق، فإن خمسة أحرف منها لا تقتضي الفور، بل هي على التراخي بلا خلاف على المذهب، وهى متى ومتى ما وأى حين وأى وقت وأى زمان ويمكن أن يدخل فيها أيما وحرف منها يقتضى الفور على المذهب بلا خلاف
وهو ان، وحرف منها اختلف أصحابنا فيه وهو إذا، فعند أكثر أصحابنا هو على الفور.
وعند الشيخ أبى اسحاق لا يقتضى الفور، وقد أو فينا ذلك في الخلع وان استعملت في الطلاق مع كلمة لم فلا خلاف على المذهب أن خمسة أحرف منها على الفور، وهى متى ومتى ما وأى حين وأى وقت وأى زمان.
فإذا قال متى لم تعطنى ألفا فأنت طالق.
أو متى لم أطلقك أو متى لم تدخلي الدار فأنت طالق.
وما أشبهه من الصفات.
فان أعطته ألفا على الفور بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه أو دخلت الدار فقد بر في يمينه ولا تطلق، وهكذا إذا قال: متى لم أطلقك فطلقها على الفور فقد بر في يمينه ولا يقع عليها الا ما أوقعه وان تأخرت العطية أو دخول الدار أو الطلاق عن ذلك وقع عليها الطلاق لان تقديره أي زمان عقدت فيه العطيه أو الدخول أو الطلاق فأنت طالق.
فإذا مضى زمان يمكن ايجاد هذه الصفة ولم توجد فقد وجد شرط وقوع الطلاق المعلق بذلك فوقع.

(17/189)


وأما حروف إن وإذا فقد نص الشافعي أن إذا على الفور كالحروف الخمسة وأن حرف إن لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، بَلْ هُوَ عَلَى التَّرَاخِي، فمن أصحابنا من عسر عليه الفرق بينهما، فقال: لا فرق بينهما، ولهذا إذا كان معهما العوض كانا على الفور فنقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الاخرى وجعلهما على قولين، ومنهم من حملهما على ظاهرهما، وجعل إذا على الفور، وإن على التراخي، وفرق بينهما بأن حرف إذا يستعمل فيما يتحقق وجوده، وحرف إن يستعمل فيما يشك بوجوده، بدليل أنه يقال: إذا طلعت الشمس، ولهذا قال تعالى " إذا السماء انشقت " ولا يقال: إن طلعت الشمس، ويقال: إن قدم زيد، فجاز أن يكون
إذا على الفور، وإن على التراخي، فإذا قلنا بهذا وقال لها: إذا لم أطلقك فأنت طالق، أو إذا لم تدخلي الدار فأنت طالق، فإذا مضى بعد قوله زمان يمكنه أن يقول فيه: أنت طالق، ولم يطلق أو مضى زمان يمكنها فيه دخول الدار ولم تدخل الدار، وقع عليها الطلاق.
وإن قال لها: إن لم أطلقك أو لم تدخلي الدار فأنت طالق، فانها لا تطلق إلا إذا فات الطلاق أو الدخول، وذلك بآخر جزء من أجزاء حياة الميت الاول منهما، وان قال لها: كلما لا أطلقك فأنت طالق فمضى بعد هذا ثلاثة أوقات يمكنه أن يطلق فيها فلم يطلق طلقت ثلاثا، لان كلما تقتضي التكرار، لان تقديره كلما سكت عن طلاقك فأنت طالق، وقد سكت ثلاثه أوقات فطلقت ثلاثا.
(فرع)
وان كان له أربع زوجات فقال لهن: أيتكن لم أطاها اليوم فصواحبها طوالق، فان ذهب اليوم ولم يطأ واحدة منهن طلقن ثلاثا ثلاثا، لان لكل واحدة منهن ثلاث صواحب لم يطأهن، وتطلق كل واحدة من الثلاث اللاتى لم يطاهن طلقة، لان لها صاحبتين لم يطأهما، وان وطئ اثنتين في اليوم طلقت كل واحدة من الموطوءتين طلقتين لان لهما صاحبتين لم يطأهما، وتطلق كل واحدة من التى لم يطاها طلقة لانه ليس لها الا صاحبة لم يطأها، وان وطئ ثلاثا منهن في اليوم طلقت كل واحدة من الثلاث اللاتى وطئهن طلقة، لانه ليس لهن الا صاحبة لم يطأها ولا تطلق الرابعة لانه ليس لها صاحبة غير موطوءة

(17/190)


وان وطئهن كلهن في اليوم انحلت الصفة ولم تطلق واحدة منهن.
وان قال لهن أيتكن لم أطأها فصواحبها طوالق، ولم يقل اليوم كان ذلك للتراخي، فان مات قبل أن يطأ واحدة منهن طلقن ثلاثا ثلاثا، وان ماتت واحدة منهن قبل أن يطأها طلقن الباقيات طلقة طلقة، ولم تطلق هي، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
وان قال: ان حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها ان خرجت أو ان لم تخرجي أو ان لم يكن هذا كما قلت فأنت طالق طلقت لانه حلف بطلاقها، وان قال ان طلعت الشمس أو ان جاء الحاج فأنت طالق لم يقع الطلاق حتى تطلع الشمس أو يجئ الحاج لان اليمين ما قصد بها المنع من فعل أو الحث على فعل أو التصديق على فعل وليس في طلوع الشمس ومجئ الحاج منع ولا حث ولا تصديق، وانما هو صفة للطلاق، فإذا وجدوت وقع الطلاق بوجود الصفة وان قال لها: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد هذا القول وقعت طلقة لانه حلف بطلاقها، فان أعاد ثالثا وقعت طلقة ثانية، وان أعاد رابعا وقعت طلقة ثالثة، لان كل مرة توجد صفة طلاق وتنعقد صفة أخرى، وان أعادها خامسا لم يقع طلاق، لانه لم يبق له طلاق، ولا ينعقد به يمين في طلاق غيرها، لان اليمين بطلاق من لا يملكها لا ينعقد، وان كانت له امرأتان احداهما مدخول بها والاخرى غير مدخول بها فقال: ان حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان، ثم أعاد هذا القول طلقت المدخول بها طلقة رجعية، وتطلق غير المدخول بها طلقه بائنه، فان أعاد ثم تطلق واحدة منهما لان غير المدخول بها بائن، والمدخول بها لا يوجد شرط طلاقها، لان شرط طلاقها أن يحلف بطلاقهما ولم يحلف بطلاقهما، لان غير المدخول بها لا يصح الحلف بطلاقها.
(الشرح) قوله: وان قال: ان حلفت بطلاقك فأنت طالق الخ فجملة ذلك أنه إذا قال لامرأته: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها: ان دخلت الدار أو ان لم تدخلي الدار أو أخبرها بشئ أو أخبرته بشئ فقال لها:

(17/191)


ان لم يكن الامر كما أخبرتك أو كما أخبرتني فأنت طالق، طلقت لانه قد حلف
بطلاقها.
وان قال لها: إذا طلعت الشمس أو إذا قدم الحاج فأنت طالق، فإن لم يحلف بطلاقها فلا تطلق قبل طلوع الشمس وقبل قدوم الحاج.
وقال أبو حنيفة وأحمد: كل ذلك حلف.
فتطلق به، الا قوله: أنت طالق ان طهرت أو حضت أو شئت.
دليلنا أن اليمين هو ما يقصد به المنع من شئ.
كقوله ان دخلت الدار أو التزام فعل شئ، كقوله ان لم أدخل أو ان لم تدخلي، أو التصديق كقوله: ان لم يكن هذا الامر كما أخبرتك أو كما أخبرتني.
وقوله: إذا طلعت الشمس أو إذا قدم الحاج ليس فيه يمين، وانما هو تعلق طلاق على صفة.
فهو كقوله ان طهرت أو حضت أو شئت وان قال لها: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد هذا الكلام ثانيا طلقت طلقة.
لانه حلف بطلاقها، لانه باليمين الاولة منع نفسه من الحلف وقد حلف.
فإن أعاد ذلك ثلاثا طلقت الثانيه.
فان عاد ذلك رابعا طلقت الثالثة وبانت.
(فرع)
قال ابن الصباع الشامل (1) : إذا قال لامرأته إذا لم أحلف بطلاقك فأنت طالق وكرر ذلك ثلاث مرات.
فان فرق وسكت بعد كل يمين سكتة يمكنه أن يحلف فلم يحلف وقع عليها ثلاث طلقات.
لان إذا في النفى يقتضى الفور، وان لم يفرق بينهن لم يحنث في الاولة والثانية.
لانه حلف عقيبهما ويحنث في الثالثة فتطلق.
لانه لم يحلف عقيبهما فأما إذا قال: كلما لم أحلف بطلاقك فأنت طالق فمضى ثلاثة أوقات يمكنه أنه يحلف فيها ولم يحلف طلقت ثلاثا لان كلما تقتضي التكرار.
وان قال لها كلما حلفت بطلاقك فأنت طالق.
ثم قال: إذا جاء المطر ولم أكن بنيت هذا الحائط، أو يخاط الثوب قبل مجئ المطر اه
__________
(1) نسخه خطية بمكتبة المعهد الدينى بثغر دمياط موقوفه من بعض الصالحين نقل الينا بعض الثقات من أصحابنا ما انتفعنا به في شروحنا أثابهم الله وايانا

(17/192)


(فرع)
وان كان له امرأتان فقال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق قال ابن الصباغ: فمتى سكت عقب هذا القول قدرا يمكنه أن يحلف بطلاقها فلم يحلف طلقتا لانه جعل ترك اليمين بطلاق كل واحدة منهما شرطا لطلاق صاحبتها فلو كرر هذا القول مرارا متصلا بعضها ببعض لم تطلق واحدة منهما ما دام مكررا، إلا ان هذا القول منه يمين بطلاقها، فتبين الاولة بالثانية، وتبين الثانية بالثالثة، فإذا سكت طلقتا باليمين الاخرى، فلو كرر هذا القول ثلاثا وسكت عقب كل يمين طلقت كل واحدة ثلاثا وقال أبو على الشيخى: وعندي أن هذا خطأ، لان لقوله: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق ليس في لفظه متى يحلف بطلاقها، فيكون على التراخي.
ومعناه: إن فاتني الحلف بطلاقها فغيرها طالق، ولا يعلم الفوات إلا بموت أحدهما، إلا أن يقول: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها الساعه فغيرها طالق فالجواب صحيح حنيئذ.
ولو قال: متى لم أحلف أو أي وقت لم أحلف أو أي زمان، أو كلما لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق كان الجواب كما ذكرناه (فرع)
وإن كان له امرأتان زينب وعمرة فقال لهما: ان حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، فهذا تعليق طلاق عمرة بالحلف بطلاقهما جميعا، فإن أعاد هذه الكلمة مرارا لم تطلق واحدة منهما لانه لم يحلف بطلاقهما، وإنما كرر تعليق طلاق عمرة.
ولو قال بعد ذلك: ان دخلتما الدار فأنتما طالقان، طلقت عمرة لانه حلف بطلاقها.
وإن قال: ان حلفت بطلاقكما فإحداكما طالق، وكرر هذا القول لم تطلق واحدة منهما لانه لم يحلف بطلاقهما وإنما حلف بطلاق واحدة منهما.
ولو قال بعد ذلك: إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان، طلقت إحداهما لا بعينها لانه حلف بطلاقهما.
ولو قال: إذا حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، ثم أعاد هذا مرة طلقت كل واحدة منهما طلقة، لانه علق طلاقهما بالحلف بطلاق إحداهما لا محالة ولو قال: إذا حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، ثم قال: إذا حلفت بطلاقكما

(17/193)


فإحداكما طالق طلقتا جميعا، لانه قد حلف بطلاق إحداهما فيحنث في اليمين الاولة.
وان قال: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، وان حلفت بطلاقكما فزينب طالق.
قال ابن القاص: فإن أعاد ما قاله في زينب مرة لم تطلق، وان أعاد ما قال في عمرة أخرى طلقت لانه علق طلاق عمرة بصفتين، إحداهما اليمين بطلاقهما والاخرى اليمين بطلاق زينب، فما لم يحلف بعد القول الاول بطلاقهما معا أو مجتمعا أو متفرقا لم يحنث في طلاق عمرة.
وكذا إذا قال في المرة الثانيه في طلاق زينب.
فإذا كرر ما قال في زينب - وهو قوله الثاني ان حلفت بطلاقكما فزينب طالق - فلا تطلق واحدة منهما لا زينب ولا عمرة، لانه وجد إحدى الصفتين دون الاخرى، فإذا أعاد في عمرة طلقت عمرة لانه علق ابتداء الطلاق بالحلف بطلاقهما، وقد حلف ذلك بطلاق زينب وحدها، فإن حلف بطلاق عمرة بعد ذلك فقد اجتمع الصفتان في طلاق عمرة بعد تعليقه بهما فوقع بها، فإذا أعاد في زينب مرة أخرى ما قال فيها بعدما أعاد في عمرة طلقت زينب أيضا لانه قد حلف بعد ذلك بطلاقهما جميعا، فإذا حلف بعد ذلك بطلاقهما إما مجتمعا أو متفرقا فانه يقع.
(فرع)
وان كانت له امرأتان مدخول بها وغير مدخول بها، فقال لهما: إذا
حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان ثم أعاد هذا القول طلقت المدخول بها طلقة رجعيه وطلقت غير المدخول بها طلقة ثانيه، فان أعاد هذا القول ثالثا لم تطلق واحدة منهما، لان الصفه لم توجد، إذ البائن لا يصح الحلف بطلاقها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا كان له أربع نسوة وعبيد فقال: كما طلقت امرأة من نسائى فعبد من عبيدى حر، وكلما طلقت امرأتين فعبدان حران، وكلما طلقت ثلاثا فثلاثة أعبد أحرار، وكلما طلقت أربعا فأربعة أعبد أحرار، ثم طلقهن فالمذهب أنه يعتق خمسة عشر عبدا لان بطلاق الاولى يعتق عبد بوجود صفة الواحدة وبطلاق الثانيه يعتق ثلاثة أعبد، لانه اجتمع صفتان طلاق الواحدة وطلاق اثنتين، وبطلاق الثالثه يعتق أربعه أعبد، لانه اجتمع صفتان طلاق الواحدة

(17/194)


وطلاق الثلاث، وبطلاق الرابعة يعتق سبعة أعبد، لانه اجتمع ثلاث صفات طلاق الواحدة وطلاق اثنتين وطلاق أربع ومن أصحابنا من قال: يعتق سبعة عشر عبدا، لان في طلاق الثالثة ثلاث صفات، طلاق واحدة وطلاق اثنتين بعد الواحدة وطلاق الثلاث.
ومنهم من قال: يعتق عشرون عبدا، فجعل في الثلاث ثلاث صفات، وجعل في الاربع أربع صفات، طلاق واحدة وطلاق اثنتين وطلاق ثلاث بعد الواحدة وطلاق أربع، والجميع خطأ لانهم عدوا الثانية مع ما قبلها من الاثنتين، وعدوا الثالثة مع ما قبلها من الثلاث، ثم عدوهما مع ما بعدهما من الاثنتين والثلاث.
وهذا لا يجوز، لان ما عد مرة في عدد لا يعد في ذلك العدد مرة أخرى.
والدليل عليه أنه لو قال: كما أكلت نصف رمانة فعبد من عبيدى حر.
ثم أكل رمانة عتق عبدان، لان الرمانة نصفان، ثم لا يقال إنه يعتق ثلاثة لانه إذا أكل
نصف رمانة عتق عبد، فإذا أكل الربع الثالث عتق عبد، لانه مع الربع الثاني نصف.
وإذا أكل الربع الرابع عتق عبد لانه مع الربع الثالث نصف فكذلك ههنا.
وقال أبو الحسن بن القطان: يعتق عشرة لان الواحدة والاثنتين والثلاث والاربع عشر.
وهذا خطأ أيضا لان قوله: كلما طلقت يقتضى التكرار، وقد وجد طلاق الواحدة أربع مرات، وطلاق المرأتين مرتين، وطلاق الثلاث مرة، وطلاق الاربع مرة، فأسقط ابن القطان اعتبار ما يقتضيه اللفظ من التكرار في المرأة والمرأتين وهذا لا يجوز
(فصل)
إذا كان له أربع نسوة فقال: أيتكن وقع عليها طلاقي فصواحبها طوالق، ثم طلق واحدة منهن طلقن ثلاثا ثلاثا، لان طلاق الواحدة يوقع على كل واحدة منهن طلقة واحدة، ووقوع هذه الطلقه على كل واحدة منهن يوقع الطلاق على صواحبها، وهن ثلاث فطلقت كل واحدة منهن ثلاثا (الشرح) وان قال لامرأته: إذا أكلت نصف رمانة فأنت طالق، وإذا أكلت رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة طلقت طلقتين لانه وجدت الصفتان فإنها أكلت نصفها وأكلت جميعها.

(17/195)


وان قال: كلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق، وكلما أكلت رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة طلقت ثلاثا لان كلما تقتضي التكرار وقد أكلت نصفين فوقع بها طلقتان وأكلت رمانة فوقع بها طلقة.
وهذا كما لو قال: ان كلمت رجلا فأنت طالق، وان كلمت طويلا فأنت طالق، وان كلمت شيوعيا فأنت طالق، فكلمت رجلا طويلا شيوعيا لوجود الصفات الثلاث
*
*
* (فرع)
إذا قال لامرأته: أنت طالق مريضة (بالنصب أو بالرفع) لم يقع
الطلاق الا إذا مرضت، لان معنى قوله مريضة بالنصب أي في حال مرضك.
ومعنى قوله مريضة بالرفع (أي وأنت مريضة) هذا هو المشهور كما حكاه العمرانى وحكى ابن الصباغ في أهل البيد قال: إذا قال مريضة بالرفع وهو من أهل الاعراب وقع عليها الطلاق في الحال لانه صفة لها وليس بحال.
وهذا خطأ لانه نكرة فلا توصف به المعرفة، وقد عرفها بالاشارة إليها فلا تكون صفة لها، وانما تكون حالا، وإنما لحن في اعرابه، أو على اضمار مبتدأ فيكون شرطا قوله " إذا كان له أربع نسوة الخ " فجملة ذلك أنه إذا كان له أربع زوجات فقال لهن: كما طلقت واحدة منكن فأنتن طوالق فطلق واحدة منهن وقع عليها طلقتان، طلقه بالمباشرة وطلقه بالصفة، ويقع على الثلاث الباقيات طلقه طلقه وان قال: كلما وقع على واحدة منكن طلاقي فأنتن طوالق أو أيتكن وقع عليها طلاقي فصواحبها طالق، فطلق واحدة منهن طلقن ثلاثا ثلاثا، لانه إذا طلق واحدة منهن طلقة وقع على كل واحدة من الباقيات طلقه، ووقوع هذه الطلقه على كل واحدة من الباقيات يوقع الثانيه على صواحبها: ووقوع الثانية يوقع الثالثة.
(فرع)
وان قال لامرأته أنت طالق وطالق إن دخلت الدار طالقا، فقد علق وقوع طلقتين بدخول الدار وهى طالق.
فإن دخلت الدار وهى مطلقه طلاقا رجعيا وقع عليها طلقتان بالصفة.
وان دخلت الدار وهى زوجه غير مطلقه أو بائن لم تطلق لان الصفه لم توجد

(17/196)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان له امرأتان فقال لاحداهما أنت طالق طلقه، بل هذه ثلاثا وقع على الاولى طلقه وعلى الثانيه ثلاث، لانه إذا أوقع على الاولى طلقه
ثم أراد رفعها فلم يرتفع، وأوقع على الثانيه ثلاثا فوقعت وإن قال للمدخول بها أنت طالق واحدة لا بل ثلاثا إن دخلت الدار، فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو بكر بن الحداد المصرى: تطلق واحدة في الحال ويقع بدخول الدار تمام الثلاث، لانه نجز واحدة فوقعت، وعلق ثلاثا على الشرط فوقع ما بقى منها عند وجود الشرط.
ومن أصحابنا من قال: يرجع الشرط إلى الجميع ولا تطلق حتى تدخل الدار، لان الشرط يعقب الايقاعين فرجع اليهما (الشرح) قوله " نجز واحدة " التضعيف زيادة تجعل اللازم متعديا كالمزيد بالهمز، فيكون قوله نجز كقوله أنجز.
وهو بمعنى عجل أما الاحكام فإنه ان كان له امرأتان فقال لاحداهما: أنت طالق واحدة لا بل هذه ثلاثا، وقع على الاولة طلقه، وعلى الثانيه ثلاثا، لانه أوقع عل الاولة طلقه فوقعت ثم رجع عنها، وأوقع على الثانية ثلاثا فلم يصح رجوعه عما أوقعه على الاولة وصح ما أوقعه على الثانيه وإن قال لامرأته المدخول بها أنت طالق واحدة لا بل ثلاثا إن دخلت الدار فاختلف أصحابنا فيه، فقال ابن الحداد: يقع عليها طلقه في الحال، ويقع باقى الثلاث بدخول الدار.
لانه أوقع واحدة فوقعت ثم رجع وأوقع الثلاث بدخول الدار فلم يصح رجوعه عن الاولة، ويعلق بدخول الدار باقى الثلاث.
ومنهم من قال يرجع الشرط إلى الجميع فلا يطلق حتى تدخل الدار، لان الشرط يعقب الايقاعين فرجع اليهما.
وان كانت مدخول بها فالذي يقتضى القياس أن على قول ابن الحداد في مولداته يقع عليها الطلقه المنجزة وتبين بها، ولا يقع ما بعدها بدخول الدار، وعلى القول الآخر لبعض أصحابنا لا يقع عليها طلاق حتى تدخل الدار، فإذا دخلت وقع عليها الثلاث (فرع)
وإن قال لاحدى امرأتيه أنت طالق ان دخلت الدار لا بل هذه.

(17/197)


قال ابن الحداد فإن دخلت الاولة طلقتا جميعا وان دخلت الثانية لم تطلق واحدة منهما لانه علق طلاق الاولة بدخولها الدار، ثم رجع عن ذلك وعلق بدخولها طلاق الثانية فعلق به، ولم يصح رجوعه عن طلاق الاولة.
ومن أصحابنا من قال: إذا دخلت الاولة الدار طلقت وحدها، وإذا دخلت الثانيه طلقت وحدها، لانه علق على طلاق الاولة بدخولها الدار ثم رجع عن هذه الصفة جملة، وعلق طلاق الثانيه بدخولها الدار، فلم يصح رجوعه، وتعلق الثانية بدخولها.
(فرع)
قال في البويطى: إذا قال أنت طالق في مكه أو بمكه أو في الدار أو بالدار فهى طالق ساعة تكلم به، الا أن ينوى: إذا كنت بمكه.
فإذا قال نويت ذلك قبل منه لان لفظه يحتمله.
قال المسعودي: ولو قال ان قذفت فلانا في المسجد فأنت طالق، فيشترط أن يكون القاذف في المسجد.
وان قال: ان قتلت فلانا في الحظيرة فأنت طالق يشترط أن يكون المقتول في الحظيرة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال لها أنت طالق إلى شهر ولم يكن له نية وقع الطلاق بعد الشهر، لان إلى تستعمل في انتهاء الفعل، كَقَوْلِهِ تَعَالَى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) وتستعمل أيضا في ابتداء الفعل: كقولهم فلان خارج إلى شهر فلا يقع الطلاق في الحال مع الاحتمال، كما لا يقع بالكنايات من غير نية
(فصل)
وان قال أنت طالق في شهر رمضان، طلقت برؤية الهلال في أول الشهر.
وقال أبو ثور: لا تطلق الا في آخر الشهر لتستوعب الصفة التى علق الطلاق عليها، وهذا خطأ لان الطلاق إذا علق على شئ وقع بأول جزء
منه، كما لو قال إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنها تطلق بالدخول إلى أول جزء من الدار.
فإن قال أردت في آخر الشهر دين فيه، لانه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم لانه يؤخر الطلاق عن الوقت الذى يقتضيه وان قال أنت طالق في أول الشهر وقع الطلاق في أول ليلة يرى فيها الهلال

(17/198)


وإن قال أنت طالق في غرة الشهر طلقت في أوله.
فإن قال أردت اليوم الثاني أو الثالث دين، لان الثلاث من أول الشهر تسمى غررا، ولا يقبل في الحكم لانه يؤخر الطلاق عن أول وقت يقتضيه وان قال أنت طالق في آخر الشهر طلقت في آخر يوم منه تاما كان الشهر أو ناقصا.
وإن قال أنت طالق في اول اخر رمضان، ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس أنها تطلق في أول ليلة السادس عشر لان اخر الشهر هو النصف الثاني وأوله أول ليلة السادس عشر، والثانى أنها تطلق في أول اليوم الاخير من آخر الشهر لان آخر الشهر هو اليوم الاخير فوجب أن تطلق في اوله وإن قال أنت طالق في اخر أول الشهر طلقت على الوجه الاول في اخر اليوم الخامس عشر، وعلى الوجه الثاني تطلق في اخر اليوم الاول.
وإن قال أنت طالق في اخر اول اخر رمضان، طلقت على الوجه الاول عند طلوع الفجر من اليوم السادس عشر، لان أول اخر الشهر ليلة السادس عشر، واخرها عند طلوع الفجر من يومها.
وعلى الوجه الثاني تطلق بغروب الشمس من اخر يوم منه، لان أول اخره إذا طلع الفجر من اخر يوم منه، فكان اخره عند غروب الشمس.
وإن قال أنت طالق في اول اخر أول الشهر، طلقت على الوجه الاول بطلوع الفجر من اليوم الخامس عشر، لان اخر أوله عند غروب الشمس من اليوم الخامس عشر، فكان أوله طلوع فجره.
وعلى الوجه الآخر تطلق بطلوع
الفجر من أول يوم من الشهر، لان اخر أول الشهر غروب الشمس من أول يوم منه، فكان أوله طلوع الفجر (الشرح) إذا قال أنت طالق إلى شهر كذا أو سنة كذا، فهو كما لو قال في شهر كذا أو سنة كذا، فلا يقع الطلاق إلا في أول ذلك الوقت، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يقع في الحال، لان قوله أنت طالق إيقاع في الحال.
وقوله إلى شهر كذا تأقيت له وغاية، وهو لا يقبل التأقيت فبطل التأقيت ووقع الطلاق.
دليلنا أن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد والنخعي وأبى هاشم والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبى عبيد وبعض أصحاب الرأى قالوا: إذا أوقع الطلاق في زمن أو علقه بصفة تعلق بها ولم يقع حتى تأتى الصفة والزمن.

(17/199)


وقال ابن عباس في الرجل يقول لامرأته أنت طالق إلى رأس السنه، قال يطأ فيما بينه وبين رأس السنه، وقد احتج أحمد بقول أبى ذر " إن لى إبلا يرعاها عبد لى وهو عتيق إلى الحول " ولان هذا يحتمل أن يكون توقيتا لايقاعه، كقول الرجل أنا خارج إلى سنة أي بعد سنة.
ومن ثم نخلص إلى قول المصنف " ان قال لها أنت طالق إلى شهر ولم يكن له نية الخ، فجملة ذلك أنه إذا لم يكن له نية لم يقع عليها الطلاق الا بعد مضى الشهر من حين عقد الصفه، خلافا لابي حنيفة ومالك، ولان إلى تستعمل في انتهاء الفعل، كَقَوْلِهِ تَعَالَى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ويستعمل في ابتداء الفعل، فإذا احتمل الامرين فلا يقع به الطلاق في الحال بالشك.
وان قال اردت أن الطلاق يقع محاكاة ويرتفع بعد شهر وقع عليها في الحال، لانه قيس قوله بما يحتمله، وفيه تغليظ عليه فقيل، ولا يرتفع الطلاق بعد شهر، لان الطلاق إذا وقع لم يرتفع (مسألة) قوله: وان قال أنت طالق في شهر رمضان طلقت برؤية الهلال في
أول الشهر، وهذا صحيح، إذ أنه يقع الطلاق في أول جزء من الليلة الاولة من شهر رمضان.
وقال أبو ثور.
لا تطلق الا في آخر جزء من شهر رمضان، وهذا خطأ لان الطلاق إذا علق على شئ وقع بأول جزء منه، كما إذا قال لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار في أول جزء منها طلقت.
فإن قال أردت به الطلاق في النصف أو في اخره لم يقبل في الحكم، لان ذلك يخالف الظاهر ويدبن فيها بينه وبين الله تعالى لان قوله يحتمل ذلك وإن قال أنت طالق في غرة شهر رمضان أو في غرة هلال رمضان أو في غرة رمضان أو في رأس رمضان أو في أول رمضان طلقت في أول جزء من الليله الاولة من رمضان، فإن قال أردت به نصف الشهر أو اخره لم يقبل في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى لان لفظه لا يحتمل ذلك وان قال: أردت بالغرة بعض الاولة من الشهر لم يقبل في الحكم لانه يؤخر الطلاق عن أول وقت يقضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يسمى غررا

(17/200)


وإن قال أنت طالق في نهار رمضان لم تطلق إلا بأول جزء من اليوم الاول من الشهر لانه علقه بالنهار (فرع)
وإن قال: أنت طالق في آخر رمضان أو سلخ رمضان أو في انفصامه أو في خروجه طلقت لغيبوبة الشمس في آخر يوم منه.
وان قال أنت طالق في أول آخر رمضان ففيه وجهان قال أبو العباس سريج: تطلق في أول جزء من ليلة السادس عشر، لان أول الشهر هو النصف الاول وآخره النصف الثاني، فكان أول آخره أول ليلة السادس عشر، والثانى - وهو قول أكثر أصحابنا - وهو الاصح أنها تطلق بطلوع الفجر من اليوم الاخير من الشهر
لان اخر الشهر هو اخر يوم فيه، فأوله طلوع فجره وإن قال أنت طالق في اخر أول رمضان، فعلى قول أبى العباس - تطلق بغروب الشمس من اليوم الخامس عشر، لان أول الشهر عنده النصف الاول واخر أوله غروب الشمس من اليوم الخامس عشر.
وعلى قول أكثر أصحابنا يقع الطلاق في اخر الليله الاولة من الشهر لانها أول الشهر.
هكذا ذكر ابن الصباغ.
وأما الشيخان ابو حامد الاسفرايينى وأبو إسحاق المروزى فقالا.
تطلق على هذا اخر اليوم من الشهر، وقول ابن الصباغ أقيس.
وإن قال أنت طالق في اخر أول اخر رمضان.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فعلى قول أبى العباس تطلق عند طلوع الفجر من اليوم السادس عشر، لان اول اخر الشهر ليلة السادس عشر واخرها عند طلوع الفجر من اخر يوم منه فكان اخره عند غروب الشمس.
وان قال أنت طالق في أول اخر أول رمضان - قال المصنف: طلقت على قول أبى العباس بطلوع الفجر من اليوم الخامس عشر، لان اخر أوله غروب الشمس من هذا اليوم فكان أوله طلوع الفجر منه وعلى الوجه الثاني: تطلق بطلوع الفجر من أول يوم من الشهر، لان اخر أول الشهر غروب الشمس من أول يومه، فكان أوله أول يوم من طلوع الفجر قال العمرانى رحمه الله: وعندي أنها تطلق على هذا في أول جزء من الليله الاولة من الشهر.
لان أول الشهر هو أول جزء من الليلة الاولة منه، واخر أوله اخر

(17/201)


جزء من هذ الليلة، فكان أول آخر أوله هو أول جزء من تلك الليلة.
(فرع)
وإن قال أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبله رمضان فاختلف أصحابنا متى تطلق؟ فمنهم من قال تطلق في أول رجب، ومنهم من قال تطلق في أول
شعبان - ولم يذكر في الفروع غيره - لان الشهر الذى بعد قبل رمضان هو رمضان نفسه، فالشهر الذى قبله شعبان.
ومنهم من قال: تطلق في أول شوال وهو اختيار القاضى أبو الطيب وابن الصباغ، لانه أول وقت الطلاق في شهر وصفه، لان قبل ما بعد قبله رمضان، ذلك لانه يقتضى أنه قبله رمضان، لان ما بعد قبل الشهر هو الشهر نفسه، وقبله رمضان وقال ابن قدامة من الحنابلة في المغنى على متن الخرقى: وإذا قال أنت طالق في آخر أول الشهر طلقت في آخر أول يوم منه لانه أوله.
وإن قال في أول آخره طلقت في آخر يوم منه لانه آخره.
وقال أبو بكر في الاولى: تطلق بغروب الشمس من اليوم الخامس عشر منه.
وفى الثانية تطلق بدخول أول الليلة السادسة عشرة منه، لان الشهر نصفان أول وآخر، فآخر أوله يلى أول آخره، وهذا قول أبى العباس بن سريج - يعنى من الشافعية - وقال أكثرهم كقولنا وهو أصح.
فإن ما عدا اليوم الاول لا يسمى أول الشهر، ويصح نفيه عنه، وكذلك لا يسمى أوسط الشهر آخره، ولا يفهم ذلك من إطلاق لفظه فوجب أن لا يصرف كلام الحالف إليه ولا يحمل كلامه عليه اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال أنت طالق اليوم طلقت في الحال لانه من اليوم.
وإن قال أنت طالق في غد طلقت بطلوع فجره.
وإن قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد لم تطلق، لانه لا يجوز أن تطلق اليوم لانه لم يوجد شرطه، وهو مجئ الغد، ولا يجوز أن تطلق إذا جاء غد لانه إيقاع طلاق في يوم قبله.
وان قال أنت طالق اليوم غدا طلقت اليوم طلقه ولا تطلق غدا طلقة أخرى، لان طلاق اليوم تعين.
وقوله غدا يحتمل أن تكون طالقة بطلاقها اليوم.
فلا توقع طلاقا بالشك، وان قال أردت طلقة في اليوم وطلقة في غد طلقت طلقتين، لان اللفظ

(17/202)


يحتمل ما يدعيه وهو غير متهم فيه، لما فيه عليه من التغليظ، وان قال أردت نصف طلقه اليوم ونصف طلقه غدا طلقت طلقتين، طلقه بالايقاع وطلقه بالسراية، وان قال أردت نصف طلقه اليوم والنصف الباقي في غد ففيه وجهان
(أحدهما)
تطلق اليوم طلقه ولا تطلق غدا، لان النصف الباقي قد وقع في اليوم فلم يبق ما يقع غدا.

(والثانى)
أنه يقع في اليوم الثاني طلقه أخرى، لان الذى وقع في اليوم بالسراية وبقى النصف الثاني فوقع في الغد فسرى.
وان قال أنت طالق اليوم أو غدا ففيه وجهان
(أحدهما)
تطلق غدا لانه يقين
(والثانى)
أنها تطلق اليوم لانه جعل كل واحد منهما محلا للطلاق فتعلق بأولهما.
(الشرح) الاحكام: إذا قال لامرأته أنت طالق اليوم طلقت في الحال لانه من اليوم.
وان قال لها إذا مضى يوم فأنت طالق، فإن قال ذلك بالليل لم تطلق حتى تغيب الشمس من يوم تلك الليله.
وان قال ذلك بالنهار لم تطلق حتى يمضى باقى يومه ثم تنقضي الليله التى يستقبلها ويبلغ من اليوم الثاني إلى الوقت الذى عقد فيه الطلاق.
وان قال أنت طالق إذا مضى اليوم، فالذي يقتضى المذهب أنه إذا قال ذلك في النهار طلقت بغروب الشمس من ذلك اليوم، لان اليوم للتقريب (فرع)
وان قال لها أنت طالق في غد طلقت بطلوع الفجر من الغد، سواء قال ذلك ليلا أو نهارا، أو ان قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد، قال أبو العباس ابن سريج لم تطلق، لانه لا يجوز أن تطلق غدا، لانه إيقاع طلاق في يوم قبله، وان قال: أنت طالق اليوم غدا، رجع إليه ما أراد بذلك؟ فإن قال أردت أنها تطلق اليوم طلقه وتكون طالقا غدا بتلك الطلقة لم يقع عليها الا طلقه، لان قوله يحصل ذلك.
وان قال أردت انها تطلق اليوم طلقه وغدا طلقه طلقت طلقتين، لان قوله يحتمل ذلك، وقد أقر على نفسه بما فيه تغليظ عليه، وإن قال أردت اليوم نصف طلقه وغدا نصف طلقه أخرى طلقت طلقتين، لان كل نصف يسرى

(17/203)


طلقه.
وإن قال: أردت نصف طلقه اليوم ونصفها الباقي في غد، وقع عليها في اليوم طلقه لانه لا يمكن إيقاع نصف طلقة فسرى إلى طلقه، وهل يقع عليها طلقة أخرى إذا جاء غد؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يقع عليها لان النصف الذى أوقعه قد سرى في اليوم الاول فلم يبق ما يقع في غد.

(والثانى)
تطلق في غد طلقة بائنة لانه لم يقع عليها في اليوم الاول بإيقاعه إلا نصف طلقه، وإنما الشرع أوجب سرايتها، وقد أوقع عليها في الغد نصف طلقه فيجب أن تقع وتسرى، وإن قان لا نية لى وقع عليها في اليوم طلقه لانها يقين ولا يقع عليها في الغد طلقة أخرى لانه مشكوك فيها.
وإن قال أنت طالق اليوم أو غدا ففيه وجهان حكاهما المصنف هنا.
أحدهما لا تطلق إلا غدا لانه يقين، والثانى أنها تطلق اليوم لانه جعل كل واحد منهما محلا للطلاق فتعلق بأولهما (فرع)
وإن قال لها: إذا جاء غد فأنت طالق، أو عبدى حر بعد غد لم تطلق امرأته إذا جاء غد لانه أوقع الطلاق غدا أو العتق بعد غد، فإذا جاء بعد غد كان بالخيار بين أن يعين الطلاق في امرأته أو العتق في عبده، كما لو قال لامرأتيه هذه طالق أو هذه.
(فرع)
إذا قال لامرأته في يوم أنت طالق ثلاثا في كل يوم طلقه، وقع عليها في الحال طلقه، ووقعت عليها الثانية بطلوع الفجر من اليوم الثاني، ووقعت
الثالثة بطلوع الفجر من اليوم الثالث، لان ذلك أول وقت يقتضى وقوع الطلاق وإن قال لها أنت طالق في مجئ ثلاثة أيام فإنها تطلق إذا مضت ثلاثة ايام وقع عليها الطلاق إذا طلع الفجر من اليوم الثالث لان ذلك أول وقت يقتضى وقوع الطلاق.
وان قال أنت طالق في مضى ثلاثة أيام فإنها تطلق إذا مضت ثلاثة أيام قال ابن الصباغ: فإن قال ذلك بالليل طلقت إذا غربت الشمس من اليوم الثالث فإن قال ذلك بالنهار طلقت إذا جاء إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الرابع.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(17/204)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قال: إذا رأيت هلال رمضان فأنت طالق فرآه غيره طلقت لان رؤية الهلال في عرف الشرع رؤية الناس، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وافطروا لرؤيته.
ويجب الصوم والفطر برؤية غيره، وان قال أردت رؤيتي لم يقبل في الحكم لانه يدعى خلاف الظاهر ويدين فيه، لانه يحتمل ما يدعيه، فإن رآه بالنهار لم تطلق، لان رؤية هلال الشهر ما يراه في الشهر، وهو بعد الغروب، ولهذا لا يتعلق الصوم والفطر الا بما نراه بعد الغروب، وان غم عليهم الهلال فعدوا شعبان ثلاثين يوما طلقت، لانه قد ثبتت الرؤية بالشرع فصار كما لو ثبتت بالشهادة.
وان أراد رؤيته بعينه فلم يره حتى صار قمرا لم تطلق، لانه ليس بهلال حقيقة، واختلف الناس فيما يصير به قمرا فقال بعضهم: يصير قمرا إذا استدار.
وقال بعضهم: إذا بهر ضوؤه (الشرح) الحديث أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس.
ورواه مسلم عنه بلفظ " إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّهُ لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ " لَا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ،
فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَابَةٌ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا " قال الترمذي: حديث حسن صحيح وللحديث طرق عند الشيخين بألفاظ أخرى مكانها كتاب الصوم وقد مضى.
أما اللغات فقوله " واختلف الناس فيما يصير به قمرا " ففى القاموس: والقمر يكون في الليلة الثالثة، والقمراء ضوؤه.
وقال في غريب الشرح الكبير الموسوم بالمصباح المنير: قمر السماء سمى بذلك لبياضه.
وقال الازهرى: ويسمى القمر لليلتين من أول الشهر هلالا، وفى ليلة ست وعشرين وسبع وعشرين هلالا، وما بين ذلك يسمى قمرا.
وقال الفارابى وتبعه في الصحاح: الهلال لثلاث ليال من أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك، وقيل الهلال هو الشهر بعينه، وسيأتى مزيد أما الاحكام، فإن قال لامرأته: إذا رأيت هلال رمضان فأنت طالق، فإذا رآه آخر يوم من شعبان قبل الزوال أو بعده لم تطلق حتى تغيب الشمس من ذلك

(17/205)


اليوم، لان هلال الشهر ما كان في أوله لا قبله، وان لم يره بنفسه، وإنما رآه غيره طلقت امرأته.
وحكى ابن الصباغ أن أبا حنيفة قال: لا تطلق إلا أن يراه بنفسه وكذا حكى ابن قدامة ذلك عن أبى حنيفة أنه قال: لا تطلق إلا أن يراه بنفسه لانه علق الطلاق برؤية نفسه فأشبه ما لو علقه على رؤية زيد دليلنا أن الرؤية للهلال في عرف الشرع العلم به برؤية نفسه أو برؤية غيره بدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا " والمراد به رؤية البعض وحصول العلم فانصرف لفظ الحالف إلى عرف الشرع.
فحمل المطلق على ذلك العرف الشرعي، كما لو قال: إذا صليت فأنت طالق، فإنه ينصرف إلى الصلاة الشرعية لا إلى الدعاء، وفارق رؤية زيد، فإنه لم يثبت له
عرف شرعى يخالف الحقيقة وكذلك لو لم يره أحد لكن ثبت الشهر بتمام العدد طلقت، لانه قد علم طلوعه بتمام العدد وإن قال: أردت إذا رأيته بعينى لم يقبل في الحكم عندنا لان دعواه تخالف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يحتمل ما يدعيه.
هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: هل يقبل في الحكم؟ فيه وحهان.
وقال أصحاب أحمد يقبل في الحكم لانها رؤية حقيقية، فإذا غم عليهم الهلال فقد قال أبو إسحاق المروزى: إذا عدوا شعبان ثلاثين يوما طلقت بمغيب الشمس من آخر يوم منه لانه بالضرورة يعلم أن بعد ذلك هلال رمضان، لان الشهر لا يكون واحدا وثلاثين يوما.
قال الشيخ أبو حامد وان صح عند الحاكم رؤية الهلال ولم يعلم المطلق، فإن كان شهر شعبان ناقصا لم يلزمه حكم الطلاق حتى يعلم بالرؤية، وإن كان شعبان تاما لزمه الطلاق بغروب الشمس من آخر يوم من شعبان، لان الشهر لا يكون أحدا وثلاثين، ولعل الشيخ أبا حامد كما يقول العمرانى أراد به لا يلزمه حكم إذا كان شعبان ناقصا قبل علمه، أي إذا وطئها قبل علمه لانه لم يأثم.
وأما الطلاق فيحكم به عليه بأول جزء من الليلة التى رأى فيها الهلال، ويلزمه المهر ان وطئ

(17/206)


بعد ذلك، سواء علم أو لم يعلم، كما لو علقه بقدوم زيد ولم يعلم بقدومه.
(فرع)
وان قال إذا رأيت الهلال بنفسى فأنت طالق، أو أطلق ذلك وقال أردت رؤيته بنفسى فلم يره حتى صار قمرا لم تطلق عليه إذا قيد ذلك ظاهرا وباطنا ولا يدين فيما بينه وبين الله تعالى إذا رآه لانه ليس بهلال واختلف الناس فيما يصير به قمرا، فمنهم من قال يصير قمرا إذا استدار.
وقال بعضهم إذا بهر ضوؤه، وقال بعضهم بعد ثالثة.
وقال ابن السكيت في متن كتاب
الالفاظ: أول ما يرى القمر فهو الهلال ليلة يهل لليله وليلتين ولثلاث ليال.
ويقال كأنه هلال ليلتين أو قمر بين سحابتين، وقد أهللنا الهلال أي رأيناه، وأهللنا الشهر واستهللناه أي رأينا هلاله، إلى أن قال: ويقال هلال ليلة وهلال ليلتين وهلال ثلات ليال.
ثم يقال قمر بعد ثلاث ليال وذلك حين يقمر، وليلة مقمرة ثم هو قمر حتى يهل مرة أخرى، وهو الشهر ليلة ينظر الناس إليه فيشهرونه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قال: إذا مضت سنة فأنت طالق اعتبر مضى السنة بالاهلة لانها هي السنة المعهودة في الشرع، فإن كان العقد في أول الشهر فمضى إثنا عشر شهرا بالاهلة طلقت، فإن كان في اثناء الشهر حسب ما بقى من الشهر الهلالي، فان بقى خمسة أيام عد بعدها أحد عشر شهرا بالاهلة ثم عد خمسة وعشرين يوما من الشهر الثاني عشر، لانه تعذر اعتبار الهلال في شهر فعد شهرا بالعدد، كما نقول في الشهر الذى غم عليهم الهلال في الصوم فإن قال أردت سنة بالعدد، وهى ثلثمائة وستون يوما، أو سنة شمسيه وهى ثلثمائة وخمسة وستون يوما لم يقبل في الحكم، لانه يدعى ما يتأخر به الطلاق عن الوقت الذى يقتضيه، لان السنه الهلاليه ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس يوم، وسدس يوم، ويدين فيما بينه وبين الله عزوجل، لانه يحتمل ما يدعيه.
وان قال: إذا مضت السنه فأنت طالق، طلقت إذا مضت بقية سنة التاريخ وهو انسلاخ ذى الحجه.
قلت البقيه أو كثرت، لان التعريف بالالف واللام يقتضى ذلك.

(17/207)


فان قال أردت سنة كاملة دين لانه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم لانه يدعى ما يتأخر به الطلاق عن الوقت الذى يقتضيه، فان قال أنت طالق في كل
سنه طلقة حسبت السنه من حين العقد، كما إذا حلف لا يكلم فلانا سنه جعل ابتداء السنه من حين اليمين، وكما إذا باع بثمن مؤجل اعتبر ابتداء الاجل من حين العقد فإذا مضى من السنه بعد العقد أدنى جزء طلقت طلقه، لانه جعل السنه محلا للطلاق وقد دخل فيها فوقع، كما لو قال أنت طالق في شهر رمضان فدخل الشهر (الشرح) قوله التاريخ هو لفظ معرب وقيل عربي، وهو بيان انتهاء وقته، وسبب وضع التاريخ أول الاسلام أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أتى بصك مكتوب إلى شعبان فقال: أهو شعبان الماضي أو شعبان القابل، ثم امر بوضع التاريخ، واتفقت الصحابة على ابتداء التاريخ من هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى المدينة، وجعلوا أول السنه المحرم، ويعتبر التاريخ بالليالى، لان الليل عند العرب سابق على النهار لانهم كانوا أميين لا يحسنون الكتابة، ولم يعرفوا حساب غيرهم من الامم فتمسكوا بظهور الهلال، وإنما يظهر بالليل فجعلوه ابتداء التاريخ، ثم صدق الله العظيم " يسئلونك عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ " أما الاحكام فإذا قال لامرأته: إذا مضت سنة فأنت طالق، اعتبر ذلك من حين حلف، فان كان في أول الشهر اعتبر جميع السنه بالاهلة، فإذا مضى اثنا عشر شهرا تامة أو ناقصه طلقت، لان الاعتبار بالسنه الهلاليه لقوله تعالى " يسئلونك عن الاهلة " الآيه وان كانت اليمين - وقد مضى بعض الشهر بأن مضى منه خمسة أيام - اعتد بما بقى من أيام هذا الشهر، وعد بعده أحد عشر شهرا بالاهلة: فان كان الشهر الذى حلف فيه تاما لم تطلق حتى يمضى بعد الاحد عشر شهرا خمسة أيام لان الطلاق إذا كان في الشهر لم يمكن اعتباره بالهلال، فاعتبر جميعه بالعدد بخلاف غيره من الشهور.
وان قال: أنا أردت سنة بالعدد وهى ثلاثمائة وستون يوما وسنه شمسيه

(17/208)


وهى ثلاثمائة وخمسة وستون يوما لم يقبل في الحكم لانه يدعى تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لانه يحتمل ما يدعيه.
وإن قال: إذا مضت السنة فأنت طالق، طلقت إذا انقضت سنة التاريخ، وهو أن ينسلخ شهر ذى الحجة لان التعريف يقتضى ذلك.
وان قال أنا أردت سنة كاملة لم يقبل في الحكم لانه يدعى تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لانه يحتمل ما يدعيه (فرع)
وان قال لها أنت طالق ثلاثا في كل سنة طلقه، وقع عليها طلقه عقب إيقاعه، لانه جعل السنه ظرفا لوقوع الطلاق، فإذا وجد اول جزء منها وقع الطلاق، كما لو جعل الشهر أو اليوم ظرفا للطلاق، فإن الطلاق يقع في أوله، وهل تطلق في أول السنه الثانيه والثالثه؟ ينظر فيه، فإن كانت في عدة من هذا الطلاق بأن طالت عدتها طلقت في أول كل سنة منهما طلقه، لان الرجعية تلحقها الطلاق، وإن كانت زوجه له في هذا النكاح بأن راجعها بعد الاولة قبل انقضاء عدتها فمضى عليه سنه من حين اليمين الاولة طلقت طلقه ثانيه وكذلك إذا راجعها بعد الطلقه الثانيه، فجاء أول الثانيه وهى زوجه له من هذا النكاح وقعت عليها طلقه ثالثه.
وان جاء أول الثانيه أو الثالثه وقد بانت منه ولم يتزوجها لم يقع عليها الطلاق، لان البائن لا يلحقها الطلاق، وان تزوجها بعد أن بانت منه فجاء أول الثانيه أو الثالثه وهى زوجه له من نكاح جديد فهل يعود عليها حكم الصفة الاولة؟ فيه قولان يأتي بيانهما إن شاء الله فإن قال أردت بقولى: في أول كل سنه، أي أول سنة التاريخ وهو دخول المحرم لم يقبل في الحكم، لانه يدعى تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه ويدين
فيما بينه وبين الله تعالى لانه يحتمل ما يدعيه وجملة ما مضى أنه إذا قال: أنت طالق في كل سنه طلقه فهذه صفة صحيحه لانه يملك إيقاعه في كل سنه.
فإذا جعل ذلك صفة جاز ويكون ابتداء المدة عقيب يمينه.
لان كل أجل ثبت بمطلق العقد ثبت عقيبه.
كقوله: والله لا كلمتك سنه فيقع في الحال طلقه، لانه جعل السنه ظرفا للطلاق فتقع في أول

(17/209)


جزء منها وتقع لثانية في أول الثانية والثالثة في أول الثالثة إن دخلتا عليها وهى في نكاحه لكونها لم تنقض عدتها أو ارتجاعها في عدة الطلقة الاولى وعدة الثانيه أو جدد نكاحها بعد أن بانت، فإن انقضت عدتها فبانت منه ودخلت السنة الثانيه وهى بائن لم تطلق لكونها غير زوجة، فان تزوجها في أثنائها اقتضى قول اكثر أصحابنا وقوع الطلاق عقيب تزويجه لها لانها جزء من السنة الثانية التى جعلها ظرفا للطلاق ومحلا له، وكان سبيله أن تقع في أولها.
هذا مذهبنا ومذهب الفقهاء كافة إلا ما رواه ابن قدامة عن بعض الحنابلة حيث قال: وقال القاضى تطلق بدخول السنة الثالثه.
وعلى قول التميمي ومن وافقه تنحل الصفة بوجودها في حال البينونة فلا تعود بحال.
وان لم يتزوجها حتى دخلت السنة الثالثة ثم نكحها طلقت عقيب تزوجيها ثم طلقت الثالثه بدخول السنه الرابعة.
وعلى قول القاضى لا تطلق إلا بدخول الرابعة ثم تطلق الثالثه بدخول الخامسة، وعلى قول التميمي قد انحلت الصفه.
وقال: واختلف في مبدإ السنه الثانيه، فظاهر ما ذكره القاضى أن أولها بعد انقضاء إثنى عشر شهرا من حين يمينه لانه جعل ابتداء المدة حين يمينه.
وكذلك قال أصحاب الشافعي.
وقال أبو الخطاب - من أصحاب أحمد - ابتداء السنه الثانيه من أول المحرم لانها السنه المعروفة: فإذا علق ما يتكرر على تكرر السنين انصرف إلى
السنين المعروفة، كقول الله تعالى " أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام.
الآيه " وإن قال: أردت بالسنه اثنى عشر شهرا قبل لانها سنه حقيقيه.
وان قال نويت أن ابتداء السنين أول السنه الجديدة من المحرم دين قال القاضى ولا يقبل في الحكم لانه خلاف الظاهر.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان قال أنت طالق في الشهر الماضي فالمنصوص أنها تطلق في الحال، وقال الربيع فيه قول آخر أنها لا تطلق.
وقال فيمن قال لامرأته: إن طرت أو صعدت السماء فأنت طالق أنها لا تطلق، واختلف أصحابنا فيه فنقل أبو على بن خيران جوابه فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى وجعلهما

(17/210)


على قولين
(أحدهما)
تطلق لانه علق الطلاق على صفة مستحيلة فالغيت الصفه ووقع الطلاق، كما لو قال لمن لا سنة ولا بدعة في طلاقها: أنت طالق للسنه أو للبدعه
(والثانى)
لا تطلق لانه علق الطلاق على شرط ولم يوجد فلم يقع، وقال أكثر أصحابنا: إذا قال أنت طالق في الشهر الماضي طلقت.
وإن قال: ان طرت أو صعدت السماء فأنت طالق لم تطلق قولا واحدا، وما قاله الربيع من تخريجه، والفرق بينهما أن الطيران وصعود السماء لا يستحيل في قدرة الله عزوجل، وقد جعل لجعفر بن أبى طالب رضى الله عنه جناحان يطير بهما، وقد أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيقاع الطلاق في زمان ماض مستحيل (الشرح) إن قال أنت طالق في الشهر الماضي فإنه يسأل عن ذلك فان قال أردت أنى أوقع الطلاق الآن في الشهر الماضي، فالمنصوص أنها تطلق في الحال قال الربيع وفيها قول آخر أنها لا تطلق.
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو على بن خيران: قد نص الشافعي على أنه إذا قال لها: ان طرت أو صعدت السماء فأنت
طالق فانها لا تطلق.
وهذا تعليق طلاق بصفة محال، كإيقاع الطلاق الآن في زمان ماض، فجعل الاولة على قولين، وهذه على وجهين
(أحدهما)
لا تطلق لانه علق الطلاق على شرط فلا يقع قبل وجوده، كما لو علقه على دخولها الدار
(والثانى)
تطلق في الحال لانه علقه على شرط مستحيل فألغى الشرط ووقع الطلاق.
كما لو قال لمن لا سنة لها ولا بدعه أنت طالق للسنه أو للبدعه وقال أكثر أصحابنا: إذا قال أنت طالق للشهر الماضي، وقال أردت به ايقاع الطلاق الآن في الشهر الماضي، تطلق قولا واحدا لما ذكرناه، وما حكاه الربيع فإنه من تخريجه.
وأما أحمد بن حنبل فظاهر كلامه فيمن قال أنت طالق أمس ولا نية له أن الطلاق لا يقع إذا كان قد تزوجها اليوم.
وقال بعض أصحابه يقع الطلاق.
أما إذا قال لها أنت طالق إن طرت أو صعدت إلى السماء فعلى وجهين:
(أحدهما)
تطلق لان الصعود إلى السماء أو الطيران ليس من الامور المستحيلة عقلا ولا شرعا في الماضي.
وأما الحاضر فقد انتفت الاستحالة العرفية والعاديه

(17/211)


بالطائرات والاقمار الصناعيه والمحطات الفضائية.
والوجه الثاني وهو المنصوص في الام أنها لا تطلق حتى توجد الصفه، والفرق بينهما أن إيقاع الطلاق الآن في زمان ماض مستحيل وجوده في العقل، لان الله تعالى ما أجرى العادة بمثل ذلك، وإن كان غير مستحيل في قدرة الله تعالى.
قال العمرانى في البيان: والطيران والصعود إلى السماء غير مستحيل وجوده في العقل، لان الله تعالى قد أجرى العادة بذلك إذ جعل ذلك للملائكة، وقد أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد يجعل الله لها إلى ذلك سبيلا اه قلت: وقد جعل الله إلى ذلك لكل الناس سبلا لا سبيلا، والناس في عصرنا
هذا يؤدون فريضة الحج، فتقفز بهم الطائرات من القاهرة لتهبط في جدة في ساعات قليله، فقد يصلى الظهر في القاهرة ثم يدرك العصر في جدة.
ومن عجب أن المسلمين الذين يبحث فقههم في الممكنات والمستحيلات تنحط هممهم وتخور عزائمهم عن أن يكونوا هم أصحاب القدح المعلى في ارتياد الفضاء وجوب الآفاق وقد استفزهم كتاب الله ليبحثوا وينظروا، واستنفرهم للغوص في مظاهر الكون واستكناه خفاياه، فتقاعسوا عن أمره، وتخلفوا عن توجبهه وهديه، فكان ما كان، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون هذا ولان إيقاع الطلاق في الزمن الماضي يتضمن وقوع الآن فحكم عليه بالطلاق الآن.
وإن قال: أردت بقولى أنت طالق في الشهر الماضي، أي كنت طلقتها في الشهر الماضي في نكاح آخر.
أو طلقها زوج غيرى في الشهر الماضي، وأردت الاخبار عنه، فإن صدقته الزوجه على أنه طلقها في الشهر الماضي أو طلقها زوج غيره في الشهر الماضي، وأنه أراد بقوله هذا الاخبار عن ذلك، فلا يمين على الزوج ولا طلاق.
وإن صدقته على طلاقه وطلاق زوجها الاول في الشهر الماضي وكذبته أنه أراد ذلك فالقول قوله مع يمينه أنه أراد ذلك، لان دعواه لا تخالف الظاهر، وان كذبته أن يكون طلقها هو أو غيره في الشهر الماضي لم يقبل حتى يقيم البينة على ذلك لانه يمكنه إقامة البينة على ذلك، فإذا أقام البينة عليه حلف أن أراده وان لم يقم البينة لم يقبل في الحكم لان دعواه تخالف الظاهر ويدين فيما بينه وبين

(17/212)


الله تعالى لانه يحتمل ما يدعيه.
وان قال: كنت طلقتها في هذا النكاح في الشهر الماضي، فإن صدقته الزوجة على ذلك حكمنا بوقوع الطلاق من ذلك من الوقت، وكانت عدتها من ذلك الوقت.
وان كذبته فالقول قوله مع يمينه والفرق بينهما أن في
التى قبلها يريد أن يوقع الطلاق من هذا النكاح فلم يقبل، وههنا لا يريد أن يرفعه وإنما يريد نقله إلى ما قبل هذا فقبل ويجب عليها العدة من الان لانها تقر أن هذا ابتداء عدتها وليس للزوج أن يسترجعها بعد انقضاء عدتها من الشهر الماضي، لانه يقر أن ابتداء عدتها من الشهر الماضي وإن قال: لم يكن لى نية حكم عليه بوقوع الطلاق في الحال، لان الظاهر انه أراد تعليق ايقاعه الان في الشهر الماضي.
وان مات أو جن أو أخرس فلم يعقل اشارته قبل البيان، قال الشافعي في الام: حكم عليه بوقوع الطلاق في الحال، وهذا يدل على ان الطلاق ينصرف إلى ذلك.
(فرع)
وان قال لها أنت طالق ان شربت ماء دجله أو النيل أو حملت جبل المقطم على رأسك ففيه قولان
(أحدهما)
لا يقع عليها الطلاق لانه علق الطلاق على صفة فلم يقع قبلها
(والثانى)
يقع في الحال لانه علقه على صفة مستحيله في العادة فألغيت الصفه ويبقى الطلاق مجردا.
وهذا اختيار الشيخ ابى حامد الاسفرايينى والاول اختيار ابن الصباغ
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال ان قدم زيد فأنت طالق قبله بشهر، فقدم زيد بعد شهر طلقت قبل قدومه بشهر، لانه ايقاع طلاق بعد عقده وان قدم قبل شهر ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه كالمسألة قبلها، وهو إذا قال أنت طالق في الشهر الماضي لانه ايقاع طلاق قبل عقده
(والثانى)
وهو قول أكثر أصحابنا انه لا يقع الطلاق ههنا قولا واحدا، لانه علق الطلاق على صفة، وقد كان وجودها ممكنا فوجب اعتباره، وايقاع الطلاق في زمان ماض غير ممكن فسقط اعتباره
(فصل)
وان قال انت طالق قبل موتى بشهر فمات قبل مضى شهر لم تطلق لتقدم الشرط على العقد، وان مضى شهر ثم مات عقيبه لم تطلق، لان وقوع

(17/213)


الطلاق مع اللفظ، وإن مضى شهر وجزء ثم مات طلقت في ذلك الجزء.
وإن قال أنت طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر، ثم خالعها بعد يومين أو ثلاثة وقدم زيد بعد هذا القول بأكثر من شهر لم يصح الخلع لانها بانت بالطلاق فلم يصح الخلع بعده، وإن قدم بعد الخلع بأكثر من شهر صح الخلع، لانه صادف الملك فلم يقع الطلاق بالصفة (الشرح) الاحكام: إذا قال أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، فقدم زيد بعد هذا بشهر وزيادة تبينا أن الطلاق وقع في لحظة قبل شهر من قدومه، وبه قال زفر وأحمد بن حنبل وأصحابه وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يقع الطلاق بقدوم زيد.
دليلنا أنه أوقع الطلاق في زمان على صفة، فإذا حصلت الصفة وقع فيه، كما لو قال: أنت طالق قبل رمضان بشهر، فإن أبا حنيفة وافقنا على ذلك، وإن قدم زيد قبل شهر من وقت اليمين ففيه وجهان حكاهما المصنف
(أحدهما)
أنها كما لو قال أنت طالق في الشهر الماضي، فيكون على قولين عند ابن خيران أنها لا تطلق وعند سائر أصحابنا تطلق في الحال قولا واحدا لانه إيقاع طلاق قبل عقده.

(والثانى)
وهو قول أكثر أصحابنا وهو المشهور أنها لا تطلق ههنا قولا واحدا لانه علق الطلاق بصفة قد كان وجودها ممكنا، فوجب اعتبارها وإيقاع الطلاق في زمن ماض غير ممكن فسقط اعتباره، فعلى هذا إذا قال: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر ثم خالعها الزوج ثم قدم زيد نظرت - فإن قدم زيد لاكثر من شهر من حين عقد الطلاق - فإن كان بين ابتداء الخلع والقدوم شهر فما دونه تبينا أن الخلع لم يصح، لانه إذا كان بينهما أقل من شهر بان أن الطلاق بالصفة كان
سابقا للخلع.
وإذا كان بينهما شهر لا غير بان أنها طلقت ثلاث قبل تمام الخلع فلم يصح.
وإن كان بين ابتداء الخلع والقدوم أكثر من شهر تبينا أن الخلع صحيح لانه بان أن الخلع وقع قبل الطلاق بالصفة (مسألة) قوله: وإن قال أنت طالق قبل موتى بشهر الخ، فجملة ذلك أنه إذا

(17/214)


قال لامرأته أنت طالق قبل موتى طلقت في الحال، لان ذلك قبل موته وهو أول وقت يقتضيه الطلاق، فوقع فيه الطلاق وان قال أنت طالق قبيل موتى.
قال ابن الحداد لا يقع في الحال، وانما يقع قبل موته بجزء يسير، لان ذلك تصغير يقتضى الجزء اليسير، وكذلك إذا قال أنت طالق قبيل رمضان طلقت إذا بقى من شعبان جزء يسير.
وإن قال لها: أنت طالق مع موتى لم تطلق، لان تلك حال البينونة فلا يقع فيها طلاق، كما لو قال لها أنت طالق مع انقضاء عدتك، وكانت رجعية، وكما لو قال لها أنت طالق بعد موتى.
وان قال لعبده: أنت حر مع موتى عتق من الثلث، كما يصح أن يقول: أنت حر بعد موتى.
وان قال لامرأته: أنت طالق قبل موتى بشهر، فإن مات لاقل من شهر لم تطلق لتقدم الشرط على العقد.
وان مضى شهر بعد هذا ومات مع رأس الشهر لم تطلق، لان الطلاق انما يقع بعد إيقاع لا مع الايقاع، فلو حكمنا بالطلاق ههنا لوقع معه.*
*
* وجملة ما في الفصلين أن المسألة إذا كانت بحالها فمات أحدهما بعد عقد الصفة بيوم ثم قدم زيد بعد شهر وساعه من حين عقد الصفة لم يرث أحدهما الآخر، لانا تبينا أن الطلاق كان قد وقع قبل موت الميت منهما فلم يرثه صاحبه، الا أن
يكون الطلاق رجعيا فإنه لا يقطع التوارث ما دامت في العدة، فإن قدم بعد الموت بشهر وساعه تبينا أن الفرقة وقعت بالموت ولم يقع الطلاق، فإن قال أنت طالق قبل موتى بشهر فمات أحدهما قبل مضى شهر لم يقع طلاق، لان الطلاق لا يقع في الماضي.
وان مات بعد عقد اليمين بشهر وساعه تبينا وقوع الطلاق في تلك الساعه، ولم يتوارثا إلا أن يكون الطلاق رجعيا ويموت في عدتها وإن قال أنت طالق قبل ولم يزد شيئا طلقت في الحال، لان ما قبل موته من حين انعقدت الصفه محل للطلاق فوقع في أوله.
وان قال قبل موتك أو موت زيد فكذلك.
وان قال أنت طالق قبل قدوم زيد أو قبل دخولك الدار فقال بعض الفقهاء تطلق في الحال، سواء قدم زيد أو لم يقدم، بدليل قوله تعالى (يا أيها الذين

(17/215)


أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " ولم يوجد الطمس في المأمورين ولو قال لغلامه: اسقنى قبل أن أضربك فسقاه في الحال عد ممتثلا وان لم يضربه، ولو قال أنت طالق قبيل موتى أو قبيل قدوم زيد لم يقع في الحال، وانما يقع ذلك في الجزء الذى يلى الموت، لان ذلك تصغير يقتضى الجزء اليسير الذى يبقى.
وإن قال أنت طالق قبل موت زيد وعمرو بشهر.
قالوا تتعلق الصفة بأولهما موتا لان اعتباره بالثاني يفضى إلى وقوعه بعد موت الاول، واعتباره بالاول لا يفضى إلى ذلك فكان أولى.
والله تعالى أعلم بالصواب قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان قال أنت طالق في اليوم الذى يقدم فيه زيد، فقدم ليلا لم تطلق لانه لم يوجد الشرط.
وإن قال أردت باليوم الوقت قبل منه لانه قد يستعمل اليوم في الوقت كما قال الله عز وجل " ومن يولهم يومئذ دبره " وهو غير
متهم فيه فقبل منه.
وان ماتت المرأة في أولى اليوم الذى قدم زيد في آخره فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال ابو بكر بن الحداد المصرى: يقع الطلاق لانه إذا قال أنت طالق في يوم السبت طلقت بطلوع الفجر، فإذا قال أنت طالق في اليوم الذى يقدم فيه زيد، فقدم وجب أن يقع بعد طلوع الفجر في اليوم الذى يقدم فيه زيد، وقد قدم وكانت باقية بعد طلوع الفجر فوجب ان يقع الطلاق.
ومن أصحابنا من قال لا يقع لانه جعل الشرط في وقوع الطلاق قدوم زيد وقدوم زيد وجد بعد موت المرأة فلا يجوز أن يقع الطلاق، ويخالف قوله أنت طالق يوم السبت فإنه علق الطلاق على شرط واحد وهو اليوم، وههنا علق على شرطين اليوم وقدوم زيد، وقدوم زيد وجد وقد ماتت المرأة فلم يلحقها الطلاق (الشرح) إذا قال لامرأته أنت طالق في اليوم الذى يقدم فيه زيد - قال المصنف ههنا - فإن قدم زيد ليلا لم تطلق لانه لم يوجد الشرط وان قال أردت باليوم الوقت طلقت، لان اليوم قد يستعمل في الوقت.
قال الله تعالى " ومن

(17/216)


يولهم يومئذ دبره " وان ماتت المرأة في يوم ثم قدم زيد بعد موتها في ذلك اليوم ففيه وجهان.
قال ابن الحداد: ماتت مطلقة فلا يرثها إن كان الطلاق بائنا - وقد مضى إيضاحنا لذلك في الفصل قبله - وكذلك إذا علق عنق عبده بذلك ثم باعه بعد ذلك بيوم وقدم زيد بعد البيع في ذلك اليوم تبينا أن العتق وقع قبل البيع وأن البيع باطل، وهو اختيار القاضى أبى الطيب، لان أول اليوم طلوع الفجر وإنما عرفه بقدوم زيد فإذا قدم تبينا أن الصفة وجدت بطلوع الفجر، كما إذا قال أنت طالق يوم الخميس.
ومن أصحابنا من قال لا يقع عليها الطلاق ولا يصح العتق.
وبه قال ابن سريج
لان معنى قوله يوم قدوم زيد، أي في وقت قدوم زيد فلا تطلق قبله، كما لو علقه على القدوم من غير ذكر اليوم.
(مسألة) إذا قال لامرأته: ان لم أتزوج عليك فأنت طالق، فإن قيد ذلك بمدة - فإن لم يتزوج حتى بقى من المدة قدر لا يتسع لعقد النكاح طلقت، وإن أطلق اقتضى التأبيد، فإن مات أحدهما قبل أن يتزوج طلقت إذا بقى من حياة الميت أو ما لا يتسع لعقد النكاح - فإن كان الطلاق رجعيا ورث الباقي منهما، وان كان بائنا - فان ماتت الزوجه - لم يرثها الزوج، وان مات الزوج فهل ترثه؟ فيه قولان.
وان قال: إذا لم أتزوج عليك فأنت طالق: فمضى بعد يمينه زمان يمكنه أن يعقد فيه النكاح فلم يعقد طلقت عند من قال من أصحابنا أن " إذا " على الفور وان تزوج عليها بر في يمينه وقال مالك وأحمد: لا يبر حتى يتزوج عليها من يشبهها في الجمال ويدخل بها دليلنا أن اليمين معقودة على التزويج بها وقد وجد ذلك بالعقد، وان كانت مما لا يشبهها.
هذا نقل البغداديين وقال المسعودي: إذا قال لامرأته ان لم أتزوج فأنت طالق لم تطلق ما لو لم يوأس من تزويجه، فلو مات قبل أن يتزوج - فان قال: ان لم أتزوج عليك - طلقت قبل موته، وان أطلق لم تطلق، فان ماتت في الاولة وكان الطلاق بائنا لم يرثها، وان مات فهل ترثه؟ فيه قولان

(17/217)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال: إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم، فمضى اليوم ولم يطلقها، ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تطلق، لان مضى اليوم شرط في وقوع الطلاق في اليوم، ولا يوجد شرط الطلاق الا بعد مضى محل الطلاق فلم يقع.
والثانى يقع وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفرايينى رحمه الله، لان قوله: ان لم أطلقك اليوم معناه إن فاتني طلاقك اليوم فإذا بقى من اليوم مالا يمكنه أن يقول فيه أنت طالق فقد فاته فوقع الطلاق في بقيته.
وان قال لعبده: إن لم أبعك اليوم فامرأتي طالق، فأعتقه طلقت المرأة، لان معناه: ان فاتني بيعك، وقد فاته بيعه بالعتق.

(فصل)
إذا تزوج بجارية أبيه ثم قال: إذا مات أبى فأنت طالق فمات أبوه ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس بن سريج انها لا تطلق لانه إذا مات الاب ملكها فانفسخ النكاح، ويكون الفسخ في زمان الطلاق فوقع الفسخ وانفسخ الطلاق، كما لو قال رجل لزوجته: ان مت فأنت طالق ثم مات، والثانى وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله أنها تطلق ولا يقع الفسخ.
لان صفة الطلاق توجد عقيب الموت وهو زمان الملك، والفسخ يقع بعد الملك فيكون زمان الطلاق سابقا لزمان الفسخ فوقع الطلاق ولم يقع الفسخ.
وان قال الاب لجاريته أنت حرة بعد موتى، وقال الابن أنت طالق بعد موت أبى، فمات الاب وقع العتق والطلاق، لان العتق يمنع من الدخول في ملك الابن، فوقع العتق والطلاق معا.
(الشرح) وإن قال لامرأته ان لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم فخرج اليوم ولم يطلقها ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس انها لا تطلق، لان الصفة توجد بخروج اليوم، فإذا خرج اليوم لم يقع الطلاق لانه قد فات.

(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد أنها تطلق في آخر جزء من اليوم لان معناه ان فاتى طلاقك اليوم فأنت طالق، فإذا بقى من اليوم مالا يمكنا من الطلاق فيه فقد فاتة الطلاق فوقع الطلاق في ذلك

(17/218)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا كتب: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق ونوى الطلاق فضاع الكتاب لم يقع الطلاق لانه لم يأتها الكتاب.
وان وصل وقد ذهبت الحواشى وبقى موضع الكتابة وقع الطلاق، لان الكتاب هو المكتوب.
وإن أتاها وقد امحى الكتاب لم تطلق أيضا.
لانه لم يأتها الكتاب.
وان انطمس حتى لا يفهم منه شئ لم تطلق لانه ليس بكتاب، فهو كما لو جاءها كتاب فيه صورة.
وإن جاء وقد امحى بعضه.
فإن كان الذى امحى موضع الطلاق - لم يقع، لان المقصود لم يأتها، وان بقى موضع الطلاق وذهب الباقي فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق يقع لان المقصود من الكتاب قد أتاها.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع لانه قال: إذا جاءك كتابي هذا.
وذلك يقتضى جميعه وإذا قال: إذا أتاك كتابي فأنت طالق، فأتاها الكتاب وقد امحى الجميع الا موضع الطلاق وقع الطلاق، لانه أتاها كتابه.
وإن قال: إن أتاك طلاقي فأنت طالق.
وكتب إذا أتاك كتابي فأنت طالق ونوى الطلاق وأتاها الكتاب طلقت طلقتين، طلقة بمجئ الكتاب، وطلقة بمجئ الطلاق.
(الشرح) إذا كتب لزوجته " أنت طالق ثم استمر فكتب: إذا أتاك كتابي أو علقه بشرط أو استثناء، وكان في حال كتابته للطلاق مريدا للشرط لم يقع طلاقه في الحال لانه لم ينو الطلاق في الحال بل نواه في وقت آخر، وان كان نوى الطلاق في الحال غير معلق بشرط طلقت للحال.
وإن لم ينو شيئا وقلنا ان المطلق يقع به الطلاق نظرنا - فإن كان استمدادا لحاجة أو عادة لم يقع طلاق قبل وجود الشرط، لانه لو قال: أنت طالق ثم أدركه النفس أو شئ يسكته فسكت لذلك ثم أتى بشرط تعلق به فالكتابة أولى.
وإن استمد لغير حاجة ولا عادة وقع
الطلاق، كما لو سكت بعد قوله: أنت طالق لغير حاجة ثم ذكر شرطا وإن قال: إننى كتبته مريدا للشرط فقياس قولنا وقول أصحاب أحمد أنها لا تطلق قبل الشرط إلا أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، وقبوله في الحكم على

(17/219)


وجهين.
وان كتب إلى امرأته: أما بعد فأنت طالق، طلقت في الحال، سواء وصل إليها الكتاب أو لم يصل وعدتها من حين كتبه.
وان قال: كنت أمتحن القلم أو أجود الخط قبل في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وان كتب إليها إذا وصلك كتابي هذا فأنت طالق فأتاها الكتاب طلقت عند وصوله إليها، وان ضاع ولم يصلها لم تطلق، لان الشرط وصوله، وان ذهبت كتابته بمحو أو غيره ووصل الصحيفة لم تطلق لان الشرط وصوله.
وان انطمس ما فيه لعرق أو غيره فكما قلنا في ذهاب كتابته: وان ذهبت حواشيه أو تخرق منه شئ لا يخرجه عن كونه كتابا ووصل باقيه طلقت، لان الاسم باق، فينصرف الاسم إليه، وان تخرق ما فيه ذكر الطلاق فذهب ووصل باقيه لم تطلق لان المقصود ذاهب فإن قال لها إذا أتاك طلاقي فأنت طالق، ثم كتب إليها: إذا أتاك كتابي فأنت طالق.
فأتاها الكتاب طلقت طلقتين لوجود الصفتين في مجئ الكتاب.
فإن قال أردت إذا أتاك كتابي فأنت طالق بذلك الطلاق الذى علقته دين.
وهل يقبل في الحكم؟ وجهان ويخرج على روايتين عند أصحاب أحمد ولا يثبت الكتاب بالطلاق الا بشاهدين عدلين أن هذا كتابه.
ولا تصح شهادة الشاهدين حتى يشاهداه يكتبه، ثم لا يغيب عنهما حتى يؤديا الشهادة، وبهذا قال بعض أصحاب أحمد، والاظهر عندهم أن هذا ليس بشرط، فإن كتاب القاضى لا يشترط فيه ذلك، ولا يكفى أن يشهد شاهدان بالخيرة أن هذا خطه.
لان الخط
يشبه ويزور.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال ان قدم فلان فأنت طالق فقدم به ميتا أو حمل مكرها لم تطلق لانه ما قدم وانما قدم به، وان أكره حتى قدم بنفسه ففيه قولان كالقولين فيمن أكره حتى أكل في الصوم، وان قدم مختارا وهو غير عالم باليمين، فإن كان ممن لا يقصد الزوج منعه من القدوم بيمينه كالسلطان طلقت لانه طلاق معلق

(17/220)


على صفة وقد وجدت الصفة وان كان ممن يقصد الزوج منعه من القدوم بيمينه فعلى القولين فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا
(فصل)
وإن قال: إن خرجت إلا بإذنى فأنت طالق، فخرجت بالاذن انحلت اليمين، فإن خرجت بعد ذلك بغير الاذن لم تطلق، لان قوله إن خرجت لا يقتضى التكرار، والدليل عليه انه لو قال لها: إن خرجت فأنت طالق فخرجت مرة طلقت، ولو خرجت مرة أخرى لم تطلق فصار كما لو قال: ان خرجت مرة إلا بإذنى فأنت طالق وان قال: كلما خرجت إلا بإذنى فأنت طالق ثم خرجت بغير الاذن طلقت طلقة.
وان خرجت مرة ثانيه بغير الاذن وقعت طلقه أخرى.
وإن خرجت مرة ثالثة وقعت طلقة أخرى لان اللفظ يقتضى التكرار.
وان قال إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذن فأنت طالق، فخرجت إلى الحمام ثم عدلت إلى غير الحمام لم يحنث لان الخروج كان إلى الحمام.
وان خرجت إلى غير الحمام ثم عدلت إلى الحمام حنث بخروجها إلى غير الحمام بغير الاذن.
وان خرجت إلى الحمام والى غيره وجمعت بينهما في القصد عند الخروج ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يحنث لان الحنث علقه على الخروج إلى غير الحمام، وهذا الخروج مشترك بين الحمام وغيره

(والثانى)
يحنث لانه وجد الخروج إلى غير الحمام بغير الاذن والضم إليه غيره فوجب أن يحنث، كما لو قال: ان كلمت زيدا فأنت طالق ثم كلمت زيدا وعمرا.
وإن قال ان خرجت الا بإذنى فأنت طالق، فأذن لها ولم تعلم بالاذن ثم خرجت لم تطلق لانه علق الخلاص من الحنث بمعنى من جهته يختص به وهو الاذن وقد وجد الاذن.
والدليل عليه انه يجوز لمن عرفه أن يخير به المرأة فلم يعتبر علمها فيه كما لو قال: ان خرجت قبل أن أقوم فأنت طالق ثم قام ولم تعلم به
(فصل)
وان قال لها: إن خالفت أمرى فأنت طالق، ثم قال لها لا تكلمي أباك فكلمته لم تطلق لانها لم تخالف أمره، وانما خالفت نهيه وان قال ان بدأتك بالكلام فأنت طالق، وقالت المرأة: وان بدأتك بالكلام فعبدي حر، فكلمها لم تطلق المرأة ولم يعتق العبد، لان يمينه انحلت بيمينها بالعتق ويمينها انحلت بكلامه.
وان قال أنت طالق ان كلمتك وأنت طالق ان دخلت الدار طلقت لانه

(17/221)


كلمها باليمين الثانية وان قال أنت طالق ان كلمتك ثم أعاد ذلك طلقت لانه كلمها بالاعادة.
وان قال ان كلمتك فأنت طالق فاعلمي ذلك طلقت لانه كلمها بقوله: فاعلمي ذلك.
ومن أصحابنا من قال: ان وصل الكلام باليمين لم تطلق، لانه من صلة الاول
(فصل)
إذا قال لامرأته: ان كلمت رجلا فأنت طالق، وان كلمت فقيها، فأنت طالق، وان كلمت طويلا فأنت طالق، فكلمت رجلا طويلا فقيها طلقت ثلاثا، لانه اجتمع صفات الثلاثة فوقع بكل صفة طلقة
(فصل)
وان قال ان رأيت فلانا فأنت طالق فرآه ميتا أو نائما طلقت لانه رآه، وان رآه في مرآة أو رأى ظله في الماء لم تطلق لانه ما رآه وانما رأى مثاله وان رآه من وراء زجاج شفاف طلقت لانه رآه حقيقة
(الشرح) ان قال لها: إذا قدم فلان فأنت طالق، فمات قبل أن يقدم ثم قدم به لم تطلق لانه لم يقدم وانما قدم به.
وهكذا إذا أكره فقدم به محمولا لم تطلق لانه لا يقال له قدم، وان أكره حتى قدم بنفسه فهل تطلق، فيه قولان كما لو أكل في الصوم مكرها على الاكل.
وان قدم غير مكره والمحلوف عليه غير عالم باليمين حنث الحالف، وان كان غير عالم باليمين أو كان عالما ثم نسيها عند القدوم نظرت، فإن كان القادم ممن لا يقصد الحالف منعه من القدوم كالسلطان الحجيج، أو أجنبي لا يمتنع من القدوم لاجل يمين الحالف طلقت.
لان ذلك ليس بيمين، وانما هو تعليق طلاق بصفة وقد وجدت فوقع الطلاق، كقوله: ان دخل الحمار الدار وطلعت الشمس فأنت طالق، وان كان القادم ممن يقصد الحالف منعه من القدوم كقرابة الرجل أو قرابة المرأة أو بعض من يسوءه طلاقها ففيه قولان كالقولين فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا وحكى ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد قال: ينبغى أن يقال إذا كان المحلوف على قدومه ممن يمنعه الحالف من القدوم باليمين أن يرجع إلى قصد الحالف، فإن قصد منعه من القدوم فهو كما مضى، وان أراد أن يجعل ذلك صفة كان ذلك صفة قال الطبري فلو قدم المحلوف عليه وهو مجنون، فإن كان يوم عقد اليمين عاقلا

(17/222)


ثم جن بعد ذلك لم يقع الطلاق لانه لا حكم لفعله في ذلك، وإن كان في ذلك اليوم مجنونا وقع الطلاق لانه يجرى مجرى الصفات.
(فرع)
وإن قال لها: إذا ضربت فلانا فأنت طالق، فضربه بعد موته فقال أكثر أصحابنا: لم تطلق لان القصد بالضرب أن يتألم به المضروب وهذا لا يوجد في ضرب الميت.
هذا هو المشهور.
وقال ابن الصباغ: وهذا يخالف أصلنا لانا لا نراعى إلا ظاهرا من اللفظ
في اليمين دون ما يقصد به في العادة.
ألا ترى أنه لو حلف: لا ابتعت هذا فابتاعه له وكيله لم يحنث.
وإن كان القصد من الابتياع هو التملك له.
وحقيقة الضرب موجود في ضرب الميت وان لم يألم به.
ألا ترى أنه لو ضربه وهو نائم أو سكران لم يألم به.
وان ضربه ضربا لا يؤلمه بر في يمينه اه (مسألة) قوله: وان قال: ان خرجت الخ، فجملة ذلك أنه إذا قال لها: ان خرجت بغير إذنى فأنت طالق، فإن خرجت بغير إذنه طلقت، فإن أذن لها فخرجت انحلت اليمين، فإن خرجت بعد ذلك لم تطلق.
وكذلك إذا قال: ان خرجت إلا بإذنى، أو قال إن خرجت إلا أن آذن لك، أو حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك فالحكم واحد.
وقال أبو حنيفة: إذا قال إلا بإذنى، أو قال إن خرجت بغير إذنى فإذا خرجت بإذنه لم تنحل اليمين.
ومتى خرجت بعد ذلك بغير اذنه حنث، ووافقنا في اللفظ الثلاثة، وخالف أحمد في كلها، دليلنا أن اليمين تقدمت بخروج واحد لان هذه الحروف لا تقتضي التكرار فلم يحنث بما بعد الاول وإن قال كلما خرجت الا بإذنى فأنت طالق فخرجت بغير اذنه طلقت، وان خرجت بغير اذنه ثانيا طلقت الثانية، وان خرجت بغير اذنه ثالثا طلقت ثلاثا، لان كلما يقتضى التكرار.
وان قال ان خرجت إلى غير الحمام بغير اذنى فأنت طالق، فخرجت إلى غير الحمام بغير اذنه طلقت.
وان خرجت قاصدة إلى الحمام ثم عدلت إلى غير الحمام بغير الاذن وانضم إليه غيره فطلقت.
كما لو قال: ان كلمت زيدا فأنت طالق فكلمت زيدا وعمرا معا.
وان أذن لها بالخروج فخرجت ولم تعلم بالاذن لم تطلق

(17/223)


لان الصفة لم توجد لانه شرط إذا خرجت بغير اذنه وقد وجد الاذن منه.
وان لم تعلم به.
هذا هو المشهور وحكى الطبري إذا خرجت على ظن أنها تطلق فهل تطلق؟ فيه وجهان الظاهر أنها لا تطلق بناء على القولين في الوكيل إذا تصرف بعد العزل وقبل العلم بالعزل.
(مسألة) إذا قال لها: ان خالفت أمرى فأنت طالق، ثم قال لا تكلمي أباك فكلمته لم تطلق لانها لم تخالف أمره وانما خالفت نهيه، وان قال لها: متى نهيتني عن منفعة أمي فأنت طالق، فقالت له: لا تعط أمك مالى، لم تطلق لانه لا يجوز له أن يعطى أمه مال زوجته، ولا يجوز للام أن تنتفع به (فرع)
وان قال لها: ان كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمته بحيث يسمع كلامها طلقت، سواء سمعها أو لم يسمعها لوجود الصفه، ولهذا يقال: كلمته فلم يسمع وان كلمته وهو منها فعلى مسافة بعيدة لا يسمع كلامها في العادة لم تطلق، لانه لا يقال كلمته، وان كان أصم فكلمته بحيث يسمع لو كان سميعا ففيه وجهان.

(أحدهما)
تطلق لانها قد كلمته، وانما لم يسمع لعارض، فهو كما لو لم يسمع لشغل
(والثانى)
لا تطلق لان الاعتبار بما يكون كلاما له.
وذلك ليس بكلام له كما يختلف الكلام في القرب والبعد.
وان كلمته وهو ميت لم تطلق، لان الميت لا يكلم.
فإن قيل فقد كلم النبي صلى الله عليه وسلم قتلى بدر وهم القليب حيث قال صلى الله عليه وسلم " يا عتبة يا شيبة يا فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقيل يا رسول الله أتكلم الموتى وقد ارموا؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لم يؤذن لهم في الجواب " قلنا تلك معجزة للنبى صلى الله عليه وسلم، لان الله رد إليهم أرواحهم حتى يسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لان الاصل أن الميت لا يسمع.
قال الله تعالى " وما أنت بمسمع من في القبور " أنزل الكفار منزلة من في القبور،
وان كلمته وهو نائم أو مغمى عليه لم تطلق كالميت، وان كلمته وهى مجنونة، قال ابن الصباغ لم يحنث وان كانت سكرانة حنث، لان السكران بمنزلة الصاحى في الحكم، وان كلمته وهو سكران، فإن كان بحيث يسمع حنث، وان كان بحيث

(17/224)


لا يسمع لم يحنث، وإن قال لها: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، ثم قالت له: إن بدأته بالكلام فعبدي حر فكلمها لم تطلق ولم يعتق العبد، لان يمينه انحلت بيمينها ويمينها انحلت بكلامه.
وإن قال لها: إن كلمتك فأنت طالق، وإن دخلت الدار فأنت طالق، طلقت لانه كلمها باليمين الثانية، وإن أعاد اليمين الاولة طلقت لانه كلمها، وإن قال: إن كلمتك فأنت طالق فاعلمي ذلك طلقت لانه كلمها بقوله: فاعلمي ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إن وصله باليمين لم تطلق، لانه من صلة الاول والاول أصح.
(فرع)
وإن قال لها: أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا وبكر مع خالد - برفع بكر - فكلمت زيدا وعمرا طلقت، لان اليمين على كلامهما وقد وجد وقوله: وبكر مع خالد لا يتعلق باليمين.
لانه ليس بمعطوف على الاولين، قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لان ذلك يقتضى أن يكون لزيد وعمر وفى حال كون بكر مع خالد مثل قوله تعالى " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " فكانت هذه الجملة حالا من الاولة.
كذلك ههنا.
فإن كلمت زيدا أو عمرا لم تطلق لان صفة الطلاق كلامهما، وإن قال لها: أنت طالق ان كلمت زيدا وعمرا وخالدا فكلمت بعضهم لم تطلق.
وإن قال أنت طالق ان كلمت زيدا ولا عمرا ولا خالدا، فكلمت واحدا منهم طلقت وإن قال لها: إن كلمت زيدا إلى أن يقدم عمرو أو حتى يقدم عمرو فأنت طالق فإن كلمت زيدا قبل قدوم عمرو طلقت، وان كلمته بعد قدوم عمرو لم تطلق
لان حتى وإلى للغاية، والغاية ترجع إلى الكلام لا إلى الطلاق فتصير كقوله أنت طالق ان كلمت زيدا إلى أن يشاء عمرو وحتى يشاء عمرو (فرع)
وان قال: إن رأيت فلانا فأنت طالق فرأته حيا أو ميتا طلقت، لان رؤيته حاصلة وان كان ميتا.
قال ابن الصباغ: وان رأته مكرهة فهل تطلق؟ فيه قولان على ما ذكرناه في القدوم، وإن رأته في مرآة أو رأت ظله في الماء لم تطلق لانها ما رأته، وإنما رأت خياله، وان رأته من وراء زجاج شفاف طلقت لانها رأته حقيقة

(17/225)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كانت في ماء جار فقال لها ان خرجت منه فأنت طالق، وان وقفت فيه فأنت طالق لم تطلق خرجت أو وقفت لان الذى كانت فيه من الماء مضى بجريانه فلم تخرج منه ولم تقف فيه، وان كان في فيها تمرة فقال: ان أكلتها فأنت طالق، وان رميتها فأنت طالق، وان أمسكتها فأنت طالق، فأكلت نصفها لم تطلق، لانها ما أكلتها ولا رمتها ولا أمسكتها.
وإن كانت معه تمرة فقال: ان أكلتها فأنت طالق، فرماها إلى تمر كثير فأكل جميعه وبقى تمرة لا يعلم أنها المحلوف عليها أو غيرها، لم تطلق لجواز أن تكون هي المحلوف عليها فلم تطلق بالشك.
وإن أكل تمرا كثيرا فقال لها: ان لم تخبريني بعدد ما أكلت فأنت طالق، فعدت من واحد إلى عدد يعلم أن المأكول دخل فيه لم تطلق لانها أخبرته بعدد ما أكل، وان أكلا تمرا واختلط النوى فقال: ان لم تميزي نوى ما أكلت من نوى ما أكلت فأنت طالق، فأفردت كل نواة لم تطلق لانها ميزت.
وان اتهمها بسرقه شئ فقال أنت طالق ان لم تصدقيني أنك سرفت أم لا؟
فقالت سرقت وما سرقت لم تطلق، لانها صدقته في أحد الخبرين، وان قال: ان سرقت منى شيئا فأنت طالق وسلم إليها كيسا فأخذت منه شيئا لم تطلق لان ذلك ليس بسرقة وانما هو خيانة
(فصل)
وان قال: من بشرتني بقدوم زيد فهى طالق، فأخبرته امرأته بقدوم زيد وهى صادقة، طلقت لانها بشرته.
وان كانت كاذبة لم تطلق، لان البشارة ما بشر به الانسان ولا سرور في الكذب، وان أخبرتاه بقدومه واحدة بعد واحدة وهما صادقتان طلقت الاولى دون الثانية، لان المبشرة هي الاولى وان أخبرتاه معا طلقتا لاشتراكهما في البشارة وان قال: من أخبرتى بقدوم زيد فهى طالق، فأخبرته امرأته بقدوم زيد طلقت، صادقة كانت أو كاذبة، لان الخبر يوجد مع الصدق والكذب، فإن أخبرته احداهما بعد الاخرى أو أخبرتاه معا طلقتا لان الخبر وجد منهما

(17/226)


(الشرح) إذا كانت في ماء جار فقال لها: إن أقمت في هذا الماء فأنت طالق وان خرجت منه فأنت طالق، فأكثر أصحابنا قالوا لا تطلق، سواء أقامت فيه أو خرجت منه، لان الاشارة وقعت إلى الماء الذى هي فيه، فإذا ذهب وجاء غيره فلم تقم في الماء الذى تناولته اليمين ولم تخرج منه.
وقال القفال: عندي أنها على قولين كما لو قال لها: ان لم تشربي من هذا الكوب اليوم فأنت طالق، فانصب ذلك أو كسر الكوب فهل تطلق؟ على قولين فقال أبو على الشيخى: وهذا يشبه هذا، إلا أن الشرب قد فات من كل جهة.
والمقام في ذلك الماء لم يفت بالجريان، لانها لو جرت في ذلك الماء بجريان الماء لكان يحنث بمكثها حتى جاوزها ذلك الماء.
ألا ترى أنه لو حول ذلك الماء في الكوب إلى دار بحيث يمكنها الذهاب إليه للشرب في هذا اليوم فلم يفعل تعلقت
به اليمين، لان الماء قائم يمكنها شربه ولو قال لها: إن لم تخرجي من هذا النهر الآن فأنت طالق فلم تخرج طلقت.
لان النهر اسم للمكان الذى فيه الماء والخروج منه ممكن، وان كانت في راكد فقال لها إن قمت في هذا الماء فأنت طالق وان خرجت منه فأنت طالق، فالخلاص من الحنث أن تحمل منه مكرهة عقيب يمينه، وان كانت على سلم فقال لها إن صعدته فأنت طالق، وان نزلت منه فأنت طالق، وان أقمت عليه فأنت طالق.
فالخلاص منه أن تتحول إلى سلم آخر أو تنزل منه مكرهة (فرع)
وان كان في فيها تمرة وقال لها ان أكلتها فأنت طالق، وان رميتها فأنت طالق، وان أمسكتها فأنت طالق، فالخلاص من الحنث أن تأكل بعضها.
لانها إذا فعلت ذلك فما أكلتها ولا رمتها ولا أمسكتها.
وان قال لها: ان أكلتها فأنت طالق، وان لم تأكليها فأنت طالق - فحكى ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد قال: إذا أكلت بعضها لم تطلق: قال ابن الصباغ وهذا ليس بصحيح، لانها إذا أكلت بعضها فما أكلتها فيجب أن يحنث، والذى قاله ابن الصباغ انما يتصور الحنث في عدم أكلها وان ماتت المرأة أو تلف باقى التمرة قبل موتها، فأما قبل ذلك فلا يتصور الحنث في عدم أكلها

(17/227)


قال العمرانى: والذى رأيته في التعليق عن الشيخ أبى حامد: إذا قال إذا أكلتها فأنت طالق وان أخرجتها فأنت طالق، إذا أكلت بعضها لم يحنث، لانها لم تأكلها ولم تخرجها.
وان قال: إن أكلت هذه التمرة فأنت طالق فرماها في تمر كثير واختلطت ولم تتميز وأكل الجميع الا تمرة واحدة، ولم يعلم أنها المحلوف عليها أو غيرها لم تطلق
لجواز أن يكون هي المحلوف عليها، والاصل بقاء النكاح وعدم وقوع الطلاق.
(فرع)
وان أكلت تمرا كثيرا وقال: ان لم تخبريني بعدد ما أكلت فأنت طالق، أو قال ان لم تخبريني بعدد هذه الرمانة قبل كسرها فأنت طالق، فالخلاص من الحنث أن تقول في الاولة أكلت واحدة أكلت اثنتين أكلت ثلاثا، فلا تزال تعدد واحدة بعد واحدة حتى يتيقن أن عدد الذى أكلته قد دخل فيما أخبرت به.
وكذلك تقول عدد حب هذه الرمانة واحدة اثنتين فتعد واحدة واحدة حتى يعلم ان عدد حبها قد دخل فيما أخبرت به وان أكلا تمرا واختلط النوى فقال: ان لم تميزي نوى ما أكلت أو ما أكل كل واحد منا فأنت طالق، فميزت كل نواة لم تطلق لانها ميزت - وان اتهمها بسرقة شئ فقال لها أنت طالق ان لم تصدقيني أنك سرقت، فقالت سرقت وما سرقت لم تطلق لانها صدقته في أحد الخبرين وان قال لها: ان سرقت منى شيئا فأنت طالق، فسلم إليها دراهم أو غيرها فأخذت من ذلك شيئا لم تطلق، لان ذلك ليس بسرقة بدليل أن ليس في مثل ذلك قطع على ما سنوضحه في الجنايات ان شاء الله (مسألة) قوله: وان قال من بشرتني بقدوم زيد الخ، فجملة ذلك أنه إذا كان له زوجات فقال لهن: من بشرتني بقدوم زيد فهى طالق، فقالت له واحدة قد قدم وكانت صادقة، طلقت لوجود الصفة، فإن أخبرته الثانية بقدومه لم تطلق لان البشارة ما دخل بها السرور - وقد حصل ذلك بقول الاولة - وان كانت الاولة كاذبة لم تطلق لانه لا بشارة في الكذب وان قال لهن: من أخبرتني بقدوم زيد فهى طالق، فقالت له واحدة منهن قد قدم، طلقت، صادقة كانت أم كاذبة، لان الخبر دخله الصدق أو الكذب.

(17/228)


فإن أخبرته بقدومه بعدها ثانية وثالثة ورابعة طلقن، لانه علق الطلاق بإخبارهن إياه بقدوم زيد، والخبر قد يتكرر منهن فوقع الطلاق به.
هذا نقل البغداديين والشيخ أبى حامد وقال المسعودي: إذا قال أيتكن أخبرتني بأن زيدا قد قدم فهى طالق، فأخبرته واحدة منهن ولم يكن قادما لم تطلق.
وان قال أيتكن أخبرتني بقدوم زيد فهى طالق، فأخبرته واحدة منهن بقدومه طلقت وإن لم يك قادما.
لانه علق الطلاق بالاخبار وقد وجد.
وإن قال أيتكن بشرتني بقدوم زيد فهى طالق، ففيه وجهان
(أحدهما)
انه كالاخبار على ما ذكره المسعودي
(والثانى)
أنه كما ذكره البغداديون.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال أنت طالق إن شئت، فقالت في الحال شئت طلقت.
وان قالت شئت ان شئت، فقال شئت لم تطلق، لانه علق الطلاق على مشيئتها ولم توجد منها مشيئة الطلاق، وانما وجد منها تعليق مشيئتها بمشيئته فلم يقع الطلاق، كما لو قالت شئت إذا طلعت الشمس.
وإن قال أنت طالق ان شاء زيد فقال زيد شئت طلقت، وان لم يشأ زيد لم تطلق، وان شاء وهو مجنون لم تطلق لانه لا مشيئة له، وان شاء وهو سكران فعلى ما ذكرناه من طلاقه، وإن شاء وهو صبى، ففيه وجهان
(أحدهما)
تطلق لان له مشيئة، ولهذا يرجع إلى مشيئته في اختيار أحد الابوين في الحضانه.

(والثانى)
لا تطلق معه لانه لا حكم لمشيئته في التصرفات، وان كان أخرس فأشار إلى المشيئة وقع الطلاق كما يقع طلاقه إذا أشار إلى الطلاق، وإن كان ناطقا فخرس فأشار ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يقع، وهو اختيار الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله،
لان مشيئته عند الطلاق كانت بالنطق
(والثانى)
أنه يقع وهو الصحيح لانه في حال بيان المشيئة من أهل الاشارة والاعتبار بحال البيان لا بما تقدم ولهذا لو كان عند الطلاق أخرس ثم صار

(17/229)


ناطقا كانت مشيئته بالنطق.
وان قال أنت طالق إن شاء الحمار فهو كما لو قال أنت طالق ان طرت أو صعدت إلى السماء وقد بيناه.
وإن قال أنت طالق لفلان أو لرضى فلان طلقت في الحال، لان معناه أنت طالق ليرضى فلان، كما يقول لعبده: أنت حر لوجه الله أو لمرضاة الله.
وان قال أنت طالق لرضى فلان، ثم قال أردت ان رضى فلان على سبيل الشرط دين فيما بينه وبين الله عز وجل لانه يحتمل ما يدعيه، وهل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يقبل، لان ظاهر اللفظ يقتضى انجاز الطلاق فلم يقبل قوله في تأخيره كما لو قال أنت طالق وادعى أنه أراد ان دخلت الدار
(والثانى)
أنه يقبل لان اللفظ يصلح للتعليل والشرط، فقيل قوله في الجميع (الشرح) وان قال لها أنت طالق إن شئت - فإن قالت في الحال شئت وكانت صادقة وقع الطلاق ظاهرا وباطنا لوجود الصفة، وان كانت كاذبة وقع الطلاق في الظاهر، وهل يقع في الباطن؟ فيه وجهان، أحدهما لا يقع لان قولها شئت إخبار عن مشيئتها بقلبها واختيارها للطلاق، فإذا لم تشأ ذلك بقلبها لم يقع في الباطن.

(والثانى)
يقع في الباطن لان الصفة قولها شئت وقد وجدت فوقع الطلاق ظاهرا وباطنا كما لو علق الطلاق على دخولها الدار فدخلت وإن قالت شئت ان شئت لم يقع الطلاق سواء شاء الزوج أو لم يشأ لانه علق الطلاق على مشيئتها ولم توجد منها المشيئة، وانما وجد منها تعليق المشيئة
بمشيئته، فهو كما لو قالت شئت إذا طلعت الشمس (فرع)
وان قال أنت طالق ان شاء زيد، فإن قال زيد على الفور شئت وقع الطلاق، وان لم يشأ على الفور لم يقع الطلاق.
وان قال: أنت طالق ان شئت وزيد، فإن قالا في الحال شئنا وقع الطلاق.
وان شاء أحدهما دون الآخر لم تطلق لانه علق الطلاق بمشيئتهما.
وذلك لا يوجد بمشيئة أحدهما.
وان قالت شئت ان شاء زيد، فقال زيد شئت لم تطلق لانها لم يوجد منها المشيئة، وانما وجد منها تعليق المشيئة.

(17/230)


(فرع)
وإن علق الطلاق على مشيئتها فشاءت وهى مجنونة لم تطلق لان المجنونة لا مشيئة لها، وان شاءت وهى سكرى فهى كما لو طلق السكران، وإن شاءت وهى صغيرة ففيه وجهان.
قال ابن الحداد لا تطلق، لان ذلك خبر عن مشيئتها واختيارها للطلاق والصغيرة لا يقبل خبرها
(والثانى)
تطلق، لان الصفة قولها شئت وقد وجد ذلك منها، فهو كما لو علق الطلاق على دخولها الدار فدخلت ولان لها مشيئة، ولهذا يرجع إلى اختيارها لاحد الابوين وان كانت خرساء فأشارت إلى المشيئة وقع الطلاق، كما إذا أشار الاخرس إلى الطلاق.
وان كانت ناطقة فخرست فأشارت ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقع الطلاق، لان مشيئتها كانت بالنطق
(والثانى)
يقع اعتبارا بحالها وقت المشيئة.
وان قال أنت طالق ان شاء الحمار فهو كما لو قال أنت طالق ان طرت أو صعدت وقد مضى تخريجنا لقولي الامام الشافعي والربيع
*
*
* (فرع)
وان قال أنت طالق ان كنت تحبيننى، أو ان كنت تبغضيننى، أو ان كنت معتقدة لكذا أو محبة لكذا، رجع في ذلك إليها لانه لا يعلم الا من جهتها
قال الصيمري: وان قال لغريمه امرأتي طالق ان لم أجرك على الشوك، ولا نية له فقد قيل: إذا ماطله مطالا بعد مطال بر في يمينه وان قال أنت طالق لفلان أو لرضى فلان ولا نية له طلقت في الحال، لان معناه لاجل فلان، ولكى يرضى فلان، فصار كقوله لعبده: أنت حر لله، أو لرضى الله، هكذا أفاده العمرانى وان قال أردت أن رضى فلان شرط في وقوع الطلاق، فهل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يقبل لانه يعدل بالكلام عن ظاهره فلم يقبل، كما لو قال أنت طالق ثم قال أردت إذا دخلت الدار، فعلى هذا يدين فيما بينه وبين الله تعالى لانه يحتمل ما يدعيه.

(والثانى)
يقبل في الحكم، لان قوله أو لرضى فلان يحتمل التعليل والشرط فإذا أخبر انه أراد أحدهما قبل منه ذلك.

(17/231)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال: ان كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق، طلقت بكل واحدة من الصفتين، وان قال ان كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق لم تطلق الا بوجودهما، سواء قدم الكلام أو الدخول، لان الواو تقتضي الجمع دون الترتيب.
وان قال: ان كلمتك فدخلت دارك فأنت طالق، لم تطلق الا بوجود الكلام والدخول.
والتقديم للكلام على الدخول، لان الفاء في العطف للترتيب فيصير كما لو قال: ان كلمتك ثم دخلت دارك فأنت طالق: وان قال: ان كلمتك وان دخلت دارك فأنت طالق طلقت بوجود كل واحدة منهما طلقة، لانه كرر حرف الشرط فوجب لكل واحدة منهما جزاء وان قال لزوجتين ان دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان، فدخلت احداهما
احدى الدارين دخلت الثانية الدار الاخرى ففيه وجهان
(أحدهما)
تطلقان لان دخول الدارين وجد منهما
(والثانى)
لا تطلقان وهو الصحيح: لانه علق طلاقه بدخول الدارين فلا تطلق واحدة منهما بدخول احدى الدارين، كما لو علق طلاق كل واحدة منهما بدخول الدارين بلفظ مفرد.
وان قال: ان أكلتما هذين الرغيفين فأنتما طالقان، فأكلت كل واحدة منهما رغيفا فعلى الوجهين
(فصل)
وان قال أنت طالق ان ركبت ان لبست لم تطلق الا باللبس والركوب، ويسميه أهل النحو اعتراض الشرط على الشرط، فإن لبست ثم ركبت طلقت، وان ركبت ثم لبست لم تطلق لانه جعل اللبس شرطا في الركوب فوجب تقديمه.
وان قال أنت طالق إذا قمت إذا قعدت لم تطلق حتى يوجد القيام والقعود، ويتقدم القعود على القيام لانه جعل القعود شرطا في القيام.
وان قال ان أعطيتك ان وعدتك ان سألتنى فأنت طالق لم تطلق حتى يوجد السؤال ثم الوعد ثم العطيه لانه شرط في العطيه الوعد، وشرط في الوعد السؤال، وكأن معناه ان سألتنى شيئا فوعدتك فأعطيتك فأنت طالق.
وان قال ان سألتنى ان أعطيتك ان وعدتك

(17/232)


فأنت طالق لم تطلق حتى تسأل ثم يعدها ثم يعطيها، لان معناه إن سألتنى فأعطيتك إن وعدتك فأنت طالق
(فصل)
وإن قال أنت طالق أن دخلت الدار، بفتح الالف أو أنت طالق أن شاء الله بفتح الالف، وممن يعرف النحو طلقت في الحال، لان معناه أنت طالق لدخولك الدار أو لمشيئة الله عز وجل طلاقك.
وان قال أنت طالق إذ دخلت الدار، وهو ممن يعرف النحو طلقت في الحال لان إذ لما مضى (الشرح) إن قال لها: إن كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق، فإن كلمها أو
دخل دارها طلقت، وان قال ان كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق لم تطلق إلا بالدخول والكلام، سواء تقدم الدخول أو الكلام، لان الواو تقتصى الجمع دون الترتيب.
وان قال: ان كلمتك فدخلت دارك فأنت طالق لم تطلق حتى يكلمها ويدخل دارها، ويكون دخوله الدار عقيب كلامها.
لان حكم الفاء في العطف الترتيب والتعقيب.
وإن قال لها أنت طالق أن كلمتك ثم دخلت دارك لم تطلق حتى يكلمها ويدخل دارها بعد كلامها بمدة، سواء طالت المدة أو لم تطل، لان ثم تقتضي الترتيب والمهلة.
وان قال: ان كلمتك وان دخلت دارك فأنت طالق طلقت بكل واحد منهما طلقة، لانه كرر حرف الشرط فكان لكل واحد منهما جزاؤه (فرع)
وان قال لامرأتين له ان دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان، فإن دخلت كل واحدة منهما الدار طلقتا، وان دخلت احداهما احدى الدارين والاخرى الدار الاخرى ففيه وجهان
(أحدهما)
يطلقان لانهما دخلتا الدارين
(والثانى)
لا تطلق واحدة منهما لانه يقتضى دخول كل واحدة منهما الدارين.
وان قال لهما: أنتما طالقتان ان ركبتما هاتين السيارتين فركبت كل واحدة منهما سيارة، فعلى الوجهين في الاولة.
وان قال: ان أكلتما هذين الرغيفين فأنتما طالقان، فأكلت كل واحدة منهما رغيفا.
قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان كالدارين قال ابن الصباغ: وينبغى أن يقع الطلاق ههنا وجها واحدا، لان اليمين لا تنعقد على أن تأكل كل واحدة

(17/233)


منهما الرغيفين بخلاف دخول الدارين.
وان قال لها أنت طالق ان أكلت هذا الرغيف وأنت طالق ان أكلت نصفه، وأنت طالق ان أكلت ربعه.
فإن أكلت جميع الرغيف طلقت ثلاثا.
قال الصيمري وان أكلت نصفه طلقت ثلاثا، ولم يذكر وجهه، فيحتمل أنه أراد لانه وجد بأكل نصفه ثلاث صفات: أكل نصفه وأكل ربعه وأكل ثلثه، الا أن حرف " ان " لا يقتضى التكرار، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق ان أكلت ربعه فأكلت نصفه لم تطلق الا واحدة، فينبغي أن لا تطلق الا طلقتين لانه وجد صفتان، وهو أكل ربعه وأكل نصفه (فرع)
قال ابن الصباغ: إذا قال ان دخلت الدار وان دخلت هذه الاخرى فأنت طالق لم تطلق الا بدخولهما، لانه علق الطلاق بدخولهما.
وان قال أنت طالق ان دخلت هذه الدار وان دخلت الاخرى طلقت بدخول كل واحدة منهما ويفارق الاولى.
لانه جعل جوابا لدخولهما.
(مسألة) قوله: وان قال أنت طالق ان ركبت ان لبست لم تطلق الا باللبس والركوب الخ، فمثاله إذا قال: أنت طالق ان كلمت زيدا ان كلمت عمرا ان ضربت بكرا، لم تطلق حتى تضرب بكرا أولا.
ثم تكلم عمرا ثم تكلم زيدا، لان الشرط دخل على الشرط فتعلق الاول بالثاني، كقوله تعالى " ولا ينفعكم نصحي ان أردت أن أنصح لكم ان كان الله يريد أن يغويكم " وتقديره ان كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي ان أردت أن انصح لكم.
وان قال: ان أكلت ان دخلت الدرا فأنت طالق، أو أنت طالق ان أكلت متى دخلت الدار أو متى أكلت متى دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل الدار أولا ثم تأكل لما ذكرناه، فكذلك إذا قال لها أنت طالق ان ركبت ان ليست لم تطلق حتى تلبس ثم تركب.
وان قال أنت طالق إذا قمت إذا قعدت لم تطلق حتى تقعد أولا ثم تقوم.
وان قال: أنت طالق ان أعطيتك ان وعدتك ان سألتنى لم تطلق حتى تسأله ثم يعدها ثم يعطيها، ويسميه النحويون اعتراض الشرط على الشرط فيقتضى
تقديم المتأخر وتأخير المتقدم لانه جعل الثاني في اللفظ شرطا للذى قبله.

(17/234)


(مسألة) قوله: وان قال أنت طالق أن دخلت الدار الخ فجملة ذلك أن الذى ذكره الشيخ أبو حامد أنه إن لم يكن الحالف من أهل الاعراب كان ذلك بمنزلة قوله: إن بكسر الهمزة، وان كان من أهل الاعراب وقع الطلاق في الحال لان أن المفتوحة ليست للشرط، وإنما هي للتعليل، كأنه قال: أنت طالق لانك دخلت الدار أو لانك كلمتني إذا قال أنت طالق أن كلمتني.
وقد جاءت أن للتعليل في القرآن في مواضع كثيرة منها على سبيل المثال قوله تعالى " يمنون عليك أن أسلموا " " وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا " " وتخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم " وقال القاضى أبو الطيب: يقع الطلاق في الحال إلا إن كان الحالف من غير أهل الاعراب وقال: أردت به الشرط فيقبل، لان الظاهر أنه إذا لم يكن من أهل الاعراب أنه لا يفرق بين المفتوحة والمكسورة.
قال ابن الصباغ: وهذا أولى، لانه قبل أن يتبين لنا مراده يجب حمل اللفظة على مقتضاه في اللغة، فلا يكون عدم معرفته بالكلام بصارف عما يقتضيه بغير قصده.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن قال إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء لم تطلق حتى تدخل الدار لان الشرط ثبت بقوله: إن دخلت الدار، ولهذا لو قال أنت طالق إن دخلت الدار ثبت الشرط، وان لم يأت بالفاء.
وان قال: ان دخلت الدار فأنت طالق.
وقال أردت ايقاع الطلاق في الحال قبل من غير يمين لانه اقرار على نفسه.
وان قال أردت أن أجعل دخولها الدار وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق آخر ثم سكت عن الجزاء قبل قوله مع اليمين،
لانه يحتمل ما يدعيه.
وان قال أردت الشرط والجزاء وأقمت الواو مقام الفاء قبل قوله مع اليمين لانه يحتمل ما يدعيه وان قال: وان دخلت الدار فأنت طالق.
وقال أردت به الطلاق في الحال قبل قوله من غير يمين لانه اقرار بالطلاق.
وان قال أردت تعليق الطلاق بدخول الدار قبل قوله مع يمينه، لانه يحتمل ما يدعيه.

(17/235)


(فصل)
إذا قال لزوجته وأجنبية احداكما طالق، ثم قال أردت به الاجنبية قبل قوله مع اليمين، وان كانت له زوجة اسمها زينب وجارة اسمها زينب، فقال زينب طالق، وقال أردت بها الجارة لم يقبل، والفرق بينهما أن قوله احداكما طالق صريح فيهما، وانما يحمل على زوجته بدليل، وهو أنه لا يطلق غير زوجته فإذا صرفه إلى الاجنبية فقد صرفه إلى مالا يقتضيه تصريحه فقبل منه، وليس كذلك قوله زينب طالق، لانه ليس بصريح في واحدة منهما، وانما يتناولهما من جهة الدليل وهو الاشتراك في الاسم، ثم يقابل هذا الدليل دليل آخر وهو أنه لا يطلق غير زوجته، فصار اللفظ في زوجته أظهر فلم يقبل خلافه.

(فصل)
وان كانت له زوجتان اسم احداهما حفصه واسم الاخرى عمرة فقال يا حفصة فأجابته عمرة، فقال لها أنت طالق، ثم قال أردت طلاق حفصة وقع الطلاق على عمرة بالمخاطبة وعلى حفصة باعترافه بأنه أراد طلاقها.
وان قال ظننتها حفصة فقلت أنت طالق طلقت عمرة ولم تطلق حفصه لانه لم يخاطبها ولم يعترف بطلاقها، وان رأى امرأة اسمها حفصة فقال: حفصة طالق ولم يشر إلى التى رآها وقع الطلاق على زوجته حفصة ولم يقبل قوله لم أردها، لان الظاهر أنه أراد طلاق زوجته، ولم يعارض هذا الظاهر غيره (الشرح) قال أبو العباس بن سريج: وان قال ان دخلت الدار أنت طالق
(بحذف الفاء) لم تطلق حتى تدخل الدار.
وقال محمد بن الحسن يقع الطلاق في الحال.
دليلنا أن الشرط يثبت بقوله ان دخلت الدار.
ولهذا لو قال: أنت طالق ان دخلت الدار ثبت الشرط وان لم يأت بالفاء..وان قال.
ان دخلت الدار وأنت طالق، سئل فإن قال: أردت الطلاق في الحال قبل قوله من غير يمين لانه أقر بما هو أغلظ عليه.
وان قال: أردت دخولها الدار وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق غيرها.
وهو أنى أردت ان أقول ان دخلت الدار وانت طالق فامرأتي الاخرى طالق أو عبدى حر، ثم سكت عن طلاق الاخرى عن عتق العبد قبل قوله مع يمينه، لانه يحتمل ما يدعيه.
وان قال: اردت ان اقول: ان دخلت الدار فأنت طالق وأقمت الواو مقام

(17/236)


القاف قبل قوله مع يمينه، لانه يحتمل ما يدعيه.
(مسألة) ان قال لامرأته وأجنبيه إحداكما طالق سئل عن ذلك، فإن قال أردت به الزوجة قبل.
وان قال: أردت به الأجنبية وقالت الزوجة بل أردتني فالقول قوله مع يمينه أنه ما أرادها وإنما أراد الاجنبية لان الطلاق إنما يقع على امرأته بأن يشير إليها أو يصفها.
وقوله: إحداكما، ليس بإشارة إليها ولا بصفة لها فلم يقع عليها الطلاق، وان كانت له زوجه اسمها زينب وجارة اسمها زينب فقال زينب طالق، وقال أردت الجارة.
وقالت زوجته بل أردتني، فهل يقبل قوله في الحكم مع يمينه؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال القاضى ابو الطيب: يقبل قوله مع يمينه، كما لو قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق.
وقال أكثر أصحابنا: لا يقبل لان هذا الاسم يتناول زوجته وجارته تناولا واحدا، فإذا أوقع الطلاق على من هذا اسمها كان منصرفا في الظاهر إلى زوجته
ويخالف قوله إحداكما لانه لا يتناول زوجته والاجنبية تناولا واحدا، وانما يتناول إحداهما دون الاخرى، فإذا أخبر انه أراد به الاجنبية دون زوجته قبل منه لان دعواه لا تخالف الظاهر.
(مسألة) وان كان له زوجتان زينب وعمرة، فقال يا زينب فأجابته عمرة فقال أنت طالق سئل عن ذلك فإن قال: علمت أن التى أجابتني عمرة، ولكني لم أرد طلاقها وانما أردت طلاق زينب، طلقت زينب ظاهرا وباطنا، لانه اعترف انه طلقها.
وطلقت عمرة في الظاهر لانه خاطبها بالطلاق، فالظاهر انه أراد طلاقها ويدبن فيما بينه وبين الله تعالى، لان ما قاله يحتمل ذلك.
وان قال: ان التى أجابتني عمرة بل ظننتها زينب وأنا طلقت، قال الشيخ ابو حامد فالحكم فيها كالاولة وهو أن زينب تطلق ظاهرا وباطنا لاعترافه بذلك، وتطلق عمرة في الظاهر دون الباطن لانه واجهها بالخطاب بالطلاق وان قال: طلقت التى أجابتني ولكن ظننتها زينب طلقت عمرة ولم تطلق زينب لانه أشار إلى عمرة، وان ظنها زينب فهو كما لو قال لاجنبية أنت طالق وقال ظننتها زوجتى لم تطلق زوجته لان الطلاق انصرف بالاشارة إلى التى أشار

(17/237)


إليها دون التى ظنها.
وإن قال أردت عمرة وإنما ناديت زينب لآمرها بحاجة طلقت عمرة لانه خاطبها ولا تطلق زينب لان النداء لا يدل على الطلاق.
وان قال يا زينب أنت طالق وأشار إلى عمرة سئل عن ذلك، فإن قال قد علمت أن التى أشرت إليها عمرة، ولكني لم أردها بالطلاق وانما أردت طلاق زينب طلقت زينب ظاهرا وباطنا لاعترافه بذلك.
وطلقت عمرة في الظاهر لاشارته بالطلاق إليها، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لان الحال يحتمل ما يدعيه.
وإن قال لم أعلم أن هذه التى أشرت إليها عمرة بل ظننتها زينب، ولم أرد بالطلاق إلا هذه
التى أشرت إليها طلقت عمرة ولا تطلق زينب لانه قد أشار بالطلاق إليها ولم يرد به غيرها، واعتقاده أن هذه المشار إليها زينب لا يضر، كما لو قال لاجنبية أنت طالق وقال ظننتها زوجتى، فان زوجته لا تطلق (فرع)
وإن كان له زوجتان زينب وعمرة، فقال كلما ولدت إحداكما ولدا فأنتما طالقان، فولدت زينب يوم الخميس ولدا ثم ولدت عمرة يوم الجمعة وقع على كل واحدة منهما طلقة ثانية، فلما ولدت زينب يوم السبت وقع على عمرة طلقة ثالثة، ولم يقع على زينب بذلك طلاق لان عدتها انقضت بوضعه إلا على الحكاية التى حكاها ابن خيران، فلما ولدت عمرة يوم الاحد انقضت عدتها به.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
إذا قال لامرأته: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم قال لها أنت طالق، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يقع عليها طلقة بقوله أنت طالق ولا يقع من الثلاث قبلها شئ، كما إذا قال لها: إذا انفسخ نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثا ثم ارتدت انفسخ نكاحها ولم يقع من الثلاث شئ ومنهم من قال يقع بقوله: أنت طالق طلقة وطلقتان من الثلاث وهو قول أبى عبد الله الخن لانه يقع بقوله أنت طالق طلقه ويقع ما بقى بالشرط وهو طلقتان ومنهم من قال لا يقع عليها بعد هذا القول طلاق، وهو قول أبى العباس بن سريج وابى بكر بن الحداد المصرى والشيخ أبى حامد الاسفراينى والقاضى أبى الطيب الطبري.
وهو الصحيح عندي

(17/238)


والدليل عليه أن إيقاع الطلاق يؤدى إلى إسقاطه، لانا إذا أوقعنا عليها طلقة لزمنا أن نوقع عليها قبلها ثلاثا بحكم الشرط.
وإذا وقع قبلها الثلاث لم تقع الطلقه وما أدى ثبوته إلى نفيه سقط.
ولهذا قال الشافعي رحمه الله فيمن زوج عبده
بحرة بألف درهم وضمن صداقها، ثم باع العبد منها بتلك الالف قبل الدخول أن البيع لا يصح لان صحته تؤدى إلى إبطاله، فإنه إذا صح البيع انفسخ النكاح بملك الزوج، وإذا انفسخ النكاح سقط المهر، لان الفسخ من جهتها، وإذا سقط المهر سقط الثمن، لان الثمن هو المهر، وإذا سقط الثمن بطل البيع.
فأبطل البيع حين أدى تصحيحه إلى إبطاله فكذلك ههنا.
ويخالف الفسخ بالردة فإن الفسخ لا يقع بإيقاعه وإنما تقع الردة والفسخ من موجباتها.
والطلاق الثلاث لا ينافى الردة، فصحت الردة وثبت موجبها وهو الفسخ، والطلاق يقع بإيقاعه، والثلاث قبله تنافيه فمنع صحته فعلى هذا إن حلف على امرأته بالطلاق الثلاث أنه لا يفعل شيئا وأراد أن يفعله ولا يحنث فقال: إذا وقع على امرأتي طلاقي فهى طالق قبله ثلاثا ففيه وجهان
(أحدهما)
يحنث إذا فعل المحلوف عليه لان عقد اليمين صح فلا يملك رفعه
(والثانى)
لا يحنث، لانه يجوز أن يعلق الطلاق على صفة ثم يسقط حكمه بصفة أخرى.
والدليل عليه أنه إذا قال: إذا دخل رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا صحت هذه الصفة ثم يملك إسقاطها بأن يقول أنت طالق قبل انقضاء الشهر بيوم (الشرح) إذا قال لامرأته: متى وقع عليك طلاقي أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم قال لها: أنت طالق، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يقع عليها الطلاق الذى باشر ايقاعه، وحكاه القاضى أبو الطيب عن أبى العباس بن سريج، وحكاه العمرانى عن ابن القاص (1) وقال: هو اختيار
__________
(1) غلط ابن قدامة في المغنى من أمهات كتب الحنابلة في ذكره خلافا بين ابن القاص وابن سريج من أصحابنا حيث قال الاول بوقوع الطلقه المباشرة وعدم وقوع الطلاق المعلق في زمن قبله.
وقال الثاني لا يقع طلاق مطلقا، لان وقوع الواحدة تقتضي وقوع الثلاث قبلها وذلك يمنع وقوعها فإثباتها يؤدى إلى نفيها فلا تثبت.
اه الجزء السابع ص 268 مطبعة الامام، والصواب ما ذكره ممحصا عن
أصحابنا هنا والله تعالى اعلم.

(17/239)


ابن الصباغ، لانه زوج مكلف أوقع الطلاق مختارا فوجب أن يقع، ولا يقع الثلاث قبله، لان وقوعها يوجب ارتفاع الطلاق المباشر، ولا يصح رفع طلاق واقع، ولانه لو قال لها: إذا انفسخ نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثا ثم ارتد أو أحدهما أو اشتراها لوقع الفسخ ولم تطلق الثالث قبله كذلك هذا مثله.
وقال أبو عبد الله الخنن الاسماعيلي: يقع الطلقه التى باشر إيقاعها، ويقع تمام الثلاث من الثلاث المعلقة بالصفة، وبه قال أصحاب أبى حنيفة وقال أكثر أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق المباشر ولا الطلاق بالصفة، بل هذا حيلة لمن أراد أن لا يقع على امرأته بعد ذلك الطلاق.
وبه قال المزني والشيخان أبو حامد وأبو إسحاق والقفال وابن الحداد، والقاضى أبو الطيب والمحاملى والصيدلانى وهو ما صححه وأخذ به المصنف وتابعه العمرانى في البيان قالوا لانه لو وقع الطلاق الذى باشر إيقاعه لوقع قبله الثلاث بالصفة، ولو وقع الثلاث قبله لم يقع الطلاق المباشر.
وما أدى إثباته إلى إسقاطه سقط قياسا على ما قال الشافعي رضى الله عنه فيمن زوج عبده بحرة بألف في الذمة وضمنها السيد عنه، ثم باع السيد منها زوجها بالالف قبل الدخول أن البيع لا يصح: لان إثبات البيع يؤدى إلى إسقاطه فسقط اثباته، لانها إذا ملكت بفسخ النكاح وإذا انفسخ النكاح سقط المهر، لان الفسخ من جهتها.
وإذا سقط المهر سقط الثمن.
وإذا سقط الثمن بطل البيع.
وأما الجواب عما ذكره الاول فمنتقض بالثلاث المعلقة بالصفة، فإنه قد أوقعها وهو زوج مكلف مختار وأما الفسخ فإنما وقع لان اثباته لا يؤدى إلى اسقاطه بخلاف الطلاق.
إذا ثبت هذا فقد ذكر أصحابنا في طلاقي التنافى مسائل إحداهن المسألة التى مضت والثانية ذكرها المزني في المنثور، إذا قال لها: إذا طلقتك طلاقا أملك به عليك الرجعة فأنت طالق قبله ثلاثا، فإن طلق المدخول بها طلقه أو طلقتين بغير عوض لم يقع عليها طلاق، لانه لو وقع عليها ذلك لملك عليها الرجعة، ولو ملك عليها الرجعة لوقع الثلاث قبله، ولو وقع الثلاث قبله لم يقع ما بعده وان أوقع عليها الثلاث أو ما دون الثلاث بعوض، أو كانت غير مدخول بها وقع عليها الطلاق

(17/240)


المباشر لانه لا يملك به الرجعة عليها فلا توجد صفة الثلاث قبله الثالثة: إذا قال لها: إذا طلقتك ثلاثا فأنت طالق قبله ثلاثا، فإن طلقها ثلاثا ان طلقتك غدا، فإن طلقها غدا لم يقع عليها طلاق، وإن طلقها بعد غد وقع عليها ما أوقعه الرابعة: إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة قبلها طلقه فهل يقع عليها طلقه فيه وجهان لما ذكرناه.
الخامسة: رجل قال لامرأته: ان لم أحج في هذه السنة فأنت طالق ثلاثا.
ثم قال لها قبل أن يحنث: إن حنثت في هذه اليمين فأنت طالق ثلاثا قبل حنثى.
قال القاضى أبو الطيب: وهذه تعرف بالعمانية ثم أثيرت في بغداد، واختلف فيها القائلون بأن طلاق التنافى لا يقع، فمنهم من قال: لا تنحل اليمين الاولة.
فإن لم يحج في سنته طلقت، لان عقد اليمين قد صح فلم يرتفع.
ومنهم من قال تنحل اليمين الاولة قال القاضى أبو الطيب: وأجبت بذلك وبه عمل، لانه يعد هذا القول كقوله قبله، فلو وقع الطلاق بالحنث لوقع الثلاث قبلها، ولو وقع الثلاث قبلها لم يقع الطلاق بالحنث، والقول الاول أن عقد اليمين لم يرتفع لا يصح لانه يجوز أن يعلق الطلاق بصفة ثم يسقط حكمه بصفة أخرى بأن يقول: إذا جاء
رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا، ثم يقول أنت طالق طلقه.
السادسة: إذا قال لزوجته متى دخلت جاريتي الدار وأنت زوجتى فهى حرة ومتى عتقت فأنت طالق ثلاثا قبل عتقها بثلاثة أيام.
ثم دخلت الامة الدار لم تعتق الامة ولم تطلق المرأة، لانا لو أعتقناها لوجدت الصفة بالطلاق والثلاث لانها عتقت، وقد قال لها: إذا عتقت فأنت طالق قبله بثلاثة أيام، وإذا وقع الطلاق الثلاث قبله لم تكن له زوجة في حال دخولها الدار، وإذا لم توجد صفة الحرية لم تعتق، وان لم تعتق لم يقع الطلاق.
السابعة: قال ابن الحداد: إذا كان عبد بين شريكين فقال أحدهما للآخر: متى أعتقت نصيبك منه فنصيبي منه حر قبل عتقك إياه بثلاثة أيام وهما موسران فأمهل المقول له ثلاثا فأكثر ثم أعتق نصيبه لم يعمل عتقه، لانه لو عمل لدل

(17/241)


على وقوع عتق صاحبه قبله.
ولو وقع عتق صاحبه قبل عتقه لما وقع عتقه.
وإذا لم يقع عتقه لم توجد الصفة في وقوع عتق الذى خاطبه.
قال القاضى أبو الطيب: لا يحتاج إلى قوله بثلاث، بل يكفى قوله قبل عتقك ولا يحتاج إلى يسار المقول له، وانما يحتاج إلى يسار القائل وحده.
فإذا أعتق المقول له نصيبه لم يعتق لانه لو عتق نصيبه لعتق نصيب القائل قبله، ولو عتق نصيب القائل لسرى إلى نصيب المقول له، لانه موسر، وإذا سرى إلى نصيبه لم يصح اعتاقه لنصيبه فكأن إثبات عتق نصيبه يؤدى إلى اسقاطه فسقط حكم إثباته وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
إذا علق طلاق امرأته على صفة من يمين أو غيرها ثم بانت منه ثم تزوجها قبل وجود الصفة ففيه ثلاثة أقوال:
(أحدها) لا يعود حكم الصفه في النكاح الثاني، وهو اختيار المزني لانها صفة علق عليها الطلاق قبل النكاح فلم يقع بها الطلاق، كما لو قال لاجنبيه: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم تزوجها ودخلت الدار
(والثانى)
أنها تعود ويقع بها الطلاق وهو الصحيح، لان العقد والصفه وجدا في عقد النكاح فأشبه إذا لم يتخللهما بينونه.
(والثالث) أنها ان بانت بما دون الثلاث عاد حكم الصفه، وان بانت بالثلاث لم تعد، لان بالثلاث انقطعت علائق الملك، وبما دون الثلاث لم تنقطع علائق الملك ولهذا بنى أحد العقدين على الآخر في عدد الطلاق فيما دون الثلاث ولا يبنى بعد الثلاث.
وان علق عتق عبده على صفة ثم باعه ثم اشتراه قبل وجود الصفه ففيه وجهان
(أحدهما)
أن حكمه حكم الزوجه إذا بانت بما دون الثلاث، لانه يمكنه أن يشتريه بعد البيع كما يمكنه أن يتزوج البائن بما دون الثلاث
(والثانى)
أنه كالبائن بالثلاث، لان علائق الملك قد زالت بالبيع كما زالت في البائن بالثلاث
(فصل)
وان علق الطلاق على صفه ثم أبانها ووجدت الصفه في حال البينونه انحلت الصفه، فإن تزوجها لم يعد حكم الصفه.
وكذلك إذا علق عتق

(17/242)


عبده على صفة ثم باعه ووجدت الصفة قبل أن يشتريه انحلت الصفة، فإن اشتراه لم يعد حكم الصفة.
وقال أبو سعيد الاصطخرى رحمه الله: لا تنحل الصفه لان قوله إن دخلت الدار فأنت طالق مقدر بالزوجة.
وقوله إن دخلت الدار فأنت حر مقدر بالملك لان الطلاق لا يصح في غير الزوجية والعتق لا يصح في غير ملك فيصير كما لو قال: إن دخلت الدار وأنت زوجتى فأنت طالق، وان دخلت الدار وأنت مملوكي فأنت حر، والمذهب الاول.
لان اليمين إذا علقت على عين تعلقت بها، ولا
نقدر فيها الملك، والدليل عليه أنه لو قال: ان دخلت هذه الدار فأنت طالق، والدار في ملكه فباعها ثم دخلها وقع الطلاق، ولا يجعل كما لو قال: ان دخلت هذه الدار وهى في ملكى فأنت طالق، فكذلك ههنا.
والله أعلم (الشرح) قوله: إذا علق طلاق امرأته على صفة الخ، فجملة ذلك أنه إذا علق طلاقها على صفة فبانت منه قبل وجود الصفة ثم تزوجها ثم وجدت الصفة في النكاح الثاني فهل يعود حكم الصفة وتطلق؟ فيه قولان: قال في القديم: إن أبانها بدون الثلاث عاد حكم الصفه قولا واحدا.
وإن أبانها بالثلاث فهل يعود حكم الصفه؟ فيه قولان وقال في الجديد: إن أبانها بالثلاث ثم تزوجها فإن حكم الصفة لا يعود قولا واحدا، وان أبانها بدون الثلاث فهل يعود حكم الصفه؟ فيه قولان، فالقديم أقرب إلى عود الصفه، فحصل في المسألتين ثلاثة أقوال (أحدها) لا يعود حكم الصفه سواء بانت بالثلاث أو بما دونها، وهو اختيار المزني وأبى إسحاق المروزى لقوله صلى الله عليه وسلم " لا طلاق قبل نكاح " فلو قلنا يعود حكم الصفة لكان هذا طلاقا قبل نكاح، لانه عقد قبل هذا النكاح فلم يحكم بوقوعه، كما لو قال لاجنبية: ان دخلت الدار فأنت طالق ثم تزوجها ثم دخلت الدار
(والثانى)
يعود حكم الصفة سواء بانت بالثلاث أو بما دونها، وبه قال أحمد قال الشيخ أبو إسحاق هنا والمحاملى: وهو الصحيح، لان عقد الطلاق والصفه وجدا في ملك فهو كما لو لم يتحللها بثبوته

(17/243)


(والثالث) ان بانت بما دون الثلاث ثم تزوجها عاد حكم الصفة.
وإن بانت بالثلاث لم يعد حكم الصفه، وبه قال مالك وابو حنيفة، لانها إذا بانت بما دون الثلاث، فإن أحد النكاحين بائنا على الآخر في عدد الطلاق، فكذلك في حكم
الصفة، وإذا بانت بالثلاث فإن أحدهما لا يبين على الآخر في عدد الطلاق فكذلك في حكم الصفة، وإذا بانت بالثلاث فإن أحدهما لا يبين على الآخر في عدد الطلاق فكذلك في حكم الصفه.
(فرع)
وان قال لعبده: ان دخلت الدار فأنت حر فباعه ثم اشتراه ثم دخل الدار ففيه وجهان، من أصحابنا من قال: حكمه حكم الزوجة إذا بانت بما دون الثلاث، لانه يمكنه أن يسترده بعد أن باعه كما يمكنه أن يتزوج البائن بما دون الثلاث قبل زوج، فعلى حكم الصفه على قولين.
ومنهم من قال حكمه حكم الزوجه إذا بانت بالثلاث، لان علائق الملك قد زالت بالبيع كما زالت بالبينونة بالثلاث فعلى هذا لا يعود حكم الصفة على القول الجديد قولا واحدا، وعلى القول القديم على قولين.
(فرع)
وان علق طلاق امرأته على صفة بحرف لا يقتضى التكرار، مثل ان قال: ان كلمت زيدا فأنت طالق ثلاثا فأبانها قبل كلامها لزيد فكلمت زيدا في حال البينونة ثم تزوجها، فإن حكم الصفه لا يعود، فإن كلمته بعد النكاح لم تطلق، وهذه حيلة في ابطال تعليق الطلاق الثلاث بصفة بأن يخالعها بما دون الثلاث - أو بلفظ الخلع - إذا قلنا انه فسخ - ثم تؤخذ الصفه في حال البينونة فإن خالف ووطئها تعلق به حكم الوطئ المحرم وانحلت الصفه، وكذلك إذا قال لعبده: ان دخلت الدار فأنت حر فباعه ثم دخل الدار ثم اشتراه فإن حكم الصفه لا يعود.
وقال أبو سعيد الاصطخرى يعود حكم الصفه، وبه قال أحمد ومالك لان عقد الصفه مقدر بالملك فصار كما لو قال: ان دخلت الدار وأنت زوجتى فأنت طالق أو قال لعبده: ان دخلت الدار وأنت عبدى فأنت حر.
قال في البيان: وهذا غلط، لان اليمين إذا علقت بصفة فإنها تتعلق بالصفة التى علق بها اللفظ، لا تعتبر صفه أخرى لم يتلفظ بها، كما لو قال لها: ان دخلت هذه

(17/244)


الدار فأنت طالق، فباع الدار ودخلتها، وإن كان بحرف يقتضى التكرار بأن قال لها: كلما دخلت الدار فأنت طالق فأبانها ودخلت الدار في حال البينونة ثم تزوجها ودخلت الدار في النكاح الثاني لم تطلق بدخولها الدار في حال البينونة، وهل تطلق بدخولها الدار بعد النكاح الثاني؟ على الاقوال الثلاثة في التى قبلها، والله تعالى الموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال المصنف رحمه الله:

باب الشك في الطلاق واختلاف الزوجين فيه

إذا شك الرجل هل طلق امرأته أم لا لم تطلق؟ لان النكاح يقين واليقين لا يزال بالشك.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عن الرجل يخيل إليه أنه يحد الشئ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صوتا أو يجد ريحا.
والورع أن يلتزم الطلاق لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " فإن كان بعد الدخول راجعها وان كان قبل الدخول جدد نكاحها، وإن لم يكن له فيها رغبة طلقها لتحل لغيره بيقين، وإن شك في عدده بنى الامر على الاقل، لما روى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أواحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، وان لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا فليبنى على اثنتين، وإن لَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ على ثلاث، ويسجد سجدتين قبل أن يسلم " فرد إلى الاقل.
ولان الاقل يقين والزيادة مشكوك فيها فلا يزال اليقين بالشك، والورع أن يلتزم الاكثر، فإن كان الشك الثلاث وما دونها طلقها ثلاثا حتى تحل لغيره بيقين.

(فصل)
وإن كانت له امرأتان فطلق احداهما بعينها ثم نسيها أو خفيت
عليه عينها، بأن طلقها في ظلمة أو من وراء حجاب، رجع إليه في تعيينها لانه هو المطلق، ولا تحل له واحدة منهما قبل أن يعين ويؤخذ بنفقتهما إلى أن يعين لانهما محبوستان عليه، فإن عين الطلاق في إحداهما فكذبتاه حلف للاخرى:

(17/245)


لان المعينة لو رجع في طلاقها لم يقبل.
وإن قال طلقت هذه لا بل هذه طلقتا في الحكم، لانه أقر بطلاق الاولى ثم رجع إلى الثانية، فقبلنا إقراره بالثانية ولم يقبل رجوعه في الاولى، وإن كان ثلاثا فقال: طلقت هذه لا بل هذه لا بل هذه طلقن جميعا.
وإن قال طلقت هذه أو هذه لا بل هذه طلقت الثالثة وواحدة من الاوليين وأخذ بتعيينها لانه أقر أنه طلق إحدى الاوليين، ثم رجع إلى أن المطلقة هي الثالثة فلزمه ما رجع إليه ولم يقبل رجوعه عما أقر به.
وإن قال طلقت هذه لا بل هذه أو هذه طلقت الاولى وواحدة من الاخريين.
وإن قال طلقت هذه أو هذه وهذه أخذ ببيان الطلاق في الاولى والاخريين، فإن عين في الاولى بقيت الاخريان على النكاح.
وإن قال لم أطلق الاولى طلقت الاخريان، لان الشك في الاولى والاخريين فهو كما لو قال: طلقت هذه أو هاتين، ولا يجوز له أن يعين بالوطئ، فإن وطئ إحداهما لم يكن ذلك تعيينا للطلاق في الاخرى، فيطالب بالتعيين بالقول، فإن عين الطلاق في الموطوءة لزمه مهر المثل، وإذا عين وجبت العدة من حين الطلاق
(فصل)
وان طلق احدى المرأتين بغير عينها أخذ بتعيينها ويؤخذ بنفقتهما إلى أن يعين، وله أن يعين الطلاق فيمن شاء منهما.
فإن قال هذه لا بل هذه طلقت الاولى ولم تطلق الاخرى لان تعيين الطلاق إلى اختياره وليس له أن يختار: لا واحدة، فإذا اختار إحداهما لم يبق له اختيار، وهل له أن يعين الطلاق بالوطئ
فيه وجهان
(أحدهما)
لا يعين بالوطئ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لان إحداهما محرمة بالطلاق فلم يتعين بالوطئ كما لو طلق احداهما بعينها ثم أشكلت فعلى هذا يؤخذ بعد الوطئ بالتعيين بالقول، فإن عين الطلاق في الموطوءة لزمه المهر
(والثانى)
يتعين.
وهو قول أبى اسحاق واختيار المزني وهو الصحيح لانه اختيار شهوة، والوطئ قد دل على الشهوة.
وفى وقت العدة وجهان
(أحدهما)
من حين يلفظ بالطلاق، لانه وقت وقوع الطلاق
(والثانى)
من حين التعيين، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رحمه الله تعالى، لانه وقت تعيين الطلاق.

(17/246)


(فصل)
وإن ماتت الزوجتان قبل التعيين وبقى الزوج وقف من مال كل واحدة منهما نصف الزوج، فإن كان قد طلق إحداهما بعينها فعين الطلاق في إحداهما أخذ من تركة الاخرى ما يخصه، وإن كذبه ورثتها فالقول قوله مع يمينه وان كان قد طلق إحداهما بغير عينها فعين الطلاق في إحداهما دفع إليه من مال الاخرى ما يخصه، وإن كذبه ورثها فالقول قوله من غير يمين، لان هذا اختيار شهوة.
وقد اختار ما اشتهى.
وإن مات الزوج وبقيت الزوجتان وقف لهما من ماله نصيب زوجة إلى أن يصطلحا لانه قد ثبت إرث إحداهما بيقين، وليست إحداهما بأولى من الاخرى فوجب أن يوقف إلى أن يصطلحا، لانه قد ثبت إرث إحداهما بيقين، فإن قال وارث الزوج أنا أعرف الزوجة منهما ففيه قولان
(أحدهما)
يرجع إليه لانه لما قام مقامه في استلحاق النسب قام مقامه في تعيين الزوجة
(والثانى)
لا يرجع إليه، لان كل واحدة منهما زوجة في الظاهر، وفى الرجوع إلى بيانه اسقاط وارث مشارك، والوارث لا يملك اسقاط من يشاركه
في الميراث.
واختلف أصحابنا في موضع القولين فقال أبو إسحاق: القولان فيمن عين طلاقها ثم أشكلت، وفيمن طلق احداهما من غير تعيين.
ومنهم من قال: القولان فيمن عين طلاقها ثم أشكلت لانه اخبار فجاز أن يخبر الوارث عن الموروث.
وأما إذا طلق احداهما من غير تعيين فإنه لا يرجع إلى الوارث قولا واحدا لانه اختيار شهوة، فلم يقم الوارث فيه مقام الموروث كما لو أسلم تحته أكثر من أربع نسوة ومات قبل أن يختار أربعا منهن.
(الشرح) حديث عبد الله بن زيد، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أبو محمد الانصاري النجارى المازنى عم عباد بن تميم وحديثه هذا أخرجه البخاري في الطهارة عن على بن عبد الله وعن أبى الوليد وفى البيوع عن أبى نعيم، وأخرجه مسلم في الطهارة عن زهير بن حرب وعمر والناقد وأبو داود فيه عن قتيبة ومحمد ابن أحمد بن أبى خلف، وعند النسائي فيه عن قتيبة وعند ابن ماجه فيه عن محمد ابن الصباح.
وأما حديث " دع ما يريبك إلى مالا يريبك " فقد أخرجه أحمد في مسنده عن أنس، والنسائي عن الحسن بن على الطبراني عن وابصة بن معبد

(17/247)


والخطيب البغدادي عن ابن عمر وأخرج بن قانع في معجمه عن الحسن بن على مرفوعا " دع ما يريبك إلى مالا يريبك فإن الصدق ينجى " وأخرج أحمد في مسنده والترمذي وابن حبان عن الحسن بن على مرفوعا " دع ما يريبك إلى مالا يريبك فان الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة " وقال في النهاية " يريبك " يروى بالفتح وضمها قال المناوى: وفتحها أكثر.
وأما حديث عبد الرحمن بن عوف فقد رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقد أخرجه مسلم عن أبى سعيد الخدرى، ورواه البخاري عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مسعود بنحوه، أما الشك فإنه التجويز المرجوح والظن
هو التجويز الراجح، والوهم هو تردد الخاطر بين الظن والشك، وأما اليقين فهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع فهذه هي مراتب العلم وما يعتورها من حديث النفس أما الاحكام: فإذا شك الرجل هل طلق إمرأته أم لا لم يلزمه الطلاق وهو إجماع، لان الاصل بقاء النكاح وعدم الطلاق.
قال الشافعي رضى الله عنه: والورع والاحتياط أن يحدث نفسه.
فان كان يعرف من عادته أنه إذا طلق إمرأته طلق واحدة أو اثنتين راجعها.
وإن كان يعرف من عادته أنه يطلق الثلاث طلقها ثلاثا لتحل لغيره بيقين، وان تيقن أنه طلق إمرأته وشك هل طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا؟ لم يلزمه إلا الاقل، والورع أن يلتزم الاكثر وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وأحمد بن حنبل وقال مالك وأبو يوسف: يلزمه الاكثر.
دليلنا: أن ما زاد على القدر الذى يتيقنه طلاق مشكوك فيه فلم يلزمه، كما لو شك في أصل الطلاق، (مسألة) إذا كان تحته زوجتان فطلق إحداهما وجهلها نظرت، فان طلق إحداهما بعينها ثم نسيها، أو رأى شخصها في كلة (1) أو سمع كلامها فقال لها: أنت طالق ولم يدر أيتهما هي فانه يتوقف عن وطئهما حتى يتبين عين المطلقة منهما لانه قد تحقق التحريم في إحداهما فلم يحل له وطؤ واحدة منهما قبل البيان كما لو اختلطت إمرأته بأجنبية فلم يعرفها، ويرجع في البيان إليه لانه هو المطلق،
__________
(1) الكلة هي ما يسمى بالناموسية، وهى غلالة رقيقة تضرب فوق السرير كالقبة ولا تحجب ما وراءه لشفافيتها.

(17/248)


فكان أعرف بعين من طلقها، وليس البيان إلى شهوته وهو أن يعين الطلاق فيمن يشتهى منها، وإنما يرجع إلى نفسه ويتذكر من التى طلقها منهما، ويستدل على ذلك من نفسه، فيخبر عنها، ويؤخذ بنفقتهما لانهما محبوستان عليه.
فان
قال: طلقت هذه حكم عليها بالطلاق من حين طلق، ويكون ابتداء عدتها من ذلك الوقت، لا من حين عين، لانه أخبر عن عين المطلقة منهما وقت طلاقه فان كذبته المعينة لم يفد تكذيبها له، وإن كذبته الاخرى وادعت أنها هي المطلقة حلف لها، لان الاصل عدم طلاقها، وان أقر أن التى طلقها هي الثانية بعد الاولة حكم بطلاقهما بإقراره، فإن قال: طلقت هذه، لا: بل هذه طلقتا جميعا في الحكم لانه أقر بطلاق الاوله فقبل ثم رجع عن ذلك وأخبر بطلاق الثانية فلزمه حكم اقراره الثاني ولم يقبل رجوعه عن طلاق الاوله.
وان قال: لم أطلق هذه - قال الشيخ أبو حامد: - حكم عليه بطلاق الاخرى لانا قد تيقنا أنه طلق احداهما، فإذا قال: لم أطلق هذه، كان اعترافا منه بأن التى طلقها هي الاخرى.
(فرع)
وان كن ثلاث زوجات فطلق واحدة بعينها وأشكلت فقال: طلقت هذه، لا: بل هذه، أو طلقت هذه، بل هذه هذه، طلقن جميعا، لانه أقر بطلاق الاوله ثم رجع عن طلاقها وأقر بطلاق الثانية ثم رجع عن طلاقها وأقر بطلاق الثالثة فلزمه حكم اقراره، ولم يقبل رجوعه كما لو قال: على درهم بل دينار بل ثوب.
وان قال: طلقت هذه بل هذه أو هذه، طلقت الاوله وواحدة من الاخريين ولزمه أن يعين الطلاق في احدى الاخريين، وان قال: طلقت هذه أو هذه لا بل هذه طلقت الثالثة واحدى الاولتين، ويلزمه التعيين في احدى الاولتين.
وان قال طلقت هذه وهذه أو هذه طلقت الاولتان أو الثالثة، ولزمه البيان.
وان قال: هذه أو هذه وهذه، طلقت الاوله أو الاخريان ويلزمه البيان.
وقال أبو العباس بن سريج: تطلق الثالثه.
واحدى الاولتين لانه عدل عن لفظ الشك إلى واو العطف، فينبغي أن لا تشاركها في الشك فتكون معطوفة

(17/249)


على الجملة، وإن كن أربعا فقال طلقت هذه أو هذه بل هذه أو هذه طلقت إحدى الاولتين وإحدى الاخرتين وأخذ ببيانهما.
وان قال: هذه ثم قال بعد ذلك: لا أدرى أن التى عينتها هي المطلقة أو غيرها لزمه الطلاق في التى عينها ووقف عن وطئ الباقيات إلى أن يبين أن التى طلقها هي التى عين أو غيرها وان قال: التى عينتها ليست المطلقة لم يقبل رجوعه عن طلاقه ولزمه أن يعين واحدة من الباقيات للطلاق، لان هذا يضمن الاقرار بأن واحدة من الباقيات مطلقة فلزمه بيانها، وان وطئ احداهن لم يكن ذلك تعيينا للطلاق في عين الموطوءة، لان الطلاق لا يقع بالفعل فكذلك لا يقع بالفعل ويؤخذ بالبيان، فان عين الطلاق في عين الموطوءة علمنا أنه انما وطئ زوجته، وان عين الطلاق في الموطوءة، وجب عليه لها مهر المثل للوطئ بعد الطلاق لانه وطئ شبهة، وأما إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها بأن قال: احداكن طالق ولم يعين بقلبه واحدة بعينها منهن وقع الطلاق على واحدة منهن لا بعينها، لان الطلاق يقع مع الجهاله.
وقال مالك: يقع على جميعهن: دليلنا أنه أضاف الطلاق إلى واحدة فلم يقع على الجماعة كما لو عينها.
إذا ثبت هذا: فإنه يوقف عن وطئهن حتى يعين المطلقة منهن لانا نتحفق التحريم في واحدة منهن لا بعينها، فوقف عن وطئهن كما لو طلق واحدة بعينها وأنسيها ويوجد تعيين المطلقة منهن لتتميز المطلقة من غير المطلقة وله أن يعين الطلاق فيمن اشتهى منهن لانه أوقع الطلاق على واحدة لا بعينها فكان له التعيين فيمن اختار بخلاف الاولة، فإنه أوقع الطلاق على واحدة بعينها، وانما أشكلت فكذلك قلنا: لا بعينها فيمن اشتهى منهن.
إذا ثبت هذا: فإن قال: طلقت هذه تعين فيها الطلاق، وان قال: هذه التى لم أطلقها وكانتا اثنتين طلقت الاولة، فإن ذلك اخبار منه عمن طلقها بعينها، فإذا أخبر بطلاق واحدة ثم رجع عنها إلى الثانيه لزمه حكم اقراره في الثانيه، ولم يقبل رجوعه عن الاوله، وان وطئ احداهما، فهل يكون وطوءه لها بيانا لامساكها واختيار الطلاق في الاخرى إذا كانتا اثنتين؟ فيه وجهان.

(17/250)


(أحدهما)
لا يكون تعيينا لانه وطئ فلم تتعين به المطلقة، كما لو طلق واحدة بعينها وجهلهما أو أنسيها.

(والثانى)
يكون تعيينا وهو الاصح، لان هذا اختيار شهرة فوقع بالوطئ كما لو وطئ البائع الجارية المبيعة في حال الخيار.
وقال أحمد بن حنبل: لا تتعين المطلقة بالقول ولا بالوطئ، وإنما تتعين بالقرعة.
دليلنا أن القرعة لا مدخل لها في الزوجات في أصل الشرع.
إذا ثبت هذا: وعين الطلاق في واحدة فمتى وقع عليها الطلاق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يقع عليها من حين ايقاعه لان الطلاق لا يجوز أن يكون في الذمة وانما لم يتعين، فإذا عينها تبينا أن الطلاق وقع من حين الايقاع، فعلى هذا يكون ابتداء عدتها من ذلك الوقت
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنه وقع عليها من حين التعيين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
لان الطلاق لم يوقعه على واحدة منهن، بدليل أن له أن يختار التعيين.
فعلى هذا يكون ابتداء عدتها من وقت التعيين.
وحكى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قال: وقع الطلاق من حين الايقاع، الا أن العدة من وقت التعيين، كما نقول فيمن نكح امرأة نكاحا فاسدا ووطئها (فرع)
إذا كان له زوجات فقال: زوجتى طالق ولم يعين واحدة بقلبه وقع
الطلاق على واحدة منهن لا بعينها وبه قال عامة العلماء، وقال أحمد: يقع الطلاق على جميعهن، وحكى ذلك عن ابن عباس.
دليلنا أنه أوقع الطلاق على واحدة فلا يقع على جميعهن، كما لو قال: احدى نسائى طالق.
إذا ثبت هذا: فانه يرجع في البيان إليه على ما سبق أن قررنا أما معرفة وارت الزوج لاحدى الزوجتين، واخبار الوارت عن الموروت فسنتناول ذلك في الفصل بعده ان شاء الله خشية التكرار.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان طالق احدى زوجتيه ثم مات احداهما ثم مات الزوج قبل البيان عزل من تركة الميتة قبله ميرات زوج لجواز أن تكون هي الزوجة،

(17/251)


ويعزل من تركة الزوج ميراث زوجة لجواز أن تكون الباقية زوجة، فإن قال وارت الزوج: الميتة قبله مطلقه فلا ميراث لى منها والباقيه زوجه فلها الميراث معى، قبل لانه اقرار على نفسه بما يضره.
فإن قال الميتة هي الزوجه فلى الميرات من تركتها، والباقيه هي المطلقة فلا ميرات لها معى - فان صدق على ذلك - حمل الامر على ما قال، فان كذب بأن قال وارت الميته انها هي المطلقة فلا ميرات لك منها، وقالت الباقيه: أنا الزوجه فلى معك الميرات، ففيه قولان
(أحدهما)
يرجع إلى بيان الوارت فيحلف لورثة الميته أنه لا يعلم أنه طلقها ويستحق من تركتها ميرات الزوج، ويحلف للباقيه أنه طلقها ويسقط ميراثها من الزوج
(والثانى)
لا يرجع إلى بيان الوارت، فيجعل ما عزل من ميرات الميته موقافا حتى يصطلح عليه وارث الزوج ووارت الزوجه، وما عزل من ميرات الزوج موقوفا حتى تصطلح عليه الباقيه ووارت الزوج.

(فصل)
وان كانت له زوجتان حفصة وعمرة فقال: يا حفصه ان كان أول ولد تلدينه ذكرا فعمرة طالق، وان كان أنثى فأنت طالق، فولدت ذكرا وأنثى واحدا بعد واحد وأشكل المتقدم منهما، طلقت احداهما بعينها، وحكمها حكم من طلق احدى المرأتين بعينها ثم أشكلت عليه، وقد بيناه (الشرح) الاحكام: إذا طلق احدى امرأتيه ثلاثا وجهلها أو نسيها أو طلق احداهما لا بعينها وماتت احداهما قبل التعيين لم يتعين الطلاق في الاخرى، بل له أن يعين الطلاق في احداهما بعد الموت.
وقال أبو حنيفة يتعين الطلاق في الباقيه.
دليلنا أنه يملك تعيين الطلاق قبل موتها فملك بعده كما لو كانتا باقيتين.
إذا ثبت هذا فإنه يوقف له من مال الميتة منهما ميرات، وهو النصف مع عدم الولد وولد الولد.
أو الربع مع وجود الولد أو ولد الولد، لانا نعلم أن احداهما زوجته يرث منها، والاخرى أجنبيه لا يرت منها فلم يجز أن يدفع إلى ورثة كل واحدة منهما الا ما يتيقن أنهم يستحقونه، ونحن لا نعلم أنهم يستحقون

(17/252)


قدر ميرات الزوج منها فوقف، فيقال له.
بين المطلقة منهما، فإن كان قد طلق واحدة منهما بعينها ثم جهلها أو نسيها ثم قال: التى كنت طلقتها فلانة وهى الميتة دفع ما عزل من تركة الميتة إلى باقى ورثتها.
وإن قال التى طلقتها هي الثانية دفع إليه ما عزل له من تركة الميتة، وإن ماتتا قبل التعيين عزل من تركة كل واحدة منهما ميرات زوج.
ثم يقال له: عين المطلقة منهما، فإن قال: التى طلقتها فلانة دفع ما عزل له من تركتها إلى باقى ورثتها لانه أقر أنه لا يرثها ودفع إليه ما عزل إليه من تركة الاخرى، لانه أخبر أنها زوجته فإن كذبه ورثتها وقالوا بل هي التى كنت طلقت فالقول قوله مع يمينه لان الاصل
بقاء نكاحها وعدم طلاقه لها إلى الموت.
فإن حلف فلا كلام، وان نكل عن اليمين فحلف ورثتها أنها هي التى طلقها سقط ميراثه عن الاولة بإقراره، وعن الثانية بنكوله وأيمان ورثتها.
وإن كان قد طلق إحداهما لا بعينها فعين الطلاق في إحداهما دفع ما عزل له من تركة المعينة للطلاق إلى باقى ورثتها ودفع ما عزل له من تركة الاخرى إلى الزوج، فان كذبه ورثتها فلا يمين على الزوج، لان هذا اختيار شهوة هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: إذا طلق إحداهما لا بعينها فهل له أن يعينها بعد الموت؟ فيه وجهان، بناء على أن الطلاق يقع من وقت التعيين أو من وقت الايقاع.
فان قلنا وقت الايقاع كان له، وان قلنا يقع وقت التعيين لم يكن له.
فان مات الزوج وهما باقيتان قبل أن يعين الطلاق في إحداهما - فان قال وارت الزوج: لا أعلم المطلقة منهما - وقف من مال الزوج ميرات زوجه وهو الربع مع عدم الولد وولد الولد، والثمن مع وجود أحدهما لا يتيقن أن إحداهما وارثته بيقين، فلا يدفع إلى باقى ورثته الا ما يتيقن استحقاقهم له، ويوقف ذلك بين الزوجين إلى أن يصطلحا عليه.
وإن قال وارت الزوج.
أنا أعرف المطلقة منهما، فهل يرجع إلى بيانه؟ فيه قولان.
قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هما وجهان
(أحدهما)
يرجع إلى بيان الوارت لانه يقوم مقام الزوج في الملك والرد بالعيب.
وفى استحقاق

(17/253)


النسب بالاقرار، فقام مقامه في تعيين المطلقة.
فعلى هذا إذا قال: المطلقة فلانة دفع ما عزل من تركة الزوج إلى الآخر، وان كذبته المطلقة حلف لها.

(والثانى)
لا يقوم مقامه، لان في ذلك إسقاط حق وارث معه في الظاهر
بقوله.
واختلف أصحابنا في موضع القولين، فقال أبو إسحاق: القولان فيمن طلق إحداهما بعينها وفيمن طلق إحداهما لا بعينها.
ومنهم من قال القولان فيمن طلق احداهما بعينها ثم جهلها أو نسيها.
فأما إذا طلق احداهما لا بعينها لا يقوم مقام المورث قولا واحدا، لانه يمكنه التوصل إلى العلم بالمطلقة منهما إذا وقع الطلاق بواحدة بعينها بسماع من الزوج، فإذا طلق واحدة منهما لا بعينها، فتعيين المطلقة إلى شهوة الزوج فلا يقوم وارثه مقامه كما لو أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، فمات قبل أن يختار - فان كانت بحالها وماتت واحدة منهما ثم مات الزوج قبل البيان وبقيت الاخرى عزل من تركة الزوج ميرات زوجة لجواز أن تكون الباقية زوجته، وعزل من تركة الميتة قبله ميراث زوج لجواز أن تكون الميتة هي زوجته فان قال وارث الزوج الميتة قبل الزوج هي المطلقة، قبل قوله، لان في ذلك إضرارا عليه من جهة أنه لا يرت من الميته وترت معه الباقيه وان قال بل الميتة قبل الزوج هي الزوجه والباقيه هي المطلقة، فان صدقته الباقية وورث الاولة ورت ميرات الزوج من الاولة ولم ترت معه الباقيه، وان كذبته فهل يقبل قول الوارت؟ فيه قولان وقد مضى توجيههما، والذى يقتضى المذهب أن يكون في موضع وجهان فإذا قلنا لا يقبل قول وارت الزوج كان ما عزل من تركة الميت قبل الزوج موقوفا حتى يصطلح عليه وارت الزوج والزوجه الباقيه.
فإذا قلنا يقوم مقام الزوج، فان كان الزوج قد أوقع الطلاق في إحداهما بعينها ثم نسيها أو جهلها، فان وارت الزوج يحلف لورثة الميته ما يعلم أنه طلقها لانه يحلف على نفى فعل غيره على القطع.
وان كان الزوج طلق احداهما لا بعينها، وقلنا يقبل قول وارت الزوج فيها،
فلا يمين على وارث الزوج، كما لا يمين على الزوج في ذلك

(17/254)


وجملة ما تقدم أنه قد نص أحمد بن حنبل أنه إذا طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة فإن مات قبل ذلك أقرع الورثة وكان الميراث للبواقي وقال أبو حنيفة: يقسم الميراث بينهن كلهن لانهن تساوين في احتمال استحقاقه ولا يخرج الحق عنهن.
وقال الشافعي: يوقف الميراث المختص بهن حتى يصطلحن عليه لانه لا يعلم المستحق منهن، وذلك نص أحمد على أنه إذا كان له أربع نسوة فطلق إحداهن ثم نكح أخرى بعد قضاء عدتها ثم مات ولم يعلم أيتهن طلق فللتى تزوجها ربع ميراث النسوة.
وقال ابن قدامة: ثم يقرع بين الاربع فأيتهن خرجت قرعتها خرجت وورث الباقيات.
نص عليه أحمد.
وذهب الشعبى والنخعي وعطاء الخراساني وأبو حنيفة إلى أن الباقي بين الاربع.
وزعم أبو عبيد أنه قول أهل الحجاز وأهل العراق جميعا، وقال الشافعي: يوقف الباقي بينهن حتى يصطلحن ووجه الاقوال ما تقدم.
وقال أحمد في رواية بن منصور في رجل له أربع نسوة طلق واحدة منهن ثلاثا وواحدة اثنتين وواحدة واحدة ومات على أثر ذلك ولا يدرى أيتهن طلق ثلاثا وأيتهن طلق اثنتين وأيتهن واحدة يقرع بينهن، فالتى أبانها تحرج ولا ميراث لها.
هذا فيما إذا مات في عدتهن وكان طلاقه في صحته فإنه لا يحرم الميراث الا المطلقة ثلاثا، فالباقيتان رجعيتان يرثنه في العدة ويرثهن من انقضت عدتها منهن لم ترثه ولم يرثها، ولو كان طلاقه في مرضه الذى مات فيه لورثه الجميع في العدة.*
*
*
(مسألة) ان كانت له زوجتان فقال: يا حفصة ان كان أول ولد تلدينه ذكرا فعمرة طالق، وان كان أنثى فأنت طالق، فان ولدت ذكرا وأنثى أحدهما بعد الآخر وأشكل المقدم منهما علمنا أن إحداهما قد طلقت بعينها وهى مجهولة، فيرجع إلى بيانه، كما لو أشرعت إحداهما من موضع فقال: هذه طالق ولم يعرفها فإنه يرجع إلى بيانه، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(17/255)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال: إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق، وإن لم يكن غرابا فإمائى حرائر، ثم قال: كان هذا الطائر غرابا طلقت النساء، فان كذبه الاماء حلف لهن، فان حلف ثبت رقهن، وإن نكل ردت اليمين عليهن، فان حلفن ثبت طلاق النساء بإقراره وعتق الاماء بنكوله ويمينهن، فإن صدقنه ولم يطلبن إحلافه ففيه وجهان
(أحدهما)
يحلف لما في العتق من حق الله عز وجل
(والثانى)
لا يحلف لانه لما أسقط العتق بتصديقهن سقط اليمين بترك مطالبتهن.
وإن قال كان هذا الطائر غير غراب عتق الاماء، فإن كذبته النساء حلف لهن وإن نكل عن اليمين ردت عليهن، فإن حلفن ثبت عتق الاماء بإقراره وطلاق النساء بيمينهن ونكوله.

(فصل)
وان رأى طائرا فقال: ان كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق وإن كان حماما فإمائى حرائر ولم يعرف لم تطلق النساء ولم تعتق الاماء، لجواز أن يكون الطائر غيرهما، والاصل بقاء الملك والزوجية فلا يزال بالشك وإن قال: ان كان هذا غرابا فنسائي طوالق، وان كان غير غراب فإمائى حرائر: ولم يعرف منع من التصرف في الاماء والنساء، لانه تحقق زوال الملك في أحدهما،
فصار كما لو طلق إحدى المرأتين ثم أشكلت ويؤخذ بنفقة الجميع إلى أن يعين، لان الجميع في حبسه ويرجع في البيان إليه لانه يرجع إليه في أصل الطلاق والعنق فكذلك في تعيينه، فإن امتنع من التعيين مع العلم به حبس حتى يعين وان لم يعلم لم يحبس ووقف الامر إلى أن يتبين، وان مات قبل البيان فهل يرجع إلى الورثة فيه وجهان
(أحدهما)
يرجع إليهم لانهم قائمون مقامه
(والثانى)
لا يرجع لانهم لا يملكون الطلاق فلم يرجع إليهم في البيان، ومتى تعذر البيان أقرع بين النساء والاماء، فان خرجت القرعة على الاماء عتقن وبقى النساء على الزوجية، وان خرجت القرعه على النساء رق الاماء ولم تطلق النساء.
وقال أبو ثور: تطلق النساء بالقرعة كما تعتق الاماء.
وهذا خطأ لان القرعة

(17/256)


لها مدخل في العتق دون الطلاق، ولهذا لو طلق إحدى نسائه لم تطلق بالقرعة.
ولو أعتق أحد عبيده عتق بالقرعة، فدخلت القرعة في العتق دون الطلاق كما يدخل الشاهد والمرأتان في السرقة لاثبات المال دون القطع، ويثبت للنساء الميراث لانه لم يثبت بالقرعة ما يسقط الارث.

(فصل)
وإن طار طائر فقال رجل: إن كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فعبدي حر ولم يعرف الطائر لم يعتق واحد من العبدين، لانا نشك في عتق كل واحد منهما، ولا يزال يقين الملك بالشك، وإن اشترى أحد الرجلين عبد الآخر عتق عليه، لان إمساكه للعبد إقرار بحرية عبد الآخر، فإذا ملكه عتق عليه، كما لو شهد بعتق عبد ثم اشتراه.
(الشرح) إن رأى رجلا طائرا فقال: إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق، وان كان غير غراب فإمائى حرائر، فطار الطائر ولم يعرف هل هو غراب أو غير غراب، فقد علم أنه حنث في الطلاق أو العتق، لانه لا يخلو إما
أن يكون غرابا أو غير غراب، فيوقف عن وطئ الجميع وعن التصرف في الاماء لانا نتحقق التحريم إما في الزوجات وإما في الاماء.
وإن جهلنا عين المحرم منهما فوقف عن الجميع تغليبا للتحريم، ويؤخذ بالبيان لانه هو الحالف، ويجوز ان يكون عنده علم، فإن أقر أن عنده علما وامتنع عن البيان حبس وعزر إلى أن يتبين، وعليه نفقة الجميع إلى ان يتبين لانهن في حبسه فإن قال كان الطائر غرابا طلقت النساء، سواء صدقته أو كذبنه، فإن صدقته الاماء على أنه كان غرابا فلا يمين عليه، وان قلن ما كان غرابا فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل بقاء الملك عليهن، فإن طلبن يمينه فحلف لهن لم يعتقن، وإن كذبنه ولم يطلبن إحلافه ففيه وحهان
(أحدهما)
يحلفه الحاكم كما في العتق لانه حق الله تعالى
(والثانى)
لا يحلفه لان العتق سقط بتصديقهن أن الطائر كان غرابا فسقطت يمينه بتركه مطالبتهن، وإن نكل فحلفن عتقن بأيمانهن ونكوله وطلقت النساء

(17/257)


بإقراره السابق.
وان قال ابتداء كان الطائر غير غراب، عتقت الاماء صدقنه أو كذبنه، فان صدقته النساء أنه لم يكن غرابا فلا كلام.
وان قالت النساء كان غرابا فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل بقاء النكاح، فان حلف بقين على الزوجية.
وان نكل فحلفن طلقن بنكوله وأيمانهن.
وعتقت الاماء بإقراره.
وان قال لا أعلم هل كان غرابا أو غير غراب، فان صدقته النساء والاماء أنه لا يعلم بقين على الوقف.
وان كذبنه وقلن بل هو يعلم حلف لهن أنه لا يعلم وبقين على الوقف.
وان نكل عن اليمين حلف من ادعى منهن أنه يعلم أنه حنث في يمينه فيه، وكان كما لو أقر فإن مات قبل البيان فهل يرجع إلى الورثة؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ
المصنف وابن الصباغ في الشامل، ونبه أن يكونا مأخوذين من القولين في التى قبلها
(أحدهما)
يرجع إليهم في البيان، لان الورثة يقومون مقامه في الملك والرد بالعيب، فكذلك في بيان المطلقات والمعتقات
(والثانى)
لا يرجع إليهم في البيان لان ذلك يؤدى إلى اسقاط بعض الورثة لقول البعض.
وعندي أن الوجهين انما هما إذا قال الورثة كان الطائر غرابا ليطلق النساء ولا يعتق الاماء.
فأما إذا كان الطائر غير غراب فانه يقبل قوله وجها واحدا، لانه أقر بما فيه تغليظ عليه من جهتين
(أحدهما)
أن الاماء تعتق عليه (والثانيه) أن الزوجات يرثن معه.
إذا ثبت هذا فان قال الوارث: لا أعلم هل كان غرابا أو غير غراب، أو قال الوارث: كان الطائر غرابا ولم تصدقه النساء والاماء، وقلنا لا يقبل قوله فانه يقرع بين النساء والاماء لتمييز العتق لا لتمييز الطلاق، فيجعل الزوجات جزءا والاماء جزءا ويضرب عليهن بسهم حنث وسهم بر، فان خرج سهم الحنث على الاماء عتقن ولم تطلق النساء، وان خرج سهم الحنث على النساء لم يطلقن ولا تعتق الاماء.
وقال أبو ثور: تطلق النساء كما تعتق الاماء.
وهذا خطأ عندنا، كما هو منصوص في الام.
وعلى ذلك الاصحاب كافة، لان الاصل عندنا أن القرعة

(17/258)


لا مدخل لها في الطلاق، ولهذا لو طلق إحدى امرأتيه ولم يقبل أن يعين المطلقة منهما لم يقرع بينهما.
ولو أعتق عبديه في مرض موته ولم يحتملهما الثلث أقرع بينهما، فإن خرجت قرعة الحنث على الاماء حكم بعتقهن من رأس المال إن كان قال ذلك في الصحة.
ومن الثلث إن قاله في المرض الذى مات فيه، ولا يحكم
بطلاق النساء، بل تكون عدتهن بعدة الوفاة.
وتكون للزوجات الميراث إلا أن يكن قد ادعين الطلاق، وكان الطلاق مما لا يرثن معه، ولو ثبت لا يرثن، لانهن أقررن أنهن لسن بوارثات وإن خرجت القرعة حنثا على الزوجات فقد ذكرن أنهن لا يطلق.
قال الشافعي رضى الله في الام في باب الشك واليقين في الطلاق: وإن مات قبل أن يحلف أقرع بينهم، فإن وقعت القرعه على الرقيق عتقوا من رأس المال وإن وقعت على النساء لم نطلقهن بالقرعة ولم نعتق الرقيق وورثه النساء، لان الاصل أنهن أزواج حتى يستيقن بأنه طلقهن، ولم يستيقن، والورع أن يدعن ميراثه، وان كان ذلك وهو مريض وقال في موضع آخر: والورع لهن أن يدعن الميراث، لان الظاهر بخروج الحنث عليهن أنه طلقهن إلا ان القرعة ليس لها مدخل في الطلاق على ما مضى اه وهل تزول الشبهة في ملك الاماء؟ ويكون الملك ثابتا عليهن ظاهرا وباطنا، فخروج قرعة الحنث على النساء فيه وجهان
(أحدهما)
لا تزول الشبهة لان القرعة إنما لم تؤثر في حنث النساء، لانه لا مدخل لها فيهن في أصل الشرع، ولها مدخل في أصل الشرع في العتق، فعلى هذا يكون ملك الورثة ثابتا على الاماء بلا شبهة وعلى الوجهين بصدد تصرف الورثة فيهن بالبيع والاستمتاع وغيره، إلا أن في الاول يصح تصرفه مع الشك وعلى الثاني من غير شك.
(فرع)
وان قال: ان كان هذا الطائر غرابا فنساؤه طوالق، وان كان حماما فإماؤه حرائر فطار ولم يعلم لم يحكم عليه بطلاق ولا عتق لجواز أن لا يكون غرابا ولا حماما.
وان ادعى النساء أنه كان غرابا وادعى الاماء أنه كان حماما ولا بينة حلف أنه ليس بغراب يمينا وأنه ليس بحمام يمينا، لان الاصل بقاء النكاح والملك.

(17/259)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا اختلف الزوجان فادعت المرأة على الزوج أنه طلقها وأنكر الزوج فالقول قوله مع يمينه لان الاصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، وان اختلفا في عدده فادعت المرأة أنه طلقها ثلاثا.
وقال الزوج طلقتها طلقه، فالقول قول الزوج مع يمينه، لان الاصل عدم ما زاد على طلقه
(فصل)
وإن خيرها ثم اختلفا فقالت المرأة اخترت، وقال الزوج ما اخترت، فالقول قول الزوج مع يمينه، لان الاصل عدم الاختيار وبقاء النكاح، وان اختلفا في النية، فقال الزوج ما نويت وقالت المرأة نويت، ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى رحمه الله: ان القول قول الزوج، لان الاصل عدم النية وبقاء النكاح، فصار كما لو اختلفا في الاختيار.

(والثانى)
وهو الصحيح أن القول قول المرأة، والفرق بينه وبين الاختلاف في الاختيار أن الاختيار يمكن إقامة البينه عليه، فكان القول فيه قوله.
كما لو علق طلاقها بدخول الدار فادعت أنها دخلت وأنكر الزوج، والنيه لا يمكن اقامة البينة عليها، فكان القول قولها، كما لو علق الطلاق على حيضها فادعت أنها حاضت وأنكر.

(فصل)
وان قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق.
وادعى أنه أراد التأكيد وادعت المرأة أنه أراد الاستئناف، فالقول قوله مع يمينه، لانه أعرف بنيته وان قال الزوج أردت الاستئناف، وقالت المرأة أردت التأكيد فالقول قول الزوج لما ذكرناه ولا يمين عليه، لان اليمين تعرض ليخاف فيرجع، ولو رجع لم يقبل رجوعه، فلم يكن لعرض اليمين معنى
(فصل)
وان قال أنت طالق في الشهر الماضي، وادعى أنه أراد من زوج
غيره في نكاح قبله، وأنكرت المرأة أن يكون قبله نكاح أو طلاق، لم يقبل قول الزوج في الحكم حتى يقيم البينه على النكاح والطلاق، فإن صدقته المرأة على ذلك لكنها أنكرت أنه أراد ذلك فالقول قوله مع يمينه، فإن قال: أردت أنها طالق في الشهر الماضي بطلاق كنت طلقتها في هذا النكاح وكذبته المرأة فالقول قوله

(17/260)


مع يمينه، والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك يريد أن يرفع الطلاق، وههنا لا يرفع الطلاق، وإنما ينقله من حال إلى حال.
(الشرح) وإن ادعت المرأة على زوجها أنه طلقها فأنكر.
أو ادعت أنه طلقها ثلاثا فقال بل طلقتها واحدة أو اثنتين ولا بينة فالقول قول الزوج مع يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعى واليمين على من أنكر " ولان الاصل عدم الطلاق وعدم ما زاد على ما أقر به الزوج، وبه قال أحمد وأصحابه قال في المغنى: وان اختلفا في عدد الطلاق فالقول قوله لما ذكرناه، فإذا طلق ثلاثا وسمعت ذلك وأنكر أو ثبت ذلك عندها بقول عدلين لم يحل لها تمكينه من نفسها، وعليها أن تفر منه ما استطاعت، وتمتنع منه إذا أرادها، وتفتدى منه إن قدرت.
قال أحمد.
لا يسعها أن تقيم معه وتفتدى منه بكل ما يمكن.
وقال جابر بن زيد وحماد بن ابى سليمان وابن سيرين بهذا، وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف وابو عبيد: تفر منه.
وقال مالك لا تتزين له ولا تبدى له شيئا من شعرها ولا زينتها ولا يصيبها إلا وهى مكرهة.
وقال الحسن والزهرى والنخعي: يستحلف ثم يكون الاثم عليه.
(فرع)
وإن خيرها الزوج فقالت قد اخترت وقال ما اخترت.
فالقول قول الزوج، لان الاصل عدم الاختيار، والذى يقتضى المذهب أنه يحلف
ما يعلم أنها اختارت، لانه يحلف على نفى فعل غيره، وان ادعت أنها نوت الطلاق، وقال الزوج ما نويت ففيه وجهان
(أحدهما)
القول قول الزوج مع يمينه، لان الاصل عدم النية
(والثانى)
القول قولها مع يمينها لانهما اختلفا في نيتها ولا يعلم ذلك إلا من جهتها، فقيل قولها مع يمينها: كما لو علق الطلاق على حيضها وإن قال: أنت طالق، أنت طالق، وادعى انه أراد التأكيد، وادعت انه أراد الاستئناف، فالقول قوله مع يمينه، لانه أعلم بإرادته.
وإن قال أردت الاستئناف وقالت بل أردت التأكيد لزمه حكم الاستئناف.
لانه أقر بالطلاق فلزمه ولا يمين عليه، لانه لو رجع لم يقبل رجوعه فلا يعرض اليمين

(17/261)


قال المصنف رحمه الله:

باب الرجعة
إذا طلق الحر امرأته بعد الدخول طلقة أو طلقتين، أو طلق العبد امرأته بعد الدخول طلقه، فله أن يراجعها قبل انتهاء العدة، لقوله عز وجل " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف " والمراد به إذا قاربن أجلهن.
وروى ابن عباس رضى الله عنه عن عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم طلق حفصة وراجعها " وروى ان ابن عمر رضى الله عنه طلق امرأته وهى حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: من ابنك فليراجعها فإن انقضت العدة لم يملك رجعتها، لقوله عز وجل " وإذا طلقتم النساء فبلغ أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " فلو ملك رجعتها لما نهى الاولياء عن عضلهن عن النكاح، فإن طلقها قبل الدخول لم يملك الرجعة لقوله عزوجل: " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، فعلت الرجعة
على الاجل، فدل على أنها لا تجوز من غير أجل، والمطلقة قبل الدخول لا عدة عليها لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن عدة تعتدونها "
(فصل)
ويجوز أن يطلق الرجعية ويلاعنها ويولى منها ويظاهر منها.
لان الزوجية باقية، وهل له أن يخالعها؟ فيه قولان: قال في الام: يجوز لبقاء النكاح.
وقال في الاملاء: لا يجوز لان الخلع للتحريم وهى محرمة، فإن مات أحدهما ورثه الآخر لبقاء الزوجية إلى الموت، ولا يجوز ان يستمتع بها لانها معتدة فلا يجوز وطؤها كالمختلعة، فإن وطئها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها لزمه المهر، لانه وطئ في ملك قد تشعث فصار كوطئ الشبهة.
وان راجعها بعد الوطئ فقد قال في الرجعة: عليه المهر.
وقال في المرقد إذا وطئ امرأته في العدة ثم أسلم أنه لا مهر عليه.
واختلف أصحابنا فيه فنقل ابو سعيد الاصطخرى الجواب في كل واحدة منهما إلى الاخرى وجعلهما

(17/262)


على قولين
(أحدهما)
يجب المهر لانه وطئ في نكاح قد تشعث
(والثانى)
لا يجب لان بالرجعة والاسلام قد زال التشعث، فصار كما لو لم تطلق ولم يرتد.
وحمل ابو العباس وابو إسحاق المسألتين على ظاهرهما فقالا في الرجعة: يجب المهر، وفى المرتد لا يجب، لان بالاسلام صار كأن لم يرتد، وبالرجعة لا يصين كأن لم تطلق لان ما وقع من الطلاق لم يرتفع، ولان أمر المرتد مراعى، فإذا رجع إلى الاسلام تبينا أن النكاح بحاله، ولهذا لو طلق وقف طلاقه، فإن أسلم حكم بوقوعه، وإن لم يسلم لم يحكم بوقوعه، فاختلف أمرها في المهر بين أن يرجع إلى الاسلام وبين أن لا يرجع، وأمر الرجعية غير مراعى، ولهذا لو طلق لم يقف طلاقه على الرجعة، فلم يختلف أمرها في المهر بين أن يراجع وبين أن لا يراجع
فإذا وطئها وجب عليها العدة لانه كوطئ الشبهة.
ويدخل فيه بقية العدة الاولى لانهما من واحد.
(الشرح) أخرج ابو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " الآيه.
وذلك ان الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وان طلقها ثلاثا فنسخ ذلك: الطلاق مرتان وفى إسناده على بن الحسين بن واقد وفيه مقال وقال الشافعي رضى الله عنه في قوله تعالى " إن أرادوا إصلاحا " فقال: إصلاح الطلاق الرجعة والله أعلم، فمن أراد الرجعة فهى له لان الله تبارك وتعالى جعلها له قال الشافعي: فأيما زوج حر طلق امرأته بعدما يصيبها واحدة أو اثنتين فهو أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها بدلالة كتاب الله عز وجل ثم سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ ركانة طلق امرأته البتة ولم يرد الا واحدة، فردها إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك عندنا في العدة اه وقوله " قد تشعث " مأخوذ من شعث الشعر وبابه تعب أي تغير وتلبد لقلة تعهده بالدهن.
والشعث أيضا الوسخ.
وهو أشعث أغبر، أي من غير استحداد ولا تنظف.
والشعث أيضا الانتشار والتفرق، وفى الدعاء " لم الله شعثكم " أي جمع أمركم.

(17/263)


إذا ثبت هذا فإذا طلق الرجل المدخول بها ولم يستوف ما يملكه عليها من عدد الطلاق، وكان الطلاق بغير عوض، فله أن يراجعها قبل انقضاء عدتها.
والاصل فيه قوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - إلى قوله - وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا.
فقوله: بردهن، يعنى برجعتهن.
وقوله " ان أرادوا اصلاحا " أي اصلاح ما تشعب من النكاح بالرجعة
وقوله تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فأخبر أن من طلق طلقتين فله الامساك وهو الرجعة وله التسريح وهى الثالثة.
وقوله تعالى " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف - إلى - لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " والامساك هو الرجعة وقوله " لعله الله يحدث بعد ذلك أمرا " يعنى الرجعة، وقد طلق النبي صلى الله عليه حفصة ثم راجعها، وطلق ابن عمر امرأته وهى حائض فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يراجعها.
وروينا أن ركانة بن عبد يزيد قال: يا رسول الله إنى طلقت امرأتي سهيمة البتة.
والله ما أردت الا واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم والله ما أردت الا واحدة؟ فقال ركانه ما أردت الا واحدة، فردها النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
والرد هو الرجعة.
وقد أجمعت الامه على جواز الرجعة في العدة.
إذا ثبت هذا فقد قال الله تعالى في آية " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن " وقال في آية اخرى " فإذا بلغن اجلهن فلا تعضلوهن ان ينكحن أزواجهن " وحقيقة البلوغ هو الوصول إلى الشئ، إلا ان سياق الكلام يدل على اختلاف البلوغين في الاثنتين، فالمراد بالبلوغ بقوله تعالى " فإذا بلغن اجلهن فأمسكوهن بمعروف " أي إذا قاربن البلوغ، فسمى المقاربة بلوغ مجازا، لانه يقل: إذا قارب الرجل بلوغ بلد بلغ فلان بلد كذا مجازا أو بلغها إذا وصلها حقيقة والمراد بالآية الاخرى " إذا بلغن اجلهن فلا تعضلوهن ان ينكحن ازواجهن " إذا انقضى اجلهن.
وان انقضت عدتها لم تصح الرجعة لقوله تعالى: وبعولتهن احق بردهن في ذلك ان ارادوا اصلاحا.
أي في وقت عدتهن، وهذا ليس بوقت عدتهن.
وقوله تعالى " فإذا بلغن اجلهن فلا تعضلوهن ان ينكحن ازواجهن " فنهى

(17/264)


الاولياء عن عضلهن عن النكاح، فلو صحت رجعتهن لما نهى الاولياء عن عضلهن عن النكاح.
وإن طلق امرأته قبل الدخول لم يملك الرجعة عليها لقوله تعالى " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " فخص الرجعة بوقت العدة.
ومن لم يدخل بها فلا عدة عليها فلم يملك عليها الرجعة.
(مسألة) وللزوج أن يطلق الرجعية في عدتها ويولى منها ويظاهر.
هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي: هل يصح إيلاؤه من الرجعية؟ فيه وجهان.
وهل له أن يخالعها؟ فيه قولان
(أحدهما)
يصح لبقاء أحكام الزوجية بينهما
(والثانى)
لا يصح لان الخلع للتحريم وهى محرمة عليه.
وإن مات أحدهما قبل انقضاء العدة ورثه الآخر لبقاء أحكام الزوجية بينهما وهذا من أحكامها، ويحرم عليه وطؤها والاستمتاع بها والنظر إليها بشهوة وغير شهوة.
وبه قال عطاء ومالك وأكثر الفقهاء.
وقال ابو حنيفة وأصحابه يجوز له وطؤها.
وعن احمد روايتان إحداهما كقولنا والاخرى كقول ابى حنيفه، دليلنا ما رواه مسلم وغيره أن ابن عمر طلق امرأته وكان طريقه إلى المسجد على مسكنها، فكان يسلك طريقا آخر حتى راجعها، ولانه سبب وقعت به الفرقة فوقع به التحريم كالفسخ والخلع والطلاق قبل الدخول.
فإن خالف ووطئها لم يجب عليهما الحد، سواء علما تحريمه أو لم يعلما، لانه وطئ مختلف في إباحته فلم يجب به الحد، كما لو تزوج امرأة بغير ولى ولا شهود ووطئها.
وأما التعزير - فإن كانا عالمين بتحريمه بأن كانا شافعيين يعتقدان تحريمه عزرا لانهما أتيا محرما مع العلم بتحريمه.
وإن كانا غير عالمين بتحريمه بأن كانا حتفيين أو كانا جاهلين لا يعتقدان تحريمه أو لا يريان تحريمه لم يعزرا.
وإن كان أحدهما عالما بتحريمه والآخر جاهلا بتحريمه عزر العالم بتحريمه دون الجاهل به.
وإن اتت
منه بولد لحقه نسبه بكل حال للشبهة.
وأما مهر المثل فهل يلزمه؟ ينظر فيه فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها فلها عليه مهر المثل بكل حال.
وكذلك إذا اسلم أحد الحربيين بعد الدخول فوطئها الزوج في عدتها فانقضت عدتها قبل اجتماعهما على الاسلام فلها عليه مهر مثلها

(17/265)


لهذا الوطئ، لان العدة لما انقضت قبل اجتماعهما على النكاح تبينا أنه وطئ أجنبية منه، فهو كما لو وطئ أجنبية بشبهة، وإن راجعها قبل انقضاء العدة أو اجتمعا على الاسلام قبل انقضاء العدة فقد قال الشافعي: إن للرجعية مهر مثلها وقال في الزوجية: إذا أسلم أحدهما ووطئها قبل انقضاء عدتها وقبل الاسلام ثم أسلم الآخر قبل انقضاء العدة أنه لا مهر لها، وكذا قال في المرتد: إذا وطئ امرأته في العدة ثم أسلم قبل انقضاء العدة لا مهر عليه، واختلف أصحابنا فيه.
فمنهم من قال في الجميع قولان
(أحدهما)
يجب عليه مهر مثله لانه وطئ في نكاح قد تشعث، فهو كما لو لم يراجعها ولم يجتمعا على الاسلام.

(والثانى)
لا يجب عليه، لان الشعث زال بالرجعة والاسلام، ومنهم من حملها على ظاهرها، فإن راجعها في الردة من أحدهما فالصحيح من مذهبنا أنه لا يصح، وبه قال أحمد وأصحابه، لانه استباحة بضع مقصود فلم يصح مع الردة كالنكاح، ولان الرجعة تقرير للنكاح والردة تنافى ذلك فلم يصح اجتماعهما، وقال المازنى ما حاصله: إن قلنا تتعجل الفرقة بالردة لم تصح الرجعة لانها قد بانت بها، وإن قلنا لا تتعجل الفرقة فالرجعة موقوفة إن أسلم المرتد منهما في العدة صحت الرجعة: لاننا تبينا أن الفرقة وقعت قبل الرجعة.
وهذا قول أصحاب احمد واختيار أبى حامد الاسفرايينى من أصحابنا.
وهكذا ينبغى ان يكون فيما إذا راجعها
بعد إسلام أحدهما.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتصح الرجعة من غير رضاها لقوله عز وجل " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " ولا تصح الرجعة إلا بالقول، فإن وطئها لم يكن ذلك رجعه لاستباحة بضع مقصود يصح بالقول، فلم يصح بالفعل مع القدرة على القول كالنكاح وإن قال: راجعتك أو ارتجعتك صح، لانه وردت به السنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " مر ابنك فليراجعها " فان قال رددتك صح.
لانه ورد به القرآن وهو قوله عز وجل " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك "

(17/266)


وإن قال أمسكتك ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول ابى سعيد الاصطخرى انه يصح لانه ورد به القرآن، وهو قوله عز وجل " فأمسكوهن بمعروف "
(والثانى)
انه لا يصح، لان الرجعة رد، والامساك يستعمل في البقاء والاستدامة دون الرد.
وإن قال تزوجتك أو نكحتك ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح لانه إذا صح به النكاح وهو ابتداء الاباحة فلان تصح به الرجعة وهو إصلاح ما تشعث منه أولى
(والثانى)
لا يصح لانه صريح في النكاح، ولا يجوز أن يكون صريحا في حكم آخر من النكاح، كالطلاق لما كان صريحا في الطلاق لم يجز أن يكون صريحا في الظهار.
وإن قال راجعتك للمحبه وقال أردت به مراجعتك لمحبتي لك صح.
وان قال راجعتك لهوانك وقال أردت به أنى راجعتك لاهينك بالرجعة صح، لانه أتى بلفظ الرجعة وبين سبب الرجعة وإن قال لم أرد الرجعة وانما أردت أنى كنت احبك قبل النكاح، أو كنت أهينك قبل النكاح فرددتك بالرجعة إلى المحبه التى كانت قبل النكاح: أو الاهانة التى كانت قبل النكاح، قبل قوله لانه يحتمل ما يدعيه.
(الشرح) تصح الرجعة من غير ولى وبغير رضاها وبغير عوض لقوله تعالى " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " فجعل الزوج احق بردها، فلو افتقر إلى رضاها لكان الحق لهما، ولا تصح الرجعة الا بالقول من القادر عليه.
أو بالاشارة من الاخرس.
فأما إذا وطئها أو قبلها أو لمسها فلا يكون ذلك رجعه، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو.
وبه قال ابو قلابة وابو ثور، وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين والاوزاعي وابن ابى ليلى وابو حنيفة واصحابه وبعض اصحاب احمد: تصح الرجعة بالوطئ، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو وقال ابو حنيفة: إذا قبلها بشهوة أو لمسها أو نظر إلى فرجها بشهوة وقعت به الرجعة، وقال مالك وإسحاق: إذا وطئها ونوى به الرجعة كان رجعه.
وان لم ينو به الرجعة لم يكن رجعه، دليلنا انها جاريه إلى بينونه فلم يصح امساكها بالوطئ كما لو أسلم احد الحربيين وجرت إلى بينونه فلم يصح امساكها بالوطئ، ولان

(17/267)


استباحة بضع مقصود يصح بالقول فلم يصح بالفعل مع القدرة على القول كالنكاح فقولنا بضع مقصود، احتراز ممن باع جارية ووطئها في مدة الخيار.
وقولنا يصح بالقول احتراز من السبى، فإنه لا يصح بالقول وإنما يصح بالفعل وقولنا ممن يقدر عليه احتراز ممن يكون أخرس إذا ثبت هذا وقال رددتك صح، لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر " مر ابنك فليراجعها " وهل من شرطه أن يقول إلى النكاح؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي المشهور أن ذلك ليس بشرط، وانما هو تأكيد وإن قال أمسكتك - قال الشيخ ابو حامد: - فهل ذلك صريح في الرجعة أو كناية؟ فيه وجهان، وحكاهما القاضى ابو الطيب قولين
(أحدهما)
انه صريح
في الرجعة، لان القرآن ورد به، وهو قوله تعالى " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف " وأراد به الرجعة
(والثانى)
انه ليس بصريح إنما هو كناية لانه استباحة بضع مقصود في عينه فلم يصح الا بلفظتين كالنكاح.
وأما المصنف فقد جعل صحة الرجعة به على وجهين ولم يذكر الصريح ولا الكناية وإن قال تزوجتك أو نكحتك أو عقد عليها النكاح فهل يصح؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
لا يصح لان عقد الرجعة لا يصح بالكنايه والنكاح كنايه.
ولان النكاح لا يعرى عن عوض والرجعة لا تتضمن عوضا فلم ينعقد أحدهما بلفظ الآخر كالهبة لا تنعقد بلفظ البيع.

(والثانى)
يصح، لان لفظ النكاح والتزويج آكد من الرجعة لانه تستباح به الأجنبية، فإذا استباح بضعها بلفظ الرجعة ففى لفظ النكاح والتزويج أولى.
بيد اننى رأيت ان الرجعة اسم اشتهر بين اهل العرف كاشتهار اسم الطلاق فيه، فانهم يسمونها رجعة والمرأة رجعيه، ويتخرج ان يكون لفظها هو الصريح وحده والله أعلم (فرع)
فان قال راجعتك أمس كان إقرارا برجعتها وهو يملك الرجعة قبل إقراره فيها.
وان قال راجعتك للمحبه أو للاهانة سئل عن ذلك.
فإن قال أردت بقولى للمحبة لانى كنت أحبها في النكاح فراجعتها إلى النكاح لاردها إلى تلك المحبة، أو كنت أهينها في النكاح فراجعتها إلى النكاح والى تلك الاهانة أو ألحقتها

(17/268)


بالطلاق إهانه فراجعتها إلى النكاح لارفع عنها تلك الاهانة، صحت الرجعة لانه قد راجعها وبين العلة التى راجعها لاجلها.
وإن قال لم أرد الرجعة إلى النكاح وانما أردت أنى كنت أحبها قبل النكاح فلما نكحتها بغضتها فرددتها بالطلاق إلى تلك المحبه قبل النكاح، أو كنت أهينها
قبل النكاح فلما نكحتها زالت تلك الاهانة، فرددتها بالطلاق إلى تلك الاهانة، لم تصح الرجعة، لانه اخبر انه لم يردها إلى النكاح، وانما المعنى الذى لاجله طلقها، وان ماتت قبل ان يبين حكم بصحة الرجعة لانه يحتمل الامرين، والظاهر أنه اراد الرجعة إلى النكاح لاجل المحبه أو لاجل الاهانة، وهذا هو مذهب احمد بن حنبل رضى الله عنه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وهل يجب الاشهاد عليها؟ فيه قولان
(أحدهما)
يجب لقوله عز وجل " فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوى عدل منكم " ولانه استباحة بضع مقصود فلم يصح من غير اشهاد كالنكاح
(والثانى)
انه مستحب لانه لا يفتقر إلى الولى فلم يفتقر إلى الاشهاد كالبيع
(فصل)
ولا يجوز تعليقها على شرط، فإن قال راجعتك ان شئت فقالت شئت لم يصح، لانه استباحة بضع فلم يصح تعليقه على شرط كالنكاح، ولا يصح في حال الردة.
وقال المزني: انه موقوف فإن أسلمت صح، كما يقف الطلاق والنكاح على الاسلام.
وهذا خطأ لانه استباحة بضع فلم يصح الردة كالنكاح، ويخالف الطلاق، فإنه يجوز تعليقه على الشرط، والرجعه لا يصح تعليقها على الشرط وأما النكاح فانه يقف فسخه على الاسلام وأما عقده فلا يقف والرجعه كالعقد فيجب أن لا تقف على الاسلام
(فصل)
وان اختلف الزوجان فقال الزوج: راجعتك وأنكرت المرأة فان كان ذلك قبل انقضاء العدة فالقول قول الزوج، لانه يملك الرجعة فقبل اقراره فيها كما يقبل قوله في طلاقها حين ملك الطلاق، وان كان بعد انقضاء العدة

(17/269)


فالقول قولها لان الاصل عدم الرجعة ووقوع البينونة، وإن اختلفا في الاصابة فقال الزوج أصبتك فلى الرجعة وأنكرت المرأة فالقول قولها لان الاصل عدم الاصابة ووقوع الفرقة.
(الشرح) قوله: وهل تصح الرجعة من غير شهادة الخ، فجملة ذلك أنه فيه قولان
(أحدهما)
لا تصح الرجعة إلا بحضور شاهدين لقوله تعالى " فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوى عدل منكم " فأمر بالاشهاد على الرجعة والامر يقتضى الوجوب، ولانه استباحة بضع مقصود فكانت الشهادة شرطا فيه كالنكاح، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد (والقول الثاني) تصح من غير شهادة، وهو اختيار أبى بكر من الحنابلة وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول مالك وأبى حنيفة، لانها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر أن يأمر ابنه بمراجعتها ولم يأمره بالاشهاد، فلو كان شرطا لامر به، ولانه لا يفتقر إلى الولى فلم يفتقر إلى الاشهاد كالبيع والهبة وعكسه النكاح.
والآية محمولة على الاستحباب قال ابن قدامة من الحنابله: ولا خلاف بين أهل العلم في أن السنة الاشهاد.
فإن قلنا هي شرط فإنه يعتبر وجودها حال الرجعة، فإن ارتجع بغير شهادة لم يصح لان المعتبر وجودها في الرجعة دون الاقرار بها، إلا أن يقصد بذلك الاقرار الارتجاع فيصح.
(مسألة) قوله: ولا يجوز تعليقها على شرط الخ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: وإن قال: راجعتك إن شئت فقالت في الحال شئت، لم تصح الرجعة، لانه عقد يستبيح به البضع فلم يصح تعليقه على صفة كالنكاح.
وقال أيضا: وإن قال لها كلما طلقتك فقد راجعتك لم تصح الرجعة، لانه علق الرجعة
على صفة فلم تصح، كما لو قال راجعتك إذا قدم زيد، ولانه راجعها قبل أن يملك الرجعة عليها فلم يصح، كما لو قال لاجنبية طلقتك إذا نكحتك.
وإن طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا فارتدت المرأة ثم راجعها الزوج في

(17/270)


حال ردتها لم تصح الرجعة، فإن انقضت عدتها قبل أن ترجع إلى الاسلام بانت باختلاف الدين.
وإن رجعت إلى الاسلام قبل انقضاء عدتها افتقر إلى استئناف الرجعة.
وقال المزني: تكون الرجعة موقوفة كما لو طلقها في الردة.
وهذا خطأ لانه عقد استباحة بضع مقصود فلم يصح في حال الردة كالنكاح.
ويخالف الطلاق فإنه يصح تعليقه على الحظر والغرر، وكما أنه لا تصح الرجعة في ردتها فكذلك لا تصح في ردته كالنكاح، لان الرجعة تقرير للنكاح، والردة تنافى ذلك، فلم يصح اجتماعهما.
(مسألة) إذا قال الزوج راجعتك وأنكرت المرأة، فان كان قبل انقضاء عدتها فالقول قول الزوج، لانه يملك الرجعة فملك الاقرار بها كالزوج إذا أقر بطلاق زوجته.
وان انقضت عدتها فقال الزوج: كنت راجعتك قبل انقضاء عدتك.
وقالت الزوجة بل انقضت عدتي قبل ان يراجعني - ولا بينة للزوج - فقد نص الشافعي على أن القول قول الزوجة مع يمينها.
وكذا قال في الزوج إذا ارتد بعد الدخول ثم رجع إلى الاسلام، وقال رجعت إلى الاسلام قبل انقضاء عدتك، وقالت: بل انقضت عدتي قبل أن يرجع إلى الاسلام، فالقول قول الزوجة، وقال في نكاح المشركات: إذا أسلمت الزوجة بعد الدخول وتخلف الزوج ثم أسلم، فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء عدتك، وقالت الزوجه: بل أسلمت بعد انقضاء عدتي فالقول قول الزوج
واختلف أصحابنا في هذه المسائل على ثلاث طرق، فمنهم من قال: في الجميع قولان.
وهو اختيار القاضيين أبى حامد وأبى الطيب، أحدهما القول قول الزوج لان الزوجة تدعى أمرا يرفع النكاح، والزوج ينكره فكان القول قوله، لان الاصل بقاء النكاح.
والثانى أن القول قول الزوجه، لان الظاهر حصول البينونه وعدم الرجعة والاسلام.
والطريق الثاني: ان أظهر الزوج أولا الرجعة أو الاسلام ثم قالت الزوجه بعد ذلك: قد كانت عدتي انقضت قبل ذلك، فالقول قول الزوج، لانها ما دامت لم تظهر انقضاء العدة فالظاهر أن عدتها لم تنقض.

(17/271)


وإن أظهرت الزوجة انقضاء العدة أولا ثم قال الزوج كنت راجعتك وأسلمت قبل انقضاء العدة فالقول قولها، لانها إذا أظهرت انقضاء عدتها في وقت يمكن انقضاؤها فيه فالظاهر أنها بانت، فإذا ادعى الزوج الرجعة والاسلام قبله كان القول قولها لان الاصل عدم ذلك.
وإن أظهر الزوج الرجعة أو الاسلام في الوقت الذى أظهرت فيه انقضاء العدة ولم يستو أحدهما مع الآخر ففيه وجهان من أصحابنا من قال يقرع بينهما لاستوائهما في الدعوى.
ومنهم من قال لا يقرع بينهما بل لا تصح الرجعة ولا يجمع بينهما في النكاح، لانه يمكن تصديق كل واحد منهما بأن يكون قد راجعها أو أسلم في الوقت الذى انقضت فيه عدتها، فلم يصح اجتماعهما على النكاح، كما لو قال لامرأته: إن مت فأنت طالق فانها لا تطلق بموته، والطريق الثالث وهو اختيار أبى على الطبري أن قول كل واحد منهم مقبول فيما اتفقا عليه.
فان اتفقا أنه راجع أو أسلم في رمضان فقالت الزوجة إلا أن عدتي انقضت في شعبان وأنكرها الزوج فالقول قول الزوج، لان الاصل بقاء العدة
وإن اتفقا أن عدتها انقضت في رمضان إلا أن الزوج ادعى أنه كان راجعها أو أسلم في شعبان وأنكرت الزوجة ذلك فالقول قولها، لان الاصل عدم الرجعة والاسلام، وإذا ادعت انقضاء عدتها في أقل من شهر لم يقبل قولها في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين.
ولا يقبل في أقل من ذلك بحال، لانه لا يتصور عندنا أقل من ذلك.
وعند أحمد وأصحابه لا يقبل قولها في أقل من شهر إلا ببينة.
لان شريحا قال: إذا ادعت أنها حاضت ثلاث حيض في شهر واحد وجاءت ببينة من النساء العدول من بطانة أهلها ممن يرضى صدقه وعدله أنها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث وتغتسل عند كل قرء وتصلى فقد انقضت عدتها والا فهى كاذبة.
وقال له على بن أبى طالب " قالون " ومعناه بالرومية أصبت أو أحسنت، فأخذ أحمد بشهر على في الشهر فان ادعت ذلك في أكثر من شهر صدقها على حديث " ان المرأة أؤتمنت على فرجها " ولان حيضها في الشهر ثلاث حيض يندر جدا فرجح ببينة، ولا يندر

(17/272)


فيما زاد على الشهر كندرته فيه فقبل قولها من غير بينة، وقال أبو حنيفة: لا نصدق في أقل من ستين يوما.
وقال صاحباه: لا تصدق في أقل من تسعة وثلاثين يوما، لان أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام، فثلاث حيض تسعة أيام وطهران ثلاثون يوما، والخلاف في هذا ينبنى على الخلاف في أقل الحيض وأقل الطهر.
وان ادعت انقضاء عدتها بوضع الحمل فلا يخلو إما أن تدعى وضع الحمل التام أو أنها أسقطته لم يقبل قولها في أقل من ثمانين يوما من حين إمكان الوطئ بعد عقد النكاح، لان أقل سقط تنقضي به العدة ما أتى عليه ثمانون يوما، لانه
يكون نطفة أربعين يوما ثم يصير مضغة بعد الثمانين ولا تنقضي به العدة قبل أن يصير مضغة بحال، وهذا قول أحمد بن حنبل وأصحابه (فرع)
إذا طلق امرأته طلقة أو طلقتين فقال: طلقتك بعد أن أصبتك فعليك العدة ولى عليك الرجعة ولك السكنى والنفقة وجميع المهر.
وقالت الزوجة بل طلقني قبل الاصابة، فالقول قول الزوجة مع يمينها، لان الظاهر وقوع الفرقة بالطلاق والاصل عدم الاصابة.
إذا ثبت هذا فإنها إذا حلفت فلا عدة عليها ولا رجعة، ولا يجب لها نفقة ولا سكنى، لانها لا تدعى ذلك، وان كان مقرا لها به.
وأما المهر فإن كان في يد الزوج لم تأخذ الزوجة منه الا النصف لانها لا تدعى أكثر منه، وان كان الزوج مقرا بالجميع.
وان كان الصداق في يد الزوجة لم يرجع الزوج عليها بشئ لانه لا يدعيه وان نكلت عن اليمين فحلف ثبت له الرجعة عليها.
فأما النفقة والسكنى فالذي يقتضى المذهب أنها لا تستحقه لانها لا تدعيه.
وإن قال الزوج طلقتك قبل الاصابة فلا رجعة لى عليك ولا نفقة ولا سكنى لك ولك نصف المهر.
وقالت المرأة بل طلقتني بعد الاصابة فلك الرجعة ولى عليك النفقة والسكنى وجميع المهر، فالقول قول الزوج مع يمينه، لان الاصل عدم الاصابة.
إذا ثبت هذا فانه لا رجعة له عليها، سواء حلف أو لم يحلف، لانه

(17/273)


أقر بأنه لا يستحق ذلك، ويجب عليها العدة لانها مقرة بوجوبها عليها، وأما النفقة والسكنى - فان حلف أنه طلقها قبل الاصابة - لم تستحق عليه النفقة والسكنى، وإن نكل عن اليمين فحلفت استحقت ذلك عليه، وأما المهر فإن حلف لم يستحق عليه إلا نصفه سواء كان بيده أو بيدها، وإن نكل عن اليمين وحلفت استحقت جميع المهر، وهذا إذا لم يثبت بالبينة أو بإقرار الزوج انه قد
خلا بها.
وأما إذا ثبتت بالبينة أو بإقرار انه قد كان خلا بها فعلى القول الجديد لا تأثير للخلوة.
وقال في القديم: للخلوة تأثير، فمن أصحابنا من قال: أراد انه يرجح بها قول من ادعى الاصابة منهما.
ومنهم من قال: بل الخلوة كالاصابة، وقد مضى بيان ذلك.
(فرع)
قال في الام: إذا قال قد أخبرتني بانقضاء عدتها ثم قالت بعد هذا ما كانت عدتي منقضية فالرجعة صحيحة لانه لم يقر بانقضاء العدة، وإنما أخبر عنها، فإذا أنكرت ذلك فقد كذبت نفسها وكانت الرجعة صحيحة،
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن طلقها طلقة رجعية وغاب الزوج وانقضت العدة وتزوجت ثم قدم الزوج وادعى أنه راجعها قبل انقضاء العدة، فله أن يخاصم الزوج الثاني وله أن يخاصم الزوجة، فإن بدأ بالزوج نظرت فإن صدقه سقط حقه من النكاح ولا تسلم المرأة إليه، لان إقراره يقبل على نفسه دونها، وان كذبه فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم الرجعة، فان حلف سقط دعوى الاول، وان نكل ردت اليمين عليه، فان حلف وقلنا إن يمينه مع نكول المدعى عليه كالبينة حكمنا بأنه لم يكن بينهما نكاح، فان كان قبل الدخول لم يلزمه شئ، وإن كان بعد الدخول لزمه مهر المثل وان قلنا انه كالاقرار لم يقبل إقراره في اسقاط حقها، فان دخل بها لزمه المسمى، وان لم يدخل بها لزمه نصف المسمى.
ولا تسلم المرأة إلى الزوج الاول على القولين، لانا جعلناه كالبينة أو كالاقرار في حقه دون حقها.
وإن بدا بخصوصة الزوجة فصدقته لم تسلم إليه، لانه لا يقبل

(17/274)


إقرارها على الثاني كما لا يقبل إقراره عليها، ويلزمها المهر لانها أقرت أنها
حالت بينه وبين بضعها، فان زال حق الثاني بطلاق أو فسخ أو وفاة ردت إلى إلى الاول لان المنع لحق الثاني وقد زال.
وان كذبته فالقول قولها، وهل تحلف على ذلك؟ فيه قولان:
(أحدهما)
لا تحلف لان اليمين تعرض عليها لتخاف فتقر.
ولو أقرت لم يقبل إقرارها فلم يكن في تحليفها فائدة
(والثانى)
تحلف لان في تحليفها فائدة، وهو أنها ربما أقرت فيلزمها المهر وإن حلفت سقطت دعواه، وإن نكلت ردت اليمين عليه، فإذا حلف حكم له بالمهر.

(فصل)
إذا تزوجت الرجعية في عدتها وحبلت من الزوج ووضعت وشرعت في إتمام العدة من الاول وراجعها صحت الرجعة لانه راجعها في عدته فان راجعها قبل الوضع ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لانها في عدة من غيره فلم يملك رجعتها، والثانى يصح بما بقى عليها من عدته لانه حكم الزوجية باق وانما حرمت لعارض فصار كما لو أحرمت (الشرح) تصح الرجعة من غير علم الزوجة، لان ما لا يفتقر إلى رضاها لم تفتقر صحته إلى علمها كالطلاق.
إذا ثبت هذا فان انقضت عدتها فتزوجت بآخر وادعى الزوج الاول أنه كان راجعها قبل انقضاء العدة منه، وقال الزوج الثاني بل انقضت عدتها قبل ان يراجعها نظرت فان أقام الزوج الاول بينة أنه راجعها قبل انقضاء عدتها منه حكم بتزويجها للاول وبطل نكاح الثاني، سواء دخل بها أو لم يدخل وبه قال على بن ابى طالب وأكثر الفقهاء.
وقال مالك: ان دخل بها الثاني فهو أحق بها، وان لم يدخل بها الثاني ففيه روايتان، احداهما أنه أحق بها، والثانى أن الاول أحق بها.
وروى ذلك عن
عمر رضى الله عنه، دليلنا قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم - إلى قوله تعالى - والمحصنات من النساء " والمحصنة من لها زوج، وهذه لها زوج وهو الاول،

(17/275)


فلم يصح نكاح الثاني.
إذا ثبت هذا - فإن كان الثاني لم يدخل بها - فرق بينهما ولا شئ عليه، وإن دخل بها فرق بينهما وعليه مهر مثلها وعليها العدة، لانه وطئ شبهة، ولا تحل للاول حتى تنقضي عدتها من الثاني، وإن لم يكن مع الاول بينة فله أن يخاصم لزوج الثاني، وله أن يخاصم الزوجة الاولى أو يبتدئ بخصومة الثاني لانه أقرب، فإن بدأ بخصومة الثاني نظرت في الثاني فإن أنكر وقال لم يراجعها إلا بعد انقضاء عدتها فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عدم رجعة الاول، وكيف يحلف؟ قال الشيخ أبو حامد في التعليق: يحلف أنه لم يراجعها في عدتها.
وقال ابن الصباغ في الشامل: يحلف أنه لم يعلم أنه راجعها في عدتها، لانه يحلف على نفى فعل غيره، وهذا أقيس، فان حلف الثاني سقطت دعوى الاول عنه، وإن نكل الثاني عن اليمين ردت اليمين على الاول، فان حلف أنه راجعها قبل انقضاء عدتها منه سقط حق الثاني من نكاحها، لان يمين الاول كبينة أقامها في أحد القولين.
أو كإقرار الثاني بصحة رجعة الاول، وذلك يتضمن إسقاط حق الثاني منهما فان صدقت الزوجة الاول على صحة رجعته سلمت إليه، فان كان الثاني لم يدخل بها فلا شئ عليه وتسلم الزوجة في الحال.
وإن كان الثاني دخل بها استحقت عليه مهر مثلها ولا تسلم إلى الاول الا بعد انقضاء عدتها من الثاني.
وإن أنكرت الزوجة صحة الرجعة من الاول - فان قلنا إن يمين الاول كبينة أقامها الاول - كان كأن لم يكن بين الثاني وبينها نكاح، فان كان قبل الدخول فلا شئ لها عليه، وان كان بعد الدخول فلها عليه مهر مثلها
وان قلنا إن يمين الاول يكذبه إقرار الثاني فلا يقبل إقراره في إسقاط حقها بل إن كان قبل الدخول لزمه نصف مهرها المسمى، وإن كان بعد الدخول لزمه جميع المسمى، ولا تسلم المرأة إلى الاول على القولين، لان يمين الاول كبينة أقامها أو كإقرار الثاني في حق الثاني لا في حقها.
وإن صدق الثاني الاول أنه راجعها قبل انقضاء عدته - فإن صدقته المرأة أيضا كان كما لو أقام الاول البينة، فان كان قبل الدخول فلا شئ لها على الثاني، وتسلم الزوجة إلى الاول في الحال، وان كان بعد الدخول فلها على الثاني مهر مثلها

(17/276)


وله عليها العدة ولا تسلم إلى الاول إلا بعد انقضاء عدتها من الثاني، وإن أنكرت الزوجة صحة رجعة الاول بعد أن صدقه الثاني فالقول قولها مع يمينها، لان الاصل عدم الرجعة، ويحكم بانفساخ نكاح الثاني، لانه أقر بتحريمها، فإن كان قبل الدخول لزمه نصف المسمى، وان كان بعد الدخول لزمه جميع المسمى، وان بدأ الزوج الاول بالخصومه مع الزوجه نظرت فإن صدقته لم يقبل إقرارها لتعلق حق الثاني بها - وهل يلزمها المهر للاول؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ.

(أحدهما)
لا يلزمها له شئ، للان إقرارها لم يقبل بحق الثاني، فلم يلزمها غرم كما لو ارتدت أو قتلت نفسها
(والثانى)
ولم يذكر المحاملى والشيخ أبو إسحاق هنا غيره أنه يلزمها للاول المهر لانها فوتت بضعها عليه بالنكاح الثاني، فهو كما لو شهد عليه شاهدان أنه طلقها ثم رجعا عن شهادتهما فإنه يجب عليهما، فكذلك هذا مثله، وان أنكرت فالقول قولها لان الاصل عدم الرجعة، وهل يلزمها أن تحلف؟ قال الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق: فيه قولان
(أحدهما)
لا يلزمها أن تحلف، لان اليمين انما تعرض لتخاف فتقر، ولو
أقرت لم يقبل إقرارها للاول بحق الثاني فلا فائدة في ذلك
(والثانى)
يلزمها أن تحلف، لانه ربما خافت من اليمين فأقرت بصحة رجعة الاول فلزمها له المهر.
قال ابن الصباغ.
يبنى على الوجهين، إذا أقرت للاول، فان قلنا هناك يلزمها له المهر لزمها أن تحلف له لجواز أن تخاف فتقر فيلزمها المره.
وان قلنا لا يلزمها المهر لم يلزمها أن تحلف لانه لا فائدة في ذلك، فان قلنا لا يمين عليها فلا كلام.
وان قلنا عليها اليمين، فان حلفت سقطت دعوى الزوج عنها، وان نكلت ردت اليمين على الاول، فإذا حلف احتمل أن يبنى على القولين في يمين المدعى مع نكول المدعى عليه.
فان قلنا انها كالبينه لزمها المهر للاول، وان قلنا انها كالاقرار فهل يلزمها المهر للاول؟ على الوجهين اللذين حكاهما ابن الصباغ، ولا تسلم الزوجه إلى الاول مع انكار الثاني على القولين، لانها كالبينه أو كالاقرار في حق المدعيين وهما الزوج الاول والزوجة لا في حق الثاني وكل موضع قلنا لا تسلم المرأة إلى

(17/277)


الاول إذا أقرت له بحق الثاني فزالت زوجية الثاني بموته أو طلاقه، وسلمت إلى الاول بعد انقضاء عدة الثاني منها، لان المنع من تسليمها إلى الاول لحق الثاني وَقَدْ زَالَ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
إذا طلق الحر امرأته ثلاثا أو طلق العبد امرأته طلقتين حرمت عليه ولا يحل له نكاحها حتى تنكح زوجا غيره ويطأها.
والدليل عليه قوله عز وجل (فإن طلقها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زوجا غيره) وروت عائشة رضى الله عنها أن رفاعة القرظى طلق امرأته بت طلاقها فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فجاءت النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ الله انى كنت عند رفاعة
وطلقني ثلاث تطليقات فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة، فَتَبَسَّمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لعلك تريدين ان ترجعي إلى رفاعة، لا والله تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك: ولا تحل إلا بالو طء في الفرج، فإن وطئها فيما دون الفرج، أو وطئها في الموضع المكروه لم تحل، لان النبي صلى الله عليه وسلم علق على ذوق العسيلة، وذلك لا يحصل الا بالوطئ في الفرج، وأدنى الوطئ أن يغيب الحشفة في الفرج لان أحكام الوطئ تتعلق به ولا تتعلق بما دونه، فإن أولج الحشفة في الفرج من غير انتشار لم تحل لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بذوق العسيلة، وذلك لا يحصل من غير انتشار.
وإن كان بعض الذكر مقطوعا فعلى ما ذكرناه في الرد بالعيب في النكاح.
وإن كان مسلولا أحل بوطئه، لانه في الوطئ كالفحل وأقوى منه ولم يفقد الا الانزال، وذلك غير معتبر في الاحلال.
وان كان مراهقا أحل لانه كالبالغ في الوطئ، وإن وطئت وهى نائمة أو مجنونة، أو استدخلت هي ذكر الزوج وهو نائم أو مجنون، أو وجدها على فراشه فظنها غيرها فوطئها حلت لانه وطئ صادف النكاح.

(17/278)


(فصل)
فإن رآها رجل أجنبي فظنها زوجته فوطئها أو كانت أمة فوطئها مولاها لم تحل لقوله عز وجل حتى تنكح زوجا غيره، وإن وطئها الزوج في نكاح فاسد كالنكاح بلا ولى ولا شهود أو في نكاح شرط فيه أنه إذا أحلها للزوج الاول فلا نكاح بينهما ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يحلها لانه وطئ في نكاح غير صحيح فلم تحل كوطئ الشبهة
(والثانى)
أنه يحلها لما روى عبد الله إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
لعن الله المحلل والمحلل له.
فسماه محللا، ولانه وطئ في نكاح فأشبه الوطئ في النكاح الصحيح.

(فصل)
وإن كانت المطلقة أمة فملكها الزوج قبل أن ينكحها زوجا غيره فالمذهب أنها لا تحل لقوله عزوجل: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زوجا غيره ولان الفرج لا يجوز أن يكون محرما عليه من وجه مباحا من وجه.
ومن أصحابنا من قال يحل وطؤها لان الطلاق يختص بالزوجية فآثر التحريم في الزوحية
(فصل)
وإن طلق امرأته ثلاثا وتفرقا ثم ادعت المرأة أنها تزوجت بزوج أحلها جاز له أن يتزوجها لانها مؤتمنة فيما تدعيه من الاباحة، فإن وقع في نفسه أنها كاذبة فالاولى أن لا يتزوجها احتياطا (الشرح) حديث عائشة أخرجه الشيخان وأصحاب السنن وأحمد في مسنده بلفظ " جاءت امرأة رفاعة القرظى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وانما معه مثل هدبة الثوب، فقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " وعند أبى داود من غير تسمية الزوجين واللفظ بمعناه وقد أخرج نحوه أيضا ابو نعيم في الحليه.
قال الهيثمى في مجمع الزوائد: فيه أبو عبد الملك لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح، ولهذا الحديث متابعات، منها ما رواه أحمد والنسائي عن ابن عمر قال " سئل نبى الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ويتزوجها آخر، فيغلق الباب ويرخى الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، هل تحل للاول؟ قال لا حتى يذوق العسيلة " وهذا

(17/279)


الحديث من رواية سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان الاحمري عن ابن عمر.
وروى أيضا من طريق شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم ابن عبد الله عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
قال النسائي: والطريق الاول أولى بالصواب.
قال الحافظ بن حجر: وإنما قال ذلك لان الثوري أتقن وأحفظ من شعبه، وروايته أولى بالصواب من وجهين
(أحدهما)
أن شيخ علقمه هو رزين بن سليمان كما قال الثوري لا سالم بن رزين كما قال شعبه، فقد رواه جماعه عن شعبه كذلك منهم غيلان بن جامع أحد الثقات (ثانيهما) أن الحديث لو كان عند سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا لم يخالفه سعيد ويقول بغيره اه وعن عائشة عند أبى داود بنحو حديث ابن عمر، وعند النسائي عن ابن عباس بنحوه أيضا، وعن أبى هريرة عند الطبراني وابن أبى شيبة بنحوه.
وكذلك أخرجه الطبراني عن أنس والبيهقي عنه.
وأخرج الطبراني حديثا آخر عن عائشة بإسناد رجاله ثقات " أن عمرو بن حزم طلق العميصاء فنكحها رجل فطلقها قبل أن يمسها، فسألت النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا، حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته ".
أما أمرأة رفاعة فقد قيل في اسمها: تميمة.
وقيل سهيمة.
وقيل أميمة.
والقرظى بضم القاف وفتح الراء نسبة إلى بنى قريظه.
وعبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاى وليس بالتصغير كما في الزبير بن العوام.
بل هو كأمير وهو ابن باطا.
وقوله " هدبة الثوب " بفتح الهاء وسكون المهملة بعدها باء موحدة مفتوحة هي طرف الثوب الذى لم ينسج، مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن، هكذا أفاده ابن حجر.
وفى المصباح هدب العين ما نبت من الشعر على أشفارها والجمع أهداب مثل قفل وأقفال: ورجل أهدب طويل الاهداب.
وهدبة الثوب طرءته مثال غرفة
وضم الدال للاتباع لغة والجمع هدب مثل غرفة وغرف.
وفى القاموس الهدب بالضم وبضمتين شعر أشفار العين وخمل الثوب واحدهما بهاء.
وكذا في مجمع

(17/280)


البحار نقلا عن النووي أنها بضم هاء وسكون دال: ومرادها أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار وقوله " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " العسيلة مصغرة في الموضعين واختلف في توجيه فقيل هون تصغير العسل، لان العسل مؤنث.
جزم بذلك القزاز.
قال وأحسب التذكير لغة وقال الازهرى يذكر ويؤنث وقبل لان العرب إذا حقرت الشئ أدخلت فيه هاء التأنيث.
وقيل المراد قطعة من العسل والتصغير للتقليل أشارة إلى أن القدر القليل كاف في تحصيل ذلك بأن يقع تغييب الحشفة في الفرج وقيل: معنى العسيلة النطفة، وهذا يوافق قول الحسن البصري.
وقال جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن الجماع.
وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة.
أما حديث " لعن الله المحلل والمحلل له " ففى الترمذي ومسند أحمد من حديث عبد الله بن مسعود.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفى المسند مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعا وإسناده حسن، وفيه عن على عليه السلام عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ وفى سنن ابن ماجه من حديث عقبه ابن عامر قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم " ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله.
قال هو المحلل.
لعن الله المحلل والمحلل له.
فهؤلاء الاربعة من سادات الصحابة رضى الله عنهم وقد شهدوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلعنه أصحاب التحليل وهم المحلل والمحلل له.
قال ابن القيم: وهذا إما خبر عن الله فهو خبر صدق وإما دعاء فهو مستجاب قطعا.
وهذا يفيد انه من الكبائر الملعون فاعلها أما أحكام هذين الفصلين، فإنه إذا طلق الحر امرأته ثلاثا، أو طلق العبد امرأته طلقتين بانت منه وحرم عليه استمتاعها والعقد عليها حتى تنقضي عدتها عنه بتزوج غيره ويصيبها ويطلقها، أو يموت عنها وتنقضي عدتها منه، وبا قال الفقهاء كافة إلا سعيد بن المسيب فإنه قال: إذا تزوجها وفارقها حلت للاول وان لم يصيبها الثاني فقد قال ابن المنذر: اجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للاول إلا

(17/281)


سعيد بن المسيب.
ثم ساق بسنده الصحيح عنه ما يدل على ذلك.
قال ولا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج.
ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن.
وقد نقل أبو جعفر النحاس في معاني القرآن وعبد الوهاب الملكى في شرح الرسالة عن سعيد بن جبير مثل قول سعيد بن المسيب وحكى ابن الجوزى عن داود أنه وافق في ذلك سعيدا.
قال القرطبى: ويستفاد من الحديث على قول الجمهور أن الحكم يتعلق بأقل ما ينطلق عليه الاسم خلافا لمن قال لا بد من حصول جميعه.
واستدل بإطلاق الذوق لهما على اشتراط علم الزوجين به حتى لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم يكف ذلك ولو أنزل هو.
ونقل ذلك ابن المنذر عن جميع الفقهاء ويستدل من حديث عائشة وابن عمر وغيرهما على جواز رجوعها إلى زوجها الاول إذا حصل الجماع من الثاني ويعقبه الطلاق منه، لكن شرط المالكية ونقل عن عثمان وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني، ولا إرادة تحليلها للاول.
وقال الاكثر من الفقهاء: ان شرط ذلك في العقد فسد وإلا فلا.
قال في البيان في حديث عائشة: وانما أراد صلى الله عليه وسلم بذلك - يعنى بالعسيلة - لذة الجماع، وسماه العسيلة.
فثبت نكاح الثاني بالآية " فإن طلقها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زوجا غيره " وثبتت الاصابة بالسنة، وهو إجماع الصحابة، لانه روى عن عمر وعلى وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة، ولا يعرف لهم مخالف اه إذا ثبت هذا فإن أقل الوطئ الذى يتعلق به الاحلال للاول أن تغيب الحشفة في الفرج، لان أحكام الوطئ من الغسل والحدود وغيرهما تتعلق بذلك.
ولا يتعلق بما دونه، فأن أولج الحشفة في الفرج وواقعها وتجاوت معه باللذة وأنزل فقد حصل الاحلال وزيادة، وإن غيب الحشفه في الفرج من غير انتشار أو غيبه في الموضع المكروه أو وطئها فيما دون الفرج لم يتعلق به الاحلال.
لان النبي صلى الله عليه وسلم علقه على ذوق العسيلة، وذلك لا يحصل بما ذكرناه.
(فرع)
وإن تزوجها صبى فجامعها - فإن كان صبيا غير مراهق كابن سبع

(17/282)


سنين فما دون - لا يحكم بمجامعته ولم يحللها للاول، لان هذا الجماع لا يلتذ به فهو كما لو أدخل أصبعه في فرجها، وإن كان مراهقا ينتشر عليها أحلها للاول، وقال مالك لا يحللها دليلنا أنه جماع ممن يجامع مثله فأحلها للاول كالبالغ، وإن كان مشكول الانثيين فغيب الحشفة في الفرج أحلها للاول، لانه جماع يلتذ به فهو كغيره وإن كان مقطوع الذكر من أصله لم تحل للاول بجماع لانه لا يوجد منه الجماع، وإن قطع بعضه - فإن بقى من ذكره قدر الحشفة واولجه - أحلها للاول، وإن كان الذى بقى منه أو الذى أولج فيها دون الحشفة لم يحلها للاول لانه لا يلتذ به.
وينسحب هذا الحكم على العبد والامة لان الحديث لم يفرق بين الحر والعبد
ولا بين الحرة والامة.
(فرع)
وإن أصابها الزوج الثاني وهى محرمة لحج أو عمرة أو صائمة أو حائض أحلها للاول، وقال مالك: لا يحلها.
دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا حتى تذوق العسيلة " ولم يفرق، ولانها إصابة يستقر بها المهر المسمى، فوقعت بها الاباحة للاول كما إذا وطئها محلة مفطرة طاهرة واشترط أصحاب أحمد أن يكون الوطئ حلالا، فإن وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام من أحدهما أو منهما، أو وأحدهما صائم فرضا لم تحل، لانه وطئ حرام لحق الله تعالى فلم يحصل به الاحلال كوطئ المرتدة، وقد خالفهم ابن قدامة منهم فقال: وظاهر النص حلها، وهو قوله تعالى " حتى تنكح زوجا غيره " وهذه قد نكحت زوجا غيره، وأيضا قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَتَّى تَذُوقِي عسيلته ويذوق عسيلتك " وهذا قد وجد ولانه وطئ في نكاح صحيح في محل الوطئ على سبيل التمام فأحلها كالوطئ الحلال.
وكما لو وطئها وقد ضاق وقت الصلاة أو وطئها وهى مريضة يضرها الوطئ وهذا أصح إن شاء الله.
وهو مذهب أبى حنيفة والشافعي.
وأما وطئ المرتدة فلا يحلها، سواء وطئها في حال ردتهما أو ردتهما، أو وطئ المرتد المسلمة، لانه ان لم يعد المرتد منهما إلى الاسلام تبين أن الوطئ في غير

(17/283)


نكاح.
وإن عاد إلى الاسلام في العدة فقد كان الوطئ في نكاح غير تام، لان سبب البينونة حاصل فيه.
وهكذا لو أسلم أحد الزوجين فوطئها الزوج قبل اسلام الآخر لم يحلها لذلك.
(فرع)
وان طلق مسلم ذمية ثلاثا فتزوجت بذمي وأصابها ثم فارقها حلت للمسلم.
وقال مالك: لا تحل.
دليلنا أنه اصابة من زوج في نكاح صحيح فحلت
للاول كما لو تزوجها مسلم.
وان تزوجها الثاني فجن فأصابها في حال جنونه، أو جنت فأصابها في حال جنونها أو وجدها الزوج على فراشه فظنها أجنبية فوطئها فبان أنها زوجته حلت للاول بعد مفارقة الثاني، لانه ايلاج تام صادف زوجية ولم يفقد الا القصد، وذلك غير معبتر في الاصابة كما قلنا في استقرار المسمى (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: وان كانت الاصابة بعد ردة أحدهما ثم رجع المرتد منهما لم تحلها الاصابة لانها محرمة في تلك الحال.
وجملة ذلك أن المطلقة ثلاثا إذا تزوجت بآخر ثم ارتد أحدهما أو ارتدا ووطئها في حال الردة لم يحلها للاول، لان الوطئ انما ينتج إذا حصل في نكاح صحيح تام، والزوجية ههنا متشعثة بالردة.
وقال المزني: هذه المسألة محال لانهما ان ارتدا أو ارتد أحدهما قبل الدخول انفسخ النكاح بنفس الردة، وإن ارتد أو ارتد أحدهما بعد الدخول فقد حصل الاحلال بالوطئ قبل الردة فلا تؤثر الردة.
قال أصحابنا: ليس بمحال، بل تتصور على قوله القديم الذى يقول: إن الخلوة كالاصابة، فإذا خلا بها ثم ارتدا أو أحدهما فعليها العدة، فما دامت في العدة فالزوجية قائمة وتتصور على قوله الجديد بأن يطأها فيما دون الفرج فسبق الماء إلى الفرج أو تستدخل ماءه ثم يرتد أحدهما فيجب عليها العدة أو؟ طأها في الموضع المكروه فيرتدان أو أحدهما فيجب عليها العدة، فيتصور هذا في هذه المواضع الثلاثة.
(مسألة) إذا طلقها ثلاثا فانقضت عدتها منه فوجدها رجل على فراشه فظنها

(17/284)


زوجته أو أمته فوطئها، أو كانت أمة الآخر فوطئها سيدها لم تحل للاول لقوله
تعالى " حتى تنكح زوجا غيره " هذا ليس بزوج.
وإن اشتراها زوجها قبل أن تنكح زوجا غيره فهل يحل له وطؤها بالملك؟ فيه وجهان: أحدهما يحل له وطؤها لان الطلاق من خصائص الزوجية فأثر في تحريم الوطئ بالزوجية دون ملك اليمين.
والثانى لا تحل له وهو المذهب لقوله تعالى " حتى تنكح زوجا غيره " ولم يفرق، ولان كل امرأة يحرم عليه نكاحها لم يجز له وطؤها بملك اليمين كالملاعنة وإن نكحها رجل نكاحا فاسدا ووطئها فهل تحل للاول؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يحلها لانه وطئ في نكاح فاسد فهو كوطئ الشبهة
(والثانى)
يحلها لقوله صلى الله عليه وسلم " لعن الله المحلل والمحلل له " فسماه محللا، ولانه وطئ في نكاح فأشبه النكاح الصحيح.
قال في الاملاء: وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا فانقضت عدتها فجاءها رجل فقال: توقفي فلعل زوج قد راجعك لم يلزمها التوقف لان انقضاء العدة قد وجد في الظاهر، والرجعة أمر محتمل فلا يترك الظاهر للمحتمل.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان تزوجت المطلقة ثلاثا بزوج وادعت عليه أنه أصابها وأنكر الزوج لم يقبل قولها على الزوج الثاني في الاصابة ويقبل قولها في الاباحة للزوج الاول لانها تدعى على الزوج الثاني حقها وهو استقرار المهر ولا تدعى على الاول شيئا وانما تخبره عن أمر هي فيه مؤتمنه فقبل، وان كذبها الزوج الاول فيما تدعيه على الثاني من الاصابة ثم رجع فصدقها جاز له أن يتزوجها لانه قد لا يعلم أنه أصابها ثم يعلم بعد ذلك.
وان ادعت على الثاني أنه طلقها وأنكر الثاني للاول نكاحها لانه ادا لم يثبت الطلاق فهى باقية على نكاح الثاني فلا يحل للاول نكاحها، ويخالف إذا
اختلفا في الاصابة بعد الطلاق لانه ليس لاحد حق في بضعها فقبل قولها
(فصل)
إذا عادت المطلقة ثلاثا إلى الاول بشروط الاباحة ملك عليها

(17/285)


ثلاث تطليقات، لانه قد استوفى ما كان يملك من الطلاق الثلاث، فوجب أن يستأنف الثلاث، فإن طلقها طلقة أو طلقتين فتزوجت بزوج آخر فوطئها ثم أبانها رجعت إلى الاول بما بقى من عدد الطلاق.
لانها عادت قبل استيفاء العدد فرجعت بما بقى، كما لو رجعت قبل أن تنكح زوجا غيره.
(الشرح) إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا فجاءت إلى الذى طلقها وادعت أن عدتها منه قد انقضت وأنها قد تزوجت بآخر وأصابها وطلقها الثاني وانقضت عدتها، وكان قد مضى من يوم الطلاق زمان يمكن صدقها فيه.
جاز للاول أن يتزوجها لانها مؤتمنه فيما تدعيه من ذلك، فإن وقع في نفس الزوج كذبها فالورع له أن لا يتزوجها، فإن نكحها جاز لان ذلك مما لا يتوصل إلى معرفته إلا من جهتها، وان كانت عنده صادقة لم يكره له تزويجها، ويستحب له أن يبحث عن ذلك ليعرف به صدقها، فإن لم يبحث عن ذلك جاز، فإن رجعت المرأة عما أخبرت به نظرت - فإن كان قبل أن يعقد عليها الاول - لم يجز له العقدة عليها وان كان بعد ما عقد عليها لم يقبل رجوعها، لان في ذلك ابطالا للعقد الذى لزمها في الظاهر.
(فرع)
وان طلق امرأته ثلاثا فتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها وطلقها الثاني فادعت الزوجة على الثاني أنه طلقها بعد أن أصابها وأنكر الثاني الاصابة، فالقول قوله مع يمينه أنه ما أصابها، لان الاصل عدم الاصابة ولا يلزمه الا نصف المسمى ويلزمها العقد للثاني لانها مقرة بوجوبها، فإن صدقها الاول أن الثاني قد أصابها في النكاح، هل له أن يتزوجها؟ لان قولها مقبول في اباحتها
للاول، وان لم يقبل على الثاني.
فإن قال الاول: أنا أعلم أن الثاني لم يصبها لم يجز له أن يتزوجها، فإن عاد وقال علمت أن الثاني أصابها، حل له أن يتزوجها لانه قد يظن أنه لم يصبها ثم يعلم أنه أصابها فحلت له.
(مسألة) الفرقة التى يقع بها التحريم بين الزوجين على أربعة أضرب: (الاول) فرقة يقع بها التحريم، ويرتفع ذلك التحريم بالرجعة وهو الطلاق

(17/286)


الرجعى على ما مضى وهذا أخفها (والضرب الثاني) فرقة يرتفع بها التحريم بعقد نكاح مستأنف قبل زوج، وهو أن تطلق غير المدخول بها طلقة أو طلقتين أو تطلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بغير عوض ولا يسترجعها حتى تنقضي عدتها أو يطلقها طلقة أو طلقتين بعوض أو يجد أحدهما بالآخر عيبا فيفسخ النكاح، أو بعسر الزوج بالمهر والنفقة فتفسخ الزوجة النكاح فلا رجعة للزوج في هذا كله وانما يرتفع التحريم بعقد نكاح مستأنف ولا يشترط أن يكون ذلك بعد زوج واصابة، وهذا الضرب أغلظ من الاول.
(الضرب الثالث) فرقة يقع بها التحريم ولا يرتفع ذلك التحريم الا بعقد مستأنف بعد زوج واصابه.
وهو أن يطلق الرجل أمرأته ثلاثا، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها، فيحرم عليه العقد عليها الا بعد زوج واصابه على ما سبق.
وهذا أغلظ من الاوليين (والضرب الرابع) فرقة يقع بها التحريم على التأبيد لا يرتفع بحال، فهى الفرقة باللعان على ما يأتي في اللعان.
وهذا أغلظ الفرق إذا ثبت هذا فإن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا في عدتها، فانها تكون عنده على ما بقى له من عدد الطلاق، وان طلق امرأته ثلاثا ثم تزوجها بعد زوج
فانه يملك عليها ثلاث طلقات.
وهذا اجماع لا خلاف فيه، وان أبان امرأته بدون الثلاث حتى انقضت عدتها ثم تزوجها قبل أن تتزوج زوجا غيره فانها تكون عنده ما بقى من عدد الثلاث.
وهذا أيضا لا خلاف فيه.
وان تزوجها بعد أن تزوجت غيره فانها تعود إليه عندنا على ما بقى من عدد الثلاث لا غير.
وبه قال في الصحابة عمر وعلى وأبو هريرة.
ومن الفقهاء مالك والاوزاعي والثوري وابن أبى ليلى ومحمد بن الحسن وزفر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: تعود إليه بالثلاث.
وقال ابن عباس بمثل ذلك.
دليلنا أن اصابة الزوج ليست شرطا في الاباحه للاول فلم تؤثر في الطلاق كإصابة الشبهه.
والله تعالى أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل

(17/287)