المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

كتاب النفقات

(باب نفقة الزوجات)
إذا سلمت المرأة نفسها إلى زوجها وتمكن من الاستمتاع بها ونقلها إلى حيث يريد، وهما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح، وجبت نفقتها، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ الناس فقال " اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وإن امتنعت من تسليم نفسها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أو في منزل دون منزل أو في بلد لم تجب النفقة لانه لم يوجد التمكين التام فلم تجب النفقة كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع، أو سلم في موضع دون موضع، فإن عرضت عليه وبذلت له التمكين التام والنقل إلى حيث يريد وهو حاضر، وجبت عليه النفقة لانه وجد التمكين التام.
وإن عرضت عليه وهو غائب لم يجب حتى يقدم هو أو وكيله، أو يمضى زمان لو أراد المسير لكان يقدر على أخذها، لانه لا يوجد التمكين التام إلا بذلك وإن لم تسلم إليه ولم تعرض عليه حتى مضى على ذلك زمان لم تجب النفقة، لان
النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضى الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين.

(18/235)


لم ينفق إلا من حين دخلت عليه ولم يلتزم نفقتها لما مضى، ولانه لم يوجد التمكين التام فيما مضى فلم يجب بدله، كما لا يجب بدل ما كلف من المبيع في يد البائع قبل التسليم.

(فصل)
وإن سلمت إلى الزوج أو عرضت عليه وهي صغيرة لا يجامع مثلها ففيه قولان: أحدهما تجب النفقة لانها سلمت من غير منع.
والثانى لا يجب وهو الصحيح لانه لم يوجد التمكين التام من الاستمتاع، وإن كانت الكبيرة والزوج صغير ففيه قولان: أحدهما لا تجب لانه لم يوجد التمكين من الاستمتاع.
والثانى تجب وهو الصحيح لان التمكين وجد من جهتها وإئما تعذر الاستيفاء من جهته فوجبت النفقة، كما لو سلمت إلى الزوج وهو كبير فهرب منها، وإن سلمت وهى مريضة أو رتفاء أو نحيفة لا يمكن وطؤها أو الزوج مريض أو مجبوب أو حسيم لا يقدر على الوطئ وجبت النفقة لانه وجد التمكين من الاستمتاع، وما تعذر فهو بسبب لاتنسب فيه إلى التفريط (الشرح) حديث جابر جزء من حديث جابر الطويل في الحج، وقد ورد بمعناه عن عمرو بن الاحوص عند أصحاب السنن كلهم " أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال، استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبعنوا عليهن سبيلا إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا اليهن في كسوتهن وطعامهن "
أما خبر عائشة فقد أخرجه أحمد والبخاري ومسلم بلفظ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين وأدخلت عليه وهي بنت تسع سنين ومكثت عنده تسعا " وفي رواية لاحمد ومسلم " تزوجها وهى بنت سبع سنين وزفت إليه وهي بنت تسع سنين " أما الاحكام فإن الاصل في وجوب نفقة الزوجات من الكتاب قوله تعالى

(18/236)


والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " والمولود له هو الزوج، وانما نص على وجوب نفقة الزوجات حال الولادة ليدل على أن النفقة تجب لها حال اشتغالها عن الاستمتاع بالنفاس لئلا يتوهم متوهم أنه لا يجب لها وقوله تعالى " فإن خفتم أن لاتعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا " قال الشافعي: معناه أن لا يكثر عيالكم ومن تمونونه.
وقيل إن أكثر السلف قالوا معنى أن لا تعولوا أن لا تجوروا، يقال عالى يعولوا عولا إذا جار.
وعال يعيل إذا كثر عياله إلا زيد بن أسلم فإنه قال.
معناه أن لا يكثر عيالكم وقول النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لذلك حيث قال " ابدا بنفسك ثم بمن تعول " ويدل على نفقة الزوجات قوله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم " وقوله تعالى، لينفق ذو سعة من سعته.
ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا تكلف نفس إلا ما آتاها " ومعنى قوله تعالى " قدر عليه " أي ضيق عليه ومن السنة ما رواه حكيم بن معاوية القشيرى عن أبيه قال " قلت يارسول الله ماحق الزوجة؟ فقال أن تطعمها إذا طعمت وأن تكسوها إذا اكتسبت " أخرجه
النسائي وابن ماجه وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححاه، وعلق البخاري طرفا منه وصححه الدارقطني في العلل.
وما قيده المصنف هنا عن جابر، وقد وردت أحاديث منها حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تصدقوا قال رجل عندي دينار، قال تصدق به على نفسك.
قال عندي دينار آخر.
قال تصدق به على زوجتك.
قال عندي دينار آخر، قال تصدق به على ولدلك، قال عندي دينار آخر.
قال تصدق به على خادمك: قال عندي دينار آخر، قال أنت أبصر به " ورواه أحمد والنسائي، ورواه أبو داود بتقديم الولد على الزوجة.
واحتج به أبو عبيد بتحديد الغنى بخمسة دنانير ذهبا، تقوية بحديث ابن مسعود في الخمسين درهما،

(18/237)


إذا ثبت هذا فلا يحلو حال الزوجين من أربعة أقسام (1) أن يكونا بالغين (2) أن يكون الزوج بالغا والزوجة صغيرة (3) أن يكون الزوج صغيرا والزوجة كبيرة (4) أن يكونا صغيرين فإن كانا بالغين وسلمت الزوجة نفسها إلى الزوج تسليما تاما بأن تقول: سلمت نفسي اليك وإن اخترت أن تصير إلى وتستمتع فذلك اليك.
وان اخترت جئت اليك حيث شئت فعلت، وجبت نفقتها لان النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع فإذا وجد ذلك منها فقد وجد منها التمكين منه، فوجب في مقابلته كالبائع إذا سلم المبيع وجب على المشترى تسليم الثمن.
فإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج وكان حاضرا فلم يتسلمها حتى مضت على ذلك مدة وجبت عليه نفقتها كالبائع إذا سلم المبيع وجب على المشترى تسليم الثمن.
فإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج وكان حاضرا فلم يتسلمها حتى مضت على ذلك مدة وجبت عليه نفقتها في تلك المدة.
وقال أبو حنيفة: لا تجب نفقة المدة الماضية إلا أن يحكم لها الحاكم، ولانه
مال يجب للزوجة بالزوجية فلم يفتقر استقراره إلى حكم الحاكم كالمهر.
وإن سلمت نفسها إلى الزوج تسليما غير تام بأن قالت سلمت نفسي في هذا البيت دون غيره، أو في هذه القرية دون غيرها لم تجب لها النفقة، لانه لم يوجد التسليم التام، فهو كما لو قال البائع: أسلم هذه السيارة في هذا الموضع دون غيره.
فإن عقد النكاح ولم تسلم المرأة نفسها ولا طالب الزوج بها وسكتا عن ذلك حتى مضى على ذلك سنة أو أكثر لم يجب لها النفقة، لان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهى بنت سبع، ودخل بها وهى ابنة تسع، ولم ينقل أنه أنفق عليها إلا من حين دخل بها وإن عرض الولى الزوجة على الزوج بغير إذنها وهى بالغة عاقلة فلم يتسلمها الزوج ومضى على ذلك مدة لم تجب على الزوج النفقة لانه لا ولاية له عليها في المال.
وإن غاب الزوج عن بلد الزوجة نظرت - فإن غاب عنها بعد أن سلمت نفسها إليه تسليما تاما وامتنع من تسليمها فقد وجبت نفقتها بتسليمها نفسها فلم يسقط ذلك بغيبته.
وان غاب عنها قبل ان تسلم نفسها إليه وأرادت تسليم نفسها إليه فإنها إذا أتت حاكم بلدها وقالت: أنا أسلم نفسي إليه وأخلى بين وبينه، فإن

(18/238)


حاكم بلدها يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج ويعرفه ذلك، فإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه استدعى الزوج وعرض عليه الامر، فإن سار إليها وتسلمها أو وكل من يتسلمها، فتسلمها الوكيل وجب عليه نفقتها من حين تسلمها هو أو وكيله.
وان أمكنه السير فلم يسر ولا وكيله، فإنه إذا مضت عليه مدة لو أراد المسير إليها أمكنه ذلك، فإن الحاكم يفرض لها النفقة من حين مضى مدة السفر إليها لانه قد كان يمكنه التسليم.
فإذا لم يفعل ممتنعا من تسلمها فوجبت عليه النفقة وان لم يمكنه المسير إليها أمكنه ذلك، فأن الحاكم يفرض لها النفقة من حين مضى
مدة السفر إليها لانه قد كان يمكنه التسليم.
قإذا لم يفعل صار ممتتعا من تسلمها فوجب عليه النفقة وان لم يمكنه المسير لعدم الرفقة أو لخوف الطريق لم تجب عليه النفقة حتى يمكنه المسير لانه غير ممتنع من تسلمها.
وان كان الزوج بالغا والزوجة صغيرة نظرت - فإن كانت مراهقة تصلح للاستمتاع - فإن الذى يجب عليه تسليمها وليها.
فإن سلمها الولى تسليما تاما وجب على الزوج نفقتها.
وان لم يكن لها ولى أو كان غائبا أو امتنع من تسليمها أو سكت عن تسليمها فسلمت نفسها إلى الزوج وجبت النفقة على الزوج لان التسليم قد حصل وان كان ممن لا يصح تسليمه.
كما لو اشترى سلعة بثمن وسلم الثمن وقبضها المشتري بغير اذن البائع أو أقبضه اياها غلام البائع فان القبض يصح قال ابن الصباغ في الشامل: وينبغى أن لا تجب النفقة الا بعد أن يسلمها ولا يجب ببذلها لان بذلها لاحكم له.
وان كانت صغيرة لا يتأتى جماعها ففيه قولان
(أحدهما)
يجب لها النفقة.
لان تعذر وطئها عليه ليس بفعلها فلم تسقط بذلك نفقتها.
كما لو مرضت (الثاني) لا تجب لها النفقة.
وبه قال مالك وأبو حنيفة واختاره المزني، وهو الصحيح.
لان الاستمتاع متعذر عليه فلم تجب عليه النفقة، كما لو نشزت.
وان كان الزوج طفلا صغيرا والزوجة كبيرة ففيه قولان
(أحدهما)
لا تجب لها النفقة لان النفقة انما تجب بالتمكين والتسليم.
وانما

(18/239)


يصح ذلك إذا كان هناك متمكن ومتسلم، والصبى لا يتمكن ولا يتسلم فلم تجب لها النفقة كما لو كان غائبا.

(والثانى)
يجب لها النفقة إذا سلمت نفسها - وهو الاصح - لان التمكين
والتسليم التام قد وجد منها وإنما تعذر من جهته فوجبت نفقتها، كما لو سلمت نفسها إلى البالغ ثم هرب.
وأما إذا كان صغيرين فسلمها الولى هل يجب لها النفقة فيه قولان، وجههما ما ذكرناه في التي قبلها إلا أن الاصح هنها أنه لا يجب لها النفقة، لان الاستمتاع متعذر من جهتها (فرع)
إذا تسلم الزوج وهى مريضة أو تسلمها صحيحة فمرضت عنده أو تسلمها وهى رتقاء (1) أو قرناء (2) أو أصابها ذلك بعد ان تسلمها، أو أصاب الزوج مرض أو جنون أو جشم (3) وجبت عليه النفقة، لان الاستمتاع بها ممكن مع ذلك.
قال الشافعي رضى الله عنه.
وإن كان في جماعها شدة ضرر منع من جماعها وأجبر بنفقتها.
وجملة ذلك أن الرجل إذا كاعظيم الخلق والزوجة نضوة الخلق وعليها في جماعة ضرر يخاف منه الانفضاء أو المشقة الشديدة أو كان بفرجها جرح يضر بها وطؤه، فإن وافقها الزوج على الضرر الذي يلحقها بوطئه لم يجز له وطؤها لقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعروف أن يمنع من وطئها فإن اختار طلاقها فطلقها فلا كلام.
وإن لم يختر طلاقها وجبت عليه نفقتها لانها محسوسة عليه، ويمكنه الاستمتاع بها بغير الوطئ.
وإن لم يصدقها الزوج بل ادعى أنه يمكنه جماعها، فإن ادعت تعذر الوطئ لعظم خلقته فقال العمرانى في البيان أمر الحاكم نساء ثقات يشاهدن ذلك بينهما حال الجماع من غير حائل.
__________
(1) الرتقاء التي انسد فرجها حتى لا يستطاع جماعها (2) القرناء التي نبت لها لحم في فرجها كالغدة الغليظة في مدخل الذكر.
وقد يكون عظما كالقرن (3) والحسم أن يستأصل ذكره أو لا يكون له ذكر وهو ضد الجسم وهو كبير الذكر جدا.
" المطيعي "

(18/240)


فإن قلن إنه يلحقها مشقة شديدة أو يخاف عليها من ذلك منع من وطئها.
وإن قلنا إنه لا يلحقها مشقة شديدة ولا يخاف عليها منه أمرت بتمكينه من الوطئ.
وإن ادعت تعذر الوطئ بجراح في فرجها أمر الحاكم النساء ثقات ينظرن إلى فرجها لان هذا موضع ضرورة فجوز النظر إلى العورة واختلف أصحابنا في عدد النساء الاتى ينظرن إليها حال الجماع، أو ينظرن الجرح في فرجها، فقال أبو إسحاق يكفى واحدة لان طريق ذلك الاخبار والمشقة تلحقن بنظر الجماع منهما فجاز الاقتصار على واحدة ومن أصحابنا من قال: لا يكفي أقل من أربع نسوة في ذلك، لان هذه شهادة ينفرد بها النساء فلم يقبل فيه أقل من أربع كسائر الشهادات
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان سلمت إليه ومكن من الاستمتاع بها في نكاح فاسد لم تجب النفقة لان التمكين لا يصح مع فساد النكاح، ولا يستحق ما في مقابلته.

(فصل)
وان انتقلت المرأة من منزل الزوج إلى منزل آخر بغير اذنه أو سافرت بغير اذنه سقطت نفقتها، حاضرا كان الزوج أو غائبا لانها خرجت عن قبضته وطاعته فسقطت نفقتها كالناشزة.
وان سافرت بإذنه فان كان معها وجبت النفقة لانها ما خرجت عن قبضته ولا طاعته.
وان لم يكن معها ففيه قولان ذكرناهما في القسم.

(فصل)
وان أحرمت بالحج بغير اذنه سقطت نفقتها لانه ان كان تطوعا فقد منعت حق الزوج وهو واجب بما ليس بواجب، وان كان واجبا فقد منعت حق الزوج وهو على الفور بما هو على التراخي، وان أحرمت بإذنه فان خرجت معه لم تسقط نفقتها لانها لم تخرج عن طاعته وقبضته، وان خرجت وحدها فعلى القولين في سفرها باذنه

(فصل)
وان منعت نفسها باعتكاف تطوع أو نذر في الذمة سقطت نفقتها لما ذكرناه في الحج، وإن كان عن نذر معين أذن فيه الزوج لم تسقط نفقتها لان الزوج أذن فيه وأسقط حقه فلا يسقط حقها، وان كان عن نذر لم يأذن فيه:

(18/241)


فإن كان بعد عقد النكاح سقطت نفقتها لانها منعت حق الزوج بعد وجوبه، وإن كان بعذر قبل النكاح لم تسقط نفقتها، لان ما استحق قبل النكاح لاحق للزوج في زمانه، كما لو أجرت نفسها ثم تزوجت، وإن اعتكفت بإذنه وهو معها لم تسقط نفقتها لانها في قبضته وطاعته وإن لم يكن معها فعلى القولين في الحج.

(فصل)
وإن منعت نفسها بالصوم فإن كان بتطوع ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تسقط نفقتها لانها في قبضته
(والثانى)
وهو الصحيح انها تسقط لانها منعت التمكين التام بما ليس بواجب فسقطت نفقتها كالناشزة، وان منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته لم تسقط نفقتها، لان ما استحق بالشرع لا حق للزوج في زمانه.
وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل أن يضيق وقته، أو بصوم كفارة أو نذر في الذمة، سقطت نفقتها، لانها منعت حقه وهو على الفور بما هو ليس على الفور وإن كان بنذر معين - فإن كان النذر بإذن الزوج - لم تسقط نفقتها لانه لزمها برضاه، وان كان بغير اذنه - فإن كان بنذر بعد النكاح - سقطت نفقتها وان كان بنذر قبل النكاح لم تسقط لما ذكرناه في الاعتكاف
(فصل)
وان منعت نفسها بالصلاة - فإن كانت بالصلوات الخمس أو السنن الراتبة - لم تسقط نفقتها لان ما ترتب بالشرع لا حق للزوج في زمانه، وان كان بقضاء فوائت - فان قلنا انها على الفور - لم تسقط نفقتها، وان قلنا انها على التراخي سقط نفقتها لما قلنا في قضاء رمضان، وان كانت بالصلوات
المنذورة فعلى ما ذكرناه في الاعتكاف والصوم.
(الشرح) وان سلمت المرأة نفسها إلى الزوج ومكنته من الاستمتاع بها في نكاح فاسد لم تجب لها النفقة، لان التمكين لا يصح مع فساد النكاح فلم تستحق ما في مقابلته كما لا يستحق البائع الثمن في بيع فاسد (فرع)
إذا انتقلت الزوجة من منزل الزوج الذي أسكنها فيه إلى منزل غيره بغير أذنه وخرجت من البلد بغير اذنه فهى ناشزة وسقطت بذلك نفقتها، وبه قال أهل العلم كافة الا الحكم بن عينة فانه قال لا تسقط نفقتها، كما لو لم تسلم نفسها

(18/242)


وان سافرت المرأه بغير اذن زوجها سقطت نفقتها لانها منعت استمتاعه بالسفر.
وان سافرت بإذنه نظرت، فان سافر الزوج معها لم تسقط نفقتها لانها في قبضته وطاعته.
وان سافرت وحدها، فان كانت في حاجة اللزوج وجبت عليه لانها سافرت في شغله ومراده.
وان سافرت بحاجة نفسها فقد قال الشافعي في النفقات لها النفقة، وقال في النكاح لانفقة لها، واختلف أصحابنا فيها، فقال أبو إسحاق: ليست على قولين وانما هي على اختلاف حالين، فحيث قال لها النفقة أراد إذا كان الزوج معها، وحيث قال لانفقة لها، أراد إذا لم يكن الزوج معها.
ومنهم من قال فيه قولان
(أحدهما)
لانفقة لها.
وبه قال أبو حنيفة وأحمد لانها غير ممكنة من نفسها فلم تجب لها النفقة، كما لو سافرت بغير اذنه
(والثانى)
تجب لها النفقة لانها سافرت باذنه فلم تسقط نفقتها، كما لو سافرت في حاجته.
(فرع)
وان أحرمت بالحج أو العمرة بغير أذنه سقطت نفقتها لانه ان كان تطوعا فقد منعت حق الزوج الواجب بالتطوع، وان كان واجبا عليها فقد منعت
حق الزوج وهو على الفور وحقها هي على التراخي.
أفاده صاحب البيان.
وان أحرمت باذنه وخرجت مع الزوج لم تسقط نفقتها لانها في قبضته، وان أحرمت باذنه وخرجت وحدها ففيه طريقان مضى ذكرهما في السفر وان اعتكفت فلا يصح عندها الا في المسجد، فان كان بغير اذن الزوج سقطت نفقتها لانها ناشزة بالخروج إلى المسجد بغير اذنه، وان كان باذن الزوج - فان كان الزوج معها في المسجد - لم تسقط نفقتها لانها في قبضته وطاعته وان لم يكن معها في المسجد فعلى الطريقين في السفر.
قال أبو إسحاق لانفقة لها قولا واحدا.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان (فرع)
فان صامت المرأة بغير اذن زوجها نظرت - فان كان تطوعا - فللزوج منعها منه وله اجبارها على الفطر بالاكل والجماع، لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تصومن المرأة التطوع وزوجها حاضر الا باذنه " فان امتنعت من الوطئ ولكنها لم تفارق المنزل ففيه وَجْهَانِ.
قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هي ناشزة

(18/243)


فتسقط نفقتها لانها ممتنعة عليه، فلا فرق بين أن تمتنع بالفراش أو بمفارقة المنزل وقال المصنف: لا تسقط نفقتها، لانها ما لم تفارق المنزل فهي غير ناشزة.
وهذا قول الشيخ أبى حامد ومن أصحابنا من قال: إذا منعته الوطئ سقطت نفقتها وجها واحدا، وإنما الوجهان إذا صامت ولم تمنعه الوطئ.
وان كان الصوم واجبا نظرت - فان كان صوم رمضان - فليس له منعا منه ولا تسقط نفقتها به لانه مستحق بالشرع.
وإن كان قضاء رمضان قال صاحب البيان، فإن لم يضق وقت قضائه فله منعها منه وإن دخلت فيه بغير إذنه كان كما لو دخلت في صوم التطوع بغير إذنه، وان ضاق وقت قضائه - بأن لم يبق من شعبان إلا قدر أيام القضاء - لم يكن له منعها
منه.
وإن دخلت فيه بغير اذنه لم تسقط نفقتها بذلك، لانها لا يجوز لها تأخيره إلى دخول رمضان فصار مستحقا للصوم كأيام رمضان وان كان الصوم عن كفارة كان للزوج منعها منه، لانه على التراخي وحق الزوج على الفور.
وان الصوم نذرا - فإن كان في الذمة - كان له منعها منه لانه على التراخي وحق الزوج على الفور.
وان كان متعلقا بزمان بعينه، فان كان نذرته بإذن الزوج لم يكن له منعها منه لان زمانه قد استحق عليها صومه باذن الزوج فان دخلت فيه بغير اذنه لم تسقط بذلك نفقتها.
وان نذرته بغير اذن الزوج بعد النكاح كان للزوج منعها من الدخول فيه لانها فرطت بايجابه على نفسها بغير اذنه وان نذرت الصوم في زمان بعينه قبل عقد النكاح لم يكن للزوج منعها من الدخول فيه.
وان دخلت فيه بغير اذنه لم تسقط بذلك نفقتها، لان زمانه قد استحق صومه قبل عقد النكاح.
وكل موضغ قلنا للزوج منعها من الدخول فيه إذا دخلت فيه بغير اذن الزوج فهل تسقط نفقتها بذلك؟ فيه وجهان كما مضى في الصوم التطوع.
(فرع)
وان منعت نفسها بالصلوات الخمس في أوقاتها لم تسقط نفقتها بذلك لان وقتها مستحق للصلاة وليس للزوج منعها من الدخول فيها في أول الوقت.
لانها قد وجبت في أول وقتها، ولانه يفوت عليها فضيلة أول الوقت.
وأما قضاء الفائتة - فان قلنا انها تجب على الفور - لم يكن للزوج منعها منها.

(18/244)


وان قلنا انها لا تجب على الفور كان للزوج منعها من الدخول فيها.
وأما الصلوات المنذورة فهى كالصوم المنذور على ما مضى وأما صلاة التطوع، فان كانت غير راتبة، كان للزوج منعها منها، لان حق الزوج واجب فلا يسقط بما لا يجب عليها - فان دخلت فيها بغير اذن الزوج احتمل أن يكون في سقوط
نفقتها في ذلك وجهان كما قلنا ذلك في الصوم التطوع، وان كانت سنة راتبة فقال الشيخ أبو إسحاق: لا تسقط نفقتها بها كما قلنا في الصلوات الخمس
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان الزوجان كافرين وأسلمت المرأة بعد الدخول ولم يسلم الزوج لم تسقط نفقتها لانه تعذر الاستمتاع بمعنى من جهته هو قادر على إزالته فلم تسقط نفقتها كالمسلم إذا غاب عن زوجته وقال أبو على بن خيران: فيه قول آخر إنها تسقط لانه امتنع الاستمتاع لمعنى من جهتها فسقطت نفقتها، كما لو أحرمت المسلمة من غير اذن الزوج، والصحيح هو الاول، لان الحج فرض موسع الوقت، والاسلام فرض مضيق الوقت فلا تسقط النفقة كصوم رمضان وإن أسلم الزوج بعد الدخول وهى مجوسية أو وثنية وتخلفت في الشرك سقطت نفقتها لانها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة، وان أسلمت قبل انقضاء العدة فهل تستحق النفقة للمدة التي تخلفت في الشرك؟ فيه قولان: أحدهما تستحق لان بالاسلام زال ما تشعث من النكاح، فصار كأن لم يكن.
والقول الثاني أنها لا تستحق لانه تعذر التمكين من الاستمتاع فيما مضى فلم تستحق النفقة كالناشزة إذا رجعت إلى الطاعة وان ارتد الزوج بعد الدخول لم تسقط نفقتها لان امتناع الوطئ بسبب من جهته وهو قادر على ازالته فلم تسقط النفقة، وان ارتدت المرأة سقطت نفقتها لانها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة، فان عادت إلى الاسلام قبل انقضاء العدة فهل تجب نفقة ما مضى في الردة؟ فِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قولانه كالكافرة إذا تخلفت في الشرك ثم أسلمت.
ومنهم من قال

(18/245)


لا تجب قولا واحدا، والفرق بينهما وبين الكافرة أن الكافرة لم يحدث من جهتها منع بل أقامت على دينها، والمرتدة أحدثت منعا بالردة فغلط عليها.
وإن ارتدت الزوجة وعادت إلى الاسلام والزوج غائب استحقت النفقة من حيث عادت إلى الاسلام، وإن نشزت الزوجة وعادت إلى الطاعة والزوج غائب لم تستحق النفقة حتى يمضى زمان لو سافر فيه لقدر على استمتاعها، والفرق بينهما أن المرتدة سقطت نفقتها بالردة وقد زالت بالاسلام، والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من التمكين وذلك لا يزول بالعود إلى الطاعة
(فصل)
وإن كانت الزوجة أمة فسلمها المولى بالليل والنهار وجبت لها النفقة لوجود التمكين التام.
وإن سلمها بالليل دون النهار ففيه وجهان.
أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يجب لها نصف النفقة اعتبارا بما سلمت.
والثانى وهو قول أبى اسحاق، وظاهر المذهب أنه لا تجب لانه لم يوجد التمكين التام.
فلم يجب لها شئ من النفقة كالحرة إذا سلمت نفسها بالليل دون النهار.
والله أعلم (الشرح) إذا أسلمت الزوجة والزوج كافر - فان كان قبل الدخول - فلا نفقة لها لان الفرقة وقعت بينهما، وان كان بعد الدخول فان النكاح موقوف على اسلام الزوج في عدتها، ولها النفقة عليه مدة عدتها، لان تعذر الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج وهو امتناعه من الاسلام، ويمكنه تلافى ذلك فلم تسقط نفقتها كما لو غاب عن زوجته.
وحكى ابن خيران قولا آخر أن نفقتها تسقط لان الاستمتاع سقط بمعنى من جهتها فسقطت به نفقتها، كما لو أحرمت بالحج بغير اذن الزوج، والمشهور هو الاول، لان الحج فرض موسع الوقت، والاسلام فرض مضيق الوقت فلم تسقط به نفقتها كصوم رمضان، فان انقضت عدتها قبل أن يسلم الزوج بانت وسقطت نفقتها
(فرع)
وان أسلم الزوج والزوجة وثنية أو مجوسية - فان كان قبل الدخول - وقعت الفرقة بينهما ولا نفقة لها، وان كان بعد الدخول وقف النكاح على اسلامها قبل انقضاء عدتها فلا نفقة لها مدة عدتها ما لم تسلم، لانها منعت

(18/246)


الاستمتاع بمعصية، وهو اقامتها على الكفر.
فهي كالناشزة فان انقضت عدتها قبل أن تسلم فقد بانت باختلاف الدين ولا نفقة لها.
وان أسلمت قبل انقضاء عدتها وجبت لها النفقة من حين أسلمت لانهما قد اجتمعا على الزوجية، وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها في الكفر؟ فيه قولان.
قال في القديم: تجب لها النفقة لان اسلام الزوج شعث النكاح، فإذا أسلمت قبل انقضاء عدتها زال ذلك التشعث فصار كما لو لم يتشعث.
وقال في الجديد: لا تجب لها النفقة لما مضى من عدتها وهو الاصح، لان اقامتها على الكفر كنشوزها، ومعلوم أنها لو نشزت وأقامت مدة في النشوز ثم عادت إلى طاعته لم تجب نفقتها مدة اقامتها في النشوز فكذلك هذا مثله (فرع)
وان كان الزوجان مسلمين فارتد الزوج بعد الدخول وجبت عليه نفقتها مدة عدتها، لان امتناع الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج فلم تسقط نفقتها بذلك كما لو غاب.
وان ارتدت الزوجة بعد الدخول فأمر النكاح موقوف على اسلامها قبل انقضاء عدتها ولا تجب لها النفقة مدة عدتها لانها منعت الاستمتاع بمعصية من جهتها فو كما لو نشزت فان انقضت عدتها قبل أن تسلم فلا كلام.
وان أسلمت قبل انقضاء عدتها وجبت نفقتها من حين أسلمت لانهما قد اجتمعا على الزوجية.
وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها قبل الاسلام؟ من أصحابنا من قال فيه قولان، كما قلنا في المشركة إذا تخلفت عن الاسلام ثم أسلمت قبل انقضاء عدتها.
ومنهم من قال لا تجب لها النفقة قولا واحدا، لان في التي قبلها دخلا على الكفر، وانما الزوج شعث النكاح بإسلامه، وههنا دخلا على الاسلام، وانما شعثت هي النكاح بردتها فغلظ عليها.
وان ارتدت الزوجة والزوج غائب، أو غاب بعد ردتها فرجعت إلى الاسلام والزوج غائب وجبت لها النفقة من حين رجعت إلى الاسلام، وكذلك لو أسلم الزوج والزوجة وثنية أو مجوسية وتخلفت في الشرك وكان الزوج غائبا فأسلمت قبل انقضاء عدتها وجبت لها النفقة من حين أسلمت ولو نشزت الزوجة من منزلها والزوج غائب أو غاب بعد نشوزها فعادت

(18/247)


إلى منزلها لم تجب نفقتها حتى يكون الزوج حاضرا فيتسلمها أو تجئ إلى الحاكم وتقول: أنا أعود إلى طاعته، ثم يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج فيستدعيه المكتوب إليه ويقول له: إما أن تسير إليها لتتسلمها أو توكل من يتسلمها فإن لم يسر ولم يوكل مع قدرته على ذلك ومضى زمان يمكنه الوصول إليها وجبت النفقة لها من حينئذ، والفرق بينهما أن نفقتها سقطت عنه بالنشوز لخروجها عن قبضته فلا يرجع إلى نفقتها إلا برجوعها إلى قبضته، وكذلك لا يحصل إلا بتسليمه لها أو بتمكينه من ذلك، وليس كذلك المرتدة والمشركة، فإن نفقتها انما سقطت بالردة أو بالاقامة على الشرك، فإذا أسلمت زال المعنى الذي أوجب سقوطها فزال سقوطها.
(فرع)
وان دفع الوثني إلى امرأته الوثنية أو المجوسى إلى امرأته المجوسية نفقته شهر بعد الدخول ثم أسلم الزوج ولم تسلم هي حتى انقضت عدتها وأراد الرجوع فيما دفع إليها من النفقة نظرت، فإن دفعه إليها مطلقا، قال الشافعي: لم يرجع عليها بشئ، لان الظاهر أنه تطوع بدفعها إليها
وان قال هذه النفقة مدة مستقبلة كان له الرجوع فيها لانه بان أنها لا تستحق عليه نفقة.
قال ابن الصباغ في الشامل: وهذا يقتضى أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ الايجاب والقبول، لانه جعله تطوعا مع الاطلاق.
قال فان قيل: يحتمل أن يريد أنه إباحة فليس بصحيح، لانه لو كان اباحة بشرط أن يكون قد أتلفته حتى يسقط حقه منها، والله تعالى أعلم بالصواب

(18/248)


قال المصنف رحمه الله تعالى

باب قدر (1) نفقة الزوجات إذا كان الزوج موسرا، وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه، لزمه في كل يوم مدان، وإن كان معسرا وهو الذي لا يقدر على النفقة بمال ولا كسب لزمه في كل يوم مد لقوله عز وجل " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينق مما آتاه الله " ففرق بين الموسر والمعسر، وأوجب على كل واحد منهما على قدر حاله ولم يبن المقدار، فوجب تقديره بالاجتهاد، وأشبه ما تقاس عليه النفقة الطعام في الكفارة، لانه طعام يجب بالشرع لسد الجوعة، وأكثر ما يجب في الكفارة للمسكين مدان في فدية الاذى، وأقل ما يجب مد.
وهو في كفارة الجماع في رمضان.
فإن كان متوسطا لزمه مد ونصف، لانه لا يمكن إلحاقه بالموسر وهو دونه، ولا بالمعسر ولا هو فوقه، فجعل عليه مد ونصف.
وإن كان الزوج عبدا أو مكاتبا وجب عليه مد، لانه ليس بأحسن حالا من الحر المعسر، فلا يجب عليه أكثر من مد.
وَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ عَبْدًا وَجَبَ عليه نفقة المعسر.
وقال المزني، إن كان موسرا بما فيه من الحرية وجب عليه مد ونصف، لانه
اجتمع فيه الرق والحرية فوجب عليه نصف نفقة الموسر وهو مد ونصف نفقة المعسر وهو نصف مد، وهذا خطأ.
لانه ناقص بالرق فلزمه نفقة المعسر كالعبد
(فصل)
وتجب النفقة عليه من قوت البلد لقوله عز وجل " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ولقوله صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " والمعروف ما يقتاته الناس في البلد، ويجب لها الحب،
__________
(1) في النسخة المطبوعة من المهذب ترجم الباب هكذا، " باب قدر النفقة " وقد تحققنا أن الصحيح ما أثبتناه مما ذكره قدامى الاصحاب ممن تناولوا المهذب بالشرح والتعليق.
" المطيعي "

(18/249)


فإن دفع إليها سويقا أو دقيقا أو خبزا لم يلزمها قبوله، لانه طعام وجب بالشرع فكان الواجب فيه هو الحب كالطعام في الكفارة، وإن اتفقا على دفع العوض ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لانه طعام وجب في الذمة بالشرع فلم يجز أخذ العوض فيه كالطعام في الكفارة.
والثانى: يجوز وهو الصحيح لانه طعام يستقر في الذمة للآدمي، فجاز أخذ العوض فيه كالطعام في القرض، ويخالف الطعام في الكفارة فإن ذلك يجب لحق الله تعالى، ولم يأذن في أخذ العوض عنه، والنفقة تجب لحقها وقد رضيت بأخذ العوض.
(الشرح) الاحكام: نفقة الزوجة معتبرة بحال الزوج لا بحال الزوجة فيجب لابنة الوزير أو رئيس الدولة ما يجب لابنة الحارس، وهى مقدرة غير معتبرة بكفايتها.
وقال مالك: نفقتها تجب على قدر كفايتها وسعتها، فإن كانت ضعيفة الاكل فلها قدر ما تأكل.
وإن كانت أكولة فلها ما يكفيها
وقال أبو حنيفة: إن كانت معسرة فلها في الشهر من أربعة دراهم إلى خمسة.
وان كانت موسرة فمن سبعة دراهم إلى ثمانية، فإذا حولنا هذه المقادير إلى نقدنا المعاصر في مصر حرمها لله كان الدرهم يساوى خمسين قرشا.
وقال أصحاب أبى حنيفة: انما قال هذا حيث كان الرخص في وقته، فأما في وقتنا فيزاد على ذلك.
ويعتبرون كفايتها كقول مالك.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ لهند " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف " ودليلنا قوله تعالى " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله " وأراد أن الغنى ينفق على حسب حاله، والفقير على حسب حاله، ولقوله تعالى، " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وأراد بالمعروف عند الناس، والعرف والعادة عند الناس أن نفقة الغنى والفقير تختلف، ولانا لو قلنا ان نفقتها معتبرة بكفايتها لادى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة بينهما ولا يصل الحاكم إلى قدر كفايتها فكانت مقدرة

(18/250)


وأما خبر هند فهو حجة لنا لانه قال " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف " والمعروف عند الناس يختلف بيسار الزوج وإعساره، ولم يقل خذى ما يكفيك ويطلق، وعلى أنا نحمله على أنه علم من حاله أن كفايتها لا تزيد على نفقة الموسر وكان أبو سفيان موسرا.
إذا ثبت هذا فإن نفقتها معتبرة بحال الزوج، فإن كان الزوج موسرا - وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه - وجب لها كل يوم مدان، وان كان معسرا، وهو الذي لا يقدر على النفقة بماله ولا كسبه وجب كل يوم مد وهو رطل وثلث وهو نحو ستمائة جرام من الحنطة تقريبا، لان أكثر ما أوجب الله تعالى في الكفارات للواحد مدان.
وهو في كفارة الاذى.
وأقل ما أوجب
للواحد في الكفارة مد، فقسنا نفقة الزوجات على الكفارة، لان الله تعالى شبه الكفارة بنفقة الاهل في الجنس بقوله تعالى " من أوسط ما تطعمون أهليكم " فاعتبرنا الاكثر والاقل في الواجب للواحد في الكفارة.
وأما المتوسط فإنه يجب عليه كل يوم مد ونصف مد، لانه أعلى حالا من المعسر وأدنى حالا من الموسر فوجب عليها من نفقة كل واحد منهما نصفها (فرع)
وان كان الزوج عبدا أو مكاتبا أو مدبرا أو معتقا نصف وجب عليه نفقة زوجته لقوله " وعلى المولود له رزقهن " الخ الآية.
وهذا مولود له ولا تجب عليه الا نفقة المعسر لانه أسوأ جللا من الحر المعسر قوله " وتجب النفقة عليه من قوت البلد " وهذا صحيح فإنه يجب عليه أن يدفع إليه من غالب قوت البلد.
فإذا كان غالب قوت البلد من البر أنفق منه.
وان كان من الارز أنفق منه.
وان كان من التمر أنفق منه.
ولانه طعام يجب على وجه الاتساع والكفاية فوجب من غالب قوت البلد كالكفارة.
ويجب أن يدفع إليها الحب.
فإن دفع إليها الدقيق أو السويق أو الخبز، قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ لم يجز وذكر صاحب المهذب أنه لا يجوز وجها واحدا لقوله تعالى " فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " فجعل الكفارة فرعا للشفقة ومحمولا عليها.

(18/251)


فلما كانت الكفارة الواجبة هي الحب نفسه، فإنه لا يجزئ الدقيق والسويق والخبز فكذلك النفقة، وإن أعطاها قيمة الحب لم تجبر على قبولها، لان الواجب لها هو الحب فلا تجبر على أخذ قيمته، كما لو كان لها طعام قرض، وإن سألته أن يعطيها قيمته لم يجبر الزوج على دفع القيمة، لان الواجب عليه هو الحب فلا يجبر
على دفع قيمته، فإن تراضيا على القيمة فهل يصح؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح لانه طعام وجب في الذمة بالشرع فلم يصح أخذ العوض عنه كالكفارة.

(والثانى)
يصح وهو الصحيح لانه طعام وجب على وجه الرفق فصخ أخذ العوض عنه كالقرض.
قال الصيمري والمسعودي: وتلزمه مؤنة طحنه وخبزه حتى يكون مهيئا لانه هو العرف.
ولا نرى أن الحب أمر يطرد في جميع البلاد والمجتمعات، بل إن في بعض المدن كالقاهرة والاسكندرية وغيرهما ما يكون الحب كالحصى والتراب لا منفعة فيه ولا فائدة، ويتعين أن يعطى الزوج النفقة بما يمكنها من الطعام وييسر لها أسباب العيش أسوة بغيرها من النساء ولا يتحقق هذا بالحب، وإنما يتحقق بالقيمة، ويكون إعطاء القيمة منه أمرا لازما لااختيار فيه لزوم النفقة نفسها.
قال الشافعي رضى الله عنه: وجماع المعروف إعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه وأداؤه إليه بطيب النفس لا بضرورته إلى طلبه ولا تأديته بإظهار الكراهية لتأديته وأيهما ترك فظلم، لان مطل الغنى ظلم ومطله تأخيره الحق.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب لها الادم بقدر ما يحتاج إليه من أدم البلد من الزيت والشيرج والسمن واللحم، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم.
الخبز والزيت وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال " الخبز والزيت والخبز والسمن والخبز والتمر.
ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم " ولان ذلك من النفقة بالمعروف.

(18/252)


(فصل)
ويجب لها ما تحتاج إليه من المس والسدر والدهن للرأس وأجرة الحمام، ان كان عادتها دخول الحمام، لان ذلك يراد للتنظيف فوجب عليه كما يجب على المستأجر كنس والدار وتنظيفها.
وأما الخضاب فإنه إن لم يطلبه الزوج لم يلزمه، وإن طلبه منها لزمه ثمه لانه للزينة.
وأما الادوية وأجرة الطبيب والحجام فلا تجب عليه، لانه ليس من النفقة الثابتة، وإنما يحتاج إليه لعارض وأنه يراد لاصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر إصلاح ما انهدم من الدار وأما الطبيب فإنه إن كان يراد لقطع السهوكة لزمه لانه يراد للتنظيف، وان كان يراد للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه، لان الاستمتاع حق له فلا يجبر عليه.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه " وأقل ما يعولها به وخادمها ما لا يقوم بدن أحد على أقل منه، وذلك مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لها في كل يوم من طعام البلد الذي يقتاتون، حنطة كان أو شعيرا، أو ذرة أو أرزا أو سلتا، ولخادمها مثله ومكيلة من أدم بلادها زيتا كان أو سمنا بقدر ما يكفى ما وصفت من ثلاثين مدا في الشهر، ولخادمها شبيه به، ويفرض لها في دهن ومشط أقل ما يكفيها، ولا يكون ذلك لخادمها لانه ليس بالمعروف قال: وان كانت ببلد يقتاتون فيه أصنافا من الحبوب كان لها الاغلب من قوت مثلها في ذلك البلد.
وقد قيل لها في الشهر أربعة أرطال في كل جمعة رطل وذلك المعروف لها.
اه قلت: وجملة ذلك أنه يجب للزوجة الادام لقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ومن المعروف أن المرأة لا تأكل خبزها إلا بأدم وروى عكرمة " أن امرأة سألت أبن عباس وقالت له " ما الذي لى من مال زوجي؟ فقال الخبز والادم.
قالت أفآخذ من دراهمه شيئا؟ فقال أتحبين أن يأخذ من مالك فيتصدق به؟ قالت لا، فقال كذلك لا تأخذى من دراهمه شيئا
بغير أمره " ويرجع في جنسه وقدره إلى العرف فيجب في كل بلد من غالب أدمها وقال أصحابنا ان كان بالشام فالادم الزيت، وان كان العراق فالشيرج.
وان كان بخراسان فالسمن، وإنما أوجب الشافعي الادهان من بين سائر الادام لانها

(18/253)


أصلح للابدان وهى مع البر تعطى طاقة حرارية للبدن عالية قال في الادهان من البروتين، قال في البيان وهي أخف مئونة لانه لا يحتاج في التأدم بها إلى طبخ ويرجع في قدره إلى العرف، فإن كان العرف أن يؤيدم على المد أو قية دهن وجب لامرأة الموسر كل يوم أو قيتادهن ولامرأة المعسر أو قية ولامرأة المتوسط أو قية ونصف، لانه ليس للادم أصل يرجع إليه في تقديره فرجع في تقديره إلى العرف بخلاف النفقة.
قال وعندي أنها إذا كانت في بلد غالب أدم أهله اللبن كأهل اليمن فإنه يجب أدمها من اللبن.
اه (فرع)
إذا كانت في بلد يتأدم أهله اللحم فإنه يجب عليه أن يدفع إليها في كل جمعة لحما لان العرف والعادة أن الناس يطبخون اللحم كل جمعة قال أصحابنا وإنما فرض الشافعي في كل جمعة رطل لحم لانه كان بمصر واللحم فيها يقل، فأما إذا كانت في موضع يكثر فيه اللحم، فإن الحاكم يفرض لها على ما يراه من رطلين أو أكثر.
وهذا لامرأة المعسر، فأما امرأة الموسر فيجب لها من ذلك ضعفه ما يجب لامرأة المعسر قوله " الخضاب " وهو ما يخضب به من حناء وكتم ومساحيق الشفاه الحمراء وسوائل الاظافر.
قال الاعشى أرى رجلا منكم أسييفا كأنما يضم إلى كشحيه كفا مخضبا وخضب الرجل شيبه يخضبه والخضاب الاسم، قال السهيلي، عبد المطلب أول من خضب بالسواد من العرب.
وفي الحديث بكى حتى خضب دمعه الحصى
أي بلها من طريق الاستعارة قال ابن الاثير.
والاشبه أن يكون أراد المبالغة في البكاء حتى أحمر دمعه فخضب الحصا.
وأما السهوكة فهي من السهك.
قال في اللسان " ريح كريهة تجدها من الانسان إذا عرق تقول أنه لسهك الريح، وقد سهك سهكا وهو سهك.
قال النابغة: سهكين من صدإ الحديد كأنهم تحت النور جنة البقار

(18/254)


ولولا لبسهم الدروع التي قد صدأت ما وصفهم بالسهك، والسهك والسهكة قبح رائحة اللحم إذا خبز وقال ابن بطال وأصله ريح السمك وصدأ الحديد أما ما في هذه الفصل من الاحكام فهو أنه يجب لها ما تحتاج إليه من الدهن والمشط، لان ذلك تحتاج إليه لزينة شعرها فوجب عليه كنفقة بدنها، ولان فيه تنظيفا فوجب عليه، كما يجب على المكنرى كنس الدار المستأجرة، هكذا أفاده العمرانى في البيان.
ويجب عليه ما تحتاج إليه من الصابون وأجرة الحمام، أو توفير أسباب الاستحمام في مسكنها لما ذكرناه في الدهن والمشط.
قال الشيخ أبو إسحاق هنا فأما الخضاب فإن لم يطلب الزوج منها لم يلزمه، وان طلبه منها لزمه ثمنه، وأما الطيب، فإن كان يراد لقطع السهوكة لزمه لانه يراد للتنظيف، وان كان راد للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه، لان الاستمتاع حق له فلا يلزمه، ولا يلزمه أجرة الحجامة والفصادة، ولا ثمن الادوية ولا أجرة الطبيب ان احتاجت إليه لان ذلك يراد لحفظ بدنها لعارض
ولنا وفقة عند هذا الامر الذي ينبغى النظر إليه من خلال ما طرأ على حياة الناس من تغير، وليس هذا الفرع بالشئ الثابت الذي لا يتأثر بالعوامل الانسانية السائدة، فإنه إذا كان الزوجان في مجمتع أو بيئة أو دولة تكفل للعامل والشغال قدرا من الرعاية الصحية تحت اسم اصابة العمل أو المرض أثناء الخدمة فيتكفل صاحب العمل ببعض نفقات العلاج أو كلها، فإنه ليس من العروف أن لضرب المثل هنا بإجارة الدار مع الفارق بين الزوجة والدار، والاقرب إلى التشبيه أن يكون المثل إنسانيا فيضرب المثل بالعامل فإنه أولى على أن الفصل في ذلك أن المرء فيها أمير نفسه، فإن كان يحس في وجدانه بقوله تعالى " والله خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " فإنه لن يشح عليها بما يزيل وصبها وعطبها في كتفه، وهو أمر مستحب يدخل في فضائل المروءة وحسن المعاشرة والايثار

(18/255)


وإذا كانت أجرة الحمام لتنظيف البدن.
وكذلك فرض مقادير اللحم والادم لحفظ بدنها، وأصحابنا يقولون بأن هذه كلها لحفظ البدن على الدوام فنحن قد أستحببنا قياس ثمن الدواء لحفظ البدن مما يطرأ عليه على نفقة البدن الاخرى، وفيما يأتي من مسائل ما يؤيد قياسنا هذا.
وقد ذهبنا إلى استحبابه للاجماع على عدم وجوبه بِلَا خِلَافٍ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
(فصل)
ويجب لها الكسوة لقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولحديث جابر " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولانه يحتاج إليه لحفظ البدن على الدوام فلزمه كالنفقة، ويجب لامرأة الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد من القطن والكتان والخز والابريسم، ولامرأة المعسر من غليظ
القطن والكتان، ولامرأة المتوسط ما بينهما، وأقل ما يجب قميص وسراويل ومقنعة ومداس للرجل، وإن كان في الشتاء أضاف إليه جبة، لان ذلك من الكسوة بالمعروف.

(فصل)
ويجب لها ملحفة أو كساء ووسادة ومضربة محشوة للنوم، وزلية أو لبد أو حصير للنهار، ويكون ذلك لامرأة الموسر من المرتفع، ولامرأة المعسر من غير المرتفع، ولامرأة المتوسط ما بينهما لان ذلك من المعروف
(فصل)
ويجب لها مسكن لقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعروف أن يسكنها في مسكن، ولانها لاتستغنى عن المسكن للاستتار عن العيون والتصرف والاستمتاع، ويكون المسكن على قدر يساره وإعساره وتوسطه كما قلنا في النفقة.

(فصل)
وإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها بأن تكون من ذوات الاقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله عز وجل " وعاشروهن بالمعروف " ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها، ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لان المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد، ولايجوز أن يكون

(18/256)


الخادم الا امرأة أو ذا رحم محرم، وهل يجوز أن يكون من اليهود والنصارى؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز لانهم يصلحون للخدمة
(والثانى)
لا يجوز لان النفس تعاف من استخدامهم وإن قالت المرأة: أنا أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يجبر الزوج عليه لان القصد بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه، وذلك لا يحصل بخدمتها.
وإن قال الزوج أنا أخدمها بنفسى فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه يلزمها الرضا به، لانه تقع الكفاية
بخدمته
(والثانى)
لا يلزمها الرضا به لانها تحتشمه ولا تستوفى حقها من الخدمة
(فصل)
وان كان الخادم مملوكا لها واتفقا على خدمته لزمه نفقته، فإن كان موسرا لزمه للخادم مد وثلث من قوت البلد، وان كان متوسطا أو معسرا لزمه مد لانه لا تقع الكفاية بما دونه، وفي أدمه وجهان
(أحدهما)
أنه يجب من نوع أدمها كما يجب الطعام من جنس طعامها.

(والثانى)
أنه يجب من دون أدمها وهو المنصوص، لان العرف في الادم أن يكون من دون أدمها، وفي الطعام العرف أن يكون من جنس طعامها، ويجب الخادم كل زوجة من الكسوة والفراش والدثار دون ما يجب للزوجة، ولا يجب له السراويل ولا يجب له المشط والسدر والدهن للرأس، لان ذلك يراد للزينة والخادم لايراد للزينة، وان كانت خادمة تخرج للحاجات وجب لها خف لحاجتها إلى الخروج (الشرح) قوله " الزلية " بساط عراقى نحو الطنفسة، والدثار والثوب الذي يتدفأ به.
قال الشافعي رضى الله عنه: وفرض لها من الكسوة ما يكسى مثلها ببلدها عند المقتر، وذلك من القطن الكوفى والبصرى وما أشبههما، ولخادمها كرباس وتبان وما أشبهه، وفرض لها في البلاد الباردة أقل ما يكفى من البرد من جبه محشوة وقطيفة أو لحاف وسراويل وقميص وخمار أو مقنعة، ولخادمها جبة صوف وكساء تلحفه يدفئ مثلها، وقميص ومقنعة وخف ومالا غنى بها عنه، وفرض لها للصيف قيمصا وملحفة ومقنعة.
قال وتكفيها القطيفة سنين ونحو ذلك الجبة المحشوة.
اه

(18/257)


وجملة ذلك أن كسوة الزوجة تجب على الزوج لقوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولقوله صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف " ولان الكسوة تحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام، فوجبت على الزوج كالنفقة.
إذا ثبت هذا فإن المرجع في عدد الكسوة وقدرها وجنسها لى العرف والعادة لان الشرع ورد بإيجاب الكسوة غير مقدرة، وليس لها أصل يرد إليه، فرجع في عددها وقدرها إلى العرف بخلاف النفقة، فإن في الشرع لها أصلا، وهو الاطعام في الكفارة فردت النفقة إليها فإن قيل فقد ورد الشرع بإيجاب الكسوة في الكفارة فهلا ردت كسوة الزوجة إلى ذلك؟ فالجواب أن في الكسوة الواجبة في كفارة اليمين ما يقع عليه اسم الكسوة، وأجمعت الامة على أنه لا يجب للزوجة من الكسوة ما يقع عليه اسم الكسوة، فإذا منع الاجماع من قياس كسوتها على الكسوة في الكفارة لم يبق هناك أصل يرد إليه، فرجع في ذلك إلى العرف.
فأما عدد الكسوة قال الشافعي: فيجب للمرأة قميص وسراويل وخمار أو مقنعة قال أصحابنا: ويجب لها شئ تلبسه في رجلها من نعل ونحوه.
وأما قدرها فإنه يقطع لها ما يكفيها على قدر طولها وقصرها، لان عليه كفايتها في الكسوة ولا تحصل كفايتها إلا بقدرها.
وأما جنسها فإن الشافعي قال أجعل لامرأة الموسر من لين البصري والكوفي والبغدادي، ولامرأة المعسر من غليظ البصري والكوفي - قال الشيخ أبو حامد إنما فرض الشافعي هذه الكسوة على عادة أهل زمانه.
لان العرف في وقته على ما ذكر.
فأما في وقتنا فإن العرف قد اتسع فإن العرف أن امرأة الموسر تلبس الحرير والخز والكتان، فيدفع إليها مما جرت عادة نساء بلدها بلبسه.
وان كان في الشتاء أضاف إلى ذلك جبة محشوة تتدفأ بها.
انتهى وعندي أنها إذا كانت في بلد لا يكتفي نساؤهم إلا بثياب داخلية وثياب
خارجية وثياب للنوم وجب كسوتها من ذلك، ويجب لها نطاق وخمار، فيجب لامرأة الموسر من مرتفع ذلك، وتسمى في زماننا بالطرحة أو الايشارب.

(18/258)


ولامرأة المعسر من خشن ذلك، ولامرأة المتوسط مما بينهما.
وإن كانت في بلد لا تختلف كسوة أهلها في زمان الحر والبرد لم تجب لها الملابس المحشوة كالباطو للشتاء، لان ذلك هو العرف والعادة في حق أهل بلدها فلم يجب لها أكثر منه قال اشافعى " وإن كانت بدوية فما يأكل أهل البادية ومن الكسوة بقدر ما يكتسبون - قال الشافعي " ولامرأته فراش ووسادة من غليظ متاع البصرة، وجملة ذلك أنه يجب لها عليه فراش، لانها تحتاج إلى ذلك كما تحتاج إلى الكسوة فيجب لامرأة الموسر مضربه محشوة بالقطن ووسادة.
وإن كان في الشتاء وجب لها لحاف أو قطيفة للدفء.
وان كان في الصيف وجب لها ملحفة.
وهل يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجب لها غير الفراش الذي تنام عليه لانها تكتفى بذلك
(والثانى)
- وهو المذهب - أنه يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه كالحشية (الشلته) أو كرسى أو سجادة أو ما أشبه ذلك لان العرف في أمرأة الموسر أنها تجلس في النهار على غير الفراش الذي تنام عليه، وقد يحدد العرف مكانا لجلوسها كمكان الاستقبال (الانزيه أو الصالون) فعلى الموسر أن يوفر لها مثل أحد هذه المكانين لاستراحتها (مسألة) ويجب لها مسكن لقوله تعالى " أسكنونهن من حيث سكنتم من وجدكم " وقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعروف أن يسكنها بمسكن ولانها تحتاج إليه للاستتار عن العيون عند الاستمتاع، ويقيها من الحر والبرد، فوجب عليه كالكسوة ويعتبر ذلك بيساره وإعساره وتوسطه
(مسألة) وإن كان المرأة ممن لا تخدم نفسها لمرض بها أو كانت من ذوات الاقدار - قال ابن الصباغ فإن كانت لا تخدم نفسها في بيت أبيها وجب على الزوج أن يقيم لها من يخدمها وقال داود " لا يجب عليه لها خادم " دليلنا قوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعاشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها: ولان الزوج لما وجبت عليه نفقة الزوجة وجب عليه إخدامها كالاب لما وجبت عليه نفقة الابن وجبت عليه أجرة من يخدمه وهو من يحضنه.
إذا ثبت هذا فإنه لا يلزمه لها إلا خادم واحد، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ

(18/259)


وقال مالك: إذا كانت تخدم في بيت أبيها بخادمين أو أكثر، أو كانت تحتاج إلى أكثر من خادم وجب عليه ذلك.
وقال أبو ثور: إذا احتمل الزوج ذلك فرض لخادمين، ودليلنا أن الزوج إنما يلزمه أن يقيم لها من يخدمها بنفسها دون مالها، وما من امرأة إلا ويكفيها خادم واحد فلم يجب لها أكثر منه (فرع)
ولا يكون الخادم إلا امرأة أو رجلا من ذوى محارمها لانها تحتاج إلى نطر الخادم، وقد تخلو به فلم يجز أن يكون رجلا أجنبيا.
وهل تجبر المرأة على أن يكون من اليهود والنصارى؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تجبر على خدمتهم لانهم يصلحون للخدمة
(والثانى)
لا تجبر على أحد منهم لان النفس تعاف من استخدامهم، فإن أخدمها خادما يملكه، أو اكثري لها خادما يخدمها، أو كان لها خادم واتفقا أن يخدمها وينفق عليه أو خدمها الزوج بنفسه ورضيت الزوجة بذلك جاز، لان المقصود خدمتها وذلك يحصل بجميع ذلك وعند أصحاب أحمد في إخدام اليهود والنصارى وجهان كالوجهين عندنا
الصحيح منهما جوازه لان استخدامهم مباح، وقد ذكر في المغنى لابن قدامة أن الصحيح إباحة النظر لهم.
وإن أراد الزوج أن يقيم لها خادما واختارت المرأة أن تقيم لها خادما غيره ففيه وجهان حكاهما القاضى أبو الطيب
(أحدهما)
يقدم اختيار الزوجة لان الخدمة حق لها، وربما كان من تختاره أقوم بخدمتها
(والثانى)
يقدم اختيار الزوج، لان الخدمة حق عليه لها فقدمت جهة اختياره كالنفقة، ولانه قد يتهم من تختاره الزوجة فقدم اختيار الزوج قال المسعودي وإن كان لها خادم فأراد الزوج إبداله بغيره فإن كان بالخادم عيب، أو كان سارقا، فله ذلك وإلا فلا، وان أراد الزوج أن يخدمها بنفسه وامتنعت من ذلك فهل تجبر؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تجبر عليه، وهو اختيار أبى إسحاق المروزى والشيخ أبى حامد لان المقصود إخدامها فكان له إخدامها بغيره وبنفسه، كما يجوز أن يوصل إليها النفقة بوكيله أو بنفسه.

(18/260)


(والثانى)
لا تجبر على قبول خدمته لانها تحتشم أن تستخدمه في جميع حوائجها، ولان عليها عارا في ذلك وغضاضة فلم تجبر عليه هذا نقل أصحابنا البغدادين، لانها لا ترضى أن يكون لها زوجها خادما ولو كان خادما لها، وبهذين الوجهين قال الحنابلة وقال المسعودي ان كانت خدمته مما لا تحتشم منه في مثلها، مثل كنس البيت والطبخ ونحوه أجبرت على قبول ذلك منه، وان كانت خدمته تحتشم منه في مثلها كحمل الماء معها إلى المستحم ونحوه لم يجبر على قبول ذلك منه، بل يجب عليه أن يأتيها بخادم يتولى ذلك لها (فرع)
وأما نفقة من يخدمها، فإن أخدمها بمملوك له فعليه نفقته وكسوته
على الكفاية لحق الملك لا لخدمتها، وإن استأجر من يخدمها فله أن يستأجره بالقليل والكثير، وان وجد من يتطوع بخدمتها من غير عوض جاز، لان حقها في الخدمة وقد حصل ذلك، وإن كان لها خادم مملوك لها واتفقا على أن يخدمها وجب على الزوج نفقة خادمها وكسوته وزكاة فطره، وتكون نفقته مقدرة، وقد أوهم المرنى أن في وجوب نفقة خادمها قولين.
قال أصحابنا وليس بشئ إذا ثبت هذا فإنه يجب لخادم امرأة الموسر والمتوسط ثلثا ما يجب لها من النفقة، فيجب لخادم امرأة الموسر كل يوم مد وثلث لخادم امرأة المتوسط كل يوم مد، لان العرف أن نفقة خادم المرأة الموسر أكثر من نفقة خادم امرأة المعسر، وأما نفقة خادم امرأة المعسر فيجب له كل يوم مد، لان البدن لا يقوم بدون، ذلك ويجب ذلك من غالب قوت البلد، لان البدن لا يقوم بغير قوت البلد ويجب له الادم لان العرف أن الطعام لا يؤكل إلا بأدم، وهل يكون من مثل أدمها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يكون من مثل أمها كما يجب الطعام من مثل طعامها
(والثانى)
لا يجب له من مثل أدمها لان العرف أن أدم الخادم دون أدم المخدوم فلم يسو بينهما، كما لا يسوى بينهما في قدر النفقة، فعلى هذا يكون أدمها كما يقول العمرانى وغيره من أصحابنا من الزيت الجيد، ويكون أدم خادمها من

(18/261)


الذي دونه، ولا يعدل بأدم الخادم عن جنس غالب أدم البلد، لان البدن لا يقوم إلا به.
وهل يجب لخادمها اللحم؟ إن قلنا يجب له الادم من مثل أدمها وجب له اللحم.
ولا يجب له الدهن والمشط لان ذلك يراد للزينة والخادم لايراد للزينة.
قال الشافعي: ويجب لخادمها قميص ومقنعة وخف، وأوجب لها الخف لانها
تحتاج إليه عند الخروج لقضاء الحاجات، وإن كان في الشتاء وجب له جبة صوف أو كساء ليدفأ به من البرد، قال: ولخادمها فروة ووسادة وما أشبههما من عباءة أو كساء.
قال أصحابنا، أما الفراش فلا يجب لخادمها، وإنما يجب له وسادة: ويجب لخادم امرأة الموسر كساء، ولخادم امرأة المعسر عباءة لان ذلك هو العرف في حقهم: فإن مات خادمها فهل يجب عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؟ فيه وجهان كما قلنا في كفن الزوجة ومؤنة تجهيزها.
وإن خدمت المرأة نفسها لم يجب لها أجرة، لان المقصود بإخدامها ترفيهها، فإذا حملت المشقة على نفسهما لم تستحق الاجرة كالعامل في الفراض إذا تولى من العمل ما له أن يستأجر عليه من مال القراض.
(فرع)
فإذا كانت ممن لا تخدم بأن كانت تخدم نفسها في بيت أبيها وهى صحيحة تقدر على خدمة نفسها لم يجب على الزوج أن يقيم لها من يخدمها، لان العرف في حقها أن تخدم نفسها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب أن يدفع إليها نفقة كل يوم إذا طلعت الشمس، لانه أول وقت الحاجة، ويجب أن يدفع إليها الكسوة في كل ستة أشهر لان العرف في الكسوة أن تبدل في هذه المدة، فإن دفع إليها الكسوة فبليت في أقل من هذا القدر لم يجب عليه بدلها كمالايجب عليه بدل طعام اليوم إذا نفذ قبل انقضاء پاليوم، وإن انقضت المدة والكسوة باقية ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه تجديدها لان الكسوة مقدرة بالكفاية، وهي مكفية
(والثانى)
يلزمه تجديدها وهو الصحيح، كما يلزمه الطعام في كل يوم.
وإن بقى

(18/262)


عندها طعام اليوم الذي قبله، ولان الاعتبار بالمدة لا بالكفاية، بدليل أنها
لو تلفت قبل انقضاء المدة لم يلزمه تجديدها والمدة قد انقضت فوجب التجديد.
وأما ما يبقى سنة فأكثر كالبسط والفراش وجبة الخز والابريسم فلا يجب تجديدها في كل فصل لان العادة أن لا تجدد في كل فصل
(فصل)
وإن دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه لم يرجع بما بقى لانه دفع ما يتسحق دفعه، وان سلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها فله أن يرجع في نفقة ما بعد اليوم الذي بانت فيه، لانه غير مستحق، وإن دفع إليها كسوة الشتاء أو الصيف فبانت قبل انقضائه ففيه وجهان
(أحدهما)
له أن يرجع لانه ذفع لزمان مستقبل فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق ثبت له الرجوع كما لو أسلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها
(والثانى)
لا يرجع لانه دفع ما يستحق دفعه لم يرجع به، كما لو دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه.

(فصل)
وإن قبضت كسوة فصل وأرادت بيعها لم تمنع منه، وقال أبو بكر ابن الحداد المصرى لا يجوز.
وقال أبو الحسن الماوردى البصري إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال لم يجز، لان للزوج حظا في جمالها وعليه ضررا في نقصان جمالها، والاول أظهر، لانه عوض مستحق فلم تمنع من التصرف فيه كالمهر.
وان قبضت النفقة وأرادت أن تبيعها أو تبدلها بغيرها لم تمنع منه، ومن أصحابنا من قال ان أبدلتها بما يستضر بأكله كان للزوج منعها لما عليه من الضرر في الاستمتاع بمرضها، والمذهب الاول لما ذكرناه في الكسوة والضرر في الاكل لا يتحقق فلا يجوز المنع منه (الشرح) في متي يجب نفقة الزوجة قولان.
قال في القديم يجب جميعها بالعقد.
ولكن لا يجب عليه تسليم الجميع، وبه قال أبو حنيفة لانه مال يجب للزوجة بالزوجة فوجب بالعقد كالمهر، ولان النفقة يجب في مقابلة الاستمتاع
فلما ملك الاستمتاع بها بالعقد وجب بأن تملك عليه بالعقد ما في مقابلته وهو النفقة كالثمن والمثمن

(18/263)


وقال في الجديد: لا تجب بالعقد وإنما تجب يوما بيوم وهو الاصح.
لانها لو وجبت بالعقد لوجب عليه تسليم جميعها إذا سلمت نفسها، كما يجب على المستأجر تسليم جميع الاجرة إذا قبض العين المستأجرة، فلما لم يجب عليه تسليم جميعها ثبت أن الجميع لم يجب، وقول الاول أنها وجبت في مقابلة ملك الاستمتاع غير صحيح وإنما وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع، فإذا قلنا بقوله القديم صح أن يضمن عن الزوج بعقد زمان مستقبل، ولكن لا يضمن عنه إلا نفقة المعسر وإن كان موسرا، لان ذلك هو الواجب عليه بيقين.
وإن قلنا بقوله الجديد لم يصح أن يضمن عليه الا نفقة اليوم بعد طلوع الفجر.
وأما وجوب التسليم فلا خلاف أنه لا يجب عليه إلا تسليم نفقة يوم بيوم، لانها إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع وذلك لا يوجد الا بوجود التمكين في اليوم، فإذا جاء أول اليوم وهي ممكنة له من نفسها وجب عليه تسليم نفقة اليوم في أوله لان الذي يجب لها هو الحب، والحب يحتاج إلى طحن وعجن وخبز.
وتحتاج إلى الغداء والعشاء.
فلوقلنا لا يجب عليه تسليم ذلك الا في وقتت الغداء والعشاء أضر بها الجوع إلى وقت فراغه..قال الشيخ أبو حامد: فإن سلم لها خبزا فارغا فأخذته وأكلته كان ذلك قبضا فاسدا، لان الذى تستحقه عليه الحب، فيكون لها مطالبته بالحب وله مطالبتها بقيمة الخبز (فرع)
فإن دفع إليها نفقة شهر مستقبل فمات أحدهما أو بانت منه بالطلاق
قبل انقضاء الشهر لم يسترجع منها لانه دفع إليها ما وجب عليه لها، فلم يتغير بما طرأ بعده كما لو دفع الزكاة إلى فقير فمات أو استغنى.
وان دفع إليها نفقة شهر مستقبل فمات أحدهما أو بانت منه في أثناء الشهر استرجع منها نفقة ما بعد اليوم الذى مات أحدهما فيه أو بانت فيه.
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف لا يسترجع منها لانه ملكته بالقبض ودليلنا أنه دفع ذلك إليها عما سيجب لها بالزوجية في المستقبل، فإذا بان أنه لم يجب لها شئ استرجع منها، كما لو قدم زكاة ماله قبل الحول إلى فقير فاستغنى الفقير من غير ما دفع إليه أو مات

(18/264)


(فرع)
وان دفع إليها الكسوة أو النعل فبليت نظرت، فإن بليت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها، مثل أن يقال: مثل هذا يبقى ستة أشهر، فأبلته بأربعة أشهر أو دونها لم يلزمه أن يدفع إليها بدله، لانه قد دفع إليها ما تستحقه عليه، فإذا بلى قبل ذلك لم يلزمه ابداله، كما لو سرقت كسوتها أو احترقت، وكما لو دفع إليها نفقة يوم فأكلتها قبل اليوم.
وان مضى الزمان الذي تبلى فيه مثل تلك الكسوة بالاستعمال المعتاد ولم تبل تلك الكسوة بل يمكن لباسها، فهل يلزمه أن يكسوها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه لانها غير محتاجة إلى الكسوة
(والثانى)
يلزمه أن يكسوها قال الشيخان أبو إسحاق وأبو حامد: وهو الاصح لان الاعتبار بالكسوة بالمدة لا بالبلاء.
ألا ترى أن كسوتها لو بليت قبل وقت بلائها لم يلزمه ابدالها، فإذا بقيت بعد مدة بلائها لم يلزمه ابدالها، ولانه لو دفع إليها نفقة يوم فلم تأكلها حتى جاء اليوم الثاني لزمه نفقة لليوم الثاني، وان كانت مستغنية فيه بنفقة اليوم الاول فكذلك في الكسوة مثله
وان دفع إليها كسوة مدة فمات أحدهما أو بانت منه قبل انقضائها والكسوة لم تبل، فهل يسترجع من وارثها أو منها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يسترجع منها، كما لو دفع إليها نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة
(والثانى)
لا يسترجع لانه دفع الكسوة إليها بعد وجوبها عليه فلم يسترجع منها كما لو دفع إليها نفقة يوم فمات أحدهما أو بانت قبل انقضائه، ويخالف إذا دفع إليها نفقة الشهر، فإنها لا تستحق عليه نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة.
فلذلك استرجعت منها (فرع)
قال ابن الحداد " إذا دفع إلى امرأته كسوة فأرادت بيعها لم يكن لها ذلك لانها لا تملكها، ألا ترى أن له ان يأخذها منها ويبدلها بغيرها، ولو دفع إليها طعاما فباعته كان لها ذلك واختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من وافق ابن الحداد وقال، لا يصح لها بيع ما يدفع إليها من الكسوة لانها تستحق عليه الانتفاع بالكسوة وهو استتارها بها فلا تملكها بالقبض كالمسكن.
وان أتلفت كسوتها لزمها قيمتها له ولزمه أن

(18/265)


يكسوها.
ومنهم من خطأ ابن الحداد وقال: تملك الكسوة إذا قبضتها ويصح بيعها، لانه يجب عليه دفع الكسوة إليها، فإذا قبضتها ملكتها وصح بيعها لها كالنفقة ويخالف المسكن فإنه لا يلزمه أن يسلم إليها المسكن وإنما له أن يسكن معها وقال أبو الحسن الماوردى صاحب الحاوى: إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال لم يجز، لان للزوج حظأ في جمالها، وعليه ضرر في نقصان جمالها، وإن أرادت بيعها بمثلها أو أعلى منها كان لها ذلك لانها ملكتها ولا ضرر على الزوج في ذلك قال ابن الصباغ: وعندي أنه لو أراد أن يكترى لها ثيابا تلبسها لم يلزمها أن تستجيب إلى ذلك، ولو أراد أن يكترى لها مسكنا لزمها الاستجابة إلى ذلك.
هذا نقل أصحابنا البغداديين أن الذي يستحق عليه دفع النفقة والكسوة ولم يذكر أحد منهم أنه يجب عليه أن يملكها وأما المسعودي فقال: يجب عليه أن يملكها الحب، فلو رضيت أن يملكها الخبز فالظاهر أنه يصح، وفيه وجه آخر أنه لا يصح، لانه إبدال قبل القبض.
وأيضا فإنه بيع الحب بالخبز.
وذلك ربا.
وأما الكسوة فتجب عليه على طريق الكفاية ولا يجب عليه التمليك، فلو سرقت أو تحرقت في الحال وجب عليه الابدال، وفيه وجه أخر أنه يجب عليه التمليك تخريجا من النفقة.
(فرع)
وإن دفع إليها نفقتها وأرادت بيعها أو ابدالها بغيرها لم تمنع منها.
ومن أصحابنا من قال: إنه إذا أرادت إبدالها بما تستضر بأكلها كان للزوج منعها لان عليه ضررا في الاستمتاع بها مريضة، والمذهب الاول، لان الضرر بأكلها لغيرها لا يتحقق.
فإن تحقق الضرر بذلك منعت منه، لئلا تقتل نفسها، كما لو أرادت قتل نفسها.
قال الشافعي: وليس على الزوج أن يضحى عن امرأته لانه لا يجب عليه أن يضحى عن نفسه، فلان لا يجب عليه أن يضحى عنها أولى.
والله أعلم

(18/266)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب الاعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها)
إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر فلها أن تفسخ النكاح.
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: يفرق بينهما " ولانه إذا ثبت لها الفسخ بالعجز عن الوطئ - والضرر فيه أقل - فلان يثبت بالعجز عن النفقة والضرر فيه أكثر أولى.
وإن أعسر ببعض
نفقة المعسر ثبت لها الخيار، لان البدن لا يقوم بما دون المد، وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر لم يثبت لها الفسخ، لان ما زاد غير مستحق مع الاعسار.
وإن أعسر بالادم لم يثبت لها الفسخ، لان البدن يقوم بالطعام من غير أدم.
وإن أعسر بالكسوة ثبت لها الفسخ، لان البدن لا يقوم بغير الكسوة، كما لا يقوم بغير القوت.
وإن أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها الفسخ لان النفس تقوم بغير خادم.
وان أعسر بالمسكن ففيه وجهان
(أحدهما)
يثبت لها الفسخ لانه يلحقها الضرر لعدم المسكن
(والثانى)
لا يثبت لانها لاتعدم موضعا تسكن فيه
(فصل)
وان لم يجد الا نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الفسخ، لانه لا يلزمه في كل يوم أكثر من نفقة يوم، وان وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعشيها ففيه وجهان
(أحدهما)
لها الفسخ لان نفقة اليوم لاتتبعض.

(والثانى)
ليس لها الفسخ لانها تصل إلى كفايتها وان كان يجد يوما قدر الكفاية ولا يجد يوما ثبت لها الفسخ لانه لا يحصل لها في كل يوم إلا بعض النفقة.
وان كان نساجا ينسج في كل أسبوع ثوبا تكفيه أجرته الاسبوع، أو صانعا يعمل في كل ثلاثة أيام تكة يكفيه ثمنها ثلاثة أيام لم يثبت لها الفسخ لانه يقدر أن يستقرض لهذ المدة ما ينفقه فلا تنقطع به النفقة.
وإن كانت نفقته في عمل فعجز عن العمل بمرض نظرت.
فإن كان مريضا يرجى زواله في اليومين والثلاثة

(18/267)


لم يثبت لها الفسخ، لانه يمكنها أن تستقرض ما نفقته ثم تقضيه.
وإن كان مريضا مما يطول زمانه ثبت لها الفسخ لانه يلحقها الضرر لعدم النفقة، وإن كان له مال غائب - فإن كان في مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يجز لها الفسخ.
وإن كان في
مساقة تقصر فيها الصلاة ثبت لها الفسخ لما ذكرناه في المرض، وإن كان له دين على موسر لم يثبت لها الفسخ.
وإن كان على معسر ثبت لها الفسخ، لان يسار الغريم كيساره، وإعساره كإعساره في تيسير النفقة وتعسيرها (الشرح) حديث أبى هريرة أخرجه الدارقطني والبيهقي في السنن الكبرى من طريق عاصم القارى عن أبى صالح عن أبى هريرة وأعله أبو حاتم، ولكن للحديث شواهد عن سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور والشافعي وعبد الرزاق في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله قال " يفرق بينهما " قال أبو الزناد: قلت لسعيد سنة؟ قال سنة.
وهذا مرسل قوى وعن عمر بن عند عبد الرزاق والمنذري والشافعي " أنه كتب إلى أمراء الاجناد في رجال غابوا عن نسائهم إما أن ينفقوا وإما أن يطلقوا ويبعثوا نفقة ما حبسوا " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " خير الصدقة ماكان من ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السلفي وابدأ بمن تعول.
فقيل من أعول يارسول الله؟ قال امرأتك ممن تعول، تقول أطعمني وإلا فارقني، جاريتك تقول أطعمني واستعملني، ولدك يقول إلى من تتركني؟ " ورواه أحمد والدارقطني بإسناد صحيح وأخرجه الشيخان في الصحيحين وأحمد من طريق آخر، وجعلوا الزيادة المفسرة فيه من قول أبى هريرة.
وقد حسن إسناده الحافظ بن حجر مع كونه من رواية عاصم عن أبى صالح، وفي حفظ عاصم مقال والحديث الذي أخرجه البخاري عن أبى هريرة لفظه قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول.
تقول المرأة: اما أن تطعمني واما أن تطلقني، ويقول العبد أطعمني واستعملني.
ويقول الابن أطعمني والى من تدعني؟ قالو أبا هريرة سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ لا، هذا من كيس أبى هريرة "

(18/268)


أما الاحكام: فإنه إذا كان الزوج موسرا فصار معسرا فإنه ينفق على زوجته نفقة المعسر، ولا يثبت لها الخيار في فسخ النكاح، لان بدنهايقوم بنفقة المعسر وان أعسر بنفقة المعسر كانت بالخيار بين أن تصبر وبين أن تفسخ النكاح، وبه قال عمر وعلي وأبو هريرة وابن المسيب والحسن البصري وحماد بن أبى سلمة وربيعة ومالك وأحمد وقال عطاء والزهرى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا يثبت لها الفسخ، بل يرفع يده عنها لتكتسب.
وحكاه المسعودي قولا آخر لنا.
وليس بمشهور.
دليلنا قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فخير الله الزوج بين الامساك بالمعروف، وهو أن يمسكها وينفق عليها، وبين التسريح بإحسان.
فإذا تعذر عليه الامساك بمعروف تعين عليه التسريح وروى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته يفرق بينهما " ولانه روى ذلك عن عمر وعلي وأبى هريره ولا مخالف لهم في الصحابة الا ما رواه صاحب الفتح عن الكوفيين من أنه يلزم المرأة الصبر وتتعلق النفقة بذمة الزوج.
وحكاه في البحر من كتب العترة عن عطاء والزهرى والثوري والقاسمية.
وقالوا عن الاحاديث انها معتلة وأما ما ورد في الصحيحين من حديث أبى هريره فقالوا هو من قول أبى هريره كما وقع التصريح به منه حيث قال " انه من كيسه " أي من استنباطة من المرفوع وقد وقع في رواية الاصيلى بفتح الكاف أي من فطنته ونجيب عن ذلك بأن الاحاديث المذكورة يقوي بعضها بعضا مع أنه لم يكن فيها قدح يوجب الضعف فضلا عن السقوط.
والآية " لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا الا وسعها ما آتاها " وكذا
قولهم " وإذا أعسر ولم يجد سببا يمكنه به تحصيل النفقة فلا تكليف عليه بدلالة الآية فيجاب عنه بأنا لم نكلفه النفقه حال اعساره، بل دفعنا الضرر عن امرأته وخلصناها من حباله لتكتسب لنفسها أو يتزوجها رجل آخر.
واحتجوا بما في صحيح مسلم من حديث جابر " أنه دخل أبو بكر وعمر على النبي صلى الله عليه وسلم فوجداه حوله نساؤه واجما ساكنا وهن يسألنه النفقه،

(18/269)


فقام كل منهما إلى ابنته أبو بكر إلى عائشة وعمر إلى حفصة فوجا أعناقهما فاعتزلهن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذلك شهرا " فضربهما لابنتيهما في حضرته صلى الله عليه وسلم لاجل مطالبتهما بالنفقة التي لا يجدها يدل على عدم التفرقة لمجرد الاعسار عنها.
قالوا ولم يزل الصحابة فيهم الموسر والمعسر ومعسورهم أكثر ويجاب عن هذا بأن زجرهما عن المطالبة بما ليس عِنْدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يدل على عدم جواز الفسخ لاجل الاعسار، ولم يرو أنهن طلبنه ولم يجبن إليه، كيف؟ وقد خيرهن صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فاخترنه.
ومحل النزاع هل يجوز الفسخ عند الاعسار أم لا؟ وقد أجيب عن هذا الحديث بأن أزواجه صلى الله عليه وسلم لم يعد من النفقة بالكلية، لانه صلى الله عليه وسلم قد استعاذ من الفقر المدقع، ولعل ذلك إنما كان فيما زاد على قوام البدن.
قال الشوكاني في نيل الاوطار: وظاهر الادلة؟ أنه يثبت الفسخ للمرأة بمجرد عدم وجدان الزوج لنفقتها بحيث يحصل عليها ضرر من ذلك.
أه إذا ثبت هذا فإن كان لا يجد إلى نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الخيار في الفسخ لانه قادر على الواجب عليه، وإن كان لا يجد في أول النهار إلا ما يغديها ووجد في آخره ما يعشيها فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان حكاهما المصنف
(أحدهما)
يثبت لها الفسخ لان نفقة اليوم لاتتبعض

(والثانى)
لا يثبت لها الفسخ لانها تصل إلى كفايتها.
وإن كان يجد نفقة يوم ولا يجد نفقة يوم ثبت لها الفسخ لانها لايمكتها الصبر على ذلك.
فهو كما لم يجد كل يوم الانصف مد (فرع)
وإن كان نساجا ينسج في كل أسبوع ثوبا تكفيه أجرته الاسبوع لم يثبت لها الفسخ، لانه يستطيع أن يستقرض لهذه الايام ما تقضتيه لنفقتها فلا تنقطع به النفقة عليها، لان الاجر إذا كان يكفيه وحده بدونها فإنه يستطيع أن يقترض كما قررنا فلا يثبت لها الفسخ وان كانت نفقته بالعمل فعجز عنه بمرض - فإن كان مرضا يرجى زواله بالومين والثلاثة لم يثبت لها الفسخ لانه لم يلحقها الضرر.
وإن كان له مال غائب - فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة - لم يجز لها الفسخ ولا ثبت لها

(18/270)


الفسخ لما ذكرناه في المرض وان كان له دين على ملئ لم يثبت لها الفسخ كما قلنا في الزكاة إذا كان بعض النصاب دين على ملئ وجب على الدائن الزكاة فيه، لان يسار الغريم كيساره، واعساره كإعساره في تيسير النفقة واعسارها (فرع)
وان علمت المرأة بإعسار الرجل بالنفقة فتزوجته ثبت لها الفسخ.
لانه قد يكتسب بعد العقد أو يقترض أو يتهب، فلما جاز أن يعتبر حاله لم يلزمها حكم علمها به، وان تزوجته مع علمها به بإعساره بالمهر فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يثبت لها الفسخ كالنفقة
(والثانى)
لا يثبت لها الفسخ لانها رضيت بتأخيره لانه معسر به بخلاف النفقة فإنها تجب بعد العقد.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان الزوج موسرا وامتنع من الانفاق لم يثبت لها الفسخ لانه يمكن الاستيفاء بالحاكم.
وان غاب وانقطع خبره لم يثبت لها الفسخ، لان
الفسخ يثبت بالعيب بالاعسار، ولم يثبت الاعسار.
ومن أصحابنا من ذكر فيه وجها آخر أنه يثبت لها بالفسخ لان تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالاعسار
(فصل)
إذا ثبت لها الفسخ بالاعسار واختارت المقام معه ثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من الطعام والادم والكسوة ونفقة الخادم، فإذا أيسر طولب بها لانها حقوق واجبة عجز عن أدائها، فإذا قدر طولب بها كسائر الديون، ولا يثبت لها في الذمة ما لا يجب على المعسر من الزيادة على نفقة المعسر لانه غير مستحق.

(فصل)
وان اختارت المقام بعد الاعسار لم يلزمها التمكين من الاستمتاع ولها أن تخرج من منزله، لان التمكين في مقابلة النفقة، فلا يجب مع عدمها.
وان اختارت المقام معه على الاعسار ثم عن لها أن تنفسخ فلها أن تنفسخ، لان النفقة يتجدد وجوبها في كل يوم فتجدد حق الفسخ.
وان تزوجت بفقير مع العلم بحاله ثم أعسر بالنفقة فلها أن تنفسخ، لان حق الفسخ يتجدد بالاعسار بتجدد النفقة.

(فصل)
وان اختارت الفسخ لم يجز الفسخ الا بالحاكم لانه فسخ مختلف

(18/271)


فيه فلم يصح بغير الحاكم كالفسخ بالنعنين، وفي وقت الفسخ قولان، أحدهما أن لها الفسخ في الحال، لانه فسخ لتعذر العوض فثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن.
الثاني أنه يمهل ثلاثة أيام لانه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في غد ولا يمكن إمهاله أبدا لانه يؤدى إلى الاضرار بالمرأة والثلاث في حد القلة فوجب إمهاله.
وعلى هذا لها أن تخرج في هذه الايام من منزل الزوج، لانها لا يلزمها التمكين من غير نفقة.
(الشرح) الاحكام: إذا كان الزوج موسرا حاضرا، فطالبته بنفقتها فمنعها
إياها لم يثبت لها الفسخ، لانه يمكنها التوصل إلى استيفاء حقها بالحكم.
وفيه وجه آخر حكاه المسعودي أنه يثبت لها الفسخ، لان الضرر يلحقها بمنعه النفقة فهو كالمعسر، وليس بشئ لان العسرة عيب وإن غاب عنها الزوج وانقطع خبره ولا مال له ينفق عليها منه فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يثبت كتعذرها بالاعسار
(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد أنه لا يثبت لها الفسخ، لان الفسخ إنما يثبت بالاعسار بالنفقة ولم يثبت إعساره (فرع)
إذا ثبت اعسار الزوج وخيرت بين ثلاثة أشياء: بين أن تفسخ النكاح وبين أن تقيم معه وتمكنه من الاستمتاع بها ويثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من النفقة والادم والكسوة ونفقة الخادم إلى أن يوسر، وبين أن يقيم على النكاح ولكن لا يلزمها أن تمكنه من نفسها، بل تخرج من منزله، لان التمكين انما يجب عليها ببذل النفقة، ولا نفقة هناك، ولا تستحق في ذمته نفقة في وقت انفرادها عنه، لان النفقة انما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاء ولا تمكين منها له.
فإن اختارت المقام معه ثم عن لها أن تفسخ النكاح كان لها ذلك، لان وجوب النفقة لها يتجدد ساعة بساعة ويوما بيوم، فإذا عفت عن الفسخ وجوب نفقة وقتها ورضيت به تجدد لها الوجوب فيما بعد فثبت لها الفسخ بخالف الصداق إذا أعسر به فرضيت بالمقام معه، فإن خيارها يسقط لانه يجب دفعة واحدة ولا يتجدد وجوبه

(18/272)


وإن اختارت الفسخ قال الطبري في العدة: قولان.
أحدهما قال: ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره: إنها لا تفسخ بنفسها، بل ترفع الامر إلى الحاكم حتى يأمره بالطلاق أو يطلق عليه - لانه موضع اجتهاد واختلاف - فكان إلى
الحاكم كالفسخ بالعنة، والثانى أنها تفسخ بنفسها كالمعتقة تحت عبد.
وهل يؤجل؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يؤجل لان الفسخ للاعسار وقد وجد الاعسار فثبت الفسخ في الحال كالعيب في الزوجين
(والثانى)
يؤجل ثلاثة أيام لان المكتسب قد ينقطع كسبه ثم يعود والثلاث في حد القلة فوجب إنظاره ثلاثا ولا يلزمها المقام معه في هذه الثلاث في منزله، لانه لا يلزمها التمكين من غير نفقة، فإذا قلنا بهذا فوجد في اليوم الثالث نفقتها وتعسرت عليه النفقة في اليوم الرابع فهل يجب أن يستأنف لها إمهال ثلاثة أيام؟ فيها وجهان
(أحدهما)
يجب لان العجز الاول ارتفع
(والثانى)
لا يجب لانها تستضر بذلك.
(فرع)
وإن كانت الزوجة صغيرة أو مجنونة فأعسر زوجها بالنفقة لم يكن لوليها أن يفسخ النكاح، لان ذلك يتعلق بشهوتها واختيارها، والولى لا ينوب عنها في ذلك، وان زوج الرجل أمته من رجل فأعسر الزوج بنفقتها.
فإن كانت الزوجة معتوهة أو مجنونة قال ابن الحداد فلا يثبت الفسخ للسيد، لان الخيار إليها وليست من أهل الخيار فلا ينوب عنها السيد في الفسخ كما لو عن الزوج عنها ويلزم السيد أن ينفق عليها ان كان موسرا بحكم الملك، وتكون نفقتها في ذمة زوجها إلى أن يوسر، فإذا أيسر قال القاضى أبو الطيب: فإنها تطالب زوجها بها فإذا قبضتها أخذها السيد منها لانها لا تملك المال، وحاجتها قد زالت بإنفاق السيد عليها، قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لان الامة إذا كانت لا تملك العين فكذلك الدين، فيجب أن يكون ما ثبت من الدين للسيد وله المطالبة به دونها.

(18/273)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا وجد التمكين الموجب للنفقة ولم ينفق حتى مضت مدة صارت النفقة دينا في ذمته ولا تسقط بمضي الزمان، لانه مال يجب على سبيل البدل في عقد معاوضة فلا يسقط بمضي الزمان كالثمن والاجرة والمهر، ويصح ضمان ما استقر منها بمضي الزمان، كما يصح ضمان سائر الديون وهل يصح ضمانها قبل استقرارها بمضي الزمان؟ فيه قولان على القولين في النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين؟ فيه قولان.
قال في الجديد تجب بالتمكين وهو الصحيح، لانها لو وجبت بالعقد لملكت المطالبة بالجميع كالمهر والاجرة.
وعلى هذا لا يصح ضمانها لانه ضمان ما لم يجب وقال في القديم: تجب بالعقد لانها في مقابلة الاستمتاع والاستمتاع يجب بالعقد فكذلك النفقة، وعلى هذا يضمن منها نفقة موصوفة لمدة معلومة
(فصل)
إذا اختلف الزوجان في قبض النفقة فادعى الزوج أنها قبضت وأنكرت الزوجة فالقول قولها مع يمنها لقوله عليه السلام " اليمين على المدعى عليه " ولان الاصل عدم القبض.
وان مضت مدة لم ينفق فيها وادعت الزوجة أنه كان موسرا فيلزمه نفقة الموسر، وادعى الزوج أنه كان معسرا فلا يلزمه الا نفقة المعسر نظرت - فإن عرف لها مال - فالقول قولها - لان الاصل بقاؤه، وان لم يعرف له مال قبل ذلك القول قوله لان الاصل عدم المال.
وان اختلفا في التمكين فادعت المرأة أنها مكنت وأنكر الزوج فالقول قوله لان الاصل عدم التمكين وبراءة الذمة من النفقة، وان طلق زوجته طلقة رجعية وهي حامل فوضعت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة
فقال الزوج طلقتك قبل الوضع فانقضت العدة فلا رجعة لى عليك ولا نفقة لك على.
وقالت المرأة بل طلقتني بعد الوضع فلك على الرجعة ولى عليك النفقة، فالقول قول الزوج أنه لا رجعة لى عليك، لانه حق له فقبل اقراره فيه.
والقول قول المرأة في وجوب العدة لانه حق عليها فكان القول قولها، والقول قولها مع يمينها في وجوب النفقة، لان الاصل بقاؤها.
والله أعلم

(18/274)


(الشرح) الاحكام: نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، فإذا مكنت المرأة الزوج من نفسها زمانا ولم ينفق عليها وجبت لها نفقة ذلك الزمان، سواء فرضها الحاكم أو لم يفرضها، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يسقط عنه إلا أن يفرضها الحاكم.
دليلنا أنه حق يجب مع اليسار والاعسار فلا يسقط بمضي الزمان كالدين.
وفيه احتراز من نفقة الاقارب - فإن أعسر الزوج بنفقة ما مضى - لم يثبت لها الفسخ، لان الفسخ جعل ليرجع إليها ما في مقابلة بالنفقة، والنفقة للزمان الماضي في مقابلة تمكين قد مضى.
فلو فسخت النكاح لاجلها لم يرجع إليها ما في مقابلتها، فهو كما لو أفلس المشترى والمبيع بألف، فإنه لا يثبت للبائع الرجوع إلى المبيع.
وإن أبرأت الزوج عنها صحت براءتها، لانه دين معلوم فصحت البراءة منه كسائر الديون.
(فرع)
إذا تزوج الرجل امرأة ومكنته من نفسها زمانا ثم اختلفا في النفقة فادعى الزوج أنه قد أنفق عليها، وقالت لم ينفق على ولا بينة للزوج فالقول قول الزوجة مع يمينها، سواء كان الزوج معها أو غائبا عنها، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ إن كان الزوج غائبا عنها فالقول قولها، وإن كان حاضرا معها فالقول قول الزوج مع يمينه، لان الظاهر أنها لاتسلم نفسها إليه إلا بعد أن تتسلم النفقة وهكذا قال في الصداق
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " البينه على المدعى واليمين على من أنكر " والزوجة تنكر القبض فكان القول قولها، ولانهما زوجان اختلفا في قبض النفقه فكان القول قولها، كما لو سلمت نفسها والزوج غائب وإن سلمت نفسها إليه زمانا ولم ينفق عليها فيه أو أنفق عليها فيه نفقة معسر وادعت أنه كان موسرا فيه، وادعى أنه كان معسرا ولا بينة لها على يساره ذلك الوقت فإن عرف لها مال قبل ذلك فالقول قولها مع يمينها، لان الاصل بقاء المال، وان لم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه لان الاصل عدم اليسار (فرع)
إن ادعت الزوجه أنها مكنت الزوج من نفسها وأنكر فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم التمكين وإن طلق امرأته طلقة رجعيه وولدت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في

(18/275)


الولادة فقال الزوج ولدت بعد الطلاق فلا رجعة لى ولا نفقه لك، وقالت المرأة بل ولدت قبل الطلاق فلى العدة ولك الرجعة ولى عليك النفقة فلا رجعة للزوج لانه أقر بسقوط حقه منها وله أن يتزوج بأختها وبأربع سواها، وعلى الزوجه العدة لانها مقرة بوجوبها عليها، وتحلف المرأة أنها ولدت قبل أن يطلقها وتستحق النفقه لانهما اختلفا في وقت ولادتها وهي أعلم بها، ولانهما اختلفا في سقوط النفقه والاصل بقاؤها حتى يعلم سقوطها، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

باب نفقة المعتدة إذا طلق امرأته بعد الدخول طلاقا رجعيا وجب لها السكنى والنفقه في العدة لان الزوجية باقيه التمكين من الاستمتاع موجود، فإن طلقها طلاقا بائنا وجب لها السكنى في العدة، حائلا كانت أو حاملا، لقوله عز وجل " أسكنوهن
من حيث سكنتم من وجدكم، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " وأما النفقه فإنها إن كانت حائلا لم تجب، وان كانت حاملا وجبت لقوله عز وجل " وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " فأوجب النفقه مع الحمل، فدل على أنها لا تجب مع عدم الحمل، وهل تجب النفقه للحمل؟ أو للحامل بسبب الحمل؟ فيه قولان قال في القديم تجب للحمل لانها تجب بوجوده وتسقط بعدمه وقال في الام تجب للحامل بسبب الحمل وهو الصحيح - لانها لو وجبت للحمل لتقدرت بكفايته، وذلك يحصل بما دون المد فإن قلنا تجب للحمل لم تجب إلى على من تجب عليه نفقة الولد، فإن كانت الزوجه أمة والزوج حرا وجبت نفقتها على مولاها، لان الولد مملوك له، وان قلنا تجب النفقه للحامل وجبت على الزوج، لان نفقتها تجب عليه وان كان الزوج عبدا وقلنا ان النفقة للحامل وجبت عليه.
وان قلنا تجب للحمل لم تجب لان العبد لا يلزمه نفقة ولده

(18/276)


(فصل)
إذا وجبت النفقة للحمل أو للحامل بسبب الحمل ففي وجوب الدفع قولان
(أحدهما)
لا يجب الدفع حتى تضع الحمل لجواز أن يكون ريحا فانفش، فلا يجب الدفع مع الشك
(والثانى)
يجب الدفع يوما بيوم، لان الظاهر وجود الحمل، ولانه جعل كالمتحقق في منع النكاح وفسخ البيع في الجارية المبيعة والمنع من الاخذ في الزكاة ووجوب الدفع في الدية فجعل كالمتحقق في دفع النفقه فإن دفع إليها ثم بان أنه لم يكن بها حمل - فإن قلنا تجب يوما بيوم - فله أن يرجع عليها لانه دفعها على أنها واجبه، وقد بان أنها لم تجب فثبت له الرجوع.
وان قلنا انها لا تجب الا باوضع، فإن دفعها بأمر الحاكم فله أن يرجع
لانه إذا أمره الحاكم لزمه الدفع فثبت له الرجوع، وان دفع من غيره أمره فإن شرط أن ذلك عن نفقتها ان كانت حاملا فله أن يرجع لانه دفع عما يجب وقد بان أنه لم يجب.
وان لم يشرط لم يرجع لان الظاهر أنه متبرع (الشرح) الاحكام: إذا طلق امرأته بعد الدخول طلاقا رجعيا فإنها تستحق على الزوج جميع ما تستحق الزوجة إلا القسم إلى أن تنقضي عدتها، وهو إجماع وإن كان الطلاق بائنا وجب لها السكنى حائلا كانت أو حاملا.
وأما النفقة فإن كانت حائلا لم يجب لها.
وان كانت حاملا وجبت.
وقال ابن عباس وجابر: لاسكنى للبائن وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال أبو حنيفة تجب النفقة للبائن سواء كانت حاملا أو حائلا.
ودليلنا قوله تعالى " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن، وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فأوجب السكنى للمطلقات بكل حال، وأوجب لهن النفقة بشرط ان كن أولات حمل.
فدل على أنهن إذا لم يكن أولات حمل لانفقة لهن.
وروى أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثا وهو غائب بالشام فحمل إليها وكيله كفا من شعير فسخطته، فقال لها لانفقة لك إلا أن تكوني حاملا، إنما هو متطوع عليك، فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لها لانفقة لك الا أن تكوني حاملا، واعتدى عند أم شريك

(18/277)


إذا ثبت هذا فهل تجب النفقة للحمل أو للحامل لاجل الحمل؟ فيه قولان.

(أحدهما)
أنها تجب للحمل لانها تجب عليه بوجوده ولا تجب عليها مع عدمه فدل على أنها تجب له.

(والثانى)
أنها تجب للحامل لاجل الحمل وهو الاصح، لانه تجب عليه نفقة
الزوجة مقدرة.
ولو وجبت للحمل لتقدرت بقدر كفايته كنفقة الاقارب.
والجنين يكتفي بدون المد.
وان تزوج الحر أمة فطلقها طلاقا بأئنا وهى حامل، فإن قلنا ان النفقة تجب للحمل لم تجب عليه النفقة لان ولده منها مملوك لسيدها، ونفقة المملوك على سيده، وان قلنا ان النفقة للحامل وجب على الزوج نفقتها، وان تزوج العبد بحرة أو أمة فأبانها وهى حامل - فإن قلنا ان النفقة للحمل - لم يجب عليه النفقة، لان ولده من الامة مملوك لسيد الامة، وولده من الحرة لا تجب عليه نفقته لان العبد لا يجب عليه نفقة ولده ولا والده، وان قلنا ان النفقة للحامل وجبت عليه النفقة.
وان كان الحامل غنيا وقلنا ان النفقة للحمل فهل تجب على أبيه؟ فيه وجهان حكاهما القاضى في كتاب الخناثى قال الشاشى من أصحابنا: ويصح ابراء الزوجة عنها على القولين.
وان طلق امرأة طلاقا بائنا وهى حامل فأرتدت الزوجة فقد قال ابن الحداد تسقط نفقتها، فمن أصحابنا من وافقه وقال تسقط نفقتها قولا واحدا لانها تتعلق بمصلحتها وهى المستحقة لها فسقطت بردتها.
ومنهم من خالفه وقال: إذا قلنا ان النفقه للحامل سقطت بردتها، وان قلنا ان النفقه للحمل فلا تسقط بردتها لان الحمل محكوم بإسلامه فلا يسقط حقه بردتها وان أسلمت الزوجة وتخلف الزوج في الشرك فعليه نفقتها إلى أن تنقضي عدتها حائلا كانت أو حاملا، فمن أصحابنا من وافقه ومنهم من خالفه وقال: هذا إذا قلنا ان النفقة للحامل.
فأما إذا قلنا ان النفقة للحمل وجبت له النفقة، لانه محكوم بإسلامه.
وان مات الزوج قبل وضع الحمل وخلف أبا فقد قال أبو إسحاق المروزى تسقط النفقة لانه محكوم بإسلامه، وان مات الزوج قبل وضع الحمل وخلف أبا

(18/278)


فقد قال أبو حامد إذا قلنا ان النفقة تجب للحمل أوجبت على جده، لانه تجب عليه نفقة ولده.
(مسألة) إذا طلق امرأته وهى حامل فهل يحب عليه أن يدفع إليها النفقة يوما بيوم أو لا يجب عليه الدفع حتى تضع؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه دفع النفقة حتى تضع، فإذا وضعت الولد وجب عليه دفع نفقتها لما مضى لانه لا يجب عليه الدفع بالشك والحمل غير متحقق الوجود قبل الوضع، بل يجوز أن يكون ريحا فينفش.
والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة يوم بيوم وهو الاصح، لقوله تعالى " وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " فأمرنا بالانفاق عليهن حتى يضعن حملهن، وهذا يقضتى وجوب الدفع، ولان للحمل أمارات وعلامات، فإذا وجدت تعلق الحكم بها في وجوب فدفع النفقة، كما تعلق الحكم بها في منع أخد الحمل في الزكاة، وفي جواز رد الجارية المبيعة، وفي منع وطئ الجارية المسبية والمشتراة وفي جواز أخذ الخلفة في الدية فإذا قلنا لا يجب الدفع حتى تضع لم تحتج إلى علامة وأمارة بل تعتد، فإذا وضعت ولدا يجوز أن يكون منه لزمه أن يدفع إليها النفقة من حين الطلاق إلى حين الوضع، فإن ادعت أنها وضعت وصدقها فلا كلام.
وان كذبها فعليها أن تقيم البينة على الوضع شاهدين أو شاهدا وامرأتين أو أربع نسوة، لانه يمكنها اقامة البينة على ذلك.
وان قلنا يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيوم فادعت أنها حامل فان صدقها الزوج جب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم من وقت الطلاق إلى حين الحكم بقولهن أنها حامل دفعة واحدة، ووجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم
بيوم من حين الحكم بقولهن إلى حين الوضع ولو سألته أن يحلف لها ما يعلم أنها حامل: فالذي يقتضى المذهب أنه يلزمه أن يحلف لجواز أن يخاف من اليمين فيقر أنها حامل أو ينكل عن اليمين فيرد عليها فإذا حلفت وجب عليه الدفع لان يمينها مع نكوله كإقراره في أحد القولين، وكبينة يقيمها في القول الآخر.
والجميع يجب به الدفع

(18/279)


(فرع)
فإن طلقها طلاقا بائنا فقال القوابل إن بها حملا فأنفق عليها فبان أنه لاحمل، أو ولدت ولدا لا يجوز أن يكون منه - فان قلنا إنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيوم كان له أن يرجع عليها بما دفع إليها من النفقة سواء دفعه بأمر الحاكم أو بغيره أمره، وسواء شرط أنه نفقة أو أطلق، لانه دفع إليها النفقة على أنها واجبة عليه، وقد بان أنه لانفقة عليه لها وإن قلنا إنه لا يجب عليه الدفع إلا بعد الوضع نظرت - فان كان قد دفع إليها بحكم الحاكم - كان له الرجوع، لان الحاكم أوجب عليه الدفع وقد بان أنها لم تكن واجبة عليه، وإن دفعها بغير حكم الحاكم، فان كان قد شرط أن ذلك عن نفقتها ان كانت حاملا، فله أن يرجع عليها لانه بان أنها ليست بحامل ولا نفقة عليه.
وإن دفعها من غير شرط لم يرجع عليها بشئ، لان الظاهر أنه تطوع بالانفاق عليها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان تزوج امرأة ودخل بها ثم انفسخ النكاح برضاع أو عيب، وجب لها السكنى في العدة.
وأما النفقة فانها - إن كانت حائلا - لم تجب: وإن كانت حاملا وجبت، لانها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فكان حكمها في النفقة والسكنى ما ذكرناه كالمطلقة.
وإن لاعنها بعد الدخول - فان لم ينف الحمل - وجبت النفقة، وان نفى
الحمل لم تجب النفقة، لان النفقة تجب في أحد القولين للحمل.
والثانى تجب لها بسبب الحمل والحمل منتف عنه فلم تجب بسببه نفقة.
وأما السكنى ففيها وجهان
(أحدهما)
تجب لانها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فوجب لها السكنى كالمطلقة
(والثانى)
لا تجب لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قضى أن لا تثبت لها " من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها.
ولانها لم تحصن ماءه فلم يلزمه سكناها

(18/280)


(الشرح) حديث ابن عباس رواه البزار " أن رجلا طلق امرأته فجاءت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لا نفقة لك ولاسكنى " قال الهيثمى في مجمع الزوائد: وفيه ابراهيم بن اسماعيل بن أبى حبيبة وهو متروك أما الاحكام فقد قال الشافعي: وان كان يملك رجعتها فلم تعتد بثلاث حيض أو كان حيضها مختلفا فيطول ويقصر لم أجعل لها إلا الاقصر.
اه واختلف أصحابنا في تأويلها، فقال أبو إسحاق تأويلها هو أن يطلق امرأته طلاقا رجعيا فأنفق عليها وظهر بها حمل في العدة، ووضعت لاكثر من أربع سنين من وقت الطلاق - فان قلنا انه يلحقه - فعليه نفقتها إلى أن وضعت فلا كلام.
وان قلنا انه لايلحقه وينتفى عنه بغير لعان فانها لا تكون معتدة به عنه ولا نفقة عليه لها مدة حملها، وانما عدتها بالاقراء، وتسأل من أين الحمل؟ فان قالت هو من غير بشبهة أو زنا قلنا لها أي وقت حملت به؟ فان قالت بعد انقضاء عدتي بالاقراء على الاول فعلى الاول نفقتها مدة عدتها بالاقراء لا غير.
وان قالت حملت به بعد أن مضى من عدته قرء ان كان على الزوج نفقتها مدة عدتها في القرءين قبل الحمل، ومدة عدتها بالقرء الثالث بعد الحمل وان قالت هذا الولد من هذا الزوج وطئني في عدتي، أو راجعني ثم وطئني
فان أنكرها جاب، لان الاصل عدم ذلك، فإذا حلف بطل أن تعتد بالحمل منه وقلنا له فسر أنت كيف اعتدت منك، فان قال حملت به قبل أن يمضى لها شئ من الاقراء فانها تعتد بثلاثة أقراء عنه بعد الوضع ولها نفقة ذلك الوقت.
وان قال انقضت عدتها منى بالاقراء ثم حملت به بعد ذلك فقد اعترف أنها اعتدت عنه بالاقراء، فان كان حيضها لا يختلف فلا نفقة مدة ثلاثة أقراء، وان كان حيضها يختلف فتارة تمضى أقراء في سنة وتارة في ستة أشهر وتارة في ثلاثة أشهر واختلفا في عدتها كان لها نفقة ثلاثة أشهر لانه اليقين ومن أصحابنا من قال: تأويلها أن يطلقها طلاقا رجعيا، وأتت بولد لاكثر من أربع سنين من وقت الطلاق وقلنا لا يلحقه - فان عدتها بالاقراء عنه، فيرجع إليها كيف الاعتداد منها بالاقراء، فإذا ذكرت - فان كان حيضها

(18/281)


لا يختلف - كانت لها نفقة ثلاثة أقراء، وإن كان يختلف فيطول ويقصر لم يكن لها إلا نفقة الا قصر لانه اليقين.
وبهذا قال أحمد ومن أصحابنا من قال: تأويلها إذا طلقها طلاقا رجعيا وحكمنا لها بالنفقة وأتت بولد لاكثر من أربع سنين من وقت الطلاق - وقلنا لايلحقه وكانت تحيض على الحمل، وقلنا إنه حيض - فانها تعتد عنه بالاقراء الموجودة على الحمل، فان كان حيضها لا يختلف فلها نفقة ثلاثة أقراء.
وإن كان يختلف لم يكن لها إلا نفقة الاقصر لانه اليقين.
قال العمرانى في البيان: وهذا ضعيف جدا وعلل ذلك بأنها على هذا القول يكون لها نفقة الاقراء على الحمل طالت أو قصرت ومن أصحابنا من قال: تأويلها إذا طلقها طلاقا رجعيا فذكرت أن حيضها ارتفع بغير عارض، فانها تتربص على ما مضى، فإذا زعمت أن حيضها ارتفع
بغير عارض فقد اعترفت تحقيق حق لها وهو العدة والرجعة فيقبل قولها فيه، وحق لها وهو النفقة فلا يقبل قولها فيه بل يجعل لها نفقة الا قصر لانه اليقين والتأويل الاول أصح فأما إذا طلقها طلاقا بها أمارت الحمل فأنفق عليها ثم بان أنه لم يكن حملا وإنما كان ريحا فأنفش فانه يسترجع نفقة ما زاد على ثلاثة أقراء، فيقال لها كم كانت مدة أقرائك - فان أخبرت بذلك - كان القول قولها مع يمينها وإن قالت: لا أعلم في كم انقضت عدتي إلا أن عادتي في الحيض كذا وعادتي في الطهر كذا حسبنا ذلك ورجع الزوج بنفقة ما بعد ذلك.
وإن قالت: حيضى يختلف ولا أعلم قدر الثلاثة الاقراء نظرنا إلى أقل ما تذكره من الحيض والطهر فحسبنا لها ثلاثة أقراء ورجع عليها بما زاد على ذلك وان قالت لاأعلم قدر حيضى وطهري، فحكى ابن الصباغ أن الشافعي قال، جعلنا الاقراء ثلاثة أشهر لان ذلك هو الغالب في النساء ورجع بالباقي (فرع)
قال أبو إسحاق المروزى " ولا يجب للبائن الكسوة، وان وجبت لها النفقة " والله أعلم

(18/282)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن نكح امرأة نكاحا فاسدا ودخل بها وفرق بينهما لم تجب لها السكنى، لانها إذا لم تجب مع قيام الفراش واجتماعهما على النكاح، فلان لا تجب مع زوال الفراش والافتراق أولى، وأما النفقة فانها إن كانت حائلا لم تجب لانها إذا لم تجب في العدة عن نكاح صحيح فلان لا تجب في العدة عن النكاح الفاسد أولى وإن كانت حاملا فعلى القولين، إن قلنا ان النفقة للحامل لم تجب، لان حرمتها في النكاح الفاسد غير كاملة، وان قلنا انها تجب الحمل وجبت، لان الجماع في النكاح الفساد كالحمل في النكاح الصحيح

(فصل)
وان كانت الزوجة معتدة عن الوفاة لم تجب لها النفقة، لان النفقة انما تجب للمتمكن من الاستمتاع، وقد زال التمكين بالموت أو بسبب الحمل، والميت لا يستحق عليه حق لاجل الولد، وهل تجب له السكنى؟ فيه قولان.

(أحدهما)
لا تجب، وهو اختيار المزني، لانه حق يجب يوما بيوم فلم تجب في عدة الوفاة كالنفقة
(والثانى)
تجب، لما روت فريعة بنت مَالِكٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " اعتدى في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا " ولانها معتدة عن نكاح صحيح فوجب لها السكنى كالمطلقة.
(الشرح) حديث فريعة بنت مالك مضى في العدد تخريجه.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبى سعيد الخدرى، كان يقال لها الفارعة شهدت بيعة الرضوان: وأمها أم حبيبة بنت عبد الله بن أبى بن سلول.
روت عن الفريعة هذه زينب بنت كعب بن عجرة حديثها في سكنى المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله.
استعمله أكثر فقهاء الامصار اه أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه وكل ما وصفنا من متعة أو نفقة أو سكنى فليست إلى في نكاح صحيح وجملة ذلك أنه إذا تزوج امرأة تزويجا فاسدا، كالنكاح بلا ولى ولا شهود

(18/283)


أو في عدتها فانه يفرق بينهما، فان كان قبل الدخول فانه لا يتعلق بالنكاح حكم وان كان بعد الدخول فلها مهر المثل، وعليها العدة ولا سكنى لها: لان السكنى تجب عن نكاح صحيح ولا نكاح ههنا.
وأما النفقة فان كانت حائلا فلا نفقة لها، لانه إذا لم تجب النفقة للبائن الحائل في النكاح الصحيح فلان لا تجب لها في النكاح الفاسد أولى.
وان كانت
حاملا - فان قلنا ان النفقة تجب للحامل - لم تجب لها ههنا نفقة لان النفقة انما تجب عن نكاح صحيح له حرمة، وهذا النكاح لا حرمة له.
وان قلنا ان النفقة للحمل وجب لها النفقة، لان هذا الولد لاحق به، فهو كما لو حملت منه في نكاح صحيح.
وأما إذا وقع النكاح صحيحا ثم انفسخ برضاع أو عيب بعد الدخول فانه يجب عليها العدة.
قال الشيخ أبو إسحاق ويجب لها السكنى في العدة وأما النفقة - فان كانت حائلا - لم تجب وان كانت حاملا وجبت لانها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فكان حكمها ما ذكرناه كالطلاق.
وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ " حكمها في السكنى والنفقة حكم النكاح الفاسد، لان حكم النكاح الذي ينفسخ بعد الدخول حكم النكاح الذي يقع فاسدا (فرع)
وان قذف امرأته وهي حامل ونفى حملها فلا عنها انفسخ النكاح بينهما فاعتدت بوضع الحمل ولا نفقة لها في حال العدة، لان النفقة للحمل في أحد القولين ولها لاجل الزوجية في الثاني والحمل غير لاحق به فلم تجب لها النفقة، وهل تجب لها السكنى؟ حكم القاضي ابو الطيب والشيخ أبو إسحاق فيه وجهين
(أحدهما)
لا يجب لها السكنى لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في المتلاعنين أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا ولا نفقة لها ولابيت لانهما يفترقان بغير طلاق (والثاني) أن لها السكنى.
قال ابن الصباغ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، لانها معتدة عن فرقة في حال الحياة فهي كالمطلقة.
قال ابن الصباغ: وقد ذكرنا فيما مضى أن الفسخ الطارئ بمنزلة النكاح الفاسد، وهذا فسخ، وايجاب السكنى يناقضه، غير أنه تعلق بقول الزوج، فجرى مجرى قطع النكاح بغير الطلاق.

(18/284)


وكما قلنا في الخلع إذا قلنا إنه فسخ.
وإن لاعنها ولم ينف الحمل قال الشيخ أبو إسحاق هنا وجبت لها النفقة.
وإن أبان زوجته بالثلاث وبالخلع وظهر بها حمل فنفاه - وقلنا يصح لعانه قبل الوضع فلا عن - سقطت عنه النفقة، وهل يسقط عنه السكنى - ان قلنا للملاعنة السكنى في التي قبلها - فههنا أولى.
وإن قلنا في التي قبلها: لا سكنى لها قال القاضى أبو الطيب: احتمل ههنا وجهين.

(أحدهما)
لها سكنى لانها اعتدت عن الطلاق
(والثانى)
لاسكنى لها لان نفقتها سقطت لاجل اللعان فكذلك السكنى.
فإن أكذب الزوج بعد اللعان لحقه نسب الولد وكان عليه النفقة لها لما مضى وإلى أن تضع فان قيل فهلا قلتم إنه لا نفقة لها لما مضى على القول الذي يقول إن النفقة للحمل، لان نفقة الاقارب تسقط بمضي الزمان؟ قلنا إنما نقول ذلك إذا كان القريب هو المستوفى لنفقته، وهنها المستوفى لها هي الزوجة فصارت كنفقة الزوجة، فلا تسقط بمضي الزمان.
وأما المعتدة المتوفى عنها زوجها فلا يجب لها النفقة حائلا كانت أو حاملا، وبه قال ابن عباس وجابر.
وروى أنهما قالا لا نفقة لها.
حسبها الميراث.
وذهب بعض الصحابة إلى أنها إذا كانت حاملا فلها النفقة.
وعند أحمد أن المعتدة من الوفاة ان كانت حائلا فلا نفقة لها ولا سكنى.
وان كانت حاملا ففيها روايتان (احداهما) لها السكنى والنفقة لانها حامل من زوجها فكانت لها السكنى والنفقة كالمفارقة في الحياة (والثانية) لا سكنى لها ولا نفقة لان المال قد صار للورثة ونفقة الحامل وسكناها انما هو للحمل أو من أجله ولا يلزم ذلك الورثة، لانه ان كان الميت ميراث فنفقة الحمل من نصيبه، وان لم يكن له ميراث لم يلزم وارث الميت الانفاق على حمل امرأته كما بعد الولادة
قال القاضى وهذه الرواية أصح عند ابن قدامة وغيره.
ودليلنا أنه لا يخلو اما أن يقال هذه النفقة للحامل أو للحمل فبطل أن يقال أنها للحامل لانها لا تستحق النفقة إذا كانت حائلا، وبطل أن يقال انها للحمل

(18/285)


لان الميت لا يستحق عليه نفقة الاقارب فلم تجب، وهل تجب لها السكنى؟ فيه قولان مضى بيانهما في العدد.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا حبست زوجة المفقود أربع سنين فلها النفقة لانها محبوسة عليه في بيته، فإن طلبت الفرقة بعد أربع سنين ففرق الحاكم بينهما، فإن قلنا بقوله القديم إن التفريق صحيح فهى كالمتوفى عنها زوجها لانها معتدة عن وفاة فلا تجب لها النفقة، وفي السكنى قولان، فإن رجع الزوج فان قلنا تسلم إليه عادت إلى نفقته في المستقبل، وإن قلنا لاتسلم إليه لم يكن لها عليه نفقة، فان قلنا بقوله الجديد وأن التفريق باطل، فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لانها محبوسة عليه في بيته، وإن تزوجت سقطت نفقتها لانها صارت كالناشزة، وان لم يرجع الزوج ورجعت إلى بيتها وقعدت فيه، - فان قلنا بقوله القديم - لم تعد النفقة، وان قلنا بقوله الجديد، فهل تعود نفقتها بعودها إلى البيت؟ فيه وجهان: أحدهما: تعود لانها سقطت بنشوزها، فعادت بعودها
(والثانى)
لاتعود لان التسليم الاول قد بطل فلا تعود إلى بتسلم مستأنف كما أن الوديعة إذا تعدى فيها ثم ردها إلى المكان لم تعد الامانة.
ومن أصحابنا من قال: ان كان الحاكم فرق بينهما وأمرها بالاعتداد، وأعتدت وفارقت البيت، ثم عادت إليه لم تعد نفقتها لان التسليم الاول قد بطل لحكم الحاكم.
وان كانت
تربصت فاعتدت ثم فارقت البيت ثم عادت النفقة لان التسليم الاول لم يبطل من غير حكم الحاكم.
والله أعلم (الشرح) الاحكام: إذ غاب الرجل عن امرأته وهي في مسكنه الذي أسكنها فيه وانقطع خبره عنها، فان اختارت المقام على حالتها فالنفقة واجبة على الزوج لانها مسلمة لنفسها، وان رفعت الامر إلى الحاكم وأمرها بالتربص أربع سنين فلها النفقة على زوجها، لان النفقة انما تسقط بالنشوز أو بالبينونة ولم

(18/286)


يوجد واحد منهما، فإن حكم الحاكم بالفرقة بينهما بعد أربع سنين واعتدت أربعة أشهر وعشرا، فإن قلنا بقوله القديم وأن الفرقة قد وقعت ظاهرا وباطنا، أو ظاهرا فانها كالمعتدة عن الوفاة فلا يجب لها النفقة فيها، وهل يجب لها السكنى؟ فيه قولان، فإن رجع زوجها، فإن قلنا: ان الفرقة وقعت ظاهرا وباطنا فهي أجنبية منه ولا تجب لها عليه نفقة ولا سكنى.
وان قلنا ان الفرقة وقعت في الظاهر دون الباطن ردت إليه ووجبت لها النفقة من حين ردت إليه.
وان قلنا بقوله وأن حكم الحاكم لا ينفذ، فإنهاما لم تتزوج فنفقتها على الاول لانها محبوسة عليه، وإنما تعتقد هي أن الفرقة قد وقعت، وهذا الاعتقاد لا يؤثر في سقوط نفقتها، فان تزوجت بعد أربعة أشهر وعشر سقطت نفقتها عن الاول لانها كالناشزة عن الاول فسقطت نفقتها عنه، فإن دخل الثاني بها وفرق بينهما فعليها أن تعتد عنه ولا نفقة لها على الاول لانها معتدة عن الثاني، فان رجعت إلى منزل الاول بعد انقضاء عدة الثاني أو قبل أن يدخل بها الثاني، فهل تستحق النفقة على الاول؟ قال الشافعي في المختصر: لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة.
وهذا يقتضى أن لها النفقة بعد انقضاء العدة
وقال في الام: لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة ولا بعدها واختلف أصحابنا فيها على طريقين.
قال العمرانى من أصحابنا من قال فيها قولان وحكاهما الشيخ أبو إسحاق (يعنى الشيرازي) وجهين
(أحدهما)
تجب لها النفقة من حين عادت إلى منزله، لان النقفة سقطت بنشوزها، وقد زال النشوز فعادت نفقتها
(والثانى)
لا يجب لها النفقة لان التسليم الاول قد سقط بنشوزها فلم تعد الا بتسليم ثان، وليس ههنا من يتسلمها، فعلى هذا الطريق إذا خرجت امرأة الحاضر من منزلها ناشزة ثم عادت إليه، فهل تعود نفقتها من غير أن يتسلمها الزوج فيه وجهان بناء على هذين الوجهين ومن أصحابنا من قال ليست على قولين، وانما هي على اختلاف حالين فالموضع الذي دل عليه مفهوم كلامه أن النفقة لها أراد إذا تزوجت بالثاني من غير أن

(18/287)


يحكم لها الحاكم بالفرقة فإذا عادت إلى منزل الزوج عادت نفقتها، لان نفقتها سقطت بأمرضعيف وهو نشوز فعادت برجوعها، وحيث قال في الام لانفقة لها، أراد إذا حكم لها الحاكم بالفرقة وتزوجت بآخر، لان نفقتها سقطت بأمر قوي وهو حكم الحاكم فلا تعود إلا بأمر قوى، وهوأن يتسلمها الزوج، فعلى هذا الطريق إذا نشزت امرأة الحاضر من منزلها وعادت إليه وجبت لها النفقة، وإن لم يتسلمها الزوج.
وأما وجوب نفقتها على الثاني، فإن قلنا بقوله القديم، فإن التفريق صحيح فانها تستحق عليه النفقة بنفس العقد في قوله القديم، ونفقة كل يوم بيومه في قوله الجديد لان نكاحه صحيح.
وإن قلنا بقوله الجديد وان التفريق غير صحيح فإنها لا تستحق عليه النفقة
ولا السكنى في حال الزوجية، لانه لازوجية بينهما، فإذا فرق بينهما بعد الدخول فلا سكنى لها في حال العدة.
وأما النفقة فإن كانت حائلا لم تجب لها، وان كانت حاملا - فإن قلنا النفقة للحمل - وجبت، وإن قلنا للحامل لم تجب (فرع)
إذا تربصت امرأة المفقود وتزوجت بآخر بعد قضاء عدتها فرجع الاول - فإن قلنا بقوله الجديد - لا تقع الفرقة، أو قلنا تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن فأتت بولد يمكن أن يكون من الثاني ولا يمكن أن يكون من الاول فإن عدتها تنقضي من الثاني بوضعه، وترد إلى الاول بعد وضع الولد.
وإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما - فإن قلنا بقوله القديم وأن الفرقة تقع ظاهرا وباطنا فاولد للثاني.
وان قلنا بقوله الجديد وقلنا الفرقة تقع في الظاهر دون الباطن، فإن لم يدعه الاول فهو للثاني، لانها قد استبرأت رحمهما يفينا عن الاول.
وإن أدعاه الاول سئل عن وجه دعواه، فإن قال هذا الولد منى لانها زوجتى وغبت عنها والزوجية لم تنقطع فهو ولدى، لانها أتت به على فراشي، لم يتلفت إلى هذه الدعوي ولحق بالثاني، لانا قد تيقنا براءة رحمها من ماء الاول فلا يمكن أن يكون منه.
وإن قال: كنت عدت إليها في الخفية ووطئتها وهذا الولد منى وأمكن أن

(18/288)


يكون صادقا عرض الولد على القافة، فإذا ألحقوه بأحدهما لحقه.
وكل موضع الحق الولد بالثاني، فليس للزوج الاول أن يمنعها من أن تسقيه اللبا لانه لا يعيش الا بذلك.
فذا سقته اللبا - فان لم توجد امرأة ترضعه وتكفله - لم يكن له منعها من ذلك لان يؤدى إلى اتلافه.
وان وجد له امرأة ترضعه وتكفله كان له منعها لانها متطوعة بارضاعه، وللزوج منع زوجته من فعل التطوع كالصلاة والصوم فلان يمنعها من الرضاع أولى
فان أرضعته في موضع منعناها من ارضاعه فيه، فان أرضعته في بيت زوجها فلها النفقة عليه، لانها في قبضته.
وان أخرجت من منزله إلى غيره بغير اذنه وأرضعته سقطت نفقتها لانها ناشزة، وان خرجت إلى غيره باذن زوجها وأرضعته - فان كان زوجها معها لم تسقط نفقتها - وان لم يكن معها ففيه وجهان بناء على القولين في السفر باذنه (فرع)
وان تربصت امرأة المفقود وفرق الحاكم بينهما وتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها، ودخل بها ثم مات الثاني، وبان أن زوجها الاول كان حيا عند نكاحها للثاني وأن الاول مات بعد ذلك - فان قلنا بقوله القديم، وأن الحكم بالفرقة صحيح ظاهرا وباطنا - فقد بانت من الاول، ونكاح الثاني صحيح، وقد بانت عنه بموته واعتدت عنه، ولا تأثير لحياة الاول وان قلنا بقوله الجديد ان الحكم بالفرقة لا يصح أو قلنا تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن، فعلى هذا نكاح الثاني باطل وعليها العدة بموت الاول أربعة أشهر وعشرا.
وعليها عدة وطئ الشبهة للثاني ثلاثة أقراء، ولا يصح أن تعتد من أحدهما الا بعد أن يفرق بينها وبين الثاني، وفيه ثلاث مسائل (احداهن) أن يعلم موت كل واحد من الزوجين في وقت بعينه، ويعلم غير ذلك الزوج.
(الثانية) أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه ولم يعلم وقت موت الآخر (الثالثة) أن لا يعلم موت كل واحد منهما بعينه (فأما الاولة) وهو إذا علم موت كل واحد منهما في وقت بعينه ففيه مسألتان احداهما أن يعلم أن الاول مات في أول شهر رمضان، والثانى مات في أول شوال

(18/289)


فيجب عليها أن تعتد ههنا عن الاول أربعة أشهر وعشرا، وابتداؤها من أول
شوال بعد زوال فراش الثاني، لانه لا يمكن أن تكون فراشا للثاني معتدة عن الاول، فإذا انقضت عدتها عن الاول اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء لان عدة الاول أسبق فقدمت، ولانها أقوى لانها وجبت بسبب مباح والثانية وجبت بسبب محظور.
وإن مات الثاني في أول رمضان والاول في أول شوال، فإن الثاني لما مات شرعت في عدته، وان كانت زوجة الاول، لان النكاح يتأبد فراشه فلا يمكن قطعه لاجل العدة، بخلاف الفراش في النكاح الثاني فإنه لا يتأبد، فلذلك وجب قطعه للعدة ولم تصبح العدة مع وجوده فإن مات الاول في أثناء عدة الثاني انتقلت إلى عدة الاول لانها آكد، فإذا أكملت عدة الاول أربعة أشهر وعشرا أكملت عدة الثاني بالاقراء (المسألة الثانية) أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه ولم يعلم وقت موت الآخر: مثل أن يعلم أن الثاني مات في أول شوال، ثم جاء الخبر أن الاول حى في بلد كذا ومات فلم يعلم وقت موته، فانه يقال أقل وقت يمكن أن يصل فيه الخبر من الموضع الذي كان فيه كم هو؟ فان قيل مثلا عشرة أيام، جعل في التقدير كأنه مات قبل مجئ خبره بعشرة أيام، فان وافق ذلك وقت موت الثاني بأن كان الخبر ورد لعشر خلون من شوال فقد اتفق موتهما في وقت واحد، فتعتد عن الاول بأربعة أشهر وعشر، وتعتد بعد ذلك عن الثاني بثلاثة أقراء، وإن تقدم موت الثاني أو تأخر عنه فالحكم فيه على ما ذكرناه في المسألة الاولة (المسألة الثالثة) أن لا يعلم وقت موت كل واحد منهما بعينه، مثل أن يعلم أن أحدهما مات في أول شهر رمضان، والآخر مات في أول شوال ولا يعلم أيهما مات أولا، فيجب عليها بيقين، هذا إذا لم تحبل من الثاني، فإذا حبلت
من الثاني ثم ظهر موت الاول فان الولد لاحق بالثاني، لانها قد اعتدت عن الاول واستبرأت رحمها منه.
وقد مات الاول قبل أن يدعيه فلم يلحق به،

(18/290)


فتعتد بوضع الحمل عن الثاني، فإذا وضعته اعتدت عن الاول بأربعة أشهر وعشر، ومتى تبتدئ بها؟ فيها وجهان
(أحدهما)
من حين انقطاع دم النفاس، لان دم النفاس تابع للحمل من الاول فهو كمدة الحمل.

(والثانى)
وهو المذهب أن ابتداءها من بعد وضع الحمل، لان هذا عدة من وفاة، وعدة الوفاة لا يراعى فها الدم وزواله، ولان وقت دم النفاس ليس من عدة الثاني فاحتسب به من عدة الاول وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(باب نفقة الاقارب والرقيق والبهائم)
والقرابة التى تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا، وقرابة الاولاد وإن سفلوا، فتجب على الولد نفقة الاب والام، والدليل عليه قوله تعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " ومن الاحسان أن ينفق عليهما.
وروث عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ان أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه " ويجب عليه نفقة الاجداد والجدات، لان اسم الوالدين يقع على الجميع.
والدليل عليه قوله تعالى " ملة أبيكم إبراهيم " فسمى الله تعالى ابراهيم أبا وهو جد، ولان الجد كالاب، والجدة كالام في أحكام الولادة، من رد الشهادة وغيرها، وكذلك في إيجاب النفقة ويجب على الاب نفقة الولد لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يارسول الله عندي دينار؟ فقال انفقه على
نفسك.
قال عندي آخر؟ فقال أنفقه على ولدك، قال عندي آخر، فقال أنفقه على أهلك.
قال عندي آخر، قال أنفقه على خادمك.
قال عندي آخر.
قال أنت أعلم به " ويجب عليه نفقة ولد الولد وان سفل، لان اسم الولد يقع عليه، والدليل عليه قوله عز وجل " يا بنى آدم " وتجب على الام نفقة الولد لقوله تعالى " لاتضار والدة بولدها " ولانه إذا وجبت على الاب وولادته من جهة الظاهر

(18/291)


فلان تجب على الام وولادتها من جهة القطع أولى وتجب عليها نفقة ولد الولد لما ذكرناه في الاب، ولا تجب نفقة من عدا الولدين والمولودين من الاقارب كالاخوة والاعمام وغيرهما، لان الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولودين ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة، فلم يلحق بهم في وجوب النفقة.
(الشرح) نبدأ بأشرف ما في الفصل من كلام ربنا تبارك وتعالى، فقوله تعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وباوالدين إحسانا " أي أمر وألزم وأوجب.
قال ابن عباس والحسن وقتادة: ليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر.
وقال ابن تيمية: القضاء قضاءان، قضاء كونى وقضاء شرعى، والقضاء الشرعي كقوله تعالى " وقضى ربك " وفي مصحف ابن مسعود " ووصى " وهى قراءة، وقرأه ابن عباس وأبى قال ابن عباس إنما هو " ووصى " فالنصف إحدى الواوين فقرئت " وقضى " إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد.
وأنكر أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك وقال: لو قلنا ذلك لطعن الزنادقة في مصبحفنا قلت: بخ بخ لابي حاتم، إذ كيف تلتصق الواو في جميع المصاحف بالصاد فتتحول من ووصى إلى وقضى.
قال علماء الكلام: القضاء يستعمل في اللغة على وجوه، فالقضاء بمعنى الامر كقوله تعالى " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " والقضاء بمعنى الخلق كقوله تعالى " فقضاهن سبع سموات في يومين " والقضاء بمعنى الحكم كقوله تعالى " فاقض ما أنت قاض " والقضاء بمعنى الفراغ كقوله قضي الامر الذي فيه تستفتيان " وقوله تعالى " فإذا قضيتم مناسككم " وقوله فإذا قضيت الصلاة " والقضاء بمعنى الارادة: كقوله تعالى " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " والقضاء بمعنى العد كقوله تعالى " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر " وأما قوله تعالى " ملة أبيكم ابراهيم " قال القرطبى: وابراهيم هو أبو العرب قاطبة.
وقيل الخطاب لجميع المسلمين وإن لم يكن الكل من ولده، لان حرمة

(18/292)


ابراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد.
يدل على ذلك قوله " هو سماعكم المسلمين من قبل " قال ابن زيد، وهو معنى قوله " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " قال ابن زيد والحسن " هو " راجع إلى ابراهيم.
والمعنى هو سماكم المسلمين من قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
قال النحاس وهذا القول مخالف لقول عظماء الامة.
وروى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: سماكم الله تعالى المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن وأما قوله تعالى " يا بنى آدم " قال القرطبى هو خطاب لجميع العالم.
وأما قوله تعالى " لاتضار والدة بولدها " قال ابن بطال يجوز أن يكون معناه لاتضار على تقاعل، وهو أن ينزع ولدها منها ويدفع إلى مرضعة أخرى، ويجوز أن يكون معناه لاتضار الام الاب فلا ترضعه.
أي لا تأبى الام أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي " تضار " بفتح الراء المشددة، وموضعه الجزم على النهى.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان عن عاصم وجماعة " تضار " بالرفع عطفا على قوله " تكلف نفس " وهو خبر والمراد به الامر وروى عن عمر بن الخطاب أنه قرأ " لاتضار " براءين من الاولى مفتوحة.
وروى عن أبن عباس " لاتضار ر " بكسر ما قبل آخره وهى الراء الاولى وأما حديث عائشة فقد مضى في الفرائض، وقد ساقه الذهبي في سير أعلام النبلاء وفيه " إن أطيب ما أكل الرجل من كسب يمينه " وقد أخرجه أبو داود والحاكم بلفظ " ولد الرجل من أصيب كسبه، فكلوا من أموالهم " وإسناده صحيح وأما حديث أبى هريرة فقد أخرجه الشافعي وأبو داود واللفظ له وأخرجه النسائي والحاكم بتقديم الزوجة على الولد، وفي صحيح مسلم من رواية جابر تقديم الزوجة على الولد من غير تردد.
وقال الحافظ بن حجر: اختلف على يحيى القطان والثوري، وفقدم يحيى الزوجة على الولد.
وقدم سفيان الولد على الزوجة، فينبغي ان لا يقدم أحدهما على

(18/293)


الآخر بل يكونا سواء، لانه قد صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا تكلم تكلم ثلاثا، فيحتمل أن يكون في إعادته قدم الولد مرة، ومرة قدم الزوجة، فصارا سواء.
قال الصنعانى في سبيل السلام: هذا حمل بعيد، فليس تكريره لما يقوله ثلاثا بمطرد، بل عدم التكرير غالب، وإنما يكرر إذا لم يفهم عنه.
ومثل هذا الحديث جواب سؤال لا يجرى فيه التكرير لعدم الحاجة إليه لفهم السائل للجواب، ثم رواية جابر التى لا تردد فيها تقوى رواية تقديم الاهل اه
أما الاحكام فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي كِتَابِ الله وسنة رسوله عليه السلام بيان أن على الاب أن يقوم بالمنونة في إصلاح صغار ولده من رضاع ونفقة وكسوة وخدمة اه وجملة ذلك أنه يجب على الاب أن ينفق على ولده، والاصل فيه قوله تعالى (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) فمنع الله قتل الاولاد خشية الاملاق وهو الفقر، فلولا أن نفقة الاولاد عليهم لما خافوا الفقر.
وقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فأوجب أجرة رضاع الولد على الاب، فدل على أن نفقته تجب عليه وحديث أبى هريرة عن الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندي دينار والرسول يجبيه فيقول عندي آخر وأخذ يردد الاسئلة، وقد خرجناه آنفا وكذلك حديث هند بنت عتبة أن أبا سفيان رجل شحيح.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف " ولان الولد بعض من الاب فكما يلزمه أن ينفق على نفسه فكذلك يلزمه أن ينفق على ولده، فإن لم يكن هناك أب أو كان ولكنه معسر وهناك جد موسر وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تجب نفقة ولد الولد على الجد.
دليلنا قوله تعالى " يا بنى آدم " فسمى الناس بنى آدم، وإنما هو جدهم.
وكذلك قوله تعالى " واتبعت ملة آبائى ابراهيم واسماعيل وإسحاق " فسماهم آباء، وإنما هم أجداد، أو لان بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة وجبت النققة على الام، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ،

(18/294)


وقال مالك " لا تجب النفقة على الام " وقال أبو يوسف ومحمد " تجب على الام ولكن ترجع بها على الاب إذا أيسر
دليلنا على مالك أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأوجبت النفقة كالابوة، ولان النفقة إذا وجبت على الجد وولادته من طريق الظاهر، فلان تجب على الام وولادتها من طريق القطع أولى فلم ترجع ودليلنا على أبى يوسف ومحمد أنها نفقة واجبة على من تيقن نسبه فلم يرجع بها كالجد لا يرجع بما أنفق على الاب، وقولنا على من تيقن نسبه احتراز ممن ولد على فراشين وأشكل الاب منهما، فإن لم يكن هناك أم وهناك أبو أم أو أم أم وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل، فتجب نفقة الولد على من يقع عليه اسم الاب أو الام حقيقة أو مجازا، سواء كان من قبل الاب أو الام، ويشترك في وجوبها العصبات وذووا الارحام، لانها تتعلق بالقرابة من جهة الولادة، فاستوى العصبات وذوو الارحام، لانها تتعلق بالقرابة من جهة الولادة، فاستوى للعصبات وذوو الارحام من جهة الوالدين، كما قلنا في منع الشهادة والقصاص والعتق.*
*
* قوله: فتجب على الولد الخ، فجملة ذلك أنه يجب على الولد نفقة الاب لقوله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " وقوله تعالى " وصاحبهما في الدينا معروفا " ومن الاحسان والمعروف أن ينفق عليه وروى ابن المنكدر " أن رجلا قال: يارسول الله إن لى مالا وعيالا ولابي مال وعيال ويريد أن يأخذ من مالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لابيك " وروت عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ان أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه " وروت عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إن أولادكم هبه من الله لكم يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها "

(18/295)


وساق العمرانى رواية نسوقها لطرافتها، ولنا عليها نظر (1) .
قال روى عن جابر أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقال: يارسول الله إن أبى يأخذ مالى فينفقه فقال الاب: إنما أنفقه يارسول الله على إحدى عمله أو إحدى خالاته، فهبط جبريل وقال: يارسول الله سل الاب عن شعر قاله، فسأله النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فقال الاب إن الله وله الحمد يزيدنا بك بيانا يارسول الله كل يوم لقد قلت هذا الشعر في نفسي فلم تسمعه أذناى ثم أنشأ يقول: غدوتك مولودا وعلتك يافعا تعل بما أدنى اليك وتنهل إذا ليلة نابتك بالشكوى لم أبت لشكوك إلا ساهرا أتملل كأنى أن المطروق دونك بالذي طرقت به دوني وعينى تهمل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ماكنت فيك أؤمل جعلت جزائي منك جبها وغلظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتى فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه يرد على أهل الصواب موكل اه (فرع)
ويجب على الولد نفقة الام.
وقال مالك لا يجب.
دليلنا ما ذكرناه من القرآن والسنة آنفا.
وما روياه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقال يارسول الله من أبر؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، إلى أن قال في الرابعة ثم أباك.
ومن البر أن تتفق عليها.
ولانها تعتق عليه إذا ملكها، ولا يجب عليها القصاص بجنايتها عليه، ولا تقبل شهادته لها.
فوجبت لها النفقة عليه كالاب، وتجب على الولد نفقه الاجداد والجدات وإن علوا من قبل الاب والام.
وبهذا قال أحمد والثوري وأصحاب الرأى
__________
(1) ذلك أن أبا القاسم الطبراني قد رواها بإسناد فيه نظر.
وقد روى هذه الابيات أبو تمام في ديوان الحماسة عزاها لامية بن أبي الصلت في ابنه.
وقال
بعضهم هي لغيره.
وقال أبو رياش هي لابي العباس الاعمى، وقال التبريزي: وتروى لابن عبد الاعلى - قال أبو هلال " أوردها أبو عبيدة في أخبار العققة والبررة ".

(18/296)


وقال مالك: لا تجب النفقة عليهم ولا لهم، لان الجد ليس بأب حقيقي.
دليلنا أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأوجبت النفقة كالابوه.
(فرع)
نفقة القرابة تجب مع اتفاق الدين ومع اختلافه، فإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا لم يمنع ذلك من وجوب النفقة، لانه حق يتعلق بالولادة فوجب مع اتفاق الدين واختلافه كالعتق بالملك، ولا تجب النفقة لغير الوالدين والمولودين من القرابة كالاخ وابن الاخ والعم وابن العم وقال أبو حنيفة تجب لكل ذي رحم محرم، فتجب عليه نفقة الاخ وأولاده والعم والعمة والخال والخالة، ولا تجب عليه نفقة أولاد العم ولا أولاد الخال ولا أولاد الخالة.
وتفصيل قول أحمد أنه تجب عليه نفقة كل من كان وارثا كالاخ وابن الاخ والعم وابن العم ولا تجب عليه نفقة ابنة الاخ والعمة وابنة العمة وابنة العم.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تجب عليه نفقة كل قريب معروق النسب منه ودليلنا حديث أبى هريرة في الرجل الذى معه دينار وآخر حتى قال أنت أعلم، ولم يأمره أن ينفقه على أقاربه، فدل على أنها لا تجب عليه نفقه أقاربه، فإن قيل فلم يذكر الولد ومع ذلك فنفقته واجبه.
قلنا قد نص على نفقة الولد فنبه بذلك على نفقة الوالد، لانه أكد حرمة من الولد، ولان من سوى الوالدين والمولودين من القرابة لا يلحق بهم في الحرمه فلم يلحق بهم بوجوب نفقتهم، ولانها قرابة لا تستحق بها نفقه مع اختلاف الدين فلم يستحق بها نفقة مع
اتفاق الدين كابن العم مع أبى حنيفه وكغير الوارث مع أحمد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تجب نفقة القريب إلا على موسر أو مكتسب يفضل عن حاجته ما ينفق على قريبه، وأما من لا يفضل عن نفقته شئ فلا تجب عَلَيْهِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إذَا كَانَ أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته " فإن لم يكن فضل غير ما ينفق على زوجته لم يلزمه نفقة القريب، لحديث جابر رضى الله

(18/297)


عنه، ولان نفقة القريب مواساة ونفقة الزوجة عوض، فقدمت على المواساة، ولان نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كنفقة نفسه
(فصل)
ولا يستحق القريب النفقة على قريبه من غير حاجة، فإن كان موسرا لم يستحق لانها تجب على سبيل المواساة، والموسر مستغن عن المواساة، وإن كان معسرا عاجزا عن الكسب لعدم البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة استحق النفقة على قريبه: لانه محتاج لعدم المال وعدم الكسب.
وإن كان قادرا على الكسب بالصحة والقوة - فإن كان من الوالدين - ففيه قولان
(أحدهما)
يستحق لانه محتاج فاستحق النفقة على القريب كالزمن.

(والثانى)
لا يستحق لان القوة كاليسار، ولهذا سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في تحريم الزكاة فقال " لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة قومي " وإن كان من المولودين ففيه طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالوالدين ومنهم من قال لا يستحق قولا واحدا لان حرمة الوالد آكد فاستحق بها مع القوة وحرمة الولد أضعف فلم يستحق بها مع القوة (الشرح) حديث جابر أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي بلفظ " إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شئ فلاهلك، فإن فضل عن أهلك شئ فلذى قرابتك، فإن فضل عن ذى قرابتك شئ فهكذا وهكذا " أما حديث " لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة قوى " فقد أخرجه النسائي عن أبى هريرة في الزكاة عن هناد بن السرى وابن ماجه فيه أيضا عن محمد بن الصباح، وأخرجه أبو داود عن عباس بن موسى الختلى في الزكاة من حديث عبد الله بن عمرو والترمذي في الزكاة عن محمد بن بشار من حديث عبد الله بن عمرو أيضا وحسنه، وذكر أن شعبة لم يرفعه، وفي إسناده ريحان بن يزيد وثقه يحيى بن معين.
وقال أبو حاتم الرازي شيخ مجهول، وقال بعضهم: لم يصح إسناد هذا الحديث، وإنما هو موقوف على عبد الله بن عمرو وقال أبو داود: الاحاديث الاخر عن النبي صلى الله عليه وسلم بعضها " لذى

(18/298)


مرة سوى، وبعضها " لذى مرة قومي " (أما اللغات: فالمره القوة والشدة.
قال تعالى " ذو مرة فاستوى " والسوى الصحيح الاعضاء.
وأخرجه أحمد من طريق أبى هريرة ومن طريق ابن عمر أما الاحكام فإنه لا يستحق القريب على قريبه حتى يكون المنفق منهما موسرا بنفقة قريه، وهو أن يفضل عن قوت نفسه وقوت زوجته في يومه وليلته، لحديث جابر الذي ساقه المصنف.
وإنما قدمت نفقة الزوجة على نفقة القريب، لانها تجب لحاجته إليها، ونفقة القريب مواساة، فقدمت نفقتها عليها كما تقدم نفسه، ولان نفقة الزوجة تجب بحكم المعاوضة فقدمت على نفقة القريب كما يقدم الدين، فإن كان مكتسبا ما ينفق على نفسه وزوجته ويفضل عن قوت يومه وليلته لزمه أن ينفق على قرابته، لان الكسب في الانفاق يجرى مجرى الغنى.
ولهذا روى أن رجلين سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهما من الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أعطيكما بعد أن أعلمكما أنه لاحظ فيها لغنى قوى ولا لقوى مكتسب " فجعل الاكتساب بمنزلة الغنى والمال.
وان كان للمنفق عقار وجب بيعه للانفاق على قريبه.
دليلنا أن نفقة القريب تجب فيما فضل عن قوت المنفق في يومه وليلته، والعقار يفضل عن قوت يومه وليلته فوجب بيعه للانفاق على القريب كالاب.
ولا يستحق القريب النفقة على قريبه حتى يكون المنفق عليه معسرا غير قادر على الكسب لصغر أو جنون أو زمانة أو كبر - فإن كان له مال يكفيه - لم تجب نفقته على قريبه، لان ايجاب نفقة القريب على قريه مواساة، والغنى بماله لا يستحق المواساة.
وإن كان له كسب وهو قادر على أن يكتسب ما يكفيه لم تجب له نفقة على قريبة، لان الكسب في باب الانفاق يجرى مجرى الغنى بالمال.
وان كان صحيحا إلا أنه غير مكتسب - فإن كان من الوالدين ففيه قولان: أحدهما: تجب نفقته على الولد الموسر، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، لانه محتاج الا الانفاق فأشبه الزمن.
والثانى: لا تجب نفقته على الولد لانه قادر على الاكتساب فأشبه المكتسب.

(18/299)


وإن كان الولد بالغا صحيحا محتاجا غير مكتسب ففيه طَرِيقَانِ.
مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالوالدين.
ومنهم من قال لا تجب نفقته قولا واحدا، لان حرمة الوالد آكد فاستحق مع الصحة، والولد أضعف حرمة فلا يستحق مع الصحة.
هذا مذهبنا وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الابنة لم تسقط نفقتها حتى تزوج لانه لا يمكنها
الاكتساب فهى كالصغيرة.
ودليلنا إن كان معنى أسقط نفقة الابن أسقط نفقة الابنة كاليسار، وما ذكره فلا يصح لانه يمكنها أن تعمل كاتبة أو حائكة أو عاملة في مصانع الدواء أو مدرسة أطفال أو ما إلى ذلك من أعمال مع التصون والتحشم وطلب الرزق الحلال، وقد كانت المرأة على عهد أبى حنيفة تشتغل بالغزل وتبيعه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن كان للذي يستحق النفقة أب وجد أو جد وأبوجد وهما موسران، كانت النفقة على الاقرب منهما، لانه أحق بالمواساة من الابعد، وإن كان له أب وابن موسران ففيه وجهان
(أحدهما)
أن النفقة على الاب لان وجوب النفقة عليه منصوص عليه.
وهو قوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ووجوبها على الولد ثبت بالاجتهاد.

(والثانى)
أنهما سواء لتساويهما في القرب والذكورية، وإن كان له أب وأم موسران كانت النفقة على الاب لقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن) فجعل أجرة الرضاغ على الاب.
وروت عائشة رضى الله عنها " أن هندا أم معاوية جاءت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يارسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطينى ما يكفيني وولدى إلا ما أخذت منه سرا وهو لا يعلم فهل على في ذلك من شئ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف، ولان الاب ساوى الام في الولادة وانفرد بالتعصيب فقدم.

(18/300)


وإن كان له أم وجد أبو الأب وهما موسران فالنفقة على الجد لان له ولادة
وتعصيبا فقدم على الام كالاب، وان كانت له بنت وابن بنت ففيه قولان
(أحدهما)
أن النفقة على البنت لانها أقرب
(والثانى)
أنها على ابن البنت لانه أقوى وأقدر على النفقة بالذكورية، وإن كانت له بنت وابن ابن فالنفقة على ابن الابن، لان له ولادة وتعصيبا، فقدم كما قدم الجد على الام.
وان كان له أم وبنت كانت النفقة على البنت، لان للبنت تعصيبا وليس للام تعصيب، وان كان له أم أم وأبو أم فهما سواء، لانهما يتساويان في القرب وعدم التعصيب، وإن كان له أم أم وأم أب ففيه وجهان
(أحدهما)
أنهما سواء لتساويهما في الدرجة
(والثانى)
أن النفقة على أم الاب لانها تدلى بالعصبة (الشرح) حديث عائشة أن هندا بنت عتبة ألخ أخرجه البخاري في النفقات عن محمد بن مقاتل وعن محمد بن يوسف، وفي الايمان والنذور عن يحيى بن بكير وفي الاحكام عن محمد بن كثير، وفي المظالم عن أبى اليمان، وفي البيوع عن أبى نعيم وفي صحيح مسلم في الاحكام عن على بن حجر وعن عبد بن حميد، وفي الاقضية عن زهير بن حرب، وأخرجه أبو داود في البيوع عن خشيش بن أصرم وعن أحمد بن يونس.
وأخرجه النسائي في القضاء عن إسحاق بن ابراهيم وابن ماجه في التجارات عن أبى بكر وعلى بن محمد وأبى عمر الضرير أما الاحكام فإن كان هناك قريب يستحق النفقة واجتمع قريبان موسران كانت نفقته عليهما أو على الاقرب منهما على ما سنوضحه، فإن كان هناك ولد صغير فقير وله أبوان موسران كانت نفقته على الاب لقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فجعل أجرة الرضاع على الاب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبى سفيان " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ولانهما تساويا في الولادة وانفرد الاب بالتعصيب فقدم على الام، فإن اجتمع الاب والجد وهما موسران واجمتعت الام وأمها أو الام وأم الاب وهما
موسرتان قدم الاب على الجد، وقدمت الام على أمها وأم الاب لانها أقرب.

(18/301)


وإن اجتمعت الام والجد أبو الأب وهما موسران كانت النفقة على الجد دون الام، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حنيفة: ينفقان عليه على قدر ميراثهما، فيكون على الام ثلث النفقة وعلى الجد الثلثان.
دليلنا أنه أجتمع عصبة مع ذات رحم بنفق كل واحد منهما على الانفراد، فقدم العصبة كالاب إذا اجتمع مع الام، فإن اجتمع الجد أبو الأب وإن علا مع الجد أبى الام وهما موسران وحيث النفقة على الجد أبى الاب، لان الجد يقدم على الام، فلان يقدم على أبى الام أولى.
وان اجمتعت أم الام وأبوالام وهما موسران كانت النفقة عليهما نصفين لانهما متساويان في الدرجة ولا مزية لاحدهما على الآخر في التعصيب فاستويا في الانفاق.
وإن اجتمعت أم الام وأم الاب وهما موسرتان ففيه وجهان
(أحدهما)
تجب النفقة عليهما نصفين وهو الاصح لانهما مستويتان في الدرجة ولا مزية لاحداهما على الاخرى بالتعصيب
(والثانى)
تجب النفقة على أم الاب لانها تدلى بعصبة، ولان الاب لو اجمتع هو والام لقدم الاب في إيجاب النفقة فقدم من يدلى بها على من يدلى بها وهكذا الوجهان إذا اجتمعت أم الاب وأبوالام، فإن اجتمعت الام وأم الاب وهما موسرتان، قال الشيخ أبو حامد - فإن قلنا - إن أم الام وأم الاب إذا اجتمعتا - تقدم أم الاب لانها تدلى بعصبة قدمت ههنا أم الاب على الام لانها كالعصبة، وإن قلنا هناك: إنهما سواء، قدمت الام على أم الاب لانها أقرب منها.
(فرع)
وإن كان الرجل فقيرا زمنا وله أب وابن موسران ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) تجب نفقته على الاب لان وجوب النفقة على الاب منصوص عليها في القرآن، ووجوب النفقة على الابن مجتهد فيها
(والثانى)
أن نفقته على الابن لانه أقوى تعصيبا من الاب (والثالث) تجب نفقته عليهما لانهما متساويان بالدرجة منه والتعصيب.
فإذا قلنا بهذا فهل يجب عليهما نصفين أو تعتبر بميراثهما منه؟ فيه وجهان.
قال العمرانى " الاصح أنهما عليهما نصفان "

(18/302)


وان اجتمع ابن وجد فمن أصحابنا من قال: هو كما لو اجتمع الابن والاب.
ومنهم من قال تجب على الابن وجها واحدا لانه أقرب، وان كان فقيرا زمنا وله إبنان موسران وبنتان موسرتان وجبت نفقته بينهما نصفين، لانه لامزية لاحدهما على الآخر.
وإن كان له ابن وابنة موسرة فقال الماوردى، قال أصحابنا البغداديون تجب جميع النفقة على الابن، لانهما متساويان في الدرجة، وللابن مزية بالتعصيب فقدم في وجوب النفقة عليه كالاب إذا اجتمع مع الام.
وقال الخراسانيون من أصحابنا تجب النفقة عليهما؟ فيه وجهان
(أحدهما)
قال المسعودي وهو الاصح تجب عليهما نصفين، وبه قال أبو حنيفة
(والثانى)
تجب عليهما على قدر ميراثهما، فيجب على الابن ثلثا النفقة وعلى الابنة ثلثها، وبه قال أحمد إذا ثبت هذا فذكر ابن الصباغ إذا كان له ابن ذكر وخنثى مشكل موسران فإن النفقة على الابن لان الخنثى يجوز أن تكون أنثى فلا تجب عليه النفقة.
فإن بان الخنثى رجلا رجع عليه ابن بنصف ما أنفق، لانه بان أنه كان مستحقا عليه وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين.
فأما على طريقة الخراسانيين فكم يجب على الخنثى؟ فيه وجهان
أحدهما النصف وهو الاصح، فعلى هذا لافرق بين أن يبين أنه رجل أو امرأة والثانى يجب عليه بمقدار ميراثه، فعلى هذا يجب عليه الثلث وعلى الذكر النصف ويبقى سدس النفقة.
فإن قال أحدهما أدفع السدس لارجع به على من بان أنه عليه: جاز.
وان يدفعه أحدهما برضاه دفعاه بينهما نصفين، فإذا حال الخنثى رجع من بان أنه غير مستحق عليه بما دفع منه.
قال ابن الصباغ، وان كان له بنت وخنثى مشكل ففيه وجهان.
أحدهما تجب النفقة على الخنثى لجواز ان يكون رجلا، فإذا أنفق ثم بان أنه رجل لم يرجع على أخته بشئ، وان بان أنه أنثى رجعت على أختها بنصف ما أنفقت.
والثانى ان النفقة بينهما نصفان، قال وهو الاقيس، لانا لا نعلم كونه رجلا فإن بان أنه ذكر رجعت عليه البنت بما أنفقت، وان بان أنه أنثى لم ترجع عليها

(18/303)


أختها بشئ.
وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين.
وأما على طريقة الخراسانيين فعلى أصح الوجهين تجب النفقة عليهما نصفين، ولا يرجع الخنثى بما أنفق على أخته بشى، سواء بان رجلا أو امرأة، وعلى الوجه الذي يقول يجب النفقة عليهما على قدر ميراثهما يجب على كل منهما ثلث النفقة ويبقى الثلث.
فإن اختار أحدهما أن ينفقه ليرجع به على من بان عليه جاز، وان لم يختر أحدهما دفعه دفعاه بينهما، فيدفع كل منهما نصف النفقة، فإن بان الخنثى امرأة لم ترجع إحداهما على الاخرى بشى، وإن بان رجلا رجعت عليه المرأة بثلث ما دفعت (فرع)
وإن كان له ثلاثة أولاد: ذكر وخنثيان، فعلى طريقة أصحابنا البغداديين تجب النفقة على الذكر، فإن بان الخنثيان امرأتين لم يرجع عليهما بشئ وإن بانا رجلين رجع على كل واحد منهما بثلث ما أنفق، وإن بان أحدهما
رجلا والآخر امرأة رجع على الرجل بنصف ما أنفق، وعلى طريقة الخراسانيين تجب النفقة على الجميع، وكيف تجب عليه.
فيه وجهان أحدهما - وهو الاصح عندهم - تجب بينهم بالسوية، فعلى هذا لا تراجع بينهم بحال.
والثانى تجب بينهم على قدر مواريثهم، فعلى هذا يجب على الرجل ثلث النفقة، وعلى كل واحد من الخنثيين خمس النفقة لان ذلك هو اليقين.
قال القاضى أبو الفتوح من أصحابنا ونقله صاحب البيان: ويبقى من الفقة ربعها تفريض عليهم، قال وهذا غلط بل تبقى من النفقة أربعة أسهم من خمسة عشر سهما.
فإن قال أحدهم: أدفعها على أن أرجع بها على من بانت عطيه عنده ودفعها، كان له الرجوع على من بانت عنده: وإن لم يرض أحدهم بدفعها قسمت عليهم أثلاثا فتقسم النفقة على خمسة وأربعين سهما فيدفع الذكر منها سبعة عشر سهما ويدفع كل خنثى ثلاثة عشر سهما.
فإن بانا امرأتين رجعا على الذكر بتمام النصف، فترجع عليه كل واحدة منهما بسهم وثلاثة أرباع سهم مما دفعت، وان بانا رجلين رجع الذكر على كل واحد منهما بسهمين وهو تمام الثلث.
وإن بان أحدهما ذكرا والآخر امرأة رجعت المرأة على الذي بان رجلا بأربعة أسهم ورجع الذكر عليه بسهم

(18/304)


(فرع)
فإن كان لرجل بنت وولدان خنثيان مشكلان فعلى طريقة أصحابنا البغداديين في النفقة وجهان.

(أحدهما)
أن جميع النفقة على الخنثيين، فإن بانا رجلين فلا رجوع لهما وإن بانا امرأتين رجعتا كل واحدة منهما على أختها التي لم تنفق معها ثلث ما أنفقت.
وإن بان أحدهما رجلا والآخر امرأة رجعت التي بانت امرأة على الذي بان رجلا بجميع ما أنفقت
والوجه الثاني: أن النفقة تجب عليهم أثلاثا - فإن بانا امرأتين فلا تراجع وإن بانا رجلين رجعت البنت بما أنفقت عليهما نصفين، وإن بان أحدهما رجلا والآخر امرأة رجع المرأتان على الذي بان رجلا بجميع ما أنفقاه.
وعلى طريقة الخراسانيين يقول العمرانى في البيان والماوردي في الحاوى وابن الصباغ في الشامل يكون في النفقة أيضا وجهان.
أحدهما - وهو الاصح عندهم - أن النفقة تجب على الجميع بالسوية.
فعلى هذا لا تراجع بينهم بحال
(والثانى)
تجب بينهم على قدر مواريثهم، فعلى هذا تجب على البنت خمس النفقه وهي أربعة من عشرين، وعلى كل واحد من الخنثيين ربع النفقه وهو خمسة من عشرين، لان هذا هو اليقين وتبقى ستة أسهم إن دفعها أحدهم ليرجع بها على من بانت عنده جاز والا قسمت عليهم أثلاثا، فإن بانا امرأتين رجع كل واحد من الخنثيين على البنت بثلث سهم.
وإن بانا رجلين رجعت البنت على كل واحد منهما بسهم وإن بان أحدهما رجلا والآخر أمرأة رجعت البنت الاصلية عليه بسهم ورجعت عليه البنت الخنثى بسهمين، والمشهور طريقة البغداديين (فرع)
وان كان له بنت وابن بنت موسران فحكى الشيخ المصنف هنا أن فيه قولين، وحكاهما ابن الصباغ عن القاضى أبى حامد وجهين
(أحدهما)
تجب النفقه على البنت لانهما يستويان في عدم التعصيب والبنت أقرب فكانت أولى بالايجاب عليها.

(والثانى)
تجب على ابن البنت لانه أقدر على النفقه بالذكوريه، وان كان له بنت ابن وابن بنت ففيه ثلاثة أوجه حكاها ابن الصباغ (أحدها) تجب النفقه على بنت الابن لانها تدلى بعصبة وقد تكون عصبه مع أختها

(18/305)


(والثانى)
تجب النفقة على ابن البنت لانه أقوى على النفقة بالذكورية
(والثالث) تجب النفقة عليهما بالسوية لانهما متساويان في الدرجة وعدم التعصيب.
وإن كان له أم وبنت موسرتان كانت النفقة عليهما بالسوية لانهما متساويان في الدرجة وعدم التعصيب، وإن كان له أم وبنت موسرتان كانت النفقة على البنت.
وقال أبو حنيفة وأحمد: يكون على الام ربع النفقة والباقى على البنت.
(فرع)
وإن كان له قريبان موسران أحدهما أبعد من الآخر فحضر الابعد وغاب الاقرب - قال المسعودي - وجب على الحاضر أن ينفق، فإذا حضر الاقرب فهل يرجع عليه بما أنفق؟ فيه وجهان الاصح له أن يرجع عليه، وهذا إذا لم يوجد للغائب مال ينفق عليه منه.
وإن كان له مال حاضر أنفق عليه منه، وإن لم يكن له مال - وأمكن أن يقترض الحاكم عليه من بيت المال أو من إنسان - اقترض عليه ووجب عليه القضاء إذا حضر، وإن لم يمكن كان على الحاضر أن ينفق فإن بان أن الغائب كان معسرا أو ميتا وقت النفقة لم يرجع عليه بشئ بل تكون نفقته على الحاضر.
وهكذا إن كان له ابنان موسران فحضر أحدهما وغاب الآخر كان على الحاضر نصف الفقة، فإن كان للغائب مال أنفق منه نصف النفقة، وإن لم يكن له مال وأمكن أن يفترض عليه من بيت المال أو من إنسان افترض عليه الحاكم.
وإن لم يمكن ذلك قال ابن الصباغ لزم الحاضر أن يفترض لان نفقته عليه إذا انفرد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان الذي تجب عليه النفقة يقدر على نفقة قريب واحد وله أب وأم يستحقان النفقة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن الام أحق لما روى " أن رجلا قال يارسول الله من أبر؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أباك "
ولانها تساوى الاب في الولادة وتنفرد بالحمل والوضع والرضاع والتربية (والثاني) أن الاب أحق لانه يساويها في الولادة وينفرد بالتعصيب.

(18/306)


ولانهما لو كانا موسرين والابن معسرا قدم الاب في وجوب النفقة عليها فقدم في النفقة له.
(والثالث) أنهما سواء، لان النفقة بالقرابه لا بالتعصيب، وهما في القرابة سواء، وإن كان له أب وابن ففيه وجهان، أحدهما أن الابن أحق لان نفقته ثبتت بنص الكتاب.
والثانى أن الاب أحق لان حرمته آكد، ولهذا لايقاد بالابن ويقاد به الابن، وإن كان له ابن وابن ابن أو أب وجد، ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الابن أحق من ابن الابن والاب أحق من الجد لانهما أقرب، ولانهما لو كانا موسرين وهو معسر كانت نفقته على أقربهما، فكذلك في نفقته عليهما
(والثانى)
أنهما سواء لان النفقة بالقرابه، ولهذا لا يسقط أحدهما بالآخر إذا قدر على نفقتهما.

(فصل)
ومن وجبت عليه نفقته بالقرابه وجبت نفقته على قدر الكفايه لانها تجب للحاجة فقدرت بالكفاية، وان احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقه خادمه، وان كانت له زوجة وجبت نفقة زوجته، لان ذلك من تمام الكفايه وان مضت مدة ولم ينفق على من تلزمه نفقته من الاقارب لم يصر دينا عليه، لانها وجبت عليه لنزجية الوقت ودفع الحاجه، وقد زالت الحاجة لما مضى فسقطت.
(الشرح) الحديث أخرجه أحمد والبخاري ومسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بلفظ " قال رجل: يارسول الله أي الناس أحق منى بحسن الصحبه؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك: قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال
أبوك " ولمسلم في روايه " من أبر؟ قال أمك " وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن بَهْزَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قال " قلت يارسول الله من أبر؟ قال أمك قال قلت ثم من؟ قال أمك: قال قلت يارسول الله ثم من؟ قال أمك: قال قلت ثم من؟ قال أباك ثم الاقرب فالاقرب " وأخرجه أيضا الحاكم وحسنه أبو داود عن بهز أيضا، ويؤخذ على المصنف قوله " لما روى " لما لم يسم فاعله وهي صيغة

(18/307)


التمريض التي أخذها عليه النووي وأخذناها عليه اتباعا للنووي في غير ما موضع من المجموع لان الحديث متفق عليه ولا يسوغ التعبير عنه يروى أما الاحكام فإن كان من تجب عليه النفقة له قريبان معسران فإن فضل عن قوت يومه وليلته وما يكفيهما لزمه أن ينفق عليهما، وإن لم يفضل عن قوته إلا ما يكفى أحدهما بأن كان له أبوان معسران ولا يجد إلا نفقة أحدهما ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) تقدم الام لحديث أبى هريرة وبهز بن حكم الذي ساقه المصنف في الفصل وقد كرر الام ثلاثا وقال في الرابعة أباك، ولان الام عورة ليس لها بطش والاب ليس بعورة فكان تقديم الام أولى
(والثانى)
أن الاب يقدم لانهما متساويان في الولادة وانفرد الاب بالتعصيب فكان أولى، كما لو تقدم بدرجة، ولانهما لو كانا موسرين وهو معسر لكانت نفقته على الاب فوجب أن يقدم الاب في وجوب تقديم نفقته، كما يقدم في وجوب نفقة الابن عليه (والثالث) أنهما سواء فيسقط ذلك بينهما لاسوائهما في الولادة والادلاء (فرع)
وإن كان له أب وابن معسران ولا يقدر على نفقة أحدهما، فاختلف أصحابنا، فقال الشيخ أبو حامد: إن كان الابن طفلا أولى بالتقديم لانه ناقص الخلقة والاحكام، والاب إما أن يكون زمنا أو مجنونا فيكون ناقص
الخلقة أو ناقص الاحكام دون الخلقة، فإن تساويا بأن يكون بالغا زمنا فيكون ناقص الخلقة دون الاحكام أو مراهقا صحيحا فيكون ناقص الخلقة والاب زمن أو مجنون ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الابن أحق بالتقديم، لان وجوب نفقة الابن ثبت بنص القرآن، ووجوب نفقة الاب على الابن مجتهد فيه
(والثانى)
أن الاب مقدم لان حرمته آكد من حرمة الابن، بدليل أن الاب لايقاد من ابنه والابن يقاد بالاب، قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان من غير تفصيل.
أحدهما الابن أولا.
والثانى الاب أولا.
وذكر العمرانى وجها ثالثا أنهما سواء فقسم بينهما لاستوائهما في الدرجة (فرع)
وان كان له أب وجد معسران ولا يقدر على نفقة أحدهما ففيه وجهان

(18/308)


(أحدهما)
يقدم الاب لانه أقرب، ولانه يقدم في وجوب النفقة عليه فقدم في وجوب النفقة له
(والثانى)
أنهما سواء فيقسم بينهما لان الاب لايمنع وجوب نفقة الجد وضاق ما في يد الجد عن نفقتها فيقسم ما بينهما كالدينين، وهكذا إذا اجتمع ابن وابن ابن أو أم وأم أم ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما فعلى وجهين (مسألة) قوله: ومن وجبت عليه نفقته بالقرابة الخ - فجملة ذلك أنه إذا وجبت عليه نفقة القريب فإنها تجب غير مقدرة، بل يجب له ما يكفيه لانها تجب للحاجة فتقدرت بالكفاية، وان احتاج القريب إلى من يخدمه وجبت عليه نفقة خادمه، وإن كانت له زوجة وجبت عليه نفقتها، لان ذلك من تمام الكفاية.
ويجب عليه الكسوة لان كل من وجبت عليه نفقة شخص وجبت عليه كسوته كالزوجة، وإن احتاج إلى مسكن وجب عليه سكناه لانه عليه كفايته، وذلك من
كفايته، وإن مضت مدة ولم ينفق فيها على قريبه سقطت بمضي الزمان لانها تجب للحاجة وقد زالت الحاجة.
(فرع)
وإن وجبت عليه نفقة زوجته أو قريبه فامتنع من إخراجها أو هرب فإن الحاكم ينظر في ماله - فإن كان فيه من جنس النفقة - دفع النفقة منه.
وان كان من غير جنس النفقه - فإن كانت الدراهم والدنانير اشترى منها الحاكم الطعام والادام وصرفه إلى من وجبت نفقته، وان وجد له متاعا باعه عليه.
وقال أبو حنيفة: لا يباع عليها المتاع والعقار الا في موضع واحد.
وهو إذا جاء الرجل إلى الحاكم وقال: ان لفلان الغائب عندي سلعة أو عقارا وهذه زوجته لم ينفق عليها - فإن الحاكم يبيع عليه السلعة والعقار وينفق على زوجته من ثمن ذلك.
دليلنا أن ما جاز بيع الناض فيه بغير اذن من عليه الحق جاز بيع المتاع والعقار فيه بغير اذنه كنفقة الزوجه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان له أب فقيرا مجنونا أو فقيرا زمنا، واحتاج إلى

(18/309)


الاعفاف وجب على الولد إعفافه على المنصوص، وخرج أبو علي بن خيران قولا آخر أنه لا يجب لانه قريب يستحق النفقة، فلا يتسحق الاعفاف كالابن والمذهب الاول، لانه معنى يحتاج الاب إليه ويلحقه الضرر بفقده، فوجب كالنفقة، وإن كان صحيحا قويا وقلنا إنه تجب نفقه وجب إعفائه وإن قلنا لا تجب نفقته ففي إعفافه وجهان
(أحدهما)
لا يجب، لانه لا تجب نفقه فلا يجب إعفافه
(والثانى)
وهو قول أبى إسحاق أنه يجب إعفافه، لان نفقته ان لم تجب
على القريب أنفق عليه من بيت المال، والاعفاف لا يجب في بيت المال فوجب على القريب.
ومن وجب عليه الاعفاف فهو بالخيار بين أن يزوجه بحرة وبين أن يسريه بجارية، ولايجوز أن يزوجه بأمة لانه بالاعفاف يستغنى عن نكاح الامة، ولا يعفه بعجوز ولا بقبيحة، لان الاصل من العفة هو الاستمتاع، ولا يحصل ذلك بالعجوز ولا القبحة، فإن زوجه بحرة أو سراه بجارية ثم استغنى لم يلزمه مفارقة الحرة، ولا رد الجارية، لان ما استحق للحاجة لم يجب رده بزوال الحاجة، كما لو قبض نفقة يوم ثم أيسر وإن أعفه بحرة فطلقها أو سراه بجارية فأعتقها لم يجب عليه بدلها، لان ذلك مواساة لدفع الضرر، فلو أوجبا البدل خرج من حد المواساة وأدى إلى الضرر والضرر لا يزال بالضرر.
إن ماتت عنده ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجب البدل لانه يخرج عن حد المواساة
(والثانى)
يجب لانه زال ملكه عنها بغير تفريط فوجب بدله، كما لو دفع إليه نفقة يوم فسرقت منه
(فصل)
وان احتاج الولد إلى الرضاع وجب على القريب ارضاعه، لان الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير، ولا يجب الا في حولين كاملين، لقول تعالى " والولدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " فإن كان الولد من زوجته وامتنعت من الارضاع لم تجبر.
وقال أبو ثور: تجبر لقوله تعالى " والولدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " وهذا خطأ لانها إذا لم تجبر على نفقة الولد مع وجود الاب لم تجبر على الرضاع، وإن أرادت ارضاعه كره للزوج منعها، لان لبنها

(18/310)


أوفق له، وان أراد منعها منه كان له ذلك، لانه يستحق الاستمتاع بها في كل وقت الا في وقت العبادة، فلا يجوز لها تقويته عليه بالرضاع وان رضيا بإرضاعه
فهل تلزمه زيادة على نفقتها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تلزمه، وهو قول أبى سعيد وأبى اسحاق، لانها تحتاج في حال الرضاع إلى أكثر مما تحتاج في غيره
(والثانى)
لا تلزمه الزيادة على نفقتها في النفقة، لان نفقتها مقدرة فلا تجب الزيادة لحاجتها، كما لا تجب الزيادة في نفقة الاكولة لحاجتها، وان أرادت ارضاعه بأجرة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفرايبنى رحمة الله عليه، لان أوقات الرضاع مستحقة لاستتمتاع الزوج ببدل وهو النفقة، فلا يجوز أن تأخذ بدلا آخر
(والثانى)
أنه يجوز، لانه عمل يجوز أخذ الاجرة عليه بعد البينونة، فجاز أخذ الاجرة عليه قبل البينونة كالنسج وان بانت لم يملك اجارها على ارضاعه كما لا يملك قبل البينونة، فان طلبت أجرة المثل على الرضاع ولم يكن للاب من يرضع بدون الاجرة كانت الام أحق به، لقوله تعالى " فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " وان طلبت أكثر من أجرة المثل جاز انتزاعه منها.
وتسليمه إلى غيرها لقوله تعالى " وان تعاسرتم فسترضع له أخرى " ولان ما يوجد بأكثر من عوض المثل كالمعدوم، ولهذا لو وجد الماء بأكثر من ثمن المثل جعل كالعدوم في الانتقال إلى التيمم فكذلك ههنا وان طلبت أجرة المثل وللاب من يرضعه بغير عوض أو بدون أجرة المثل، ففيه قولان: أحدهما: أن الام أحق بأجرة المثل، لان الرضاع لحق الولد، ولان لبن الام أصلح له وأنفع، وقد رضيت بعوض المثل فكان أحق والثانى: أن الاب أحق، لان الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولو وجد الكبير من يتبرع بنفقته لم يستحق على الاب النفقة، فكذلك إذا وجد من يتبرع بإرضاعه لم تستحق على الاب أجرة الرضاع، وان ادعت المرأة
أن الاب لا يجد غيرها فالقول قول الاب: لانها تدعي استحقاق أجرة المثل والاصل عدمه.

(18/311)


(الشرح) الاحكام: إذا وجبت على الولد نفقة الاب والجد قبل الاب أو من قبل الام واحتاج الاب أو الجد إلى الاعفاف بزوجة وجب على الولد أن يعفقه بذلك إذا قدر على ذلك.
قال ابن خيران: وفيها قول آخر أنه لا يجب عليه ذلك، وبه قال أبو حنيفة لانه قريب فلم يستحق الاعفاف كالابن، والاول أصح لانه معنى يحتاج إليه، ويستضر بفقده فلزمه كالنفقة والكسوة، ويخالف الابن فإن الاب آكد حرمة منه فوجب له مالا يجب له، وإن كان الوالد معسرا صحيحا غير مكتسب - فإن قلنا تجب نفقته على الولد - وجب عليه إعفافه، وإن قلنا لا تجب نفقته عليه ففي إعفائه وجهان
(أحدهما)
لا يجب عليه إعفافه لانه لا يجب عليه نفقته فلم يجب عليه إعفافه كالموسر.

(والثانى)
يجب عليه إعفافه لان نفقته يمكن إيجابها في بيت المال بخلاف الاعفاف، وإذا وجب على الولد الاعفاف فهو بالخيار بين أن يملكه جارية يحل له وطؤها أو يدفع إليه مالا يشترى به جارية أو يشتريها له بإذنه، وفي عصرنا هذا لم يبق الا وجه واحد وهو أن يدفع إليه مالا ليتزوج به أو يتزوج له بإذنه، ولايجوز أن يزوجه أمة لانه صار مستغنيا به، ولا يعفه بقبيحة ولا بعجوز لااستمتاع بها، لانه لا يحصل المقصود بذلك، فإن ملكه جارية أو دفع إليه مالا فتزوج به أمرأة ثم أيسر الاب لم يلزمه رد ذلك، لانه قبض ذلك وهو يستحقه، فإن طلق الزوجة أو أعتق الامة لم يلزم الولد أن يعفه ثانيا، لانه
فوت ذلك على نفسه، وان ماتت الزوجة أو الامة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه اعفافه ثانيا، لانه انما يجب عليه اعفافه مرة وقد فعل
(والثانى)
يلزمه وهو الاصح لانه لاصنع له في تفويت ذلك (مسألة) قوله: وإن احتاج الولد إلى الرضاع الخ، فجملة ذلك أنها إذا ولدت ولدا وجب عليها أن تسقيه اللبا حتى يروى، لانه لا يعيش الا بذلك، فإن كان للطفل مال وجبت أجرة رضاعة في ماله كما تجب نفقته إذا كان كبيرا في ماله، وان لم يكن له مال وجبت ارضاعه على من تجب عليه نفقته لو كان كبير لقوله تعالى

(18/312)


فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " ولا يجب ارضاعه الا في حولين، لقوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " وان كان الولد من زوجته والاب ممن يجب عليه نفقته لم تجبر الام على ارضاعه وبه قال أبو حنيفة واحمد.
وقال أبو ثور: تجبر على ارضاعه، وعن مالك روايتين احداهما كقول أبى ثور، والثانية وهى المشهورة عنه ان كانت شريفة لم تجبر على ارضاعه وان كانت دنية أجبرت على ارضاعه.
دليلنا قوله تعالى " فان تعاسرتم فسترضع له أخرى " وإذا امتنعت فقد تعاسرت، ولانها لا تجبر على نفقة الولد مع وجود الاب فكذلك الرضاع.
إذا ثبت - فان تطوعت بإرضاعه - فالاولى للاب ألا يمنعها من ذلك، لان الرضاع حق للولد، والام أشفق عليه، ولبنها اصلح له، وهل يلزمه أن يزيدها على نفقتها؟ ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه لان نفقة الزوجة مقدرة بحال الزوج، فلو قلنا يجب عليه الزيادة لاجل الرضاع لكانت نفقتها مقدرة بحالها فلم يلزمه ذلك، كما لو كانت
رغبية في الاكل فانه لا تلزمه الزيادة في نفقتها
(والثانى)
تلزمه الزيادة على نفقتها - وهو قول أبى سعيد الاصطخرى وأبى اسحاق المروزى لقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " فحص حال الولادة بذكر أيجاب النفقة ولا فائدة بذكر وجوبها في الولادة الا وجوب الزيادة، ولان العادة جرت أن المرضعة تحتاج من الطعام أكثر من غيرها فعلى هذا يبحث الحاكم في قدر الزيادة على ما يراه وان استأجر أمراته على الرضاع فهل يصح عقد الاجارة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يصح، وبه قال أحمد، لان كل عقد صح أن يعقده الزوج مع غير الزوجة صح أن يعقده مع الزوجة كالبيع
(والثانى)
لا يصح وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره، وكذلك لو استأجرها لخدمة نفسه، لان الزوج يملك الاستمتاع بها في جميع الاوقات الا في الاوقات المستحقة للعبادات.
وإذا أجرت نفسها لم تتمكن

(18/313)


من إيفاء حقه إلا بتعطيل حقه من الاستمتاع فلم يصح، كما لو أجر العبد نفسه من سيده، فإذا قلنا بهذا واستأجرها على إرضاعه بعوض فأرضعته، فهل تستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما)
لا تستحق ذلك لانها لو استحقت أجرة في ذلك لجاز لها عقد الاجارة لذلك
(والثانى)
تستحق أجرة المثل، لان هذه منفعة لا يجب عليها بدلها، فإذا بذلتها بعوض ولم يحصل لها العوض وجب لها عوض المثل كسائر منافعها (فرع)
وإن أبان الرجل امرأته وله منها ولد يرضع لم يملك إجبارها على ارضاعه لانه إذا لم يملك إجبارها على إرضاعه حال الزوجية لم يملك إجبارها
بعد الزوجية، فإن تطوعت بإرضاعه لم يجز للاب انتزاعه منها، لانه لاحق له في استمتاعها، وإن استأجرها على إرضاعه صح ذلك لقوله تعالى " فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " ولانه لا يملك الاستمتاع بها بخلاف ما لو استأجرها في حال الزوجية، فإن طلبت منه أجرة المثل ولا يجد الاب من يرضعه بغير أجرة أو بدون أجرة المثل وجب عليه بذل ذلك لها.
ولم يجز له انتزاعه منها لان الارضاع حق للولد، ولبن الام أنفع له من لبن غيرها، وإن طلبت منه أكثر من أجرة المثل كان له انتزاعه منها لقوله تعالى " وإن تعاسرتم فترضع له أخرى " وإذا طلبت منه أكثر من أجرة المثل فقد تعاسرت.
وان طلبت أجرة المثل ووجد الاب من يرضعه بدون أجرة المثل أو من ترضعه بغير أجرة فاختلف أصحابنا، فمنهم من قال فيه قولان
(أحدهما)
أن الام أحق برضا به بأجرة المثل لقوله تعالى " فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " ولم يفرق، ولانه روى في الحديث " الام أحق بكفالة ولدها ما لم تتزوج " ولان الرضاع حق للولد ولبن الام أنفع له وأصلح فكانت أولى
(والثانى)
أن للاب أن ينتزعه لقوله تعالى، فان تعاسرتم فسترضع له أخرى " والتعاسر هو الشدة والتضايق قال القرطبى " وإن تعاسرتم " أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطى الام رضاعها وأبت الام أن ترضعه فليس له إكراهها، وليستأجر مرضعة غير

(18/314)


أمه.
وقيل معناه وان تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها، وهو خبر في معنى الامر.
وقال الضحاك: ان أبت الام أن ترضع استأجر لولده أخرى، فان لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالاجر.
وذكر اختلاف الفقهاء على ثلاثة أقوال: فأورد قول علمائهم من المالكية أن رضاع الولد على الزوجة مادامت الزوجية - الا لشرفها وموضعها - فعلى الاب أن رضاعه يومئذ في ماله.
والثانى قال أبو حنيفة: لا يجب على الام بحال الثالث: يجب عليها في كل حال اه قال القاضى العمرانى من أصحابنا: وإذا وجد الرجل من يرضعه بدون أجرة المثل أو بغيره أجرة وطلبت الام أجرة المثل فقد تعاسرت فكان له نزعه منها، ولان نفقة ارضاع الطفل كنفقة المراهق، ولو وجد من يتطوع بالانفاق على المراهق لم يجب على الاب نفقته، فكذلك إذا وجد من يتطوع بارضاع الطفل لا يجب عليه أجرة المثل.
وقال أبو اسحاق المروزى: للاب انتزاعه قولا واحدا، والقول الآخر لا يعرف في شئ من كتب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: للاب انتزاعه ولكن لا يسقط حق الام من الحضانة، فتأتى المرضعة وترضعه عند الام.
دليلنا أن الحضانة تابعة للرضاع، فإذا سقط حقها من الرضاع سقط حقها من الحضانه.
إذا ثبت هذا فان ادعى الاب أنه يجد من يرضعه بغير أجرة أو بدون أجرة المثل - وقلنا له انتزاعه، فإن صدقته الام أنه يجد ذلك كان له انتزاعه منها، وان كذبته فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف انتزعه من يد الام ويسلم إلى المرضعة ولا يمنع الام من زيارته لقوله صلى الله عليه وسلم " لاتوله والدة بولدها "
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب على المولى نفقة عبده وأمته وكسوتهما لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: للملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل الا ما يطيق " ويجب عليه نفقته من قوت البلد لانه هو المتعارف

(18/315)


فإن تولى طعامه استحب أن يطعمه منه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قال أبو القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ خادمه بطعام فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، فإنه تولى علاجه وحره " فإن كانت له جارية للتسرى أستحب أن تكون كسوتها أعلى من كسوة جارية الخدمة، لان العرف أن تكون كسوتها أعلى فوق كسوة جارية الخدمة.

(فصل)
ولا يكلف عبده وأمته من الخدمة ما لا يطيقان لقوله صلى الله عليه وسلم " ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق ولا يسترضع الجارية إلا ما فضل عن ولدها، لان في ذلك إضرارا بولدها، وإن كان لعبده زوجة أذن له في الاستمتاع بالليل، لان إذنه بالنكاح يتضمن الاذن في الاستتماع بالليل، وإن مرض العبد أو الامة أو عميا أو زمنا لزمه نفقتهما، لان نفقتهما بالملك، ولهذا تجب مع الصغر فوجبت مع العمى والزمانة، ولايجوز أن يجبر عبده على المخارجة لانه معاوضة فلم يملك إجباره عليها كالكتابة.
وإن طلبت العبد ذلك لم يجبر المولى كما لا يجبر إذا طلب الكتابة، فإن اتفقا عليها وله كسب جَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره، وسأل مواليه أن يخففوا من خراجه، وإن لم يكن له كسب لم يجز لانه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة تحل فلم يجز.
(الشرح) حديث أبى هريرة الاول أخرجه أحمد في المسند ومسلم في العتق عن حجاج، وفي الاطعمة عن حفص بن عمر، وقال " ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " وحديث أبى هريرة الثاني أخرجه البخاري ومسلم في النذور والاطعمة وأبو داود في الاطعمة عن عبد الله بن مسلمة الفعنبى، وكذا أخرجه أحمد في مسنده وبقية أصحاب السنن بلفظ " إذا أتى أحدكم خادمة بطعامه - فإن لم يجلسه
معه - فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلفة أو أكلتين، فانه ولى حره وعلاجه.
وحديث أبى طيبة الحجام واسمه دينار وهو مولى بنى حارثة، وحديثه هذا أخرجة البخاري في البيوع عن عبد الله بن يوسف، وفي الاجازة عن محمد بن

(18/316)


يوسف وعن آدم، وفي الطب عن محمد بن مقاتل، وأخرجه مسلم في البيوع عن أحمد بن الحسن وعن يحيى بن أيوب وقتبية على بن حجر، وعن محمد بن يحيى بن أبى عمر وأخرجه أبو داود في البيوع عن القعنبى، وأخرجه الترمذي عن علي بن حجر والطبراني في الجامع عن حميد الطويل أما اللغات فقوله " إذا أتى أحدكم خادمه " بنصب أخذكم على المفعولية ونصب خادمه على الفاعلية، والخادم يطلق على الذكر والانثى والحر والمملوك.
وقوله " علاجه " أي مزاولته لما استعصى من أموره، ويقال لجبال الرمل علاج، والحر جمع الحرة وهو الارض ذات الحجارة النخرة السواداء، وهى أثر من آثار البراكين، وهو كناية عن تحمله أموره الشاقة في أبلغ تعبير لانه يعالج له إعداد الطعام ويعالجه له ويتحمل حرارة النار في إنضاجه أما الاحكام فانه يجب على المرء نفقة خادمه وكسوته لحديث أبى هريرة في الرجل الذي قال معي دينار، قال انفقه على نفسك، قال أنفقه على نفسك، قال معي آخر، قال انفقه على ولدك قال معي آخر، قال أنفقه على أهلك، قال معى آخر، قال انفقه على خادمك.
ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " للملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " وهو اجماع لا خلاف فيه فان كان الخادم غير مكتسب، بأن كان صغيرا أو مريضا أو كبيرا أو زمنا فنفقته على سيده.
ويجب أن يكون طعامه من قوت أهل البلد لقوله صلى الله عليه وسلم " أطعموهم
مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون " وإن كان الخادم يقدم الطعام لسيده يلي إعداده واصلاحه، فيستحب للسيد أن يجلسه معه ويطعمه معه منه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " فليجلسه معه أو يطعمه منه لقمة أو لقميتن " ولان الانسان إذا تولى طعاما اشتهى أن يأكل منه فاستحب أن يطعم منه كما يستحب لمن قسم الميراث أن يرزق من حضر القسمة منها، وأيهما أفضل؟
(أحدهما)
أن الافضل ان يجلسه معه ليأكل، لان النبي صلى الله عليه وسلم بدأ به، لانه إذا أكل معه أكل قدر كفايته ومنهم من قال: ليس أحدهما

(18/317)


أفضل من الآخر، بل إن شاء أجلسه معه وإن شاء أطعمه، لان النبي صلى الله عليه وسلم خيره بين أن يجلسه معه وبين أن يغمس له لقمة أو لقمتين في الادم، والاول أصح.
هكذا أفاده أصحابنا في كتبهم، وما بقى من الفصل فعلى وجهه، وينبغى ألا يكلفه إلا ما يطيق الدوام عليه لا ما يطيق يوما أو يومين أو ثلاثة ثم يعجز هكذا قال الشافعي في الام وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ومن ملك بهيمة لزمه القيام بعلفها لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال " عذبت امرأة في هرة، حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النار - فقيل لها والله أعلم - لا أنت أطعمتها وسقيتها حين حبستها، ولا أنت أرسلتها حتى تأكل من خشاش الارض حتى ماتت جوعا " ولايجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق، لان النبي صلى الله عليه وسلم منع أن يكلف العبد ما لا يطيق فوجب أن تكون البهيمة مثله، ولا يجلب من لبنها إلا ما يفضل عن ولدها لانه غذاء للولد فلا يجوز منعه

(فصل)
وان امتنع من الانفاق على رقيقه أو على بهيمته أجبر عليه كما يخبر على نفقة زوجته، وان لم يكن له مال أكرى عليه أن أمكن اكراؤه، فان لم يمكن بيع عليه كما يزال الملك عنه في أمرأته إذا أعسر بنفقتهما والله أعلم (الشرح) الحديث الاول أخرجه مسلم في صحيحه عن أبى كريب في الحيوان من حديث أبى هريرة، وأخرجه أيضا في التوبة عن محمد بن رافع وعبد بن حميد من حديث أبى هريرة بلفظ المصنف مضى في الفصل قبله.
أما اللغات فقوله " من خشاش الارض " أي من حشراتها ووزغها ومادته خش، وخش في الشئ دخل فيه.
قال زهير: فخششت بها خلال الفدفد وفي حديث عبد الله بن أنيس، فخرج يمشى حتى خش فيهم، ومنه يقال لما يدخل في أنف البعير خشاش، وقال ابن شميل الخشاش حية صغيرة سمراء أصغر

(18/318)


من الارقم.
وقال أبو خيرة، الخشاش حية بيضا قلما تؤذى، وقال أبو عبيد في حديث " أن امرأة ربطت هرة فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الارض " قال يعنى من هو ام الارض وحشراتها ودوابها وما أشبهها.
قال في النهاية في الحديث، أي هو امها وحشراتها الواحدة خشاشة، وفي رواية من خشيشها.
وهى بمعناه، ويروى بالحاء المهملة وهو يابس النبات وهو وهم.
وقيل انما هو خشيش بضم الخاء المعجمة تصغير خشاش على الحذف وخشيش من غير حذف ومنه حديث العصفور " لم ينتفع بى ولم يدعنى أخنش من الارض " أي آكل من خشاشها.
أما الاحكام فان من ملك بهيمة لزمه القيام بعلفها سواء كانت مما تؤكل أو مما لا تؤكل، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " اطلعت في النار ليلة أسرى
بى فرأيت امرأة فيها، فسألت عنها فقيل انها ربطت هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تدعها تأكل من خشاش الارض حتى ماتت فعذبها الله بذلك، واطلعت في الجنة فرأيت امرأة مومسة (يعنى زانية) فسألت عنها فقيل انها مرت بكلب يلهث من العطش فأرسلت ازارها في بئر ثم عصرته في حلقه فغفر الله بذلك، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تعذيب الحيوان.
وقال " في كل كبد حرى أجر " فلو قلنا لا يجب الانفاق عليها أسقطنا حرمتها، فان كانت في المصر لزمه الانفاق عليها، وان كان في الصحراء - فان كان بها من الكلا ما يقوم بكفايتها فخلاها للرعى - لم يجب عليه العلف لانها تجترئ على عادة أهل مصر، لان صحاريها يقل فيها العلف.
وقال الخراسانيون: ان كانت البهيمة مشقوقة الشفة العليا فإنها تجتزئ بالكلا عن العلف، وان كانت غير مشقوقة الشفة العليا فلا تجتزئ بالرعى ولا يد من علفها، وان لم يكن بها من الكلا ما يقوم بها لزمه من العلب ما يقوم بها فان لم يعلفها - فان كانت مما يؤكل - كان له أن يذبحها وله أن يبيعها، وان كانت مما لا يؤكل كان له بيعها - فان امتنع من ذلك أجبره السلطان على علفها أو بيعها أو ذبحها ان كانت مما يؤكل، ولولى الامر أن يخصص مراحا يعلفها فيه ويدواى

(18/319)


مرضاها على نفقة صاحبها، وله أن يخصص من البياطرة من ينزعون الدواب من أيدي المقصرين في حقها وردها إليهم بعد شفائها عليهم أو أجبره على بيعها.
وقال أبو حنيفة لا يجبره على ذلك بل يأمره به كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ودليلنا أنها نفقة واجبة فإذا امتنع منها أجبره ولى الامر على أدائها كنفقة العبد وإن كانت للبهيمة ولد لم يجلب من لبنها إلا ما فضل من ولدها، لان لبنها غذاء
للولد فلا يجوز منعه منه كما قلنا في الجارية.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

باب الحضانة

إذا افترق الزوجان ولهما ولد بالغ رشيد فله أن ينفرد عن أبويه لانه مستغن عن الحضانة والكفالة، والمستحب أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما.
وان كانت جارية كره لها أن تنفرد، لانها إذا انفردت لم يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها، وإن كان لهما ولد مجنون أو صغير لا يميز، وهو الذي له دون سبع سنين، وجبت حضانته، لانه إن ترك حضانته ضاع وهلك
(فصل)
ولا تثبت الحضانة لرقيق لانه لا يقدر على القيام بالحضانة مع خدمة المولى، ولا تثبت لمعتوه لانه لايمكل للحضانة ولا تثبت لفاسق، لانه لايوفى الحضانة حقها، ولان الحضانة إنما جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد في حضانة الفاسق، لانه ينشأ على طريقته، ولا تثبت لكافر على مسلم.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: تثبت للكافر على المسلم: لما روى عبد الحميد ابن سلمة (1) عن أبيه أنه قال: أسلم أبي وأبت أمي أن تسلم وأنا غلام، فاختصما
__________
(1) هكذا بالمتن المطبوع، والصواب عبد الحميد بن جعفر، وهو ما اعتمدناه في الشرح، وقد وجدنا كثيرا من الفقهاء يتابعون أبا إسحاق في كونه ابن سلمة كالعمراني في البيان، وهذا خطأ، والصواب ما اعتمدناه هنا.
أما عبد الحميد بن سلمة الانصاري فيقال هو ابن يزيد بن سلمة وهو مجهول.
" المطيعي "

(18/320)


إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا غلام اذهب إلى أيهما شئت، إن شئت إلى أبيك، وإن شئت إلى أمك، فتوجهت إلى أمي، فلما رأني النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول اللهم اهده فلمت إلى أبى فقعدت في حجره " والمذهب الاول،
لان الحضانة جعلت الحظ الولد ولا حظ للولد المسلم في حضانة الكافر، لانه يفتنه عن دينه وذلك من أعظم الضرر، والحديث منسوخ، لان الامة أجمعت على أنه لا يسلم الصبي المسلم إلى الكافر، ولاحضانة للمرأة إذا تزوجت، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ " أَنَّ امرأة قالت يارسول الله ان إبنى هذا كان بطني له وعاء، وثديى له سقاء، وحجرى له حواء، وان أباه طلقني وأراد أن ينزعه مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنت أحق به ما لم تنكحي " ولانها إذا تزوجت اشتغلت باستمتاع الزوج عن الحضانة.
فإن أعتق الرقيق وعقل المعتوه وعدل الفاسق، وأسلم الكافر عاد حقهم من الحضانة، لانها زالت لعلة فعادت بزوال العلة، وإذا طلقت المرأة عاد حقها من الحضانة وقال المزني أن كان الطلاق رجعيا لم يعد لان النكاح باق، وهذا خطأ لانه انما سقط حقها بالنكاح لاستغالها باستمتاع الزوج، وبالطلاق الرجعي يحرم الاستمتاع كما يحرم بالطلاق البائن، فعادت الحضانة
(فصل)
ولاحضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوى الارحام وهم ابن البنت وابن الاخت وابن الاخ من الام وأبوالام والخال والعم من الام لان الحضانة انما تثبت للنساء لمعرفتهن بالحضانة أو لمن له قوة قرابة بالميراث من الرجال وهذا لا يوجد في ذوى الارحام من الرجال ولا يثبت لمن أدلى بهم من الذكور والاناث، لانه إذا لم يثبت لهم الضعف قرابتهم فلان لا يثبت لمن يدلى بهم أولى (الشرح) حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سنان، وهو أبو الحكم الانصاري الاوسي، أخرجه أبو داود في الطلاق عن ابراهيم بن موسى الرازي والنسائي في الطلاق أيضا عن محمود بن غيلان.
ورواه أحمد بلفظ " قال أخبرني أبى عن جدى رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتى وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع ابنتى، فقال

(18/321)


رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقعد ناحية، وقال لها اقعدي ناحية، فأقعد الصبية بينهما ثم قال ادعوها فمالت إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها " ووقعت هذه الصيغة في رواية عند أبى داود، كما وردت بلفظ " فجاء بابن له صغير " وأخرجه بلفظ الانثى النسائي وابن ماجه والدارقطني وفي إسناده اختلاف كثير وألفاظه مختلفة مضطربة، وقد رجح ابن القطان رواية الابن.
وقال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال.
قلت: قد صححه الحاكم وذكر الدارقطني أن البنت المخيرة اسهما عميرة.
وقال ابن الجوزى: رواية من روى أنه كان غلاما أصح.
وقال ابن القطان: لو صحت رواية من روى أنها بنت لاحتمل أنهما قصتان لاختلاف المخرجين وقد اختلف انقاد في عبد الحميد بن جعفر، فقال ابن حجر في التقريب صدوق رمى بالقدر وربما وهم.
وقال الذهبي في الميزان: عبد الحميد بن جعفر عن أبيه ونافع ومحمد بن عمرو بن عطاء وعنه يحيى القطان وأبو عاصم وعدة.
قال النسائي ليس به بأس، وكذا قال أحمد.
وقال ابن معين ثقة، وقد نقم عليه الثوري خروجه مع محمد بن عبد الله.
وقال أبو حاتم لا يحتج به، وقيل كان يرى القدر والله أعلم، نعم قال على بن المدينى: كان يقول بالقدر، وهو عندنا ثقة، وكان سفيان يضعفه.
اه أما حديث عبد الله بن عمرو فقد رواه أحمد بلفظ " أن امرأة قالت يارسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجرى له حواء وثديى له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه منى، فقال أنت أحق به ما لم تنكحي " وأخرجه أبو داود في الطلاق عن محمد بن خالد ولكن في لفظه " وأن أباه طلقني وزعم أنه يتنزعه منى "
وأخرجه البيهقى والحاكم وصححه، وهو من حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
أما اللغات فإن الحضانة مشتقة من الحضن وهو ما دون الابط إلى الكشح.
وقيل هو الصدر والعضدان وما بينهما، والجمع أحضان ومنه الاحتضان، وهو احتمالك الشئ وجعله في حضنك، كما تحتضن المرأة ولدها فتحتمله في أحد شقيها

(18/322)


وفي الحديث أنه خرج محتضنا أحد ابني ابنته، أي حاملا له في حضنه، والحضن الجنب وهما حضنان.
وفي حديث أسيد بن الحضير أنه قال لعامر بن الطفيل أخرج بذمتك لئلا أنفذ حضنيك، والمحتضن الحضن.
قال الكميت كما خامرت في حضنها أم عامر لدى الحبل حتى غال أوس عيالها وحضنا الليل جانباه، وحضن الجبل ما يطيف به، وفي حديث علي كرم الله وجهه " عليكم بالحضنين " يريد يجنتبى العسكر، وحضن الطائر بيضه وعلى بيضه يحضن حضنا وحضانة وحضانا وحضونا رجن عليه للتفريخ.
قال الجوهرى حضن الطائر بيضه إذا ضمنه إلى نفسه تحت جناحيه، وكذلك المرأة إذا حضنت ولدها، وحمامة حاضن بغير هاء، واسم المكان المحضن، والمحضنة المعمولة للحمامة كالقصعة الروحاء من الطين.
وحضن الصبى يحضنه حضنا رباه، والحاضن والحاضنة الموكلان بالصبى يحفظانه ويربيانه.
وفي حديث عروة بن الزبير " عجبت لقوم طلبوا العلم حتى إذا ناوا منه صاروا حضانا لاباء الملوك " أي مربين وكافلين، وحضان جمع حضان، لان المربى والكافل يضم الطفل إلى حضنه وبه سميت الحاضنة، وهى التي تربى الطفل، والحاضنة بالفتح فعلها، والحجر بمعنى وحواء أي يحويه ويحيط به.
أما الاحكام فإذا بانت الزوجة وبينهما ولد - فإن كان بالغا رشيدا لم يجبر
على الكون مع أحدهما، بل يجوز له أن ينفرد عنهما، إلا أن المستحب له أن لا ينفرد عنهما لئلا ينفطع بره وخدمته عنهما، وهل يكره له الانفراد عنهما؟ ينظر فيه - فإن كان رحلا - لم يكره له الانفراد عنهما وان كانت امرأة، فإن كانت بكرا، كره لها الانفصال عنهما لانها لم تجرب الرجال ولا يؤمن أن تخدع وإن كانت ثيبا فارقها زوجها لم يكره لها الانفراد عنهما لانها قد جربت الرجال ولا يخشى عليها أن تخدع وقال مالك يجب على الابنة أن لا تفارق أمها حتى تتزوج ويدخل بها الزوج دليلنا أنها إذا بلغت رشيدة فقد ارتفع الحجر عنها: فكان لها أن تنفرد بنفسها ولا اعتراض عليها، كما لو تزوجت ثم بانت عنه، وان كان الولد صغيرا لا يميز

(18/323)


وهو الذي له دون سبع سنين أو كبيرا إلا أنه مجنون أو ضعيف العقل وجبت حضانته، لانه إذا ترك منفردا ضاع.
ولا تثبت الحضانة لمعتوه - وهو ناقص العقل - ولا لمجنون لانه لا يصلح للحضانة، ولا تثبت الحضانة لفاسق لانه لا يؤمن أن ينشأ الطفل على منزعه، وإن كان أحد الابوين مسلما فالولد ولا تثبت عليه الحضانة للكافر.
وقال أبو سعيد الاصطخرى تثبت الحضانة للكافر على المسلم لحديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، وقد أوردنا طرقه آنفا، وقد قال المصنف إنه منسوخ، ونقول: إن هذا الحديث استدل به القائلون بثوبت الحضانة للام الكافرة كأبى حنيفة وأصحابه وابن القاسم المالكى وأبو ثور، وذهب إلى الجمهور إلى أنه لا حضانة للكافرة على ولدها المسلم.
وأجابوا عن الحديث بما تقدم من المقال فيه وبما فيه من الاضطراب، ولكن الحديث بأسانيده وطرقه يصلح للاحتجاج به، والاضطراب ممنوع باعتبار محل
الحجة، وهو كفر الام وثبوت التخيير.
وهذا العنصران هما ما يدور حولهما الحكم.
ولعل المصنف يحتج في النسخ بأدلة عامة، كقوله تَعَالَى " وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سبيلا " وبنحو " الاسلام يعلو " وقد استدل ابن القيم بقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارا " على أن المراعى أولا في التخيير أو الاستهام بالقرعة ما هو أصلح للصغير، وأن أيا ما كان الامر من التخيير أو التعيين أو الاقتراع، فإن أولئك مقيد بقوله تعالى " قوا أنفسكم وأهليكم نارا " وحكى عن شيخه ابن تيمية أنه قال: تنازع أبوان صبيا عند الحاكم فخير الولد بينهما فاختار أباه، فقالت أمه سله لاى شئ يختاره؟ فسأله فقال: أمي تبعثني كل يوم للكاتب والفقيه يضرباني وأبى يتركني ألعب مع الصبيان فقضى به للام.
ورجح هذا ابن تيمية فإذا كانت روح الشرع تقضى بمراعاة صالح الصغير.
فإن مما لا شك فيه أن إلقاءه في أحضان قضاء على صلاحه دنيا وأخرى.
ومن ثم يتعين خطا أبى سعيد الاصطخرى وأبى حنيفة وأصحابه وابن القاسم وأبى ثور

(18/324)


وقال العمرانى ان الحضانة لحظ الولد ولاحظ له في حضانة الكافر، لانه لا يؤمن أن يفتن عن دينه.
ثم قال: أما الحديث فغير معروف عند أهل النقل وإن صح فيحتمل أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم أنه يختار أباه، فلهذا خيره، فيكون ذلك خاصا لذلك الولد دون غيره اه (فرع)
وإذا تزوجت المرأة سقطت حقها من الحضانة، وبه قال مالك وابو حنيفة وقال الحسن البصري لا يسقط حقها لقولها تعالى " وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم " ولان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة ومعها بنتها زينب
فكانت عندها.
وروى ابن عباس أن عليا وجعفر ابني أبى طالب وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة بن عبد المطلب، واختصموا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جعفر أنا أحق بها أنا ابن عمها وخالتها تحتي، وقال على أنا أحق بها أنا ابن عمها وإبنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتي - يعنى إبنة ابن عمها.
وقال زيد أنا أحق بها لانها إبنة أخى - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بين زيد بن حارثة - فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال الخالة أم.
فقضى بها للخالة وهى مزوجة ودليلنا ماروى عبد الله بن عمرو " أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقالت يارسول الله ان ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجرى له حواء، وثديى له سقاء، وإن أباه طلقني ويرد أن ينزعه منى، فقال صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي " وروى أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم قال " الام أحق بولدها ما لم تتزوج " ولانها إذا تزوجت استحق الزوج الاستمتاع بها إلا في وقت العبادة، فلا تقوم بحضانة الولد.
وأما الآية فالمراد بها إذا لم يكن هناك أب أو كان ورضى وأما زينب وابنة حمزة فلانه لم يكن هناك من النساء من تستحق الحضانة خالية من الازواج.
إذا ثبت هذا فإن طلقت الزوجة طلاقا بائنا أو رجعيا عاد حقها من الحضانة وقال مالك لا يعود حقها من الحضانة بحال

(18/325)


وقال أبو حنيفة والمزنى: ان كان الطلاق بائنا عاد حقها، وإن كان رجعيا لم يعد حقها، لان الزوجية باقية بينهما، ودليلنا أن حقها إنما سقط لاشتغالها عن
الحضانة باستمتاع الزوج، ولا يملك الزوج الاستمتاع بها بعد الطلاق البائن والرجعى، فعاد حقها من الحضانة.
وإن أعتق الرقيق، أو عقل المجنون والمعتوه، أو عدل الفاسق، أو أسلم الكافر عاد حقهم من الحضانة، لان الحضانة زالت بمعنى، وقد زال المعنى فعادت الحضانة.
(مسألة) قوله " ولاحضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوى الارحام " وهذا صحيح مثل ابن الاخت وابن الاخ للام وأبى الام والخال وابن العم لانه ذكر لا يرث فأشبه الأجنبي.
وقال المصنف هنا: ولا تثبت الحضانة لابن البنت وهذا الذى قال لا يتصور في حضانة الصغير، وإنما يتصور في الكبير والمجنون لانا قد قلنا يجب حضانتة الصغير، ولا تثبت الحضانة لمن أدلى من النساء والرجال بهولاء الرجال، لان الحضانة إذا لم تثبت لهم بأنفسهم لم تثبت لمن أدلى بهم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن اجتمع النساء دون الرجال وهن من أهل الحضانة فالام أحق من غيرها، لما روى عبد الله بن عمر بْنِ الْعَاصِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أنت أحق به ما لم تنكحي " ولانها أقرب إليه وأشفق عليه، ثم تنتقل إلى من يرث من أمهاتها، لمشاركتهن الام في الولادة والارث، ويقدم الاقرب فالاقرب، ويقدمن على أمهات الاب، وإن قربن لتحقق ولادتهن، ولانهن أقوى في الميراث من أمهات الاب، لانهن لا يسقطن بالاب، وتسقط أمهات الاب بالام، فإذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الام ففيه قولان.
قال في القديم تنتق إلى الاخت والخالة، ويقدمان على أم الاب، لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في بنت حمزة لخالتها وقال
الخالة بمنزلة الام " ولان الخالة تدلى بالام، وأم الاب تدلى بالاب، والام تقدم

(18/326)


على الاب فقدم من يدلى بها على من يدلى به، ولان الاخت ركضت مع الولد في الرحم، ولم تركض أم الاب معه في الرحم، فقدمت عليها، فعلى هذا تكون الحضانة للاخت من الاب والام، ثم الاخت من الام ثم الخالة ثم لام الاب ثم للاخت من الاب ثم للعمة وقال في الجديد: إذا عدمت أمهات الام انتقلت الحضانة إلى أم الاب وهو الصحيح، لانها جدة وارثة فقدمت على الاخت والخالة كأم الام.
فعلى هذا تكون الحضانة لام الاب ثم لامهاتها وان علون، الاقرب فالاقرب، ويقدمن على أم الجد كما يقدم الاب على الجد، فإن عدمت أمهات الاب انتقلت إلى أمهات الجد ثم إلى أمهاتها وان علون، ثم تنتقل إلى أمهات أب الجد، فإذا عدم أمهات الابوين انتقلت إلى الاخوات ويقدمن على الخالات والعمات، لانهن راكضن الولد في الرحم وشاركنه في النسب، وتقدم الاخت من الاب والام ثم الاخت للاب ثم الاخت للام.
وقال أبو العباس ابن سريج، تقدم الاخت للام على الاخت للاب، لان إحداهما تدلى بالام والاخرى تدلى بالاب، فقدم المدلى بالام على المدلى بالاب كما قدمت الام على الاب، وهذا خطأ لان الاخت من الاب أقوى من الاخت من الام في الميراث والتعصيب مع البنات، ولان الاخت من الاب تقوم مقام الاخت من الاب والام في الميراث، فقامت مقامها في الحضانة.
فإن عدمت الاخوات انتقلت إلى الخالات، ويقدمن على العمات، لان الخالة تساوى العمة في الدرجة وعدم الارث وتدلى بالام والعمة تدلى بالاب: والام تقدم على الاب فقدم من يدلى بها، وتقدم الخالة من الاب والام على الخالة من الاب، ثم الخالة
من الاب ثم الخالة من الام، ثم تنتقل إلى العمات لانهن يدلين بالاب، وتقدم العمة من الاب والام ثم العمة من الاب ثم العمة من الام، وعلى قياس قول المزني وأبى العباس تقدم الخالة والعمة من الام على الخالة والعمة من الاب (الشرح) حديث عبد الله بن عمرو مضى تخريجه آنفا.
أما حديث البراء بن عازب فقد أخرجه البخاري في الحج وفيه " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في

(18/327)


ذى القعدة قبل أن يحج وفيه قوله لجعفر " أشبهت خلقي وخلقي " وفيه صلح المشركين يوم الحديبية، وأخرجه في الجزية عن أحمد بن عثمان بن حكيم، وفي الصلح عن عبيد الله بن موسى وعن محمد بن بشار.
وأخرجه مسلم في المغازى عن محمد بن المثنى ومنمد بن بشار وعن عبيد الله بن معاذ وعن إسحاق بن ابراهيم وأحمد ابن خباب وأبو داود في الحج عن أحمد بن حنبل والترمذي في الحج عن عباس ابن محمد الدوري وفي البر عن سفيان بن وكيع وعن محمد بن أحمد بن بدوية وفي المناقب عن محمد بن.
اسماعيل البخاري.
ورواه أحمد من حديث على وفيه " والجارية عند خالتها فإن الخالة والدة " وأخرجه عن على أبو داود والحاكم والبيهقي بمعناه واللفظ المتفق عليه في رواية أحمد والبخاري ومسلم " أن إبنة حمزة اختصم فيها على وجعفر وزيد، فقال على أنا أحق بها هي إبنة عمى، وقال جعفر بنت عمى وخالتها تحتي، وقال زيد إبنه أخى، فقضى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها وقال " الخالة بمنزلة الام " قوله " وخالتها تحتي " يعنى أسماء بنت عميس وقد طعن ابن حزم في حديث البراء في كتابه وقال في إسناده اسرائيل وقد ضعفه على بن المدينى، وقد رد عليه بأنه قد وثقه سائر أهل الحديث، ولا يضره أن ينفرد ابن المدينى بتضعيفه وقد تعجب أحمد بن حنبل من حفظه وقال ثقة
وقال أبو حاتم هو أتقن أصحاب أبى إسحاق، وكفى باتفاق الشيخين على إخراج هذا الحديث دليلا أما الاحكام فإذا اجتمع النساء من القرابة وهن يصلحن للحضانة، أو لا رجل معهن وتنازعن في حضانة المولود قدمت الام على غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم " الام أحق بولدها ما لم تتزوج " ولانها أقرب إليه وأشفق عليها، فإن عدمت الام انتقلت الحضانة إلى أمها ثم إلى أم أمها وإن علت، فأما أمهات أبيها فلا مدخل لهن في الحضانة، فإن عدمت الجدات من قبل الام ففيه قولان قال في القديم تنتقل الحضانة إلى الاخوات والخالات وتقدمن على أمهات الاب لانهن يدلين بالام، وأمهات الاب يدلين بالاب، والام تقدم على الاب فقدم من يدلى بها على من يدلى بالاب، فعلى هذا تكون الحضانة للاخت للاب

(18/328)


والام ويقدمان على الخالة لانهما أقرب لكونهما ركضا مع الولد في رحم واحد ثم ينتقل إلى الخالة لقوله صلى الله عليه وسلم الخالة أم، فتكون الحضانة للخالة للاب والام ثم للخالة للاب، فإذا عدمت الاخوات للاب والام أو للام والخالات انتقلت الحاضنة إلى أم الاب ثم إلى أمهاتها ثم تنتقل إلى الاخت للاب ثم إلى العمة، ويقدمان على أمهات الجد، لان الاب أقرب من الجد فتقدم من يدلى به على من يدلى بالجد.
ثم تنتقل إلى أمهات الجد الوارثات الاقرب فالاقرب وكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق هنا.
قال الشوكاني في النيل، واستشكل كثير من الفقهاء وقوع القضاء منه صلى الله عليه وسلم لجعفر وقالوا ان كان القضاء له فليس بمحرم لها، وهو وعلى سواء في قرابتها، وان كان القضاء للخالة فهي مزوجة والزواج مسقط لحقها من الحضانة فسقوط حق الخالة بالزواج أولى.
وأجيب عن ذلك بأن القضاء للخالة والزواج لا يسقط حقها من الحضانة مع رضا الزوج كما ذهب إليه أحمد والحسن البصري والامام يحيى وابن حزم.
وقيل ان النكاح إنما يسقط حضانة الام وحدها حيث كان المنازع لها الاب.
ولا يسقط حق غيرها ولاحق الام حيث كان المنازع لها غير الاب.
وبهذا يجمع بين حديث البراء وحديث عبد الله بن عمرو.
اه قال ابن الصباغ والطبري تقدم الاخت للاب على الاخت للام على هذا أيضا وقال في الجديد إذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الام انتقلت الحضانة إلى أمهات الاب الوارثات.
فإن عدم من يصلح لها من أمهات الاب انتقلت إلى أمهات الجد ثم إلى أمهات أبى الجد، فإن عدم من يصلح لها من والجدات من قبل الاب انتقلت إلى الاخوات.
وبه قال أبو حنيفة - وهو الاصح - لانهن جدات وارثات فقدمن على الاخوات كالجدات من قبل الام، ويقدم الاخوات على الخالات والعمات لانهن أقرب فتكون الحضانة للاخت للاب والام ثم الاخت للاب ثم للاخت للام لانهن أقرب وقال أبو حنيفة والمزنى وأبو العباس بن سريج تقدم الاخت للام على الاخت للاب لانها تدلى بالام، والاخت للاب تدلى بالاب، فقدم من تدلى بالام على

(18/329)


من تدلى بالاب، كما تقدم الام على الاب والمذهب الاول، لان الاخت للاب تقوم مقام الاخت للاب والام في التعصيب فقامت مقامها في الحضانة، ثم تنتقل إلى الخالات ويقدمن على العمات لانهن يدلين بالام فتكون الحضانة للخالة للاب والام ثم للخالة للاب ثم للخالة للام ثم للعمة للاب والام ثم للعمة للاب ثم للعمة للام.
وعلى قول من قدم الاخت للام على الاخت للاب تقدم الخالة والعمة للام على الخالة والعمة للاب.
والذى يقتضى المذهب أن الحضانة لا تنتقل إلى
الخالات إلا بعد عدم بنات الاخ وبنات الاخت لانهن أقرب، ولا تنتقل الحضانة إلى العمات إلا بعد عدم بنات الخالات
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن اجتمع الرجال وهم من أهل الحضانة وليس معهم نساء قدم الاب، لان له ولادة وفضل شفقة، ثم تنتقل إلى آبائه الاقرب فالاقرب لمشاركتهم الاب في الولادة والتعصيب، فإن عدم الاجداد انتقلت إلى من بعدهم من العصبات.
ومن أصحابنا من قال لا يثبت لغير الآباء والاجداد من العصبات لانه لا معرفة لهم في الحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم تكن لهم حضانة كالاجانب والمنصوص هو الاول.
والدليل عليه ماروى البراء بن عازب رضى الله عنه " أنه اختصم في بنت حمزه على وجعفر وزيد بن حارثة رضى الله عنهم، فقال على عليه السلام أنا أحق بها وهى بنت عمى.
وقال جعفر ابنة عمى وخالتها عندي وقال زيد بنت أخى، فقضى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها، وقال الخالة بمنزلة الام " ولو لم يكن ابن العم من أهل الحضانة لانكر النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر، وعلى على رضى الله عنهما ادعاءهما الحضانة بالعمومة، ولان له تعصيبا بالقرابة فثبتت له الحضانة كالاب والجد، فعلى هذا تنتقل إلى الاخ من الاب والام، ثم إلى الاخ من الاب، ثم إلى ابن الاخ من الاب والام، ثم إلى ابن الاخ من الاب، ثم إلى العم من الاب والام، ثم إلى العم من الاب ثم إلى ابن العم من الاب والام، ثم إلى ابن العم من الاب، لان الحضانة تثبت لهم قوة قرابتهم بالارث فقدم من تقدم في الارث

(18/330)


(الشرح) الاحكام إذا اجتمع الرجال ولانساء معهم وهم من أهل الحضانة قدم الاب على غيره من الرجال لان له ولاية عليه ثم تنتقل إلى آبائه الوارثين
الاقرب فالاقرب: لانهم يلون عليه بأنفسهم فقاموا مقام الاب، وهل تثبت الحضانة لغيرهم من العمات؟ فيه وجهان.
من أصحابنا من قال لا تثبت لهم الحضانة لانه لا معرفة لهم في الحضانة ولا يلون عن ماله بأنفسهم فلم يكن لهم حق الحضانة كالاجانب إلا أن لهم تأديب الولد وتعليمه.
ومنهم من قال تثبت لهم الحضانة وهو المنصوص، لان عليا وجعفر ادعيا حضانة ابنة حمزة بكونهما ابني عم بحضرة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ النبي عليه السلام عليهما دعواهما بذلك وروى عمارة الجرمى قال " خيرنى علي رضى الله عنه بين عمى وأمى " ولان له تعصيبا بالقرابة فثبتت له الحضانة كالاب والجد، فعلى هذا إذا عدم الاجداد - قال المصنف - انتقلت الحضانة إلى الاخ للاب والام ثم إلى الاخ للاب ثم إلى ابن الاخ للاب والام ثم إلى ابن الاخ للاب ثم إلى العم للاب والام ثم إلى العم للاب ثم إلى ابني العم وقال الصباغ: تنتقل إلى الاخ للاب والام ثم إلى الاخ للاب ثم إلى الاخ للام.
قال وعلى قول أبى العباس حيث قدم الاخت للام على الاخت للاب يكون ههنا وجهان: أحدهما لا يقدم الاخ للام على الاخ للاب لانه ليس من أهل الحضانة بنفسه وإنما يستحق بقرابته بالام والاخ للاب أقوى فقدم عليه والثاني يقدم لادلائه بالام وهى أقرب من الاب فقدم من يدلى به على من يدلى بالاب ثم بنوه الاخوة وإن سفلوا ثم العم ثم بنو العم ثم عم الاب ثم بنوه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن اجتمع الرجال والنساء والجميع من أهل الحضانة نظرت: فإن اجمتع الاب مع الام كانت الحضانة للام، لان ولادتها متحققة وولادة
الاب مظنونة، ولان لها فضلا بالحمل والوضع ولها معرفة بالحضانة فقدمت على

(18/331)


الاب، فإن اجتمع مع أم الام وان علت كان الحضانة لام الام لانها كالام في تحقق الولادة والميراث ومعرفة الحضانة، وان اجتمع مع أم نفسه أو مع الاخت من الاب أو مع العمة قدم عليهن لانهن يدلين به فقدم عليهن، وان اجمتع الاب مع الاخت من الام أو الخالة ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الاب أحق، وهو ظاهر النص، لان الاب له ولادة وارث فقدم على الاخت والخالة كالام.

(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه يقدم الاخت والخالة على الاب لانهما من أهل الحضانة والتربية ويدليان بالام فقدمتا على الاب كأمهات الام.
وان اجتمع الاب وأم الاب والاخت من الام أو الخالة بنينا على القولين في الاخت من الام والخالة إذا اجتمعا مع أم الاب، فإن قلنا بقوله القديم ان الاخت والخالة يقدمان على أم الاب، قدمت الاخت والخالة على الاب وأم الاب، وان قلنا بقوله الجديد ان أم الاب تقدم على الاخت والخالة، بنينا على الوجهين في الاب إذا اجتمع مع الاخت من الام أو الخالة، فإن قلنا بظاهر النص أن الاب يقدم عليهما كانت الحضانه للاب لانه يسقط الاخت والخالة وأم نفسه فانفرد بالحضانة، وإن قلنا با وجه الآخر ان الحضانة للاخت والخالة ففي هذه المسألة وجهان.

(أحدهما)
أن الحضانة للاخت والخالة، لان أم الاب تسقط بالاب، والاب يسقط بالاخت والخالة
(والثانى)
أن الحضانة للاب، وهو قول أبى سعيد الاصطخرى رحمة الله عليه لان الاخت والخالة يسقطان بأم الاب ثم تسقط أم الاب بالاب فتصير
الحضانة للاب، ويجوز أن يمنع الشخص غيره من حق ثم لا يحصل له ما منع منه غيره كالاخوين مع الابوين فإنهما يحجبان الام من الثلث إلى السدس ثم لا يحصل لهما ما منعاه بل يصير الجميع للاب وإن اجتمع الجد أب الاب مع الام أو مع الام وإن علت قدمت عليه كما تقدم على الاب، وإن اجتمع مع أم الاب قدمت عليه لانها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الام على الاب

(18/332)


وان اجتمع مع الخالة أو مع الاخت من الام ففيه وجهان، كما لو اجمتعنا مع الاب، وإن اجتمع مع الاخت من الاب ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الجد أحق لانه كالاب في الولادة والتعصيب، فكذلك في التقدم على الاخت
(والثانى)
أن الاخت أحق لانها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولاحق لاحد مع الاب غير الام وأمهاتها.
وجملة ذلك أنه إذا اجتمع الرجال والنساء وهم من أهل الحضانة نظرت - فان اجتمع الاب والام - قدمنا الام على الاب لما روى عبد الله بن عمرو " أن امرأة قالت يارسول الله إن إبنى هذا كان بطني له وعاء وحجرى له حواء وثديى له سقاء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه منى، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي " ولان الام أشفق عليه، وولادتها له من طريق القطع فقدمت عليه، وان اجتمع الاب مع أم الام وان علت قدمن على الاب لانهن يقمن مقام الام في تحقق الولادة ومعرفة الحضانة فقدمن على الاب كالام، فإن امتنعت الام من الحضانة ولها أم ففيه وجهان أحدهما - وهو قول ابن الحداد - أن الحضانة تنتقل إلى الاب ولا تنتقل
إلى أم الام، لانه لا حق لام الام مع بقاء الام، فلم تنتقل إليها، كالولي إذا عضل عن النكاح فإن الولاية لا تنتقل إلى من دونه من الاولياء
(والثانى)
أن الحضانة تكون لام الام، وهو اختيار القاضى أبى الطيب وابن الصباغ، لانه لاحق للاب في الحضانة مع وجود أم الام، فإذا امتنعت الام من الحضانه انتقلت إلى أمها كما لو ماتت أو فسقت أو جنت، ويخالف ولاية النكاح فإن الحاكم يقوم مقام العاضل، وههنا لامدخل للحاكم في الحضانة بنفسه فلم يقم مقام غيره.
وان اجتمع الاب وأم نفسه قدم الاب.
ومن أصحابنا من قال: تقدم أم الاب وأمهاتها عليه (أفاده في البيان) لان حضانة النساء أصلح للصغير وأوفق له وقال القاضى أبو الطيب: وهذا يقتضى أن تكون حضانة الاخوات والخالات

(18/333)


والعمات أولى من الاب، وهو خلاف النص، لان الشافعي قال: ولا حق لاحد من الاب غير الام وأمها، ولانها تدلى به فلم تقدم عليه.
وإن اجتمع للاب مع الاخت للام أو مع الخالة ففيه وجهان
(أحدهما)
يقدمان على الاب، وهو قول أبى العباس بين سريج وأبى سعيد الاصطخرى وأبى حنيفة، لان لها معرفة بالحضانة ويدليان بالام فقدمتا على الاب كأمهات الام
(والثانى)
وهو المنصوص، أن الاب يقدم عليهما، لان له ولادة وإذنا فقدم عليهما كالام.
(فرع)
وان اجتمع الاب وأم الاب والاخت للام أو الخالة - فإن قلنا بقوله القديم إن أمر الاب يسقط بالاخوات أو الخالات بنينا ههنا على الوجهين في الاب هل يسقط الاخت للام والخالة؟ فإن قلنا إنه يسقطها كانت الحضانة
للاب.
وان قلنا إنهما يتقدمان عليه كانت الحضانة للاخت للام ثم للخالة ثم للاب ثم لامه وان قلنا بقوله الجديد وأن أم الاب تسقط الاخوات والخالات بينا على الوجهين أيضا في الاب إذا اجتمع مع الاخت للام أو الخالة.
فإن قلنا بالمنصوص أن الاب يسقطها كانت الحضانة للاب لانه يسقطهما ويسقط أم نفسه فكانت الحضانة له.
وإن قلنا بقول أبى العباس وأبى سعيد أنهما يسقطان الاب فههنا وجهان.
قال أبو سعيد الاصطخرى، تكون الحضانة للاب، لان الاخت والخالة تسقطان بأم الاب، وأم الاب تسقط بالاب، فصارت الحضانة له، وقد يحجب الشخص غيره من شئ ثم يحصل ذلك الشئ لغير الشخص الحاجب، كما يحجب الاخوان الام من الثلث إلى السدس ويكون للاب وقال أبو العباس تكون الحضانة للاخت أو للخالة، لان الاب يسقط أم نفسه والاب يسقط بالاخت أو بالخالة فبقيت الحضانة لها.
وان اجتمع الاب والاخت للاب والام - فإن قلنا ان الاب يقدم على الخالة - قدم الاب على الاخت للاب والام.
وان قلنا ان الخالة تقدم على الاب فههنا وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد عن أبى سعيد الاصطخرى

(18/334)


(أحدهما)
أن الاخت أحق لان الاخت تسقط الخالة، والخالة تسقط الاب فإذا سقط الاب مع من تسقطه الاخت فلان لا يسقط معها أولى.

(والثانى)
وهو الاصح أن الاب أحق، لان الاخت تدلى به فلا يجوز أن يكون المدلى به (1) ، وان اجتمع أب وأخت لاب وخالة، فان قلنا إن الاب يسقط الخالة، كان الحضانة للاب، وإن قلنا: إن الخالة تسقط الاب ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أن الحضانة للاخت، لان الاخت تسقط الخالة، والاب يسقط بالخالة، فإذا أسقطت الخالة، فلان يسقطه من يسقط الخالة أولى.

(والثانى)
أن الحضانة للاب لان الاخت تسقط الخالة والاخت تسقط بالاب لانها تدلى به فتصير الحضانة للاب، ويمتنع أن يسقط الشخص غيره من شئ ثم يحصل ذلك الشئ بغيره، كما قلنا في حجب الاخوين للام عن الثلث إلى السدس.
(والثالث) أن الحضانة للخاله، لان الخاله تسقط الاب والاب يسقط الاخت، وإذا سقطا بقيت الحضانة للخاله، فإن لم يكن أب واجتمع الجد والام وأم الام وان علت قد من على الجد كما يقد من على الاب، وإن اجتمع الجد وأم الاب قدمت عليه لانها تساويه في الدرجة، ولها ولادة، فقدمت كما قدمت الام على الاب، وان اجتمع الجد والاخت للام أو الخالة فيه وجهان كما لو اجتمع مع الاب، وان اجتمع الجد والاخت للام أو الخالة ففيه وجهان كما لو اجتمع مع الاب، وان اجتمع الجد والاخت للاب ففيه وجهان
(أحدهما)
يقدم عليها، لان له ولادة وتعصيبا فقدم عليها كالاب
(والثانى)
تقدم عليه لانها تساويه في الولادة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما تقدم الام على الاب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن عدم الامهات والآباء ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن النساء أحق بالحضانة من العصبات، فتكون الاخوات والخالات ومن أدلى
__________
(1) المدلى الاولى بصيغة الفاعل والثانية بصيغة المفعول

(18/335)


بهن من البنات أحق من الاخوة وبينهم، والاعمام وبنيهم لاختصاصهن بمعرفة الحضانة والتربية.

(والثانى)
أن العصبات أحق من الاخوات والخالات والعمات ومن يدلى بهن لاخصتاصهم بالنسب، والقيام بتأديب الولد (والثالث) أنه إن كان العصبات أقرب قدموا، وإن كان النساء أقرب قدمن وإن استويا في القرب قدمت النساء لاختصاصهن بالتربية.
وإن استوى إثنان في القرابة والادلاء كالاخوين أو الاختين أو الخالتين أو العمتين أقرع بينهما لانه لا يمكن اجتماعهما على الحضانة، ولا مزية لاحداهما على الاخرى فوجب التقديم بالقرعة.
وإن عدم أهل الحضانة من العصبات والنساء وله أقارب من رجال ذوى الارحام ومن يدلى بهم ففيه وجهان
(أحدهما)
أنهم أحق من السلطان لان لهم رحما فكانوا أحق من السلطان كالعصبات
(والثانى)
أن السلطان أحق بالحضانة لانه لاحق لهم مع وجود غيرهم فكان السلطان أحق منهم كما قلنا في الميراث.
وإن كان للطفل أبوان فتثبت الحضانة للام فامتنعت منها فقد ذكر أبو سعيد الاصطخرى فيه وجهين
(أحدهما)
أن الحضانة تنتقل إلى أم الام كما تنتقل إليها بموت الام أو جنونها أو فسقها أو كفرها
(والثانى)
أنها تكون للاب، لان الام لم يبطل حقها من الحضانة، لانها لو طالبت بها كانت أحق فلم تنتقل إلى من يدلى بها (الشرح) الاحكام: ان اجتمع رجل من العصبات غير لاب والجد مع من يساويه في الدرجة من النساء، كالاخ والاخت والعم والعمة وابن العم وابنة العمة، وقلنا إن لهم حقا في الحضانة فأيهما أحق بالتقديم؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أن الرجل أحق بالحضانة لانه أحق بتأديبه وتعليمه، فكان أحق بحضانته
(والثانى)
أن المرأة أحق بالحضانة، لانها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الام على الاب، وان اجتمع شخصان في درجة واحدة كالاختين أقرع بينهما لانه لا مزية لاحداهما على الاخرى

(18/336)


والرجال من ذوى الارحام كالخال والاخ من الام وأبى الام وابن الاخت لا حضانة لهم مع وجود أحد من أهل الحضانة سواهم، لانه ليس بامرأة يتولى الحضانة وليس له قوة قرابة كالعصبات، ولاحضانة إلا بمن يدلى بهم كأم أبى الام وإبنة الاخال وإبنة الاخ من الام لانهن يدلين بمن لاحضانة له، فإذا لم تثبت للمدى فللمدلين به أولى، فإن لم يكن هناك غيرهم فعلى وجهين
(أحدهما)
هم أولى لان لهم رحما وقرابة يرثون بها عند عدم من هو أدنى منهم كذلك الحضانة تكون لهم عند عدم من هو أولى بها منهم
(والثانى)
لاحق لهم في الحضانة وينتقل الامر إلى الحاكم.
وقد رحج أصحاب أحمد بن حنبل الوجه الاول وان كان الوجهان محتملين عندهم، وإن كان فيمن عليه النفقة خنثى مشكل فالنفقة عليه بقدر ميراثه، فإن انكشف بعد ذلك حاله فبان أنه أنفق أكثر من الواجب عليه رجع بالزيادة على شريكه في الانفاق: وان بان أنه أنفق أقل رجع عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان افترق الزوجان ولهما ولد له سبع سنين أو ثمان سنين وهو مميز وتنازعا كفالته خير بينهما لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يارسول الله ان زوجي يريد أن يذهب بابنى، وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به " فإن اختارهما أقرع بينهما، لانه لا يمكن اجمتاعهما على كفالته، ولا مزية لاحدهما على الآخر فوجب التقديم بالقرعة، وان لم يختر واحدا منهما أقرع بينهما لانه لا يمكن تركه وحده ما لم يبلغ لانه يضيع، ولا مزية لاحدهما على
الآخر فوجبت القرعه، وإن اختار أحدهما نظرت - فإن كان ابنا فاختار الام كان عندها بالليل، ويأخذه الاب بالنهار ويسلمه في مكتب أو صنعة لان القصد حظ الولد، وحظ الولد فيما ذكرناه، وان اختار الاب كان عنده بالليل والنهار ولا يمنعه من زيارة أمه لان المنع من ذلك إغراء بالعقوق وقطع الرحم.
فإن

(18/337)


مرض كانت الام أحق بتمريضه، لان المرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره، فكانت الام أحق به، وإن كانت جارية فاختارت أحدهما كانت عنده بالليل والنهار ولا يمنع الاخر من زيارتها من غير إطالة وتبسط، لان الفرقة بين الزوجين تمنع من تبسط أحدهما في دار الاخر، وإن مرضت كانت الام أحق بتمريضها في بيتها.
وإن مرض أحد الابوين والولد عند الاخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته لما ذكرناه، وإن اختار أحدهما فسلم إليه ثم اختار الاخر حول إليه، وإن عاد فاختار الاول أعيد إليه لان الاختيار إلى شهوته وقد يشتهى المقام عند أحدهما في وقت وعند الاخر في وقت فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب.
وإن لم يكن له أب وله أم وجد خير بينهما، لان الجد كالاب في الحضانة في حق الصغير فكان كالاب في التخيير في الكفالة، فإن لم يكن له أب ولا جد - فإن قلنا إنه لاحق لغير الاب والجد في الحضانة - ترك مع الام إلى أن يبلغ، وإن قلنا بالمنصوص إن الحضانة تثبت للعصبة، فإن كانت العصبة محرما كالعم والاخ وابن الاخ خير بينهم وبين الام، لما روى عامر ابن عبد الله قال " خاصم عمى أمي وأراد أن يأخذني فأختصما إلى علي بن أبى طالب كرم الله وجهه، فخيرني على ثلاث مرات فاخترت أمي، فدفعني إليها " فإن كان العصبة ابن عم.
فإن كان الولد إبنا خير بينه وبين الام، وإن كانت بنتا كانت عند الام إلى أن تبلغ، ولاتخير بينهما، لان ابن العم ليس بمحرم لها ولايجوز
أن تسلم إليه.
(الشرح) حديث أبى هريرة باللفظ الذي ساقه المصنف رواه النسائي وأخرجه أبو داود بلفظ فيه زياده فقال استهما عليه " ولاحمد معناه لكنها قال فيه " جاءت امرأة قد طلقها زوجها " ولم يذكر فيه قولها " قد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعني " ورواه أحمد وأبن ماجه والترمذي وصححه مختصرا بلفظ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ غلاما بين أبيه وأمه، ورواه بلفظ المصنف أيضا بقية أهل السنن وابن أبى شيبة وصححه الترمذي وابن حبان وأما خبر عامر بن عبد الله فقد أخرجه الشافعي في الام في باب أي الوالدين

(18/338)


أحق بالولد " أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا ابن عيينة عن يونس بن عبد الله الجرمى عن عمارة قال: خيرنى علي بين أمي وعمى، ثم قال لاخ لى أصغر منى: وهذا أيضا لو قد بلغ مبلغ هذا خيرته " وأخرجه من طريق ابراهيم بن محمد عن يونس بن عبد الله عن عمارة " خيرنى علي بين أمي وعمى وقال لاخ لى أصغر منى وهذا لو بلغ مبلغ هذا خيرته " قال ابراهيم: وفي الحديث " وكنت ابن سبع أو ثمان سنين " ومن ثم تدرك أن الرواية ليست عن عامر بن عبد الله وإنما هي عن عمارة، وقد أخرجه البيهقى في السنن الكبرى وقال: عمارة الجذامي، والصواب ما في الام.
أما اللغات، فبئر أبى عنبة على ميل من المدينة.
قال ابن الجوزى: أبو عنبة عبد الله بن عنبه من الصحابة ليس فيهم أبو عنبة غيره.
قال في المؤتلف والمختلف: أبو عنبة الخولانى له صحبة.
وفي الاستيعاب: قيل انه ممن صلى القبلتين، قديم الاسلام، وقيل إنه ممن أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصحبه، وانه صحب معاذ بن جبل وسكن الشام، روى
عنه محمد بن زياد الالهانى وبكر بن زرعة وشريح بن مسروق وقوله " في مكتب أو صنعة " قال الجوهرى: الكتاب والمكتب واحد، والجمع الكتاتيب والمكاتب وهو موضع تعليم الكتابة.
وقوله " أغراء بالعقوق " من غرى غرى من باب تعب أولع به من حيث لا يحمله عليه فإذا تعدى بالهمز فقيل أغريته به اغراء فأغرى به بالبناء للمفعول والاسم الغراء بالفتح والمد والغراء مثل كتاب ما يلصق به، فكأنه يقول أغراه بالعقوق كأنه لصقه بالغراء فجعله سببا لوقوع العقوق ولصوقا به.
وقوله " وتبسط " التبسط والانبساط ترك الاحتشام، وتبسط في البلاد سافر فيها طولا وعرضا، وأصله السعة وذلك محرم على من طلق أما الاحكام.
فإن الشافعي رضى الله عنه يقول: فإذا افترق الابوان وهما في قرية واحدة فالام أحق بولدها ما لم تتزوج وما كانوا صغارا، فإذا بلغ أحدهم سمعا أو ثمانى سنين وهو يعقل خير بين أبيه وأمه وكان عند أيهما اختار، فإن اختار أمه فعلى أبيه نفقته ولا يمنع من تأديبه، قال وسواء في ذلك الذكر والانثى

(18/339)


ويخرج الغلام إلى الكتاب والصناعة إن كان من أهلها ويأوى عند أمه وعلى أبيه نفقته، وإن اختار أباه لم يكن لابيه منعه من أن يأتي أمه وتأتيه في الايام وإن كانت جارية لم تمنع أمها من أن تأتيها، ولا أعلم على أبيها إخراجها إليها إلا من مرض فيؤمر بإخراجها عائدة.
قال وإن ماتت البنت لم تمنع الام من أن تليها حتى تدفن، ولا تمنع في مرضها من أن تلى تمريضها في منزل أبيها.
قال وإن كان الولد مخبولا فهو كالصغير، وكذلك إن كان غير مخبول ثم خبل فهو كالصغير الام أحق به ولا يخير أبدا.
قال وإنما أخير الولد بين أبيه وأمه إذا كانا معا ثقة للولد، فإن كان أحدهما ثقة
والآخر غير ثقة فالثقة أولاهما به بغير تخيير.
قال وإذا خبر الولد فاختار أن يكون عند أحد الابوين ثم عاد فاختار الاخر حول إلى الذي اختار بعد اختياره الاول، قال وإذا نكحت المرأة فلا حق لها في كينونة ولدها عندها صغيرا كان أو كبيرا، ولو اختارها ما كانت ناكحا، فإذا طلقت طلاقا يملك فيه الزوج الرجعة أو لا يملكها رجعت على حقها فيهم اه إذا ثبت هذا فإن الغلام إذا بلغ سبعا وليس بمعتوه خير بين أبويه إذا تنازعا فيه، فمن اختاره منهما فهو أولى به، قضى بذلك عمر وعلى شريح، وهو مذهب أحمد، وقال مالك وابو حنيفة: إذا استقل بنفسه، فأكل بنفسه ولبس بنفسه فالاب أحق به.
ومالك يقول الام أحق به.
قالا وأما التخيير فلا يصح لان الغلام لا قول له ولا يعرف حظه، وربما اختار من يلعب عنده ويترك تأديبه ويمكنه من شهواته فيؤدى إلى فساده، ولانه دون البلوغ فلم يخير كمن دون السبع وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه " وفي لفظ " جاءت امرأة إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يارسول الله ان زوجي يريد أن يذهب بابنى وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعني، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به " ولانه اجماع الصحابة كما أوضحنا ذلك عن علي وعمر ولا معارض فإذا بلغ الغلام حدا يعرب عن نفسه ويميز بين الاكرام وضده فمال إلى أحد

(18/340)


الابوين، دل على أنه أرفق به وأشفق عليه، فقدم بذلك، وقيدناه بالسبع لانها أول حال أمر الشرع فيها بمخاطبته بالامر بالصلاة.
ومتى اختار أحدهما فسلم إليه ثم أختار الاخر رد إليه، فإن عاد فاختار الاول أعيد إليه هكذا أبدا كلما اختار
أحدهما صار إليه، لانه اختيار شهوة لحظ نفسه فاتبع ما يشتهيه، وان خيرناه فلم يختر واحدا منهما أو اختارهما معا قدم أحدهما بالقرعة، لانه لا مزية لاحدهما على صاحبه، ولا يمكن اجتماعهما على حضانته فقد أحدهما بالقرعة (فرع)
فإن كان الاب معدوما أو من غير أهل الحضانة وحضر غيره من العصبات كالاخ والعم وابنه قام مقام الاب، فيخير الغلام بين أمه وعصبته فأشبه الاب، وكذلك ان كانت أمه معدومه أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى الجدة، خير الغلام بينها وبين أبيه أو من يقوم مقامه من العصبات، فإن كان الابوان معدومين أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى امرأة كأخته وعمته أو خالته قامت مقام أمه في التخيير بينهما وبين عصيانه للمعنى الذي ذكرناه في الابوين (فرع)
وان كان عند الاب كان عنده ليلا ونهارا ولا يمنع من زيارة أمه لان منعه من ذلك اغراء له بالعقوق وقطيعة الرحم، وان مرض كانت الام أحق بتمريضه في بيتها، لانه صار بالمرض كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره فكانت الام أحق به كالصغير، وان مرض أحد الابوين والولد عن الاخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته، سواء كان ذكرا أو أنثى لان المرض يمنع المريض من المشى إلى ولده، فمشى ولده إليه أولى، فأما في حال الصحة فإن الغلام يزور أمه لانها عورة فسترها أولى، والام تزور ابنتها، لان كل واحدة منهما عورة تحتاج إلى صيانة - وستر الجارية أولى - لان الام قد تخرجت وعقلت بخلاف الجارية.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان افترق الزوجان ولهما ولد فأراد أحدهما أن يسافر بالولد - فإن كان السفر مخوفا أو البلد الذي يسافر إليه مخوفا - فالمقيم أحق به، فإن كان مميزا لم يخير بينهما، لان في السفر تغريرا بالولد، وان كان السفر مسافة

(18/341)


لا تقصر فيها الصلاة كانا كالمقيمين في حضانة الصغير ويخير المميز بينهما، لانهما يستويان في انتفاء أحكام السفر من القصر والفطر والمسح، فصارا كالمقيمين في محلتين في بلد واحد، وإن كان السفر لحاجة لا لنقلة كان المقيم أحق بالولد، لانه لاحظ للولد في حمله ورده، وإن كان السفر للنقلة إلى موضع يقصر فيه الصلاة من غير خوف فالاب أحق به، سواء كان هو المقيم أو المسافر.
لان في الكون مع الام حضانة، وفي الكون مع الاب حفظ النسب والتأديب، وفي الحضانة يقوم غير الام مقامها، وفي حفظ النسب لا يقوم غير الاب مقامه فكان الاب أحق.
وإن كان المسافر هو الاب، فقالت الام يسافر لحاجة فأنا أحق، وقال الاب أسافر للنقلة فأنا أحق، فالقول قول الاب لانه أعرف بيته.
وبالله التوفيق (الشرح) إذا أراد أحد الابوين السفر مسافة تقصر فيها الصلاة لحاجة ثم يعود، والآخر مقيم، فالمقيم أولى بالحضانة، لان في المسافرة بالولد إضرارا به، وإن كان منتقلا إلى بلد ليقيم به وكان الطريق مخوفا، أو البلد الذي ينتقل إليه مخوفا فالمقيم أولى بالحضانة، لان في السفر به خطرا عليه، ولو اختار الولد السفر في هذه الحالة لم يجب إليه لان فيه تعزيرا به.
وإن كان البلد الذي ينتقل إليه آمنا وطريقه أمنا فالاب أحق به، سواء كان هو المقيم أو المنتقل، لان في كون الولد مع الاب حفظ النسب والتأديب.
وإن كان السفر دون مسافة قصر الصلاة كانا كالمقيمين.
وبهذا قال بعض أصحاب أحمد، والمنصوص عن أحمد سريان ما قررنا من الحكم على اطلاق السفر، سواء كان دون القصر أم لا.
لان البعد الذي يمنعه من رؤيته يمنعه من تأديبه وتعليمه ومراعاة حاله.
فأشبه مسافة القصر، وبما ذكرناه من تقديم الاب عند افتراق الدار بهما.
قال شريح ومالك وأحمد.
وقال أصحاب الرأى: إن انتقل الاب فالام أحق به، وإن انتقلت
الام إلى البلد الذي كان فيه أصل النكاح فهى أحق، وإن انتقلت إلى غيره فالاب أحق.
وحكى عن أبى حنيفة إن انتقلت من بلد إلى قرية فالاب أحق، وإن انتقلت إلى بلد آخر فهي أحق، لان في المدينة يمكن تعليمه وتخريجه

(18/342)


(فرع)
إذا اختلف الاب والام في أمر السفر فقالت الام: يسافر مشغولا بمصالحه وحاجياته فلن يلتفت إلى رعاية الولد فأنا أحق به، وقال الاب: أسافر للنقلة والاستيطان فأنا أحق كان القول قول الاب لانه أعلم بقصده والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبي ونعم الوكيل