المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الديات

(باب من تجب الدية بقتله، وما تجب به الدية من الجنايات)
تجب الدية بقتل المسلم لقوله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وتجب بقتل الذمي والمستأمن، ومن بيننا وبينهم هدنة، لقوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، وتجب بقتل من لم تبلغه الدعوة لانه محقون الدم مع كونه من أهل القتال، فكان مضمونا بالقتل كالذمي.

(فصل)
وإن قطع طرف مسلم ثم ارتد ومات على الردة وقلنا انه لا يجب القصاص في طرفه، أو قلنا يجب فعفى عن القصاص على مال، ففيه قولان
(أحدهما)
لا تجب دية الطرف، لانه تابع للنفس في الدية، فإذا لم تجب دية النفس لم تجب دية الطرف
(والثانى)
أنه تجب وهو الصحيح، لان الجناية أوجبت دية الطرف، والردة قطعت سراية الجرح فلا تسقط ما تقدم وجوبه، كما لو قطع يد رجل ثم قتل الرجل نفسه، فإن جرح مسلما ثم ارتد ثم أسلم ومات
فإن أقام في الردة زمانا تسرى فيه الجناية ففيه قولان.

(أحدهما)
تجب دية كاملة لان الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية.
والدليل عليه أنه لو قطع يديه ورجليه واندملت وجبت له ديتان، ولو سرت إلى النفس وجبت دية، وهذا مسلم في حال استقرار الجناية، فوجب فيه دية مسلم
(والثانى)
يجب نصف الدية، لان الجناية في حال الاسلام توجب، والسراية في حال الردة تسقط، فوجب النصف، كما لو جرحه رجل وجرح نفسه فمات.
وإن لم يقم في الردة زمانا تسرى فيه الجناية وجبت دية مسلم، لانه مسلم في حال الجناية، وفى حال استقرار الجناية، ولا تأثير لما مضى في حال الردة، فلم يكن له حكم.

(فصل)
وإن قطع يد مرتد ثم أسلم ومات لم يضمن.
ومن أصحابنا من قال

(19/3)


تجب فيه دية مسلم لانه مسلم في حال استقرار الجناية فوجبت ديته والمذهب الاول لانها سراية قطع غير مضمون فلم يضمن كسراية القصاص وقطع السرقة.

(فصل)
وإن أرسل سهما على حربي فأصابه وهو مسلم ومات وجبت فيه دية مسلم.
وقال أبو جعفر الترمذي: لا يلزمه شئ لانه وجد السبب من جهته في حال هو مأمور بقتله ولا يمكنه تلافى فعله عند الاسلام فلا يجب ضمانه، كما لو جرحه ثم أسلم ومات، والمذهب الاول، لان الاعتبار بحال الاصابة دون حال الارسال لان الارسال سبب والاصابة جناية، والاعتبار بحال الجناية لابحال السبب، والدليل عليه أنه لو حفر بئرا في الطريق وهناك حربى فأسلم ووقع فيها ومات ضمنه، وان كان عند السبب حربيا، ويخالف إذا جرحه ثم أسلم، ومات، لان
الجناية هناك حصلت وهو غير مضمون، وإن أرسل سهما على مسلم فوقع به وهو مرتد فمات لم يضمن، لان الجناية حصلت وهو غير مضمون فلم يضمنه، كما لو أرسله على حى فوقع به وهو ميت.
(الشرح) قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا إلخ الآية) نزلت هذه الآية بسبب قتل عياش بن أبى ربيعة الحارث بن يزيد بن أبى أنيسة العامري لحنة (أي إحنة وحقد) كانت بينهما، حيث كان يعذبه في مكة بسبب إسلامه، فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر باسلامه، فلما أخبر أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رسول الله انه كان من أمرى وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر باسلامه حتى قتلته، فنزلت الآية.
أخرجه ابن جرير عن عكرمة، وأخرج نحوه عن مجاهد والسدى وأخرج ابن إسحاق وأبو يعلى والحرث بن أبى أسامة وأبو مسلم الكجى عن القاسم بن محمد نحوه، وأخرج بن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه.
أما قوله تعالى (وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق الخ الآية) فقد اختلف فيها أهل العلم فذهب ابن عباس والشعبى النخعي والشافعي.
واختاره الطبري

(19/4)


في تفسيره أن هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة.
وقال الحسن وجابر بن زيد وابراهيم أيضا: إن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم فكفارته التحرير وأداء الدية، قرأها الحسن (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن) قال الحسن: إذا قتل المؤمن الذمي فلا كفارة عليه.
قال ابن العربي والجملة عندي محمولة حمل المطلق على المقيد.
وجملة ذلك أن الدية تجب بقتل المسلم والدمى.
قال العمرانى: معنى قوله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) إذا قتله في دار الاسلام.
ومعنى قوله تعالى (وإن كان من قوم عدولكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) أي إذا كان رجل من المسلمين في بلاد المشركين فحضر معهم الحرب ورماه رجل من المسلمين فقتله.
تقديره في قوم عدولكم، ومعنى قوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) أهل الذمة.
ومن السنة ما روى أبو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أهل اليمن (وفى النفس مائة من الابل) وهو إجماع ألا خلاف في وجوب الدية اه قلت والخلاف في وجوب الكفارة.
فإذا ثبت هذا فإن القتل ثلاثة أنواع: خطأ محض وعمد محض وشبه عمد.
ويقال عمد الخطأ، فتجب الدية في الخطأ المحض، وهو أن يكون مخطئا في الفعل والقصد، مثل أن يقصد طيرا فيصيب إنسانا للآية.
وأما العمد المحض فهو أن يكون عامدا في الفعل عامدا في القصد، فهل يجب فيه القود، والدية بدل عنه؟ أو يجب فيه أحدهما لا بعينه؟ فيه قولان مضى ذكرهما آنفا.
وأما شبه العمد وهو أن يكون عامدا في الفعل مخطئا في القصد، مثل أن يقصد ضربه بما لا يقتل مثله غالبا فيموت منه فتجب فيه الدية.
وقال مالك رحمه الله: القتل يتنوع نوعين: خطأ محض وعمد محض.
وأما عمد الخطأ فلا يتصور لانه يستحيل أن يكون القائم قاعدا.
دليلنا ما أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (ألا إن قتيل

(19/5)


الخطأ شبه العمد، قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الابل، منها أربعون في
بطونها) وعندهم مثله عن عبد الله بن عمرو ما بقى من الفصول فعلى وجهها وقد تضمنت فصولنا السابقة إيضا حالها وبيانا لمذاهب المسلمين في باب العفو عن القصاص.
وسيأتى في الفصل مزيد.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن قتل مسلما تترس به الكفار لم يجب القصاص، لانه لا يجوز أن يجب القصاص القصاص مع جواز الرمى، وأما الدية فقد قال في موضع تجب.
وقال في موضع إن علمه مسلما وجبت، فمن أصحابنا من قال: هو على قولين
(أحدهما)
أنها تجب، لانه ليس من جهته تفريط في الاقامة بين الكفار فلم يسقط ضمانه.

(والثانى)
أنه لا تجب لان القاتل مضطر إلى رميه، ومنهم من قال إن علم أنه مسلم لزمه ضمانه، وان لم يعلم لم يلزمه ضمانه، لان مع العلم بإسلامه يلزمه أن يتوقاه، ومع الجهل باسلامه لا يلزمه أن يتوقاه، وحمل القولين على هذين الحالين وقال أبو إسحاق: إن عنيه بالرمي ضمنه، وإن لم يعنه لم يضمنه، وحمل القولين على هذين الحالين.

(فصل)
وتجب الدية بقتل الخطأ لقوله عز وجل (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وتجب بقتل العمد في أحد القولين، وبالعفو على الدية في القول الآخر، وقد بيناه في الجنايات، وتجب بشبه العمد لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الابل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها، فإن غرز ابرة في غير مقتل فمات، وقلنا انه لا يجب عليه القصاص ففى الدية وجهان
(أحدهما)
أنها تجب لانه قد يفضى إلى القتل.

(والثانى)
لا تجب لانه لما لم تجب بأقل المثقل وهو الضرب بالقلم والرمى بالحصاة
لم تجب بأقل المحدد.

(19/6)


(الشرح) إذا أسر المشركون مسلما فتترسوا به في القتال يتوقؤن به الرمى وبختفون وراءه في رميهم فقتله رجل من المسلمين بالرمي لم يجب عليه القصاص، لانه يجوز له رميهم.
وأما الدية فقد قال الشافعي رحمه الله في موضع تجب.
وقال في موضع لا تجب.
فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
يجب لانه ليس من جهته تفريط في الاقامة بينهم فلم يسقط ضمانه
(والثانى)
لا تجب لان القاتل مضطر إلى رميه، ومهم من علق ضمانه على علم الرامى بانه مسلم، وإن لم يعلم لم يلزمه ضمانه، لانه يلزمه أن يتوقاه عن الرمى إذا علمه.
ولا يلزمه أن يتوقاه إذا لم يعلم.
وقال أبو إسحاق المروزى: إن عنية بالرمي أي قصده ضمنه، وإن لم يقصده لم يضمنه، وحملهما على هذين الحالين، ومأخذ الشافعي في قوله بالوجوب ما رواه عن عروة بن الزبير قال (كان أبو حذيفة اليمان شيخا كبيرا فرفع في الآكام مع النساء يوم أحد فحرج يتعرض للشهادة فجاء من ناحية المشركين فابتدره المسلمون فتشقوه بأسيافهم وحذيفة يقول (أبى أبى) فلا يسمعونه من شغل الحرب حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بديته) .
(مسألة) وجوب الدية في كلا الحالين العمد والخطأ سبق لنا شرحه في الجنايات.
أما شبه العمد فقد تقرر وجوبها بحديث ابن عمر رضى الله عنهما مرفوعا (ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الابل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها) وقد أجمع أهل العلم على أن الابل أصل في الدية، وأن دية الحر مائة منها، وقد دلت الاحاديث الواردة كحديث ابن
عمر وحديث عمرو بن حزم وحديث ابن مسعود.
وظاهر كلام الخرقى من الحنابلة أن الاصل في الدية الابل لا غير، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول طاوس وابن المنذر.
وقال بعض أصحاب أحمد لا يختلف المذهب أصول الدية الابل والذهب والفضة والبقر والغنم، وهو قول عمر وعطاء وطاوس وفقهاء المدينة السبعة.

(19/7)


وبه قال الثوري وابن أبى ليلى وأبو يوسف ومحمد، لان عمرو بن حزم روى في كتابة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل اليمن (وأن في دية النفس المؤمنة مائة من الابل، وعلى أهل الورق ألف دينار) رواه النسائي.
وروى ابن عباس (أن رجلا من بنى عدى قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثنى عشر ألفا) رواه أبو داود وابن ماجه.
وروى الشعبى أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار.
وعن عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيبا فقال (ألا ان الابل قد غلتع فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفى شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة) رواه أبو داود، ورواه أبو داود من حديث جابر مرفوعا.
قال الشوكاني: في هذه الاحاديث رد على من قال إن الاصل في الدية الابل، وبقية الاصناف مصالحة لا تقدير شرعى اه.
والمعروف أن أبا حنيفة والشافعي في قول له أن الدية من الابل للنص، ومن النقدين تقويما إذ فيهما قيم المتلفات.
وقال مالك والشافعي في قول له: إلى أنها إثنا عشر ألف درهم.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وتجب على الجماعة إذا اشتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم
لانه بدل متلف يتجزأ، فقسم بين الجماعة على عددهم، كغرامة المال، فإن اشترك في القتل إثنان وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية، وإن كان أحدهما من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الاخر نصف الدية.

(فصل)
وتجب الدية بالاسباب، فإن شهد اثنان على رجل بالقتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن الشهادة كان حكمهما في الدية حكم الشريكين، لما روى أن شاهدين شهدا عند على كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما: فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما، وأغرمهما دية يده.

(19/8)


(فصل)
وإن أكره رجل على قتل رجل فقتله فإن قلنا إنه يجب القود عليهما فللولي أن يقتل من شاء منهما، ويأخذ نصف الدية من الاخر لانهما كالشريكين في القتل إذا كانا من أهل القود، وإن قلنا لا يجب القود إلا على المكره الآمر دون المكره، فللولي أن يقتل المكره، ويأخذ من الاخر نصف الدية لانهما كالشريكين، غير أن القصاص يسقط بالشبهة فسقط عنه، والدية لا تسقط بالشبهة فوجب عليه نصفها.
(الشرح) إذا اشترك جماعة في قتل رجل وجبت عليه دية، ويقسم بينهم على عددهم لانه بدل متلف يتجزا فقسم بينهم على عددهم كغرامة المتلف فإن كان القتل موجبا للقود واختار الولى أن يقتل بعضهم ويعفو عن الباقين على حصتهم من الدية كان له ذلك.
وإن شهد رجلان على رجل بما يوجب القتل والقطع بغير حق مخطنين وجبت عليهما الدية لما ذكرناه قبل هذا في الشاهدين عند على رضى الله عنه على رجل
في السرقة.
وإن أكره رجل رجلا على قتل إنسان فقتله فصار الامر إلى الدية فهى عليهما لانهما كالشريكين، ولهذا إن قلنا يجب عليهما فللولي أن يقتل من شاء منهما ويأخذ نصف الدية من الثاني.
وان قلنا إن القود لا يجب الا على المكره بكسر الراء وهو الآمر دون المكره بفتح الراء كان القصاص على الامر ونصف الدية على المأمور، لانهما وان كانا كالشريكين إلا أن القصاص إذا سقط بالشبهة عنه فلا تسقط الدية بالشبهة فلزمه نصفها
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان طرح رجلا في نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات، ففيه قولان
(أحدهما)
أنه تجب الدية، لان ترك التخلص من الهلاك لا يسقط به ضمان الجناية، كما لو جرحه جراحة وقدر المجروح على مداواتها فترك المداواة حتى مات.
والقول الثاني أنها لا تجب وهو الصحيح لان طرحه في النار لا يحصل به التلف، وانما يحصل ببقائه فيها باختياره، فسقط ضمانه كما لو جرحه

(19/9)


جرحا يسيرا لا يخاف منه فوسعه حتى مات.
وان طرحه في ماء يمكنه الخروج منه فلم يخرج حتى مات ففيه طَرِيقَانِ.
مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالنار.
ومنهم من قال لا تجب قولا واحدا، لان الطرح في الماء ليس بسبب للهلاك، لان الناس يطرحون أنفسهم في الماء للسباحة وغيرها، وانما حصل الهلاك بمقامه فيه فسقط ضمانه بخلاف النار.

(فصل)
وان شد يديه ورجليه وطرحه في ساحل فزاد الماء وهلك فيه نظرت فإن كانت الزيادة معلومة الوجود المد بالبصرة فهو عمد محض ويجب به القصاص، لانه قصد تغريقه.
وان كان قد يزيد وقد لا يزيد فهو عمد خطأ وتجب به الدية المغلظة، فإن كان في موضع لا يزيد فيه الماء فزاد وهلك فيه فهو
خطأ محض وتجب فيه الدية مخففة، وان شد يديه ورجليه وطرحه في أرض مسبعة فقتله السبع فهو عمد خطأ وتجب فيه دية مغلظة، وان كان في أرض غير مسبعة فقتله السبع فهو خطأ محض وتجب فيه دية مخففة (الشرح) مضى في الجنايات حكم من ألقى آخر في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منه اما لكثرة الماء أو النار، واما لعجزه عن التخلص لمرض أو صغر أو كونه مربوطا أو منعه الخروج أو كونه في حفرة لا يقدر على الصعود منها ونحو هذا، أو ألقاه في بئر ذات نفس فمات به عاما بذلك، فهذا كله عمد لانه يقتل غالبا، وان ألقاه في ماء يسير يقدر على الخروج منه فلبث فيه اختيارا حتى مات فلا قود فيه ولا دية، لان هذا الفعل لم يقتله، وانما حصل موته بلبثه فيه وهو فعل نفسه فلم يضمنه غيره، وكذلك إذا تركه في نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو لكونه في طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود وهل يضمنه؟ فيه طريقان لاصحابنا ووجهان لاصحاب أحمد.

(أحدهما)
لا يضمنه لانه مهلك لنفسه باقامته فلا يضمنه، كما لو ألقاه في ماء يسير لكن يضمن ما أصابت النار منه
(والثانى)
يضمنه لانه جان بالالقاء المفضى إلى الهلاك، وترك التخلص لا يسقط الضمان، كما لو فصده فتترك شد فصاده مع امكانه، أو جرحه فترك

(19/10)


مداواة جرحه، وفارق الماء لانه لا يهلك بنفسه، ولهذا يدخله الناس للغسل والسباحة والصيد، وأما النار فيسيرها يهلك، وانما تعلم قدرته على التخلص بقوله أنا قادر على التخلص أو نحو هذا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان سلم صبيا إلى سابح ليعلمه السباحة فغرق ضمنه السابح، لانه
سلمه إليه ليحتاط في حفظه، فإذا هلك بالتعليم نسب إلى التفريط فضمنه كالمعلم إذا ضرب الصبى فمات، وان سلم البالغ نفسه إلى السابح فغرق لم يضمنه، لانه في يد نفسه فلا ينسب إلى التفريط في هلاكه إلى غيره فلا يجب ضمانه
(فصل)
وان كان صبى على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح ومات ضمنه لان الصباح سبب لوقوعه، وان كان صباحه عليه فهو عمد خطأ وان لم يكن صيامه عليه فهو خطأ، وان كان بالغ على طرف سطح فسمع الصيحة في حال غفلته فحرميتا ففيه وجهان
(أحدهما)
انه كالصبى لان البالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبى
(والثانى)
لا يضمن لان معه من الضبط ما لا يقع به مع الغفلة.

(فصل)
وان بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء ففزعت فألقت جنينا ميتا وجب ضمانه لِمَا رُوِيَ (أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أرسل إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها، فقالت يا ويلها مالها ولعمر، فبينا هي في الطريق إذا فزعت فضربها الطلق، فألقت ولدا فصاح الصبى صيحتين ثم مات، فاستشار عمر رضى الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار بعضهم أن ليس عليك شئ انما أنت وال ومؤدب، وصمت على رضى الله عنه، فأقبل عليه فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال ان كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وان كانوا قلوا في هواك فلم ينصحوا لك، ان ديته عليك، لانك أنت أفزعتها فألقت) وان فزعت المرأة فماتت لم تضمن لان ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة

(19/11)


(الشرح) إذا دفع ولده الصغير إلى سابح ليعلمه السابحة فغرق الصبى فعلى عاقلة السابح ديته وعليه الكفارة في ماله لانه أخذه للتعليم، ماذإ تلف في طريق التعليم كان عليه ضمانه كالمعلم إذا ضرب صبيا فمات، ولان هذا في الغالب لم يغرق
إلا بتفريط من السابح فيكون عمد خطأ، وإن سلم البالغ نفسه إلى السابح ليعلمه السباحة فغرق لم يجب ضمانه، لانه في يد نفسه، ولا ينسب التفريط في هلاكه إلى غيره فلا يجب ضمانه.
(مسألة) إذا كان صبى أو بالغ معتوة على حائط أو حافة نهر فصاح رجل صياحا شديدا ففزع من الصياح فسقط ومات أو زال عقله وجبت ديته على عاقلة الصائح، لان صياحه سبب لوقوعه، وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ، وان كان صياحه على غيره فهو خطأ محض.
وإن كان الرجل بالغا عاقلا فسمع الصيحة وسقط ومات أو زال عقله، فإن كان متيقظا لم يجب ضمانه لان الله تعالى لم يجر العادة لا معتادا ولا نادرا أن يقع الرجل الكبير العاقل من الصياح، فإذا مات علمنا أن صياحه وافق موته، فهو كما لو رماه بثوت فمات، وان كان في حال غفلته فسمع الصيحة فمات أو زال عقله ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو المنصوص أنه لا يجب ضمانه لما ذكرناه
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أنه يجب ضمانه، لان الانسان قد يفزع من ذلك في حال غفلته.
وان شهر السيف على بالغ عاقل فزال عقله لم يجب ضمانه، وان شهره على صبى أو معتوه فزال عقله وجب ضمانه.
وقال أبو حنيفة لا يجب ضمانه.
ولنا أن هذا سبب في تلفه فإن كان متعديا ضمن كما لو حفر بئرا فوقع فيها.
وقال أحمد: لو شهر سيفا في وجه إنسان أو دلاه من شاهق فمات من الروع أو ذهب عقله بذلك الفعل فعليه دينه، ثم وافقنا احمد في الصبى والبالغ عنده قول واحد وكذلك عند سائر أصحابه (مسألة) إذا بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء وكانت حاملا
ففزعت فأسقطت جنينها وجب على الامام ضمانه.
وقال أبو حنيفة لا يجب.

(19/12)


دليلنا ما روى أن امرأة ذكرت عند عمر رضى الله عنه بسوء فبعث إليها فقالت يا ويلها ما لها ولعمر، فبينما هي في الطريق إذا فزعت فضربها الطلق فألقت ولدا فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر رضى الله عنه عنه أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ عثمان وعبد الرحمن: لا شئ عليك إنما أنت وال ومؤدب، وصمت على رضى الله عنه، فقال له ما تقول؟ فقال على: إن اجتهدا فقد أخطأ وإن لم يجتهدا فقد غشاك، إن ديته عليك لانك أنت أفزعتها فألقت، فقال عمر عزمت عليك لا برحت حتى تفرقها على قومك يعنى قوم عمر ولم ينكر عثمان وعبد الرحمن ذلك فدل على أنهما رجعا إلى قوله وصار إجماعا.
وإن فزعت فماتت لم يجب ضمانها، لان ذلك ليس بسبب لهلاكها وقال أحمد: تجب الدية في المرأة أيضا لانها نفس هلكت بارساله إليها فضمنها كجنينها، أو نفس هلكت بسببه فغرمها، كما لو ضربها فماتت، ولا يتعين في الضمان كونه سببا معتادا فإن الضربة والضربتين ليست سببا للهلاك في العادة، ومتى أفضت إليه وجب الضمان.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن طلب رجلا بصيرا بالسيف، فوقع في بئر أو ألقى نفسه من شاهق فمات لم يضمن، لان الطلب سبب والالقاء مباشرة فإذا اجتمعا سقط حكم السبب بالمباشرة.
ولان الطالب لم يلجئه إلى الوقوع لانه لو أدركه جاز أن لا يجنى عليه، فصار كما لو جرحه رجل فذبح المجروح نفسه، وإن طلب ضريرا فوقع في بئر أو من شاهق ومات فإن كان عالما بالشاهق أو بالبئر لم يضمن، لانه كالبصير، وإن لم يعلم وجب ضمانه، لانه ألجاه إليه فتعلق به الضمان، كالشهود
إذا شهدوا بالقتل ثم رجعوا، وان كان المطلوب صبيا أو مجنونا ففيه وجهان بناء على القولين في عمدهما.
هل هو عمد أو خطأ؟ فإن قلنا ان عمدهما عمد لم يضمن الطالب الدية.
وان قلنا انه خطأ ضمن.
وإن طلب رجل رجلا فافترسه سبع في طريقه نظرت، فإن الجاه الطالب إلى موضع السبع، ضمنه كما لو ألقاه عليه، وان لم يجئه إليه لم يضمنه، لانه لم

(19/13)


يلجئه إليه، وان انخسفت من تحته سقف فسقط ومات ففيه وجهان.
أحدهما لا يضمن كمالا يضمن إذا افترسه سبع.
والثانى: يضمن لانه ألجاه إلى ما لا يمكنه الاحتراز منه.

(فصل)
وان رماه من شاهق فاستقبله رجل بسيف فقده نصفين نظرت، فان كان من شاهق يجوز أن يسلم الواقع منه، وجب الضمان على القاطع لان الرامى كالجارح والقاطع كالذابح، وان كان من شاهق لا يسلم الواقع منه ففيه وجهان
(أحدهما)
انه يجب الضمان عليهما، لان كل واحد منهما سبب للاتلاف فصار كما لو جرحاه
(والثانى)
أن الضمان على القاطع، لان الرامى انما يكون سبب للتلف إذا وقع المرمى على الارض، وههنا لم يقع على الارض وصار الرامى صاحب سبب، والقاطع مباشرا فوجب الضمان على القاطع.

(فصل)
إذا زنى بامرأة وهى مكرهة وأحبلها وماتت من الولادة ففيه قولان
(أحدهما)
يجب عليه ديتها لانها تلفت بسبب من جهته تعدى به فضمنها.

(والثانى)
لا يجب لان السبب انقطع حكمه بنفى النسب عنه (الشرح) إذا طلب رجل رجلا بصيرا بالسيف ففرمنه فألققى نفسه من سطح وهو يراه أو تردى في بئر أو نار وهو يراها فمات لم يجب على الطالب ضمانه لانه حصل من الطالب بسبب غير ملجئ، ومن المطلوب مباشرة فتعلق
الحكم بالمباشرة دون السبب، كما لو خاف منه فقتل نفسه.
وان طلب أعمى بالسيف ففرمنه ووقع من سطح أو في بئر أو نار فمات فان كان عالما بالسطح والبئر والنار فلا ضمان على الطالب لما ذكرنا في البصير.
وان كان المطلوب غير عالم بالسطح والبئر والنار فلا ضمان على الطالب لما ذكرنا في البصير، وان كان المطلوب غير عالم بالسطح والبئر والنار، أو كان المطلوب بصيرا ولم يلعم السطح والبئر والنار وفرمنه على سطح يحسبه قويا فانخسف من تحته وجبت الدية على عاقلة الطالب لانه ألجاه ألى الهرب، وان فرمه فافترسه سبع في طريقه لم يجب على الطالب ضمانه لانه لم يلجئ السبع إلى قتله.
وان ألجأ المطلوب إلى الفرار، وذلك سبب وأكل السبع فعل، فإذا اجتمع السبب في

(19/14)


الفعل تعلق الضمان بالفعل دون السبب.
وإن طلب صبيا أو مجنونا بالسيف ففر منه وألقى نفسه من سطح فمات فإن قلنا إن عمدهما عمد لم يضمن الطالب الدية وإن قلنا إن عمدهما خطأ ضمن (مسألة) قوله: وإن رماه من شاهق فاستقبله الخ.
فجملة ذلك أنه إذا رمى رجلا من شاهق مرتفع يموت منه غالبا إذا وقع فقطعه رجل نصفين قبل أن يقع ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنهما قاتلان فيجب عليهما القود أو الدية، لان كل واحد منهما قد فعل فعلا لو انفرد به لمات منه غالبا فصارا كالجارحين
(والثانى)
أن القاتل هو القاطع، لان التلف إنما حصل بفعله فصار كما لو جرحه رجل وذبحه الاخر ويعرز الاول، وإن كان الشاهق مما لا يموت منه غالبا كان القاتل هو القاطع وجها واحدا، لان ما فعله الاول لا يجوز أن يموت منه، وإن زنى بامرأة وهى مكرهة فحملت منه وماتت من الولادة ففيه قولان:

(أحدهما)
يجب عليه ديتها، لانها تلفت بسبب من جهته تعدى فيه فضمنها
(والثانى)
لا يجب عليه، لان السبب انقطع حمه بنفى النسب عنه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن حفر بئرا في طريق الناس أو وضع فيه حجرا أو طرح فيه ماء أو قشر بطيخ، فهلك به إنسان وجب الضمان عليه لانه تعدى به فضمن من هلك به، كما لو جنى عليه.
وإن حفرا بئرا في الطريق ووضع آخر حجرا فعثر رجل بالحجر ووقع في البئر فمات وجب الضمان على واضع الحجر، لانه هو الذى ألقاه في البئر، فصار كما لو ألقاه فيها بيده.
وان وضع رجل حجرا في الطريق فدفعه رجل على هذ الحجر فمات وجب الضمان على الدافع لان الدافع مباشر وواضع الحجر صاحب سبب، فوجب الضمان على المباشر وان وضع رجل حجرا في الطريق ووضع آخر حديدة بقربه، فعثر رجل بالحجر ووقع على الحديدة فمات.
وجب الضمان على واضع الحجر

(19/15)


وقال أبو الفياض البصري: إن كانت الحديدة سكينا قاطعة وجب الضمان على واضع السكين، دون واضع الحجر، لان السكين القاطع موح، وان كانت غير قاطع وجب الضمان على واضع الحجر، والاول هو الصحيح، لان الواضع هو المباشر.
وإن حفر بئرا في طريق لا يستضر به الناس فإن حفرها لنفسه كان حكمه حكم الطريق الذى يستضر الناس بحفر البئر فيه، لانه لا يجوز أن يختص بشئ من طريق المسلمين، وإن حفرها لمصلحة الناس فإن كان بإذن الامام فهلك به إنسان لم يضمن، لان ما فعله بإنذن الامام للمصلحة جائز فلا يتعلق به الضمان، وإن كان بغير إذنه ففيه وجهان

(أحدهما)
أنه لا يضمن لانه حفرها لمصلحة المسلمين من غير إضرار فصار كما لو حفرها بإذن الامام
(والثانى)
أنه يضمن لان ما تعلق بمصلحة المسلمين يختص به الامام، فمن افتات عليه فيه كان متعديا فضمن من هلك به.
وإن بنى مسجدا في موضع لاضرر فيه، أو على قنديلا في مسجد أو فرش فيه حصيرا من غير إذن الامام فهلك به إنسان فهو كالبئر التى حفرها للمسلمين.
وإن حفر بئرا في موات ليتملكها أو لينتفع بها الناس لم يضمن من هلك بها لانه غير متعد في حفرها، وإن كان في داره بئر قد غلى رأسها أو كلب عقور فدخل رجل داره بغير إذنه فوقع في البئر فمات أو عقره الكلب فمات لم يضمنه لانه ليس من جهته تفريط فلا هلاكه، فإن دخلها باذنه فوقع في البئر ومات أو عقره الكلب فمات ففى ضمانه قولان كالقولين فيمن قدم طعاما مسموما إلى رجل فأكله فمات وإن قدم صبيا إلى هدف فأصابه سهم فمات ضمنه، لان الرامى كالحافر للبشر، والذى قدمه كالملقى فيها فكان الضمان عليه وان ترك على حائط جرة ماء فرمتها الريح على انسان فمات لم يضمنه لانه وضعها في ملكه ووقعت من غير فعله، وان بنى حائطا في ملكه فمال الحائط إلى الطريق ووقع على انسان فقلته فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: انه يضمن لانه لما مال إلى الطريق لزمه ازالته، فاذالم يزله صار متعديا بتركه فضمن من هلك به، كما لو أوقع مائلا

(19/16)


إلى الطريق وترك نقضه حتى هلك به انسان
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى انه لا يضمن، وهو المذهب، لانه بناه في ملكه ووقع من غير فعله فأشبه إذا وقع من غير ميل

(فصل)
وان أخرج جناحا إلى الطريق فوقع على انسان ومات ضمن نصف ديته، لان بعضه في ملكه وبعضه خارج عن ملكه فسقط نصف الدية لما في ملكه وضمن نصفها للخارج عن ملكه، وان انكسرت خسبة من الخارج فوقعت على انسان فمات ضمن جميع الدية لانه هلك بالخارج من ملكه، وان نصب ميزابا فوقع على انسان فمات به ففيه قولان: قال في القديم: لا يضمن لانه مضطر إليه ولا يجد بدا منه بخلاف الجناح.
وقال في الجديد يضمن لانه غير مضطر إليه لانه كان يمكنه أن يحفر في ملكه بئرا يجرى الماء إليها فكان كالجناح.

(فصل)
وان كان معه دابة فأتلفت انسانا أو مالا بيدها أو رجلها أو نابها أو بالت في الطريق فزلق ببولها انسان فوقع ومات ضمنه، لانها في يده وتصرفه فكانت جنايتها كجنايته (الشرح) إذا وضع رجل حجرا وهذا أحد مفهومات الفصل وذلك في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير اذنه فعثر بها انسان لم يعلم بها ومات منها وجبت ديته على عاقلة واضع الحجر ووجبت الكفارة في ماله، لانه مات بسبب تعدى به فوجب ضمانه.
وهكذا ان نصب سكينا فعثر رجل ووقع عليها فمات وجبت عليه الدية لما ذكرناه في الحجر.
فأما إذا وضع الحجر أو السكين فدفع آخر عليهما رجلا ومات كان الضمان على الدافع، لان الواضع صاحب سبب والدافع مباشر.
فتعلق الحكم بالمباشرة وان وضع رجل حجرا في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير اذنه ووضع آخر سكينا بقرب الحجر فعثر رجل بالحجر ووقع على السكين ومات منها وجب الضمان على واضع الحجر وقال أبو الفياض البصري: ان كان السكين قاطعا وجب الضمان على واضع

(19/17)


السكين دون واضع الحجر، وإن كان غير قاطع وجب الضمان على واضع الحجر لان السكين القاطع موح، والاول هو المشهور، لان واضع الحجر كالدافع له على السكين فوجب عليه ضمانه، كما لو نصب رجل سكينا ودفع عليها آخر ومات فان وضع رجل حجرا في طريق المسلمين ووضع إثنان حجرا إلى جنبه فعثر بهما رجل ومات فليس فيها نص لاصحابنا، إلا أن أصحاب أبى حنيفة اختلفوا فيها، فقال زفر يكون على الرجل الواضع للحجر وحده نصف الدية لان فعله مساو لفعلهما وعلى الرجلين الواضعين للحجر الآخر النصف وقال أبو يوسف: تجب الدية عليهم أثلاثا فوجب الضمان عليهم.
قال ابن قدامة من الحنابلة: وهو قياس المذهب.
وقال ابن الصباغ من أصحابنا: وهو قياس المذهب، وأقره العمرانى في البيان لان السبب حصل من الثلاثة فوجب الضمان عليهم وإن اختلفت أفعالهم كما لو جرحه رجل جراحة وآخر جراحتين ومات منها.
(فرع)
إذا وضع رجل في مالك نفسه حجرا أو نصب سكينا فعثر به إنسان ومات لم يجب على واضع السكين ولا على عاقلته ضمان، لانه غير متعد بوضع الحجر والسكين.
وإن وضع رجل في ملك غيره حجرا بغير إذنه ووضع صاحب الملك بقرب الحجر سكينا فعثر رجل بالحجر ووقع على السكين ومات، وجب الضمان على عاقلة الواضع للحجر لانه كالدافع للعاثر على السكين.
وان وضع رجل في ملكه حجرا، ووضع أجنبي سكينا بقرب الحجر فعثر رجل بالحجر ووقع على السكين فمات، وجبت الدية عل عاقلة واضح السكين دون واضع الحجر، لان المتعدى هو واضح السكين دون واضع الحجر (فرع)
إذا حفر رجل بئرا فوقع فيها انسان ومات لم يخر اما أنه حفر في
ملكه أو في ملك غيره أو في طريق المسلمين أو في موات فإن حفرها في ملكه فإن كانت ظارة فدخل ملكه فوقع فيها فمات لم يجب على الحافر ضمانه سواء دخل باذنه أو بغير اذنه، لانه غير متعد بالحفر وان كانت غير ظاهرة بان غطى رأسها فوقع فيها انسان فمات فإن دخل إلى ملكه بغير اذنه لم يجب ضمانه، لان متعد بالدخول.
وهكذا لو كان في داره كلب عقور فدخل داره

(19/18)


بغير اذنه فعقره الكلب لم يجب ضمانه لما ذكرناه، وان استدعاه للدخول ولم يعلم بالبئر والكلب فوقع فيها أو عقره الكلب ومات فهو كما لو قدم إلى غيره طعاما مسموما فأكله على قولين.
وقد مضى دليلهما.
فأما إذا حفرها في ملك غيره فان كان بإذنه لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، لانه غير متعد بالحفر، وان حفرها بغير اذنه وجب عليه ضمان من يقع فيها لانه متعد بالحفر فان أبرأه صاحب الملك عن ضمان من يقع فيها فهل يبرأ: فيه وجهان، أحدهما لا يبرأ لانه متعد بالحفر، فان أبرأه صاحب الملك عن ضمان من يقع فيها فهل يبرأ؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
لا يبرأ لانه أبرأ عما لم يجب
(والثانى)
ببرأ كما لو أذن له في حفرها قال أبو على الطبري، فان قال صاحب الملك: كان حفرها بإذنى لم يصدق خلافا لابي حنيفة ووفاقا لقول أحمد.
وان حفرها في طريق المسلمين، فإن كان ضيقا وجب عليه ضمان من يقع فيها لانه تعدى بذلك، وسواء أذن له الامام في ذلك أو لم يأذن لانه ليس للامام أن يأذن له فيما فيه ضرر على المسلمين.
وان كان الطريق واسعا لا يستضر المسلمون بحفر البئر فيه كالطريق في الصحارى، فإن حفرها بإذن الامام لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، سواء حفرها لينتفع بها أو لينتفع بها المسلمون، لان للامام أن يقطع من الطريق إذا كان واسعا، كما له أن يقطع
من الموات.
وكذلك ان حفرها بغير اذن الامام فأجاز له الامام ذلك سقط عنه الضمان.
وقال أحمد وأصحابه: ان كان الطريق واسعا فحفر في مكان منها ما يضر بالمسلمين فعليه الضمان.
وان حفر في موضع لا ضرر فيه نظرنا، فإن حفرها لنفسه ضمن ما تلف بها، سواء حفرها بإذن الامام أو غير اذنه.
قالوا لانه تلف بحفر حفرة في حق مشترك بغير اذن أهله لغير مصلحتهم فضمن، كما لو لم يأذن له الامام بخلاف الحفر.
ولنا أنه ان حفرها بإذن الامام لم يضمن لان للامام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل أن هـ يجوز له أن يأذن في اشغال جانبيه، ويقطع من طوارينه لمن يشاء ممن يتعاطون البيع والشراء

(19/19)


وإن حفرها بغير إذن الامام فإن حفرها لينتفع هو بها وجب عليه ضمان من يقع فيها، لانه ليس له أن ينفرد بما هو حق لجماعة المسلمين بغير إذن الامام لان ذلك موضع اجتهاد الامام وإن حفرها لينتفع بها المسلمون فهل يجب عليه ضمان من يقع فيها؟ حكى الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق فيها وجهين، وحكاهما غيرهما قولين، أحدهما حكاه القاضى أبو حامد المرووذى عن القديم يجب عليه الضمان، لانه حفرها بغير إذن الامام فهو كما لو حفرها لنفسه، والثانى حكاه القاضى أبو الطيب عن الجديد أنه لا يجب عليه الضمان لانه حفرها لمصلحة المسلمين وقد يحتاجون إلى ذلك فهو كما لو حفرها بإذن الامام.
وإن حفرها في موات ليتملكها لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، لانه يملكها بالاحياء، فتصير كما لو حفرها في ملكه، وهكذا إن حفرها في الموات لا ليتملكها ولكن لينتفع بها مدة مقامه، فإذا
ارتحل عنها كانت للمسلمين فلاضمان عليه، لان له أن ينتفع بالموات، فلا يكون متعديا بالحفر.
(فرع)
إذا حفر بئرا في طريق المسلمين ووضع آخر حجرا في تلك الطريق فعثر بها انسان ووقع في البئر ومات، وجب الضمان على واضع الحجر لانه كالدافع له في البئر.
وان حمل السيل حجرا إلى رأس البئر وعثر بها انسان فوقع في البئر ومات ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجب ضمانه لانه انما تلف بعثرته في الحجر، ولا تفريط من الحافر في الحجر.

(والثانى)
وهو قول أبى حنيفة أن الضمان على حافر البئر لانه هو المعتدى فوجب عليه الضمان كما لو وضع رجل في ملكه حجرا ووضع آخر سكينا بقربها وعشر بالحجر فوقع على السكين ومات فإن الضمان على واضع السكين، وان حفرا بئرا في طريق المسلمين ووضع آخر في أسفلها سكينا فتردى رجل في البئر ووقع على السكين فقتله ففيه وجهان
(أحدهما)
يجب الضمان على الحافر، وهو قول أبى حنيفة كما قلنا في رجلين

(19/20)


وضع أحدهما حجرا والآخر سكينا وعثر بالحجر على السكين فإن الضمان على واضع الحجر.

(والثانى)
أن الضمان على وضع السكين، لان تلفه حصل بوقوعه على السكين قبل وقوعه في البئر، وان حفر رجل بئرا في طريق المسلمين فطمها فجاء آخر وأخرج ما طمت به ففيه وجهان
(أحدهما)
يجب الضمان على الحافر لانه المبتدي بالتعدي (
(والثانى)
أن الضمان على الثاني لان تعدى الاول قد زال بالطم.
(فرع)
إذا حفر بئرا في ملك مشترك بينه وبين رجلين بغير اذنهما وتلف بها انسان، قال ابن الصباغ فقياس المذهب أن جميع الدية على الحافر، وبه قال أحمد وأصحابه.
وقال أبو حنيفة يضمن ما قابل نصيب شريكه، فلو كان له شريكان لضمن ثلثى التالف لانه تعدى في نصيب شريكيه، وقال أبو يوسف عليه نصف الضمان، لانه تلف بجهتين فكان الضمان نصفين، كما لو جرحه واحد جرحا وجرحه آخر جرحين.
دليلنا انه متعد بالحفر فضمن الواقع فيها كما لو كان في ملك غيره، والشركة أوجبت تعديه بجميع الحفر، فكان موجبا لجميع الضمان، ويبطل ما ذكر أبو يوسف بما أو حفره في طريق مشترك، فإن له فيها حقا ومع ذلك يضمن، والحكم فيما إذا أذن له بعض الشركاء في الحفر دون بعض كالحكم فيما إذا حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره لكونه لا يباح الحفر ولا التصرف حتى يأذن الجميع (فرع)
وان بنى مسجدا في طريق لاضرر على المسلمين فيه بضيق الطريق فإن بناه لنفسه لم يجز، وان سقط على انسان ضمنه، وان بناه للمسلمين فإن كان بإذن الامام جاز ولا ضمان عليه، وان بناه بغير اذن الامام فهو كما لو حفر فيها بئرا للمسلمين على ما ذكرناه هناك من الخلاف.
وان كان هناك مسجد للمسلمين فسقط سقفه فأعاده رجل من المسلمين بآلته أو بغير آلته وسقط على انسان لم يجب عليه ضمانه لانه للمسلمين.
وان فرش في مسجد للمسلمين حصيرا أو علق فيه قنديلا فعثر رجل بالحصير أو سقط عليه القنديل فمات فإن فعل ذلك بالان الامام فلا ضمان عليه وان فعله بغير

(19/21)


إذن الامام فهو كما لو حفر البئر في الطريق الواسع للمسلمين بغير إذن الامام على الخلاف المذكور فيها
وقال أحمد: لا ضمان عليه، سواء كان باذن الامام أو بغير إذنه.
وقال أبو حنيفة: إن فرش الحصير وعلق القنديل يضمن إذا لم يأذن فيه الجيران.
دليلنا أنه فعل أحسن به ولم يتعد، وإن عمارة المسجد من أعظم القربات، ولان هذا مأذون فيه من جهة العرف، ولان العادة جارية بالتبرع به من غير استئذان فلم يجب ضمان كالمأذون فيه نطقا (فرع)
إذا بنى حائطا في ملكه مستويا، فسقط على إنسان من غير أن يبقى مائلا ولا مستهدما فلا ضمان عليه، لانه لم يفرط، وان بناه معتدلا فمال إلى ملكه أو بناه مائلا إلى ملكه فسقط على انسان وقتله لم يجب عليه الضمان لان له أن ينصرف في ملكه كيف شاء.
وان بناه مائلا إلى الشارع فسقط على إنسان وقتله وجب على عاقلته الدية والكفارة في ماله، لان له أن يرتفق بهو الشارع بشرط السلامة، فاذإ تلف به إنسان وجب ضمانه.
وان بناه معتدلا في ملكه ومال إلى الشارع ثم وقع على انسان فقتله ففيه وجهان قال أبو إسحاق: يجب ضمانه على عاقلته لانه فرط بتركه مائلا فوجب عليه الضمان كما لو بناه مائلا إلى الشارع وقال أبو سعيد الاصطخرى: لا يجب ضمانه وهو المنصوص، لان الميلان حدث من غير فعله فهو كما لو سقط على انسان من غير ميل فإن مال حائطه إلى هواء دار غيره فلجاره مطالبته بازالته، لان الهواء ملك لجاره فكان له مطالبته بازلة بنائه عنه، كما قلنا في الشجرة، فإن لم يزل حتى سقط على انسان فقتله فهل يجب عليه ضمانه؟ على الوجهين إذا مال إلى الشارع وان استهدم من غير ميل فقد قال أبو سعيد الاصطخرى والشيخ أبو حامد ليس للجار مطالبته في نقضه لانه في ملكه، فان وقع على انسان فلا ضمان عليه قال ابن الصباغ وهذا فيه نظر لانه ممنوع من أن يضع في ملكه ما يعلم أنه يتعدى
إلى ملك غيره كما ليس له أن يؤجج نارا في ملكه تصل إلى ملك غيره مع وجود الريح ولا يطرح في داره ما يتعدى إلى داره غيره.
كذلك هنا مثله، لان الظاهر إذا كان

(19/22)


مستهدما أنه يتعدى إلى ملك غيره.
هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة إذا بنى الحائط معتدلا ثم مال إلى دار الغير، فإن طالبه الغير بنقضه وأشهد عليه فلم ينقضه حتى سقط فقتل إنسانا فعليه الضمان، وان ذهب ليأتي بالعمال لنقضه فسقط وأتلف شيئا فلا ضمان عليه وتوقف أحمد عن الاجابة.
وذهب أصحابه إلى أنه يضمن، وقالوا أو ما أحمد إليه، وبه قال الحسن والنخعي والثوري.
دليلنا أنه بناء وضعه في ملكه فلم يجب عليه ضمان من يقع عليه، كما لو وقع من غير ميل.
أو كما لو مال ووقع من غير أن يطالب بنقضه ويشهد عليه.
وان وضع على حائطه وطابا فوقع في دار غيره أو في الشارع أو سقط حائطه في الشارع أو في دار غيره فعثر به انسان ومات فهل يجب عليه الضمان؟ على الوجهين.
وإذا أخرج إلى الشارع جناحا أو روشنايضر بالمارة منع منه وأمر بازالته، فإن لم يزله حتى سقط على انسان فقتله وجب عليه الضمان لانه متعد بذلك.
وإن أخرج جناحا أو روشنا إلى الشارع لا يضر بالمارة لمن يمنع منه خلافا لابي حنيفة وقد مضى في الصلح فإن وقع على انسان وقتله نظرت فإن لم يسقط شئ من طرف الخشبة المركبة على حائط، بل انقصفت من الطرف الخارج عن الحائط ووقعت على إنسان وقتلته وجب على عاقلته جميع الدية، لانه إنما يجوز له الارتفاق بهواء الشارع بشرط السلامة.
وان سقطت أطراف الخشب الموضوعة على حائط له وقتلت انسانا وجبت على عاقلته نصف الدية، لانه هلك بما وضعه في ملكه
وفى هواء الشارع، فانقسم الضمان عليهما، وسقط ما قابل في ملكه ووجب ما في هواء الشارع.
وحكى القاضى أبواليب قولا آخر أنه ينظر كم على الحائط من الخشب، وكم على الهواء أو الطرف الخارج منها، فالحكم فيه واحد، لانه تلف بجميعها، والاول هو المشهور وقال أصحاب أحمد: على المخرج المضان لانه تلف بما أخرجه إلى حق الطريق

(19/23)


ضمنه كما لو بنى حائطا مائلا إلى الطريق فأتلف، أو أقام خشبة في ملكه مائلة، ولانه إخراج يضمن به البعض فضمن به الكل بناء على أصله (فرع)
إذا أخرج ميزابا إلى الشارع جاز لما سقناه في كتاب الضمان من أن عمر رضى الله عنه مر تحت ميزاب العباس رضى الله عنه فقطرت عليه قطرة، فأمر بقلعه فحرج العباس وقال: قلعت ميزابا نصبه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عمر: لا ينصبه إلا من يرقى على ظهرى، فانحنى عمر وصعد العباس على ظهره فوضعه، وهو إجماع لا خلاف فيه، فإن سقط على إنسان فقتله أو بهيمة فأتلفها فحكى المصنف وأكثر أصحابنا فيه قولين: قال في القديم: لا يجب ضمانه، وبه قال مالك، لانه غير متعد بإخراجه فلم يضمن ما تلف به، كما لو أخرجه إلى ملكه، ولانه مضطر إليه لا يجد بدا منه فلم يلزمه ضمان ما تلف به.
وقال في الجديد: يجب ضمانه، وبه قال أبو حنيفة، وهو المذهب عند أحمد بلا خلاف بين أصحابه، لانه ارتفق بهواء طريق المسلمين فإذا تلف به إنسان وجب عليه ضمانه كما قلنا في الجناح، وقول الاول لا يجد بدا منه غير صحيح، لانه يمكنه أن يحفر في ملكه بئرا يجرى الماء إليها، فإذا قلنا بهذا وسقط جميع
الميزاب الذى على ملكه والخارج منه وقتل إنسانا وجب ضمانه، وكم يجب من ديته؟ على المشهور من المذهب يجب نصف الدية.
وعلى القول الثاني الذى حكاه القاضى أبو الطيب تقسط الدية على الميزاب فيسقط منها بقدر ما على ملكه من الميزاب ثم يجب بقدر الخارج منه عن ملكه.
وقال أبو حنيفة: إن أصابه بالطرف الذى في الهواء وجبت جميع ديته، وإن أصابه بالطرف الذى على الحائط لم يجب ضمانه.
ودليلنا أنه تلف بنقل الجميع دون بعضه، وإن انتصف الميزاب فسقط منه ما كان خارجا عن ملكه وقتل انسانا وجبت جميع ديته على عاقلته، فسيقال في هذه وفى التى قبلها رجل قتل رجلا بخشبة فوجبت بعض دية المقتول، ولو قتله ببعض تلك الخشبة لوجبت جميع دية المقتول.

(19/24)


وقال الشيخ أبو حامد: إذا وقع الميزاب على انسان فقتله ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن علية الضمان
(والثانى)
لا ضمان عليه (والثالث) على عاقلته نصف الدية من غير تفصيل.
(فرع)
قال الشيخ أبو حامد: وان طرح على باب داره قشور البطيخ أو الباقلا الرطب أو الموز أو رشه بالماء فزلق به إنسان فمات كانت ديته على عاقلته والكفارة في ماله، لان له أن يرتفق بالمباح بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف كان عليه الضمان، وان ركب دابة فبالت في الطريق أو راثت وزلق به إنسان ومات كان عليه الضمان، وكذلك لو أتلفت إنسانا بيدها أو رجلها أو نابها فعليه ضمانه لان يده عليها، فإذا تلف شئ بفعلها كان كما لو تلف بفعله أو سبب فعله وان ترك على حائطه جرة فرمتها الريح على انسان فمات لم يجب عليه الضان لانه غير متعد بوضعها على ملكه ووقعت من غير فعله، وكذلك إذا سجر تنورا في
ملكه وارتفعت شرارة إلى دار غيره فأحرقته فلا ضمان عليه لما ذكرناه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان اصطدم فارسان أو راجلان وماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر.
وقال المزني ان استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب دية المستلقى وهدر دمه، لان الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقى هو المقتول، وهذا خطأ لان كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه، كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه.
ووجه قول المزني لا يصح، لانه يجوز أن يكون المستلقى صدم صدمة شديدة فوقع مستلقيا من شدة صدمته، وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصطدما وماتا فهما كالبالغين، وان أركبهما من لا ولاية عليهما فاصطد ما وما تا وجب على الذى أركبهما دية كل واحد منهما النصف، بسبب ما جنى كل وا حد من الصبيين على نفسه، والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه.
وان اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما في ضمانهما

(19/25)


حكم الرجلين، فأما الحمل فإنه يجب على كل واحدة منهما نصف ديه جنينها ونصف ديه جنين الاخرى لجنايتهما عليهما.

(فصل)
وإن وقف رجل في ملكه أو في طريق واسع فصدمه رجل فماتا هدر دم الصادم، لاه هلك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه، كما لو دخل دار رجل فيها بئر فوقع فيها، وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم، لانه قتله بصدمة هو متعد فيها، وإن وقف في طريق ضيق فصدمه رجل وماتا وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، لان الصادم قتل الواقف بصدمة هو
مفرط فيها، والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه، هو وقوفه في الطريق الضيق، وان قعد في طريق ضيق فعثر به رجل فماتا كان الحكم فيه كالحكم في الصادم والمصدوم وقد بيناه.
(الشرح) إذا اصطدم راكبان أو راجلان فماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر وسقط النصف، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة وصاحباه وأحمد واسحاق: يجب على عاقلة كل واحد منهما جميع دية الاخر، وروى عن على رضى الله عنه المذهبان.
دليلنا أنهما استويا في الاصطدام، وكل واحد منهما مات بفعل نفسه وفعل غيره، فسقط نصف ديته بفعل نفسه ووجب النصف بفعل غيره، كما لو شارك غيره في قتل نفسه قال الشافعي رضى الله عنه، وسواء غلبتهما دابتاهما أو لم تغلبهما أو أخطأ ذلك أو تعمدا، أو رجعت دابتاهما القهقرى فاصطدما، أو كان أحدهما راجعا والاخر مقبلا.
اه وجملة ذلك أنهما إذا غلبتهما دابتاهما أو لم تغلباهما الا أنهما أخطأ فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية الاخر مخففة، وان قصد الاصطدام فلا يكون عمدا محضا، وانما يكون عمدا خطأ، فيكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة.
وقال أبو إسحاق المروزي: يكون في مال كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة لانه عمد محض.
وانما لم يجب القصاص لانه شارك من فعله غير مضمون

(19/26)


والاول هو المنصوص، لان الصدمة لا تقتل غالبا.
ولو كان كذلك لكان في القصاص قولان، ولا فرق بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، أو أحدهما مقبلا والاخر مدبرا، إلا أن الاصطدام قد وجد، وإن كان فعل المقبل أقوى.
وكذلك لا فرق بين أن يكونا فرسين أو حمارين أو بغلين، أو أحدهما على فرس والاخر على بغل أو حمار، لان الاصطدام قد وجد منهما.
وإن كان فعل أحدهما أقوى من فعل الاخر، كما لو جرح رجل رجلا جراحات وجرحه الاخر جراحة ومات منها.
قال الشافعي رضى الله عنه: ولا فرق بين أن يكونا بصيرين أو أعميين، أو أحدهما أعمى والاخر بصيرا لان الاصطدام قد وجد منهما، ولا فرق بين أن يقعا مكبوبين أو مستلقيين، أو أحدهما مكبوبا ووالاخر مستلقيا.
وقال المزني: إذا وقع أحدهما مكبوبا على وجهه والاخر مسلتقيا على ظهره، فإن القاتل هو المكبوب على وجهه، فعلى عاقلته جميع الدية للمستلقي ولا شئ على عاقلة المستلقى والمنصوص هو الاول، لانهما قد اصطدما، ويحوز أن يقع مسلتقيا على ظهره من شدة صدمته.
ألا ترى أن رجلا إذا طرح حجرا على حجر رجع الحجر إلى خلف من شدة وقوعه وثبوت الاخر، فكذلك هذا مثله.
وان ماتت الدابتان وجب على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الاخر، لانها تلفت بفعله وفعل صاحبه، ولا تحمله العاقلة، لان العاقلة لاتحمل المال، وإن كان أحدهما راكبا والاخر ماشيا فالحكم فيهما كما لو كان راكبين أو ماشيين وإنما يتصور هذا إذا كان الماشي طويلا والراكب أقصر (فرع)
إذا اصطدم صغيران راكبان نظرت فإن ركبا بأنفسهما أو اركبهما ولياهما فهما كالبالغين، لان للولى أن يركب الصغير ليعلمه، وان أركبهما أجنبيان فعلى عاقلة كل واحد منهما من المركبين نصف دية كل واحد منهما لان كل واحد من المركبين هو الجاني على الذى أركبه وعلى الذى جنى عليه.
وان كان المصطدمتان حاملتين فماتنا ومات جنيناهما وجبت على عاقلة كل واحد

(19/27)


منهما نصف دية الاخرى، وكذلك تجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية جنينها ونصف ديه جنين الاخرى، لان كل واحدة منهما قتلت جنينها وجنين الاخرى.
وان خرج جنين إحداهما منها قبل موتها لم ترث من ديته لانها قاتلة له، ويجب على كل واحدة منهما أربع كفارات، لان كل واحدة منهما قاتلة لنفسها وجنينها، والاخرى وجنينها فوجب عليهما أربع كفارات، ولو كانتا أمي ولد أو أمتين فلهما أحكام أخرى لا مكان لها هنا، حيث التزمنا الاقتصار على المسائل والفروع العملية واختصار ما عدا ذلك أو المرور عليه كراما (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: وان كان أحدهما واقفا فصدمه الاخر فماتا، فدية الصادم هدر ودية صاحبه على عاقلة الصادم، اه وجملة ذلك أن الرجل إذا كان واقفا في موضع فصدمه آخر فماتا نظرت، فإن كان الواقف وقف في ملكه أو في ريق واسع لا يتضرر الناس بوقوفه فيه، فإن دية المصطدم وهو الواقف تجب على عاقلة الصادم، لانه مات بفعله، وتهدر دية الصادم، لان الواقف غير مفرط بالوقوف في موضعه، سواء كان الواقف قائما أو قاعدا أو مضطجعا أو نائما، وسواء كان بصيرا أو أعمى يمكنه أن يحترز فلم يفعل، أو لا يمكنه لان فعل الصادم مضمون، وان أمكن المصدوم الاحتراز منه، كما لو طلب رجلا ليقتله وأمكن المطلوب الاحتراز منه فلم يفعل حتى قتله، فإن انحرف الواقف فوافق انحرافه صدمة الصادم فماتا فقد مات كل واحد منهما بفعله وفعل صاحبه فيكونان كالمتصادمتين فيجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الاخر ونصف قيمة السيارة إذا كان كل منهما يقود سيارة.
فإذا كان أحدهما يقود سيارة والاخر راجلا وصدم الراكب الراجل، فإن كان الراجل مخطنا في تعرضه للسيارة وكان يمكن للراكب أن يتوقى الصدام فلم يفعل كان عليه نصف دية الراجل لانه مات بفعله وفعل الراكب، فإن لم يكن يمكنه
الاحتراز منه لسبب لا يرجع إلى تقصير منه أؤ خلل في (فرامل السيارة) فليس على الراكب دية، فإن كان الراكب غير مقصر في آداب الطريق إلا أنه أراد أن يتوقى خطرا لاح له فترتب على وقوفه المفاجئ اصطدام من الخلف بسيارة مسرعة وراءه فمات سائقها، فإن كان يمكنه أن يعطى أشارة حمراء لمن خلفه لم

(19/28)


يفعل كانت الدية مخففة، أما إذا أعطى إشارة حمراء فليس عليه دية لان الذى خلفه مات بفعل نفسه فلم يستحق دية.
قال الشافعي رضى الله عنه، فإن انحرف موليا فمات فعلى عاقلة الصادم دية كاملة، وصورته أن يكون وجه الواقف إلى المقبل فلما رآه انحرف موليا ليتنحى عن طريقه فأصابه فمات، فجيمع ديته على عاقلة الصادم، لانه لا فعل له في قتل نفسه ودية الصادم هدر.
وأما إذا كان واقفا في طريق ضيق للمسلمين فعلى عاقلة كل واحد منهما جميع دية الاخر.
أما الصادم فلانه قاتل، وأما المصدوم فلانه كان السبب في قتل الصادم، وهو وقوفه في الطريق الضيق، لانه ليس له الوقوف هناك، والفرق بين هذا وبين المتصادمين أن كل واحد من المتصادمين مات بفعله وفعل صاحبه.
وها هنا كل واحد منهما قاتل لصاحبه منفرد بقتله، لان الصادم انفرد بالاصابة والمصدوم انفرد بالسبب الذى مات به الصادم ومن أصحابنا من قال ليس على عاقلة المصدوم شئ بحال، والاول أصح.
هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي، نص الشافعي رحمه الله إذا كان الرجل واقفا في الطريق فصدمه آخر فما (ا؟) أن دية الصادم هدر ودية الواقف على عاقلة الصادم.
وقال فيمن نام في الطريق فصدمه آخر فماتا أن دم النائم هدر ودية الصادم على عاقلة النائم، فمن أصحابنا من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من أجراهما على ظاهرهما
وفرق بينهما بأن الانسان قد يقف في الريق ليجيب داعيا وما أشبهه، فأما النوم والقعود فليس له ذلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن اصطدمت سفينتان وهلكتا وما فيهما، فإن كان بتفريط من القيمين بأن قصرا في آلتهما أو قدرا على ضبط هما فلم يضبطا، أو سيرا في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها.
وان كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها.
ويهدر النصف.
وان كانتا لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها

(19/29)


ونصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها، لما بيناه في الفارسين، فإن كان في السفن رجال فهلكوا صمن عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه، فان قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف، وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه، وان لم يفرطا ففي الضمان قولان
(أحدهما)
يجب كما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين.

(والثانى)
لا يجب لانها تلفت من غير تفريط منهما، فأشبه إذا تلفت بصاعقة واختلف أصحابنا في موضع القولين، فمنهم من قال القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل، بأن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها فأما إذا سيرا ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولا واحدا لان ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمانم كالفارسين وقال أبو إسحاق وأبو سعيد القولان في الحالين، وفرقوا بينهما وبين الفارسين بأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام، والقيم لا يمكنه ضبط السفينة، فان قلنا
إنه يجب الضمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا فرطا إلا في القصاص، فإنه لا يجب مع عدم التفريط.
وان قلنا انه لا يجب الضمان نظرت فإن كانت الصفن وما فيها لهما لم يجب على كل واحد منهما ضمان.
وان كانت السفن مستأجرة والمتاع الذى فيها أمانة كاوديعة وما المضاربة لم يضمن، لان الجميع أمانة فلا تضمن مع عدم التفريط.
وان كانت السفن المستأجرة والمتاع الذى فيها يحمل بأجرة لم يجب ضمان السفن لانها أمانة.
وأما المال فهو مال في يد أجير مشترك، فإن كان معه صاحبه لم يضمن، وان لم يكن معه صاحبه فعلى القولين في الاجير المشترك، وان كان أحدهما مفرطا، والاخر غير مفرط، كان الحكم في المفرط ما ذكرناه إذا كانا مفرطين.
والحكم في غير المفرط ما ذكرناه إذا كانا غير مفرطين
(فصل)
إذا كان في السفينة متاع لرجل فثقلت السفينة، فقال رجل لصاحب المتاع ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه فألقاه وجب عليه الضمان.
وقال أبو ثور لا يجب لانه ضمان ما لم يجب، وهذا خطأ لان ذلك ليس بضمان، لان

(19/30)


الضمان يفتقر إلى مضمون عنه وليس ههنا مضمون عنه وإنما هو استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح، فإن قال ألق متاعك وعلى وعلى ركاب السفينة ألف فألقاه لزمه بحصته، فإن كلو عشرة لزمه مائة، وإن كانوا خمسة لزمه مائتان لانه جعل الالف على الجميع فلم يلزمه فلم يلزمه أكثر من الحصة، فان قال أنا ألقيه على أنى وهم ضمناه فألقاه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجب عليه الحصة لما ذكرناه
(والثانى)
يجب عليه ضمان الجميع لانه باشر الاتلاف (الشرح) إذا اصطدمت سفينتان فانكسرتا وتلف ما فيهما فلا يخلو الربانان وهما القيمان اما ان يكونا مفرطين في الاصطدام أو غير مفرطين، أو أحدهما
مفرطا والآخر غير مفرط، فإن كانا مفرطين بأن أمكنهما ضبط هما أو الانحراف فلم يفعلا فقد صارا جانيين، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها ونصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها، لان كل واحد منهما تلف بفعلها، وسواء كانت السفينتان وديعة أو عارية أو بأجرة، وسواء كان المال فيهما وديعة أو قراضا أو يحمل بأجرة لان الجميع يضمن بالتفريط، وان كان فيهما أحرار وماتوا وقصدوا الاصطدام.
وقال أهل الخبرة: إن مثل ما قصد إليه وفعلاه يقتل غالبا، فإنها جناية عمد محض، فقد وجب عليهما القود لجماعة في حالة واحدة، فيقرع بين أولياء المقتولين، فاذإ خرجت عليهما القرعة بواحد قتلا بواحد ووجب للباقين الدية في أموالهما.
وإن قالوا لا يقتل مثله غالبا أو لم يقصد الاصطدام وانما فرطا وجب على عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب السفينتين.
وإذا لم يفرط الربانان أو القيمان مثل أن اشتدت الريح واضطرمت الامواج فلم يمكنهما إمساكهما بطرح الانجد، ولا بأن يعدل أحدهما عن سمت الاخرى.
حتى اصطدمتا وهلكتا ففيه قولان:
(أحدهما)
أن عليهما الضمان لانهما في أيديهما، فما تولد من ذلك كان عليهما ضمانه، وان لم يفرطا كالفارسين إذا تصادما وغلب عليهما الفرسان، ولان

(19/31)


كل من ابتدأ الفعل منه فانه يضمن ذلك الفعل إذا صار جناية، وان كان بمعونة غيره كما لو رمى سهما إلى عرض فحمل الريح السهم إلى انسان وقتله
(والثانى)
لا ضمان عليهما لانه لا فعل لهما ابتداء ولا انتهاء، وانما ذلك من فعل الريح فهو كما لو نزلت صاعقة فأحرقت السفينتين.
واختلف أصحابنا في
موضع القولين، فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن للربان فعل لا ابتداء ولا انتهاء وهو في المراكب التى ينصب الربان الشراع ويمد الحبال ويقيمه نحو الريح حتى إذا هبت الريح دفعه.
فأما السفن البخارية فإن اندفاعها ماخرة في عباب البحر بمحركاتها التى تقوم مقام المجداف في الزوارق الصغيرة، وهذه السفن يمكن التحكم في سيرها إلى مسافة تحددها علوم البحار التى تقرر لكل سفينة قوة وحمولة وسرعة يمكن التحكم في سيرها وتوقى الاصطدام بغيرها إلى مسافة معينة، فإذا تعذر فلا ضمان.
أما السفن الصغار التى تسير بالمجداف أو الزوراق البخارية فانه يجب الضمان قولا واحدا، لان ابتداء الفعل منهما.
ومنهم من قال القولان إذا لم يكن منهما فعل بأن كاننا واقفتين أو لم يسير هما رباناهما فجاءت الريح فقلعتهما فأما إذا سيرا فقلعتهما فيجب الضمان قولا واحدا، ولم نفرق بين السفن التى تسير بنصف الشراع أو التى تسير بالبخار أو الصغار التى تسير بالمجداف.
ومنهم من قال القولان في الجميع سواء كاننا واقفتين أو سيراهما، وسواء كانتا تسيران بالشراع أو البخار أو المجداف، لان الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام، والسفينتان لا يمكنه أن يسيرها سيرا لا يغلبه الريح عليها (با؟) ان العوامل الجوية وهياج البحر له تأثير على ضبط القيادة وتفادى المخاطر فإذا قلنا يجب عليهما الضمان، فان كانت السفينتان وما فيهما لهما فلا يجب عليهما الضمان.
وكذلك إذا كانت السفينتان معهما وديعة، والمال الذى فيهما حملاه بأجرة فلا ضمان عليهما في السفينة.
وأما المال فان كان رب المال معه لم يضمنه الاجير، لان يد صاحبه عليه، وان لم يكن رب المال معه فعلى قولين لان أجيره مشترك وكذلك إذا استأجر على القيام بالسفينتين وما فيهما فهما أجيران مشتركان.
فان كان رب السفينة والمال معه فلا مضان.
وان لم يكن معه

(19/32)


فعلى القولين، وإن كان أحدهما مفرطا والآخر غير مفرط.
قال الشيخ أبو حامد فإن المفرط جان والاخر غير جان، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما كان على المفرط قيمة سفينة صاحبه وما فيها، لانها تلفت بفعله، أما سفيته وما فيها فلا يرجع به على أحد لانهما هلكتا بفعله، وإن كانتا وما فيهما لغيرهما فإن على المفرط قيمة سفينته وقيمة ما فيها، وعلية قيمة سفينة صاحبه وقيمة ما فيها، ولصاحب السفينة الذى لم يفرط قيمتها وله أن يطالب المفرط بذلك، وإن أراد أن يطالب الربان الذى لم يفرط فإن قلنا أن الربان يضمن وإن لم يفرط فها هها له أن يضمنه ثم يرجع الذى لم يفرط بما غرمه على المفرط، وان قلنا ان الربان لا يضمن إذا لم يفرط فإن كانت السفينة معه وديعة أو المال معه قراض فلا ضمان عليه وإن كان ذلك بيده استؤجر على حمله فهو أجير مشترك، وإن لم يكن صاحبه معه فإن قلنا لا يضمن لم يكن له مطالبته، وان قلنا يضمن فله أن يطالبه ثم يرجع بما غرمه على المفرط، فإن انكسرت إحداهما دون الاخرى فالحكم في المكسرة حكمهما إذا انكسرتا (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا صدمت سفينته من غير أن يتعمد بها الصدم لم يضمن شيئا مما في سفينته بحال واختلف أصحابنا في صورتها فمنهم من قال صورتها أن يكون الربان قد عدل سفينته إلى الشط وربطها فطرح الانجد فجاءت سفينة أخرى فصدمتها فتلفت وما فيها فلا صمان عليه، لانه لا فعل لا يلزمه به الضمان.
وهذا القائل يقول: قول الشافعي صدمت سفينته؟ إنما هو بضم الصاد فعل لما لم يسم فاعله، ومنهم من قال صورتها إذا لم يكن منه تفريط، وأجاب بأحد القولين وهو الاصح لانه قال: صدمت سفينته من غير أن يتعمد بها الصدم، ولا يقال ذلك للمصدوم.
وانما
يقال مثله للصادم.
(مسألة) قوله: إذا كان في السفينة متاع الخ.
فان جملة ذلك إذا كان قوم في سفينة وفيها متاع فثقلت السفينة من المتاع ونزلت في الماء وخافوا الغرق فإن ألقى بعضهم متاعه في البحر لتخفف السفينة وسلموا لم يرجع به على أحد لانه أتلف ماله باختياره من غير أن يضمن له غيره عوضا فهو كما لو أعتق عبده.
وان طرح

(19/33)


مالا لغيره من غير إذنه لتخفف السفينة وجب عليه ضمانه لانه أتلف مال غيره بغير اذنه فوجب عليه ضمانه كما وخرق ثوبه وإن قال لغيره ألق متاعك فيالبحر ولم يضمن له عوضا فألقاه فقد قال المسعودي هل يجب على الذى أمره بالالقاء ضمانه؟ فيه وجهان كما قلنا فيه إذا قال لغيره اقض عنى دينى ولم يضمن له عوضه وقال سائر أصحابنا لا يلزمه ضمانه، وهو المنصوص، لانه لم يضمن له بدله فلم يلزمه، كما لو قال: اعتق عبدك فأعتقه، والفرق بين هو بين قضاء الدين متحقق نفعه للطالب لان ذمته تبرأ بالقضاء، وهاهنا لا يتحقق النفع بذلك، بل يجوز أن يسلموا ويجوز أن لا يسلموا وإن قال له ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه أو على أنى أضمن لك قيمته، فألقاه، وجب على الطالب ضمانه، وهو قول الفقهاء كافة إلا أبا ثور فإنه قال لا يلزمه لانه ضمان ما لم يجب، وهذا خطأ، لانه استدعى إتلاف مال لغرض صحيح فصح كما لو قال أعتق عبدك وعلى قيمته أو طلق امرأتك وعلى ألف.
(فرع)
وإن قال لغيره ألق متاعك في البحر وعلى وعلى ركاب السفينة ضمانه فألقاه، وجب على الطالب حصته، فإن كانوا عشرة لزمه ضمان عشره.
وان قال ألقه على أن أضمنه وكل واحد من ركاب السفينة، فألقاه، وجب على الطالب ضمان جميعه لانه شرط أن يكون كل واحد منهم ضامنا له
وإن قال ألق متاعك وعلى وعلى ركاب السفينة ضمانه، وقد أذنوا لى في ذلك فإن صدقوه لزم كل واحد منهم بحصته وإن أنكروا حلفوا ولزم الطالب ضمانه جميعه، وان قال ألق متاعك وعلى وعلى ركاب السفينة ضمانه وعلى تحصيله منهم فألقاه وجب على الطالب ضمان جميعه.
وان قال صاحب المتاع لآخر ألق متاعى وعليك ضمانه، فقال نعم فألقاه، وجب عليه ضمانه لان ذلك بمنزلة الاستدعاء منه.
وان قال ألق متاعك وعلى نصف قيمته، وعلى فلان ثلثه وعلى فلان سدسه، فألقاه، فإن صدقه الاخران أنهما أذنا للطالب في ذلك لزمه نصف قيمته ولزم الاخران النصف، وان أنكر الاخران حلفا ووجب الجميع على الطالب فإن قال الطالب ألقى أنا متاعك وعلى ضمانه، فقال صاحب المتاع نعم، فألقاه لم يكن مأثوما ووجب عليه ضمانه

(19/34)


فإن قال الطالب: ألقى أنا متاعك وعلى وعلى ركاب السفينة ضمانه.
فقال صاحب المتاع نعم فألقاه ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزم الملقى الا بحصته لانه قدر ما ضمن
(والثانى)
يلزمه الجميع لانه باشر الاتلاف.
وان قال لغيره: ألقى متاع فلان وأنا ضامن لك لو طالبك لم يصح هذا الضمان، ويلزم الضمان على الملقى لانه هو المباشر.
(مسألة) استحدث في عصرنا هذا شركات تقوم بالتزام دفع ضمان ما يهلك من السفن أو السيارات وتصدر القوانين من الحكومات لالزام أصحاب السيارات والسفن والمصانع أداء قدر من المال إلى هذه الشركات الضامنة وتسمى شركات التأمين، فأما من جهة الضمن فلا خلاف في جوازه بناء على ما قلنا فيمن قال: ألق متاعك وأنا ضامن فإنه يلزمه الضمان.
وأما ما يؤدى إلى هذه الشركات فهل يجرى مجرى الاجر على الضمان؟ أم أنها أموال معونة ورفق ترصد لتكون على
أهبة الاستعداد دائما لدفع الضمان عند حدوث التلف؟ أم أنها صور ربوية محظورة؟ أم هي من القمار المحرم؟ هذا ما سأفرده ببحث خاص في كتاب على حدة ان شاء الله.
(فرع)
وان خرق رجل السفينة فغرق ما فيها، فإن كان مالا، لزمه ضمانه، سواء خرقها عمدا أو خطأ، لان المال يضمن بالعمد والخطأ، وان كان فيه أحرار فغرقوا وماتوا فإن كان عامدا مثل أن يقلع منها لوحا يغرق مثلها من قلعه في الغالب وجب عليه القود بهم، فيقتل بأحدهم وتجب للباقين الدية في ماله، وان كان مخطئا بأن سقط من يده حجر أو فأس فحرق موضعا فيها فغرقوا كان على عاقلته ديانهم مخففة، وان كان عمد خطأ مثل أن فيها ثقب فأراد صلاحه فانخرق عليه كان على عاقلته ديانهم مغلظة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان رمى عشرة أنفس حجرا بالمنجنيق فرجع الحجر وقتل أحدهم سقط من ديته العشر ووجب تسعة أعشار الدية على الباقين لانه مات من فعله وفعلهم، فهدر بفله العشر، ووجب الباقي على التسعة

(19/35)


(فصل)
وإذا وقع رجل في بئر ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع، فإن مات الاول وجبت ديته على الثاني لما روى على بن رباح اللخمى أن بصيرا كان يقود أعمى موقعا في بئر فوقع الاعمى فوق البصير فقتله، فقضى عمر رضى الله عنه بعقل البصير على الاأعمى فكان الاعمى ينشد في الموسم يا أيها الناس لقيت منكرا
* هل يعقل الاعمي الصحيح المبصرا خرا معا كلاهما تكسرا ولان الاول مات بوقوع الثاني عليه فوجبت ديته عليه، وان مات الثاني
هدرت ديته، لانه لا صنع لغيره في هلاكه، وإن ماتا جميعا وجبت دية الاول على الثاني، وهدرت دية الثاني لما ذكرناه، فإن جذب الاول الثاني ومات الاول هدرت ديته، لانه مات بفعل نفسه، وإن مات الثاني وجبت ديته على الاول لانه مات بجذبه، وان وقع الاول ثم وقع الثاني ثم وقع الثالث، فإن كان وقوعهم من غير جذب ولا دفع وجبت دية الاول على الثاني والثالث، لانه مات بوقوعهما عليه، وتجب دية الثاني على الثالث، لانه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بدينه، وتهدر دية الثالث لانه مات من وقوعه، فإن جذب بعضهم بعضا بأن وقع الاول وجذب الثاني وجذب الثاني الثالث وماتوا وجب للاول نصف الدية على الثاني، لانه مات من فعله بجذب الثاني، ومن فعل الثاني بجذب الثالث، فهدر النصف بفعله ووجب النصف، ويجب للثاني نصف الدية على الاول لانه جذبه ويسقط نصفها لانه جذب الثالث، ويجب للثالث الدية لانه لا فعل له في هلاك نفسه، وعلى من تجب؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنها تجب على الثاني لانه هو الذى جذبه والوجه الثاني أنها تجب على الاول والثانى نصفين، لان الثاني جذبه والاول جذب الثاني فاضطره إلى جذب الثالث، وكان كل واحد منهما سببا في هلاكه فوجبت الدية عليهما.

(فصل)
وان تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه قصد قتله فجرحه دفعا عن نفسه فالقول قول كل واحد منهما، مع يمينه أنه ما قصد

(19/36)


قتل صاحبه، فإذا حلقا وجب على كل واحد منهما ضمان جرحه، لان الجرح قد وجد وما يدعيه كل واحد منهما من قصد الدفع عن نفسه لم يثبت فوجب الضمان (الشرح) خبر على بن رباح اللخمى أخرجه الدارقطني عن اسماعيل المحاملى
نا زيد بن الحباب نا موسى بن على بن رباح اللحمى، وقد أخرجه البيهقى في السنن الكبرى من رواية موسى بن على بن رباح عن أبيه.
قال الحافظ بن حجر: وفيه انقطاع، ولفظه: فقضى عمر بعقل البصير على الاعمى، فذكر أن الاعمى كان ينشد، ثم ذكر الابيات.
أما المنجنيق فإنه آلة يرمى عنها بالحجارة، يقال بفتح الميم وجاء كسرها عن ابن قتيية وجمعه مجانق وهى معربة، وأصلها بالفارسية (من جى نيك) أي ما أجودنى، وهو بمثابة المدافع التى تقذف قذائف النيران في عصرنا هذا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاصر الطائف بالمنجنيق.
أما على بن رباح أبو عبد الله المصرى قال على بن عمر الحافظ: لقبه على بالضم وثقه النسائي وفى الخلاصة مات بعد العشر ومائة، وفى التهذيب سنة سبع عشرة أما الاحكام فإنه إذا رمى عشرة أنفس حجرا بالمنجنيق فأصابوا رجلا من غيرهم فقتلوه فقد اشتركوا في قتله فإن لم يقصدوا بالرمي أحدا وجبت ديته مخففة على عاقلة كل واحد منهم عشرها، وإن كانوا قصدوه بالرمي فأصابوه لم يكن عمد خطأ، لانه لم يمكن قصد رجل بعينه بالمنجنيق، وانما يتفق وقوعه ممن وقع به، فتجب ديته مغلظة على عاقلة كل واحد منهم عشرها، وان رجع الحجر على أحدهم فقتله سقط من ديته العشر ووجب على عاقلة كل واحد من التسعة عشر ديته لانه مات بفعله وفعلهم، فهدر ما يقابل فعله ووجب ما يقابل فعلهم.
وإنما تجب الدة على من مد منهم الحبال ورمى الحجر، كمن وضع القذيفة في المدفع والاخر ضبط الهدف وغيره ضغط الزناد، فإذا أحضر أحدهم القذيفة ثم تنحى فلاشئ عليه لانه صاحب سبب والمباشر غيره فتعلق الحكم بالمباشر قوله (وإذا وقع في بئر الخ) فجملة ذلك أنه إذا وقع لرجل في بئر أو زبية وهى حفرة في موضع عال يصاد فيها الاسد ونحوه والجمع زبى مثل مدية

(19/37)


ومدى.
ومن إطلاق الزبية على المحل المرتفع قول عثمان لعلى أيام الحصار في الدار: قد بلغ السيل الزبى فوقع عليه آخر فمات الاول وجب ضمان الاول على الثاني للاثر الذى سقناه عن الاعمى الذى قضى عمر رضى الله عنه عليه أن يعقل البصير ثم ينظر فيه، فإن كان الثاني رمى بنفسه عليه عمدا وكان وقوعه عليه يقتله في الغالب وجب على الثاني القود، وان رمى بنفسه عليه وكان وقوعه عليه لا يقتله غالبا وجبت فيه دية مغلظة على عاقلة الثاني.
وان وقع عليه مخطئا وجبت على عاقلته دية مخففة وتهدر دية الثاني بكل حال، لانه لم يمت بفعل أحد، وان وقع الاول ووقع عليه ثان ووقع فوقهما ثالث وماتوا قال ابن الصباغ، فقد ذكر الشيخ أبو حامد أن ضمان الاول على الثاني والثالث لانه مات بوقوعهما عليه وضمان الثاني على الثالث لانه انفرد بالوقوع عليه ويهدر دم الثالث لانه لم يمت بفعل أحد وذكر القاضى أبو الطيب أن الثالث يضمن نصف دية الثاني ويهدر النصف لان الثاني تلف بوقوعه على الاول، بوقوع الثالث عليه.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس لان وقوعه على غيره كسبب في تلفه كقوع غيره عليه.
قال ابن الصباغ: فعلى قياس هذا إذا وقع على الاول ثان وماتا أن بهدر نصف دية الاول لانه مات بوقوعه وبوقوع الثاني عليه.
وان وقع رجل في بئر وجذب ثانيا وماتا هدرت دم الاول لانه مات بجذبه الثاني على نفسه ووجبت دية الثاني على الاول لانه مات بجذبه، وان جذب الاول ثانيا وجذب الثاني ثالثا وماتوا فقد مات الاول بفعله وهو جذبه للثاني على نفسه وبفعل الثاني وهو جذب الثالث فسقط نصف دية الاول، ويجب نصفها على الثاني، ويجب للثاني نصف ديته على الاول وسقط نصفها لانه مات بجذبه الاول له وبجذبه الثالث على نفسه، ويجب للثالث جميع ديته لانه لا صنع له في
قتل نفسه وعلى من تجب؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجب على الثاني لانه جذبه
(والثانى)
يجب على الاول والثانى نصفين، لان الاول جذب الثاني والثانى جذب الثالث فكأن الثالث مات بجذبهما فإن كانت بحالها وجذب الثالث رابعا وماتوا فقد حصل هاهنا ثلاث جذبات، فأما الاول فقد مات بفعله وفعل الثاني وفعل الثالث فسقط ثلث الدية لانه جذب

(19/38)


الثاني على نفسه، ويجب له على الثاني ثلث الدية لجذبه الثالث عليه، وعلى الثالث ثلث الدية بجذبه الرابع عليه.
وأما الثاني فقد مات بفعله وفعل الاول وفعل الثالث، فيجب له على الاول ثلث الدية وعلى الثالث ثلث الدية وبسقط الثلث وأما الثالث ففيه وجهان:
(أحدهما)
يسقط من ديته النصف ويجب له على الثاني النصف لانه مات بفعله وهو جذبه الرابع فسقط النصف لذلك، وبفعل الثاني وهو جذبه له
(والثانى)
يسقط من ديته الثلث لانه مات بثلاثة أفعال للرابع ويجذب الثاني له وبجذب الاول للثاني، فيجب له على الاول ثلث الدية وعلى الثاني ثلث الدية، فأما الرابع فيجب له جميع الدية لانه لا صنع له في قتل نفسه وعلى من يجب؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجب على الثالث لانه هو الذي جذبه
(والثانى)
يجب على الاول والثانى والثالث لان وقوعه حصل بالجذبات، فإن قيل فقد روى سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن على رضى الله عنه أن قوما باليمن حفروا زبية ليصطادوا بها الاسد فوقع فيها الاسد فاجتمع الناس على رأسها يبصرونه فتردى رجل فيها فتعلق بثان وتعلق الثاني بثالث وتعلق الثالث برابع فوقعوا فيها فقتلهم الاسد، فرفع ذلك إلى على رضى الله عنه، فقضى للاول بربع الدية لان فوقه ثلاثة
وقضى للثاني بثلث الدية لان فوقه اثنين، وللثالث بنصف الدية، ولان فوقه واحدا، وللرابع بكمال الدية، فرفع ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هو كما قضى.
قال أصحابنا: هذا الحديث لا يثبته أهل النقل فهو في مسند أحمد وسنن البيهقى والبزار، قال ولا نعلمه يروى إلا عن على ولا نعلم له إلا هذه الطريق، وحنش ضعيف، وقد وثقه أبو داود.
قال في مجمع الزوائد: وبقية رجاله رجال الصحيح وحكم الفقه هو ما قدمنا.
(فرع)
وإن حفر رجل بئرا في موضع ليس له الحفر فيه فتردى فيها رجل وجذب آخر فوقه وماتا ففيه وجهان حكاهما الطبري في العدة
(أحدهما)
يجب للاول على الحافر نصف الدية ويهدر النصف لانه مات بسببين: حفر البئر وجذبه

(19/39)


للثاني على نفسه فانقسمت الدية عليهما وسقط ما قابل فعله
(والثانى)
حكاه أبو الطيب عن أبى عبد الله الجونى أنه لا يجب له شئ على الحافر لان جذبه الثاني على نفسه مباشرة والحفر سبب وحكم السبب يسقط بالمباشرة كما قدمنا فيمن أحضر قذيفة المدفع وتنحى.
قال الطبري والاول أصح لان الجذب سبب أيضا لانه لم يقصد به إلقاءه على نفسه، وانما قصد به التحرز من الوقوع فلم يكن أحدهما بأولى من الآخر، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب الديات

دية الحر المسلم مائة من الابل لما روى أبو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وقرء على أهل اليمن أن في النفس مائة من الابل
فإن كانت الدية في عمد أو شبه عمد وجبت مائة مغلظة أثلاثا ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وقال أبو ثور: دية شبه العمد أخماسا عشرون بنت مخاص، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، لانه لما كانت كدية الخطأ في التأجيل والحمل على العاقلة كانت كدية الخطأ في التخميس، وهذا خطأ لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ فتح مكة فقال: ألا إن دية الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا، دية مغلظة مائة من الابل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها) وروى مجاهد عن عمر رضى الله عنه (أن دية شبه العمد ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، ويخالف الخطأ فإنه لم يقصد القتل ولا الجناية فجفف من كل وجه، وفى شبه العمد لم يقصد القتل، فجعل كالخطأ في التأجيل، والحمل على العاقلة وقصد الجناية، فجعل كالعمد في التغليظ بالاسنان، وهل يعتبر في الخلفات السن مع الحمل؟ فيه القولان.
أحدهما لا يعتبر لقوله صلى الله عليه وسلم

(19/40)


(منها أربعن خلفه في بطونها أولادها) ولم يفرق
(والثانى)
يعتبر أن تكون ثنيات فما فوقها لانه أحد أقسام أعداد إبل الدية، فاختص بسن كالثلاثين، وإن كانت في قتل الخطأ والقتل في غير الحرم وفى غير الاشهر الحرم، والمقتول غير ذى رحم محرم للقاتل، وجبت دية مخففة أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، لما روى أبو عبيدة عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال (في الخطأ عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض)
وعن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ مائة من الابل، عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة.
وان كان القتل في الحرم أو في أشهر الحرم وهى: ذوالقعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل، وجبت دية مغلظة لما روى مجاهد أن عمر رضى الله عنه (قضى فيمن قتل في الحرم أو في الاشهر الحرم أو محرما بالدية وثلث الدية) وروى أبوالنجيح عن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّهُ قَضَى فِي امرأة قتلت في الحرم فجعل الدية ثمانية آلاف، ستة آلاف الدية وألفين للحرم) وروى نافع ابن جبير أن رجلا قتل في البلد الحرام في شهر حرام، فقال ابن عباس (ديته إثنا عشر ألفا وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف، فكملها عشرين ألفا) فإن كان القتل في المدينة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يغلظ لانها كالحرم في تحريم الصيد، فكذلك في تغليظ الدية
(والثانى)
لا تغلظ لانها لا مزية لها على غيرها في تحريم القتل بخلاف الحرم.
واختلف قوله في عمد الصبى والمجنون، فقال في أحد القولين: عمدهما خطأ لانه لو كان عمدا لاوجب القصاص، فعلى هذا يجب بعمدهما دية مخففة
(والثانى)
أن عمدهما عمد لانه يجوز تأديبهما على القتل فكان عمدهما عمدا كالبالغ العاقل، فعلى هذا يجب بعمدهما دية مغلظة، وما يجب فيه الدية من

(19/41)


الاطراف فهو كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة لانه كالنفس في وجوب القصاص والدية، فكان كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة (الشرح) حديث أَبِي بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أخرجه النسائي وقال: وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلا.
وأخرجه أيضا أبو داود في
المراسيل، وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولا.
قال الشكوكانى: وقد صححه جماعة من أئمة الحديث، منهم الحاكم وأحمد وابن حبان والبيهقي وأخرجه مالك والشافعي.
وقد مضى الكلام على هذا الحديث عند الكلام على قتل الرجل بالمرأة.
وحديث ابن عمر أخرجه أبو داود بلفظ (خطب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الفتح على درجة البيت أو الكعبة) وأخرجه أصحاب السننن إلا الترمذي ولهم من حديث عبد الله بن عمرو مثله.
وأثر مجاهد عن عمر أخرجه البيهقى في السنن الكبرى وهو منقطع، وفى إسناده ليث بن أبى سليم، وهو ضعيف قال البيهقى وروى عن عكرمة عن عمر بن الخطاب ما يدل على التغليظ في الشهر الحرام.
وقال ابن المنذر: روينا عن عمر أنه قال (من قتل في الحرم أو قتل محرما أو قتل في الشهر الحرام فعليه الدية وثلث الدية) وروى الشافعي والبيهقي عن عمر أيضا من طريق ابن أبى نجيح عن أبيه أن رجلا أوطأ امرأة بمكة فقتلها فقضى فيها بثمانية آلاف درهم وثلث.
وأثر ابن مسعود أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا عن الحجاج ابن أرطاة عن زيد بن جبير عن حشف بن مالك الطائى عن ابن مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في دية الخطأ عشرون حقه، وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض ذكرا) وقال ابن ماجه في اسناده عن الحجاج، حدثنا زيد بن جبير قال أبو حاتم الرازي، الحجاج يدلس عن الضعفاء فإذا قال حدثنا فلا فلا يرتاب به.
وأخرجه أيضا البزاز والبيهقي والدارقطني وقال عشرون بنولبون مكان قوله عشرون ابن مخاض.
وأما الموقوف الذى ساقه المصنف فإن إسناده في سنن الدارقطني

(19/42)


من طريق أبى عبيدة عن أبيه، يعنى عبد الله بن مسعود موقوفا، وقا هذا إسناد حسن، وضعف المرفوع من أوجه عديدة، ولعل المصنف قد تأثر بتضعيف الدارقطني للمرفوع وتحسينه للموقوف فاختاره شاهدا، ولكن البيهقى تعقب الدار قنى فاتهمه بالوهم وقال: والجواد قد يعثر.
قال وقد رأيته في جامع سفيان الثوري عن منصور عن ابراهيم عن عبد الله وعن ابن اسحاق عن علقمة عن عبد الله.
وعن عبد الرحمن بن مهدى عن يزيد بن هرون عن سليمان التيمى عن أبى مجلز عن أبى عبيدة عن عبد الله، ويؤيد المصنف أن دافع الحاف بن حجر عن الدارقطني، لانه كان يضعف الرواية المرفوعة لبعض عباراتها، كعبارة (بنو مخاص) فقال فانتفى أن يكون الدارقطني عثر، وقد تكلم الترمذي على حديث ابن مسعود فقال: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وقد روى عن عبد الله موقوفا.
وقال أبو بكر البزاز: وهذا الحديث لا نعلمه روى عن عبد الله مرفوعا إلا بهذا الاسناد.
وذكر الخطابي أن حشف بن مالك مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث وعدل الشافعي عن القول به لهذه العلة، ولان فيه بنى مخاض ولا مدخل لبنى المخاض في شئ من أسنان الصدقات.
وأثر عثمان قال الشافعي: أخبرنا سفيان عن أبن أبى نجيح عن أبيه أن رجلا أوطأ امرأة بمكة فقضى فيها عثمان بثمانمائة ألف درهم وثلث.
وقد روى الجوزجانى باسناده عن أبى الزناد أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع الفقهاء فكان مما أحيا من لك السنن بقول فقهاء المدينة السبعة ونظرائهم أن ناسا كانوا يقولون: إن الدية تغلظ في الشهر الحرام أربعة آلاف فتكون سنة عشر ألف درهم، فألغى عمر رحمه الله ذلك بقول الفقهاء وأثبتها اثنى عشر ألف درهم في الشهر الحرام والبلد الحرام وغيرهما قال ابن المنذر: وليس بثابت ما روى عن الصحابة في هذا، ولو صح فقول
عمر يخالفه، وقوله أولى من قول من خالفه، وهو أصح في الرواية مع موافقته الكتاب والسنة والقياس.
وسيأتى في شرح الاحكام الراجح من الخلاف ويؤخذ من كتاب عمر وبن حزم أن دية الحر المسلم مائة من الابل، وهو

(19/43)


إجماع، فإن كانت الدية في العمد المحض أو في شبه العمد وجبت مائة مغلظة وهى ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة (والخلفة الحامل) وبه قال عمر وعلى وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وعطاء ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: تجب أرباعا خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وقال أبو ثور (دية قتيل شبه العمد مخففة يجبر به الخطأ) دليلنا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يوم الفتح (ألا ان في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الابل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها) وَعَنْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ألا ان في الدية العظمى مائة من الابل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها) قال في البيان، فإن قيل فما معنى قوله أربعون خلفة في بطونها أولادها؟ وقد علم أن الخلفة لا تكون إلا حاملا.
قلنا له تأويلان.
أحدهما أنه أراد التأكيد في الكلام وذلك جائز كقوله تعالى (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رجعتم تلك عشرة كاملة)
(والثانى)
أن الخلفة اسم للحامل التى لم تضع واسم للتى وضعت ويتبعها ولدها فأراد أن يميز بينها.
اه إذا ثبت هذا فهل تختص الخلفة بسن أم لا؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يختص بسن، بل إذا كانت حاملا فأى سن كانت جاز
(والثانى)
يختص بسن هو أن
تكون ثلاثة فما فوقها لحديث عقبة بن أوس عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أَلَا إنَّ في قتيل شبه العمد بالسوط والعصا مائة من الابل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ما بين الثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة، رواه أحمدو أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبخاري في تاريخه الكبير، ومراسيل الصحابة رضى الله عنهم حجة لانهم ثقات لا يتهمون (مسألة) إذا كانت الجناية خطأ ولم يكن القتل في المحرم ولا في الاشهر الحرم، ولكن المقتول ذو رحم محرم للقاتل، فإن الدية تكون مخففة أخماسا وهى مائة من الابل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون

(19/44)


وعشرون حقة وعشرون جذعة، وبه قال من الصحابة ابن مسعود ومن التابعين عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهرى ومن الفقهاء مالك وربيعة والليث والثوري.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، هي أخماس، إلا أنه يجب مكان بنى لبون عشرون ابن مخاض.
وروى عن عثمان وزيد بن ثابت أنهما قالا تجب من أربعة أنواع ثلاثين جذعة وثلاثين حقة وعشرين بنت لبون وعشرين بنت مخاض.
وقال الشعبى والحسن البصري تجب أرباعا خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا وعشرين بنت لبون وخمسا وعشرين بنت مخاض.
وروى مثل ذلك عن على رضى الله عنه دليلنا ما روى الحجاج عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بدية الخطأ مائة من الابل عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض، رواه أحمد وأبو داود النسائي والترمذي وابن ماجه وقد مضى الكلام فيه.
وقد روى موقوفا على ابن مسعود قال المنذرى بعد أن ذكر الخلاف فيه على الحجاج: والحجاج غير محتج به.
وكذا قال البيهقى، والصحيح أنه موقوف على عبد الله.
وروى عن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ مائة من الابل عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة.
اما إذا كان قتل الخطأ في الحرم أو في الاشهر الحرم وهى رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل كانت دية الخطأ مغلظة كدية العمد، فيجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وبه قال عمر رضى الله عنه فيما أخرجه البيهقى من طريق مجاهد عنه أن قضى فيمن قتل في الحرم أو في الشهر الحرام أو وهو محرم بالدية وثلث الدية، وهو منقطع وفى سنده ليث بن أبى سليم وهو ضعيف.
قال البيهقى: وروى عن عكرمة عن عمر ما يدل على التغليظ في الشهر الحرام وقال ابن المنذر: روينا عن عمر أنه قال فيمن قتل في الحرم أو قتل في الشهر الحرام أو قتل محرما فعليه الدية وثلث الدية وروى الشافعي والبيهقي من

(19/45)


طريق ابن أبى نجيح عن أبيه أن رجلا أوطأ امرأة بمكة فقتلها فقضى فهيا بثمانية آلاف درهم دية وثلثا.
وروى البيهقى وابن حزم عن ابن عباس منريق نافع بن جبير عنه قال: يزاد في دية المقتول في الاشهر الحرم أربعة آلاف، وفى دية المقتول في الحرم أربعة آلاف.
وروى ابن حزم في المحلى عن ابن عباس أن رجلا قتل في البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال إن ديته إثنا عشر ألفا وللشهر الحرام والبلد الحرام أربعة آلاف فكلها عشرون ألفا.
وإن قتل خا في حرم المدينة فهل يتغلظ؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يتغلظ
لانه كالحرم في تحريم الصيد، فكان كالحرم في تغليظ دية الخطأ
(والثانى)
لا تغلظ وهو الاصح لانه دن الحرم في الحرمة بدليل أنه يجمز قصده بغير إحرام فلم يلحق به في الحرمة تغليظ وإن قتل محرما خطأ فهل تغلظ ديته؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تغلظ كما تغلظ في القتل بالحرم، وبه قال أحمد لان الاحرام يتعلق به ضمان الصيد فغلضت به الدية كالرحم
(والثانى)
لا تغلظ به لان الشرع ورد بتغليظ القتل في الحرم دون الاحرام بدليل ما روى أحمد في رواية الاثرم عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إن أعدى الناس على الله عز وجل من قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية، والاحرام لا يلحق الحرم في الحرمة إذا ثبت هذا فإن تغليظ دية الخطأ عندنا بالحرم أو في الاشهر الحرم أوإذا قتل ذارحم محرم إنما هو بأسنان الابل كما قلنا في دية العمد، ولا يجمع بين تغليظين.
وقال أحمد: يغلظ بثلث الدية، ويجمع بين تغليظين لما رويناه عن الصحابة رضى الله عنهم.
ولكن دليلنا على أنه لا يغلظ إلا بالاسنان أن ما أوجب التغليظ في دية القتل أوجبه بالاسنان كدية العمد، ودليلنا على أنه لا يجمع بين تغليظين أن ما أوجب التغليظ في أوجه الضمان إذا اجتمع سببان يقتضيان التغليظ لم يجمع بينهما كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد، وأما ما روى عن الصحابة عن الصحابة أنهم قضوا بالدية وثلث الدية في ذلك وجمعوا بين تغليظين محمول على أنهم قضوا بدية مغلظة بالاسنان، إلا أنها قومت فبلغت

(19/46)


قيمتها دية وثلثا من دية مخففة، أو كانت الابل قد أعوزت فأوجبوا قيمة الابل فبلغت قيمتها ذلك.
(فرع)
إذا قتل الصبى أو المجنون عمدا فإن قلنا ان عمدهما عمد
وجب بقتلهما دية مغلظة، وان قلنا عمدهما خطأ وجب بقتلهما دية مخففة.
وإن كانت الجناية على ما دون النفس كان الحكم في التغليظ بديتها حكم دية النفس، قياسا على دية النفس.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتجب الدية من الصنف الذى يملكه من تجب عليه الديه من القاتل أو العاقلة كما تجب الزكاة من الصنف الذى يملكه من تجب عليه الزكاة، وان كان عند بعض العاقلة من البخاتى وعند البعض من العراب أخذ من كل واحد منهم من الصنف الذى عنده، وان اجتمع في ملك كل واحد منهم صنفان ففيه وجهان
(أحدهما)
انه يؤخذ من الصنف الاكثر، فإن استويا دفع مما شاء منهما
(والثانى)
يؤخذ من كل صنف بقسطه بناء على القولين فيمن وجبت عليه الزكاة وما له أصناف وإن لم يكن عند من تجب عليه الدية إبل وجب من غالب إبل البلد، فإن لم يكن في البلد إبل وجب من غالب أقرب البلاد إليه، كما قلنا في زكاة الفطر.
وإن كانت إبل من تجب عليه الدية مراضا أو عجافا كلف أن يشترى إبلا صحاحا من الصنف الذى عنده لانه بدل متلف من غير جنسه فلا يؤخذ فيها معيب كقيمة الثوب المتلف، وان أراد الجاني دفع العوض عن الابل مع وجودها لم يجبر الولى على قبوله، وإن أراد الولى أخذ العوض عن الابل مع وجودها لم يجبر الانى على دفعه لان ما ضمن لحق الآدمى ببدل لم يجز الاجبار فيه على دفع العوض ولا على أخذه مع وجوده كذوات الامثال، وإن تراضيا على العوض جاز لانه بدل متلف فجاز أخذ العوض فيه بالتراضى كالبدل في سائر المتلفات
(فصل)
وان أعوزت الابل أو وجدت بأكثر من ثمن المثل ففيه قولان قال في القديم يجب ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم، لما روى عمرو بن حزم

(19/47)


أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل اليمن في النفس مائة من الابل، وعلى أهل الذهب ألف مثفال، وعلى أهلا لورق إثنا عشر ألف درهمه.
وروى ابن عباس رضى الله عنه أن رجلا قتل عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته إثنى عشر ألفا، فعلى هذا إن كان في قتل يوجب التغليظ غلظ بثلث الدية، لما رويناه عن عمرو عثمان وابن عباس في تغليظ لدية للحرم، وقال في الجديد: تجب قيمة الابل بالغة ما بلغت، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قال: كانت قيمة الدية عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رضى الله عنه فقام عمر خطيبا فقال (ألا إن الابل قد غلت قال: فقوم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل ا؟ رق اثنا عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفى شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة) ولان ما ضمن بنوع من المال وتعذر وجبت قيمته كذوات الامتثال.
(الشرح) أثر عمر أخرجه أبو داود والبيهقي.
أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولا أكلف أحدا من العاقلة غير إبله، ولا نقل منه دونها.
وجملة ذلك أنه قد مضى الكلام في قدر الدية وجنسها وأسنابها وأما نوعها فإن كان للعاقلة إبل وجبت عليهم من النوع الذى معهم من الابل، لان العاقلة تحمل الدية على طريق المواساة، فكان الواجب من النوع الذى يملكونه كما قلنا في الزكاة، بان طلب الولى أعلى مما مع العاقلة من النوع، وامتنعت العاقلة أو طلبت العاقلة أن يدفعوا من النوع دون النوع الذى معها وامتنع الولى لم يجبر الممتنع منهما كما قلنا في الزكاة، فان كان عند بعض العاقلة من البخاتى عند البعض من العراب أخذ من كل واحد من النوع الذى عنده كما قلنا في الزكاة أنه
يجب على كل إنسان مما عنده من النوع، وان كان في ملك واحد منهم نوعان من الابل ففيه وجهان
(أحدهما)
يؤخذ منه من النوع الاكثر، فإن استويا دفع من أيهما شاء
(والثانى)
يؤخذ من كل نوع بقسطه باء على القولين في الزكاة إذا كان

(19/48)


عنده نوعان من جنس الماشية، وإن كانت إبلهم أو إبل بعضهم مراضا بجرب أو غيره أو مهزولة هزالا فاحشا لم يجبر الولى على قبولها، بل يكلف أن يسلم إبلا صحاحا من النوع الذى عنده لقوله صلى الله عليه وسلم (في النفس مائة من الابل) وإطلاق هذا يقتضى الصحيح فإن قيل هلا قلتم يجبر الولى على قبول ما عند من عليه الدية وإن كانت مراضا كما قلنا في الزكاة؟ قلنا الفرق بينهما أن الواجب في الزكاة هو واجب في غير المال الذى عنده أو في ذمته والمال مرتهن، فلذلك وجب مما عنده، وليس كذلك هاهنا فإن الواجب على كل واحد منهم هو من النقد في الذمة والمال غير مرتهن به، وإنما الابل عوض منه فلم يقبل منه إلا السليم، فإن لم يكن للعاقلة إبل فإن كان في البلد نتاج غالب وجب عليهم التسليم من ذلك النتاج، وان لم يكن في البلد إبل وجب من غالب نتاج أقرب بلد إليهم كما قلنا في زكاة الفطر (فرع)
وإن أرادت العاقلة أن تدفع عوضا عن الابل مع وجودها لم يجبر الولى على قبولها، وكذلك ان طالب من له الدية عوض الابل لم تجبر العاقلة على دفعه، لان ما ضمن لحق الآدمى يبدل لم يجبر على غيره كذوات الامثال، فإن تراضيا على ذلك قال أصحابنا جاز ذلك لانه حق مستقر فجاز أخذ البدل عنه كبدل المتلفات، والذى يقتضى المذهب أن هذا إنما يجوز على القول الذى يجيز الصلح
على إبل الدية وبيعها في الذمة (فرع)
وإن كانت الدية تجب على الجاني بأن كانت الجناية عمدا أو خطأ ثبت بإقراره، فإن الواجب عليه من النوع الذى عنده قياسا على العاقلة، والحكم فيه إذا كان عنده نوعان، أو كانت إبله مراضا في أخذ العوض حكم الابل إذا كانت واجبة على العاقلة على ما مضى بيانه (مسألة) كثير من بلاد الاسلام لايعرف أهلها الابل ولم يروها، كالملايو وأندونيسيا والفلبين وفطانى (1) وبلاد أخرى لا توجد فيها الابل إلا بأثمان غالية
__________
(1) فطانى هو إقليم من أقاليم مليزيا ضمه الكفار إلى تايلند، ويبلغ سكان هذا الاقليم ثلاثة ملايين مسلم سنى شافعي فاللهم خذ بأيديهم وحرر ديارهم.

(19/49)


بأكثر من قيمتها ففيه قولان، قال في القديم يعدل إلى بدل مقدر، فيجب على أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل لورق اثنى عشر ألف درهم، وبه قال مالك وهى تبلغ نحو خمسة آلاف جنيه أو عشرة آلاف دولار تقريبا.
وقد روى عمرو ابن حرم أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في الدية بألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم.
فعلى هذا تكون الدية ثلاثة أصول عند إعواز الابل وقال في الجديد تجب قيمة الابل من نقد البلد بالغة ما بلغت، لما روى عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: كانت قيمة الدية عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثمانمائة دينار.
وروى ثمانية آلاف درهم، فكانت كذلك إلى أن استخلف عمر رضى انه عنه فقلت الابل، فصعد المنبر خطيبا وقال: ألا ان الابل قد غلت، ففرض الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألف درهم فموضع الدليل من الخبر أنه قال: كانت قيمة الدية عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كذا وكذا، فدل على أن الواجب هو الابل، ولان عمر رضى الله عنه قال: ألا
ان الابل قد غلت وفرض عليه مألف دينار أو اثنى عشر ألف دذرهم فتعلق بغلاء الابل فدل على أن ذلك من طريق القيمة، لان ما وجبت قيمته اختلف بالزيادة والنقصان ولم يخالف أحد من الصحابة.
وما روى من الاخبار للاول فنحمله على أن ذلك من طريق القيمة، فعليه ذا لا يكون للدية إلا أصل واحد وهى الابل فإن كانت الدية مغلظة وأعوزت الابل فإن قلنا بقوله الجديد قومت مغلظة بثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة.
وان قلنا بقوله القديم ففيه وجهان حكاهما في العدة.

(أحدهما)
تغلظ بثلث الدية، ولم يذكر المصف غيره لما ذكره عن عمر وعثمان وابن عباس رضى الله عنهم
(والثانى)
يسقط التغليظ، لان التغليظ عندنا إنما هو بالصفة في الاصل لا بالزيادة في العدد، وذلك انما يمكن في الابل دون النقد، ألا ترى أن العبد لما لم تجب فيه الا القيمة فيه التغليظ.
وما روى عن الصحابة رضى الله عنهم فقد ذكرنا أنه انما قيمة ما أوجبوه هذا مذهبنا وقال أبو حنيفة: الواجب في الدية ثلاثة أصول مائة من الابل أو ألف دينار

(19/50)


أو عشرة آلاف درهم فيجوز له أن يدفع أيها شاء مع وجود الابل ومع إعوازها وقال الثوري والحسن البصري وابن أبى ليلى وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل الدية خمسة أصول مائة من الابل أو ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم أو مائتا بقرة لحديث جابر (فَرَضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدية على أهل الابل مائة من الابل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفى شاء، وعلى أهل الحلل مائتي حلة) رواه أبو داود بسند ضعيف وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه مثله من حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
والاصل الخامس مائتا حلة، وهى برود مكونة من قطعتين كالجبة والقفطان، أو العباءة والزبون، أو الجاكتة والبغطلون، فجميع الحال في كل قوم مؤلفة من ثوبين، الا أن أبا يوسف ومحمد يقولان: هو مخير بين الستة أيها شاء دفع مع وجود الابل ومع عدمها وعند الباقين لا يجوز العدول عن الابل مع وجودها، دليلنا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن يبين فيه الفرائض والسنن، وأن في النفس مائة من الابل، وحديث (ألا ان في قتيل العمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الابل)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسى ثلثا عشر دية المسلم، لما روى سعيد بن المسيب (أن عمر رضى الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسى ثمانمائة درهم.
وأما الوثني إذا دخل بأمان وعقدت له هدنة فديته ثلثا عشر دية المسلم، لانه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه فكانت ديته ثلثى عشر دية المسلم كالمجوسي وأما من لم تبلغه الدعوة فإنه ان عرف الدين الذى كان متمسكا به وجبت فيه دية أهل دينه، وان لم يعرف وجبت فيه دية المجوسى، لانه متحقق وما زاد مشكوك فيه فلم يجب.
وقال أبو إسحاق: إن كان متمسكا بدين مبدل وجبت فيه دية أهل ذلك الدين

(19/51)


وإن كان متمسكا بدين لم يبدل وجبت فيه دية مسلم، لانه مولود على الفطرة، ولم يظهر منه عناد فكملت ديته كالمسلم، والمذهب الاول، لانه كافر فلم تكمل ديته كالذمي.
وإن قطع يد ذمى ثم أسلم ومات وجبت فيه دية مسلم، لان الاعتبار في
الدية بحال استقرار الجناية، وهو في حال الاستقرار مسلم.
وإن جرح مسلم مرتدا فأسلم ومات من الجرح لم يضمن.
وقال الربيع: فيه قول آخر أنه يضمن، لان الجرح استقر وهو مسلم.
قال أصحابنا: هذا من كيس الربيع، والمذهب الاول، لان الجرح وجد فيما استحق إتلافه فلم يضمن سرايته، كما لو قطع الامام يد السارق فمات منه
(فصل)
ودية المرأة نصف دية الرجل، لانه روى ذلك عن عمر وعثمان وعلى وابن عباس وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهم (الشرح) خبر سعيد بن المسيب رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي.
أما قوله روى ذلك عن عمر وعثمان وعلى الخ، فقد أخرج ابن أبى شيبة عن عمر قال (دية المرأة نصف دية الرجل) كما أخرج البيهقى عن على رضى الله عنه (دية المرأة على النصف من دية الرجل) وهو من رواية ابراهيم النخعي عنه، وفيه انقطاع، وأخرجه ابن أبى شيبة من طريق الشعبى عنه وأخرج البيهقى عن معاذ بن جبل عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (دية المرأة نصف دية الرجل) قال البيهقى إسناده لا يثبت مثله.
وقال في بداية المجتهد: إن الاشهر عن ابن معسود وعثمان وشريح وجماعة: أن دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلا الموضحة فإنها على النصف أما الاحكام فإن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، وبه قال عمر وعثمان رضى الله عنهما وابن المسيب وعطاء واسحاق.
وقال عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز ومالك: ديته نصف دية المسلم، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عقل الكافر نصف دية المسلم) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه، وصححه ابن الجارود.
وفى لفظ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم

(19/52)


اليهود والنصارى، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والزهرى وزيد بن على والقاسمية (ديته كذية المسلم) وقال أحمد (ان قتله عمدا فديته مثل دية المسلم) دليلنا ما روى أبو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (كانت قيمة الدية عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهمه، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم.
قال، وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال إن إلابل قد غلت.
قال ففرضها عمر على أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفى شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة.
قال وترك دية أهل الذمة ليرفعها فيما رفع من الدية) فإذا كانت الدية ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم للمسلم والذمى على النصف من ذلك ثم زاد من قيمة الدية للمسلم من حيث لم يزدها لاهل الكتاب تبين لنا أن دية المسلم التى بلغت ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم مع باء دية الذمي أربعمائة دينار أو أربعة آلاف درهم، لانها لم ترفع فيما رفع من الدية.
نقول تبين لنا أن دية الذمي على الثلث من دية المسلم (فرع)
دية المجوسى ثلثا عشر دية المسلم، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة ديته مثل دية المسلم.
وقال عمر بن عبد العزيز ديته مثل دية اليهودي والنصراني وهو نصف دية المسلم عنده دليلنا ما روى عن عمر وعثمان وابن مسعود وغيرهم أنهم قالوا (دية المجوسى ثمانمائة درهم ثلثا عشر دية المسلم، فإذا كانت دية المسلم إثنا عشر ألف درهم فان ثلثى عشرها ثمانمائة، ولا مخالف لهم في الصحابة، فدل على أنه إجماع.
وأما عبدة الاوثان إذا كان بيننا وبينهم هدنة أو دخلوا الينا بأمان فلا يجوز قتلهم.
فمن قتل منهم وجبت فيه دية المجوسى لانه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه فكانت ديته كالمجوسي ثلثى عشر دية المسلم.
وأما الكافر الذى لم تبلغه الدعوة فلا يجوز
قتله حتى يعرف أن ها هنا رسولا يدعو إلى الله، فإن أسلم وإلا فتل، فإن قتله قاتل قبل أن تبلغه الدعوة وجبت فيه الدية وقال أبو حنيفة (لادية فيه) دليلنا أنه محقون الدم فوحبت فيه الدية كالذمي إذا ثبت هذا فاختلف أصحابنا في قدر ديته، فمنهم من قال تجب فيه دية المسلم، لانه مولود على الفطرة.
ومنهم من قال ان كان متمسكا بدين مبدل وجبت فيه

(19/53)


دية أهل ذلك الدين، مثل أن يكون متمسكا بدين من بدل من اليهودية والنصرانية وإن كان متمسكا بدين من لم يبدل منهم وجبت فيه دية مسلم لانه مسلم لم يظهر منه عناد.
ومن هم من قال تجب فيه دية المجوسى لانه يقين، وما زاد مشكوك فيه وهذا هو الاصح لان الشافعي رضى الله عنه قال هو كافر لا يحل قتله، وإذا كان كافرا وجبت فيه أقل دياتهم لانه اليقين.
وإن قطع يد ذمى ثم أسلم ثم مات من الجراحة وجبت فيه دية مسلم، لان الاعتبار بالدية حال الاستقرار.
وإن قطع مسلم يد..ثم أسلم ثم مات من الجراحة لم يضمن القاطع دية النفس ولا دية اليد.
وقال الربيع فيه قول آخر أنه يضمن دية اليد، والمذهب الاول لانه قطعه في حال لا يجب ضمانه، وما حكاه الربيع من تخريجه.
(مسألة) دية المرأة نصف دية الرجل، هذا قول العلماء كافة إلا الاصم وابن علية فإنهما قالا ديتها مثل دية الرجل.
دليلنا ما سقناه مِنْ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أهل اليمن وفيه (أن دية المرأة نصف دية الرجل) وما حكاه المصنف عن عمرو عثمان وعلى وابن مسعود وابن عمرو ابن عباس وزيد ابن ثابت أنهم قالوا (دية المرأة نصف دية الرجل) ولا مخالف لهم في الصحابة فدل على أنه إجماع، وإن قتل خنثى مشكلا وجبت فيه دية امرأة لِأَنَّهُ يَقِينٌ،
وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يجب بالشك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ودية الجنبين الحر غرة عبد أو أمة، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الاخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ دية جنينها غرة عبد أو أمة، فقال حمل ابن النابغة الهذلى كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل؟ ومثل ذلك يطل؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ من إخوان الكهان، من أجل سجعه) وإن ضرب بطن امرأة منتفخة البطن فزال الانتفاخ، أو بطن امرأة تجد حركة في بطهنها فسكنت الحركة، لم يجب عليه شئ لانه يمكن أن يكون ريحا

(19/54)


فانفشت فلم يجب الضمان مع الشك وإن ضرب بطن امرأة فألقت مضغة لم تظهر فيها صورة الآدمى فشهد أربع نسوة أن فيها صورة الآدمى وجبت فيها الغرة، لانهن يدركن من ذلك ما لا يدرك غيرهن، وإن ألقت مضغة لم تتصور فشهد أربع نسوة أنه خلق آدمى، ولو بقى لتصور، فعلى ما بيناه في كتاب عتق أم الولد وان ضرب بطن امرأة فألقت يدا أو رجلا أو غيرهما من أجزاء الآدمى وجبت عليه الغرة، لانا تيقنا أنه من حنين، والظاهر أنه تلف من جناية فوجب ضمانه وإن ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة، لانه يجوز أن يكون جنينا برأسين أو أربعة أيد، فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك وان ضرب بطنها فألقت جنينا فاستهل أو تنفس أو شرب اللبن ومات في الحال أو بقى متألما إلى ان مات، وجبت فيه دية كاملة وقال المزني أن ألقته لدون ستة أشهر ومات ضمنه بالغرة ولا يلزمه دية كاملة لانه لم يتم له حياة، وهذا خطأ، لانا تيقنا حياته، والظاهر أنه تلف من
جنايته فوجب عليه دية كاملة، وإن ألقته حيا وجاء آخر وقتله فإن كان فيه حياة مستقرة كان الثاني هو القاتل في وجوب القصاص والدية الكاملة، والاول ضارب في وجوب التعزير وان قتله وليس فيه حياة مستقرة فالقاتل هو الاول، ولتزمه الدية، والثانى ضارب وليس بقاتل، لان جنايته لم تصادف حياة مستقرة، وان ضرب بطن امرأة فألقت جنينا وبقى زمانا سالما غير متألم ثم مات لم يضمنه، لان الظاهر أنه لم يمت من الضرب ولا يلزمه ضمانه.
وان ضربها فألقت جنينا فاختلخ ثم سكن وجبت فيه الغرة دون الدية، لانه يجوز أن يكون اختلاجه للحياة، ويجوز أن يكون بخروجه من مضيق، لان اللحم الطرى إذا حصل في مضيق انقبض، فإذا خرج منه اختلج، فلا تجب فيه الدية الكاملة بالشك (الشرح) حديث أبى هريرة أخرجه أحمد في مسنده، وكذا أخرجه البخاري في الفرائض عن قتيبة وفى الديات عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الحدود والترمذي وفى الفرائض عن قتيبه، وأخرجه عن المغيرة بن شعبة مسلم في الديات عن

(19/55)


إسحاق بن ابراهيم، وعن محمد بن رافع وأبو داود فيه عن حفص بن عمر، وعن عثمان بن أبى شيبة والترمذي فيه عن الحسن بن على والنسائي في القود عن على بن محمد بن على وعلى بن سعيد ومحمد بن قدامة ومحمد بن بشار وسويد بن نصر ومحمود ابن غيلان، وابن ماجه فيه عن على بن محمد.
وكذا أخرجه أحمد، وأخرجه عن ابن عباس أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه.
أما اللغات فإن الجنين سمى بذلك لانه استجن في البطن، أي استتر واختفى وهو وصف له ما دام في بطن أمه.
والجمع أجنة مثل دليل وأدلة، والغرة عبد أو أمة، والغرة عند العرب أنفس شئ يملك، وقوله ومثل ذلك يطل.
طل
دم فلان مبنى للمجهول فلا يطالب، قال الشاعر: دماؤهم ليس لها طالب
* مطلولة مثل دم العذرة قال أبو زيد: ولا يقال طل دم فلان بفتح الطاء.
قال في الصحاح وأبو عبيدة والكسائي يقولانه.
وقال أبو عبيدة فيه ثلاث لغات، طل بفتح الطاء وضمها، وأطل بزيادة الهمز المضمونة والطاء المكسورة، والكهان جمع كاهن الذى يدعى علم الغيب، والسجع هو الكلام المقفى.
وفى رواية أحمد ومسلم وأبى داود والنسائي (سجع مثل سجع الاعراب) وقد استدل بذلك على ذم السجع ويوضح المراد قوله (أسجع الجاهلية وكهانتها) فظهر أن المذموم من السجع إنما هو ما كان من ذلك القبيل الذى يراد به إبطال شرع أو إثبات باطل أو كان متكلفا.
وقد حكى النووي عن العلماء أن المكروه منه ما كان كذلك لا غيره، هكذا أفاده الشكوكانى في النيل.
أما الاحكام فإذا ضرب ضارب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا حرا ففيه غرة عبد أو أمة لحديث المغيرة بن شعبة، وروى أن عمر رضى الله عنه قال (أذكر الله امرءا سمع من النبي في الجنين شيئا فقام حمل بن مالك فقال كنت بين جاريتين لى يعنى زوجتين فضربت إحداهما الاخرى بمسطح فقتلتها وما في جوفها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والجنين الذى تجب فيه الدية هو أن يسقط جنينا بان فيه شئ من صورة

(19/56)


الآدمى إما يد أو رجل أو عين.
وكذلك إذا سقطت مضعة لم يتبين فيها عضو من أعضاء الآدمى، ولكن قال أربع نسوة من القوابل الثقات أو عالمان في الطب البشرى أو علم الا جنبة أن فيها تخطيطا لآدمي، إلا أنه خفى فتجب فيه الغرة لان
هؤلاء يدركون ما لا يدركه غيرهم.
وان قلن اولا قالا لم يخطط إلى الان ولكنه مبتدأ خلى آدمى، ولو بقى لتخطط فهل تجب به الغرة والكفارة وتنقضي به العدة اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال في الجميع قولان، ومنهم من قال تنقضي به العدة ولا تجب به الغرة ولا الكفارة قولا واحدا، وقد مضى ذلك، وان قلن أو قالا هذه مضغة تصلح للآدمي ولغيره، ولا ندرى لو بقيت هل تتخطط أم لا؟ فلا تجب به الغرة ولا الكفارة ولا تنقضي به العدة، لان الاصل براءة الذمة من الضمان وثبوت العدة.
وان ألقت المرأة جنينين وجبت عليه غرتان، وان ألقت ثلاثة وجبت عليه ثلاث غرر، وان ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب فيه الا غرة، لانه قد يكون له جسد واحد ذا رأسين أو أربع أيد فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك (فرع)
إذا ضرب بطن امرأة منتفخة البطن فزا الانتفاخ، أو بطن امرأة تجد حركة فسكنت الحركة لم يجب عليه شئ، وان ضرب بطن امرأة فماتت ولم يخرج الجنين لم يجب عليه ضمان الجنين وقال الزهري إذا سكنت الحركة التى تجد في بطنها وجب عليه ضمان الجنين دليلنا أنا انما نحكم بوجود الحمل في الظاهر، وانما نتحققه بالخروج، فإذا لم يخرج لم يتحقق أن هناك حملا بل يجوز أن يكون ريح فينفش فلا يلزمه الضمان بالشك وان ضرب بطن امرأة فماتت ثم خرج الجنين معها بعد موتها ضمن الام بديتها وضمن الجنين بالغرة.
وقال أبو حنيفة لا يضمن الجنين.
وَدَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في الجنين بغرة عبدأو أمة، ولم يفرق بين أن يخرج قبل مرت أمه أو بعده، ولان كل حمل كل مضمونا إذا خرج قبل موت الام كان مضمونا إذا خرج بعد موتها كما لو ولدته حيا، وان ضرب بطنها فأخرج الجنين رأسه وماتت ولم يخرج

(19/57)


الباقي وجب عليه ضمان الجنين وقال مالك لا يجب عليه شئ دليلنا أن بظهور الرأس تحققنا أن هناك جنينا والظاهر أنه مات من ضربته فوجب عليه ضمانه.
(فرع)
إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا فصرخ ثم مات عقيبه أو بقى متألما إلى أن مات وجبت فيه دية كاملة، سواء ولدته لستة أشهر أو لما دونها، فإن لم يصرخ ولكنه تنفس أو شرب اللبن أو علمت حياته بشئ من ذلك ثم مات عقيبه أو بقى متألما إلى أن مات وجبت فيه دية كاملة وقال المزني إن ولدته حيا لدون ستة أشهر لم يجب فيه دية كاملة، إنما يجب فيه الغرة لانه لا تتم له حياة لما دون ستة أشهر وقال مالك والزهرى (إذا لم يستهل بالصراخ لم تجب فيه الدية الكاملة وإنما تجب فيه الغرة) دليلنا أثنا قد تحققنا حياته فوجب فيه دية كاملة كما لو ولدته لستة أشهر عند المزني، وحما لو استهل صارخا عن مالك ولو ضرب بطنها فألقت جنينا وفيه حياة مستقرة ثم جاء آخر وقتله فالقاتل هو الثاني فيجب عليه القود إن كان مكافئا أو الدية الكامله.
وأما الاول فلا يجب عليه إلا التعزير بالضرب لا غير، لانه لم يمت من ضربه، وإن ضرب بطنها فألقت جنينا فلم يستهل ولا تنفس ولا تحرك حركة تدل على حياته ولكنه اختلج لم تجبفيه الدية الكاملة، وإنما تجب فيه الغرة، لان هذا الاختلاج لا يدل على حياته، لان اللحم إذا عصر ثم ترك اختلج، ويجوز أن يكون اختلاجه لخروجه من موضع ضيق.
وإن ضرب بطن امرأة فألقت يدا ثم أسقطت بعد ذلك جنينا ناقص يد نظرت فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت الجنين، فإن ألقته ميتا وجبت فيه الغرة ويدخل فيها اليد، لان الظاهر أن الضرب قاطع يده، وإن ألقته حيا ثم مات عقيب الوضع أو بقى متألما إلى أن مات ففيه دية كاملة، ويدخل فيها
دية اليد، وإن خرج الجنين حيا وعاش لم يجب عليه في الجنين شئ ووجب عليه ضمان اليد فتعرض اليد على القوابل أو عالمين في الاجنة، فإن قلن أو قالا إنها من جملته لم تنفخ فهيا الروح وجبت فيها نصف الغرة، وان قلن أو قالا انها فارقت جملة تنفخ فيها الروح وجب فيها نصف دية كامله.
فأما إذا سقطت اليد ثم زال

(19/58)


ألم الضرب ثم ألقت الجنين ضمن اليد دون الجنين، لانه بمنزلة من قطع يد رجل ثم اندملت فإن خرج الجنين ميتا وجب في اليد ثم الغرة، وان خرج حيا ثم مات أو عاش عرضت اليد على القوابل أو عالمى أجنة فإن قلن أو قالا انها فارقت جملة لم ينفخ فيها الروح وجب فيها نصف الغرة، وان قلن أو قالا انها فارقت جمله ينفخ فيها الروح كان فيها نصف الدية، وان ضرب بطن امرأة فألقت يدا ثم ماتت الام ولم يخرج الباقي وجبت دية الام ووجبت في الجنين الغرة، لان الظاهر أنه جنى على الجنين فأبان يده ومات من ذلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يقبل في الغرة ماله دون سبع سنين، لان الغرة هي الخيار، ومن له دون سبع سنين ليس من الخيار بل يحتاج إلى من يكفله، ولا يقبل الغلام بعد خمس عشرة سنة لانه لا يدخل على النساء، ولا الجارية بعد عشرين سنة لانها تتغير وتنقص قيمتها فلم تكن من الخيار ومن أصحابنا من قال يقبل ما لم يطعن في السن عبدا كان أو أمة، ولا يقبل إذا طعن في السن لانه يستغنى بنفسه قبل أن يطعن في السن، ولا يستغنى إذا طعن في السن، ولا يقبل فيه خصى وان كثرت قيمته، ولا معيب وان قل عيه؟ لانه ليس من الخيار، ولا يقبل الا ما يساوى نصف عشر الدية، لانه روى ذلك عن زيد بن ثابت رضى الله عنه، ولانه لا يمكن ايجاب دية كاملة لانه لم
يكمل بالحياة، ولا يمكن اسقاط ضمانه لانه خلق بشر فضمن بأقل ما قدر به الارش وهو نصف عشر الدية، لانه قدر به ارش الموضحة ودية السن، ولا يجبر على قبول غير الغرة مع وجودها، كما لا يقبل في دية النفس غير الابل مع وجودها، فإن أعوزت الغرة وجب خمس من الابل، لان الابل هي أصل في الدية، فإن أعوزت وجبت قيمتها في أحد القولين، أو خمسون دينارا أو ستمائة درهم في القول الآخر فإن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففه، وان كانت عمدا أو عمد خطأ وجبت دية مغلظه كما قلنا في الدية الكامله

(19/59)


وإن كان أحد أبوبه نصرانيا والاخر مجوسيا وجب فيه عشر دية نصراني لان في الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب وفى الاخر ما يسقط غلب الايجاب ولهذا لو قتل المحرم صيدا متولدا بين مأكول وغير مأكول وجب على الجزاء وإن ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني ثم أسلمت ثم ألقت جنينا ميتا، وجبفيه نصف عشر دية مسلم، لان الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية، والجنين مسلم عند استقرار الجناية، فوجب فيه نصف عشر دية مسلم، وما يجب في الجنين يرثه ورثته لانه بدل حر، فورث عنه كدية غيره.
(الشرح) الكلام في الغرة والسن في حديه الادنى والاقصى من البحوث غير العملية التى تلحق بأبواب العتق، أما البدل عند إعواز الغرة ففيه نقول: اختلاف أصحابنا فيما ينتقل إليه فقال المصنف وابن الصباغ ينتقل إلى خمس من الابل لانها هي الاصل في الدية.
فإن أعوزت الابل انتقل إلى قيمتها في القول الجديد والى خمسين دينارا أو ستمائة درهم في القول القديم وقال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا: إذا أعوزت الغرة انتقل إلى قيمتها في قوله الجديد، كما لو غصب منه عبدا فتلف، وينتقل إلى خمس من الابل في قوله
القديم، فإن اعوزت الابل انتقل إلى قيمتها في أحد القولين، والى خمسين دينارا أو ستمائة درهم في الاخر.
(فرع)
ان كان الابوان مسلمين وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الاب أو عشر دية الام، وان كانا ذميين وجبت الدية مقدرة بنصف عشر دية الاب أو عشر دية الام، وكذلك إذا كان الابوان مجوسيين فإنهما يعتبر من ديتهما، وان كان أحد الابوين نصرانيا والاخر مجوسيا اعترت دية الجنين بعشر دية النصراني لانه إذا اتفق في بدل النفس ما يوجب الاسقاط وما يوجب الايجاب غلب الايجاب، كما قلنا في السبع المتولد بنى الضب والذئب (1) إذا قتله المحرم.
هذا نقل أصحابنا البغداديين وقال المسعودي: الجنين اليهودي والنصراني والمجوسي لا تجب فيه الغرة
__________
(1) كتاب الحج باب جزاء الصيد ج 8

(19/60)


وانما يجب فيه نصف عشر دية الاب، وإذا كانا مختلفى الدين فقد خرج فيه قول آخر أن الاعتبار بالاب.
وقال ابن سلمة: يعتبر بأقلهما دية والاول أصح (فرع)
إذا ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني فأسلمت ثم أسقطت جنينا ميتا ففيه غرة مقدرة بنصف عشر دية المسلم، لان الاعتبار بالدية حال الاستقرار، وهى مسلمة حال الاستقرار.
وان ضرب بطن مرتدة فأسلمت ثم أسقطت جنينا ميتا ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمنه وهو قول ابن الحداد المصرى لان الابتداء لم يكن مضمونا
(والثانى)
يضمنه اعتبارا بحال الاستقرار (فرع)
إذا وطئ مسلم وذمى ذمية بشبهة في طهر واحد ثم ضرب رجل بطنها وألقت جنينا ميتا عرض على القافة على الصحيح من المذهب، فإن ألحقته
بالمسلم وجب فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية المسلم وان ألحقته بالذمي وجبت فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية اليهودي وان أشكل الامر عليها وجب فيه ما يجب في الجنين اليهودي لانه يقين، فان كان يرجو انكشاف الامر لم نورث هذا المال أحدا ووقف إلى أن يبين الامر، وان لم يرج انكشاف الامر ترك حتى يصطلحوا عليه، فإن أراد الذمي والذميه ان يصطلحا في قدر الثلث جاز لانه لا حق للذمي فيه، ولا يخرج هذا القدر ما بينهما (فرع)
الغرة الواجبة في الجنين الحرير ثنا ورثته، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الليث بن سعد لا يورث عنه، وانما يكون لامه لانه بمثابه عضو منها، دليلنا أنه دية نفس تورث عنه كما لو خرج حيا، وان ضرب بطن نصرانيه فألقت جنينا ميتا فادعت أن هذا الجنين من مسلم زنى بها لم يجب فيه أكثر من دية جنين نصرانيه، لان ولد الزنا لا يلحق بالزانى.
قال الطبري، وان قالت وطئني مسلم بشبهة فكذبها الجاني والعاقلة، حلفوا على نفى العلم لان الظاهر أنه تابع لها.
وان صدقوها وجبت غرة مقدرة بنصف عشر دية مسلم، وان صدقها العاقلة دون الجاني لم يؤثر تكذيب الجاني.
وان صدقها الجاني وكذبتها العاقلة حملت العاقلة دية جنين النصرانية ووجب الباقي في مال الجاني لانه وجب باعترافه، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(19/61)


قال المصنف رحمه الله: باب أروش الجنايات والجنايات التى توجب الاروش ضربان، جروح وأعضاء، فأما الجروح فضربان، شجاج في الرأس والوجه، وجروح فيما سواهما من البدن، فأما الشجاج فهى عشر، الخارصة وهى التى تكشط الجلد، والدامية وهى التى يخرج منها
الدم، والباضعة وهى التى تشق اللحم، والمتلاحمة وهى التى تنزل في اللحم، والسمحاق، وهى التى تسميها أهل البلد الملطاط، وهى التى تستوعب اللحم إلى أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم، والموضحة وهى التى تكشف عن العظم، والهاشمة وهى التى تهشم العظم، والمنقلة وتسمى أيضا المنقولة، وهى التى تنقل العظم من مكان إلى مكان، والمأمومة وتسمى أيضا الآمة وهى التى تصل إلى أم الرأس وهى جلدة رقيقة تحيط بالدماغ، والدامغة وهى التى تصل إلى الدماغ
(فصل)
والذى يجب فيه أرش مقدر من هذه الشجاج أربع، وهى الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة، فأما الموضحة فاواجب فيها خمس من الابل، لما روى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وفي الموضحة خمس من الابل) ويجب ذلك في الصغيرة والكبيرة، وفى البارزة والمستورة بالشعر، لان اسم الموضحة يقع على الجميع، وإن أوضح موضحتين بينهما حاجز وجب عليه أرش موضحتين، لان هما موضحتات.
وإن أزال الحاجز بينهما وجب أرش موضحة لانه صار الجميع بفعله موضحة واحدة، فصار كما لو أوضح الجميع من غير حاجز.
وإن تآكل ما بينهما وجب أرش موضحة واحدة، لان سراية فعله كفعله، وان أزال المجني عليه الحاجز وجب على الجاني أرش الموضحتين، لان ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غير هـ.
وإن جاء آخر فأزال الحاجز وجب على الاول أرش الموضحتين وعلى الاخر أرش موضحه، لان فعل أحدهما لا يبنى على الاخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته.

(19/62)


وان أوضح موضحتين ثم قطع اللحم الذى بينهما في الباطن، وترك الجلد الذى فوقهما، ففيه وجهان.

(أحدهما)
يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر
(والثانى)
يلزمه أرش موضحة لاتصالهما في الباطن، وإن شج رأسه شجة واحدة بعضها موضحة وبعضها باضعة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة، لانه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من أرش موضحة، فلان لا يلزمه والايضاح في البعض أولى.
وإن أوضح جميع رأسه وقدره عشرون أصبعا ورأس الجاني خمس عشرة أصبعا اقتص في جميع رأسه، وأخذ عن الربع الباقي ربع أرش موضحه وخرج أبو على بن أبى هريرة وجها آخر أنه يأخذ عن الباقي أرش موضحة، لان هذا القدر لو انفرد لوجب فيه أرش موضحة، وهذا خطأ لانه إذا انفرد كان موضحة فوجب أرشها، وههنا هو بعض موضحه فلم يجب فيه إلا ما يخصه.
(الشرح) حديث كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مضى تخريجه، وكذلك بيان لغات الفصل.
أما الاحكام فإن الجنايات على ما دون النفس شيئين: جراحات وأعضاء فأما الجراحات فضربان، شاج في الرأس والوجه، وجراحات فيما سواهما من البدن، فأما الشجاج في الرأس والوجه فعشرة: الخارصه، والداميه، والباضعه والمتلاحمة، والسمحاق، والموضحه، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغه، فالتى يجب فيها أرش مقدر من هذه الشجاج الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة، فالموضحة فيجب فيها خمس من الابل صغيرة كانت أو كبيرة، وبه قال أكثر الفقهاء وقال مالك ان كانت في الانف أو في اللحى الاسفل وجبت فيها حكومة.
وقال ابن المسيب يجب في الموضحة عشر من الابل.
دليلنا حديث أَبِي بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان في كتابه (أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فانه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وأن في النفس الدية
مائة من الابل وأن في الانف إذا أوعب جدعه الدية، وفى اللسان الدية

(19/63)


وفى الشفتين الدية، وفى البيضتين الدية، وفى الذكر الدية، وفى الصلب الدية، وفى العينين الدية، وفى الرجل الواحدة نصف الدية، وفى المأمومة ثلث الدية، وفى الجائفة ثلث الدية، وفى المنقله خمسة عشر من الابل، وفى كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الابل.
وفى السنن خمس من الابل، وفى الموضحة خمس من الابل،، وان الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولا وأبو داود في المراسيل، وصححه أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي، وقد تقدم الكلام عليه.
وقد أثبتنا رواية النسائي هنا لنرجع إليها ما يأتي من الديات عن كتب منها اتقاء التكرار.
(مسألة) إذا أوضحه موضحتين أو ثلاثا أو أربعا لكل موضحة خمس من الابل لعموم الخبر، فإن كثرت المواضح حتى زاد أرشها على دية النفس ففيه وجهان لاصحابنا الخراسانيين
(أحدهما)
لا يجب أكثر من دية النفس، لان ذلك ليس بأكثر حرمة من نفسه
(والثانى)
يجب بكل موضحة خمس من الابل وهو الشمهور لقوله صلى الله عليه وسلم (وفى الموضحة خمس من الابل) ولم يفرق، ولانه يجب في كل واحدة أرش مقدر فوجب، وإن زاد ذلك على دية النفس، كما لو قطع يديه ورجليه، فإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز ثم أزال الجاني هذا الحاجز لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة، لان فعل الانسان يبنى بغضه على بعض، كما لو قطع يديه ورجليه ثم مات، وكذلك ان تأكل ما بينهما بالجناية صار كما لو خرق ما بينهما لان سراية فعله كفعله فصار كما لو قطع يديه ورجليه وسرى ذلك إلى
نفسه، وإن خرق أجنبي ما بينهما وجب عليه أرش موضحه إن بلغ إلى العظم.
ووجب على الاول أرش موضحتين، لان فعل الانسان لا يبنى على فعل غيره وإن خرق المجني عليه ما بينهما صار ما فعله هدرا ولم يسقط بذلك عن الجاني شئ وإن أوضح رجلان في رأس رجل موضحتين واشتركا فيهما ثم جاء أحدهما وخرق ما بينهما وجب على الخارق نصف أرش موضحة، وعلى الذى لم يخرق أرش موضحه، لانهما لما أوضحاه أولا وجب على كل واحد منهما أرش موضحة

(19/64)


فإذا خرق أحدهما الحاجز بينهما صار في حقه كأنهما أوضحاه موضحة واحدة فكان عليه نصف أرشها ولم يسقط بذلك مما وجب على الاخر شئ (فرع)
إذا شج رجل آخر شجة، بعضها موضحه وبعضها باضعه وبعضها متلاحمه لم يجب عليه أكثر من أرش موضحه، لانه لو أوضحها جميعها لم يجب عليه أكثر من أرش موضحه، فلان لا يلزمه والايضاح في بعضها أولى وان أوضحه موضحتين وخرق اللحم الذى بينهما ولم يخرق الجلد الظاهر ففيه وجهان
(أحدهما)
يلزمه أرش موضحتين اعتبارا بالظاهر
(والثانى)
لا يلزمه إلا أرش موضحه اعتبار بالباطن.
وان أوضحه موضحتين وخرق الجلد الذى بينهما ولم يخرق اللحم لم يلزمه إلا أرش موضحه وجها واحدا، لانه لو خرق الظاهر والباطن بينهما لم يلزمه الا أرش موضحه، فلان لا يلزمه الا أرش موضحه ولم يخرق الا الظاهر أولى.
وان أوضحه موضحة في الرأس ونزل فيها إلى القفا وهو العنق وجب عليه أرش موصحه في الرأس وحكومه فيما نزل إلى القفا، لانهما عضوان مختلفان، وان أوضحه موضحة بعضها في الرأس وبعضها في الوجه ففيه وجهان، أحدهما يلزمه أرش موضحتين لانهما عضوان مختلفان، فهما كالرأس والقفا، والثانى
لا يلزمه الا أرش موضحه، لان الجميع محل للموضحه بخلاف القفا، والاول أصح لانهما مختلفان في الظاهر.
وان أوضح جميع رأسه ورأس المجني عليه عشرون أصبعا ورأس الجاني خمسة عشر أصبعا فاقتص منه في جميع رأسه، فإنه يجب للمجني عليه فيما بقى الارش، لانه لم يستوف قدر موضحته، وكم يجب له؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجب له أرش موضحه، لانه لو أوضحه قدر ذلك لوجب فيه أرش موضحه
(والثانى)
وهو الاصح أنه لا يجب له الا ربع أرش موضحه، لانه أوضحه موضحه وقد استوفى ثلاثة أرباعها فبقى له ربع أرشها.
وإذا وجب له أرش موضحه مغلظه فانه تجب له حفتان وثلاثه أبعره من النوعين الاخرين قال القاضى أبو الطيب: فيكون له بعير ونصف من الحقان، وبعير ونصف من الجذاع.

(19/65)


قال ابن الصباغ: وهذا يقتضى أن يأخذ قيمة الكسرين إلا أن يرضى أن يأخذهما من السن الاول، وهو أن يأخذ حقتين وجذعة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب في الهاشمة عشر من الابل لما روى قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت أنه قال (في الهاشمة عشر من الابل) وإن ضرب رأسه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ففيه وجهان.
أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه تجب فيه الحكومة، لانه كسر عظم من غير إيضاح، فأوجب الحكومة ككسر عظم الساق.
والثانى وهو قول أبى اسحاق أنه يجب فيه خمس من الابل، وهو الصحيح، لانه لو أوضحه وهشمه وجب عليه عشر من الابل، فدل على أن الخمس الزائدة لاجل الهاشمة، وقد وجدت الهاشمة فوجب فيها الخمس، وان هشم
هاشمتين بينهما حاجز وجب عليه أرش هاشمتين كما قلنا في الموضحتين
(فصل)
ويجب في المنقله خمس عشرة من الابل لما روى عمر بن حزم (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل اليمن في المنقلة خمس عشرة من الابل) وإن أوضح رأسه موضحة ونزل فيها إلى الوجه ففيه وجهان، أحدهما أنه يجب عليه أرش موضحتين لانه أوضح في عضوين فوجب أرش موضحتين، كما لو فصل بينهما.
والثانى يجب أرش موضحة لانها موضحه واحدة، فأشبه إذا أوضح في الهامه موضحه ونزل فيها إلى الناصبة، وإن أوضح في الرأس موضحه ونزل فيها إلى القفا وجب عليه أرش الموضحة في الرأس، ويجب عليه حكومه في الجراحه في القفا، لانه ليس بمحل للموضحه فانفرد الجرح فيه بالضمان
(فصل)
ويجب في المأمومه ثلث الديه لما روى عكرمه بْنِ خَالِدٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في المأمومه بثلث الديه، وأما الدامغة فقد قال بعض أصحابنا يجب فيها ما يجب في المأمومة، وقال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردى البصري: يجب عليه أرش المأمومة وحكومة لان خرق الجلد جناية بعد المأمومة فوجب لاجلها حكومة
(فصل)
وإن شج رأس رجل موضحة فجاء آخر فجلعها هاشمه، وجاء آخر

(19/66)


فجعلها منقلة، وجاء آخر فجعلها مأمومة، وجب على الاول خمس من الابل، وعلى الثاني خمس، وعلى الثالث خمس،، وعلى الرابع ثمانية عشر بعيرا وثلث، لان ذلك جناية كل واحد منهم.
(الشرح) أثر زيد بن ثابت أخرجه البيهقى، ثما حكاه البيهقى عن عدد من أهل العلم.
وقد اتفق أهل العلم على أنه لم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها تقدير، وحكوا عن مالك قوله: لا أعرف الهاشمة لكن في الايضاح خمس وفى
الهشم عقوبة.
وكان الحسن البصري لا يوقت فيها شيئا.
قال ابن المنذر: النظر يدل على قول الحسن البصري إذ لا سنة فيها ولا إجماع، ولانه لم ينقل فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير فوجبت فيها الحكومة كما دون الموضحة، وسيأتى نقضه.
أما مرسل عكرمة ذلك لانه ابن خالد بن العاص بن هشام المخزومى من التابعين، فإن في حديث عمر وبن حزم عن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن ما يغنى عنه.
أما الاحكام فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ (وقد حفظت عن عدد لقيتهم وذكر لى عنهم أنهم قالوا في الهاشمة عشر من الابل وبهذا أقول.
ثم قال ولو كانت الشجة كبيرة فهشمت موضعا أو مواضع بينهما شئ من العظم لم ينهشم كانت هاشمة واحدة لانها جناية واحدة، ولو كانت بينهما شئ من الرأس لم تشققه والضربة واحدة فهشمت مواضع كان في كل موضع منها انفصل حتى لا يصل به غيره مجروحا بتلك الضربة هاشمة، وهذا هكذا في المنقلة والمأمومة.
وممن قال في الهاشمة عشر من الابل أحمد بن حنبل وأبو حنيفة وقال مالك يجب فيها خمس من الابل وحكومة في كسر العظم، دليلنا ما روى عن زيد بن ثابت ولا مخالف له في الصحابة فكان اجماعا، ومثل حكم زيد يدل ظاهره على أنه توقيف ومن ثم لا يخلو من أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولانها شجة فوق الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدر كالمأمومة وإن ضرب وجهه أو رأسه بمثقل فهشم العظم من غير أن يقطع جلدا ولا

(19/67)


لحما ففيه وَجْهَانِ.
قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فيها حكومة لانها ليست بموضحة ولا هاشمة، وإنما كسر عظم، فهو كما لو كسر يده
وقال أبو إسحاق المرزوى عليه خمس من الابل، وهو الاصح لانه لو أوضحه وهشمه لوجب عليه عشر من الابل، ولو أوضحه ولم يهشمه لم يجب عليه إلا خمس من الابل، فدل على أن الخمس الزائدة لاجل الايضاح.
(فرع)
إذا شجه شجة بعضها موضحة وبعضها هاشمة وبعضها دون موضحة لم يجب عليه إلا عشر من الابل، لانه لو هشم الجميع لم يجب عليه الا عشر من الابل، فلان لا يلزمه الهشم في البعض أولى، وان هشمه هاشمتين بينهما حاجز لزمه أرش هاشمتين، وان أوضحه موضحتين وهشم العظم بكل واحدة منهما واتصل الهشم في البطان وجب عليه أرش هاشمتين وجها واحدا، والفرق بينهما وبين الموضحتين إذا اتصلتا في الباطن، لان الحائل قدر ارتفع بين الموضحتين في الباطن، وههنا اللحم والجلد بينهما باق فكاننا هاشمتين، وانما الكسر اتصل ولا اعتبار به، وبكل ما قلنا ذهب أحمد وأصحابه قوله (في المنقلة خمس عشرة من الابل) وفى رواية (خمسة عشر من الابل) قال في القاموس هي الشجة التى ينقل منها فراش العظام، وهى قشور تكون على العظم دون اللحم.
وفى النهاية لابن الاثير انها التى تخرج صغار العظام وتنقل عن أمكانها.
وقيل التى تنقل العظم أي تكسره وقد روى ذلك عن على وزيد بن ثابت والعترة وأحمد بن حنبل وأبى حنيفة.
قال ابن قدامه وهو إجماع أهل العلم.
أما تفصيلها فكما في تفصيل الموضحة والهاشمة قوله (ويجب في المأمومة ثلث الديه) قلت ارجع إلى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لاهل اليمن في أول الباب قال ابن عبد البر أهل العراق يقولون لها الآمه وأهل الحجاز المأمومه، وهى الجراحه الواصلة إلى أم الدماغ، سميت أم الدماغ لانها تحوطه وتجمعه، فاذإا وصلت الجراحه إليها سميت آمه ومأمومه، وأرشها ثلث الديه في قول عامة
أهل العلم إلا مكحولا فانه قال ان كانت عمدا ففيها ثلالثا الدية، وان كانت خطأ ففيها ثلاثا، هكذا نقله الشوكاني عن ابن المنذر

(19/68)


أما الدامغة وهى أن يخرق جلدة الدامغ وفيها ما في المأمومة، ولم يذكر متقدموا أصحاب أحمد الدامغة لمساواتها المأمومة في أرشها، قال ابن قدامة ويحتمل أنهم تركوا ذكرها لكونها لا يسلم صاحبها في الغالب.
وقال أبو الحسن الماوردى البصري صاحب الحاوى والاحكام السلطانية وأدب الدنيا والدين وغيرها وإمام أصحابنا العراقيين: يجب فيها حكومة مع ثلث الدية لخرق الغشاوة التى على الدماغ وبه قال بعض أصحاب أحمد كما أفاده ابن قدامة (فرع)
قال أبو العباس بن سريج: وان أوضحه رجل وهشمه آخر ونقله آخر وأمه آخر في موضع واحد وجب على الذى أوضحه خمس من الابل وعلى الذى هشمه خمس من الابل وعلى الذى نقله خمس من الابل وعلى الذى أمه ثمانى عشرة من الابل وثلث، لان ذلك قدر أرش جناية كل واحد منهم.
وهو اختيار المصنف هنا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأما الشجاج التى قبل الموضحة وهى خمسة: الخارصة والدامية والباضعة والمتلاحمة والسمحاق، فينظر فيها فإن أمكن معرفة قدرها من الموضحة بأن كانت في الرأس موضحة فشج رجل بجنبها باضعة أو متلاحمة وعرف قدر عمقها ومقدارها من الموضحة من نصف أو ثلاث أو ربع، وجب عليه قدر ذلك من أرش الموضحة، لانه يمكن تقدير أرشها بنفسها فلم تقدر بغيرها، وإن لم يمكن معرفة قدرها من الموضحة وجبت فيها الحكومة، لان تقدير الارش بالشرع ولم يرد الشرع بتقدير الارش فيما دون الموضحة، وتعذر معرفة قدرها من الموضحة
فوجبت فيها الحكومة.

(فصل)
وأما الجروح فيما سوى الرأس والوجه فضربان، جائفة وغير جائفة فأما غير الجائفة فهى الجراحات التى لا تصل إلى جوف، والواجب فيها الحكومة فإن أوضح عظما في غير الرأس والوجه أو هشمه أو نقله وجب فيه الحكومة، لانها لا تشارك نظائرها من الشجاج التى في الرأس والوجه في الاسم ولا تساويها في الشين والخوف عليه منها، فلم تساوها في تقدير الارش.
وأما الجائفة وهى

(19/69)


التى تصل إلى الجوف من البطن أو الظهر أو الورك أو الصدر أو ثغرة النحر، فالواجب فيها ثلث الدية، لما روى في حديث عمرو بن حزم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل اليمن (في الجائفة ثلث الدية) فإن أجاف جائفتين بينهما حاجز وجب في كل واحدة منهما الدية.
وإن أجاف جائفة فجاء آخر ووسعها في الظاهر والباطن وجب على الثاني ثلث الدية، لان هذا القدر لو انفرد لكان جائفة فوجب فيه أرش الجائفة فإن وسعها في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر وجب عليه حكومة، لان جنايته لم تبلغ الجائفة.
وإن جرح فخذه وجر السكين حتى باغ الورك وأجاف فيه، أو جرح الكتف وجر السكين حتى باغ الصدر وأجاف فيه، وجب عليه أرش الجائفة وحكومة في الجراحة، لان الجراحة في غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان كما قلنا فيمن نزل في موضحة الرأس إلى القفا.
وإن طعن بطنه بسنان فأخرجه من ظهره، أو طعن ظهره فأخرجه من بطنه وجب عليه في الداخل إلى الجوف أرش الجائفة لانها جائفه، وفى الخارج منه إلى الظاهر وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص أنة جائفة، ويجب فيها أرش جائفة
أخرى لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أن عمر رضى الله عنه قضى في الجائفة إذا نفذت من الجوف جائفتان) ولانها جراحة نافذة إلى الجوف فوجب فيها أرش جائفة كالداخلة إلى الجوف
(والثانى)
ليس بجائفة، ويجب فيها حكومه، لان الجائفة ما تصل من الظاهر إلى الجوف، وهذه خرجت من الجوف إلى الظاهر فوجب فيها حكومه.

(فصل)
وان طعن وجنته فهشم العظم ووصلت إلى الفم ففيه قولان
(أحدهما)
أنها جائفة ويجب فيها ثلث الدية، لانها جراحة من ظاهر إلى جوف فأشبهت الجراحه الواصلة إلى الباطن
(والثانى)
أنه ليس بجائفه، لانه لا تشارك الجائفة في إطلاق الاسم ولا تساويها في الخوف عليه منها، فلم تساوها في أرشها، فعلى هذا يجب عليه دية هاشمه لانه هشم العظم ويجب عليه حكومه لما زاد على الهاشمه

(19/70)


(فصل)
وان خاط الجائفة فجاء رجل وفتق الخياطة نظرت فإن كان قبل الالتحام لم يلزمه أرش لانه لم توجد منه جنايه ويلزمه قيمة الخيط وأجرة المثل للخياطه، وان كان بعدا لتحام الجميع لزمه أرش جائفه، لانه بالالتحام عاد إلى ما كان قبل الجناية ويلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لانها دخلت في أرش الجائفة، وان كان بعد التحام بعضها لزمه الحكومه لجنايته على ما التحم وتلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لانها دخلت في الحكومة
(فصل)
وإن أدخل خشبة أو حديدة في دبر انسان فحرق حاجزا في الباطن ففيه وجهان بناء على الوجهين فيمن خرق الحاجز بين الموضحتين في الباطن
(أحدهما)
يلزمه أرش جائفه لانه خرق حاجزا إلى الجوف
(والثانى)
تلزمه حكومه لبقاء الحاجز الظاهر.

(فصل)
وإن أذهب بكارة امرأة بخشبة أو نحوها حكومه، لانه إتلاف حاجز وليس فيه أرش مقدر، فوجبت فيه الحكومه، وان أذهبها بالوطئ لم يلزمه أرش لانها ان طاوعته فقد أذنت فيه، وان أكرهها دخل أرشها في المهر، لانا نوجب عليه مهر بكر (الشرح) في مراسيل مَكْحُولٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ في الموضحة خمسا من الابل ولم يوقت فيما دون ذلك شيئا) فإذا كان تقدير الارش لا يثبت إلا بالنص التوقيفى، ولا توقيف هاهنا في الشجاج التى قبل الموضحة بأرش مقدر فإنه إذا ثبت هذا فإذا أمكن معرفة قدرها من الموضحة بأن كان في رأس المجني عليه موضحه ثم شج في رأسه دامغه أو باضعه، فإن عرف قدر عمقها من عمق الموضحة التى في رأسه وجب فيها تقدير ذلك من أرش الموضحة، وان لم يمكن معرفة قدر عمقها من عمق الموضحة التى في رأسه وجب فيها حكومه يعرف بالتقويم على ما يأتي بيانه، فإن تيقنا أنها نصف الموضحة وشككنا هل يزيد ام لا؟ فإنه يقوم، فإن خرجت حكومتها بالتقويم نصف ارش الموضحة لا غير، لم تجب الزيادة لانا علمنا ان الزيادة لا حكم لها، وان خرجت حكومتها اكثر من نصف ارش الموضحة وجب ذلك لانا علمنا ان الشك له حكم.
وان خرجت حكومتها اقل من نصف

(19/71)


أرش الموضحة وجب نصف أرش الموضحة.
لانا قد تيقنا وجوب النصف وعلمنا أن التقويم خطأ.
قوله (وأما الجروح فيما سوى الرأس والوجه الخ) فجملة ذلك أن هذا الجراحة ضربان جائفة وغير جائفة، فأما غير الجائفة وهى الموضحة والهاشمة والمنقلة وما دون الموضحة من الجراحات فلا يجب فيها أرش مقدر، وإنما يجب فيها حكومة لان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الموضحة وما بعدها من الجراحات وذكر
بعدها المأمومة، والمأمومة لا تكون إلا في الرأس، فعلم أن ما قبلها لا تكون إلا بالرأس، والوجه في معنى الرأس، ولان هذه الجراحات في سائر البدن لا تشارك نظائرها في الرأس والوجه في الشين والخوف عليه منها فلم يشاركها في تقدير الارش.
وأما الجائفة فهى الجراحات التى تصل إلى الجوف من البطن أو الصدر أو ثغرة النحر أو الورك فيجب فيها ثلث الدية.
وقال مكحول: إن تعمدها وجب فيها الدية.
دليلنا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن الذى سقنا لك نصه في أول الباب.
وعن ابن عمر مثل ذلك أن في الحائفة ثلث الدية، وهو قول عامة أهل العلم، منهم أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأى إلا مكحولا حيث قال في عمدها ثلثى الدية ولانها جراحة أرشها مقدر فلم يختلف قدر أرشها بالعمد والخطأ كالموضحة، ولا نعلم في جراح البدن الخالية عن قطع الاعضاء وكسر العظام مقدرا غير إلحائفة، والجائفة ما وصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو ثغرة نحر أو ورك أو غيره.
وذكر ابن عبد البر أن مالكا وأبا حنيفة والشافعي والنبى اصحابهم اتفقوا على أن الجائفة لا تكون إلا في الجوف.
قال ابن القاسم: الحائفة ما أفضى إلى الجوف ولو بمغرز إبرة.
فأما ان خرق شدقه فوصل إلى باطن الفم فليس بجائفة لان داخل الفم حكمه حكم الظاهر لاحكم الباطن فإن أجافه جائفتين بينهما حاجز وجب عليه أرش جائفتين، وإن طعنه فأنفذه من ظهرة إلى بطنه ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجب عليه إلا أرش جائفة.
لان الجائفة هو ما ينفذ من

(19/72)


خارج إلى داخل، فأما الخارج من داخل إلى خارج فليس بجائفة، فيجب فيها
حكومة
(والثانى)
يجب عليه أرش جائفتين، وبه قال مالك، وهو المذهب، لانه روى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ولا مخالف لهما في الصحابة رضى الله عنهم أجمعين، ولانهما جراحتان نافذتان إلى الجوف فهو كما لو نفذنا من خارج إلى داخل.
(فرع)
وإن أجاف رجلا جائفه ثم جاء آخر وأدخل السكين في تلك الجائفة، فإن لم يقطع شيئا فلا شئ عليه وإنما يعزر به، وان وسعها في الظاهر والباطن وجب عليه أرش جائفة لانه أجاف جائفة أخرى، وان وسعها في الظاهر دون البان أو في البان دون الظاهر أو أصاب بالسكين كبده أو قلبه وجرحه وجبت عليه حكومة، وإن قطع امعاءه أو أبان حشوته فهو قاتل، لان الروح لا تبقى مع هذا، والاول جارح.
وإن وضع السكين على فحذه فجره حتى بلغ به البطن وأجافه، أو وضعه على كتفه وجره حتى بلغ به الظهر وأجافه وجب عليه أرش جائفة وحكومة للجراحة في الكتف والفخذ، لانهما جراحة في غير محل الجائفة.
وان وضع السكين على صدره وجرها حتى باغ به إلى بطنه أو ثغرة النحر وأجافه لم يجب عليه إلا أرش جائفة، لان الجميع محل للجائفة، ولو أجافه في الجميع لم يلزمه إلا أرش جائفة فلئلا يلزمه ولم يجفه إلا في بعضه أولى.
هذا هو اتفاق أهل العلم (فرع)
إذا أجافه جائفة فخاط الجائفة، فجاء آخر وفنق تلك الخياطة، فإن كان الجرح لم يلتحم ظاهرا أو لا باطنا لم يلزم الثاني أرش، وانما يعزر، كما لو أدخل السكين في الجائفة قبل الخياطة، ويجب عليه قيمة الخياطة وأجرة المثل، وان كانت الجراحة قد التحمت فقطعها ظاهرا وباطنا وجب عليه ارش جائفة، لانه عاد كما كان، وان التحمت الجراحة في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر ففتقه وجبت عليه الحكومة، وكل موضع وجب عليه ارش، الجائفه أو
الحكومه فإنه يجب عليه معه قيمة الخيط، وتدخل اجرة الطبيب الذى يجرى عملية الخياطة في الارش أو في الحكومه.
وهذا هو اتفاق اهل العلم (فرع)
إذا جرحه في جوفه فخرجت الجراحه من الجانب الاخر فهما جائفتان

(19/73)


في قول أكثر أهل العلم، منهم عطاء ومجاهد وقتادة ومالك وأحمد وأصحاب الرأى.
قال ابن عبد البر: لا أعلمهم يختلفون في ذلك.
وقال بعض أصحابنا: هي جائفة واحدة.
وحكى هذا عن أبى حنيفة، لان الجائفة هي التى تنفذ من ظاهر البدن إلى جوف، وهذه الثانية إنما نفذت من الباطن إلى الظهر وقد استدل الجمهور بما أخرجه سعيد بن منصور في سننه عن سعيد بن المسيب (أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه فقضى أبو بكر رضى الله عنه بثلث الدية) وروى نحوه عن عمر رضى الله عنه من طريق عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، لان الاعتبار بوصول الجرح إلى الجوف لا بكيفية إيصاله، إذ لا أثر لصورة الفعل مع التساوى في المعنى، كما قلنا فيمن أوضح إنسانا في رأسه ثم أخرج السكين من موضع آخر فهما موضحتان، وإن هشمه هاشمة لها مخرجان فهما هاشمتان.
(فرع)
إذا ضرب وجنته فكسر العظم ووصل إلى فيه، ففيه قولان،
(أحدهما)
يجب عليه أرش جائفة، لانها جراحة وصلت إلى جوف الفم، فهو كما لو وصلت إلى جوف البطن أو الرأس
(والثانى)
لا يجب عليه إلا أرش هاشمة لهشم العظم وحكومة لما زاد، لان هذه دون الجائفة إلى البطن أو الرأس في الخوف عليه منها، وإن جرحه في أنفه فحرقه إلى باطنه، قال أبو على الطبري ففيه قولان، كما لو هشم عظم وجنته فوصل إلى فيه، وقال ابن الصباغ: لا يجب عليه أرش جائفة قولا واحدا.
(فرع)
إذا أدخل خشبة في دبر إنسان فحرق حائزا في البطن فهل يلزمه أرش جائفة؟ فيه وجهان كما قلنا فيمن خرق الباطن بين الموضحتين دون الظاهر وقال أحمد وأصحابه: عليه حكومه ولا يلزمه أرش جائفه وجها واحدا.
أما إذا أذهب بكارة امرأة بخشبة أو بيده فليست بجائفه، لانه لا يخاف عليها من ذلك فإن كانت امة وجب عليه ما نقص من قيمتها، وان كانت حرة ففيها حكومه، فإن أكرهها على الزنا وجب عليه حكومه، ولاذهاب البكارة مهر المثل، وهل يلزمه أرش البكارة؟ عد أصحاب أحمد فيها روايتان إحداهما لا يلزمه لان أرش البكارة داخل في مهر المثل، فإن مهر المثل أكبر من مهر الثيب، فالتفاوت

(19/74)


بينهما هو عوض أرش البكارة فلم يضمنه مرتين (والثانية) يضمنه لانه محل أتلفه بعدوانه فلزمه أرشه، كما لو أتلفه بأصبعه قال المنصف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأما الاعضاء فيجب الارش في إتلاف كل عضو فيه منفعة أو جمال، فيجب في إتلاف العينين الدية، وفى أحدهما نصفها، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في كتاب كتبه لعمرو بن حزم: هذا كتاب الجروح، في النفس مائة من الابل وفى العين خمسون من الابل، فأوجب في كل عين خمسين من الابل، فدل على أنه يجب في العينين مائة، ولانها من أعظم الجوارح جمالا ومنفعة ويجب في عين الاعور نصف الدية للخبر، ولان ما ضمن بنصف الدية مع بقاء نظيره صمن به مع فقد نظيره كاليد.
وان جنبى على عينيه أو رأسه أو غيرهما فذهب ضوء العينين وجبت الدية لانه أتلف المنفعة المقصودة بالعضو فوجبت ديته، كما لو جنى على يده فشلت، وإن ذهب الضوء من إحداهما وجب نصف الدية، لان ما أوجب الدية في
إتلافهما أوجب نصف الدية في إتلاف إحداهما كاليدين.
وان أزال الضوء فأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية، لانه لما عاد علمنا أنه لم يذهب، لان الضوء إذا ذهب لم يعد.
وإن زال الضوء فشهد عدلان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده، فإن لم يقدر لعوده مدة معلومة لم ينتظر لان الانتظار إلى غير مدة معلومة يؤدى إلى إسقاط موجب الجناية.
وان قدر مدة معلومة انتظر وان عاد الضوء لم يجب شئ وان لم يعد أخذ الجاني بموجب الجناية من القصاص أو الدية وان مات قبل انقضاء المدة لم يجب القصاص لانه موضع شبهة لانه يجوز أن لا يكون بطل الضوء، ولعله أو عاش لعاد والقصاص يسقط بالشبهة، وأما الدية فقد قال فيمن قلع سنا وقال أهل الخبرة: يرحى عوده إلى مدة فمات قبل انقضائها إن في الدية قولين: أحدهما تجب لانه أتلف ولم يعد.
والثانى لا تجب لانه لم يتحقق الاتلاف ولعله

(19/75)


لو بقى لعاد، فمن أصحابنا من جعل في دية الضوء قولين، ومنهم من قال: تجب دية الضوء قولا واحدا، لان عود الضوء غير معهود، بخلاف السن فإن عودها معهود.

(فصل)
فإن جنى على عينيه فنقص الضوء منهما، فإن عرف مقدار النقصان بأن كان يرى الشخص من مافة فصار لا يراه إلا من نصف تلك المسافة وجب من الدية بقسطها، لانه عرف مقدار ما نقص فوجب بقسطه، وان لم يعرف قدر النقصان بأن ساء إداركه وجبت فيه الحكومة لانه تعذر التقدير، فوجبت فيه الحكومة، وان نقص الضوء في إحدى العينين عصبت العليلة وأطلقت الصحيحة، ووقف له شخص في موضع يراه، ثم لا يزال يبعد الشخص ويسأل عنه إلى أن يقول لاأراه، ويمسح قدر المسافة ثم تطلق العليلة وتعصب
الصحيحة، ولا يزال يقرب الشخص إلى أن يراه، ثم ينظر ما بين المسافتين، فيجب من الدية بقسطها.

(فصل)
وان جنبى على عين صبى أو مجنون فذهب ضوء عينه، وقال أهل الخبرة قد زال الضوء ولا يعود، ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يجب عليه في الحال شئ، حتى يباغ الصبى ويفيق المجنون ويدعى زوال الضوء، لجواز أن لا يكون الضوء زائلا (والقول الثاني) أنه يجب القصاص أو الدية، لان الجناية قد وجدت فتعلق بها موجبها.

(فصل)
وان جنى على عين فشخصت أو احولت وجبت عليه حكومة، لانه نقصان جمال من غير منفعة، فضمن بالحكومة، وان أتلف عينا قائمة وجبت عليه الحكومة لانه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيها الحكومة.

(فصل)
ويجب في الجفون الدية لان فيها جمالا كاملا ومنفعة كاملة، لانها تقى العين من كل ما يؤذيها، ويجب في كل واحد منها ربع الدية، لانه محدود، لانه ذو عدد تجب الدية في جميعها، فوجب في كل واحد منها ما يخصها من الدية كالاصابع، وان قلع الاجفان والعينين وجب عليه ديتان، لانهما جنسان يجب باتلاف كل واحد منهما الدية، فوجب بإتلافهما ديتان كاليدين والرجلين، فإن أتلف الاهداب وجبت عليه الحكومه، لانه إتلاف جمال من غير منفعة،

(19/76)


فضمن بحكومة، إن قلع الاجفان وعليها الاهداب ففيه وجهان، أحدهما لا يجب للاهداب حكومة لانه شعر نابت في العضو المتلف فلا يفرد بالضمان كشعر الذراع.
والثانى: يجب للاهداب حكومة، لان فيها جمالا ظاهرا فأفردت عن العضو بالضمان.
(الشرح) يأخذ المصنف في ديات الاعضاء، فيبحث أولا ديات العين،
فيتقرر من هذا ان في العينين الدية لما عرفناه من كتاب صلى الله عليه وسلم لاهل اليمن وفيه (وفى العينين الدية) ويجب في إحداهما نصب الدية، وهذا مطرد فيما فيه زوج كالاذن والرجل واليد، ولا اعلم في ذلك مخالفا إلا في الاعور فإن مقضتى المذهب أنه لا يجب فيه إلا نصف الدية خمسون من الابل أو من النقدين تقويما.
وبه قال النخعي والاوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وقال الزهري ومالك والليث وأحمد وإسحاق: يجب فيها جميع الدية وروى ذلك عن عمر وعلى وابن عمر، وذلك لعماه بسببها فساوت مصيبته مصيبة من قلعت عيناه.
دليلنا أن الدليل لم يفصل ولم يفرق بين عين الاعور وعين غيره، ولان ما ضمن ببدل مع بقاء نظيره ضمن به مع فقد نظيره كالبد.
وإن قلع الاعور عين من له عينان وللجاني مثلها كان للمجني عليه القصاص.
وقال أحمد ليس له القصاص منه.
دليلنا قوله تعالى (والعين بالعين) ولم يفرق وإن عفى المجني عليه عن قلع عين الاعور لم يستحق عليه إلا نصف الدية.
وقال مالك يستحق عليه جميع الدية.
دليلنا أنه قلع عين واحدة فإذا عفى عن القصاص لم يجب له أكثر من ديتها كما لو كانتا سليمتين (فرع)
إذا جنبى على عينه أو رأسه فذهب ضوء بصره والحدقة باقية كانفصال الشبكية وجبت عليه الدية للحديث المرفوع (وفيا لبصر مائة من الابل) ولكتابه صلى الله عليه وسلم لاهل اليمن (وفى العينين الدية) ولانه أذهب المنفعة المقصودة بالعين وعطل وظائفها فوجب عليه أرشها، كما لو جنى على يده فشلت.
وإن ذهب البصر من إحدى العينين وجب عليه نصف الدية، كما لو أشل إحدى يديه،

(19/77)


فإن قلع عينا عليها بياض فإن كان على غيرا لناظر (القرنية) أو على الناظر
إلا أنه خفيف يبصر بها من تحته وجب عليه جميع ديتها، لان البياض لا يؤثر في منفعتها، وإنما يؤثر في جمالها، فهو كما لو قطع يدا عليها ثآليل، فإن كان لا يبصر لم تجب عليه الدية، وإنما عليه الحكومة كما لو قطع بدا شلاء، وإن نقص بصرها بالبياض وجب عليه من ديتها بقدر ما بقى من بصرها.
(تنبيه) أعلم أن العين الكاملة الابصار مقياسها عند الاطباء 6 على 6 ودونها 6 على 9 ثم 6 على 12 ثم 6 على 18 ثم 6 على 24 ثم 6 على 60، ولها علامات مرسومة على لوحة مثبتة على حائط يبعد عند الكشف من مترين إلى أربعة أمتار فيها أقواس كبيرة من أعلاها ثم تأخذ في الصغر حتى تبلغ في الدقة الحد الذى يجعل رؤيتها دليلا على أن العين كاملة الابصار، وبهذا المقياس يمكن أن نكتفي به عن الصور التى رسمها المصنف منه وقوف شخص على بعد ثم اقترابه، وما إلى ذلك مما لم يكن له بديل أدق منه في عصرهم.
أما وقد وصل الكشف الطبى في زماننا إلى الاطلاع على قاع العين بالعدسات والآلات الحديثة، فإن الاعتبار يكون بالوسائل الحديثة وبها نأخذ، على أن الصورة التى مثل بها الامام الشافعي رضى الله عنه لا يمكن أن يقوم مقامها صورة أخرى للاثبات أو النفى عند التحقيق في دعوى المجني عليه وهى في الفرع التالى.
(فرع)
إذا جنبى على عينه فذهب ضوؤها فأخذت منه الدية ثم عاد ضوؤها وجب رد ديتها، لانا علمنا أنه لم يذهب، وان ذهب ضوؤها وقال رجلان من أطباء العيون برجاء عودته فإن لم يقدر ذلك إلى مدة لم ينتظر، وان قدراه إلى مدة انتظر، فإن عاد الضوء لم تجب الدية، وان انقضت المدة ولم يعد الضوء أخذ الجاني بموجب الجناية.
وإن مات المجني عليه قبل انقضاء تلك المدة لم يجب القصاص لانه موضع شبهة.
وهل تجب عليه الدية؟ من أصحابنا من قال فيه قولان كما قلنا في السن.
ومنهم من قال تجب الدية قولا واحدا، لان عود الضوء غير معهود،
وعود السن معهود (فرع)
إذا جنبى على عينيه فنقص ضوءها نظرت فإن عرف أنه نقص

(19/78)


نصف ضوئهما راجع ما أجملناه في تبيينهما آنفا حول امتحان العين بمقاييس عصرنا بأن نظره يساوى 6 على 6 فصار يساوى 6 على 12 وجبت عليه نصف الدية، وإن لم يعرف قدر النقصان، وإنما ساء إدراكه وجبت عليه حكومة.
وإن نقص بصره في إحدى العينين وجبت عليه من دية تلك العين بقدر ما نقص من ضوئها إن أمكن معرفة ذلك.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإلامكان أن نعصب عينه العليلة ونطلق الصحيحة ويقام له شخص على ربوة من الارض، ثم يقال له انظر إليه ثم يتباعد الشخص عنه إلى أن يأتي إلى غاية يقول لا أدرى إلى أكثر منها، ثم يعلم على ذلك الموضع ويغير عليه ثياب الشخص لانه متهم، فإذا غير عليه وأخبر به علمنا صحة ذلك، ثم نطلق العين العليلة ونعصب الصحيحة ونوقب له الشخص على ربوة ثم لا يزال يبعد عنه إلى الغاية التى يقول أبصره إليها ولا أبصره إلى أكثر منها، فنعلم على ذلك الموضع ويوقف له الشخص من جميع الجهات، فإن أخبر أنه يبصره على أكثر من تلك الغاية أو أقل علمنا كذبه، لان النظر لا يختلف باختلاف الجهات فإذا اتفقت الجهات علمنا صدقهه، ثم ينظر كم الغاية الثانية من الاولى فيؤخذ بقدر ما نقص من الدية.
(فرع)
وإن جنى على عين صبى أو مجنون فقال الطبيب الشرعي: قد زال ضوءها ولا يرجى عوده، ففيه قولان.
أحدهما يحكم على الجاني بموجب الجناية لان الجناية قد وجدت فيتعلق بها موجبها.
والثانى لا يحكم عليه بموجبها حتى يبلغ الصبى ويفيق المجنون ويدعى زوال الضوء لجواز أن الضوء لم يذهب، وإن
جنى على عين رجل فشخصت، وأى لا يستطيع أن يطرف إذا ارتفعت أو احولت ولم يذهب من ضوئها شئ، وجب عليه الحكومة لانه أذهب جمالا من غير ذهاب منفعة.
وإن قلع عينا قائمة، وهى العين التى ذهب ضوءها وبقيت حدقتها وجبت عليه الحكومة دون الدية، لانه أذهب جمالا من غير منفعة.
قوله (ويجب في الجفون الدية الخ) قلت: أجفان العينين أربعة واسمها الاشفار وفى جميعها الدية، لان فيها منفعة الجنس، وفى كل واحد منها ربع الدية

(19/79)


لان كل ذى عدد تجب في جميعه الدية تجب في الواحد منها بحصته من الدية كاليدين والاصابع، وبهذا قال الحسن والشعبى وقتادة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه وقال مالك: لا يجب عليه الا الحكومة، لانه لم يعلم تقديره على النبي صلى الله عليه وسلم والتقدير لا يثبت بالقياس.
دليلنا أن فيها جمالا ظاهرا ونفعا كاملا، لانها نكن العين وتحفظها، وندرا عنها الرياح والعواصف، والحر والبرد، وهجوم الغبار والاجسام المتطايرة في الهواء، واولاها لقبح منظر العينين، فوجبت فيها الدية كاليدين، ولا نسلم أن التقدير لا يثبت قياسا، فإذا ثبت هذا فإن في أحدها ربع الدية.
وحكى عن الشعبى أنه يجد في الا على ثلثا دية العين، وفى الاسفل ثلثها لانه أكثر نفعا.
وإن قطع الاجفان وعليها الاهداب ففيه وجهان:
(أحدهما)
يجب عليه الدية كالاجفان والحكومة للاهداب، كما لو قطع الاهداب والاجفان
(والثانى)
يجب عليه الدية لا غير، كما لو قطع يدا وعليها شعر واظفار.
وان قلع العينين والاجفان وجبت عليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه، وإن أزال الاهداب وحدها ففيه حكومة، وقال أبو حنيفة وأحمد: تجب فيها الدية وفى كل واحد منها ربعها، ومثل ذلك الحاجبان، فإن فيها حكومة.
وقال أبو حنيفة وأحمد فيهما الدية.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب في الاذنين الدية وفى أحدهما نصفها لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب في كتاب عمرو بن حزم (في الاذن خمسون من الابل) فأوجب في الاذن خمسين من الابل، فدل على أنه يجب في الاذنين مائة، ولان فيها جمالا ظاهرا ومنفعة مقصودة، وهو أنها تجمع الصوت وتوصله إلى الدماغ، فوجب فيها الدية كالعين وإن قطع بعضها من نصف أو ربع أو ثلث وجب فيه من الدية بقسطه،

(19/80)


لان ما وجبت الدية فيه وجبت في بعضه بقسطه كالاصابع، وإن ضرب أذنه فاستحشفت ففيه قولان:
(أحدهما)
تجب عليه الدية كما لو ضرب يده فشلت
(والثانى)
تجب عليه الحكومة، لان منفعة الاذن جمع الصوت، وذلك لا يزول بالاستحشاف، بخلاف اليد فإن منفعتها بالبطش وذلك يزول بالشلل، وإن قطع أذنا مشتحشفة فإن قلنا إنه إذا ضربها فاستحشفت وجبت عليه الدية، وجب في المستحشفة الحكومة، كماا لو قطع يدا شلاء، وان قلنا إنه تجب عليه الحكومة وجب في المستحشفة الدية، كما لو قطع يدا مجروحة، فإن قطع أذن الاصم وجبت عليه الدية، لان عدم السمع نقص في غير الاذان، فلا يؤثر في دية الاذان.

(فصل)
ويجب في السمع الدية، لما روى أبو المهلب عن أبى قلابة (أن رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه، فقضى فيه عمر رضى الله عنه بأربع ديات والرجل حى) ولانها حاسة تختص بمنفعة فأشبهت حاسة البصر.
وإن أذهب السمع في أحد الاذنين وجب نصف الدية، لان كل شيئين وجبت الدية فيهما وجب نصفها في أحدهما كالاذنين وان قطع الاذنين وذهب السمع وجب عليه ديتان لان السمع في غير الاذن فلا تدخل دية أحدهما في الاخر وان جنى عليه فزال السمع وأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الديه، لانه لم يذهب السمع، لانه لو ذهب لما عاد.
وإ ذهب السمع فشهد شاهدان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده إلى مدة، فالحكم فيه كالحكم في العين إذا ذهب ضوءها، فشهد شاهدان أنه يرجى عوده، وقد بيناه.
وإن نقص السمع وجب أرش ما نقص، فإن عرف القدر الذى نقص بأن كان يسمع الصوت من مسافة فصار لا يسمع إلا من بعضها وجب فيه من الدية بقسطه، وان لم يعرف القدر بأن ثقلت أذنه وساء سمعه وجبت الحكومه.
وان نقص السمع في أحد الاذنين سدت العليلة وأطلقت الصحيحه، ويؤمر رجل حتى يصيح من موضع يسمعه ثم لا يزال يبعد ويصيح إلى أن يقول لا أسمع،

(19/81)


ثم تمسح المسافة، ثم تطلق العليلة، وتسد الصحيحة، ثم يصبح الرجل ثم لا يزال يقرب ويصيح إلى أن يسمعه وينظر ما بين المسافتين، ويجب من الدية بقسطه.
(الشرح) خبر عمرو بن حزم مضى تخريجه في أول الباب، وأثر أبى المهلب عن أبى قلابة، أخرجه أحمد بن حنبل في رواية أبى الحرث، وابنه عبد الله، كما أخرجه ابن أبى شيبة عن خالد عن عوف: سمعت شيخا في زمن الحاكم، وهو
ابن المهلب عم أبى قلابة قال: رمى رجل رجلا بحجر في رأسه في زمن عمر فذهب سمعه وبصره وعقله وذكره فلم يقرب النساء، فقضى عمر فيه بأربع ديات وهو حى) قد دل الخبر على وجوب الدية في كل واحد من الاربعة المذكورة وهو إجماع الصحابة لانه لم يثبت له مخالف.
وقال الحافظ بن حجر في تلخيص الحبير: إنه وحد في حديث معاذ في السمع الدية قال وقد رواه البيهقى من طريق قتادة عن ابن المسيب عن على رضى الله عنه وقد زعم الرافعى أنه ثبت في حديث معاذ أن في البصر الدية.
قال الحافظ لم أجده.
وروى البيهقى من حديث معاذ في العقل الدية وسنده ضعيف.
قال البيهقى وروينا عن عمر وعن زيد بن ثابت مثله، وقد زعم الرافعى أن ذلك في حديث عمرو بن حزم وهو غلط.
وأخرج البيهقى عن زيد بن أسلم بلفظ: مضت السنة في أشياء من الانسان إلى أن قال: وفى اللسان الدية وفى الصوت إذا انقطع الدية) قال الشوكاني: والحاصل أنه قد ورد النص بايجاب الدية في بعض الحواس الخمس الظاهرة كما عرفت، ويقاس ما لم يرد فيه نص منها على ما ورد فيه قلت: روى ذلك عن عمر وعلى، وبه قال عطاء ومجاهد والحسن وقتادة والثوري والاوزاعي وأحمد وأصحاب الرأى ومالك في إحدى الروايتين عنه.
وقال في الاخرى فيهما حكومة لان الشرع لم يرد في ذلك بتقدير ولا يثبت التقدير بالقياس.
وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولا آخر للشافعي.
قال العمرانى وليس بمشهور وروى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال (في الاذنين خمسة عشر من الابل) قال ابن المنذر لم يثبت ذلك عنه.
قاله ابن قدامه

(19/82)


دليلنا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لاهل اليمن عن عمرو بن حزم وفيه
(وفى الاذن خمسون من الابل) فدل على أنه يجب فيهما مائة (فرع)
وإن قطع بعض الاذن وجب عليه من ديتها ما قطع منها لانه يمكن تقسيط الدية عليها.
وان جنى على أذنه فاستحشفت أي يبست وانقبضت وصارت كهيئة الجلد إذا ترك على النار ففيه قولان
(أحدهما)
بجب عليه ديتها كما لو جنى على يده فشلت
(والثانى)
لا يجب عليه الا الحكومة، لان منفعتها باقية مع استحشافها، وإنما نقص جمالها وإن أذنا مستحشفة، فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال إنه إذا جنى عليها فاستحشفت وحب عليه الدية ووجب هاهنا على قاطع المسحشفة الحكومة، كما لو قطع يدا شلاء وإن قلنا هناك لا يجب عليه الا الحكومة وجب هاهنا على قاطعها ديتها.
وقال الشيخ أبو حامد هذا تخليط لا يحكى، بل يجب عليه الحكومة قولا واحدا كما قلنا فيمن قلع عينا قائمة أو قطع يدا شلاء وان قطع أذن الاصم وجب عليه ديتها، لان ذهاب السمع لعلة في الرأس لا في الاذن.
قوله (ويجب في السمع الدية) فجملة ذلك أنه إذا أذهب سمعه من أحد الاذنين وجب عليه نصف الدية، كما لو أذهب البصر من أحد العينين، فإن أذهب سمعه فأخذت منه الدية ثم عاد السمع وجب رد الدية لانا علمنا أنه لم يذهب (فرع)
وان جنى عليه جناية فادعى أنه ذهب بها سمعه أو بصره أو شمه أخذنا رأى اثنين من أهل الخبرة من المسلمين، فإن قالا مثل هذه الجناية لا يذهب بها السمع والبصر والشم فلا شئ على الجاني، لانا علمنا كذب المدعى، وان قالا مثلها يذهب بها السمع أو البصر أو الشم فإن كان في البصر رجع إلى قولهما أو إلى اثنين من أهل الخبرة، فإن قالا قد ذهب البصر ولا يعود حكمنا على
الجاني بموجب الجناية، وان كان في السمع والشم لم يرجع إلى قولهما في ذهابه، لانه لا طريق لهما إلى المعرفة بذهابه بخلاف البصر، فإذا ادعى المجني عليه ذهاب السمع أو الشم فإن قال اثنان من أهل الخبرة من المسلمين لا يرجى عوده

(19/83)


حكم على الجاني بموجب الجناية.
وإن قالا يرجى عوده إلى مدة، فهو كما لو قالا يرجى عود البصر، وقد مضى بيانه، فإن كانت الجناية عمدا لم يقبل فيه إلا قول رجلين، وإن كانت خظأ أو عمد خطأ قبل فيه قول رجل وامرأتين، كما قلنا في الشهادة بذلك.
(فرع)
وإن جنبى عليه جنايه فنقص سمعه بها فإن عرف قد نقصانه وجب فيه من الدية بقدره، وإن لم يعرف قدر نصفانه وإنما ثقل وجبت فيه الحكومة، وإن ادعى نقصان السمع من أحد الاذنين سدت الاذن العليلة وأطلقت الصحيحة، وأمر من يخاطبه وهو يتباعد منه إلى أن يبلغ إلى غاية يقول لا أسمعه إلى أكثر منها ويلعم عليها ويمتحن بذلك من جميع الجهات لانهه متهم، فإذا اتفقت الجهات أطلقت العليلة وسدت الصحيحة وخاطبه كمخاطبته الاولة وهو يتباعد منه إلى أن يقول لا أسمعه إلى أكثر منها، ويمتحن بمخاطبته أيضا في ذلك من جميع الجهات، فإذا اتفقت علم على ذلك الموضع وينظر كم قدر ذلك من المسافة الاولة، ويجب له من دية الاذن بقدر ما نقص من المسافة التى يسمع منها في العليلة، وإن قطع أذنيه فذهب سمعه منها وجب عليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه.
(فائدة) قال الثعالبي: يقال بأذنه وقر فإذا زاد فهو صمم، فإذا زاد فهو طرش فإذا زاد حتى لا يسمع الرعد فهو صلخ قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب في مارن الانف الدية، لما روى طاوس قال (كان فِي كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الانف إذا أوعب مارنه جدعا الدية، ولانه عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة، ولانه يجمع الشم ويمنع من وصول التراب إلى الدماغ، والاخشم كالاشم في وجوب الدية، لان عدم الشم نقص في غير الانف فلا يؤثر في دية الانف، ويخالف العين القائمة، فإن عدم البصر نقص في العين، فمنع من وجوب الدية في العين.
وان قطع جزءا من المارن كالنصف والثلث وجب فيه من الدية بقدره، لان

(19/84)


ما ضمن بالدية يضمن بعضه بقدره من الدية كالاصابع، وإن قطع أحد المنخرين ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص أن عليه نصف الدية، لانه أذهب نصف الجمال ونصف المنفعة
(والثانى)
يجب عليه ثلث الدية، لان المارن يشتمل على ثلاثة أشياء المنخرين والحاجز، فوجب في كل واحد من المنخرين ثلث الدية، وان قطع أحد المنخرين والحاجز وجب عليه على الوجه الاول نصف الدية للحاجز.
وعلى الوجه الثاني يجب عليه ثلثا الدية، ثلث للحاجز وثلث للمنخر.
وان شق الحاجز وجب عليه حكومة، وان قطع المارن وقصبة الانف وجب عليه الدية في المارن والحكومة في القصبة، لان القصبة تابعة فوجب فيها الحكومة كالذراع مع الكف.
وان جنى على المارن فاستحشف ففيه قولان كالقولين فيمن جنى على الاذن حتى استحشف.

(أحدهما)
تجب عليه الدية
(والثانى)
تجب عليه الحكومة، وقد مضى وجههما في الاذن
(فصل)
وتجب باتلاف الشم الدية، لانها حاسة تختص بمنفعة مقصودة
فوجب باتلافها الدية كالسمع والبصر، وان ذهب الشم من أحد المنخرين وجب فيه نصف الديه، كما تجب في اذهاب البصر من أحد العينين، والسمع من أحد الاذنين، وان جنى عليه فنقص الشم وجب عليه أرش ما نقص، وأن أمكن أن يعرف قدر ما نقص وجب فيه من الدية بقدره، وان لم يمكن معرفة قدره وجبت فيه الحكومة لما بيناه في نقصان السمع، وان ذهب الشم وأخذت فيه الدية ثم عاد وجب رد الدية، لانا تبينا أنه لم يذهب، وانما حال دونه حائل، لانه لو ذهب لم يعد.
(الشرح) تخريج خبر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مضى في أول الباب.
أما اللغات فقوله (إذا أوعب مارنه جدعا) أوعب واستوعب استؤصل واستقصى والمارن الغضاريف اللينة من الانف والجدع قطع الانف، وقد يقال لقطع الاذن كما أفاده ابن بطال ومن فقه اللغة أن يقال سمل عينه وصمل أذنه وجدع أنفه

(19/85)


أما الاحكام فإنه يجب في الانف الدية (ارجع إلى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لاهل اليمن في أول الباب لعمرو بن حزم وفيه (وأن في الانف إذا أوعب جدعه الدية)) وأوعب بضم الهمز على البناء للمجهول أي قطع جميعه، وقد استدل بهذا من قال بأن الدية تجب في قطع الانف جميعه، لان الانف مركبة من قصبة ومارن وأرنبة وروثة، فالدية تجب إذا استؤصلت من أصل القصبة إجماعا وعند الهادوية في كل واحدة من الاربع حكومة قال الشوكاني، وقال الناصر الفقهاء بل في المارن الدية وفى بعضه حصته.
قلت ويحاب عنه بما أخرجه الشافعي عن طاوس وأورده المصنف هنا أنه قال عندنا فِي كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَفِي الانف إذا قطع مارنه مائة من الابل.
وأخرج البيهقى من حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قال (قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذ جدعت (ثناؤة؟) الانف بنصف العقل خمسون من الابل وعدلها من الذهب والورق) قال ابن الاثير، أراد بالثندوة هنا روثة الانف وهى طرفه ومقدمه وفى البيان للعمراني، والذى تجب به الدية من الانف المارن، وهو مالان منها دون القصبة اه، ولان المنفعة والجمال فيه فوجبت فيه الدية بقسط ما قطع منه، وان قطع أحد المنخرين ففيه وجهان
(أحدهما)
يجب عليه نصف الدية لانه أذهب نصف الجمال نصف المنفعة
(والثانى)
لا يجب عليه الا ثلث الدية، لان المارن يشتمل على المنخرين والحاجز بينهما، والاول هو المنصوص، فإن قطع الحاجز بين المنخرين وجب عليه على الوجه الاول حكومة وعلى الثاني ثلث الدية.
وان قطع أحد المنخرين والحاجز بينهما وجب عليه على الاول نصف الدية وحكومة.
وعلى الثاني ثلثا الدية، وان قطع المارن وقصبة الانف وجب عليه دية في المارن وحكومة في القصبة.
كما لو قطع يده من المرفق، وان قطع المارن والجلدة التى تحته إلى الشفة وجبت عليه دية في المارن وحكومه للجلدة التى تحته، وان أبان مارنه نأخذه المجني عليه فألصقه فالتصقت خلاياه والتحمت أنسجته كان المجني عليه أن يقتص مارنه حتى يجعله

(19/86)


معلقا كمارن المجني عليه.
وإن عفا عن القصاص لم تجب له الدية، وإنما تجب له الحكومة لانها جناية لم نذهب بها منفعة، وإنما نقص بها جمال، وإن جنى على أنفه فاستحشف فهل تجب عليه الدية؟ قولان كما قلنا في الاذن إذا استحشف بالجناية، فإن قطع أنفا مستحشفا ففيه طريقان، كما قلنا فيمن قطع أذنا مستحشفة وإن قطع أنف أخشم وجب عليه الدية، لعموم الخبر، ولان ذهاب الشم لمعنى
في غير الانف قوله ((وتجب بإتلاف الشم الدية) وهذا صحيح لما رواه عمر بن حزم في كتاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ طرقه وفيها (وفى الشم الدية) كما قلنا فيه إذا أذهب البصر من إحدى العينين، وإن نقص شمه من المنخرين أو من أحدهما فهو كما قلنا فيمن نقص سمعه من الاذنين أو من أحدهما، وإن لم يعرف قدر نقصه وجبت فيه الحكومة، وإن قطع مارنه فذهب شمه وجبت عليه ديتان، لان الدية تجب في كل احد منهما إذا انفرد، فوجبت في كل واحد منهما الدية وان اجتمعا كما لو قطع يديه ورجليه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن جنى على رجل جناية لا أرش لها بأن لطمه أو لكمه أو ضرب رأسه بحجر فزال عقله وجب عليه الدية، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب في كتاب عمرو بن حزم (وفى العقل الدية) ولان العقل أشرف من الحواس لان يه يتميز الانسان من البهيمة، وبه يعرف حقائق المعلومات، ويدخل في التكليف، فكان بإيجاب الدية أحق وإن نقص عقله فإن كان يعرف قدر ما نقص بأن يجن يوما ويفيق يوما، وجب عليه من الدية بقدره، لان ما وجبت فيه الدية وجب بعضها في بعضه، كالاصابع.
وإن لم يعرف قدره بأن صار إذا سمع صيحة زال عقله ثم يعود، وجبت فيه الحكومة لانه تعذرا إيجاب جزء مقدر من الدية، فعدل إلى الحكومة فإن كانت الجناية لها أرش مقدر نظرت، فإن بلغ الارش قدر الدية أو أكثر لم يدخل في دية العقل، ولم تدخل فيه ديه العقل لما روى أبو المهلب عم أبى قلابة

(19/87)


أن رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه فذهب عقله وسمعه ولسانه ونكاحه، فقضى
فيه عمر رضى الله عنه بأربع ديات وهو حى) وإن كان الارش دون الدية كأرش الموضحة ونحوه ففيه قولان.
قال في القديم: يدخل في دية العقل لانه معنى يزول التكليف بزواله فدخل أرش الطرف في ديته كالنفس.
وقال في الجديد: لايدخل وهو الصحيح، لانه لو دخل في ديته ما دون الدية لدخلت فيها الدية كالنفس، ولان العقل في محل والجناية في محل آخر، فلا يدخل أرشها في ديتها، كما لو أوضح رأسه فذهب بصره، وان شهر سيفا على صبى أو بالغ مضعوف أو صاح عليه صيحة عظيمة فزال عقله وجبت عليه الدية.
لان ذلك سبب لزوال عقله، وان شهر سيفا على بالغ متيقظ أو صاح عليه فزال عقله لم تجب عليه الدية، لان ذلك ليس بسبب لزوال عقله
(فصل)
ويجب في الشفتين الدية لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب في كتاب عمر وبن حزم (في الشفتين الدية) ولان فيهما جمالا ظاهرا ومنافع كثيرة، لانهما يقيان الفم من كل ما يؤذيه، ويردان الريق وينفخ بهما، ويتم بهما الكلام ويجب في إحداهما نصف الدية لان كل شيئين وجب فيهما الدية وجب في أحدهما نصف الدية كالعينين والاذنين، وان قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره كما قلنا في الاذن والمارن، وان جنى عليهما فيبستا وجبت عليه الدية، لانه أتلف منافعهما فوجبت عليه الدية، كما لو جنى على يديه فشلتا، فإن تقلصتا وجبت عليه الحكومه لان منافعهما لم تبطل، وانما حدث بهما نقص.
(الشرح) ما ذكره المصنف من اشتمال كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو ابن حزم على أن (في العقل الدية) لم أجده في طريق من طرقه، وانما الذى ثبت أثر عمر رضى الله عنه أنه قضى في رجل ضرب رجلا فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات.
وما روى من ذلك مرفوعا كرواية البيهقى عن معاذ
(في العقل الدية) فسنده ضعيف.
قال البيهقى وروينا عن عمر وزيد بن ثابت مثله قال الشوكاني في نيل الاوطار: وقد زعم الرافعى أن ذلك في حديث عمرو ابن حزم وهو غلط.
اه

(19/88)


وقد أخرج البيهقى عن زيد بن أسلم بلفظ (مضت السنة في أشياء من الانسان إلى أن قال: وفى الصوت إذا انقطع الدية) فإذا وجبت الدية في ذهاب الصوت فلان يجب في ذهاب العقل أولى.
فإذا ثبت أنه حكم عمر وقول زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل ولا مخالف لهم في الصحابة كان إجماعا، ولان التكليف يزول بزوال العقل كما يزول بخروج الروح، فلما وجبت الدية بخروج الروح وجبت بزوال العقل، فإن ذهب بعض عقله وعرف قدر الذاهب بأن صار يجن يوما ويفيق يوما وجبت فيه نصف الدية، وإن لم يعرف قدر الذاهب بأن صار يفزع مما يفزع منه العقلاء وجبت فيه الحكومة.
إذا ثبت هذا فإن كانت الجناية التى ذهب بها العقل مما لا أرش لها بأن لطمه أو لكمه أو ضربه بحجر أو غيره ولم يجرحه، وجبت دية العقل، على ما مضى، وان كان لها أرش ففيه قولان.
قال في القديم: يدخل الاقل منهما في الاكثر، مثل ان أوضحه فذهب عقله، فإن أرش الموضحة يدخل في دية القعل، وان قطع يديه من المرفقين دخلت دية العقل في دية اليدين والحكومة فيهما، وبه قال أبو حنيفة، لان العقل معنى يزول التكليف بزواله فدخل في دينه أرش الطرف كالروح.
وقال في الجديد: لا يدخل أحدهما في الآخر وهو الاصح، لانه جناية أذهبت منفعة حالة في غير محل الجناية مع بقاء النفس فلم يتداخل الارش، كما لو أوضحه وذهب بصره.
هكذا ذكره العمرانى عن الشيخ أبى حامد.
وذكرا لشيخ أبو إسحاق هنا: ان كانت الجناية بها دية كاملة لم تدخل احدى الديتين في الاخرى قولا واحدا، لما تقدم من حكم عمر رضى الله عنه.
قوله (ويجب في الشفتين الدية) هذا ثابت فيما سقناه في أول الباب من كتاب عمرو بن حزم وفيه (وفى الشفتين الدية) والى هذا ذهب جمهور أهل العلم قال في البحر: وحدهما من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض الوجه، ولا فضل لاحداهما على الاخرى عند أبي حنيفة والشافعي والناصر والهادوية.
وذهب زيد بن ثابت إلى أن العليا ديتها ثلث والسفلى ثلثان ويرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم (وفى الشفتين الدية) ولم يفرق، وقد أخذ الشوكاني من زيادة منفعة السفلى على

(19/89)


العليا القول بالتفرقة ولا دليل عليه.
قال الشافعي رضى الله عنه: ما زال عن جلد الذقن من الخدين من أعلا وأسفل من الشفتين) ولا فرق بين أن يكونا غليظتين أو رقيقتين أو ناميتين أو صغيرتين، وبه قال أبو بكر وعلى وابن مسعود، فإن قطع بعض الشفة وجب فيه من الدية بقدره، وان جنى عليهما فشلتا بأن صارتا مسترخيتين لا ينقبضان أو تقلصتا بحيث لا يبسطان، ولا تنطبق احداهما على الاخرى وجبت الدية فيهما، كما لو جنى على يديه فشلتا قال الشافعي، وان جنى على شفته حتى صارت بحيث إذا مدما امتدت، وان تركها تقلصت ففيها حكومة لانها إذا انبسطت وامتدت إذا مدت فلا شلل فيها، بل فيها روح فلم تصر شلاء، وانما فيها نقص فوجبت فيها الحكومة، وان شق شفتيه فعليه الحكومة سواء التأم الشاق أو لم يلتئم، لان ذلك جرح، والجروح تجب فيها الحكومة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب في اللسان الدية لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب
في كتاب عمر وبن حزم (وفى اللسان الدية) ولان فيه جمالا ظاهرا ومنافع، فأما الجمال فإنه من أحسن ما يتجمل به الانسان، والدليل عليه ما روى محمد بن على بن الحسين ((إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للعباس أعجبني جمالك يا عم النبي فقال يا رسول الله وما الجمال في الرجل؟ قال اللسان) ويقال المرء بأصغريه قلبه ولسانه، ويقال ما الانسان لولا اللسان الا صورة مثله، أو بهيمة مهملة.
وأما المنافع فإنه يبلغ به الاغراض ويقضى به الحاجات، وبه تنم العبادات في القراءة والاذكار، وبه يعرف ذوق الطعام والشراب، ويستعين به في مضغ الطعام، وان جنى عليه فخرس وجبت عليه الدية لانه أتلف عليه المنفعة المقصودة فأشبه إذا جنى على اليد فشلت، أو على العين فعميت وان ذهب بعض الكلام وجب من الديه بقدره، لان ما ضمن جميعه بالدية ضمن بعضه ببعضها كالاصابع، ويقسم على حروف كلامه، لان حروف اللغات مختلفه الاعداد، فإن في بعض اللغات ما عدد حروف كلامها أحد وعشرون حرفا

(19/90)


ومنها ما عدد حروفها ستة وعشرون، وحروف لغة العرب ثمانية وعشرون حرفا فإن كان المجني عليه يتكلم بالعربية قسمت ديته على ثمانية وعشرين حرفا.
وقال أبو سعيد الاصطخرى يقسم على حروف اللسان وهى ثمانية عشر حرفا ويسقط حروف الحلق وهى ستة، الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين، ويسقط حروف الشفة وهى أربعة الباء والميم والفا والواو.
والمذهب الاول، لان هذه الحروف وإن كان مخرجها الحلق والشفة إلا أن الذى ينطق بها هو اللسان، ولهذا لا ينطق بها الاخرس.
وإن ذهب حرف من كلامه وعجز به عن كلمة وجب عليه أرش الحرف لان الضمان يجب لما تلف، وإن جنى على لسانه فصار ألثغ وجب عليه دية الحرف
الذى ذهب، لان ما ابتدل به لا يقوم مقام الذاهب، وان جنبى عليه فحصل في لسانه ثقل لم يكن أو عجلة لم تكن أو تمتمة لم تجب عليه دية، لان المنفعة باقية، وتجب عليه حكومة لما حصل من النقص والشين
(فصل)
وإن قطع ربع لسانه فذهب ربع كلامه، وجب عليه ربع الديه، وان قطع نصف لسانه وذهب نصف كلامه، وجب عليه نصف الدية، لان الذى فات من العضو والكلام سواء في القدر، فوجب من الديه بقدر ذلك، فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب عليه نصف الديه وان قطع نصف اللسان وذهب ربع الكلام وجب عليه نصف الدية، واختلف أصحابنا في علته، فمنهم من قال العلة فيه ان ما يتلف من اللسان مضمون، وما يذهب من الكلام مضمون، وقد اجتمعا فوجب أكثرهما وقال أبو إسحاق الاعتبار باللسان الا أنه إذا قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام دل ذهاب نصف الكلام على شلل ربع آخر من السان فوجب عليه نصف الدية، ربعها بالقطع وربعها بالشلل، فإن قطع ربع اللسان وذهب نصف الكلام وقطع آخر ما بقى من اللسان وجب عليه على تعليل الاول ثلاثة أرباع الدية، اعتبارا بما بقى من اللسان، ويجب عليه على تعليل أبى اسحاق نصف الدية وحكومة لانه قطع من اللسان نصفا صحيحا وربعا أشل، وان قطع واحد نصف

(19/91)


لسانه وذهب ربع الكلام، وجاء الثاني وقطع الباقي وجب عليه على تعليل الاول ثلاثة أرباع الدية، اعتبارا بما ذهب من الكلام، ويجب عليه على تعليل أبى إسحاق نصف الدية اعتبارا بما قطع من اللسان، وإن قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه فاقتص منه فذهب نصف كلامه، فقد استوفى المجني عليه حقه، وإن ذهب ربع كلامه أخذ المجني عليه مع القصاص ربع الدية لتمام حقه، فإن ذهب بالقصاص
ثلاثة أرباع كلامه لم يضمن الزيادة، لانه ذهب بقود مستحق.
(الشرح) حديث العباس أخرجه الحاكم في المستدرك (1) حدثنى محمد بن صالح ابن هانئ حدثنا الحسين بن الفضل قال حدثنا موسى بن داود الضبى حدثنا الحاكم ابن المنذر عن محمد بن بشر الخثعمي عن أبى جعفر مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ قال (أقبل العباس بن عبد المطلب إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه حلة وله ضفيرتان وهو أبيض، فلماه رآه النبي صلى الله عليه وسلم تبسم، فقال العباس يا رسول الله ما أضحكك؟ أضحك الله سنك، فقال أعجبني جمال عم النبي، فقال العباس ما الجمال في الرجال؟ قال اللسان) وقال الذهبي في تعليقه عل المستدرك (مرسل) .
وأما قوله (المرء بأصغريه قلبه ولسانه) فإن المعروف ان وفدا قدم لبيعة أمير المؤمنين عمربن عبد العزيز على رأسه صبى، فأمره عمر ان يتأخر ليتقدم من هو أسن، فقال يا أمير المؤمنين المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وما دام في المرء لسان لافظ وقلب حافظ فقد استحق الكلام.
ولو كان الامر بالسن لكان في مجلسك هذا من هو أحق منك بالخلافة، فأعجب به عمر أما الاحكام فإن في اللسان الدية، فإن قطع لسانه كله فالدية، وإن قطع نه ما أبطل كلامه فالدية أيضا، وإن عجز عن نطق بعض الحروف فماذا يعتبر فيه وجهان.
قال علامة أصحابنا يعتبر بجميع حروف المعجم وهى ثمانية وعشرون حرفا للعربي ولا اعتبار بلا لانها مكررة وهى لام وألف، فإن تعذر عليه النطق بحرف منها وجب عليه جز من ثمانية وعشرين جزءا من الدية، وعلى هذا قال أبو سعيد
__________
(1) ج 3 ص 330 طبعة الهند

(19/92)


الاصطخرى تعتبر بحروف السان وهى ثمانية عشر حرفا لا غير، ولا تعتبر
حروف الحلق وهى ستة، وهى من أول الحلق الالف والهاء ومن أوسطه العين والحاء ومن آخره الغين والخاء، ولا تعتبر حروف الشفة وهى أربعة الباء والميم والفاء والواو، لان الجناية على اللسان فاعتبرت حروفه دون غيره، والمنصوص هو الاول، لان هذه الحروف وإن كانت مخارجها في الحلق الشفة إلا أنه لا ينطق بها إلا باللسان.
إذا ثبت هذا فإن لم يذهب من كلامه الا حرف واحد لكنه تعطل بذهابه جميع الاسم الذى فيه ذلك الحرف، مثل أن تتعذر الميم لا غير فصار لا ينطق بمحمد لم يجب عليه الا خاصة الميم من الدية، لان الجاني انما يضمن ما أتلفه، فأما ما لم يتلفه بفعله وكان سليما الا أن منفعته تعطلت لتعطل التالف فلا يضمنه كما لو قصم ظهره فلم تشل رجلاه الا أنه لا يمكنه المشى بهما لقصر ظهره، فلا يلزمه الادية قصم الظهر.
فكذلك هذا مثله وان جنى عليه فذهب من كلامه حرف الا أنه استبدل به حرفا غيره بأن ذهب منه الراء وصار ينطق بالراء ما في موضعه وجبت عليه دية الراء لان ما استبدل به لا يقوم مقامه.
فإن جنى عليه آخر فأذهب هذا الحرف الذى استبدله بالراء، وجب عليه دية هذا الحرف لا لاجل أنه أتلف عليه حرفا قام مقام الاول.
ولكن لاجل أن هذا الحرف إذا تلف في هذا الوضع تلف في موضعه الذى هو أصله، وان لم يذهب بجنايته حرف وانما كان لثغ فزادت لثغته بالجناية، أو كان خفيف اللسان سهل الكلام فثقل كلامه أو حصلت بكلامه عجلة أو تمتمة، وجب على الجاني حكومة لانه أذهب كما لا من غير منفعة.
قوله (وان قطع ربع لسانه الخ) فجملة ذلك أنه إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه نظرت فإن استويا بأن قطع ربع لسانه وذهب ربع كلامه
وجب عليه ربع الدية.
وان قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه وجب عليه نصف الدية، لان الذى فات منهما سواء، فإن اختلف اعتبرت الدية بالاكثر مثل أن يقطع ربع اللسان فيذهب نصف الكلام، فيجب عليه نصف الدية،

(19/93)


أو يقطع نصف اللسان فيذهب ربع الكلام فيجب عليه نصف الدية بلا خلاف من أصحابنا في الحكم، وانما اختلفا في علته.
فمنهم من قال أن منفعة اللسان وهو الكلام مضمونه بالدية، واللسان مضمون بالدية، فإذا اجتمعا اعتبر أكثر الامرين منهما، كما وجنى على يده فشلت فيها جميع دية اليد، ولو قطع خنصره وبنصره وجب فيهما خمسا دية اليد، وإن كان منفعتهما أقل من منفعة خمس اليد ولكن اعتبارا بأكثر الامرين من منفعة اليد وعضوها وقال أبو إسحاق المروزى: الاعتبار باللسان لانها هي المباشرة بالجناية، إلا أنه إذا قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه فإنما وجب عليه نصف الدية لانه دل ذهاب نصف كلامه على شلل ربع آخر غير المقطوع.
إذا ثبت هذا فقطع رجل لسان رجل فذهب نصف كلامه، فقد ذكرنا أنه يجب عليه نصف الدية، فإن جاء آخر فقطع الثلاثة الارباع الباقية من لسانه فإنه يجب عليه على التعليل الاول ثلاثة أرباع الدية اعتبارا بما بقى من اللسان.
وعلى تعليل أبى اسحاق يجب عليه نصف الدية وحكومة، ولانه قطع نصف لسان صحيحا وربعا أشل.
وإن قطع رجل نصف لسان رجل فذهب كلامه وقلنا له أن يقتص منه في نصف اللسان فاقتص منه فذهب نصف كلام الجاني فقد استوفى المجني عليه حقه، فإن ذهب ربع كلام الجاني وجب للمجني عليه ربع الدية، وان ذهب ثلاثة أرباع كلام الجاني لم يجب على المقتص شئ لان التالف بالقود غير
مضمون عندنا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان لرجل لسان له طرفان فقطع رجل أحد الطرفين فذهب كلامه وجبت عليه الدية، وإن ذهب نصفه وجب عليه نصف الدية، وإن ذهب ربعه وجب عليه ربع الدية، وان لم يذهب من الكلام شئ نظرت، فإن كانا متساويين في الخلقة، فهما كاللسان المشقوق، ويجب بقطعهما الدية وبقطع أحدهما نصف الدية

(19/94)


وإن كان أحدهما تام الخلقة والآخر ناقص الخلقة فالتام هو اللسان الاصلى والآخر خلقة زائدة، فإن قطعهما قاطع وجب عليه دية وحكومة.
وان قطع التام وجبت عليه دية، وان قطع الناقص وجبت عليه حكومة
(فصل)
وان جنبى على لسانه فذهب ذوقه فلا يحس بشئ من المذاق، وهى خمسة: الحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة وجبت عليه الدية، لانه أتلف عليه حاسة لمنفعة مقصودة فوجبت عليه الدية، كما لو أتلف عليه السمع أو البصر، وإن نقص بعض الذوق نظرت فإن كان النقصان لا يتقدر، بأن ك ان يحس بالمذاق الخمس إلا أنه لا يدركها على كمالها وجبت عليه الحكومة لانه نقص لا يمكن تقدير الارش فيه، فوجبت فيه حكومة، وان كان نقصا يتقدر بأن لا يدرك أحد المذاق الخمس ويدرك الباقي، وجب عليه خمس الدية، وان لم يدرك اثنين وجب عليه خمسمان، لانه يتقدر المتلف فيقدر الارش
(فصل)
وإن قطع لسان أخرس فإن كان بقى بعد القطع ذوقه وجبت عليه الحكومة.
لانه عضو بطلت مفعته فضمن بالحكومة كالعين القائمة واليد الشلاء، وان ذهب ذوقه بالقطع وجبت عليه دية كاملة لاتلاف حاسة الذوق،
وان قطع لسان طفل فإن كان قد تحرك بالبكاء أو بما يعبر عنه اللسان كقوله بابا وماما وجبت عليه الدية، لانه لسان ناطق.
وان لم يكن تحرك بالبكاء ولا بما يعبر عنه اللسان فإن كان بلغ حدا يتحرك اللسان فيه بالبكاء والكلام وجبت الحكومة.
لان الظاهر أنه لم يكن ناطقا، لانه أو كان ناطقا لتحرك بما يدل عليه.
وان قطعه قبل أن يمضى عليه زمان يتحرك فيه اللسان وجبت عليه الدية لان الظاهر السلامة فضمن كما تضمن أطرافه.
وان لم يظهر فيها بطش.

(فصل)
وان قطع لسان رجل فقضى عليه بالدية ثم نبت لسانه.
فقد قال فيمن قلع سن من ثغر ثم نبت سنه أنه على قولين
(أحدهما)
يرد الدية
(والثانى)
لا يرد.
فمن أصحابنا من جعل اللسان أيضا على قولين.
وهو قول أبى اسحاق لانه إذا كان في السن التى لا تنبت في العادة إذا نبتت قولان.
وجب أن يكون في اللسان أيضا قولان ومنهم من قال لا يرد الدية في اللسان قولا واحدا.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ

(19/95)


أبى هريرة، والفرق بينه وبين السن أن في جنس السن ما يعود، وليس في جنس اللسان ما يعود، فوجب أن يكون ما عاد هبة مجددة فلم يسقط به بدل ما أتلف عليه.
وإن جنى على لسانه فذهب كلامه وقضى عليه بالدية ثم عاد الكلام وجب رد الدية قولا واحدا، لان الكلام إذا ذهب لم يعد، فلما عاد علمنا أنه لم يذهب وإنما امتنع لعارض (الشرح) تتلخص أحكام هذين الفصلين في أنه إن كان لرجل لسان له طرفان فقطع قاطع أحدهما نظرت فإن أذهب كلامه وجبت عليه الدية، وإن ذهب بعض كلامه فإن كان الطرفان متساويين فإن كان ما قطعه بقدر ما نقص من الكلام وجب فيه من الدية بقدره، وإن كان أحدهما أكبر اعتبر
الاكبر على ما مضى في التى قبلها، وإن لم يذهب من الكلام شئ وجب بقدر ما قطع من اللسان من الدية، وإن قطعهما قاطع وجب عليه الدية، وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت فهى خلقة زائدة يجب فيها الحكومة وفى الآخر الدية (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وفى لسان الاخرى حكومة، وقال النخعي تجب فيه الدية.
دليلنا أن لسان الاخرس قد ذهبت منفعته فلم يجب فيه الدية كاليد الشلاء.
وإن قطع لسان طفل فإن كان قد تكلم ولو بكلمة واحدة، أو قال بابا أو ماما، أو تكلم في بكائه بالحروف وجبت عليه الدية لانا قد علمنا أنه لسان ناطق، وإن كان في حد لا يتكلم مثله بحرف، مثل أن يكون ابن شهر وما أشبه ولم يتكلم فقطع قاطع لسانه وجبت فيه الدية.
وقال أبو حنيفة: لا دية فيه لانه لسان لا كلام فيه فهو كلسان الاخرس.
دليلنا أن ظاهره السلامة وإنما لم يتكلم لطفوليته فوجبت فيه الدية كما تجب الدية بأعضائه، وان لم يظهر بها بطش، وإن بلغ حدا يتكلم فيه مثله فلم يتكلم فقطع قاطع لسانه لم يجب عليه الدية، وإنما يجب فيه الحكومة، لان الظاهر من حاله أنه أخرس.
(فرع)
وإن جنى عليه فذهب ذوقه قال الشيخ أبو حامد فلا نص فيه

(19/96)


للشافعي رحمه الله ولكن يجب فيه الدية، لانه الحواس التى تختص بمنفعة، فهو كحاسة السمع والبصر، وقال القاضى أبو الطيب: قد نص الشافعي رحمه الله على على إيجاب الدية فيه.
قال ابن الصباغ: قلت أنا قد نص الشافعي على أن لسان الاخرس فيه حكومة وإن كان الذوق يذهب بذهابه.
واختار الشيخ أبو إسحاق هنا في هذا الفصل
وجوب الدية في الذوق، وقال إنما تجب في لسان الاخرس الحكومة إذا بقى ذوقه بعد قطع لسانه، فأما إذا لم يبق ذوقه ففيه الدية.
إذا ثبت هذا فقال المصنف: إذا لم يحس بالاحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة وجب على الجاني عليه الدية، فإن لم يحس بواحد منها أو باثنتين وجب فيه من الدية بقدره، وان كان يحس بها الا أنه لا يحس بها على الكمال وجب في ذلك الحكومة دون الدية (فرع)
إذا جنى عليه فذهب كلامه فأخذت منه الدية ثم نبت له لسان مكانه فاختلفت أصحابنا فيه فمنهم من قال: هل يجب رد الدية؟ فيه قولان كما قلنا في السن، ومنهم من قال لا يجب رد الدية قولا واحدا، لان عود السن معهود وعود اللسان غير معهود فعلم أنه هبة محددة.
قال في الام: وإن قطع لهاة رجل قطعت لهاته، فإن أمكن والا وجبت حكومة، واللهاة لحم في أصل السان
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب في كل سن خمس من الابل لما روى عمرو بن حزم (أَنَّ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل اليمن: وفى السن خمس من الابل) والانياب والاضراس والثنايا والرباعيات في ذلك سواء للخبر، ولانه جنس ذو عدد فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كالاصابع، وان قلع ما ظهر وخرج من لحم اللئة وبقى السنخ لزمه دية السن، لان المنفعة والجمال فيما ظهر فكملت ديته، كما لو قطع الاصابع دون الكف، فإن عاد هو أو غيره وقلع السنخ المغيب وجبت عليه حكومة، لانه تابع لما ظهر فوجبت فيه الحكومة، كما لو قطع الكف

(19/97)


بعد ما قطع الاصابع وإن قلع السن من أصلها مع السنخ لم يلزمه لما تحتها من
السنخ حكومة، لان السنخ تابع لما ظهر فدخل في ديته كالكف إذا قطع مع الاصابع، وإن كسر بعض السن طولا أو عرضا وجب عليه من دية السن بقدر ما كسر منها من النصف أو الثلث أو الربع، لان ما وجب في جميعه الدية وجب في بعضه من الدية بقدره كالاصابع، ويعتبر القدر من الظاهر دون السنخ المغيب لان الدية تكمل بقطع الظاهر، فاعتبر المكسور منه، فإن ظهر السنخ المغيب بعلة اعتبر القدر المكسور بما كان ظاهرا قبل العلة، لا بما ظهر بالعلة، لان الدية تجب فيما كان ظاهرا فاعتبر القدر المكسور منه (الشرح) مضى تخريج كتاب عمرو بن حزم في أول الباب بلفظه كاملا وفيه (وفى السن خمس من الابل) وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وظاهر الحديث عدم الفرق بين الثنايا والانياب والضروس، لانه يصدق على كل منها أنه سن، ويروى عن على أنه يجب في الضرس عشر من الابل وروى عن عمر وابن عباس أنه يجب في كل ثنية خمسون دينارا وفى الناجذ أربعون وفى الناب ثلاثون، وفى كل ضرس خمس وعشرون وقال عطاء: في السن والرباعيتين خمس خمس، وفى الباقي بعيران بعيران، وهى الرواية الثانية عن عمر.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (في السن خمس من الابل) ولم يفرق، ولانه جنس ذو عدد فلم تختلف ديتها كدية الاصابع، والسن الذى يجب فيه خمس من الابل هو ما ظهر من اللثة، وهو اللحم الذى ينبت فيه السن، لان المنفعة والجمال في ذلك، كما تجب دية اليد في الاصابع وحدها، فإن قطع ما ظهر من السن ثم قلع هو أو غيره سنخ السن والسنخ من كل شئ أصله والجمع أسناخ كحمل واحمال وجب على قالع السنخ الحكومة، كما لو قطع رجل أصابع رجل ثم قطع هو أو غيره الكف.
وإن قلع السن وسنخها وجبت عليه دية السن لا غير، لان السنخ يتبع السن في الدية إذا قلع معها،
كما لو قطع الاصابع مع الكف.
وإن ظهر السنخ المعيب بعلة اعتبر المكسور من الموضع الذى كان ظاهرا قبل العلة لا بما ظهر بالعلة، فإن اتفقا أنه كسر القدر

(19/98)


الذى كان ظاهرا قبل العلة فعليه خمس من الابل، وإن قال الجاني كسرت بعض الظاهر فعلى أقل من خمس من الابل، وقال المجني عليه: بل كسرت كل الظاهر فالقول قول الجاني مع يمينه، لان الاصل براءة ذمته مما زاد على ما أقربه.
(مسألة) في كل ما قررنا وافقنا أحمد وأصحابه، إلا أنه حكى ابن قدامة رواية عن أحمد أن في جميع الاسنان الدية، فتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد ابن المسيب للاجماع، على أن في كل سن خمسا من الابل وورد الحديث به فيكون في الاسنان ستون بعيرا، لان فيه اثنى عشر سنا، أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربعة أنياب فيها خمس خمس، وفيه عشرون ضرسا في كل جانب عشرة، خمسة في الفك الاعلى ومثلها في الاسفل، فيكون فيها على رأس أحمد أربعون بعيرا في كل ضرس بعيران فتكمل الدية.
وحجة من قال هذا أنه ذو عدد تجب فيه الدية فلم تزد على دية الانسان كالاصابع والاجفان وسائر ما في البدن، ولانها تشتمل على منفعة جنس فلم تزد ديتها على الدية كسائر منافع الجنس، وأو را هذا بأن الاضراس تختص بالمنافع دون الجمال، والاسنان بالمنافع والجمال، فاختلفا في الارش، ولكن يرد على هذا ما ترجح من المذهب عندنا وعند أصحاب أحمد ومالك وأبى حنيفة ومحمد ابن الحسن، وهو قول عروة وطاوس وقتادة والزهرى، لما أخرج أبو داود باسناده عن عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الاصابع سواء والاسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء) وهذا نص في مناط النزاع.
ويجاب عن قولهم بالنافع بأن كل دية وجبت في جملة كانت مقسومة على العدد دون المنافع كالاصابع والاجفان والشفتين، وقد أومأ ابن عباس إلى هذا فقال لا أعتبرها بالاصابع.
فأما ما ذكروه من المعنى فلا بد من مخالفة القياس فيه، فمن ذهب إلى قولنا خالف المعنى ذكروه، ومن ذهب إلى قولهم خالت التسوية الثابتة بقياس سائر الاعضاء من جنس واحد، فكان ما قررنا من الاذعان للاخبار الصحيحة وموافقة أكثر أهل العلم.

(19/99)


(فرع)
وإن كسر بعض سنه من نصف أو ثلث وجب عليه من ديتها بقدر ما كسر منها، لان ما وجب في جميعه الدية وجب في بعضه بقسطه من الدية كالاصابع، فإن قلع قالع ما بقى من السن مع السنخ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ بقى على الثاني بقدر ما بقى من السن من ديتها، ووجب في السنخ الحكومة لان السنخ إنما يبتع جميع السن، فأما بعض السن فلا يتبغها، وحكى ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد الاسفراينى قال وهذا فيه تفصيل، فإن كسر الاول نصف السن في الطول وبقى النصف فقلع الثاني الباقي منهما مع السنخ وجب نصف دية السن ويتبعه ما تحته من السنخ في نصف ديته وجبت في نصف السنخ الباقي الحكومة، كما لو قطع أصبعين وجميع الكف فإنه يجب عليه دية أصبعين ويتبعهما ما تحتهما من الكف وحكومة في الباقي وإن كسر الاول نصف السن في العرض وقلع الاخر الباقي مع السنخ تبعه ما تحته من السنخ كما لو قطع قاطع من كل أصبع من الكف أنملة فجاء آخر فقطع ما بقى من أنامل الاصابع مع الكف فإنه يجب عليه أرش ما بقى من الانامل ويتبعها الكف، كذلك هذا مثله.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قلع سنا فيها شق أو أكلة فإن لم يذهب شئ من أجزائها وجبت فيها دية السن كاليد المريضة، وان ذهب من أجزائها شئ سقط من ديتها بقدر الذاهب ووجب الباقي، فإن كانت إحدى ثنيتيه العلياوين أو السفلاوين أقصر من الاخرى فقلع القصيرة نقص من ديتها بقدر ما نقص منها، لانهما لا يختلفان في العادة، فإذا اختلفا كانت القصيرة ناقصة فلم تكمل ديتها، وإن قلع سنا مضطربة نظرت فإن كانت منافعها باقية مع حركتا من المضغ وحفظ الطعام والريق وجبت فيها الدية لبقاء المنفعة والجمال، وان ذهبت منافعها وجبت فيها الحكومة، لانه لم يبق غير الجمال، لم يجب غير الحكومة كاليد الشلاء، وان نقصت منافعها فذهب بعضها وبقى البعض ففيه قولان
(أحدهما)
يجب فيها الدية لان الجمال تام والمنفعة باقية، وان كانت ضعيفة

(19/100)


فكملت ديتها كما لو كانت ضعيفة من أصل الخلقة
(والثانى)
يجب فيها الحكومة، لان المنفعة قد نقصت ويجهل قدر الناقص، فوجب فيها الحكومة، وإن ضرب سنه فاصفرت أو أحمرت وجبت فيها الحكومة، لان منافعها باقية، وإنما نقص بعض جمالها فوجب فيها الحكومة، فإن ضربها فاسودت فقد قال في موضع تجب فيها الحكومة، وقال في موضع تجب الدية، وليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فالذي قال تجب فيها الدية إذا ذهبت المنفعة، والذى قال تجب فيها الحكومة إذا لم تذهب المنفعة.
وذكر المزني أنها على قولين، واختار أنه يجب فيها الحكومة، والصحيح هو الطريق الاول
(فصل)
وإذا قلع أسنان رجل كلها نظرت فإن قلع واحدة بعد واحدة وجب لكل سن خمس من الابل فيجب في أسنانه، وهى إثنان وثلاثون سنا مائة
وستون بعيرا، وإن قلعها في دفعة واحدة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجب عليه أكثر من دية لانه جنس ذو عدد فلم يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين
(والثانى)
أنه يجب في كل سن خمس من الابل، وهو المذهب لحديث عمرو بن حزم، ولان ما ضمن ديته بالجناية إذا انفرد لم تنقص ديته بانضمام غيره إليه كالموضحة.

(فصل)
إذا قلع سن صغير لم يثغر لم يلزمه شئ في الحال لان العادة في سنه أن يعود وينبت فلم يلزمه شئ في الحال كما لو نتب شعره، فإن نبت له مثلها في مكانها لم يلزمه ديتها، وهل تلزمه حكومة فيه وجهان
(أحدهما)
لا تلزمه كما لو نتف شعره فنبت مثله
(والثانى)
تلزمه حكومة الجرح الذى حصل بالقلع وإن لم تنبت له ووقع الاياس من نبانها وجبت ديتها لانا تحققنا إتلاف السن، وإن مات قبل الاياس من نباتها ففيه قولان، أحدهما: يجب عليه دية السن لانه قلع سنا لم تعد.
والثانى لا يجب لان الظاهر أنها تعود وإنما مات بموته.
وان نبتت له سن خارجة عن صف الاسنان، فإن كانت بحيث ينتفع بها وجبت ديتها، وإنك انت بحيث لا ينتفع بها وجبت الحكومة للشين الحاصل بخروجها عن سمت الاسنان، فإن

(19/101)


نبتت أقصر من نظيرتها وجب عليه من ديتها بقدر ما نقص لانه نقص بجنايته فصار كما لو كسر بعض سن.
وإن نبت أطول منها فقد قال بعض أصحابنا لا يلزمه شئ وان حصل بها شين لان الزيادة لا تكون من الجناية.
قال الشيخ الامام: ويحتمل عندي أن تلزمه الحكومة للشين الحاصل بطولها، كما تلزمه في الشين الحاصل بقصرها، لان
الظاهر أن الجميع حصل بسبب قلع السن.
وإن نبتت له سن صفراء أو سن خضراء وجبت عليه الحكومة لنقصان الكمال فإن قلع سن من أثغر وجبت ديتها في الحال، لان الظاهر أنه لا ينبت له مثلها، فان أخذ الدية ثم نبت له مثلها في مكانها ففيه قولان
(أحدهما)
يجب رد الدية لانه عاد له مثلها فلم يستحق بدلها كالذى لم يثغر
(والثانى)
أنه لا يجب رد الدية لان العادة جرت في سن من ثغر أنه لا يعود فإذا عادت كان ذلك هبة مجددة فلا يسقط به ضمان ما أتلف عليه
(فصل)
ويجب في اللحيين الدية لان فيهما جمالا وكمالا ومنفعة كاملة، فوجبت فيهما الدية كالشفتين، وإن قلع أحدهما وتماسك الآخر وجب عليه نصف الدية، لانهما عضوان تجب الدية فيهما فوجب نصف الدية في أحدهما كالشفتين واليدين.
وإن قلع اللحيين مع الاسنان وجب عليه دية اللحيين ودية الاسنان ولا تدخل دية أحدهما في الاخر لانهما جنسان مختلفان فيجب في كل واحد منهما دية مقدرة فلم تدخل دية إحداهما في دية الاخرى كالشفتين مع الاسنان، وتخالف الكف مع الاصابع فإن الكف تابع للاصابع في المنفعة، واللحيان أصلان في الجمال والمنفعة، فهما كالشفتين مع الاسنان (الشرح) إذا قلع سنا مضطربة لكبر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ وطحن الطعام واستدرار اللعاب وجبت ديتها على أحد الوجهين، وهو قول أحمد وأصحابه، لان جمالها باق ومنفعتها باقية، إنما نقصت، ونقعان المنفعة لا يوجب سقوط الدية كاليد العليلة.
(الثاني) لا يجب فيها الدية، وإنما تجب فيها الحكومة، لان معظم منفعتها

(19/102)


تذهب بالاضطراب، فصار كاليد الشلاء فإن جنبى على سنه جان فاضطربت
وطالت عن الاسنان، وقيل إنها تعود إلى مدة على ما كانت عليه انتظرنا إليها، فإن ذهبت وسقطت وجبت ديتها، وإن عادت كما كانت فلا شئ فيها، كما لو جنى على يده فمرضت ثم برأت، وان بقى فيها اضطراب ففيها حكومة لجنايته، وإن مضت المدة ولم تعد إلى ما كانت عليه ففيها حكومة، وإن قلعها قالع قبل استقرارها فهل تجب عليه الدية والحكومة؟ فيه قولان، كما لو قلعها وهى مضطربة بمرض أو كبر.
قال الشيخ أبو حامد: إلا أنا إذا أوجبنا الحكومة ههنا فإنها تكون أقل من الحكومة في التى قبلها، لان المجني عليه لم ينتفع بالاضطراب الحادث من المرض وهاهنا المجني عليه قد انتفع بالاضطراب الحادث من الجناية الاولة، وإن قلع رجل سنا فيها شق أو أكلة فإن لم يذهب من أجزائها شئ وجب فيها سن كاليد المريضة، وان ذهب منها شئ سقط من ديتها بقدر الذاهب ووجب الباقي (فرع)
إذا قلع قالع سنة بسنخها وأبانها ثم ردها المجني عليه إلى مكانها فنبتت وعادت كما كانت وجبت على الجاني الدية.
ونص أحمد في رواية جعفر بن محمد أنه لا تجب فيها الدية.
دليلنا أن الدية وجبت عليه بإبانته السن على الفور، ورده لها لا حكم له لانه يجب ازالتها، فإن قلعها قالع فلا شئ عليه لانه يجب قلعها وان لم يرد المقلوعة وانما رد مكانها عظما طاهرا أو قطعة ذهب أو فضة فنبت عليها اللحم ثم قلعها انسان ففيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد الاسفراينى
(أحدهما)
لا يجب عليه شئ لانه أزال مال ليس من بدنه فلم يجب عليه دية كما لو أعاد سنه المقلوعة ثم قلعها قالع
(والثانى)
يجب عليه حكومة لانه أبيح له أن يتخذ سنا من عظم طاهر أو ذهب أو فضة، وقد حصل له في ذلك جمال ومنفعه، وقد أزالها فلزمه الحكومة لذلك.
(فرع)
قوله (وإذا قلع أسنان رجل كلها الخ) وقد مضى في شرح ما قال المصنف قبل هذا تفصيل مفيد، والذى لم نقله هو أنه إذا كان بعض اضراسه قصارا أو ثنايا طوالا وجب في كل سن ديتها، لان العادة أن الاضراس أقصر

(19/103)


من الثنايا، وإن كان بعض الاضراس طوالا وبعضها قصارا، أو كان بعض الثنايا طوالا وبعضها قصارا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ كَانَ النقصان قريبا ففى كل سن ديتها، لان هذا من خلقة الاصل، وإن كان النقصان كثيرا ففيها بقسطها من الدية، فإنك انت القصيرة نصف الطويلة وجب فيها نصف دية السن وإن كانت ثلثها ففيها ثلث ديتها، لان هذا القدر من النقص لا يكون إلا من سبب مرض أو غيره.
اه (فرع)
إذا جنبى على سنه فسودها ففيه قولان، وحكى عن أحمد روايتان
(أحدهما)
تجب ديتها كاملة وهو ظاهر كلام الخرقى، ويروى هذا عن زيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وشريح والزهرى وعبد الملك ابن مروان والنخعي ومالك والليث وعبد العزيز بن أبى سلمة والثوري وأصحاب الرأى (الثانية) وهو المختار عندنا أنه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيه دية، وان لم يذهب نفعها ففيه حكومة.
قال في البيان: وان ضرب رجل سن رجل فاحمرت أو اصفرت ولم يذهب شئ من منفعتها وجبت فيها الحكومة، لانه أذهب جمالامن غير منفعة، وان اسودت فقد قال الشافعي في موضع فيها الحكومة، وقال في موضع فيها الدية، فقال المزني فيها قولان، وقال سائر أصحابنا ليست على قولين وانما هي على حالين فحيث قال تجب فيها الدية إذا ذهبت منفعتها، وحيث قا ل تجب فيها الحكومة أراد إذا لم تذهب منفعتها، وكل موضع قلنا تجب فيه الحكومة إذا اسودت فإنه
يجب فيها أكثر من الحكومة إذا احمرت أوء اصفرت، لان الشين أي العيب والقبح في السواد أكثر وفى حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مرفوعا (وفى السن السوداء إذا نزعت ثلث ديتها.
قال الشوكاني (لذهاب الجمال والمنفعة) ولقول على عليه السلام (إذا اسودت فقد تم عقلها) أي ديتها، فإن لم يضعف فحكومة له (فرع)
إذا تبتت أسنان الصبى سوداء فسقطت ثم نبتت سوداء، فإن كانت كاملة المنفعة غير مضطربة فقلع قالع بعضها ففى كل سن ديتها، لان هذا السواد من أصل الخلقة فهو كما أو كانت العين عمشاء من أصل الخلقة فأما إذا نبتت أسنانه

(19/104)


بيضا فسقطتت، ثم نبتت سوداء، ثم قلع قالع بعضها قال الشافعي رضى الله عنها سألت أهل الخبرة فإن قالوا لا يكون هذا من مرض ففيها الحكومة لانها ناقصة الجمال والمنفعة.
وان قالوا قد يكون من مريض وغيره وجبت في كل سن ديتها، لان الاصل سلامتها من المرض.
(مسألة) قوله (ويجب في اللحيين الخ) فجملة ذلك أن اللحيين وهما العظمان اللذان تنبت عليهما الاسنان ويقال لهما الفكان تجب فيهما الدية، لان فيهما منفعة وجمالا وفى أحدهما نصف الدية، لا ما وجبت الدية في اثنتين منه وجبت في أحدهما نصفها كالعينين، وان قلع اللحيين وعليهما الاسنان فحكى المسعودي فيه وجهين:
(أحدهما)
لا يجب عليه الا دية واحدة، كما لون قطع الاصابع مع الكف
(والثانى)
وهو اقول أصحابنا العراقيين أنه يجب في اللحيين الدية، في كل سن خمس من الابل، لان كل احد منهما تجب فيه دية مقدرة فلم يدخل أحدهما في الآخر كدية الاسنان والشفتين، ولان اللحيين كانا موجودين قبل الاسنان فلم يتبعا
ما حدث عليهما من الاسنان، والكف والاصابع، جدا معا فتبع الكف الاصابع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب في اليدين الدية لِمَا رَوَى مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فِي الدين الديه) ويجب في احداهما نصف الدية لما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب لعمرو بن حزم حين أمره على نجران في اليد خمسون من الابل، واليد التى تجب فيها الديه هي الكف، فإن قطع الكف وجبت الديه، وان قطع من نصف الذراغ أو من المرفق أو من العضد أو من المنكب وجبت الديه في الكف، ووجب فيما زاد الحكومه.
وقال أبو عبيد بن حرب، الذى تجب فيه الديه هو اليد من المنكب، لان اليد اسم للجميع، والمذهب الاول، لان اسم اليد يطلق على الكف، والدليل عليه قوله تعالى (والسارق والسارقه فاقطعوا أيديهما) والمراد به الكف، ولان المنفعة المقصودة من اليد هو البطش، والاخذ والدفع وهو بالكف، وما زاد

(19/105)


تابع للكف، فوجبت الدية في الكف، والحكومة فيما زاد.
ويجب في كل أصبع عشر الدية لما روى أبو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عليه كتب إلى أهل اليمن في كل أصبع من الاصابع من اليد والرجل عشر من الابل) ، ولا يفضل أصبع على أصبع لما ذكرناه من الخبر، ولما رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مسندا (الاصابع كلها ساء عشر عشر من الابل) ولانه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كاليدين، ويجب في كل أنملة ن غير الابهام ثلث دية الاصبع وفى كل أنملة من الابهام نصف دية الاصبع، لانه لما قسمت دية اليد على عدد الاصابع وجب أن يقسم دية الاصبع على عدد الانامل

(فصل)
وإن جنبى على يد فشلت، أو على أصبع فشلت، أو على أنملة فشلت، وجب عليه ما يجب في قطعها، لان المقصود بها هو المنفعة فوجب في إتلاف منفعتها في إتلافها، وان قطع يدا شلاء أو أصبعا شلاء أو أنملة شلاء وجب عليه الحكومة لانه إتلاف جمال من غير منفعه.
(الشرح) خبر معاذ أخرجه البيهقى، وخبر عمرو بن حزم هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لاهل اليمن، قال ابن كثير في الارشاد وهذا الكتاب متداول بين ائمة الاسلام قديما وحديثا يعتمدون عليه، ويفزعون في مهمات هذا الباب إليه.
أما حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فإن هذه زيادة في حديث رواه أحمد وأصحاب السنن الاربعة، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود ولفظه عندهم (في المواضح خمس خمس من الابل وزاد أحمد والاصابع سواء كلهن عشر عشر من الابل)) أما قوله (وتجب في اليدين الدية) فجملة ذلك أن أهل العلم قد أجمعوا على وجوب الدية في الدين ووجوب نصفها في إحداهما لما سقناه من حديث معاذ وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لاهل اليمن، ولان فيهما جمالا ظاهرا ومنفعة كاملة، وليس في البدن من جنسهما غيرهما فكان فيهما الدية كالعينين.

(19/106)


واليد التى تجب فيها الدية من الكوع لان اسم اليد عند الاطلاق ينصرف إليها بدليل قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) كان الواجب قطعهما من الكوع، وكذلك التيمم يجب فيه مسح اليدين إلى الكوعين، فإن قطعها من بعض الساعد أو من المرفق أو من المنكب وجبت الدية في الكف وفيما زاد عليه الحكومة وقال أبو يوسف ما زاد على الاصابع إلى المنكب يتبع الاصابع كما تتبعها الكف
نص عليه أحمد في رواية أبى طالب، وهو قول عطاء وقتادة والنخعي وابن أبى ليلى ومالك وغيرهم أنه أو قطع اليد من الكوع ثم قطعها من المرفق وجب في المقطوع ثانيا حكومة، لانه وجبت عليه دية اليد بالقطع الاول فوجبت بالثاني حكومة كما لو قطع الاصابع ثم قطع الكف أو قطع حشفة الذكر ثم قطع بقيته أو كما لو فعل ذلك اثنان.
وقال أبو عبيد بن حرب من أصحابنا (اليد التى يجب بقطعها الدية هي اليد من المنكب) دليلنا الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع اليد من مفصل الكوع فكان فعله بيانا للآية، لان المنفعة المقصودة باليد الاخذ والدفع يحصل بالكف فوجبت الدية فيه، وإن جنى على كفه فشلت وجبت عليه ديتها لانه قد أذهب منفعتها فهو كما لو قطعها، وكما لو أعمى عينيه مع بقائها أو أخرس لسانه.
قال الشوكاني (والحد الموجب للدية من الكوع) كما حكاه صاحب البحر عن العترة وأبى حنيفة والشافعي، فإن قطعت اليد من المنكب أو الرجل من الركبة ففى كل واحدة منهما نصف دية وحكومه عند أبى حنيفه ومحمد والقاسمية والمؤيد بالله.
اه (فرع)
ويجب في كل أصبع عشر من الابل ولا تفضل أصبع على أصبع، وبه قال على وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت رضى الله عنهم، وعن عمر روايتان، إحداهما مثل قولنا، والثانية يجب في الخنصر ست من الابل، وفى البنصر تسع، وفى الوسطى عشرة وفى السبابة اثنا عشر وفى الابهام ثلاثة عشر فقسم دية اليد على الاصابع.
دليلنا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في كل أصبع مما هناك من اليد والرجل عشر

(19/107)


من الابل وقيل إن عمر رضى الله عنه وأرضاه لما وجد هذا في الكتاب عند
آل حزم رجع عن التفصيل.
وروى أن ابن عباس كان يقول في كل أصبع عشر من الابل، فوجه إليه مروان وقال له أما سمعت قول عمر رضى الله عنه؟ فقال ابن عباس قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى من قول عمر، وأن الدية إذا وجبت بعدد قسمت عليه على عدده لا على منافعه كاليدين والرجلين، ويجب في كل أنملة من الاصابع ثلث دية الاصبع، إلا الابهام فإنه يجب في كل أنملة منها نصف دية الاصبع، وهو قول زيد بن ثابت.
وحكى عن مالك أنه قال (للابهام أيضا ثلاث أنامل إحداهن باطنة) دليلنا أن كل أصبع لها أنملة باطنة ولا اعتبار بها، وانما الاعتبار بالانامل الظاهرة، ووجدنا لكل أصبع غير الابهام ثلاث أنامل وللابهام أنملتين فقسمت الدية عليهما وإن جنى على أصبع فشلت أو على أنملة فشلت وجب عليه ديتها، لانه أذهب منفعتها فهو كما لو قطعها.
(فرع)
إذا كان له كفان على كوع أو يدان على مرفق أو منكب، فإن لم يبطش بواحدة منهما فهما كاليد الشلاء فلا يجب فيمهما قود ولا دية، وإنما يجب فيهما الحكومة، وان كان يبطش بإحداهما دون الاخرى فالباطشة هي الاصليه والاخرى زائدة، سواء كانت الباطشه على مستوى الذراع أو منحرفه عن سمت الذراع، لان الله تعالى جعل البطش في اليد كما جعل البول في الذكر، فاستدل بالبطش على الاصليه كما يستدل على الخنثى بالبول، وان كان يبطش بهما إلا أن إحداهما أكثر من الاخرى، فالتى هي أكثر بطشا هي الاصليه والاخرى خلقة زائدة، وعلى قول ابن حامد من أصحاب أحمد لا شئ فيها، لانها عيب، فهى كالسلعة في اليد.
أما إذا كانت احداهما على مستوى الخلقه والاخرى زائدة عن الاستواء
فالمستوية هي الاصلية، والزائلة هي الزائدة، وان كاننا على مستوى الخلقة، فإن كانت احداهما لها خمس أصابع وللاخرى أربع اصابع فالاصليه هي كامله الاصابع والاخرى زائدة، فإن استويا في ذلك كله الا أن في احداهما أصبعا

(19/108)


زائدة لم يحكم بكونها بذلك، لان الاصبع الزائدة قد تكون في اليد الاصلية وفى الزائدة حكمنا أن إحداهما أصلية والاخرى زائدة أو جبنا في الاصلية القود والدية الكاملة وفى الآخر الحكومة، وإن تساويا ولم يعلم الزائدة منهما من الاصلية.
قال الشافعي رحمه الله: فهما أكثر من يد وأقل من يدين، فإن قطعهما قاطع قطعت يده، ووجب عليه مع القصاص حكومة للزيادة، وإن عفا عن القصاص أو كانت الجناية خطأ وجب على الجاني دية وزيادة حكومة، وإن قطع قاطع إحداهما لم يجب عليه القصاص لانه ليس له مثلها، ولكن يجب عليه نصف دية يد وحكومة، وإن قطع أصبعا من إحداهما وجب عليه نصف دية أصبع وحكومة، وان قطع أنملة منهما وجب عليه نصف دية أنملة وحكومة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب في الرجلين الدية لِمَا رَوَى مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (في الرجلين الدية) ويجب في احداهما نصف الدية لما روى عمرو بن حزم (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (في الرجل نصف الدية) والرجل التى يجب في قطعها نصف الدية القدم، فإن قطع من الساق أو من الركبة أو من بعض الفخذ من أصل الفخذ وجبت الدية في القدم، ووجبت الحكومة فيما زاد، لما ذكرناه في اليد، ويجب في كل أصبع من أصابع الرجل عشر الدية لما ذكرناه في اليد من حيث عمرو بن حزم، ويجب في كل أنملة من غير الابهام ثلث دية الاصبع، وفى كل أنملة من الابهام نصف دية
الاصبع لما ذكرناه في اليد.

(فصل)
ويجب في قدم الاعرج ويد الاعسم إذا كانتا سليمتين الديه، لان العرج انما يكون من قصر احدى الساقين، وذلك ليس بنقص في القدم، والعسم لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ، وذلك ليس بنقص في الكف، فلم يمنع كمال الدية في القدم، والكف كذكر الخصى وأذن الاصم وأنف الاخشم.

(فصل)
إذا كسر الساعد فجبره مجبر أو خلع كفه فاعوجت ثم جبرها فجبرت وعادت مستقيمه، وجبت الحكومه، لانه حصل به نقص، وان لم تعد إلى

(19/109)


ما كانت، كانت الحكومه أكثر لان النقص أكثر فإن قال الجاني أنا أعيد خلعها وأعيدها مستقيمه منع من ذلك لانه استئناف جنايه أخرى فإن كابره وخلعه فعاد مستقيما وجب عليه بهذا الخلع حكومة، ولا يسقط ما وجب من الحكومه الاولى لانها حكومه استقرت بالجناية، وما حصل من الاستقامة حصل بمعنى آخر، فلم يسقط ما وجب، ويخالف إذا جنى على العين فذهب الضوء ثم عاد، لانا نتيقن أن الضوء لم يذهب
(فصل)
وان كان لرجل كفان من ذراع، فإن لم يبطش بواحد منهما، لم يجب فيهما قود ولا دية، لان منافعهما قد بطلت فصارا كاليد الشلاء، ويجب فيهما حكومه، لان فيهما جمالا، وان كان أحدهما يبطش دون الآخر فالذي يبطش به هو الاصلى فيجب فيه القود أو الدية، والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومه، وان كان أحدهما أكثر بطشا كان الاصلى هو أكثرهما بطشا سواء كان الباطش على مستوى الذراع أو منحرفا عنه، لان الله تعالى جعل البطش في الاصلى فوجب أن يرجع في الاستدلال عليه إليه، كما يرجع في الخنثى إلى بوله.
وان استويا في البطش فإن كان أحدهما على مستوى الذراع والاخر
منحرفا عن مستوى الذراع فالأصلي هو الذى على مستوى الذراع فيجب فيه القود أو الديه، ويجب في الآخر الحكومه، فإن استويا في ذلك فإن كان أحدهما تام الاصابع والآخر ناقص الاصابع فالأصلي هو التام الاصابع، فيجب فيه القود أو الديه، والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومه، وان استويا في تمام الاصابع الا أن في أحدهما زيادة أصبع لم ترجح الزيادة، ولانه قد يكون الاصبع الزائدة في غير اليد الاصلية، فإذا استويا في الدلائل فهما يد واحدة، فإن قطعهما قاطع وجب عليه القود أو الديه، ووجب عليه للزيادة حكومه، فان قطع احداهما لم يجب القود لعدم المماثلة، وعليه نصف ديه يد وزيادة حكومه لانها نصف يد زائدة.
وان قطع أصبعا من احداهما فعليه نصف دية أصبع وزيادة حكومه لانها نصف أصبع زائدة.
وان قطع أنملة أصبع من احداهما وجب عليه نصف دية أنملة وزيادة حكومه، لانها نصف أنملة زائدة

(19/110)


(الشرح) قوله (الاعسم) العسم في الكف والقدم، بابه تعب يبس مفصل الرسغ حتى تعوج الكف والقدم، والرجل أعسم والمرأة عسماء، عسم عسماء من باب ضرب طمع في الشئ.
وقوله (خلع كفه) أي فكها من معصمها فاسترخت فلا يطيق رفعها، وقد شلت يده تشل بفتح الشين فيهما إذا يبست وقيل إذا استرخت، ولا تشلل بفتح التاء واللام إذا دعا لك بالسلامة من الشلل.
قال الشاعر فلا تشلل يد فتكت بعمرو
* فإنك لن تذل ولن قضاما إذا ثبت هذا فإنه يجب في الرجلين الدية وفى إحداهما نصف الدية لما ذكرناه من حديث معاذ وحديث عمرو بن حزم، وهو قول عمر وعلى ولا مخالف لهما في الصحابة، والرجل التى يجب بقطعها الدية هي القدم، فإن قطعها من نصف
الساق أو من الركبة أو من الورك وجب الدية في القدم والحكومة فيما زاد لما ذكرناه في اليد، ويجب في كل أصبع منها وفى كل أنملة ما يجب في أصابع اليد وأناملها لما ذكرناه في اليد.
فإن خلق له قدمان على كعب واحد أو ساقان على ركبة أو ركبتان على فخذ فالحكم فيه كالحكم فيمن خلق له كفان على مفصل، إلا أن الشافعي رضى الله عنه قال ها هنا (إذا كان إحدى القدمين أطول من الاخرى وكان يمشى على الطويلة فالظاهر أن الاصلية هي الطويلة التى يمشى عليها، فإن قطع قاطع القدم الطويلة لم يجب على القاطع في الحال الدية، بل ينظر في المقطوع فإن لم يمش على القصيرة أو مشى عليها مشيا ضعيفا وجبت الدية في الطويلة، لاننا علمنا أن الاصلية هي الطويلة، والقصيرة زائدة فيجب على قاطعها الحكومة وإن مشى على القصيرة مشى العادة وجب على قاطع الطويله الحكومة، لانا علمنا أن الاصل هو القصر، وإنما منعه المشى عليها الطويله.
وان قطع قاطع القصيرة وجبت عليه الدية، فان جنى رجل على الطويله فشلت وجبت عليه الدية لانها هي الاصلية في الظاهر فان قطعها قاطع بعد الشلل وجبت عليه الحكومة ثم ينظر فيه فان لم يمش على القصيرة أو مشى عليها مشيا ضعيفا فقد علمنا أن الاصلية هي الطويله، واستقر ما أخذه، وإن مشى على القصيرة مشى العادة

(19/111)


علمنا أن القصيرة هي الاصلية، فيجب عليه أن يرد على الجاني الاول على الطويله ما زاد على الحكومه الا الديه، وان قطع قاطع القصيرة ك ان عليه الديه.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه (وفى يد الاعسم ورجل الاعرج إذا انتا سالمتين الديه) وهذا صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم (في اليد خمسون من الابل وفى الرجل خمسون من الابل) ولم يفرق، ولان العرج انما يكون لقصر
الساق أو لمرض فيه أو في غيره من الرجل والقدم سالم بنفسه فلم تنقص دية القدم لذلك، وأما الاعسم فاختلف أصحابنا فيه، فقال الشيخ أبو حامد هو الاعسر وهو الذى بطشه بيساره أكثر.
وقال ابن الصباغ الاعسم هو الذى يكون في رسغه مثل اعوجاج، والرسغ طرف الذراع مما بلى الكوع، وهو ظاهر كلام الشيخ أبى اسحاق.
(فرع)
ولا يفضل يمين عن يسار في الديه، لقوله صلى الله عليه وسلم (في اليد خمسون من الابل وفى الرجل خمسون من الابل) ولم يفرق، وان وجبت عليه الحكومه أكثرل مما لو عادت مستقيمه وجبت عليه حكومه للشين، وان عادت غير مستقيمه وجبت عليه الحكومه أكثر مما لو عادت مستقيمه، لانه أحدث بها نقص.
فان قال الجاني أنا أكسرها وأجبرها فتعود مستقيمه لم يجب رد الحكومه الاولة إليه، لانها استقرت عليه بالانجبار الاول، قال الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق يجب عليه للكسر الثاني.
وقال ابن الصباغ فيه وجان كالجناية إذا اندملت ولم يكن لها شين.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب في الاليتين الديه، لان فيهما جمالا كاملا ومنفعة كامله فوجب فيهما الدية كاليدين، ويجب في احداهما نصف الديه، لان ما وجبت الديه في اثنين منه وجب نصفها في أحدهما كاليدين، وان قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره، وان جهل قدره وجبت فيه الحكومه
(فصل)
وان كسر صلبه انتظر، فان جبر وعاد إلى حالته لزمته حكومة

(19/112)


الكسر، وان احدودب لزمه حكومة للشين الذى حصل به، وإن ضعف مشيه
أو احتاج إلى عصا لزمته حكومة لنقصان مشيه، وإن عجز عن المشى وجبت عليه الدية، لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال (مضت السنة أن في الصلب الديه، وفى اللسان الديه، وفى الذكر الذيه، وفى الانثيين الديه) ولانه أبطل عليه متفعة مقصودة فوجبت عليه الديه وإن كسر صلبه وعجز عن الوطئ وجبت عليه الديه، لانه أبطل عليه منفعة مقصودة، وإن ذهب مشيه وجماعه ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تلزمه الا دية واحدة لانهما منفعتا عضو واحد
(والثانى)
يلزمه ديتان، وهو ظاهر النص، لانه يجب في كل واحد منهما الدية عند الانفراد فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع، كما لو قطع أذنيه فذهب سمعه أو قطع أنفه فذهب شمه.

(فصل)
ويجب في الذكر الدية لِمَا رُوِيَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب مع عمرو بن حزم إلى اليمن وفى الذكر الديه) ويجب ذلك في ذكر الشيخ والطفل والخصى والعنين، لان العضو في نفسه سليم، ولا تجب في ذكر أشل لانه بطلت منفعته فلم تكمل ديته، ويجب فيه الحكومة لانه أتلف عليه جماله، وان جنى على ذكره فشل وجبت ديته، لان المقصود بالعضو هو المنفعة فوجب في اتلاف منفعته ما وجب في اتلافه.
وان قطع الحشفة وجبت الديه لان منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منفعة الكف بالاصابع، فكملت الدية بقطعها، ان قطع الحشفة وجاء آخر فقطع الباقي وجبت فيه حكومة، كما لو قطع الاصابع، وجاء آخر وقطع الكف، وان قطع بعض الحشفة وجب عليه من الدية بقسطها، وهل تتقسط على الحشفة وحدها أو على جميع الذكر؟ فيه قولان
(أحدهما)
تقسط على الحشفة، لان الدية تكل بقطعها فقسطت عليها
كدية الاصابع.

(والثانى)
يقسط على الجميع، لان الذكر هو الجميع فقسطت الديه على الجميع.

(19/113)


(فصل)
ويجب في الانثيين الدية لِمَا رُوِيَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم وفى الانثيين الدية) ويجب في أحدهما نصف الدية، لان ما وجب في اثنين منه الدية وجبت في أحدهما نصفها كاليد.
(الشرح) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون في الاليتين الدية، وفى كل واحدة منهما نصفها، منهم عمرو بن شعيب والنخعي والشافعي وأحمد وأصحاب الرأى اه ولانهما عضوان من جنس فيهما جمال ظاهر ومنفعة كاملة، فإنه يحلس عليهما كوسادتين فوجب فيهما الدية، وفى إحداهما نصفها كاليدين.
والاليتان هما ما علا أشرف من الظهر عن استواء الفخذين وفيهما الديه إذا أخذتا إلى العظم الذى تحتهما، وفى ذهاب بعضهما بقدره، لان ما وجبت الدية فيه وجب في بعضه بقدره، فإن جهل المقدار وجبت حكومة لانه نقص لم يعرف قدره، ولافرق بين اليتى الرجل والمرأة في ذلك، وان كان الانتفاع باليتى المرأة أكثر، لان الدية لا تختلف بالمنفعة كما قلنا في اليمين واليسار (مسألة) إذا كسر صلبه (1) فأذهب مشيه وجبت فيه الدية لما روى في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم (وفى الصلب الديه) وعن سعيد بن المسيب أنه قال مضت السنة أن في الصلب الدية وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا قال القاضى من الحابلة، وقال أحمد وأكثر أصحابه ومنهم ابن قدامة (إذا كسر الصلب فلم ينجبر الدية ولو لم يذهب مشيه أو جماعه، وبهذا قال زيد بن ثابت وعطاء والحسن والزهرى ومالك قالوا إذا ذهب
مشيه أو جماعه بسبب كسر صلبه ففيه دية أخرى غير دية الصلب، وظاهر رواية أحمد رواها عنه ابنه عبد الله أنه ان ذهب مشيه وجماعه وجبت ديتان، لانهما
__________
(1) في القاموس الصلب بالضم وبالتحريك عظم من لدن الكاهل إلى العجب وقد قيل المراد بالصلب هو ما في الجدول المنحدر من الدماغ لتفريق الرطوبة في الاعضاء لا نفس المتن، بدليل ما رواه ابن المنذر عن على، والاولى حمل الصلب في كلام الشارع على المعنى اللغوى

(19/114)


منفعتان تجب الدية بذهاب كل واحدة منهما منفردة، فإذا اجتمعتا وجبت ديتان كالسمع والبصر.
ولا أن الدية تجب إذا ذهب مشيه، ولان المشى منفعة جليلة فأشبه السمع والبصر، وإن لم يذهب المشى ولكن احتاج في مشيه إلى عكازة وجب فيه حكومه، وان لم يحتج إلى عكازة ولكنه يمشى مشيا ضعيفا وجبت عليه حكومة أقل من الحكومة الاولة، وان عاد مشيه كما كان إلا أن ظهره احدب لزمته حكومة للشين الحاصل بذلك، فإذا كسر صلبه فذهب جماعه وجبت عليه الديه، لانه روى ذلك عن أبى بكر وعمر وعلى رضى الله عنهم ولا تخالف لهم، ولانه منفعة جليلة فشابه السمع والبصر وان كسر صلبه فذهب ماؤه فقد قال القاضى أبو الطيب الذى يقتضى المذهب أنه تجب فيه الدية، وهو قول مجاهد لانه منفعة مقصودة فوجب في ذهابه الدية كالجماع وان كسر صلبه فذهب مشيه وجماعه ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجب عليه الا ديه واحدة لانهما منفعتا عضو واحد
(والثانى)
يجب عليه ديتان وهو المنصوص، لانهما منفعتان يجب في كل واحدة منهما الدية عند الانفراد فوجب في كل واحدة منهما دية عند الاجتماع كالسمع والبصر.
وقال ابن قدامة (وان أذهب ماءه دون جماعه احتمل وجوب الدية، وهذا يروى عن مجاهد، وهذا كما قلنا هو مقتضى النص لانه ذهب بمنفعة مقصودة فوجبت الديه.
(فرع)
وفى الذكر الديه لما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لاهل اليمن (وفى الذكر الدية) وهو اجماع أهل العلم، ولان فيه منفعه وجمالا فوجبت فيه الديه، وسواء قطع ذكر صبى أو شيخ أو شاب أو خصى أو عنين لعموم الخبر، واختلفت الرواية عن أحمد في العنين على روايتين (احداهما) تجب فيه الديه لذلك (والثانيه) لا تكمل ديته، وهو مذهب قتادة، لان منفعته الانزال والاحبال والجماع، وقد عدم ذلك منه في حال الكمال فلم تكمل ديته كالاشل، وبهذا فارق ذكر الصبى.
وكذلك اختلفت الرواية عن أحمد على روايتين (إحداهما) وهو مذهبنا،

(19/115)


وبه قال ابن المنذر: فيه دية كاملة، للخبر، ولان منفعة الذكر الجماع، وهو باق فيه (والثانية) لا تجب فيه، وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأى وقتادة وإسحاق لما ذكرنا في ذكرا لعنين، ولان المقصود منه تحصيل النسل ولا يوجد ذلك منه فلم تكمل ديته كالاشل، والجماع يذهب في الغالب.
واستدلوا على ذلك بالبهائم يذهب جماعها بخصائها، والفرق بين ذكر العنين وذكر الخصى أن الجماع في ذكر العنين أبعد منه في ذكر الخصى، واليأس من الانزال متحقق في ذكر الخصى دون ذكر العنين، فعلى قولهم لا تكمل الدية في ذكر الخصى إن قطع الذكر والانثيين دفعة واحدة.
أو قطع الذكر ثم قطع الانثيين لزمته ديتان فإن قطع الانثيين ثم قطع الذكر لم تلزمه إلا دية واحدة في الانثيين، وفى الذكر حكومة لانه ذكر خصى، وأفاد ابن قدامة عن القاضى أن أحمد نص على هذا.
(فرع)
إذا جنى رجل فقطع الحشفة والقضيب فقال أصحابنا البغداديون يجب فيه دية، ولا يفرد القضيب بالحكومة، لان اسم الذكر يقع على الجميع، فهو كما لو قطع يده من مفصل الكوع.
وقال الخراسانيون هل يفرد القضيب بالحكومة؟ فيه وجهان، وكذلك عندهم إذا قطع المارن مع القصبة أو قلع السن مع السنخ فهل يفرد القصبة عن المارن؟ والسنخ عن السن بالحكومة؟ فيه وجهان وإن قطع بعض الحشفة ففيه قولان:
(أحدهما)
ينظر كم قدر تلك القطعة من الحشفة نفهسا؟ فيجب فيها من الدية بقدرها من الحشفة، لان الدية تجب بقطع الحشفة وحدها
(والثانى)
ينظر كم قدر تلك القطعة من جميع الذكر، ويجب فيها من دية الذكر بقدرها، لانه أو قطع جميع الذكر لوجبت فيه الدية، فإذا قطع بعضه اعتبر المقطوع منه، فإن قطع رجل قطعة مما دن الحشفة، والحشفة باقية، قال الشافعي رضى الله عنه نظر فيه فإن كان البول يخرج على ما كان عليه، وجب بقدر تلك القطعة من جميع الذكر من الدية.
وان كان البول يخرج من موضع القطع وجب عليه أكثر الامرين من حصة القطعة من جيمع الذكر أو الحكومة وإن جرح ذكره فاندمل ولم يشل، فادعى المجني عليه أنه لا يقدر على الجماع لم

(19/116)


تجب الدية وانما تجب الحكومة، لان الجماع لا يذهب مع سلامة العضو، فإذا لم يقدر عليه كان ذلك لعلة أخرى في غير الذكر فلا يلزم الجاني دية الجماع، وإن جرح ذكره وطالت الجراحة إلى جوف الذكر لم تجب أرش الجائفة وإنما تجب فيه الحكومة، ولانه وإن كان له جوف، إلا أنه جوف لا يخاف من الوصول إليه التلف
قوله (ويجب في الانثيين الدية) وهذا صحيح لما رويناه من كتاب عمرو بن حزم في أول الباب.
وروى ذلك عن على وعمر وزيد بن ثابت.
والانثيان معناهما معنى البيضتين، أفاده في القاموس وذكر الشوكاني نقلا عن الغيث أن الانثيين هما الجلدتان المحيطتان بالبيضتين وفيه نظر لان كتب اللغة على خلاف ذلك.
وفى اللسان والانثيان الخصيتان، وهما أيضا الاذنان يمانية، وأنشد الازهرى لذى الرمة وكنا إذا القيسي نب عتوده
* ضربناه فوق الانثيين على الكرد وقال ابن سيده في المخصص، وقول الفرزدق وكنا إذا الجار صعر خده
* ضربناه تحت الانثيين على الكرد وقوله (مضت السنة الخ) قال الشافعي فيما أخرجه البيهقى عنه (ان قول سعيد من السنة يشبه أن يكن عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عامة أصحابه) ثم قال (وقد كنا نقول أنه على هذا المعنى ثم وقفت عنه) وأسأل الله الخير، لانا قد نجد منهم من يقول السنة، ثم لا نجد لقوله السنة نفاذا أنها عن النبي صلى الله عليه وسلم والقياس أولى بنا فيها، وقال الشوكاني، وعلى تسليم أن قوله (من السنة) يدل على الرفع فهو مرسل.
إذا ثبت هذا فإن الجمهور على أن فيهما الدية لما فيهما من جمال ومنفعة فهما كاليدين، وفى كل واحدة منهما نصف الدية.
وقال ابن المسيب في اليسرى ثلثى الدية لان النسل منها وفى اليمنى ثلث الديه.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (وفى الانثيين الديه) وظاهر هذا أن الديه مقسطه عليهما بالسويه وقوله ان النسل من اليسرى لم يصح.
وروى هذا في كتب العترة عن على ولم يثبت عندنا، وقد روى عن عمرو بن شعيب قوله عجبت لمن يقول ان النسل

(19/117)


من اليسرى كان لى غنيمات وأخصيتها فألقحت وإن صح فإن العضو لا تفضل ديته بزيادة المنفعة، كما لا تفضل اليد اليمنى على اليسرى، وكما لا يفضل الابهام على الخنصر في الدية.
(فرع)
وإن قطع الذكر والانثيين معا أو قطع الذكر ثم الانثيين وجبت عليه ديتان بلا خلاف، وإن قطع الانثيين ثم قطع الذكر بعدهما وجب عليه ديتان عندنا.
وقال أبو حنيفة تجب عليه دية الانثيين وحكومة في الذكر، لانه بقطع الانثيين قد ذهبت منفعة الذكر، لان استيلاده قد انقطع، دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (وفى الذكر الدية) ولم يفرق، ولان كل عضوين لو قطعا معا وجبت فيهما ديتان، فإذا قطع إحداهما بعد الاخرى وجبت فيهما ديتان، كما لو قطع الذكر ثم الانثيين، وما قاله لا نسلمه، لان منفعة الذكر باقية لانه يولجه، فأما الماء فإن محله في الظهر لا في الذكر وقد قيل انه بقطع الانثيين لا ينقطع الماء، وانما يرق فلا ينعقد منه الولد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وما اشترك فيه الرجل والمرأة من الجروح والاعضاء ففيه قولان قال في القديم: تساوى المرأة الرجل إلى ثلث الديه، فإذا زادت على ذلك كانت المرأة على النصف من الرجل، لما روى نافع عن ابن عمر أنه قال (تستوى دية الرجل والمرأة إلى ثلث الديه ويختلفان فيما سوى ذلك) وقال في الجديد هي على النصف من الرجل في جميع الاروش، وهو الصحيح لانهما شخصان مختلفان في دية النفس فاختلفا في أروش الجنايات كالمسلم والكافر ولانه جناية يجب فيها أرش مقدر فكانت المرأة على النصف من الرجل في أرشها كقطع اليد والرجل، وقول ابن عمر يعارضه قول على كرم الله وجهه (في جراحات الرجال والنساء سواء على النصف يما قل أو كثر

(فصل)
ويجب في ثديى المرأة الديه لان فيهما جمالا ومنفعه فوجب فيهما الديه كاليدين والرجلين، ويجب في إحداهما نصف الديه لما ذكرناه في الانثيين وان جنى عليهما فشلنا وجبت عليه الديه، لان المقصود بالعضو هو المنفعة فكان

(19/118)


إتلاف منفعته كإتلافه، وإن كانتا ناهدين فاسترسلتا وجبت الحكومة، لانه نقص جمالهما، وان كان لها لبن فجنى عليهما فانقطع لبنها وجبت عليه الحكومة لانه قطع اللبن بجنايته، وإن جنى عليهما قبل أن ينزل لها لبن فولدت ولم ينزل لها لبن سئل أهل الخبرة فإن قارا لا ينقطع إلا بالجناية وجبت الحكومة.
وان قالوا قد ينقطع من غير جناية لم تجب الحكومة، لجوا أن يكون انقطاعه لغير الجناية فلا تجب الحكومة بالشك وتجب الدية في حلمتيهما، وهو رأس الثدى لان منفعة الثديين بالحلمتين لان الصبى بها يمص اللبن وبذها بهما تتعطل منفعة الثديين فوجب فيهما ما يجب في الثديين، كما يجب في الاصابع ما يجب في الكف.
وأما حلمتا الرجل فقد قال في موضع يجب فيه حكومة، وقال في موضع قد قيل إن فيهما الدية فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
تجب فيهما الدية، أن ما وجبت فيه الدية من المرأة وجبت فيه الدية من الرجل كاليدين.

(والثانى)
وهو الصحيح أنه يجب فيهما الحكومة لانه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيه الحكومة، ومنهم من قال يجب فيه الحكومة قولا واحدا.
وقوله قد قيل إن فيهما الدية حكاية عن غيره
(فصل)
ويجب في اسكتي المرأة وهما الشفران المحيطان بالفرج الدية لان فيهما جمالا ومنفعة في المباشرة، يجب في أحدهما نصف الدية لان كل ما وجب في اثنين منه الدية وجب في أحدهما نصفها كاليدين
(الشرح) قد ذكرنا أن دية نفس المرأة على النصف من دية الرجل، وأما ما دون النفس فاختلف الناس فيه فذهب الشافعي في الجديد إلى أن أرشها نصف أرش الرجل في جميع الجراحات والاعضاء، وبه قال على بن أبى طالب والليث ابن سعد وابن أبى ليلى وابن شبرمة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وقال في القديم: تساوى المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زاد الارش على ثلث الدية كانت على النصف من الرجل وبه قال ابن عرم وربيعة لما روى عن عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى

(19/119)


يبلغ الثلث من ديته) رواه النسائي والدارقطني، وهو من رواية اسماعيل بن عياش عنه، وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة.
وقال في بداية المجتهد (إن الاشهر عن ابن مسعود وعثمان وشريح وجماعة أن دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلا الموضحة فإنها على النصف وحكى في البحر عن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار أنهما يستويان إلى أن يباغ أرشها خمس عشرة من الابل.
وعن الحسن البصري يستويان إلى النصف ثم ينصف.
وحكى في الْبَيَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (تساوى المرأة الرجل إلى ثلث الديه، فإذا بلغت إلى ثلث الديه كانت على النصف، وبه قال سيعدبن المسيب ومالك وأحمد واسحاق.
وروى أن ربيعة الرأى قال، قلت لابن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال عشر من الابل، قلت كم في أصبعين؟ قال عشرون، قلت كم في ثلاث أصابع؟ قال ثلاثون، قلت كم في أربع أصابع؟ قال عشرون من الابل، قلت حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها قال سعيد أعراقي أنت؟ قلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم قال هي السنه يا ابن أخى.
رواه مالك في الموطأ والبيهقي في سننه.
دليلنا حديث عمرو بن حزم (إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (دية المرأة عليا لنصف من دية الرجل ولم يرق بين القليل والكثير، ولانه جرح له أرش مقدر فوجب أن يكون في أرشه عن النصف من أرش الرجل أصله مع كل طائفه ما وافقتنا عليه، وأما حديث عمرو بن شعيب وابن المسيب فهما مرسلان قوله ويجب في ثديى المرأة الديه لان فيهما جمالا ومنفعه الخ وهذا صحيح، أما الجمال فظاهر، لانهما دليل على الانوثة وتوفر خصائض الاغراء وجذب الرجل نحوها.
وأما المنفعة فلان وظيفتهما تحقيق خصائص الامومه، إذ بهما يحيى الصبى فيلتهمهما ويلتقمهما فيدران لبنا يعيش وينمو به، ولان الديه إذا كانت واجبه في أذنها هي أقل جمالا ومنفعه من ثديها فلان تجب في الثدى أولى، ويجب في أحدهما نصف الديه لان كل اثنين وجبت الديه فيهما وجب في أحدهما نصفها كاليدين.

(19/120)


والثديان اللذان يجب فيهما لادية هما الحلمتان، وهما رأس الثدى اللذان يلتقمهما الصبى، لان الجمال والمنفعة يوجدان فيهما، فإن قطع قاطع الحلمتين ثم قطع آخر باقى الحملتين ثم قلع آخر باقى الثديين وجب على الاول الدية وعلى الثاني الحكومة كما لو قطع رجل الاصابع وقطع آخر بعده الكف، وقد أوهم المزني في الثديين بعد الحلمتين الدية حين قال وفى الثديين الديه وفى حلمتهما ديتان، وليس بشئ، وقد بينه في الام.
وإن قطع الحلمتين والثديين من أصلهما ففيه وجهان حكاهما المسعودي
(أحدهما)
يجب الدية في الحلمتين والحكومة في الثديين، كما لو قطع الحلمتين ثم قطع الثديين.

(والثانى)
وهو قول البغداديين من أصحابنا أنه لا يجب عليه إلادية، كما لو قلع السن مع سنخها.
(فرع)
قال الشافعي فإن قطع ثديها فأجافها فعليه نصف الديه للثدي وثلث دية للجائف، وإن قطع ثدييها وأجافها فعليه في الثديين كما الديه وفى الجائفتين ثلثا الديه، لان كل واحد منهما فيه دية مفردة إذا انفرد، فإذا اجتمعا وجب في كل واحد منهما ديته، كما لو قطع أذنه فذهب سمعه، وإن قطع ثديها وشيئا من جلد صدرها ففى الثدى الديه وفى الجلد الحكومه.
وإن جنى عليهما فشلا وجبت فيهما الديه، لان كل عضو وجبت الديه في قطعه وحبت في شلله.
وصورة ذلك أن يضرب الثدى ضربة يصل أثرها إلى الخلايا الداخلية للثدي فتحدث فيه أليافا تشل نموه كما تشل وظيفته عن إدرار اللبن، فإن لم يشلا ولكن استرخيا وكانا ناهدين أي مرتفعين وجبت فيهما الحكومه، لانه نقص جمالهما، وإن كان لهما لبن فجى عليهما فانقطع لبنهما أو نقص وجبت فيهما الحكومه، لانه نقص منفعتهما.
وان جنى عليهما قبل أن ينزل اللبن فلم ينزل في وقته فإن قال أهل الخبرة ان انقطاع اللبن لا يكون إلا من الجناية وجبت عليه الحكومه.
وان قالوا قد ينقطع من غير جنايه لم تجب الحكومه، لانه لا يعلم أن انقطاعه من الجناية.
(فرع)
وإن قطع حلمتي الرجل فقال الشافعي رضى الله عنه في موضع: فيهما

(19/121)


الحكومة، وقال في موضع: قد قيل إن فيهما الدية، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
يجب فيهما الدية، لان كل عضو اشترك فيه الرجل والمرأة كانت الديه فيه تجب من المرأة تجب فيه من الرجل كاليدين والرجلين
(والثانى)
لا يجب فيهما الدية لانه لا منفعة فيهما من الرجل وإنما فيهما
جمال، ومنهم من قال لا يجب فيهما الدية قولا واحدا لما ذكرناه في أحد قوليه، وما ذكرناه من قوله الآخر فليس بقول له، وإنما حكى قول غيره.
(فرع)
وإن كان للخنثى المشكل ثديان كثدي المرأة فهل يكونان دليلا على أنوثبته؟ فيه وجهان قال أبو على الطبري: يكونان دليلا على أنوثيته لانهما لا يكونان إلا للمرأة.
وقال عامة أصحابنا: لا يكونان دليلا على أنوثيته لانهما قد يكونان للرجل، فإن قطعهما قاطع، فإن قلنا تجب الدية في ثدى الرجل وجبت ها هنا دية ثدى امرأة لانه اليقين، فان قلنا لا تجب الديه في ثدى الرجل لم يجب هاهنا إلا الحكومة وإن ضرب ثدى الخنثى وكان ناهدا فاسترسل ولم يجعله دليلا على أنوثيته.
قال القاضى أبو الفتوح لم يجب على الجاني حكومة، لانه ربما كان رجلا ولا جمال له فيهما، ولا يحلقه نقص باسترسالهما، فإن بان امرأة وجبت الحكومة.
وإن كان للخنثى لبن فضرب ضارب ثديه فانقطع لبنه، فإن قلنا بقول أبى على وجبت عليه الحكومه، وإن قلنا بقول عامة أصحابنا بنى على الوجهين في لبن الرجل، هل يحكم بطهارته ويثبت التحريم والحرمة بإرضاعه.
ويجوز بيعه ويضمن؟ فإن قلنا تثبت هذه الاحكام يجب ها هنا الحكومة وإن قلنا لا تثبت هذه الاحكام لم تجب هاهنا الحكومة، ولكن يعزر به الجاني إذا كان عامدا للتعدى.
(مسألة) قوله (اسكتي المرأة) الاسكة وزان سدرة سدرة وفتح الهمزة لغة قليلة جانب فرج المرأة وهما إسكتان الجمع إسك مثل سدر قال الازهرى: الاسكتان ناحيتا الفرج، والشفران طرفا الناحيتين، وأسكب المرأة بالبناء للمفعول أخطأتها الخافضة فأصابت غير موضع الختان فهى مأسوكة.
وقال الشافعي رضى الله عنه: وفى اسكتيها وهما شفراها إذا أو عبتا ديتهما قال في البيان وجملة ذلك أن الاسكتين وهما اللحمان المحيطان بالفرج كإحاطة
الشفتين بالفم يفرق الشافعي بين الاسكتين والشفرين

(19/122)


وأهل اللغه يقولون الشفران حاشية الاسكيتين، كما أن أشفار العينين أهدابهما فإذا قطعهما قاطع وجبت عليه الديه، لان فيهما جمالا ومنفعه، فأما الجمال فظاهر وأما المنفعة فإن لذة الجماع بهما اه.
فإن قطع إحداهما وجب عليه نصف الديه، لان كل اثنتين وجبت فيهما الديه وجب في احداهما نصف الدية كالدين، ولا فرق بين شفرى الصغيرة والعجوز، والبكر والثيب، وسوء كانتا صغيرتين أو كبيرتين، رقيقتين أو غليظتين كما قلنا في الشفتين، وسواء كانت قرناء أو رتقاء لان ذلك عيب في غيرهما، وسواء كانت مخفوضه أو غير مخفوضه (1) لان الخفض لا تعلق له بالشفرين، فإن جنى على شفريها فشلا وجبت عليه الديه (2) ، لان كل عضو وجبت الديه بقطعه وجبت بشلله كاليدين.
وان قطع الشفرين والركنب، وهو عانه المرأة التى ينبت فيها الشعر وجبت الديه في الشفرين والحكومه في الركب.
هكذا أفاده الشافعي في باب الجناية على ركب المرأة من الام.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
قال الشافعي رحمه الله: إذا وطئ امرأة فأفضاها وجبت عليه الديه.
واختلف أصحابنا في الافضاء، وفقال بعضهم: هو أن يزيل الحاجز الذى بين الفزج وثقبة البول، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله.
وقال بعضهم: هو أن يزيل الحاجز الذى بين الفرج والدبر، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وشيخنا القاضى أبى الطيب الطبري، لان الديه لا تجب الا بإتلاف منفعه كاملة، ولا يحصل ذلك الا بإزالة الحاجز بين السبيلين، فأما ازالة الحاجز
__________
(1) الخفض قطع جزء من البظر، وهو بالنسبة للاناث كالختان للذكران عند بعض الشعوب.
وفى حديث أم عطية الاسدية (أخفضى ولا تنهكي، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) (2) شللهما بأن ينفتحا فلا يقفلان، أو يقفلا فلا يفتحان

(19/123)


بين الفرج وثقبة البول فلا تتلف بها المفعة، وإنما تنقص بها المنفعة، فلا يجوز أن يجب بها دية كامله، وإن أفضالها واسترسل البول وجب مع دية الافضاء حكومة للنقض الحاصل باسترسال البول، وإن أفضاها والتأم الجرح وجبت الحكومة دون الدية، إن أجاف جائفة والتامت لم يسقط أرشها، والفرق بينهما أن أرش الجائفة وجب باسمها فلم يسقط بالالتئام، ودية الافضاء وجبت بازالة الحاجز، وقد عاد الحاجز فلم تجب الدية
(فصل)
ولا يجب في إتلاف الشعور غير الحكومة، لانه إتلاف جمال من غير منفعه فلم تجب فيه غير الحكومه، كاتلاف العين القائمة واليد الشلاء.

(فصل)
ويجب في تعويج الرقبة وتصعير الوجه الحكومه، لانه إذهاب جمال من غير منفعه فوجبت فيه الحكومه، فإن كسر الترقوة أو كسر ضلعا فقد قال في موضع آخر: يجب فيه جمل، وقال في موضع: تجب فيه الحكومه واختلف أصحابنا فيه فقال أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تجب فيه الحكومه قولا واحدا، والذى قال فيه جمل، أراد على سبيل الحكومه، لان تقدير الارش لا يجوز إلا بنص أو قياس على أصل، وليس في هذا نص ولا له أصل يقاس عليه، وقال المزني وغيره هو على قولين وهو الصحيح
(أحدهما)
أنه يجب فيه جمل لما روى أسلم مولى عمر عن عمر رضى الله عنه أنه قضى في الترقوة بحمل، وفى الضلع بحمل، وقول الصحابي في قوله القديم
حجة تقدم على القياس.
والقول الثاني وهو الصحيح أنه يجب فيه حكومه، لانه كسر عظم في غير الرأس والوجه فلم يجب فيه أرش مقدر ككسر عظم الساق، وما روى عن عمر يحتمل أنه قضى به على سبيل الحكومه، ولان قول الصحابي ليس بحجة في قوله الجديد.
(الشرح) قوله: الافضاء مأخوذ من الفضاء وهو المكان الواسع، ويكون بمعنى الجماع كقوله تعالى (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) ويكون اللمس كقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ)

(19/124)


وقوله (تصعير اوجه) الصغر بالتحريك ميل في العنق وانقلاب الوجه إلى أحد الشدقين، وربما كان الانسان أصعر خلقه، أو صعره غير بشئ يصيبه، وهو مصدر من باب تعب، وصعر خده بالتثقيل وصاعره أماله عن الناس إعراضا وتكبرا، والبرقوتان العظمان الناتئان أعلى الصدر والجمع تراقى.
قال تعالى (كلا إذا بلغت التراقي) والضلع كعنب وقد تسكن واحدة الاضلاع أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولو افتضها فأفضاها أو أفضاها وهى ثيب كانت عليه ديتها، لانها جنايه واحدة وعليه مهر مثلها.
وجملة ذلك أنه إذا وطئ امرأة فأفضاها أو أفضاها بغير الوطئ، وقد نص عليه بقوله في الام: ولو افتضتها امرأة أو رجل بعود بلا جماع كانت عليهما ديتها، وليس هذا من معنى الجائفة بسبيل.
اه وقد اختلف أصحابنا في كيفية الافضاء، فقال الشيخ أبو حامد الاسفرايينى هو أن يجعل مسلك البول ومسلك الذكر واحدا، لان ما بين القبل والدبر فيه بعد وقوة فلا يرفعه الذكر، ولانهم فرقوا بين أن يستمسك البول أو لا
يستمسك، وهذا انما يكون إذا انخرق الحاجز بين مسلك البول ومدخل الذكر وقال أبو على بن أبى هريرة: وهو أن يزيل الحاجز بنى الفرج والدبر، وهو قول القاضى أبى الطيب والجويني.
قال الشيخ أبو إسحاق: لان الديه لا تجب الا بإتلاف منفعة كامله، ولا يحصل ذلك إلا بإتلاف الحاجز بين السبيلين، فأما ازالة الحاجز بين الفرج وثقبة البول فلا ت؟ ؟ بها المنفعة وانما تنقص بها المنفعة، فلا يجوز أن تجب فيه ديه كامله وذكر ابن الصباغ له علة أخرى فقال: لانه ليس في البدن مثله، ولو كان المراد به ما بين مسلك البول ومسلك الذكر لكان له مثل، وهو ما بين القبل والدبر ولا يجب فيه الديه، فإن أفضاها واسترسل البول ولم يستمسك وجب عليه مع دية الافضاء حكومه للشين الحاصل باسترسال البول إذا ثبت هذا فلا تخلو المرأة المفضاة إما أن تكون زوجة أو أجنبيه أكرهها على الوطئ أو وطئها بشبهة، فإن كانت زوجته فأفضاها فإن كان البول مستمسكا فقد استقر عليه المهر بالوطئ ووجبت عليه دية الافضاء، وان

(19/125)


أفضاها بالوطئ واسترسل البول وجب عليه المهر ودية الافضاء والحكومة لاسترسال البول.
وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه دية الافضاء، وانما عليه المهر فقط أو لها أكثر الامرين من مهر مثلها أو أرش افضائها لان الارش لاتلاف العضو فلا يجمع بين ضمانه وضمان منفعته كما لو قلع عينا ولنا أن هذه جناية تنقل عن الوطئ فلم يدخل بدله فيها، كما لو كسر صدرها وما ذكروه غير صحيح، فإن المهر يجب لاستيفاء منفعة البضع، والدية تجب لاتلاف الحاجز فلا تدخل المنفعة فيه.
وقال أحمد وأصحابه عليه المهر وأرش
اتلاف العضو وقدره ثلث الدية قلت: الواجب عندنا الدية لانها جناية وقعت بالوطئ فلم يسقط حكمها باستحقاق الوطئ، كما لو وطئها وقطع ثديها أو شجها.
وان كانت أجنبية فأكرهها على الوطئ وأفضاها وجب عليه المهر ودية الافضاء، وان استرسل البول وجب عليه الحكومة مع دية الافضاء.
وقال أحمد وأصحابه: يلزمه ثلث ديتها ومهر مثلها لانه حصل بوطئ غير مستحق ولا مأذون فيه فلزمه ضمان ما أتلف كسائر الجنايات.
وقال أبوجنيفه: لا يجب المهر، وأما الافضاء فإن كان البول لا يحتبس فعليه دية وان كان يحتبس فعليه ثلاث دية، وبه قال ابن عمر رضى الله عنهما.
دليلنا على إيجاب المهر أنه وطئ في غير ملك لاحد فيه على الموطوء فوجب على الواطئ المهر كما لو وطئها بشبهة، وعلى الجاني الدية لانه افضاء مضمون فوجب فيه الدية، كما لو لم يحتبس البول فقولنا مضمن احتراز منه إذا وطئ أمته فأفضاها إذا ثبت هذا فإن كانت ثيبا وجب عليه مهر ثيب، وان كانت بكرا وجب عليه المهر والدية ويدخل أرش البكارة في الدية.
ومن أصحابنا من قال: لا يدخل أرش البكارة، كما لو أكره بكرا فوطئها وأفضاها.
فإن أرش البكارة لايدخل في المهر، والمذهب الاول، لان الدية تجب بإتلاف عضو وأرش البكارة بإتلاف العضو فتداخلا، والمهر يجب بغير

(19/126)


ما تجب به الدية وهو الوطئ فلم يتداخلا، وإن وطئها بشبهة أو عقد فاسد وأفضاها وجب عليه المهر والدية.
وقال الحنابلة: إذا أكره امرأة على الزنا فأفضاها لزمه ثلث ديتها ومهر مثلها
فقالوا بقولنا في العلة، إذ أنه وطئ غير مستحق ولا مأذون فيه فلزمه ضمان ما أتلف كسائر الجنايات.
واختلفوا في الدية فجعلوها على الثلث، وهل يلزمه أرش البكارة مع ذلك؟ عندهم روايتان ذكرهما ابن قدامة في المغنى (أحداهما) لا يلزمه لان أرش البكارة داخل في مهر المثل، فإن مهر البكر أكثر من مهر الثيب، فالتفاوت بينهما هو عوض أرش البكارة فلم يضمنه مرتين كما في حق الزوجة.
(والثانية) يضمنه لانه محل أتلفه بعدو انه فلزمه أرشه كما لو أتلفه بأصبعه.
فإذا أفضاها وترتب على ذلك استرسال بولها وجبت عليه مع الدية الحكومة وإن كانت بكرا فهل يدخل أرش البكارة في الدية؟ على وجهين كما قلنا في إكراهها وقال أحمد لزمته الدية من غير زيادة.
وقال أبو حنيفة لا يجب لها دية الافضاء لانه تولد من مأذون فيه وهو الوطئ، فهو بمنزلة إذهاب البكارة.
ودليلنا أن الافضاء ينفك عن الوطئ، فكان مضمونا مع الاذن في الوطئ ككسر الصدر، ويخالف إذهاب البكارة فإنه لا ينفك عن الوطئ (فرع)
إذا أفضى الخنثى المشكل.
قال القاضى أبو الفتوح، فإن قلنا الافضاء ما ذكره الشيخ أبو حامد لم تجب الدية لانه ليس بفرج أصلى، وانما تجب الحكومة.
وان وجد في فرج الخنثى المسلكان.
وان لم يوجد فيه إلا مسلك البول فلا يتصور فيه الافضاء على هذا.
وإن قلنا إن الافضاء ما ذكره القاضى أبو الطيب فعلى تعليل قول ابن الصباغ حيث قال: لانه ليس في البدن مثله تجب هاهنا دية الافضاء، وعلى تعليل قول الشيخ أبى اسحاق هنا حيث قال لا تجب الدية الا بإتلاف منفعة كاملة لاتنجب الدية بإفضاء الخنثى، وانما تجب الحكومة.
وان افتض البكارة من فرج الخنثى المشكل، قال القاضى أبو الفتوح فإن
الحكومة تجب ولكن لا بموجب حكومة البكارة وانما بموجب حكومة جراح

(19/127)


وأرش جناية وألم، لان البكارة لا تكون الا في الفرج الاصلى (فرع)
قال العمرانى في البيان: وكل موضع قلنا تجب الدية بالافضاء فإن العمد المحض يتصور في الافضاء، وهو أن يطأها صغيرة أو ضعيفة هزيلة الغالب افضاءها فتجب الدية مغلظة في ماله، ويتصور فيه عمد الخطأ، مثل أن يقال قد يفضيها وقد لا يفضيها والغالب أنه لا يفضيها، فإن أفضاها فهو عمد خطأ فتجب فيه دية مغلظة على عاقلته.
وهل يتصور فيه الخطأ المحض بالوطئ؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يتصور، مثل أن يقال لا يفضى فأفضاها أو كان له زوجة قد تكرر وطؤه لها فوجد امرأة على فراشه فظنها زوجته فوطئها فأفضاها فتكون خطأ محضا، كما لو رمى هدفا فأصاب انسانا فتجب فيه دية مخففة على العاقلة.

(والثانى)
لا يتصور فيه الخطأ المحض، لانه يكون قاصدا إلى الفعل بكل حال.
اه (مسألة) الشعور لا يجب فيها قصاص ولا دية، قال بهذا أبو بكر الصديق وزيد بن ثابت رضى الله عنهما، وبهذا قال أحمد وأصحابه، وقال أبو حنيفة: تجب في شعر الرأس الدية وفى شعر الحاجبين الدية، وفى أهداب العينين الديه وفى اللحية الديه، وهو إذا لم ينبت هذا الشعر بعد حلقه له واختلف أصحاب أبى حنيفة في لحية الكوسج، ويقال له الاثط، وهو الذى لاشعر في عارضيه، فقال الزيلعى: والاصح أنه إذا كان على ذقه شعرات معدودة وليس في حلقه شئ لا يجب فيها شئ، لان وجودها يشينه ولا يزينه وان كان على الخد والذقن جميعا لكنه غير متصل ففيه حكومه عدل، وان كان متصلا ففيه كمال الدية لانه ليس بكوسج وفى لحيته جمال كمال اه
وهم يستداون بما روى أن رجلا أفرغ على رجل قدرا فتمعط شعره، فأتى عليا فقال له: اصبر سنة، فصبر فلم ينبت شعره فقضى فيه بالدية دليلنا أنه أتلاف شعر فلم يكن فيه أرش مقدر كأرش الشارب والصدر، وما روى عن على رضى الله عنه يعارضه ما روى عن أبى بكر الصديق وزيدبن ثابت أنهما لم يوجبا الدية.
إذا ثبت هذا فإنه إذا حلق شعر رجل وطرح عليه شيئا فتمعط فإن نبت

(19/128)


كما كان من غير زيادة ولا نقصان لم يجب على الجاني شئ كما لو قلع سن صغير ثم نبت، فإن لم ينبت أصلا وأيس من نباته وجبت فيه حكومة للشين الحاصل بذهابه.
ولابن قدامة من الحنابله.
قوله: ولا تجب الدية إلا بذهابه على وجه لا يرجى عوده، مثل أن يقلب على رأسه ما يتلف منبت الشعر فينقلع بالكلية بحيث لا يعود، فإن رجى عوده إلى مدة انتظر إليها، وان عاد قبل أخذ الديه لم تجب، فان عاد بعد أخذها ردها، والحكم فيه عندهم كالحكم في ذهاب السمع والبصر فيما يرجى عوده وفيما لا يرجى.
(فرع)
إذا نبت للمرأة لحية فحلقها حالق فلم تنبت فهل تجب فيها الحكومه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس بن سريج أنه لا حكومة فيها، لان بقاء اللحيه في حقها شين وزوالها في حقها زين
(والثانى)
وهو المنصوص أنه يجب فيها الحكومه، لان ما يجب ضمانه من الرجل ضمن من المرأة كسائر الاعضاء، قال الشافعي رحمه الله: إلا أن الحكومه فيها أقل من الحكومه في لحية الرجل، لان للرجل جمالا بها ولا جمال بها للمرأة، وانما الحكومه للالم والعدوان وإذا ثبت هذا فان نبت للخنثى المشكل لحيه، فهل تكون دليلا على ذكوريته، فيه وجهان.
قال أبو على الطبري يكون دليلا على ذكوريته، فعلى هذا إذا نتفها رجل ولم تنبت كان عليه حكومه كالحكومه في لحية الرجل، وقال عامة أصحابنا لا يكون دليلنا على ذكوريته، فعلى هذا إذا نتفها رجل ولم تنبت كان في وجوب الحكومه فيها وجهان كلحية المرأة.
(مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه (وفى الترقوة جمل، وفى الضلع جمل) وقال في موضع) يجب في كل واحد منهما حكومه) واختلف أصحابنا فيهما، فذهب المزني وبعض أصحابنا إلى أن فيهما قولين
(أحدهما)
يجب في كل واحد منهما أرش مقدر، وانما يجب فيها حكومه، وبه قال مالك وأبو حنيفة واختاره المزني وهو الاصح، لانه كسر عظم باطن لا يختص بجمال ومنفعه فلم يجب فيه أرش مقدر كسائر عظام البدن، وما روى عن عمر رضى الله عنه فيحتمل أنه قضى بذلك على سبيل الحكومه، فمنهم من قال لا يجب فيه أرش مقدر وانما

(19/129)


تجب الحكومة قولا واحدا لما ذكرناه، ولان قول الصحابي ليس بحجة في قوله الجديد، وقد عرفنا أن بعض الصحابة رضى الله عنهم كان يفتى في المسألة فيبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فيرجع عن قوله، وقد فعل أبو بكر في ميراث الجدة ذلك، وكذلك فعل عمر في الاستئذان ثلاثا ورجع عن إنكاره لقول أبى موسى، ولم يعرف حم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة وباع معاوية سقاية من ذهب بأكثر من وزنها حتى أنكر عليه ذلك عبادة بن الصامت وكذلك رد الحيض وقسمة مال الكعبة.
ويسمى الفقهاء قول الصحابي أثرا وكذلك بعض المحدثين بيد أن تعريفه عند المحدثين (موقوف) وعزا ابن الصلاح تسميته أثرا الى الخراسانينن قال: وبلغنا عن أبى القاسم الفورانى أنه قال: الخبر ما كان عَنْ (رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
والاثر ما كان عن الصحابي قال ابن كثير: ومن هذا يسمى كثير من العلماء الكتاب الجامع لهذا، وهذا بالسنن، والآثار، ككتابي السنن والآثار للطحاوي والبيهقي وغيرهما اه.
على أن مالكا كان يأخذ قول الصحابي لا على أنه رأى له وانما على أنه حديث لم يسنده الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جاء عنه انه كان يقدم الموقوف على المرفوع أحيانا، ولا يخفى ما فيه مما تجنبه الامام الشافعي في الجديد، وكان يأخذ به في القديم.
إذا ثبت هذا فإن الضلع معروف، وأما الترقوة فهى العظم المدور في النحر إلى الكتف، ولكل واحد ترقوتان، وفى كل ترقوة حكومة على أصح القولين، والثانى بعير، وهذا قول عمر بن الخطاب، وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الملك بن مروان وسعيد بن جبير وقتادة واسحاق وقال أحمد وأصحابه في كل ترقوة بعيران، وقال ابن قدامة عند قول الخرقى وفى الترقوة بعيران، وقال القاضى المراد بقول الخرقى الترقوتان معا، وانما اكتفى بلفظ الواحد لادخال الالف واللام المقتضية للاستغراق فيكون في كل ترقوة بعير.
وقال أبو حنيفة: في كل واحدة منهما حكومة، وهو أظهر قولى الشافعي

(19/130)


كما قدمنا، وبه قال مالك ومسروق وابن المنذر، وروى عن الشعبى أن في الترقوة أربعين دينارا، وقال عمرو بن شعيب: في الترقوتين الدية، وفى إحداهما نصفها لانهما عضوان فيهما جمال ومنفعة، وليس في البدن غيرهما من جنسهما فكملك فيهما الدية كالدين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن لطم رجلا أو لكمه أو ضربه بمثل فإن لم يحصل به أثر لم يلزمه أرش، لانه لم يحصل به نقص في جمال ولا منفعة فلم يلزمه أرش.
وإن حصل به شين بأن اسود أو اخضر وجبت فيه الحكومة لما حصل به من الشين، فإن قضى فيه بالحكومة ثم زال الشين سقطت الحكومة، كما لو جنبى على عين فابيضت ثم زال البياض.
وإن فزع إنسان فأحدث في الثياب لم يلزمه ضمان مال لان المال إنما يجب في الجناية إذا أحدثت نقضا في جمال أو منفعة، ولم يوجد شئ من ذلك.

(فصل)
إذا جنى على حر جناية ليس فيها أرش مقدر نظرت، فان كان حصل بها نقص في منفعة أو جمال، وجبت فيها حكومة، وهو أن يقوم المجني عليه قبل الجناية، ثم يقوم بعدائد مال الجناية، فان نقص العشر من قيمته وجب العشر من ديته، وإن نقص الخمس من قيمته وجب الخمس من ديته، لانه ليس في أرشه نص فوجب التقدير بالاجتهاد، ولا طريق إلى معرفة قدر النقصان من جهة الاجتهاد إلا بالتقويم.
وهذا كما قلنا في المحرم إذا قتل صيدا وليس في جزائه نص أنه يرجع إلى ذوى عدل في معرفة مثله، ان كان له مثل من النعم، أو إلى قيمته إذا لم يكن له مثل، ويجب القدر الذى نقص من قيمته من الدية، لان النفس مضمونة بالدية فوجب القدر الناقص منها، كما يقوم المبيع عند الرجوع بأرش العيب، ثم يؤخذ القدر الناقص من الثمن حيث كان المبيع مضمونا بالثمن.
وقال أصحابنا: يعتبر نقص الجناية من دية العضو المجني عليه، لامن دية النفس، فإن كان الذى نقص هو العشر والجناية على اليد وجب عشر دية اليد

(19/131)


وإن كانت على أصبع وجب عشر دية الاصبع، وإن كانت على الرأس فيما دون
الموضحة وجب عشر أرش الموضحة، وإن كانت على الجسد فيما دون الجائفة وجب عشر أرش الجائفة، لانا لو اعتبرناه من دية النفس لم نأمنم أن تزيد الحكومة في عضو على دية العضو، والمذهب الاول وعليه التفريع، لانه لما وجب تقويم النفس وجب أن يعتبر النقص من دية النفس، ولان اعتبار النقص من دية العضو يؤدى إلى أن يتقارب الجنايتان ويتباعد الارشان، بأن تكون الحكومة في السمحاق فنوجب فيه عشر أرش الموضحة فيتباعد ما بينها وبين أرش الموضحة مع قربها منها.
فإن كانت الجناية على أصبع فبلغت الحكومه فيها أرش الاصبع أو على الرأس، فبلغت الحكومه فيها أرش الموضحة، نقص الحاكم من أرش الاصبع، ومن أرش الموضحة شيئا على قدر ما يؤدى إليه الاجتهاد، لانه لا يجوز أن يكون فيما دون الاصبع أو المواضحة ما يجب فيها.
وان كانت الجناية في الكف فبلغت الحكومه أرش الاصابع نقص شيئا من أرش الاصابع، لان الكف تابع للاصابع في الجمال والمنفعة فلا يجوز أن يجب فيه ما يجب في الاصابع (الشرح) إذا جنى على رجل جنايه لم يحصل بها جرح ولا كسر ولا إتلاف حاسة بأن لطمه الجاني أو لكمه أو ضربه بخشبة، فلم يجرح ولم يكسر نظرت، فان لم يحصل به أثر أو حصل به سواد (1) أو خضرة ثم زال لم يجب على الجاني أرش، لانه لم ينقص شيئا من جماله ولا من منفعته ويعرز الجاني لتعديه، وان اسود موضع الضرب أو احمر أو اخضر ينظر إلى الوقت الذى يزول فيه مثل ذلك في العادة، فان لم يزل وجبت على الجاني حكومه، لان في ذلك شيئا، فان أخذت منه الحكومه ثم زال ذلك الشين وجبت رد الحكومه، كما لو ابيضت عينه فأخذ أرشها ثم زال البياض.
وان جنى على حر جنايه نقص بها جمال أو منفعه ولا أرش لها مقدر فقد ذكرنا أنه يجب فيها الحكومه.
وكيفية ذلك أن يقوم هذا المجني عليه قبل الجنايه ثم يقوم بعد اندمال الجنايه، فان بقى للجنايه شين ونقصت به وجب على الجاني من الديه بقدر ما نقص
__________
(1) احتقان تحت الجلد يحدث من رض جسم صلب بمكان الاصابة

(19/132)


من القيمة، وان نقص العشر من قيمته نقص العشر من ديته، وإن نقص التسع من قيمته وجب التسع من ديته.
لانه لما اعتبر العبد بالحر في الجنايات التى لها أرش مقدار اعتبر الحر بالعبد في الجنايات التى ليس لها أرش مقدار إلا بالتقويم كما أنه لا يعلم أرش المبيع إلا من جهة التقويم.
ولما كان الانسان لا يباع في زماننا هذا ولا يوجد رق نستند إليه في تقويم الحر بقيمة العبد فإنه يمكن اعتبار الانسان مقوما بديته وهذا أصل ثابت، ثم يمكن اعتبار ما نقص منه من تشوهات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بقياس إنتاجه، فان نقص عمله وإنتاجه قدرا أخذ من الدية بقدر ما نقص من جهده، وذلك كما قلنا في نقص السمع والبصر.
وأما نقص الجمال فيمكن أيضا حزره بالنسبة إلى ديته، لان جملته مضمونة بالدية فكانت أجزاؤه مضمونة بجزء من الدية، كما أن المبيع لما كان مضمونا على البائع بالثمن كان أرش العيب الموجود فيه مضمونا بجرء من الثمن، ولا سبيل إلى معرفة ما ليس فيه أرش مقدر الا بالتقويم، كما أنه لا يعلم أرش المبيع إلا من جهة التقويم.
وحكى المصنف عن أصحابنا أنهم قالوا: يعتبر ما نقص من القيمة من دية العضو المنى عليه لامن دية النفس، فان كان الذى نقص هو عشر القيمة والجناية على اليد وجب عشر دية اليد، وان كان على الاصبع وجب عشر دية الاصبع، فان كان على الرأس والوجه فيما دون الموضحة وجب عشر دية الموضحة، وان كان على البدن فيما دون الجائفة وجب عشر دية الجائفة، والمذهب الاول، لانه لما
وجب تقويم النفس اعتبر النقص من ديتها، ولان القيمة قد تنقص بالسمحاق عشر القيمة، فإذا أوجبنا عشر أرش الموضحة تقارب الجنايتان وتباعد الارشان فإذا ثبت هذا فانه لا يباغ بالحكومه أرش العضو المجني عليه فان كانت الجناية على الاصبع فبلغت حكومتها دية الاصبع أو على البدن مما دون الجائفة فبلغت الحكومه أرش الجائفة نقص الحاكم من الحكومه شيئا بقدر ما يؤديه إليه اجتهاده لانه لا يجوز أن يجب فيما دون الاصبع ديتها، ولا فيما دون الجائفة ديتها، وان قطع كفا لا أصبع له ففيه وجهان حكاهما الخراسانيون.

(أحدهما)
لا يبلغ بحكومته دية اصبع
(والثانى)
لا يبلغ بحكومته دية خمس أصابع

(19/133)


(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه (وإن جرحه فشان وهه أو رأسه شينا يبقى فان كان الشين أكثر من الجراح أخذ بالشين، وإن كان الجراح أكثر من الشين أخذ بالجراح ولم يرد للشين، وجملة ذلك أنه إذا شجه في رأسه أو وجهه شجة دون الموضحة فان علم قدرها من الموضحة وجب بقدرها من أرش الموضحة، وإن اختلف قدرها من الموضحة والحكومه وجب أكثرهما وقد مضى بيان ذلك، ولا تبلغ الحكومه فيما دون الموضحة أرش الموضحة.
وإن كانت الموضحة على الحاجب فأوزالته وكان الشين أكثر من أرش الموضحة وجب ذلك، لان الحاجب تجب بازالته حكومة، فإذا انضم إلى ذلك الايضاح لم ينقص عن حكومته.
(فرع)
في آخر أول الفصلين للمصنف قوله (وان فرع إنسان) بالبناء للمجهول مع التضعيف فأحدث حدثا في ثيابه من أحد السبيلين لم يلزم الجاني ضمان، لانه لم يصبه بنقص في جمال ولا منفعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا منفعة بأن قطع أصبعا زائدة أو قلع سنا زائدة أو أتلف لحية امرأة واندمل الموضع من غير نقص ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس بن سريج أنه لا شئ عليه لانه جناية لم يحصل بها نقص فلم يجب بها أرش، كما لو لطم وجهه فلم يؤثر
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أنه يجب في الحكومه لانه اتلاف جزء من مضمون فلا يجوز أن يعرا من أرش.
فعلى هذا ن كان قد قطع أصبعا زائدة قوم المجني عليه قبل الجنابة ثم يقوم في أقرب أحواله إلى الاندمال ثم يجب ما بينهما من الديه، لانه لما سقط اعتبار قيمتة بعد الاندمال قوم في أقرب الاحوال إليه، وهذا كما قلنا في ولد المغرور بها لم تعذر تقويمه حال العلوق قوم في أقرب حال يمكن فيه التقويم بعد العلوق وهو عند الوضع، فان قوم ولم ينقص قوم قبيل الجنايه ثم يقوم والدم جار، لانه لابد أن تنقص قيمته لما يخاف عليه، فيجب بقدر ما بينهما من الديه،

(19/134)


وإن قلع سنا زائدة ولم تنقص قيمته قوم، وليس له خلف الزائدة سن أصلية، ثم يقوم وليس له سن أصلية ولا زائدة، ويجب بقدر ما بينهما من الدية، وإن أتلف لحية امرأة قوم لو كان رجلا وله لحية ثم يقوم ولا لحية له، ويجب بقدر ما بينهما من الدية.

(فصل)
وإن جنبى على رجل جناية لها أرش مقدر ثم قتله قبل الاندمال دخل أرش الجناية في دية النفس، وقال أبو سعيد الاصطخرى لا يدخل لان الجناية انقطعت سرايتها بالقتل فلم يسقط ضمانها كما لو اندملت ثم قتله والمذهب الاول لانه مات بفعله قبل استقرار الارش، فدخل في ديته كما لو مات من سراية الجناية، ويخالف إذا اندملت فان هناك استقر الارش فلم تسقط

(فصل)
ويجب في قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت لانه مال مضمون بالاتلاف لحق الآدمى بغير جنسه فضمنه بقيمته بالغه ما بلغت كسائر الاموال وما ضمن مما دون النفس من الجزء بالدية كالانف واللسان والذكر والانثيين والعينين واليدين والرجلين ضمن من العبد بقيمته، وما ضمن من الحر بجزء من الديه كاليد والاصبع والانملة الموضحة والجائفة ضمن من العبد بمثله من القيمه لانهما متساويان في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة، فتساويا في اعتبار ما دون النفس ببدل النفس، كالرجل والمرأة والمسلم والكافر
(فصل)
وان قطع يد عبد ثم أعتق ثم مات من سراية القطع وجبت عليه دية حر، لان الجناية استقرت في حال الحريه، ويجب للسيد من ذلك أقل الامرين من أرش الجنايه وهو نصف القيمه أو كمال الديه، فان كان نصف القيمة أقل لم يستحق أكثر منه لانه هو الذى وجب في ملكه، والزيادة حصلت في حال لاحق له فيها، وان كانت الدية أقل لم يستحق أكثر منها، لان ما نقص من نصف القيمة بسبب من جهته وهو العتق.

(فصل)
وان فقأ عينى عبد أو قطع يديه وقيمته ألفا دينار ثم أعتق ومات بعد اندمال الجنايه وجب على الجاني أرش الجناية، وهو قيمة العبد، سواء كان الاندمال قبل العتق أو بعده، لان الجرح إذا اندمل استقر حكمه، ويكون ذلك لمولاه لانه أرش جنايه كانت في ملكه، وان لم يندمل وسرى إلى نفسه وجب

(19/135)


على الجاني دية حر.
قال المزني: يجب الارش وهو ألفا دينار لان السيد ملك هذا القدر بالجناية، فلا ينقص، وهذا خطأ لان الاعتبار في الارش بحال الاستقرار، ولهذا لو قطع يدى رجل ورجليه وجب عليه ديتان، فإذا سرت الجناية إلى النفس وجب دية اعتبارا بحال الاستقرار، وفى حال الاستقرار هو
حر فوجبت فيه الدية، ودليل قول المزني يبطل بمن قطع يدى رجل ورجليه ثم مات فانه وجبت ديتان ثم نقصت بالموت
(فصل)
وان قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع حر آخر يده الاخرى ومات لم يجب على الاول قصاص لعدم التكافؤ في حال الجناية وعليه نصف الديه لان المجني عليه حرفي وقت استقرار الجنايه.
وأما الثاني ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى الطيب بن سلمة أنه يجب عليه القصاص في الطرف ولا يجب في النفس، لان الروح خرجت من سراية قطعين، وأحدهما يوجب القود والآخر لا يوجب، فسقط كحرى قتلا من نصفه حر نصفه عبد
(والثانى)
وهو المذهب أنه يجب عليه القصاص في الطرف والنفس لانهما متكافئان في حال الجناية، وقد خرجت الروح عن عمد محض مضمون، وإنما سقط القود عن أحدهما لمعنى في نفسه فلم يسقط عن الآخر، كما لو اشترك حر وعبد في قتل عبد، ويخالف الحرين إذا قتلا من نصفه حر ونصفه عبد، لان كل واحد منهما غير مكافئ له حال الجناية، فان عفى على مال كان عليه نصف الدية لانهما شريكان في القتل، وللمولى الاقل من نصف قيمته يوم الجناية الاولى أو نصف الدية، فان كان نصف القيمة أقل أو مثله كان له ذلك، وإن كان أكثر فله نصف الديه لان الحرية نقصت ما زاد عليه، والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن الجناية هناك من واحد وجميع الدية عليه، فقوبل بين أرش الجناية وبين الدية، والجناية ههنا من اثنين والدية عليهما.
والثانى جنى عليه في حال الحرية فقوبل بين أرش الجناية، وبين النصف المأخوذ من الجاني على ملكه، وكان الفاضل لورثته.

(فصل)
وان قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم قطع يده الاخرى نظرت، فان اندمل الجرحان لم يجبفى اليد الاولى قصاص، لانه جنى عليه وهو غير مكافئ له

(19/136)


ويجب فيها نصف ديته ويكون للمولى ويجب في اليد الاخرى القصاص لانه قطعها وهو مكافئ له، وإن عفى على المال وجب عليه نصف الدية، وإن مات من الجراحتين قبل الاندمال وجب القصاص في اليد الاخرى التى قطعت بعد عتقه ولم يجب القصاص فيا لنفس لانه مات من جنايتين، إحداهما توجب القصاص والاخرى لا توجب، فإن اقتص منه فياليد وجب عليه نصف الديه لانه مات بجنايته، وقد استوفى منه ما يقابل نصف الدية، ويكون للمولى أقل لامرين من نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية وإن عفى عن القصاص على مال وجب كمال الديه ويكون للمولى أقل الامرين من نصف القيمة وقت الجناية، أو نصف الدية، ولورثته الباقي، لان الجناية الثانية في حال الحرية
(فصل)
وان قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع آخر يده الاخرى ثم قطع ثالث رجله ومات لم يجب على الاول القصاص في النفس ولا في الطرف لعدم التكافو، ويجب عليه ثلث الديه ويجب على الآخرين القصاص في الطرف وفى النفس على المذهب، فإن عفى عنهما كان عليهما ثلثا الدية، وفيما يستحق المولى قولان
(أحدهما)
أقل الامرين من أرش الجنايه، أو ما يجب على هذا الجاني في ملكه وهو ثلث الدية، لان الواجب بالجناية هو الارش، فإذا أعتق انقلب وصار ثلث الديه، فيجب أن يكون له أقل الامرين، فان كان الارش أقل لم يكن له أكثر منه، لانه هول الذى وجب بالجناية في ملكه وما زاد بالسراية في حال الحرية لا حق له فيه.
وان كان ثلث الديه أقل لم يكن له أكثر منه لانه هو الذى يجب على الجاني في ملكه ونقص الارش بسبب من جهته وهو العتق فلم يستحق أكثر منه
والقول الثاني يجب له أقل الامرين من ثلث للديه أو ثلث القيمه لان الجاني على ملكه هو الاول والآخران لا حق له في جنايتهما، فيجب أن يكون له أقل الامرين من ثلث الديه أو ثلث القيمه فان كان ثلث القيمه أقل لم يكن له أكثر منه، لانه لما كان عبدا كان له هذا القدر وما زاد وجب في حال الحريه فلم يكن له فيها حق، وإن كان ثلث الديه

(19/137)


أقل لم يكن له أكثر منه، لان ثلث القيمة نقص وعاد إلى ثلث الدية بفعله فلم يستحق أكثر منه.

(فصل)
إذا ضرب بطن مملوكة حامل بمملوك فألقت جنينا ميتا وجب فيه عشر قيمة الام لانه جنين آدمية سقط ميتا بجنايته فضمن بعشر بدل الام كجنين الحرة، اختلف أصحابنا في الوقت الذى يعتبر فيه قيمة الام، فقال المزني وأبو سعيد الاصطخرى: تعتبر قيمتها يوم الاسقاط لانه حال استقرار الجناية والاعتبار في قدر الضمان بحال استقرار الجناية، والدليل عليه أنه قطع يد نصراني ثم أسلم ومات وجب فيه دية مسلم وقال أبو إسحاق: تعتبر قيمتها يوم الجناية، وهو المنصوص لان المجني عليه لم يتغير حاله فكان أولى الاحوال باعتبار قيمتها يوم الجناية، لانه حال لوجوب ولهذا لو قطع يد عبد ومات على الرق وجبت قيمته يوم الجناية، لانه حال الوجوب، وإن ضرب بطن أمة ثم أعتقت وألقت جنينا ميتا وجب فيه دية جنين حر لان الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية، والجنين حر عند استقرار الجناية فضمن بالدية.
(الشرح) إذا لم يبق للجناية شين بعد الاندمال أو بقى لها شين لم تنقص به القيمة ولم يقص فلم تجب الحكومة، كما لو لطمه فاسود الموضع ثم زاد السواد.
وقال أبو إسحاق وأكثر أصحابنا: تجب عليه الحكومة، وهو المنصوص، لان الشافعي رضى الله عنه قال: وان نتف لحية امرأة أو شاربها فعليه الحكومة أقل من حكومة في لحية الرجل، لان الرجل له فيها جمال، ولا جمال للمرأة فيها، ولان جملة الآدمى مضمونة، فإذا أتلف جزءا منه وجب أن يكون مضمونا كسائر الاعيان، فإذا قلنا بهذا فإنه يقوم في أقرب أحواله إلى الاندمال، لانه لا بد أن ينقص، فان لم ينقص منه قوم قبله، فان لم ينقص قوم والدم جار.
وإن نتف لحية امرأة وأعدمها النبات قال أبو إسحاق المروزى: اعتبرتها بعبد كبير فأقول: هذا العبد الكبير كم قيمته وله مثل هذه اللحية؟ فان قيلمائة، قلت فكم قيمته ولا لحية له؟ فان قيل تسعون، وجب على الجاني عشر دية المرأة،

(19/138)


هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: يجب ما رآه الحاكم باجتهاده، وإن قطع أنملة لها طرفان فإنه يجب في الطرف الاصل ديته ويجب في الزائدة حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، ولا يبلغ به أرش الاصلى.
هذا نقل أصحابنا البغداديين وقال الخراسانيون: إذا قطع أصبعا زائدة ففيه وجهان.

(أحدهما)
يجب ما رآه الحاكم باجتهاده.

(والثانى)
يقال: كم ينقص من قيمة العبد وقت الجناية.
وإن قلع سنا زائدة وهو الخارج عن سمت الاسنان ومن ورائه إلى داخل الفم سن أصلية فلم تنقص قيمته بقلعها فإنه يقال: لو كان هذا عبدا كم كانت قيمته وله هذا السن الزائد وليس له ما وراءه من السن الاصلى؟ لان الزائد يسد الفرجة إذا لم يكن له السن الاصلية؟ فإن قيل مائة، قيل فكم قيمته وليس له السن الزائد ولا الاصلى الذى من ورائه؟ فإن قيل تسعون علم أنه نقص عشر قيمته فيجب له عشر الدية.
(فرع)
إذا كسر له عظما في غير الرأس والوجه فجبره فانجبر فإن عاد مستقيما
كما كان فقد قال القاضى أبو الطيب: هل تجب فيه الحكومة؟ فيه وجهان كما قلنا فيه إذا جرحه جراحة لا أرش لها مقدر واندملت ولم يبق لهاشين وقال الشيخ أبو حامد الاسقرايينى: تجب الحكومة فيه وجها واحدا لانه لابد أن يبقى في العظم بعد كسره وانجباره ضعف.
وقال ابن الصباغ والاول أصح، وإن انجبر وبقى له شين وجبت فيه الحكومة أكثر مما لو عاد مستقيما، وإن انجبر وبقى له شين وجبت فيه الحكومة أكثر من الحكومة إذا بقى الشين من غير اعوجاج.
(فرع)
وإن أفضى امرأة ثم التأم الجرح، قال الشافعي رحمه الله (لم تجب الدية) وإن أجافه جائفة والتأمت الجائفة ففيه وجهان حكاهما أبو على في الافصاح
(أحدهما)
لا يجب أرش الجائفة وانما يجب الحكومة كما قلنا فيه إذا أفضى امرأة والتأم الجرح.

(والثانى)
وهو اختيار القاضى أبى الطيب ولم يذكر المصنف غيره أن أرش الجائفة يجب لان أرش الجائفة إنما وجب لوجوب اسمها، وان عاد الحاجز لم تجب الدية، كما لو ذهب ضوء العين ثم عاد

(19/139)


(مسألة) ما ورد في قتل العبد أو فقا عينه فإنه مضمون بالاتلاف لحق الآدمى بغير جنسه فضمن بقيمته بالغة ما بلغت كسائر الاموال، فقولنا بالاتلاف احتراز مما لو غصب ملك غيره وهو باق في يده فإنه مضمون برده، وقولنا لحق الآدمى احتراز من الكفارة ومن جزاء الصيد الذى له مثل.
وقولنا من غير جنسه احتراز ممن غصب شيئا من ذوات الامثال وتلف أو أتلفه، وأما ما دون النفس من العبد فهو معتبر بالحر، فكل شئ وجب فيه من الحر الدية وجب فيه من العبد قيمته، وكل شئ مضمون من الحر بحر ومقدر من الدية ضمن من العبد
بمثل ذلك الجزء من قيمته، وكل شئ ضمن من الحر بالحكومة ضمن من العبد بما نقص من قيمته، وبه قال عمر وعلى رضى الله عنهما وابن المسيب وعن أبى حنيفة روايتان، إحداهما كقولنا، والثانية ما لا منفعة فيه كالاذنين والحاجبين فإن فيه ما نقص من قيمته، ونحن نوافقه على الحاجبين في العبد إلا أنه يخالفنا في الحاجبين من الحر وقال مالك: يضمن بما نقص من قيمته إلا للوضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة فانه يضمن بجزء من قيمته، وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولا للشافعي وليس بمشهور، والدليل على صحة ما قلناه أنه قول عمر وعلى ولا مخالف لهما في الصحابة، فدل على أنه اجماع، ولانه كائن حى يضمن بالقصاص والكفارة فكانت أطرافه وجراحاته مضمونة ببدل مقدر من بدله كالحر، ومما أفدناه من هذه الفصول هل تعتبر الجناية بحال الاستقرار أم بوقت حدوثها في موت الجنين بضرب أمه، فذهب المزني وأبو سعيد الاصطخرى إلى الاول، وقال أبو إسحاق وأكثر أصحابنا بعتبر قيمتها يوم الجناية، وهو المنصوص، وقد مضى في الجنايات بحثنا لهذا الخلاف والاخبار والآثار الواردة فيه.
وما قرره المصنف في هذه الفصل فعلى وجهه والله المستعان

(19/140)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب العاقلة وما تحمله من الديات)

إذا قتل الحر حرا عمد خطأ وله عاقلة وجب جميع الدية على عاقلته، لما روى المغيرة بن شعبة قال (ضربت امرأة ضرة لها بعمود فسطاطا، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عصبة القاتلة) وإن قتله خطأ وجبت الدية على عاقلته، لانه إذا تحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفا عنه مع قصده إلى الجناية
فلان يحمل عن قاتل الخطأ ولم يقصد الجناية أولى، ولان الخطأ وعمد الخطأ يكثر فلو أوجبنا ديتهما في مال الجاني أجحفنا به، وإن قطع أطرافه خطأ أو عمد خطأ ففيه قولان.
قال في القديم (لا تحمل العاقلة ديتهما لانه لا يضمن بالكفارة ولا تثبت فيه القسامة، فلم تحمل العاقلة بدله كالمال وقال في الجديد (تحمل العاقلة ديتها، لان ما ضمن بالقصاص والدية وخففت الدية فيه بالخطأ حملت العاقلة بدله كالنفس) فعلى هذا تحمل ما قل منه وكثر، كما تحمل ما قل وكثر من دية النفس.
وان قتل عمدا أو جنى على طرفه عمدا لم تحمل العاقلة ديته، لان الخبر ورد في الحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفا عنه.
لان لم يقصد القتل، والعامد قصد القتل فلم يلحق به في التخفيف، وإن وجب له القصاص في الطرف فاقتص بحديدة مسمومة فمات فعليه نصف الدية، وهل تحمل العاقلة ذلك أم لا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تحمله، لانا حكمنا بأنه ليس بعمد محض
(والثانى)
لا تحمله، لانه قصد القتل بغير حق فلم تحمل العاقلة عنه.
وان وكل من يقتص له في النفس ثم عفا وقتل اوكيل ولم يعلم بالعفو وقلنا ان العفو يصح ووجبت الدية على أوكيل فهل تحملها العاقلة؟ فِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه لا تحملها العاقلة، وهو الصحيح، لانه تعمد القتل فلم تحمل العاقلة عنه، كما لو قتله بعد العلم بالعفو

(19/141)


(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ انه تحملها العاقلة، لانه لم يقصد الجناية.

(فصل)
وإن قتل عبدا خطأ أو عمد خطأ ففى قيمته قولان
(أحدهما)
أنها
تحملها العاقلة، لانه يجب القصاص والكفارة بقتله فحملت العاقلة بدله كالحر،
(والثانى)
أنه لا تحملها العاقلة لانه مال فلم تحمل العاقلة بدله كسائر الاموال.
(الشرح) حديث المغيرة بن شعبة ولفظه (أن امرأة ضربتها ضربتها بعمود فسطاطا فقتلتها وهى حبلى) فأتى فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غرة، فقال عصبتها: أندى ما لا طعم ولا شرب ولا صاح ولا استهل، مثل ذلك يطل؟ فقال سجع مثل سجع الاعراب) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي ولم يذكر اعترض العصبة وجوابه.
وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث ابن عباس وأخرجه عبد الرزاق عن حمل بن مالك وكذلك البيهقى، رواه أيضا من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس، وأخرجه البخاري في الاعتصام بألفاظ مختلفة.
أما اللغات فقوله (العاقلة وما تحمله) العاقلة مأخوذة من العقل وهو الشد والربط، ومنه قيل لمن له حجار ونهى عاقل، وهو ضد الحمق.
قال ابن الانباري رجل عاقل وهو الجامع لامره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه.
وفى الحديث (القرآن كالابل المعقلة) والعقل في العروض إسقاط الياء من مفاعلين بعد اسكانها في مفاعلين فيصير مفاعلن والعقل الدية وعقل القتيل يعقله وداه، وعقل عنه أدى جنايته وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه، وهذا هو الفرق بين عقلته وعقلت له وعقلت عنه، وعقلت له دم فلان إذا ترك القود للدية.
قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب: وأرسل عبد اله إذ حان يومه
* إلى قومه لا تعقلوا لهم دمى وإنما قيل للدية عقل لانهم كانوا يأتون بالابل فيعقلونها بفناء ولى المقتول، والعاقلة العصبة والقرابة من قبل الاب الذين يعطون دية قتل الخطأ، وهى صفة

(19/142)


جماعة عاقلة وأصلها اسم فاعلة من القعل.
وفى اللسان قال (ومعرفة العاقلة أن ينظر إلى إخوة الجاني من قبل الاب فيحملون من تحمل العاقلة، فإن احتملوها أدوها في ثلاث سنين، وإن لم يحتملوها رفعت إلى بنى جده، فإن لم يحتملوها رفعت إلى بنى جد أبيه، فإن لم يحتملوها رفعت إلى بنى جد أبى جده، ثم هكذا لا ترفع عن بنى أب حتى يعجزوا، قال ومن في الديوان ومن لا ديوان له في العقل سواء.
وقال أهل العراق هم أصحاب الدواوين، قال اسحاق بن منصور، قلت لاحمد ابن حنبل من العاقلة؟ فقال القبيلة إلا أنهم يحملون بقدر ما يطيقون، قال فإن لم تكن عاقله لم تجعل في مال الجاني، ولكن تهدر عنه.
وقال اسحاق إذا لم تكن العاقلة أصلا فإنه يكون في بيت المال ولا تهدر الدية والفسطاط بيت الشعر وفيه لغات فسطاط وفستاط وفستاط.
وفسطاط المصر مجتمع أهله حول جامعه، ومدينة الفسطاط مصر حماها الله، وهى الآن حى في مدينة القاهرة، ويقال لها مصر القديمة، وهى المدينة التى بناها عمرو بن العاص وقال الزمخشري الفسطاط ضرب من الابنية.
أما الاحكام، فإنه إذا قتل الحر حرا خطأ محضا أو عمد خطأ كانت دية المقتول على عاقلة القاتل، وبه قال أكثر أهل العلم، منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد وقال الاصم وابن علية والخوارج يجب الجميع في مال القاتل، وقال علقمة وابن أبى ليلى وابن شبرمة وعثمان البتى وأبو ثور دية الخطأ المحض على العاقلة، وأما دية العمد الخطأ ففى مال القاتل دليلنا ما روى المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فضربت إحداهما الاخرى بمستلح أو بعمود الفسطاط، وقيل رمتها بحجر فقتلتها وأسقطت
جنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بعقلها على العاقلة، وفى جنينها غرة عبد أو أمة، فإذا حملت العاقلة دية عمد الخطأ فلان تحمل دية الخطأ المحض أولى.
وروى أن عمر رضى الله عنه ذكرت عنده امرأة معيبه بسوء فأرسل إليها رسولا فأجهضت ذا بطنها في الطريق من فزعها منه، فاستشار الصحابة رضى الله عنهم في ذلك فقال عثمان، وعبد الرحمن رضى الله عنهما إنما أنت مؤدب ولا شئ عليك

(19/143)


فقال لعلى رضى الله عنه ما تقول؟ فقال إن اجتهدا فقد أخطأ وإن علما فقد غشاك، عليك الدية، فقال عزمت عليك لتقسمنها على قومك، يعنى على عاقلي ولم ينكر عينهما عثمان ولا عبد الرحمن.
وروى أن مولاة لصفية جنت جناية فقضى بأرش جنايتها على عاقلة صفية ولا مخالف لهم في الصحابة فدل على أنه إجماع إذا ثبت هذا فهل تحمل العاقلة ما دون دية النفس؟ قال الشافعي رضى الله عنه في الجديد (تحمل العاقلة ما قل أو كثر من الارش) وبه قال عثمان البتى، وقال في القديم (تحمل العاقلة دية النفس ولا تحمل ما دون دية النفس، بل تجب في مال الجاني.
وحكى بعض أصحابنا أن قوله في القديم أن العاقلة تحمل ثلث الدية فأكثر ولا تحمل ما دون ثلث الديه، وبه قال مالك وابن المسيب وعطاء وأحمد واسحاق وقال الزهر، (تحمل العاقلة ما فوق ثلث الديه، فأما ثلث الدية فما دونه ففى مال الجاني وقال أبو حنيفة تحمل أرش الموضحة فما زاد وما دون أرش الموضحة ففى مال الجاني فإذا قلنا بقوله القديم فوجهه أن ما دون دية النفس فيحرى ضمانه مجرى ضمان الاموال بدليل أنه لا يثبت فيه القصاص ولا تجب فيه الكفارة فلم تحمل العاقلة كما لو أتلف مالا.
وإذا قلنا بقوله الجديد فوجهه أن من حمل دية النفس حمل ما دون الديه كالجاني، ولان العاقلة إنما حملت الدية عن القاتل في الخطأ وعمد الخطأ لئلا يجحف ذلك بماله، وهذا يوجد فيما دون دية النفس قال الشيخ أبو حمد الاسفراييى وهل تحمل العاقلة دية الجنين؟ فيه قولان قال في الجديد تحمل ديته بكل حال لما ذكرناه من حديث المغيرة بن شعبة.
وقال في القديم لا تحملها، بل يكون في مال الجاني، وبه قال مالك، لان العاقلة لا تحمل ما دون ثلث الدية، فإن وجب له القصاص في الطرف فاقتص بحديدة مسمومة فمات وجب على المقتص نصف الدية، وهل تحمله عنه العاقلة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تحمله عنه لانه ليس بعمد محض
(والثانى)
لا تحمله العاقلة لانه قصد قتله بغير حق، هكذا أوضح صاحب البيان

(19/144)


ومما يدل على سماحة شرع الله أنه إن قتل الحر عبدا لغيره خطأ أو عمد خطأ أو جنى على طرفه خطأ أو عمد خطأ فهل تحمل عاقلته بدله؟ فيه قولان.
أحدهما لاتحمله العاقلة بل يكون في مال الجاني، وبه قال مالك والليث وأحمد واسحاق وأبو ثور، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولاصلحا ولا اعترافا) والثانى تحمله العاقلة، وبه قال الزهري والحكم وحماد وهو الاصح لانه يجب بقتله القصاص والكفارة، فحملت العاقلة بدله كالحر لحر.
وأما الخبر فقيل انه موقوف على ابن عباس والقياس يقدم على الموقوف، وان صح كان تأويله لا تحمله العاقلة عن عبد إذا جنى.
هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة تحمل العاقلة بدل نفس العمد ولا تحمل ما دون بدل النفس.
دليلنا أن من حملت العاقلة بدل نفسه حملت ما دون بدل نفسه كالحر وعكسه البهيمه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ومن قتل نفسه خطأ لم تجب الدية بقتله ولا تحمل العاقلة ديته، لما روى أن عوف بن مالك الاشجعى ضرب مشركا بالسيف فرجع السيف عليه فقتله، فامتنع أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصلاة عليه وقالوا قد أبطل جهاده، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل مات مجاهدا، ولو وجبت الديه على عاقلته لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
(فصل)
وما يجب بخطأ الامام من الديه باقتل ففيه قولان
(أحدهما)
يجب على عاقلته لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال لعلى رضى الله عنه في جنين المرأة التى بعث إليها عزمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك.
والثانى يجب في بيت المال لان الخطأ يكثر منه في أحكامه واجتهاده، فلو أوجبنا ما يجب بخطئه على عاقلته أجحفنا بهم، فإذا قلنا انه يجب على عاقلته وجبت الكفارة في ماله كغيرا لامام، وإذا قلنا نها تجب في بيت المال ففى الكفارة وجهان
(أحدهما)
أنها تجب في ماله لانها لا تتحمل
(والثانى)
أنها تجب في بيت المال لانه يكثر خطؤه، فلو أوجبنا في ماله أجحف به.

(19/145)


(فصل)
وما يجب بجناية العمد يجب حالا لانه بدل متلف لا تتحمله العاقلة بحال فوجب حالا كغرامة المتلفات وما يجب بجناية الخطأ وشبه العمد من الدية يجب مؤجلا، فإن كانت دية كاملة وجبت في ثلاث سنين، لانه روى ذلك عن عمرو ابن عباس رضى الله عنهما، ويجب في كل سنة ثلثها، فإن كان دية نفس كان ابتداء الاجل من وقت القتل لانه حق حتى مؤجل فاعتبر الاجل من حين وجود السبب كالدين المؤجل، وإن كان دية طرف فإن لم تسر اعتبرت المدة من وقت الجناية لانه وقت لوجوب، وإن سرت إلى عضو آخر اعتبرت المدة من وقت
الاندمال، لان الجناية لم تقف فاعتبرت المدة من وقت الاستقرار، وان كان الواجب أقل من دية نظرت فإن كان ثلث الديه أو دونه لم تجب الا في سنة لانه لا يجب على العاقلة شئ في أقل من سنه، فإن كان أكثر من الثلث ولم يزد على الثلثين وجب في السنه الاولى الثلث ووجب الباقي في السنه الثانيه، وان كان أكثر من الثلثين ولم يزد على ديه وجب في السنه الاولى الثلث وفى الثانيه الثلث وفى الثالثه الباقي وإن وجب بجنايته ديتان فإن كانتا لاثنتين بأن قتل اثنين وجب في كل سنه لكل واحد منهما ثلث الديه، لانهما يجبان لمستحقين فلا ينقص حق كل واحد منهما في كل سنه من الثلث، فإن كانتا لواحد بأن قطع اليدين والرجلين من رجل وجب الكل في ست سنين في كل سنه ثلث ديه لانها جنايه على واحد فلا يجب له على العاقلة في كل سنه أكثر من ثلث ديه وان وجب بجناية الخطأ أو عمد الخطأ دية ناقصه، كدية الجنين والمرأة ودية أهل الذمه ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يجب في ثلاث سنين في كل سنه ثلثها لانها ديه نفس فوجب في كل سنه ثلثها كالديه الكامله
(والثانى)
أنه كأرش الطرف إذا نقص عن الديه لانه دون الديه الكامله فعلى هذا ان كان ثلث ديه وهو كدية اليهودي والنصراني أو أقل من الثلث وهو دية المجوسى ودية الجنين وجب الكل في سنه واحدة، وان كان أكثر من الثلث وهو دية المرأة وجب في السنه الاولى ثلث دية كامله ويجب ما زاد في السنه

(19/146)


الثانية كما قلنا في الطرف، وإن كان قيمة عبد وقلنا إنها على العاقلة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنها تقسم في ثلاث سنين، وان زاد حصة كل سنة على ثلث الدية
لانها دية نفس.

(والثانى)
تؤدى في كل سنة ثلث دية الحر (الشرح) الخبر الذى ساقه المصنف أن عوف بن مالك الاشجعفى قتل نفسا وامتنع الصحابة عن الصلاة عليه إلى آخر ما ساقه كبوة جواد، فليست خطأ من النساخين ولا من الطباعين، فالعمراني في البيان ينقلها عن أبى اسحاق بغير تصرف، وقد قابلنا مخطوطة دار الكتب والوثائق العربية على النسخة المصورة بالجامعة العبربيه فوجدناها عوف بن مالك الاشجعى إلا أن العمرانى يقول عقب هذه الرواية.
وقيلان الذى رجع عليه سيفه هو أبو عوف وهو مالك، وبالرجوع إلى كتب الصحابة لم نجد مالكا الاشجعى فيهم.
والذى جعلنا نهتم هذا الاهتمام أن عوفا له أحاديث رواها عنه أبو هريرة وأبو مسلم الخولانى وماتا قبله بمدة.
وجبير بن نفير وأبو إدريس الخولانى وراشد بن سعد ويزيد بن الاصم وشريح بن عبيد والشعبى وسالم أبو النضر وسليم بن عامر وشداد بن عمار، وشهد غزوة مؤتة وقال: رافقني مددى من أهل اليمن ليس معه غير سيفه الحديث بطوله و؟ يه قوله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم تازكو لى أمرائى؟ رواه أحمد في مسنده ج 6: 26، 27 وقال الواقدي: كانت راية أشجع يوم الفتح مع عوف بن مالك وهذه الرواية تصحح خطأ وقع في تقريب ابن حجر أنه من مسلمة الفتح ج 2، 90 وقال جعفر بن برقان، ثنا ثابت بن الحجاج الكلابي قال شتونا في حصن دون القسطنطينية، وعلينا عوف بن مالك فأدركنا رمضان فقال عوف (فذكر حديثا) قال الواقدي وغيره مات عوف سنة ثلاث وسبعين هذا ما هو معروف عن عوف بن مالك بإجماع أهل العلم بالاخبار، منهم بالذهبي في سير أعلام النبلاء
ج 2، 348، 349 وابن عبد البر في الاستيعاب، ج 3، 1226 وابن حجر في

(19/147)


التقريب والاصابة والفتح والتلخيص.
فإذا ثبت هذا رفضنا كل الرفض هذه الرواية التى ساقها، وهو قد ساقها بحسن نية من غير تحقيق، ولو أعمل شيخنا رحمه الله فكره قليلا لما أعياه زيفها.
بقى أن نعرف حقيقة الخبر يقول ابن عبد البر في الاستيعاب جزء 2، 786 قرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم: حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا إياس ابن سلمة بن الاكوع قال: أخبرني أبى قال: لما خرج عمى عامر بن سنان إلى خيبر مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يرتجز بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يسوق الركاب وهو يقول: تالله لولا الله ما اهتدينا
* ولا تصدقنا ولا صلينا إن الذين بغوا علينا
* إذا أرادوا فتنة أبينا ونحن عن فضك ما استغنينا
* فثبت الاقدام ان لاقينا وأنزل سكينة علينا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من هذا؟ قالوا عامر يا رسول الله، فقال غفر لك ربنا.
قال وما استغفر لانسان قط يخصه بالاستغفار إلا استشهد قال فلما سمع ذلك عمربن الخطاب قال يا رسول الله لو متعتنا بعامر، فاستشهد يوم خيبر.
قال سلمة وبارز عمى يومئذ مرحبا اليهودي فقال مرحب قد علمت خيبر انى مرحب
* شاكى السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال عامر
قد علمت خيبر أنى عامر
* شاكى السلاح بطل مغامر واختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر ورجع سيفه على ساقه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه، قال سلمة فجئت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر؟ فقال من قال ذلك؟ فقلت ناس من أصحابك، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد كذب من قال ذلك؟ بل له

(19/148)


أجره مرتين (ثم ساق بقية القصة، وهو أن عليا رضى الله عنه هو الذى برز لمرحب وهد بناءه بسيفه هدا) أما الاحكام فإنه إذا جنى الرجل على نفسه أو على أطرافه عمدا كان ذلك هدرا، لان أرش العمد في مال الجاني، والانسان لا يثبت له مال على نفسه، وإن جنى على نفسه خطأ أو على أطرافه كانت جنايته هدرا، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم ربيعة ومالك والثوري وأصحاب الرأى، وهى الرواية الثانية عن أحمد بن حنبل، وقد رجحها ابن قدامة على الرواية التى جعلها القاضى أظهرهما، وهى أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه أو أرش جرحه لنفسه إذا كان أكثر من الثلث.
وهذا قول الاوزاعي وإسحاق لما روى أن رجلا ساق حمارا فضربه بعصا كانت معه فطارت منه شظية ففقأت عينه، فجعل عمر ديته على عاقلته وقال هي يد من أيدى المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد.
وقالوا ولم نعرف له مخالفا في عصره ولانها جناية خطأ فكان عقلها على عاقلته، كما لو قتل غيره.
فعلى هذه الرواية إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شئ لانه لا يجب للانسان شئ على نفسه، وإن كان بعضهم وارثا سقط عنه ما يقابل نصيبه وعليه ما زاد على نصيبه، وله ما بقى إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه.
دليلنا
أن عامر بن الاكوع بارز مرحبا اليهودي فارتد عليه سيفه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه، وعلم بأمره رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كان في خيبر، ولم يجعل ديته على عاقلته، ولو وجبت عليهم لبينها رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ أحمد فيمن جنايته على نفسه شبه عمد فهل تجرى مجرى الخطأ؟ على وجهين
(أحدهما)
هي كالخطأ لانها تساويه فيما إذا كانت على غيره
(والثانى)
لاتحمله العاقلة لانه لا عذر له فأشبه العمد المحض (فرع)
وأما خطأ الامام والحاكم في غيرا لحكم والاجتهاد فهو على عاقلته باتفاق أهل العلم إذا كان مما تحمله العاقلة، وفارق ما إذا كان الخطأ باجتهاده ففيه قولان
(أحدهما)
أن عاقلته تحمل ذلك عنه لما ذكرناه من أثر عمر رضى الله عنه في المرأة التى أجهضت، وهو إحدى الروايتين عن أحمد
(والثانى)
وهو الرواية

(19/149)


الثانية عن أحمد: يجب ذلك في بيت المال، لان الخطأ يكثر منه في اجتهاده وأحكامه، فإيجابه على عاقلته فيه إجحاف بهم، وبهذا قال الاوزاعي والثوري وأبو حنيفة واسحاق، لانه نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله فكان أرش جنايته في مال الله سبحانه.
فإذا قلنا تجب دية ذلك على عاقلته وجبت كفارة قتله في الخطأ وعمد الخطأ في ماله.
وإذا قلنا تجب دية ذلك في بيت المال ففى الفكارة وجهان
(أحدهما)
تجب في بيت المال لما ذكرناه في الدية
(والثانى)
تجب في ماله لان الكفارة لا تحملها العاقلة بحال.
(مسألة) فإذا قتل غيره عمدا أو جنى على طرفه عمدا وجبت الدية في مال الجاني، سواء كانت الجناية مما يجب فيها القصاص أو مما لا يجب فيها القصاص، وهذا قضية الاصل، وهو أن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية على
الجاني لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يجنى جان الا على نفسه) وبهذا قال أحمد.
وقال مالك: ان كانت لا قصاص لها مثل الهاشمة والمنقلة والمأمومة والجائفة، فإن العاقلة تحمله، وان كانت الجناية عمدا.
دليلنا أن الخبر انما ورد في حمل العاقلة دية الخطأ تخفيفا على القاتل لانه لم يقصد القتل والعامد قصد القتل فلم يلحق به في التخفيف، ولانه أرش جناية عمد محض فلم تحمله العاقلة، كما لو قتل الاب ابنه إذا ثبت هذا فإن أرش العمد يجب حالا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يجب مؤجلا في ثلاث سنين، لانها دية آدمى فكانت مؤجلة كدية شبه العمد.
دليلنا أن ما وجب بالعمد المحض كان حالا كالقصاص وأرش أطراف العبيد ولا يشبه شبه العمد، لان القاتل معذور لكونه لم يقصد القتل، وانما أفضى إليه من غير اختيار منه فأشبه الخطأ، ولهذا تحمله العاقلة، ولان القصد التخفيف على العاقلة الذين لم تصدر منهم جناية.
وهذا موجود في الخطأ وشبه العمد على السواء.
وأما العمد فإنه يحمله الجاني في غير حال العذر فوجب أن يكون ملحقا ببدل سائر المتلفات.
قال العمرانى في الخطأ وشبه العمد.
وقال بعض الناس يجب حالا.
وقال ربيعة: يجب مؤجلا في خمس سنين.
اه

(19/150)


وقال الشافعي رحمه الله: ولم أعلم خلافا فيما علمته أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين.
هكذا أورد المزني في المختصر قال الرافعى: تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك، فمنهم من قال: ورد ونسبه إلى رواية على عليه السلام ومنهم من قال ورد أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة.
وأما التأجيل فلم برد به الخبر، وأخذ ذلك من اجماع الصحابة وقال ابن
المنذر وما ذكره الشافعي لا نعرفه أصلا من كتاب ولاسنة وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال لا نعرف فيه شيئا، فقيل ان أبا عبد الله يعنى الشافعي رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لعله سمعه من ذلك المدنى فإنه كان حسن الظن به يعنى ابراهيم بن أبى يحيى وتعقبه ابن الرفعة بأن من عرف حجة على من لم يعرف.
وخرج العمرانى كلام الشافعي على نحو ينفى أنه عزا الثلاث سنين إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ قال لاأعلم خلافا أن الدية التى قضى بِهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى العاقلة أنها في ثلاث سنين، فهو ينفى الخلاف في المدة ويثبت الدية على العقالة التى قضى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمزنى اختصر النص الذى ورد في الام.
وأقول ان البيهقى روى من طريق ابن لهبعة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين، وقد وافق على نقل اجماع الصحابة الترمذي في جامعه وابن المنذر وقد روى التأجيل ثلاث سنين ابن أبى شيبة وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر، وهو منقطع لانه من رواية الشعبى عنه، ورواه عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج عن أبى وائل قال (ان عمر بن الخطاب جعل الدية الكاملة في ثلاث سنين وجعل النصف في سنتين وما دون النصف في سنة، وروى البيهقى التأجيل المذكور عن على رضى الله عنه إذا ثبت هذا فأول ابتداء الاجل إذا كانت الجناية على النفس من حين الموت لانه حال استقرار الجناية.
هذا نقل أصحابنا البغداديين.

(19/151)


وقال أصحابنا الخراسانيون: من حين الترافع إلى القاضى، وإن كانت الجناية على الطرف، فإن لم يسر إلى طرف آخر كان ابتداء الاجل من حين الجناية لانه
حين وجوبه، وإن سرت إلى طرف آخر مثل أن قطع أصبعه فسرت الجناية إلى كفه كان ابتداء الاجل من حين الابد مال لانه وقت استقرار الجنايه وحكى أصحابنا الخراسانيون وجها آخر أن دية الاصبع من حين الجنايه ودية ما زاد علهيا من الانمدال والاول أصح.
هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أول مدة الاجل من حين يحكم القاضى على العاقلة بالدية.
قالوا لانها مدة مختلف فيها فكان ابتداؤها من حين حكم الحاكم كمدة العنة.
دليلنا أنه مال يحل بحلول الاجل فكان ابتداؤه من حين وجوبه كالدين المؤجل والسلم، وننازعهم ادعاء الخلاف فيها فإن الخوارج لا يعتد بخلافهم (فرع)
إذا كان الواجب أقل من الدية نظرت فإن كان ثلث الديه فما دون وجب في آخر السنة الاولة، لان العاقلة لا تحمل حالا، وإن كان أكثر من الثلث ولم يزد على الثلثين وجب في آخر السنه إلاولة ثلث الدية وفى آخر السنه الثانيه الباقي.
وان كان أكثر من الثلثين ولم يزد على الديه وجبت في آخر السنه الاولة ثلث الديه وفى السنه الثانيه الثلث وفى آخر الثالثه الباقي.
وان كان الواجب أكثر من دية بأن وجب بجنايته ديتان فإن كانت لابنين حملت العاقلة لكل واحد من المجني عليهما ثلث الديه في كل سنه.
هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون فيه وجهان
(أحدهما)
وهو الاصح، تحمل لكل واحد من المجني عليهما ثلث الدية في كل سنة.

(والثانى)
أن العاقلة لا تحمل في كل سنه الا ثلث الديه لواحد للمجني عليهما وان كانتا لواحد مثل أن قطع يديه ورجليه لم تحملها العاقلة الا في ست سنين في كل سنة ثلث الديه.
وهذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون فيه وجهان
(أحدهما)
هذا
(والثانى)
أن العاقلة تحملها في ثلاث سنين
(فرع)
إذا وجب بالخطأ أو بعمد الخطأ ديه ناقصه عن دية الحر المسلم كدية المرأة ودية الجنين والكافر، ففيه وجهان

(19/152)


(أحدهما)
أنها تقسم في ثلاث سنين، وإن زادت حصة كل سنة على ثلث الدية أو نقص لانه بدل نفس
(والثانى)
أنه كأرش الطرف فتحمل كل سنة ثلث دية الحر المسلم اعتبارا بما تحمله من دية الحر المسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب أو الولاء غير الاب والجد والابن وابن الابن.
والدليل عليه ما روى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قضى في المرأة بديتها عل عصبة العاقلة، وأما الاب والجد والابن وابن الابن فلا يعقلون، فلما روى جابر رضى الله عنه أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الاخرى ولكل احدة منهما زوج وولد، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبر أزواجها وولدها، وإذا ثبت هذا في الولد ثبت في الاب لتساويهما في العصبة، ولان الدية جعلت على العاقلة إبقاء على القاتل حتى لا يكثر عليه فيجحف به، فلو جعلناه على الاب والابن أجحفنا به، لان مالهما كماله، ولهذا لا تقبل شهادته لهما كما لا تقبل لنفسه، ويستغنى عن المسألة بما لهما كما يستغنى بمال نفسه.
وإن كان في بنى عمها ابن لها لم يحمل منهم لما ذكرناه، وإن لم يكن له عصبة نظرت فإن كان مسلما حملت عنه مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ للمسلمين وهم يرثونه كما ترث العصبات.
وإن كان ذميا لم يحمل عنه في بيت المال، لان مال بيت المال المسلمين وهم لا يرثونه، وإنما ينقل ماله إلى بيت المال فيئا.
واختلف قوله في المولى من أسفل
فقال في أحد القولين لا يعقل عنه وهو الصحيح، لانه لا يرثه فلم يعقله وقال في الآخر يعقله لانه يعقله المولى فعقل عنه المولى كالاخوين، فعلى هذا يقدم على بيت المال لانه من خواص العاقلة فقدم على بيت المال كالمولى من أعلى، وإن لم يكن له عاقله ولا بيت مال فهل يجب على القاتل؟ فيه وجهان بناء على أن الدية هلتجب على القاتل؟ ثم تتحمل عنه العاقلة أو تجب على العاقلة ابتداء، وفيه قولان
(أحدهما)
تجب على القاتل ثم تنتقل إلى العاقلة لانه هو الجاني فوجبت

(19/153)


الدية عليه، فعلى هذا تجب الدية في ماله.
والقول الثاني: تجب على العاقلة ابتداء لانه لا يطالب غيرهم، فعلى هذا لا تجب عليه وقال أبو على الطبري: إذا قلنا انها تجب على القاتل عند عدم بيت المال حمل الاب والابن ويبدأ بهما قبل القاتل، لانا لم نحمل عليهما ابقاء على القاتل، وإذا حمل على القاتل كانا بالحمل أولى قال الشيخ الامام حرس الله مدته: ويحتمل عندي أنه لا يجب عليهما لانا انما أوجبنا على القاتل على هذا القول، لانه وجب عليه في الاصل، فإذا لم يجد من يتحمل بقى الوجوب في محله، والاب والابن لم يجب عليهما في الاصل ولا حملا مع العاقلة فلم يجب الحمل عليهما (الشرح) حديث المغيرة بن شعبة مضى تخريجه.
أما الاحكام فإن العاقلة هم العصبة، ولا يدخل فيهم أبوالجانى ولا جده وان علا ولا ابنه ولا ابن ابنه وان سفل.
وقال مالك وأبو حنيفة: يدخلون، وعن أحمد بن حنبل روايتان: احداهما كل العصبة من العاقلة يدخل فيه آباء القاتل وأبناؤه واخوته وعمومته وأبناؤهم، وهذا اختيار أبى بكر والشريف أبي جعفر لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا الا ما فضل عن ورثتها، وان قتلت فعقلها
بين ورثتها) رواه أبو داود، ولانهم عصبة فأشبهوا الاخوة، يحققه عندهم أن القعل موضوع على التناصر وهم من أهله، ولان العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث في تقديم الاقرب فالاقرب، وآباؤهم وأبناؤه أحق العصبات بميراثه فكانوا أولى بتحمل عقله.
والرواية الثانية: ليس آباؤه وأبناؤه من العاقلة دليلنا ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة قال (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت احداهما الاخرى فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه فحكم بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم) وفيرواية (ثما ماتت العاقلة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنيها والعقل على العصبة)

(19/154)


رواه أبو داود والنسائي.
وفى رواية عن جابر بن عبد الله قال (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دية المقتولة على عاقلتها وبرأ زوجها وولدها.
قال فقالت عاقلة المقتولة ميراثها لنا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميراثها لزوجها وولدها) رواه أبو داود.
أما حديث عمرو بن شعيب الذى أخد به أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الرايتين عنه فقد أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وفى إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وثقه أحمد وابن معين والنسائي.
وقال دحيم يذكر بالقدر، وقال النسائي في موضع ليس به بأس.
وقال في موضع آخر ليس بالقوى، وال ابن حبان كثير المناكير في روايته فاستحق ترك الاحتجاج به، وقال أبو زرعة لم يكتب عنه أبو مهر لانه كان يرى الخروج على الائمة، هذا بالاضافة إلى ما قيل في إسناد عمرو بن شعيب، على أن القاعدة عند أصحابنا من أهل الحديث أن المتفق عليه مقدم على ما سواهما ومن ثم سقط الاحتجاج
بحديث عمرو بن شعيب وتعين العمل بحديث أبى هريرة.
وروى أبو رمثة قال (خرجت مع أبى حتى أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيت برأسه ردع حناء وقال لابي هذا إفك؟ قال نعم.
قال أما إنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه، وقرأ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا تزر وازرة وزر أخرى) رواه أحمد وأبو داود.
ومعلوم أنه لم يرد أنه لا يجرحك ولا تجرحه، وإنما أراد لا تؤخذ بجنايته ولا يؤخذ بجنايتك وريو ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يؤخذ أحد بجريرة ابنه ولا يؤخذ بجريرة أبيه) أخرجه البزار ورجاله رجال الصحيح، ورواه النسائي عنه بلفظ (لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه) وفى هذا المعنى عند أبى داود وأحمد وابن ماجه والترمذي عن عمرو بن الاحوص.
وعند أحمد وابن ماجه عن الخشاش العنبري وروى نحوه الطبراني مرسلا بإسناد رجاله ثقات.
وعند أحمد والنسائي عن رجل من بنى يربوع.
ولان مال الولد والوالد كماله ولهذا لم

(19/155)


تقبل شهاتدهما له ولا العكس، بدليل أن نفقتهما تجب في مالها، كما تجب في ماله فلما لم تجب في ماله لم يحملا عنه، فإن كان للمرأة ابن هو ابن ابن عمه لم يعقل عنها لعموم الخبر.
وقال أبو على الشيخى: ويحتمل أن قال يحمل عنها لان فيه شيئين يحمل بأحدهما دون الآخر، فغلب الآخر، كولايته في النكاح على أمه، والاول هو المشهور.
(فرع)
ولا يحمل القاتل مع العاقلة من الدية شيئا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يحمل ما يحمل أحدهم، دليلنا ما ذكرناه من خبر جابر رضى الله
عنه في المرأتين، فإن لم يكن للجاني عصبة وله مولى حمل عنه لقوله صلى الله عليه وسلم (الولاء لحمة كلحمة النسب) والنسب يعقل به فكذلك الولاء، والمولى لا يحمل إلا بعد العاقلة من النسب، كما لا يرث إلا بعدهم، فإن لم يكن المعتق موجودا حمل عصبته كالاخ والعم وابن العم ابن الاخ وفى حمل ابن المعتق وأبيه وجهان، فإن لم يحن للجاني عصبة ولا مولى ولا عصبة مولى ولا مولى مولى، فإن كان مسلما، حملت عنه الدية في بيت المال، لانه لما نقل ماله إلى بيت المال إذا مات إرثا حمل عنه بيت المال كالعصبة، وإن كان كافرا لم يحمل عنه بيت المال لان مال بيت المال للمسلمين وليس هو منهم، وإنما ينقل ماله إلى بيت المال إذا لم يكن له وارث.
وروى أن رجلا من الانصار قتل عام خيبر فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال، وروى ان رجلا قتل في زحام في زمن عمر فلم يعرف قاتله، فقال على: يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرئ مسلم، فأدى ديته من بيت المال.
(مسألة) لا يعقل العديد، وهو الرجل الغريب الذى يدخل ويعد فيهم، ويقال له دخيل، ولا يحمل الحليف، وهو أن يحالف الرجل الرجل على أن يتناصرا عل دفع الظلم، كالمشتركين في الجميعات والمساهمين في الشركات والمنتسبين للناقابات المهنية والحرفية والفئوية، كل هؤلاء لا يعقل بعضهم على بعض.
ولو اتفقوا على ذلك.
وهذا هو مذهب أحمد ووافقنا أبو حنيفة في العديد وخالفنا في الحليف إذا

(19/156)


لم يكن له قرابة من النسب فإنه يرث ويقعل، وهل الهيئات الفئوية لها صفة بيت المال كما عرف عند الفقهاء الوضعيين من وصفها بالشخصية الاعتبارية؟ خصوصا في بلد لا توجد فيه حكومة إسلامية؟
نقول: إذا كان المسلمون قلة في بلد كفر أو كانوا كثرة تحكمهم حكومة نصرانية أو يهودية أو إلحادية فإن لهم أن ينتظموا متكافلين وتعقل عنهم فنقهم كما لو كان لهم بيت مال، كالمسلمين في تايلاند والفلبين وقبرص وفلسطين والحبشة أما أهل الديوان من غير العصبات فلا مدخل لهم في المعاقلة، به قال أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك: إذا خرج الامام والناس وجعلهم فرقا تحت يد كل عريف فرقه، فإذا جنى فانتسب إلى قبيلة وأمكن صدقه وصادقوه على ذلك ثبت نسبه منهم وعقلوا عنه.
فإن قال جماعة من الناس: سمعنا أنه ليس منهم وشهدوا بذلك لم ينتف نسبه منهم بذلك.
وقال مالك ينتفى نسبه، وهذا غلط لانه نفى محض فلم يزل به نسب حكم بثبوته فإن جاء آخر من غيرهم وقال هو ابني وولد على فراشي وأقام بينة على ذلك ثبت نسبه منه وانتفى نسبه من الاولين، لان البينة أقوى من مجرد الدعوى (فرع)
إذا لم يكن للجاني عصبة من النسب ولا من يحمل من جهة الولاء، وليس هناك بيت فهل يجب الدية في ماله؟ فيه قولان بناء على أن الدية هل تجب على العاقلة ابتداء أو على الجاني؟ ثم تحمل العاقلة عنه، وفيه قولان
(أحدهما)
أنها تجب الدية على العاقلة ابتداء، لانهم المطالبون بها، فعلى هذا لا تجب في مال الجاني
(والثانى)
أنها تجب على الجاني ابتداء ثم تتحملها العاقلة عنه لانه هوء المباشر للجناية، فعلى هذا يجب أداء الدية من ماله، فإذا قلنا بهذا وكان له أب وابن فهل يحملان؟ فيه وجهان: قال أبو على الطبري: يحملان ويقدمان على الجاني، لانا انما نحمل عليهما ابقاء على الجاني، فإذا حمل الجاني كانا أولى بالحمل، وقال الشيخ الامام: يحتمل
عندي أنه لا يجب عليهما الخ العبارة

(19/157)


وقوله: الشيخ إلامام حرس الله مدته، يحتمل أنه يعنى بهذا إمام الحرمين أبا المعالى المولود ثامن المحرم سنة 419 والمتوفى ليلة الاربعاء الخامس والعشرين من ربيع الاخر سنة 478 فإذا عرفنا أن المصنف رحمه الله توفى سنة 476 عرفنا أن الله استجاب دعاءه إلا أنه يرد على هذا أن إمام الحرمين أصغر من المصنف بنحو ست وعشرين سنة فيبعد أن ينقل عنه بهذا الاحتفاء، وبعله لم ترد في المهذب هذه العبارة إلا في هذا الموضع إذ لم ينتبه إليها الامام النووي رحمه الله وإلا أوضحها في خطبته العظيمة في مقدمة المجموع، ويحتمل أن يكون مراده بالامام حرس الله مدته شيخه القاضى أبا الطيب، وهذا هو الراجح عندي، وقد ولد القاضى أبو الطيب بآمل سنة 348، ووفى ببغداد يوم السبت لعشر بقين من ربيع الاول سنة 450 عن مائه سنة واثنتين.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يعقل مسلم عن كافر، ولا كافر عن مسلم، ولا ذمى عن حربى، ولا حربى عن ذمى، لانه لا يرث بعضهم من بعض، فإن رمى نصراني سهما إلى صيد ثم أسلم ثم أصاب السهم إنسانا وقتله وجبت الدية في ماله، لانه لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى، لانه وجد القتل وهو مسلم، ولا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين، لانه رمى وهو نصراني، فإن قطع نصراني يد رجل ثم أسلم ومات المقطوع عقلت عنه عصباته من النصارى دون المسلمين، لان الجناية وجدت منه وهو نصراني، ولهذا يجب بها القصاص ولا تسقط عنه بالاسلام، وإن رمى مسلم سهما إلى صيد ثم ارتد ثم أصاب السهم إنسانا فقتله
وجبت الدية في ذمته، لانه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين، لانه وجد القتل وهو مرتد، ولا يمكن إيجابها على الكفار لانه ليس منهم عاقلة يرثونه، فوجبت في ذمته.
وإن جرح مسلم إنسانا ثم ارتد الجارح وبقى في الردة زمانا يسرى في مثله الجرح ثم أسلم ومات المجروح وجبت الدية، وعلى من تجب؟ فيه قولان

(19/158)


(أحدهما)
تجب على عاقلته لان الجناية في حال الاسلام وخروج الروح في حال الاسلام، والعاقلة تحمل ما يجب بالجنايتين في حال الاسلام فوجبت ديته عليها، والقول الثاني: أنه يجب على العاقلة نصف الدية، ويجب في مال الجاني النصف، لانه وجد سراية في حال الاسلام وسراية في حال الردة، فحملت ما سرى في حال الاسلام ولم تحمل ما سرى في الردة.

(فصل)
ولا يعقل صبى ولا معتوه ولا امرأة لان حمل الدية على سبيل النصرة، بدلا عما كان في الجاهلية من النصرة بالسيف، ولا نصرة في الصبى والمعتوه والمرأة، ويعقل المريض والشيخ الكبير إذا لم يبلغ المريض حد الزمانة والشيح حد الهرم، لانهما من أهل النصرة بالتدبير، وقد قاتل عمار في محفة.
وأما إذا بلغ الشيخ حد الهرم والمريض حد الزمانة ففيه وجهان بناء على القولين في قتلهما في الاسر، فإن قلنا إنهما يقتلان في الاسر عقلا، وان قلنا لا يقتلان في الاسر لم يعقلا.
(الشرح) لا يعقل مسلم عن كافر ولا كافر عن مسلم لانهما لا يتوارثان ويعقل أهل الذمة بعضهم عن بعض إذا ثبت اتصال نسبهم إلى أب، سواء كانوا على ملة واحخدة كاليهودية، أو على ملتين كاليهودية والنصرانية.
وقال أبو حنيفة ولا يعقل ذمى عن ذمى، دليلنا أنهم يتوارثون فتعاقلوا كالمسلمين، ولا يعقل
ذمى عن حربى ولا حربى عن ذمى وإن جمعتهما ملة واحدة وأب واحد، لانهما لا يتوارثان فلم يتعاقلا كالاجنبيين، فإن لم يكن للذمي عاقلة من النسب وله مولى من أعلا حمل عنه إذا كان يرثه، وكذلك ان كان له عصبة موالى أو مولى.
مولى، وهل يحمل عنه المولى من أسفل على القولين فيمن لم يكن له عاقلة أو كان له عاقلة، ولا يقدر على جميع الدية فهل يجب في ماله؟ على القولين في المسلم، فإن قلنا يجب في ماله فهل يحمل عنه أبوه وابنه؟ على الوجهين (فرع)
إذا رمى ذمى سهما إلى غرض فأسلم ثم وقع السهم في انسان فقتله وجبت الدية في ماله لانه لا يمكن ايجابها على عاقلته من المسلمين، لان الرمى وجد منه وهو ذمى، ولا يمكن ايجابها على عاقلته من أهل الذمة، لان الاصابة

(19/159)


وجدت وهو مسلم فلم يبق إلا ايجابها في ماله لانه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين، لان الاصابة وجدت وهو مرتد، ولا يمكن ايجابها على عاقلته من الكفار لانه لا عاقلة له منهم، فإن قطع ذمى يد رجل خطأ فأسلم الذمي ثم مات المقطوع من الجناية قال أبو إسحاق المروزى: عقلت عنه عصبانه من أهل الذمة دون المسلمين، لان الجناية وجدت وهو ذمى، ولهذا يجب بها القصاص ولا يسقط عنه بالاسلام.
وقال ابن الحداد: يجب على عاقلته من أهل الذمة أرش الجراحة لاغير، ولا تحمل ما زاد لانه وجب بعد الاسلام، وتجب الزيادة في مال الجاني ولا تحمل عاقلته من المسلمين، لان سببها كان في الكفر قال ابن الحداد: وإن جنى دمى على رجل خطأ ثم أسلم الجاني ثم جنى على المجني عليه جناية أخرى خطأ ومات من الجنايتين فإن على عاقلته من المسلمين نصف الدية.
وعلى عاقله من أهل الذمة أقل الامرين من أرش الجناية في حال
الذمة أو نصف الدية، فإن كان نصف الدية أقل لزمهم ذلك وإن كان أرش الجناية أقل لزمهم قدر الارش وما زاد عليه إلى تمام نصف الدية يجب في مال الجاني، لانه وجب بعد الاسلام، ولافرق بين أن يجرحه في حال الذمية جراحة أو بعد الاسلام جراحة واحدة، فإن الدية مقسومة على الحالين، فيجب على عاقلته من المسلمين نصف الدية وعلى عاقلته من أهل الذمة أقل الامرين من نصف الدية وأرش الجراحة أو الجراحات في حال الذمة، فإن حرجه في حال الذمة خطأ ثم أسلم ثم قتله خطأ دخل الارش في دية النفس على المذهب فكانت الدية على عاقلته من المسلمين، وعلى قول أبى سعيد الاصطخرى، وأبى العباس ابن سريج لا يدخل فيكون أرش الجراحه على عاقلته من أهل الذمة ودية النفس على عاقلته من المسلمين.
وإن جرح مسلم إنسانا خطأ ثم ارتد الجارح وبقى في الردة زمانا يسرى في مثله الجرح ثم أسلم ثم مات المجروح وجبت الدية، وعلى من تجب؟ فيه قولان
(أحدهما)
تجب على عاقلته، لان الجراحه والموت وجدا في الاسلام.

(والثانى)
يجب على العاقلة نصف الديه، وفى مال الجاني النصف لانه وجد

(19/160)


سراية في حال الاسلام وسراية في حال الردة، فحملت ما سرى في الاسلام ولم تحمل ما سرى في الردة.
قوله (ولا يعقل صبى ولا معتوه ولا امرأة) الخ، فجملة ذلك أنه إذا جنى الصبى أو المجنون أو المعتوه جناية خطأ أو عمد خطأ أو عمدا محضا وقلنا إن عمده خطأ فإن عاقلته تحمل عنه الدية لان تحمل العاقلة للدية جعل بدلا عن التناصر في الجاهلية بالسيف، وهو ممن لا تنصرهم عاقلتهم.
وان جنى أحد من عصبة الصبى والمجنون والمعتوه خطأ أو عمد خطأ لم يحمل
الصبى والمجنون والمعتوه لانهم ليسوا من أهل النصرة، وان جنت المرأة أو الخنثى المشكل خطأ أو عمد خطأ حملت عاقلتهما عنهما الدية، وان جنى أحد من عصبانهما لم يحملا عنه الدية لما ذكرناه في الصبى والمجنون، فإن بان الخنثى رجلا يحمل العقل.
(فرع)
ويحمل المريض إذا لم يبلغ الزمانة، أي دوام المرض زمانا طويلا، وكذلك الشيخ إذا لم يبلغ الهرم، لانهما من أهل النصرة، فإن بلغ الشيخ الهرم والشاب المريض الزمانة فهل يحملان الدية؟ قال الشيخ المصنف: فيه وجهان بناء على القولين في جواز قتلهما إذا أسرا وقال ابن أبى هريرة: ان كانت الزمانة من اليدين والرجلين لم يحملا.
وذكر الشيخ أبو حامد الاسفرايينى: أنهما يحملان وجها واحدا قوله (وقد قاتل عمار على محفة) فإن عمارا يقول: كنت تربا للنبى صلى الله عليه وسلم لسنه.
وروى عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: رأيت عمارا يوم صفين شيخ آدم طوال، وان الحربة في يده لترعد.
وعن ابن عمر قال (رأيت عمارا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرون؟ هلموا إلى، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهى تذبذب وهو يقاتل أشد القتال) وكلام المصنف صريح في أنه كان لا يستطيع الثبات والاستقرار على راحلته، ولعله جاء من توهم بعض الرواة من أحداث الشيخوخة حيث قتل وعمره ثلاث وتسعون سنة، بيد أن القضية التى ساقها المصنف يرد عيبها ما رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء بسنده عن يحيى بن سعيد عن عمه قال (لما كان اليوم

(19/161)


الذى أصيب فيه عمار إذا رجل قد برز من الصفين جسيم على فرس جسيم، ضخم على ضخم ينادى: يا عباد الله بصوت موجع روحوا إلى الجنة،
ثلاث مرات، الجنة تحت ظلال الاسل، فثار الناس فإذا هو عمار، فلم يلبث أن قتل.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الاعمش عن أبى عبد الرحمن السلمى قال: شهدنا مع على رضى الله عنه صفين، فرأيت عمارربن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم، وسمعت عمارا يقول يومئذ لهاشم بن عقبة: يا هاشم تقدم، الجنة تحت الابارقة اليوم ألقى الاحبة، محمدا وحزبه الخ وروى الشعبى عن الاحنف بن قيس في خبر صفين، قال ثم حمل عمار فحمل عليه ابن السكسكى وأبو الغادية الفزارى، فأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جزء فاحتز رأسه.
فإذا عرفنا أن المحفة مركب من مراكب النساء كالهودج استبعدنا صحة من أثبته المصنف هنا لما ذكرناه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يعقل فقير لان حمل الدية على العاقلة مواساة والفقير ليس من أهل المواساة، ولهذا لا تجب عليه الزكاة، ولا نفقة الاقارب، ولان العاقلة تتحمل لدفع الضرر عن القاتل، والضرر لا يزال بالضرر، ويجب على المتوسط ربع دينار، لان المواساة لا تحصل بأقل قليل، ولا يمكن إيجاب الكثير، لان فيه اضرارا بالعاقلة، فقدر أقل ما يؤخذ بربع دينار، لانه ليس في حد التافه.
والدليل عليه أنه تقطع فيه يد السارق، وقد قالت عائشة رضى الله عنها (يد السارق لم تكن تقطع فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشئ التافه) ويجب على الغنى نصف دينار أنه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغنى والمتوسط واحدا فقدر بنصف دينار، لانه أقل قدر يؤخذ من الغنى في الزكاة التى قصد بها المواساة، فيقدرما يؤخذ من الغنى في الدية بذلك، لانه في معناه، ويجب هذا
القدر في كل سنة لانه حق يتعلق بالحال على سبيل المواساة فتكرر بتكرر الحول

(19/162)


كالزكاة، ومن أصحابنا من قال يجب ذلك القدر في الثلاث سنين، لانا لو أوجبنا هذا القدر في كل سنة أجح؟ به، ويعتبر حالة في الفقر والغنى والتوسط عند حلول النجم، لانه حق مال يتعلق بالحلو على سبيل المواساة، فاعتبر فيه حاله عند حلول الحول كالزكاة، فإن مات قبل حلول الحول لم تجب كما لا تجب الزكاة إذا مات قبل الحول، وإن مات بعد الحول لم يسقط ما وجب كما لا يسقط ما وجب من الزكاة قبل الموت
(فصل)
وإذا أراد الحاكم قسمة الدية على العاقلة قدم الاقرب فالاقرب من العصبات على ترتيبهم في الميراث، لانه حق يتعلق بالتعصيب فقدم فيه الاقرب فالاقرب كالميراث، وإن كان فيهم من يدلى بالابوين وفيهم من يدلى بالاب ففيه قولان
(أحدهما)
أنهما سواء لتساويهما في قرابة الاب، لان الام لا مدخل لها في النصرة وحمل الدية فلا يقدم بها
(والثانى)
يقدم من يدلى بالابوين على من يدلى بالاب لانه حق يستحق بالتعصيب، فقدم من يدلى بالابوين على من يدلى بالاب كالميراث، فإن أمكن أن يقسم ما يجب على الاقربين منهم لم يحمل على من بعدهم، وإن لم يمكن أن يقسم على الاقربين لقلة عددهم قسم ما فصل على من بعدهم على الترتيب، فإن كان القاتل من بنى هاشم قسم عليهم، فإن عجزوا دخل معهم بنو عبد مناف، فإن عجزوا دخل معهم بنو قصى، ثم كذلك حتى تستوعب قريش، ولا يدخل معهم غير قريش، لان غيرهم لا ينسب إليهم، وان غاب الاقربون في النسب وحضر الابعدون ففيه قولان
(أحدهما)
يقدم الاقربون في النسب لانه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه الاقربون في النسب كالميراث

(والثانى)
يقدم الاقربون في الحضور على الاقربين في النسب، لان تحمل العاقلة على سبيل النصرة الحاضرون أحق بالنصرة من الغيب، فعليه ذا إن كان القاتل بمكة وبعض العاقلة بالمدينة وبعضهم بالشام قدم من بالمدينة على من بالشام لانهم أقرب إلى القاتل وإن استوت جماعة في النسب وبعضهم حضور وبعضهم غيب ففيه قولان
(أحدهما)
يقدم الحضور لانهم أقرب إلى النصرة
(والثانى)
يسوى بين الجميع كما يسوى في الميراث.
وان كثرت العاقلة وقل

(19/163)


المال المستحق بالجناية بحيث إذا قسم عليهم خص المتوسط دن ربع دينار والغنى دون نصف دينار، ففيه قولان
(أحدهما)
أن الحاكم يقسمه على من يرى منهم، لان في تقسيط القليل على الجميع مشقه.

(والثانى)
وهو الصحيح أنه يقسم على الجميع لانه حق يستحق بالتعصيب، فقسم قليله وكثيره بين الجميع كالميراث.

(فصل)
وإن جنى عبد على حر أو عبد جناية توجب المال تعلق المال برقبته لانه لا يجوز إيجابه على المولى، لانه لم يوجد منه جناية، ولا يجوز تأخيره إلى أن يعتق، لانه يؤدى إلى إهدار الدماء فتعلق برقبته، والمولى بالخيار بين أن يبيعه ويقضى حق الجنايه من ثمنه وبين أن يفديه، ولا يجب عليه تسليم العبد إلى المجني عليه، لانه ليس من جنس حقه، وإن اختار بيعه فباعه فإن كان الثمن بقدر مال الجنايه صرفه فيه، وإن كان أكثر قضى ما عليه والباقى للمولى وان كان أقل لم يلزم المولى ما بقى لان حق المجني عليه لا يتعلق بأكثرمن الرقبة فإن اختار أن يفديه ففيه قولان
(أحدهما)
يلزمه أن يفديه بأقل الامرين من أرش الجناية أو قيمة العبد،
لانه لا يلزمه ما زاد على واحد منهما.
والقول الثاني: يلزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ أو يسلمه للبيع، لانه قد يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من قيمته، فإذا امتنع من البيع لزمه الارش بالغا ما بلغ.
وإن قتل عشرة أعبد لرجل عبدا لآخر عمدا فاقتص مولى المقتول من خمسة وعفا عن خمسة على المال تعلق برقبتهم نصف القيمة في رقبة كل واحد منهم عشرها، لانه قتل خمسة بنصف عبده، وعفا عن خمسة على المال وبقى له النصف.
(الشرح) خبر عائشة رضى الله عنها سيأتي تخريجه في كتاب الحدود.
أما أحكام هذه الفصول فانه لا يحمل القعل من العاقلة إلا الغنى والمتوسط، فأما الفقير وهو من لا يملك ما يكفيه على الدوام فإنه لا يحمل العقل، وعلى

(19/164)


هذا أكثر أهل العلم، وهذا قول مالك وأحمد وأصحاب الرأى، وحكى بعضهم عن مالك وأبى حنيفة أن للفقير مدخلا في التحمل، وذكره أبو الخطاب رواية عن أحمد لانه من أهل النصرة كالغنى.
والصحيح الاول لان العاقلة انما تحمل الدية عن القاتل على طريق الرفق والمواساة، والفقير ليس من أهل المواساة، ولان الدية انما نقلت إلى العاقلة تخفيفا عن القاتل لئلا يجحف بماله، فلو أوجبنا ذلك على الفقير لدفعنا الضرر على القاتل وألحقناه بالفقير، والضرر لا يزال بالضرر ويجب على المتوسط ربع دينار مثقال لانه لا يمكن ايجاب الكسر عليه لئلا يجحف به فقدر ما يؤخذ منه بربع دينار، لانه ليس في حد التافه.
وهذا احدى الروايتين عن أحمد لان اليد لا تقطع في الشئ التافه، على ما ورد في قول عائشة وقد ثبت أن اليد لا تقطع بدون ربع دينار، فإذا كان الدينار نحو خمسة
عشر جراما وكان الجرام من عيار 21 يساوى 90 قرشا كان ربع الدينار يساوى ثلاثة جنيهات مصرية وثلثا ونحو عشرة دولارات أو ما يقابلها من عملات ونقود، ويجب على الغنى نصف دينار، لانه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغنى والمتوسط، واحدا فقدرما يؤخذ من الغنى بنصف دينار لانه أول قدر يؤخذ منه في زكاة الذهب.
إذا ثبت هذا فهل يجب هذا القدر على المتوسط والغنى مقسوما على الثلاث سنين أو يجب هذا القدر في كل سنة من الثلاث سنين؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أن هذا القدر يجب مقسوما في ثلاث سنين لا غير، فعلى هذا لا يجب على المتوسط أكثر من ربع دينار في كل سنة نصف سدس دينار، ويجب على الغنى نصف دينار في ثلاث سنين، في كل سنة سدس دينار، لان الشافعي رضى الله عنه قال: يحمل من كثر ماله نصف دينار، وهذا يقتضى أن هذا جميع ما يحمله، ولان ايجاب ما زاد على ذلك عليه يجحف به
(والثانى)
وهو الاصح أن هذا القدر يجب في كل سنة من الثلاث سنين، فيكون جميع ما يجب على المتوسط في الثلاث سنين ثلاثة أرباع دينار، وجميع ما يجب على الغنى في الثلاث سنين دينار أو نصف، لان الشافعي رحمه الله قال:

(19/165)


يحمل الغنى نصف دينار والمتوسط ربع دينار حتى يشترك النفر في بعير.
وظاهر هذا أنهم يحملون هذا القدر كل سنة من الثلاث، ولانه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة فتكرر بتكرر الاحوال كالزكاة.
إذا ثبت هذا فإن الجماعة من العاقلة يشتركون في شراء بعير، لان الواجب عليهم الابل لا الدنانير.
هذا مذهبنا وقال مالك وأحمد: يحملون قدر ما يطيقون، فعلى هذا لا يتقدر شرعا وإنما
يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل واحد قدرا يسهل ولا يؤذى، لان التوقيت لا يثبت إلا بتوقيف، ولا يثبت بالرأى والتحكم، ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات.
وعن أحمد رواية أخرى كمذهبنا.
وقال أبو حنيفة: الفقير والمتوسط والغنى سوا، فأكثر ما يحمله الواحد منهم أربعة دراهم واقله ليس له حد.
واختار ابن قدامة من مجتهدي الحنابلة استواءهم في الواجب كاستوائهم في القرابة فكانوا سواء كما لو قلوا وكالميراث.
دليلنا أنه حق مخرج على وجه المواساة فاختلف بكثرة المال وقلته كالزكاة، ويعتبر حال كل واحد منهم في البلوغ والعقل واليسار والاعسار والتوسط عند حلول الحول كما يعتبر النصاب في آخر الحول.
فإن كان معسرا عند حلول الحول لم يجب عليه شئ، فإن أيسر بعد ذلك لم يجب عليه شئ من الثلث الواجب قبل يساره فإن كان موسرا عند حلول الحول الثاني وجب عليه، وإن كان معسرا عند حلول الحول فأعسر قبل دفع ما عليه كان دينا في ذمنه إلى أن يوسر، لانه قد وجب عليه، وإن مات واحد منهم بعد الحول وهو موسر لم يسقط عنه، بل يجب قضاؤه من تركته.
وقال أبو حنيفة (يسقط) دليلنا أنه مال استقر وجوبه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت كالدين.
(مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه (ومعرفة العاقلة أن ينظر إلى إخوته لابيه وأمه فيحملهم) وجملة ذلك أن الحاكم إذا أراد قسمة العقل فإنه يبدأ بالاخوة للاب والام وللاب، لانهم أقرب العاقلة، فيؤخذ من الغنى منهم

(19/166)


نصف دينار، ومن المتوسط ربع دينار، فإن وفى ذلك ثلث الدية لم يحمل على
من بعدهم، وإن لم يف حمل على بنى الاخوة وإن سفلوا، فإن لم يف ذلك حمل على الاعمام، فإن لم يف ذلك حمل على بنى الاعمام إلى أن يستوعب جميع القبيل الذى يتصل أبوالجانى بأبيهم، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية حمل عنه المولى ومن أدلى به، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية حملت تمام الثلث في بيت المال، وعلى هذا في الحول الثاني والثالث، وبما ذكرناه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: يسوى بين القريب البعيد ويقسم على جميعهم، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ دية المقتولة على عصبة القاتلة دليلنا أنه حكم تعلق بالتعصيف فوجب أن يقدم فيه الاقرب فالاقرب كالميراث، والخبر لا حجة فيه، لاننا نقسمه على الجماعة إذا لم يف به الاقرب فنحمله على ذلك.
إذا ثبت هذا واجتمع في درجة واحدة ابنان، أحدهما يدلى بالاب والام والآخر بالاب لا غير، كأخوين أو ابني أخ أو عمين أو ابني عم ففيه قولان.
قال في القديم: هما سواء لانهما متساويان في قرابة الاب وأما الام فلا مدخل لها في النصرة وحمل العقل فلم يرجح بها وقال في الجديد: يقدم من يدلى بالاب والام لانه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه من يدلى بالابوين على من يدلى بأحدهما كالميراث.
وعند أحمد وجهان كالقولين آنفا، فإذا اجتمع جماعة من العاقلة في درجة واحدة، فكان الارش الواحد بحيث إذا قسم عليهم خص الغنى منهم دون نصف دينار، والمتوسط منهم دون ربع دينار ففيه قولان:
(أحدهما)
يقسط عليهم على عددهم لانهم استووا في الدرجة والتعصيب، فقسم المال بينهم على عددهم كالميراث
(والثانى)
يخص به الحاكم من رأى نهم لانه ربما كان العقل قليلا فحص
كل احد منهم فلس أو مليم.
وفى تقسيط ذلك سفه (فرع)
إذا كان جميع العاقلة حضورا في بلد القاتل فإن الحاكم يقسم الدية عليهم على ما مضى، وان كانوا كلهم غائبين عن بلد القاتل وهم في بلد واحد،

(19/167)


فإن حاكم البلد الذى فيه القاتل إذا ثبت عنده القتل يكتب إلى حاكم البلد الذى فيه العاقلة ليقسم الدية عليهم، فإن كان بعض العاقلة حضورا في بلد القاتل وبعضهم غائبا عنه في بلد آخر نظرت فإن حضر معه الاقربون إليه، وأمكن أن يحمل ثلث الدية على الاقربين لم يحمل على من بعدهم، وإن لم يكن حمل ثلث الدية على الالاقربين حمل على من بعدهم، وإن كانوا غائبين، وبهذا قال أحمد وأصحابه وأبو حنيفة.
وان كان جماعة من العاقلة في درجة واحدة وبعضهم حاضر في بلد القاتل وبعضهم غائب عنه في بلد آخر، فإن لم يكن في الحضور سعة لاستغراق الدية ففيه قولان
(أحدهما)
أن الحاكم يقسم الدية على الحاضرين دون الغائبين، وهو قول مالك رضى الله عنه.

(والثانى)
تقسم الدية على الجميع، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، فان حضر معه الابعدون وغاب الاقربون، فاختلف أصحابنا فيه، فقال الشيخ أبو إسحاق والمسعودي هي على القولين في التى قبلها، وقال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا يقدم الاقربون قولا احدا، لانه مبنى على التعصيب، وكل من قرب كان أولى كالميراث.
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولا يقدم نجم الا بعد حلوله وجملة ذلك أن الدية إذا وجبت على العاقلة فإن كانت الابل موجودة معهم أو في بلدهم بثمن مثلها عند الحول وجبت عليهم أن يجمعوا ما وجب على كل واحد
منهم ويشتروا به ابلا فان كانت معدومة أو موجودة بأكثر من ثمن مثلها انتقلوا إلى بدلها، وبدلها في قوله القديم اثنا عشر ألف درهم أو ألف مثقال، وفى قوله الجديد قيمتها، فإذا قلنا: تجب قيمتها فانها تقوم عليهم عند حلول الحول أقل إبل لو بذلوها لزم الولى قبول ذلك، فان أخذ الولى القيمة ثم وجدت الابل لم يكن له المطالبة بالابل، لان الذمة قد برئت بالقبض، وان قومت الابل ثم وجدت الابل قبل قبض القيثمة كان للولى أن يطالب بالابل، لان حقه في الابل لم يسقط بالتقويم، والله تعالى أعلم بالصواب

(19/168)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب اختلاف الجاني وولى الدم)

إذا قتل رجلا ثم ادعى أن المقتول كان عبدا، وقال الولى بل كان حرا، فالمنصوص أن القول قول الولى مع يمينه، وقال فيمن قذف امرأة ثم ادعى أنها أمة ان القول قول القاذف، فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة من المسئلتين إلى الاخرى وجعلهما على قولين.
أحدهما أن القول قول الجاني والقاذف، لان ما يدعيان محتمل، لانا لدار تجمع الاحرار والعبيد، والاصل فيه حمى الظهر وحقن الدم.
والثانى أن القول قول ولى المجني عليه والمقذوف، لان الظاهر من الدار الحرية، ولهذا لو وجد في الدار لقيط حكم بحريته ومن أصحابنا من قال القول في الجناية قول الولى، والقول في القذف قول القاذف، والفرق بينهما أنا إذا جعلنا القول قول القاذف أسقطنا حد القذف وأوجبنا التعزير فيحصل به الردع، وإذا جعلنا القول قول الجاني سقط القصاص ولم يبق ما يقع به الودع.

(فصل)
إذا وجب له القصاص في موضحة فاقتض في أكثر من حقه أو
وجب له القصاص في أصبع فاقتص في أصبعين وادعى أنه أخطأ في ذلك وادعى المستقاد منه أنه تعمد، فالقول قول المقتص مع يمينه، لانه أعرف بفعله وقصده وما يدعيه يجوز الخطأ في مثله فقبل قوله فيه.
وان قال المقتص منه ان هذه الزيادة حصلت باضطرابه وأنكره المستقاد منه ففيه وجهان
(أحدهما)
أن القول قول المقتص، لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والاصل براءة الذمة
(والثانى)
أن القول قول المستفاد منه لان الاصل عدم الاضطراب.

(فصل)
إذا اشترك ثلاثة في جرح رجل ومات المجروح ثم ادعى أحدهم أن جراحته اندملت وأنكر الآخران وصدق الولى المدعى نظرت فان أراد القصاص قبل تصديقه، ولم يجب على المدعى الا ضمان الجراحة، لانه

(19/169)


لاضرر على الآخرين لان القصاص يجب عليهما في الحالين، وان أراد أن يأخذ الدية لم يقبل تصديقه لانه يدخل الضرر على الآخرين، لانه إذا حصل القتل من الثلاثة وجب على كل واحد منهم ثلث الدية، وإذا حصل من جراحهما وجب على كل واحد منهما نصف الديه، والاصل براءة ذمتهما مما زاد على الثلث
(فصل)
إذا قد رجلا ملفوفا في كساء ثم ادعى أنه قده وهو ميت.
وقال الولى بل كان حيا ففيه قولان
(أحدهما)
أن القول قول الجاني لان ما يدعيه محتمل، والاصل براءة ذمته
(والثانى)
أن القول قول الولى، لان الاصل حياته وكونه مضمونا، فصار كما لو قتل مسلما وادعى أنه كان مرتدا (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أن رجلا ادعى أن رجلا قتل أباه عمدا بما فيه القود وأقر المدعى عليه أنه قتله خطأ، فالقتل خطأ والدية عليه
في ثلاث سنين بعد أن يحلف ما قتله إلا خطأ، فإن نكل حلف المدعى لقتله عمدا وكان له القود، وهكذا إن أقر أنه أقر أنه قتله عمدا بالشئ الذى إذا قتله به لم يقد منه، ولو ادعى رجل على رجل أنه قتل اباه وحده خطأ فأقر المدعى عليه أنه قتله عمدا بالشئ الذى إذا قتله به لم يقد منه.
ولو ادعى رجل على رجل أنه قتل أباه وحده خطأ، فأقر المدعى عليه أنه قتله هو وغيره معه، كان القول قول المقر مع يمينه ولم يغرم إلا نصف الدية، ولا يصدق على الذى زعم أنه قتله معه ولو قال قتلته وحدي عمدا وأنا مغلوب على عقلي بمرض فإن علم أنه كان مريضا مغلوبا على عقله قبل قوله مع يمينه، وإن لم يعلم ذلك فعليه القود بعد أن يحلف ولى الدم لقتله غير مغلوب على عقله، وهكذا لو قامت بينة بأنه قتله فقال قتلته وأنا مغلوب على عقلي اه وجملة ذلك أنه إذا قال الجاني قتلته وأنا صبى، وقال الولى بل قتلته وأنت بالغ ولا بينة فالقول قول الجاني مع يمينه لان الاصل فيه الصغر.
وإن قال القاتل: قتلته وأنا مجنون، وقال الولى بل قتلته وأنت عاقل فإن لم يعرف له حال

(19/170)


جنون فالقول قول الولى مع يمينه، لان الاصل عدم الجنون وان عرف له حال جنون ولم يعلم أنه قتله في حال الجنون أو في حال العقل، فالقول قول الجاني مع يمينه لانه أعرف بحاله، والاصل براءة ذمته مما يدعى عليه وحكى ابن الصباغ وجها آخر أن القول قول الولى مع يمينه، لان الاصل السلامة والاول أصح، فإن أقام الولى شاهدين أنه قتله وهو عاقل وأقام القاتل شاهدين أنه قتله وهو مجنون تعارضت البينات وسقطنا.
وان اتفق الجاني والولى أنه قتله وهو زائل العقل لكن اختلفا بما زال به عقله، فقال الجاني زال بالجنون.
وقال
الولى بل زال بالسكر وقلنا يجب القصاص على السكران، فالقول قول الجاني لانه أعرف بحاله لان الاصل عدم ووب القصاص عليه إذا ثبت هذا فإنه إذا وجب القصاص في أصبع فقطع له أصبعين، وقال المقتص أخطأت وقال المقتص منه بل تعمدت فالقول قول المقتص مع يمينه لانه أعلم بفعله.
وان قال المقتص حصلت الزيادة باضطراب الجاني وقال الجاني: بل قطعتها عامدا ففيه وجهان
(أحدهما)
القول قول الجاني لان الاصل عدم الاضطراب
(والثانى)
القول قول المقتص لان الاصل براءة ذمته من الضمان (فرع)
وان جرح ثلاثة رجلا ومات، فقال أحدهما اندملت جراحتى ثم مات من جراحة الاخرين أو صدقه الولى وكذبه الاخر، فإن كانت الجنايات موجبة للقصاص فأراد الولى القصاص لم يؤثر تكذيب الاخرين، لان القصاص يجب عليهما بكل حال، وان عفا الولى عن القصاص إلى الدية أو كانت الجنايات غير موجبة للقصاص قبل تصديق الولى في حق نفسه دون الاخرين، لان عليهما في ذلك ضررا، الا أنه إذا مات من جراحة ثلاث وجب على كل واحد منهم ثلث الدية، وإذا مات من جراحة اثنين وجب على على كل واحد منهم نصف الدية وان قد رجلا ملفوفا، فقال الضارب: كان ميتا، وقال الولى بل كان حيا ففيه قولان:
(أحدهما)
القول قول الجاني، لان الاصل براءة ذمته
(والثانى)
القول قول الولى، لان الاصل فيه الحياة

(19/171)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن جنى على عضو ثم اختلفا في سلامته فادعى الجاني أنه جنى عليه وهو أشل، وادعى المجني عليه أنه جنى عليه وهو سليم،، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا
فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فيه قولان
(أحدهما)
أن القول قول الجاني، لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل، والاصل براءة ذمته
(والثانى)
أن القول قول المجني عليه لان الاصل سلامة العضو، ومنهم من قال القول في الاعضاء الظاهرة قول الجاني، وفى الاعضاء الباطنة القول قول المجني عليه، لانه لا يتعذر عليه إقامة البينة على السلامة في الاعضاء الظاهرة، فكان القول قول الجاني، ويتعذر عليه إقامة البينة في الاعضاء الباطنة، والاصل السلامة فكان القول قول المجني عليه ولهذا لو علق طلاق امرأته على ولادتها، فقالت ولدت لم يقبل قولها، لانه يمكن إقامة البينة على الولادة.
ولو علق طلاقها على حيضها فقالت حضت قبل قولها لانه يتعذر إقامة البينة على حيضها، فإن اتفقا على سلامة العضو الظاهر وادعى الجاني أنه طرأ عليه الشلل وأنكر المجني عليه ففيه قولان
(أحدهما)
أن القول قول الجاني، لانه لا يتعذر إقامة البينة على سلامته.

(والثانى)
أن القول قول المجني عليه، لانه قد ثبتت سلامته فلا يزال عنه حتى يثبت الشلل.

(فصل)
إذا أوضح رأس رجل موضحتين بينهما حاجز ثم زال الحاجز، فقال الجاني تأكل ما بينهما بسراية فعلى فلا يلزمنى إلا أرش موضحة، وقال المجني عليه أنا خرقت ما بينهما فعليك أرش موضحتين، فالقول قول المجني عليه، لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل، والاصل بقاء الموضحتين ووجوب الارشين، وإن أوضح رأسه فقال الجاني أو ضحته موضحة واحدة، وقال المجني عليه أوضحتني موضحتين وأنا خرقت ما بينهما، فالقول قو الجاني لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل، والاصل براءة الذمة.

(19/172)


(الشرح) إذا قطع رجل عضوا من رجل ثم اختلفا، فقال الجاني قطعته وهو اشل وقال المجى عليه قطعته وهو سليم، فاختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان
(أحدهما)
القول قول الجاني، وهو قول أبى حينفة، لان الاصل براءة ذمته من الضمان
(والثانى)
القول قول المجني عليه، وهو قول أحمد، لان الاصل سلامته من الشلل.
ومنهم من قال ان كان اختلافهما في الاعضاء الظاهرة كاليد والرجل وما أشبهما فالقول قول الجاني، وان كان اختلافهما في الاعضاء الباطنة كالذكر والانثيين، فالقول قول المجني عليه لان الاعضاء الظاهرة يمكن المجني عليه إقامة البينة على سلامتها فلم يقبل قوله في سلامتها والباطنة لا يمكن إقامة البينة على سلامتها فقبل قوله في سلامتها كما قلنا فيمن علق طلاق امرأته على دخول الدار فإنه لا يقبل قولها، فلو علق طلاقها على حيضها قبل قولها، فإذا قلنا القول قول الجاني في الاعضاء الظاهرة، وانما لا يكون ذلك إذا لم يقر الجاني أن المجني عليه كان صحيحا فأما إذا أقر أنه كان صحيحا ثم ادعى أنه علته الشلل وجنى عليه وهو أشل، وقال المجني عليه بل كان صحيحا وقت الجناية ففيه قولان
(أحدهما)
القول قول الجاني مع يمينه، لان البينة لا تتعذر على المجني عليه على سلامته فلم يقبل قوله في سلامته.

(والثانى)
القول قول الجاني، فأراد المجني عليه لانهما قد اتفقا على سلامته قبل الجناية، والاصل بقاء سلامتها، ومتى قلنا القول قول المجني عليه لانهما قد اتفقا على سلامته قبل الجناية، والاصل بقاء سلامتها، ومتى قلنا قلنا القول الجاني فأراد المجني عليه اقامة البينة على سلامة العضو والمجني عليه نظرت فإن شهدت أن الجاني جنى عليه وهو سليم قبلنا، وان شهدت عليه أنه كان سليما قبل الجناية.
فإن قلنا ان الجاني إذا أقر سلامته قبل الجناية أن القول قوله لم تقبل
هذه البينة.
وان قلنا هناك القول قول المجني عليه قبلت لان المجني عليه يحتاج أن يختلف معها لجواز أن يكون قد حدث لها شلل بعد الشهادة وقبل الجناية.
قوله (إذا أوضح رأس رجل موضحتين الخ) فإنه حدث هذا ثم زال الحاجز بين الموضحتين، فقال الجاني تأكل ما بينهما بجنايتي فلا يلزمني الا أرش موضحة،

(19/173)


وقال المجني عليه بل أوضحته موضحتين، وأنا خرقت ما بينهما فالقول قول الجاني مع يمينه، لان الاصل براءة ذمته مما زاد على أرش موصحة.
وإن قطع أصبعه ثم زال كفه فقال المجني عليه سرى القطع إليه، وقال الجاني لم يسر إليه القطع، وانما زال سبب آخر، فالقول قول الجاني مع يمينه، لان الاصل عدم السراية.
فأما إذا داوى المجني عليه موضع القطع، فقال الجاني تأكلت بالدواء، وقال المجني عليه تأكلت بالقطع سئل أهل الخبرة بذلك الدواء فإن قالوا إنه يأكل اللحم الميت والحى، فالقول قول الجاني مع يمينه لان الظاهر انه تأكل، وإن قالوا انه يأكل الميت دون الحى فالقول قول المجني عليه مع يمينه فإن لم يعرف ذلك فالقول قول المجني عليه مع يمينه، لانه أعلم بصفة الدواء، ولان الظاهر أنه لا يداوي الجرح بما يضره ويزيد فيه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قطع رجل يدى رجل ورجليه ومات واختلف الجاني والولى فقال الجاني مات من سراية الجنايتين فعلى دية واحدة.
وقال الولى بل اندملت الجنايتان ثم مات فعليك ديتان، فإن كان قد مضى زمان يمكن فيه اندمال الجراحتين، فالقول قول الولى، لان الاصل وجوب الديتين، وان لم يمض زمان يمكن فيه الاندمال، فالقول قول الجاني لان ما يدعيه الولى غير محتمل، وان اختلفا في المدة فقال الولى مضت مدة يمكن فيها الاندمال، وقال الجاني لم
يمض فالقول قول الجاني لان الاصل عدم المدة
(فصل)
وان قطع يد رجل ومات فقال الولى مات من سراية قطعك فعليك الدية، وقال الجاني اندملت جنايتى ومات بسبب آخر فعلى نصف الدية نظرت فإن لم تمض مدة يمكن فيها الاندمال، فالقول قول الولى، لان الظاهر أنه مات من سراية الجناية، ويحلف على ذلك لجواز أن يكون قتله آخر، أو شرب سما فمات منه، وان مضت مدة يمكن فيها الاندمال ثم مات، فإن كان مع الولى بينة أنه لم يزل متألما ضمنا إلى أن مات فالقول قوله مع يمينه، لان الظاهر أنه مات من الجناية، وان لم يكن معه بينة على ذلك فالقول قول الجاني، لان ما يدعيه

(19/174)


كل واحد منهما ممكن، والاصل براءة ذمة الجاني مما زاد على نصف الدية.

(فصل)
وان قطع يد رجل ومات ثم اختلف الولى والجانى، فقال الجاني شرب سماأو جنى عليه آخر بعد جنايتى فلا يجب على الا نصف الدية.
وقال الولى مات من سراية جنايتك فعليك الدية فيها نص، ويحتمل أن يكون القول قول الولى، لان الاصل حصول جنايته وعدم غيرها، ويحتمل أن يكون القول قول الجاني، لانه يحتمل ما يدعيه والاصل براءة ذمته (الشرح) إذا قطع رجل يدى رجل ورجليه ومات المجني عليه، فقال الجاني مات من الجناية فلا يلزمنى الا دية واحدة، وقال الولى بل اندمل الجرحان ثم مات بسبب آخر فعليك ديتان فان كان بين الجنايتين والموت زمان لا يمكن أن تندمل فيه الجراحات فالقول قول الجاني بلا يمين، لانا قد علمنا صدقه وحكى ابن الصباغ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ قَالَ فِي التعليق يحلف مع ذلك لجواز أن يكون مات بحادث آخر كلذع الحية والعقرب وقال ابن الصباغ، والاول أولى، لان الولى ما ادعى ذلك وانما ادعى
الاندمال وقد علم كذبه، فأما إذا ادعى أنه مات بسبب آخر حلفنا الجاني لامكانه، وان كان بينهما زمان لا تبقى إليه الجراحات غير مندملة كالسنين الكثيرة فالقول قول الولى بلا يمين.
وان كان بينهما زمان يمكن أن تندمل فيه الجراحات ويمكن ألا تندمل فيه، فالقول قول الولى فيه مع يمينه، لان الديتين قد وجبتا بالقطع وشك في سقوط احداهما بالاندمال، والاصل بقاؤهما.
فان أقام الجاني بينة أنه لم يزل ضمنا من حين الجراحة إلى أن مات فالقول قوله مع يمينه، ولا يجب عليه الا دية، لان الظاهر أنه مات من الجنايتين، وان اختلفا فيما مضى مدة يندمل في مثلها الجراحات فالقول قول الجاني مع يمينه، لان الاصل عدم مضيها.
وان كان بينهما زمان لا تندمل في مثله الجراحات وادعى الولى أنه مات بسبب آخر، بأن قال ذبح نفسه أو ذبحه آخر، وقال الجاني بل مات من سراية الجناية ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى على الطبري أن القول قول الولى

(19/175)


مع يمينه لان الاصل بقاء الديتين، وإن قطع يده ثم مات فقال الولى: مات من سراية الجناية فعليك الدية.
وقال الجاني بل اندملت الجناية ثم مات بسبب آخر فلا يلزمنى م؟ سراية الجناية، وهل يحلف على ذلك؟ يحتمل وجهين
(أحدهما)
يحلف لجواز أن يكون قتله آخر وشرب سما فمات منه
(والثانى)
لا يحلف كما قال ابن الصباغ في التى قبلها، لانا قد علمنا كذب الجاني، ولانه لم يدع في ذلك، وإنما ادعى الاندمال، وإن كان قد مضى من الزمان ما تندمل في مثله الجراحات فإن كان مع الولى بينة أنه لم يزل ضمنا من حين الجناية إلى الموت فالقول قول الجاني مع يمينه، لان الظاهر أنه مات بذلك وإن لم يكن مع بينة على ذلك فالقول قول الجاني، وهل يلزمه اليمين؟ يحتمل الوجهين في التى قبلها.
وإن مضى زمان يمكن أن يندمل في مثله الجراحات ويمكن ألا يندمل، فالقول قول الجاني مع يمينه، لان الاصل براءة ذمته مما زاد على نصف الدية، وإن قلع يده مات في زمان لا تندمل فيه الجراحات فقال الولى مات من سراية الجناية فعليك الدية وقال الجاني: بل شرب سما فمات منه أو قتله آخر ففيه وجهان كالتى قبلها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين، وقال أهل الخبرة: يرجى عود البصر فمات، واختلف الولى والجانى، فقال الجاني عاد الضوء ثم مات، وقال الولى لم يعد فالقول قول الولى مع يمينه، لان الاصل ذهاب الضوء وعدم العود، وإن جنى على عينه فذهب الضوء ثم جاء آخر فقلع العين واختلف الجانيان، فقال الاول عاد الضوء ثم قلعت أنت فعليك الدية، وقال الثاني قلعت ولم يعد الضوء فعلى حكومة وعليك الدية، فالقول قول الثاني لان الاصل عدم العود، فإن صدق المجني عليه الاول قبل قوله في ابراء الاول لانه يسقط عنه حقا له، ولا يقبل قوله على الثاني: لانه يوجب عليه حقا له، والاصل عدمه
(فصل)
إذا جنى على رجل جناية فادعى المجني عليه أنه ذهب سمعه وأنكر

(19/176)


الجاني امتحن في أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد مرة، فإن ظهر منه أمارات السماع فالقول قول الجاني لان الظاهر يشهد له ولا يقبل قوله من غير يمين لانه يحتمل أن يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقا، وإن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه لان الظاهر معه ولا يقبل قوله فيذلك من غيريمين، لجواز أن يكون ما ظهر من عدم السماع لجودة تحفظه، وان ادعى نقصان السمع فالقول قوله مع يمينه لانه يتعذر إقامة البينة عليه ولا يعرف ذلك إلا من جهته
ما يدعيه محتمل فقبل قوله مع يمينه كما يقبل قول المرأة في الحيض، وان ادعى ذهاب السمع من إحدى الاذنين سد التى لم يذهب السمع منها ثم يمتحن بالصياح في أوقات غفلاته، فإن ظهر منه أمارة السمع فالقول قول الجاني مع يمينه، وان لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لما ذكرناه
(فصل)
وإن ادعى المجني عليه ذهاب شمه وأنكر الجاني، امتحن في أوقات غفلاته بالروائح الطيبة والروائح المنتنة، فإن كان لا يرتاح إلى الروائح الطيبة ولا تظهر منه كراهية الروائح المنتنة فالقول قوله لان الظاهر معه ويحلف عليه لجواز أن يكون قد تصنع لذلك وان ارتاح إلى الروائح الطيبة وظهرت منه الكراهية للروائح المنتنة فالقول قول الجاني، لان الظاهر يشهد له ويحلف على ذلك لجواز أن يكون ما ظهر من المجني عليه من الارتياح والتكره اتفاقا وإن حلف المجني عليه على ذهاب شمه ثم غطى أنفه عند رائحة منتنة، فادعى الجاني أنه غطاه لبقاء شمه، وادعى المجني عليه أنه غطاه لحاجة أو لعادة، فالقول قول المجني عليه، لانه يحتمل ما يدعيه.

(فصل)
وان كسر صلب رجل فادعى المجني عليه أنه ذهب جماعه فالقول قوله مع يمينه لان ما يدعيه محتمل؟ ولا يعرف ذلك إلا من جهته فقبل قوله مع يمينه كالمرأة في دعوى الحيض (الشرح) إذا جنى على عين رجل ثم اختلفا فقال الجاني: جنيت عليها وهو لا يبصر بها، وقال المجني عليه بل كنت أبصر بها نظرت، فإن قال الجاني جنيت عليها عمياء لا يبصر بها، فالقول قول الجاني مع يمينه لانه لا يتعذر على

(19/177)


المجني عليه إقامة البينة على أنه كان يبصر بها، فالقول قول الجاني مع يمينه، لانه لا يعذر على المجني عليه إقامة البينة على أنه كان يبصر بها.
وإن قال الجاني: قد كان يبصر بها ولكن طرا عليها العمى قبل الجناية ففيه قولان كما قلنا في الجناية إذا أقر بصحة العضو ثم ادعى أن الشلل طرأ عليه قبل الجناية.
وإذا أراد المجني عليه أن يقيم البينة إن كان يبصر بها فيكفى الشاهدين أن شهدا أنه كان يبصر بها، ويسوغ لهما أن يشهدا بذلك إذا رأياه يبصر الشخص ويتبعه في النظر كلما عطف الشخص جهته أتبعه البصر أو يتوفى البئر إذا أتاها أو يغمض عينه إذا جاء إنسان يلمسها، لان الظاهر ممن فعل هذا أنه يبصر، ويسعهما أن يشهدا على سلامة اليد إذا رأياه يرفع بها ويضع، وليس للحاكم أن يسألهما عن الجهة التى تحملا بها الشهادة على ذلك، كما ليس له أن يسألهما إذا شهدا للرجل بملك عين عن الجهة التى علما بها ملكه (فرع)
وإن جنى على عين رجل فذهب ضوءها وقال أهل الخبرة انه يرجى عوده إلى مدة فمات المجني عليه ادعى الجاني أن ضوءها قد عاد قبل موته.
وقال الولى لم يعد فالقول قول الولى مع يمينه لان الاصل عدم العود فيحلف أنه لا يعلم أن ضوء عين مورثه قد عاد، لانه يحلف على نفى فعل غيره، وإن جنى على عين رجل جناية ذهب بها ضوء عينه وبقيت الحدقة ثم جاء آخر وقلع الحدقة فادعى الجاني الاول أن الثاني قلع الحدقة بعد أن عاد ضوءها.
وقال الجاني الثاني قل؟ تها قبل عود ضوئها فإن صدق المجني عليه الجاني الاول قبل تصديقه في حق الاول، لان ذلك يتضمن إسقاط حقه عنه ولا يقبل قوله على الثاني، لان ذلك يوجب الضمان عليه.
والاصل براءة ذمته من الضمان فيحلف الثاني أنه قلعها قبل أن عاد ضوءها ولا يلزمه الا الحكومة.
قوله (فادعى المجني عليه أنه ذهب سمعه الخ) فجملة ذلك أنه إذا جنى على أذنه جناية وادعى المجني عليه أنه ذهب سمعه وكذبه الجاني فإن المجني عليه يراعى أمره في وقت غفلاته، فإن كان يضطرب عند صوت الرعد، وإذا صبح به وهو
عاقل أجاب أو اضطرب أو ظهر منه شئ يدل على أنه سامع، فالقول قول الجاني لان الظاهر أنه لم يذهب سمعه، ويحلف الجاني أنه لم يذهب سمعه لجواز أن

(19/178)


يكون ما ظهر منه اتفاقا إلا أنه يسمع وان كان لا يضطرب لصوت الرعد ولا يجيب إذا صيح به مع غفلته ولا يضطرب لذلك فالقول قول المجني عليه لان الظاهر أنه لا يسمع، ويحلف أنه قد ذهب سمعه، لجواز أن يكون قد تصنع لذلك، فإن ادعى أنه ذهب سمعه في احدى الاذنين دون الاخرى سدت الصحيحة وأطلقت العليلة وامتحن في أوقات غفلاته على ما ذكرناه.
وان ادعى أنه نقص سمعه بالجناية ولم يذهب فالقول قوله مع يمينه في قدر نقصه لانه لا يتوصل إلى معرفة ذلك الا من جهته.
(فرع)
إذا جنى على أنفه جناية فادعى المجني عليه أنه ذهب بها شمه وأنكر الجاني أنه لم يذهب شمه قربت إليه الروائج الطيبة والمنتنة في أوقات غفلاته، فإن هش إلى الروائح الطيبة أو عبس للروائح المنتنة، فالقول قول الجاني مع يمينه، وان لم يظهر مه ذلك فالقول قول المجني عليه مع يمينه لما ذكرناه في السمع، وان ادعى ذهاب شمه من أحد المنخرين أو ادعى نقصانه فعلى ما ذكرناه في السمع.
وإذا حلف المجني عليه أن سمعه أوشمه قد ذهب بالجناية وأخذ الدية فاضطرب عند صوت رعد، فإن ادعى الجاني أن سمعه قد عاد وارتاح إلى رائحة طيبة أو غطى أنفه عند رائحة منتنة فادعى الجاني أن شمه قد عاد وادعى المجني عليه أنه لم يعد فالقول قول المجني عليه مع يمينه لان الاصل عدم عوده وما ظهر منه يحتمل أن يكون اتفاقا أو مصادفة، أو عطى أنفه لغبار أو لريح دخل بها.
(فرع)
إذا قطع لسان رجل فادعى الجاني أنه كان أبكم قبل الجناية وادعى
المجني عليه أنه لم يكن أبكم نظرت فإن ادعى الجاني أنه خلق أبكم فالقول قول الجاني مع يمينه لانه لا يتعذر على المجني عليه اقامة البينة على الكلام.
وان أقر الجاني أنه كان يتكلم بلسانه وادعى أن البكم طرأ عليه قبل الجناية ففيه قولان كما قلنا فيمن أقر بصحة العضو وادعى طرء ان الشلل عليه قبل الجناية وان جنى على ظهره فادعى المجني عليه أنه ذهب بذلك جماعة، وأنكر الجاني فالقول قول المجني عليه مع يمينه لانه لا يتوصل إلى العلم بذلك الا من جهته.

(19/179)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن اصطدمت سفينتان فتلفتا ادعى صاحب السفينة على القيم أنه فرط في ضبطها وأنكر القيم ذلك فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم التفريط وبراءة الذمة.

(فصل)
إذا ضرب بطن امرأة فألقت حنينا ميتا ثم اختلفا فقال الضارب: ما أسقطت من ضربي، وقالت المرأة أسقطت من ضربك نظرت فإن كان الاسقاط عقيب الضرب فالقول قولها لان الظاهر معها، وإن كان الاسقاط بعد مدة نظرت فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت فالقول قولها لان الظاهر معها، وإن لم تكن متألمة فالقول قوله، لانه يحتمل ما يدعيه كل واحد واحد منهما، والاصل براءة الذمة.
وإن اختلفا في التألم فالقول قول الجاني.
لان الاصل عدم التألم.
وإن ضربها فأسقطت جنينا حيا ومات واختلفا، فقالت المرأة مات من ضربك وقال الضارب مات بسبب آخر، فإن مات عقيب الاسقاط فالقول قولها، لان الظاهر معها وأنه مات من الجناية، وإن مات بعد مدة ولم تقم البينة أنه بقى متألما إلى أن مات فالقول قول الضارب مع يمينه، لانه يحتمل ما يدعيه والاصل براءة
الذمة وان أقامت بينة أنه بقى متألما إلى أن مات فالقول فولها مع اليمين، لان الظاهر أنه مات من جنايته.

(فصل)
وان اختلفا فقالت المرأة استهل ثم مات وأنكر الضارب فالقول قوله لان الاصل عدم الاستهلال، وان ألقت جنينا حيا ومات ثم اختلفا فقال الضارب كا أنثى، وقالت المرأة كان ذكرا فالقول قول الضارب، لان الاصل براءة الذمة مما زاد على دية الانثى (الشرح) ما جاء في اصطدم السفينتين على وجهه، أما إذا أسقطت امرأة جنينا ميتا فادعت على انسان أنه ضربها وأسقطت من ضربته، فإن أنكر الضرب ولابينة فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم الضرب، وان أقر بالضرب

(19/180)


وأنكر أنها أسقطت جنينا فعليها أن تقيم البينة أنها أسقطت جنينا لانه يمكنها اقامة البينة على ذلك، فإن لم يكن معها بينة فالقول قول الضارب مع يمينه أنه لا يعلم أنها أسقطت جنينا، لان الاصل عدم الاسقاط، وان أقامت البينة أنها أسقطت جنينا أو أقر الضارب أنها أسقطت جنينا الا أنه أنكر أنها أسقطته من ضربه نظرت، فإن أسقطت عقيب الضرب أو بعد الضرب بزمان.
الا أنها بقيت متألمة من حين الضرب إلى أن سقطت فالقول قولها مع يمينها، لان الظاهر أنها أسقطته من ضربه، وان أسقطت بعد الضرب بزمان وكانت غير متألمة بعد الضرب فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل براءة ذمته من الضمان، وان اختلفا فادعت أنها بقيت متألمة بعد الضرب إلى أن أسقطت وأنكر ذلك ولا بينة لها على التألم فالقول قوله مع يمينه لان الاصل عدم التألم.
إذا ثبت هذا فانه إذا ضربها فأسقطت جنينا حيا ثم مات، فقال ورثة الجنين مات من الضرب، وقال الجاني مات بسبب آخر، فإن مات عقيب الاسقاط أو
بعد الاسقاط بزمان الا أنه بقى متألما إلى أن مات فالقول قول ورثة الجنين مع أيمانهم، لان الظاهر أنه مات من الضرب وان مات بعد الاسقاط بزمان، وكان غير متألم بعد الاسقاط، فالقول قول الضارب مع يمينه لان الاصل براءة ذمته من الضمان.
وان اختلفوا في تألمه فالقول قول الضارب لان الاصل عدم تألمه.
وإذا ادعى ورثة الجنين أنه سقط حيا ومات من الضرب، وقال الجاني بل سقط ميتا فالقول قول الجاني مع يمينه لان الاصل عدم الحياة فيه، فإن أقام ورثته بينة أنه سقط حيا وأقام الجاني وعاقلته بينة أنه سقط ميتا قدمت بينة ورثة الجنين لان معها زيادة علم، وان أسقطت من ضربه جنينا حيا ومات من الضرب فقال ورثة الجنين انه كان ذكرا فعليك دية ذكر، وقال الجاني بل كان أنثى فالقول قول الجاني مع يمينه لان الاصل براءة ذمته مما زاد على دية أنثى وان ضربها فأسقطت جنينين ذكر أو أنثى فاستهل أحدهما ومات من الضرب وأحدهما سقط ميتا، فان عرف المستهل منهما وجبت فيه الدية الكاملة وفى الآخر الغرة،

(19/181)


وإن لم يعرف المستهل نهما لم يلزم العاقلة إلا دية انثى وغرة عبد أو أمة أو تقدير قيمة العبد أو الامة عند تعذر وجودهما لانه اليقين وما زاد مكشوك فيه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان ادعى رجل على رجل قتلا تجب فيه الدية على العاقلة، وصدقه المدعى عليه وأنكرت العاقلة وجبت الدية على الجاني بإقراره ولا تجب على العاقلة من غير بينة، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال (لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا) ولانا لو قبلنا إقراره على العاقلة لم يؤمن إن لم ياطئ في كل وقت من يقر له بقتل الخطأ، فيؤدى إلى الاضرار
بالعاقلة، وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا، فقال الجاني كان ميتا، وقالت المرأة كان حيا فالقول قول الجاني لانه يحمل ما يدعيه كل واحد منهما والاصل براءة الذمة، وإن صدق الجاني المرأة وأنكرت العاقلة وجب على العاقلة قدر الغرة لانها لم تعترف بأكثر منها ووجبت الزيادة في ذمة الجاني، لان قوله مقبول على نفسه دون العاقلة
(فصل)
إذا سلم من عليه الدية الابل في قتل العمد ثم اختلفا فقال الولى: لم يكن فيها خلفات، وقال من عليه الدية: كانت فيها خلفات فإن لم يرجع في حال الدفع إلى أهل الخبرة، فالقول قول الولى، لان الاصل عدم الا حمل، فإن رجع في الدفع إلى قول أهل الخبرة ففيه وجهان
(أحدهما)
أن القول قول الولى لما ذكرناه
(والثانى)
أن القول قول من عليه الدية لانا حكمنا بأنها خلفات بقول أهل الخبرة فلم يقبل فيه قول الولى (الشرح) أثر ابن عباس أخرجه أحمد في مسنده والبيهقي ولفظه (لاتحمل العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما جنى المملوك) وأخرجه الدارقطني عن عمر رضى الله عنه بلفظ (قال عمر: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة) وأخرجه أيضا البيهقى عن عمر قال في التلخيص: وهو منقطع

(19/182)


وفى إسناده عبد الملك بن حسين وهو ضعيف قال البيهقى: والمحفوظ أنه عن عامر عن الشعبى من قوله، وقال مالك في الموطأ: وقال الزهري مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن يشاءوا فإن قيل ولماذا اختار المصنف أثرا موقوفا على ابن عباس مع وروده مرفوعا من حديث عبادة بن الصامت عند الدارقطني والطبراني (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئا) قلنا في إسناده محمد بن سعيد المصلوب وهو كذاب تحرم الرواية عنه، والحرث بن نبهان وهو منكر الحديث وقول الزهري الذى حكاه مالك روى معناه البيهقى عن أبى الزناد عن الفقهاء من أهل المدينة.
أما الاحكام فإنه إذا ادعى على رجل قتلا ثبت فيه الدية على عاقلته، فأقر بذلك فكذبه العاقلة كانت الدية في ماله لما قدمنا من الآثار عن ابن عباس وعمر والزهرى وأبى الزناد واتفاق أهل المدينة، وهو وان لم يكن حجة عندنا إلا أنه لا مخالف لهم فيه فكان اجماعا، ولانا لو قبلنا إقراره على العاقلة لم يؤمن أن يتواطأ مع من يقر له بقتل الخطأ ليدخل الضرر على العاقلة فلم يقبل اقراره.
فإن ضرب بطن امرأة فأسقطت جنينا من ضربه فادعى ورثة الجنين أنه سقط حيا ومات من ضربته وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة بل سقط ميتا، فالقول قولهم مع أيمانهم.
فإذا حلفوا لم يلزمهم أكثر من قدر الغرة، ويجب تمام الدية في مال الجاني، لانه وجبت باعترافه، وهكذا لو أسقطت جنينا حيا ومات من الضرب فقال ورثة الجنين: كان ذكرا وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة بل كان أنثى فالقول قول العاقلة مع أيمانهم، فإذا حلفوا لم يلزمهم الا دية امرأة ووجب في مال الجاني تمام دية الرجل، لانه وجب باعترافه (فرع)
الخلفة من الابل هي الحامل وجمعها مخاض من غير لفظها، كما تجمع المرأة على النساء وربما جمعت على لفظها فقيل خلفات كما في كلام المصنف فإذا وجب على قاتل العمد الخلفات فأحضر ابلا ليدفعها.
وقال هن خلفات وقال الولى لسن بخلفات، عرضت على أهل الخبرة بالابل، فان قالوا هن حوامل كلف الولى أخذها.

(19/183)


فإن قالوا لسن بحوامل كلف الجاني إحضار الحوامل ودفعهن، قإن أخذ الولى الابل بقول أهل الخبرة أنهن حوامل واتفق هو والقاتل أنهن حوامل، فإن صح أنهن حوامل فقد استوفى حقه.
وإن خرجن حوامل نظرت فإن كانت الابل حاضرة ولم يعينها كان للولى ردها والمطالبة بحوامل، وإن كان الولى قد غيبها مدة يمكن أن تضع فيها فقال القاتل: كن حوامل وقد وضعن في يدك، وقال الولى لم تكن حوامل، فإن كان الولى قد أخذ الابل باتفاقهما لا بقول أهل الخبرة فالقول قول الولى مع يمينه، لان الاصل عدم الحمل، وإن كان قد أخذها بقول أهل الخبرة ففيه وجهان:
(أحدهما)
القول قول الولى مع يمينه لان أهل الخبرة إنما يخبرون من طريق الظن والاستدلال، ويجوز ألا يكون صحيحا، فكان القول قول الولى مع يمينه كما لو أخذها الولى باتفاقها.

(والثانى)
أن القول قول الجاني مع يمينه لانا قد حكمنا بكونها حوامل بقول أهل الخبرة، فإذا ادعى الولى أنها ليست بحوامل كان قوله مخالفا للظاهرفلم يقبل والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب كفارة القتل

من قتل من يحرم عليه قتله من مسلم أو كافر له أمان خطأ وهو من أهل الضمان وجبت عليه الكفارة، لقوله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة ودية مسلمة إلى اهله) وقوله تبارك وتعالى (فإن كان من قوم عدو لكن وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) فإن قتله عمدا أو شبه عمد وجبت عليه الكفارة، لانها إذا وجبت في قتل الخطأ مع عدم المأثم فلان تجب في العمد وشه
العمد وقد تغلظ بالاثم أولى.
وإن توصل إلى قتله بسبب يضمن فيه النفس، كحفر البئر، وشهادة الزور

(19/184)


والاكراه وجبت عليه الكفارة، لان السبب كالمباشرة في إيجاب الضمان فكان كالمباشرة في ايجاب الكفارة فإن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا وجبت عليه الكفارة لانه آدمى محقون الدم لحرمته فضمن بالكفارة كغيره.
وان قتل نفسه أو قتل عبده وجبت عليه الكفارة، لان الكفارة تجب لحق الله تعالى وقتل نفسه وقتل عبده كغيرهما في التحريم لحق الله تعالى، فكان كقتل غيرهما في ايجاب الكفارة، فإن اشترك جماعة في قتل واحد وجب على كل واحد منهم كفارة.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يجب على الجميع كفارة واحدة، لانها كفارة تجب بالقتل، فإذا اشترك الجماعة فيه وجبت عليهم كفارة واحدة كالكفارة في قتل الصيد، والمشهور هو الاول لانها كفارة لا تجب على سبيل البدل، فإذا اشترك الجماعة في سببها وجب على كل واحد منهم كفارة ككفارة الطيب واللباس
(فصل)
والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين لقوله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلى قوله تعالى فمن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فَإِنْ لَمْ يستطع ففيه قولان
(أحدهما)
يلزمه اطعام ستين مسكينا، كل مسكين مدا من الطعام، لانه كفارة يجب فيها العتق أو صيام شهرين، فوجب فيها اطعام ستين مسكينا قياسا على كفارة الظهار والجماع في رمضان
(والثانى)
لا يلزمه الاطعام لان الله تعالى ذكر العتق والصيام ولم يذكر الاطعام، ولو وجب ذلك لذكره كما ذكره في كفارة الظهار، وصفة الرقبة والصيام والطعام إذا أوجبناه على ما ذكرنا في الظهار فأغنى عن الاعادة
(الشرح) هذه الآيات القرآنية من أمهات الاحكام.
ذكرا أبو حاتم بسنده عن ابن عمر أن عياس بن أبى ربيعة قتل الحارث بن يزيد بن أبى أنيسة العامري لحية كات بينهما إذ هاجر الحارث مسلما فلقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه، فلما أخر أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رسول الله انه كان من أمرى وأمر الحارث ما قد علمت ولم أشعر باسلامه حتى قتلته، فنزلت الآية.
أما الاحكام فان هذه الآية أصل في وجوب الكفارة، فذكر الله تعالى في

(19/185)


الآية ثلاث كفارات، إحداهن إذا قتل مؤمنا في دار الاسلام بقوله (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) الثانية: إذا قتل مؤمنا في دار الحرب بأن كان أسيرا في صفهم أو مقيما باختياره بقوله تعالى (فإن كان من قوم عدولكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ومعناه في قوم عدولكم.
والثالثة: إذا قتل ذميا بقوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) إذا ثبت هذا فظاهر الآية بقوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ) أنه ما ينبغى لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ قال العمرانى: الاستثناء من النفى اثبات، فليس له أن يقتله عمدا وله قتله خطأ، وقال القرطبى: ليس على النفى وانما هو على التحريم والنهى كقوله تعالى (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) ولو كانت على النفى لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط، لان ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده كقوله تعالى (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الاول، وهو الذى يكون فيه (الا)) بمعنى لكن والتقدير ما كان له أن يقتله ألبتة، لكن أن قتله خطأ فعليه كذا هذا قول
سيبويه والزجاج اه وللاستثناء المنقطع شواهد كثيرة في القرآن كقوله تعالى (ما لهم به من علم الا اتباع الظن) وقوله تعالى (وما كنت ترجو أن يلقى اليك الكتاب الا رحمة من ربك) قال الشيخ أبو حامد الاسفرايينى: ولا خلاف بين أهل العلم أن قتل الخطأ محرم كقتل العمد، الا أن قتل العمد يتعلق به الاثم، وقتل الخطأ لا اثم فيه، واختلف أصحابنا في تأويل قوله (الا خطأ) فمنهم من قال هو استثناء منقطع من غير الجنس كما أوضحناه عن القرطبى من المالكية، واستشهد هؤلاء الاصحاب بقوله تَعَالَى (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) وتقدير لكن كلوا بالتجارة، لانه لو كان استثناء من الجنس لكان تقديره: الا أن تكون تجارة بينكم عن تراض منكم فكلوها بالباطل.
وهذا لا يجوز

(19/186)


ومنهم من قال: هو استثناء من مضمن محذوف فيكون تقديره: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا، فإن قتله أثم إلا أن يكون خطأ، فاستثنى الخطأ من الاثم المحذوف المضمن في الآية.
ومنهم من قال: تأويل قوله تعالى (إلا خطأ) بمعنى ولا خطأ، كقوله تعالى (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) يعنى ولا الذين ظلموا.
قال ابن الصباغ: وهذا التأويل يبعد، لان الخطأ لا يتوجه إليه النهى.
قال وقول الشيخ أبى حامد أن قتل الخطأ محرم يناقضه، لان حد المحرم ما يأثم فيه والخطأ لا يوصف بالتحريم ولا بالاباحة كفعل المجنون والبهيمة إذا ثبت هذا فإنه إذا قتل من يحرم قتل لحق الله تعالى عمدا أو خطأ أو عمد خطأ وجبت عليه بقتله الكفارة وبه قال الزهري وقال ربيعة وأبو حنيفة
وأصحابه يجب الكفارة بقتل الخطأ، لان الخطأ أخف حالا من قتل العمد، لانه لا قود فيه ولا اثم والدية فيه محققة، فإذا وجبت فيه الكفارة فلان تجب في قتل العمد المحض وعمد الخطأ أولى وروى واثلة بن الاسقع قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا من النار.
ولا يستوجب النار الا في قتل العمد.
وروى أنع عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ انى وأدت في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اعتق بكل موءودة رقبة.
والموءودة البنت المقتولة عندما تولد، كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك مخافة العار والفقر، ولانه حيوان يضمن بالكفارة إذا قتل خطأ فوجب أن يضمن بالكفارة إذا قتل عمدا كالصيد وعكسه المرتد، فإن قتل نساء أهل الحرب وذراريهم لم تجب عليه الكفارة، لان قتلهم انما حرم لحق المسلمين لا لحق الله، فلم تجب به الكفارة، كما لو ذبح بهيمة غيره بغير اذنه.
وكذلك لو قتل عبدا لنفسه أو لغيره، أو قتل ذميا أو معاهدا وجبت عليه الكفارة.
وقال مالك: لا يجب في كله الكفارة.
دليلنا قوله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ

(19/187)


مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) وهذا عام في الحر والعبد.
وقوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) وهذا يقع على الذمي والمعاهد، ولانه آدمى يجرى القصاص بينه وبين نظيره، فوجبت بقتله الكفارة كالحر المسلم، إن قتل نفسه وجبت الكفارة في ماله.
وقال بعض أصحابنا الخراسانيين لا تجب الكفارة، دليلنا قوله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة) وهذا عام، ولانه يحرم عليه قتل نفسه،
بل لا يجوز له قتل نفسه بحال، فإذا وجبت عليه الكفارة بقتل غيره فلان تجب بقتل نفسه أولى.
(فرع)
وإن ضرب بطن امرأة فألقت من ضربه جنينا ميتا وجبت عليه الكفارة، وبه قال عمر والزهرى والنخعي والحسن البصري والحكم.
وقال أبو حنيفة لا تجب فيه الكفارة.
دليلنا قوله تعالى (من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) وقد حكمنا للجنين بالايمان تبعا لابويه، فيكون داخلا في عموم الآية، ولانه آدمى محقون الدم لحرمته فوجبت فيه الكفارة كغيره.
وقولنا (آدمى) احتراز من غير الآدمى من الحيوان وقولنا محقون الدم، احتراز من المرتد والحربي ومن جاز قتله.
وقولنا لحرمته احتراز من نساء أهل الحرب وذراريهم، فإنه ممنوع من قتلهم لا لحرمتهم، ولكن لحق الغانمين (فرع)
وإن قتل من يحرم قتله لحق الله تعالى بسبب يجب به ضمانه بأن حفر بئرا في غير ملكه متعديا، فسقط فيها انسان ومات وجبت عليه الكفارة وقال أبو حنيفة لا تجب الكفارة إلا بالمباشرة، دليلنا قوله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة) ولم يفرق بين أن يقتله بالمباشرة أو بالسبب، ولانه قتل آدميا ممنوعا من قتله لحرمته فوجب عليه الكفارة، كما لو قتله بالمباشرة (فرع)
إذا كان القاتل صبيا أو مجنونا أو كافرا وجبت عليهم الكفارة، وقال أبو حنيفة لا يجب على واحد منهم الكفارة.
دليلنا قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ) ولم يفرق بين أن يكون القاتل صبيا أو مجنونا أو كافرا، فإن قيل الصبى والمجنون لا يدخلان في الخطاب قلنا إنما لا يدخلان في خطاب المواجهة لقوله تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

(19/188)


اتقوا الله) ويدخلان في خطاب الانام، كقوله صلى الله عليه وسلم: في كل
أربعين شاة شاة.
وروى أن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انى وأدت في الجاهلية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتق بكل موءودة رقبة.
وهذا نص في إيجاب الكفارة على الكافر، ولانه حق مال يتعلق بالقتل فتعلق بقتل الصبى والمجنون كالدية، ولان الكفارة تجب على المسلم للتكفير، وعلى الكافر عقوبة كما أن الحدود تجب على المسلم كفارات وعلى الكافر عقوبة (فرع)
إذا اشترك جماعة في قتل واحد وجب على كل واحد منهم كفارة، قال عثمان البتى: تجب عليهم كفارة واحدة.
وحكى أبو على الطبري أن هذا قول آخر للشافعي لانها كفارة تتعلق بالقتل، فإذا اشترك الجماعة في سببها وجب عليهم كفارة واحدة، كما لو اشتركوا في قتل صيد، والاول هو المشهور لانها كفارة وجبت لا على سبيل البدل عن النفس، فوجب أن يكون على كل واحد من الجماعة إذا اشتركوا في سببها ما كان يجب على الواحد إذا انفرد ككفارة الطيب للمحرم، وقولنا: لا على سبيل البدل.
احتراز من جزاء الصيد قوله والكفارة عتق رقبة مؤمنة.
وهذا صحيح لمن وجدها، ولا خلاف في ذلك، فإذا لم يجد الرقبة وجب عليه صوم شهرين متتابعين لقوله تعالى (فمن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فَإِنْ لَمْ يقدر على الصوم ففيه قولان
(أحدهما)
يجب عليه أن يطعم ستين مسكينا، لان الله تعالى ذكر الاطعام في كفارة الظهار ولم يذكر في كفارة القتل فوجب أن يحمل المطلق في القتل على المقيد في الظهار، كما قيد الله الرقبة في القتل بالاثمان، وأطلقها في كفارة الظهار فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل.

(والثانى)
لا يجب عليه الاطعام، وهو الاصح، لان الله أوجب الرقبة في كفارة القتل، ونفل عنها إلى صوم الشهرين، ولم ينقل إلى الاطعام،
فدل على أن هذا جميع الواجب فيها، وما ذكره الاول فغير صحيح، ولان المطلق انما تحمل على المقيد إذا كان الحكم مذكورا في موضعين الا أنه قيده في موضع بصفة، وأطلقه في الموضع الآخر، كما ذكر الله الرقبة في كفارة القتل

(19/189)


مقيدا بالايمان، وذكرها في الظهار مطلقة فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل، وكما ذكر الله اليدين في الطهارة وقيدهما إلى المرفقين، وذكرهما في التيمم مطلقا، فحمل مطلق التيمم فيهما على ما قيده فيهما في الطهارة.
وهاهنا الاطعام لم يذكره في الموضعين، إنما ذكره في الظهار فلم يجز نقل حكمه إلى كفارة القتل، كما لم يجز نقل حكم مسح الرأس وغسل الرجلين إلى التيمم، وحكم الرقبة والصوم الاطعام إذا أوجبناه قدم في كفارة الظهار.
والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبى ونعم الوكيل
قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب قتال اهل البغى لا يجوز الخروج عن الامام لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (من نزع يده من طاعة امامه فإنه يأتي يوم القيامة ولا حجة له.
ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية.
وروى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، من حمل علينا السلاح فليس منا.
(الشرح) حديث عبد الله بن عمر أخرجه مسلم بإسناده عن نافع قال (جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال اطرحوا لابي عبد الرحمن وسادة، فقال انى لم آتك لاجلس أتيتك لاحدثك حديثا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من خلع يدا من
طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
وأخرجه عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عمر بمعنى حديث نافع، وأخرجه الحاكم عن ابن عمر بلفظ (من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه حتى يراجعه، ومن مات وليس عليه امام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية.
وأخرج مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهليه.

(19/190)


أما حديث أبى هريرة (من حمل علينا السلاح فليس منا) فقد أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وسلمة بن الاكوع، وأخرجه الشيخان من حديث أبى موسى الاشعري وابن عمر.
وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبى ذر: من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه أما اللغات فإن البغى التعدي وكل مجاوزة وإفراط وخروج عن حد الشئ، والبغى الظلم، وبغيته أبغيه بغيا طلبته، وابتغيته وتبغيته مثله والاسم البغاء كغراب.
وينبغى أن يكون كذا معناه يندب ندبا مؤكدا لا يحسن تركه، واستعمال ماضيه مهجور، وقد عدوا ينبغى من الافعال التى لا تتصرف، فلا يقال انبغى وقيل في توجيهه أن انبغى مطاوع بغى، ولا يستعمل انفعل في المطاوعة إلا إذا كان فيه علاج وانفعال، مثل كسرته فانكسر، وكما لا يقال طلبته فانطلب وقصدته فانقصد لا يقال بغيته فانبغى، لانه لا علاج فيه، وبغى على الناس بغيا سعى بالفساد أو ظلم واعتدى، وبغت المرأة تبغى بغاء فجرت فهى بغى والجمع بغايا، وهو وصف تختص به المرأة، ولا يقال للرجل بغى، ولى عنده بغية أي حاجة والفئة الباغية التى تعدل عن الحق وما عليه أئمة المسلمين.
يقال بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد.
أما الاحكام، فإن مما استقر في الفطر وارتكز في الطباع أن الجماعة لا تصلح حياتها فوضى لاسراة لها من أهل العقل والحكمة والعلم والزكانه، ومن ثم يأتي خطأ بعض المتكلمين في قولهم لو تكاف الناس عن الظلم لم يجب نصب الامام لان الصحابة رضى الله عنهم اجتمعوا على نصب الامام، والمراد بالامام الرئيس الا على للدولة، والامامة والخلافة وإمارة المؤمنين مترادفة، والمراد بها الرياسة العامة في شئون الدين والدنيا.
ويرى ابن حزم أن الامام إذا أطلق انصرف إلى الخليفة، أما إذا قيد انصرف إلى ما قيد به من إمام الصلاة وإمام الحديث وإمام القوم.
ويقول الدكتور عبد الحميد متولى أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق بالاسكندرية في كتابه مبادئ نظام الحكم في الاسلام ص 497 (ونلاحظ أن الصحافة المصرية بدأت في الآونة الاخيرة تطلق على شيخ الازهر لقب الامام الاكبر بدلا من الاستاذ الاكبر ويبدو لنا أن من الاوفق العدول عن هذا

(19/191)


اللقب (أولا) لان الامامة الكبرى إنما يقصد بها الخلافة كما قدمنا (وثانيا) لان نزعة الاغراق في ألقاب التفخيم والتعظيم إنما هي أثر من آثار الحكم التركي في حين أن اتجاه التطور لدنيا لاسيما منذ عهد الثورة إنما يسير ضد هذه النزعة، ومنصف شيخ الاسلام ليس من المناصب التى جاء بها الاسلام، وعجيب أن يقال عن على بن أبى طالب وهو من هو (الامام على) والشيخ محمد عبده (الاستاذ الامام) ثم يقال عن شيخ الازهر الامام الاكبر.
اه ملخصا فإذا عرفت أن المجتمع في حاجة إلى من يسوس أمره في دينه ودنياه ليكف الناس عن أن يتظالموا والظلم من شيم النفوس فإن تجد
* ذا عفة فلعلة لا يظلم فإنما تظهره القدرة وبخفيه العجز، ولانهم وان تكافوا عن الظلم فهم
مفتقرون إليه لتجهيز الجيوش في جهاد الاعداء، وغير ذلك من رعاية مصالحهم وحماية حوزتهم، وحفظ أرزاقهم وتنمية مواردهم.
فإذا ثبت هذا فمن شروط الامام أن يكون ذكرا بالغا عاقلا مسلما عدلا عالما من الفقه ما يخرجه عن أن يكن مقلدا، لان هذه الشروط هي التى تعتبر في حق القاضى فلان تعتبر في حق الامام أولى.
ومن شرط الامام أن يكون شجاعا له تدبير وهداية إلى مصالح المسلمين، لانه لا يتأهل لتحمل أعباء الامة الا بذلك ومن شرطه أن يكون قرشيا.
هكذا أفاده أكثر الاصحاب وقال أبو المعالى الجوينى من أصحابنا من يجوز أن يكون من غير قريش.
مع ورود حديث أنس عند أحمد والطبراني (الائمة من قريش ولى عليكم حق عظيم، ولهم ذلك ما فعلوا ثلاثا، إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا عاهدوا وفوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة الناس أجمعين) قال القاضى أبو الفتوح، ومن شرطه ألا يكون أعمى، ويجوز أن يكون النبي أعمى لان شعيبا كان أعمى، فإذا اجتمعت في الرجل شروط الامامة، فإن الامامة لا نتعقد الا بأن يستخلفه الامام الذى كان قبله، أو بأن لم يكن هناك امام فيقهر الناس بالغلبة والصولة، أو بأن تنعقد له الامامة باختيار أهل الحل

(19/192)


والعقد له.
ولا يلتفت إلى إجماع الدهماء، فإن ذلك لا يصح لان طبقة الدهماء لابد أن تكون مقلدة لفئة منها تؤثر عليها بالدعاية والضجيج فلا تستطيع أن تحكم في أناة وتعقل لتختار الامام العادل، ومن ثم فإن أهل الحل والعقد وهم الطليعة الواعية والفئة المستنيرة من أهل الاجتهاد من الامة هم الجديرون باختيار الامام لانهم سيحملون وزره إذا لم يتحروا في اختياره الصواب، وسيكونون شركاءه
في مآثمه ومظالمه.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه التنبيه: ولا يعقد إلا بعقد جماعة من أهل الحل والعقد ومقتضى كلامه أن أقلهم ثلاثة، لان ذلك أقل الجمع عندنا، وعند القاضى أبى الفتوح ينعقد بواحد، ومن شرط العاقد أن يكون ذكرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا.
وهل من شرط العقد أن يكون بحضرة شاهدين؟ قال العمرانى فيه وجهان.
ومن شرط العاقد والشاهد إذا اعتبرناه أن يكون عدلا ظاهرا وباطنا، لانه لا يشق مراعاة ذلك فيهما، ولا يجوز نصب إمامين.
وقال أبو المعالى الجوينى: يجوز عقد الامامة لامامين في صقعين متباعدين وقد خطأه العمرانى فإن عقدت الامامة لرجلين فإن علم السابق منهما صح العقد الاول وبطل الثاني، ثم ينظر في الثاني فإن عقد له مع الجهل بالاول أو مع العلم به لكن بتأويل شائع لم يعزر المعقود له ولا العاقد، وان عقد للثاني مع العلم بالاول من غير تأويل شائع عزر العاقد والمعقود له، لما أخرج أحمد ومسلم عن عرفجة الاشجعى قَالَ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه) قال الخطابى من أصحابنا: ولم يرد القتل وانما أراد اجعلوه كمن مات أو قتل فلا تقبلوا له قولا.
وقد قيل لعلى رضى الله عنه في الخوارج انهم كفروا، فقال هم من الكفر فروا، قيل هم منافقون؟ فقال ان المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وهؤلاء تحقرون صلاتكم بجانب صلاتهم.
قيل ماذا تقول فيهم؟ قال قوم تأولوا فأخطأوا.
فإذا وقع عقدان لامامين معا بطلا ويستأنف العقد لاحدهما، والمستحب

(19/193)


أن يعقد لافضلهما وأصلحهما، فإن عقدت الامامة للمفضول صح كما يصح في إمامة الصلاة أن يؤم من يصلح للامامة، وإن كان هناك من هو أولى منه بها.
فإذا انعقدت الامامة لرجل كان العقد لازما فإن أراد أن يخلع نفسه لم يكن له ذلك.
فان قيل فكيف خلع الحسن بن على نفسه؟ قلنا لعله علم من نفسه ضعفا عن تحملها أو علم أنه لا ناصر له ولا معين فخلع نفسه تقية، وإن أراد أهل الحل والعقد خلع الامام لم يكن لهم ذلك إلا أن يتغير، فان فسق الامام فهل ينخلع؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الجوينى (أحدها) ينخلع بنفس الفسق وهو الاصح، كما لو مات
(والثانى)
لا ينخلع حتى يحكم بخلعه، كما إذا فك عنه الحجر ثم صار مبذرا فانه لا يصح أن يصير محجورا عليه إلا بالحكم (والثالث) إن امكن استتابته وتقويم اعوجاجه لم يخلع، وإن لم يمكن ذلك خلع إذا ثبت هذا فلا يجوز خلع الامام بغير معنى موجب لخلعه ولا الخروج عن طاعته لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال ((بايعنا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الامر أهله الا أن تروا كفرا بواخا عندكم فيه من الله برهان) وقد روى أحمد عن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (يَا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك بهذا الفئ؟ قال: والذى بعثك بالحق أضع سيفى على عاتقي وأضرب حتى ألحقك، قال لا، ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ تصبر حتى تلحقني) وعن حذيفة بن اليمان أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (يكون بعدى
أئمة لا يهتدون بهديى ولا يستنون بسنتى، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس.
قال قلت كيف أصنع يا رسول الله ان أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع، وان ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع) رواه أحمد ومسلم.

(19/194)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا خرجت على الامام طائفة من المسلمين ورامت خلعه بتأويل أو منعت حقا توجه عليها بتأويل، وخرجت عن قبضة الامام وامتنعت بمنعة، قاتلها الامام لقوله عز وجل (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) ولان أبا بكر الصديق رضى الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وقاتل على كرم الله وجهه أهل البصرة يوم الجمل، وقاتل معاوية بصفين، وقاتل الخوارج بالنهروان، ولا يبدأ بالقتال حتى يسألهم ما ينقمون منه، فإن ذكروا مظلمة أزالها، وان ذكروا علة يمكن أزاحتها أزاحها، وان ذكروا شبهة كشفها لقوله تعالى (فأصلحوا بينهما) وفيما ذكرناه اصلاح.
وروى عبد الله بن شداد بن الهاد (أن عليا كرم الله وجهه لما كاتب معاوية وحكم، عتب عليه ثمانية آلاف ونزلوا بأرض يقال لها حروراء، فقالوا انسلخت من قميص ألبسك الله، وحكمت في دين الله، ولاحكم الا لله، فقال على: بينى وبينكم كتاب الله.
يقول الله تعالى في رجل وامرأة (وأن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا أنى كاتبت معاوية: من (على بن أبى طالب) وجاء سهيل بن عمرو وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية حين صالح قومه قريشا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكتب من محمد رسول الله، فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نخالفك، فقال اكتب فكتب (هذا ما قاضى عليه محمد قريشا) يقول الله عز وجل (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الاخر) وبعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوا عبد الله كتاب الله تعالى ثلاثة أيام، ورجع منهم أربعة آلاف، فإن أبوا وعظهم وخوفهم القتال، فإن أبوا قاتلهم، فإن طلبوا الانظار نظرت، فان كان يومين أو ثلاثة أنظرهم، لان ذلك مدة قريبة ولعلهم يرجعون إلى الطاعة، فان طلبوا أكثر من ذلك بحث عنه الامام، فان كان قصدهم

(19/195)


الاجتماع على الطاعة أمهلهم، وان كان قصدهم الاجتماع على القتال لم ينظرهم، لما في الانظار من الاضرار، وان أعطوا على الانظار رهائن لم يقبل منهم، لانه لا يؤمن أن يكون هذا مكرا وطريقا إلى قهر اهل العدل.
وان بذلوا عليه مالا لم يقبل لما ذكرناه، ولان فيه اجراء صغار على طائفة من المسلمين، فلم يجز، كأخذ الجزية منهم.
(الشرح) قوله تعالى (وان طائفتان من المؤمنين.
الآية) روى المعتمر بن سليمان عن أنس قال، قلت (يا نبى الله لو أتيت عبد بن أبى؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون، وهى أرض سبخة فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال اليك عنى فانه أذانى نتن حمارك، فقال رجل من الانصار والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالجريد والايدى والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية وقال مجاهد نزلت في الاوس والخزرج.
وقال مجاهد تقاتل حيان من الانصار
بالعصى والنعال فنزلت الاية، وروى في أسباب نزولها روايات كثيرة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما أخبار الحرورية فقد أخرجها مفرقة على المصادر الاتية، مسلم في الزكاة عن عبد بن حميد وفى استتابة المرتدين، أبو داود في السنة عن الحسن الخلال وعن محمد بن كثير ومحمد بن عبيد بن حسان والبخاري في علامات النبوة والنسائي عن محمد بن بشار، وابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة، كما أخرج ذلك كله ابن سعد في الطبقات وغيره.
وأما قتال أبى بكر لمانعي الزكاة فهى مما تواتر واستفاضت أخباره جملة وتفصيلا أثبتناها في كتابنا عن خالد بن الوليد أما اللغات فالتأويل تفسير ما يؤول إليه الشئ وقوله وامتنعت بمنعة.
ومنعة ومنعة، هكذا في اللسان وقال ابن بطال في غريب المهذب السماع بسكون النون والقياس فتحها جمع مانع مثل كافر وكفرة.

(19/196)


وقال ابن الاعرابي: رجل منوع يمنع غيره، ورجل منع يمنع نفسه.
وقوله (تفى إلى أمر الله) أي ترجع، والخوارج سموا بذلك لانهم خرجوا عن الطاعة، فواضعوا عبد الله أي راهنوه، أي وضعوا رهنا ووضع رهنا على أن من غلب أخذ الرهن الصغار الذل والهوان.
أما الاحكام فإنه إذا بغت على الامام طائفة من المسلمين وأرادت خلعه أو منعت حقا عليها تعلقت بهم أحكام يختصون بها دون قطاع الطريق، ولا تثبت هذه الاحكام في حقهم إلا بشروط توجد فيهم (أحدها) أن يكونوا طائفة فيهم منعة يحتاج الامام في كفهم إلى عسكر، فإن لم تكن فيهم منعة، وانما كانوا عددا قليلا لم تتعلق بهم أحكام البغاة، وإنما هم قطاع الطريق، لما روى أن عبد الرحمن
ابن ملجم لعنه الله قتل على بن أبى طالب وكان متأولا في قتله فأقيد به، ولم ينتفع بتأويله لانه لم يكن في طائفة ممتنعة، وإنما كانوا ثلاثة رجال تبايعوا على أن يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص في يوم واحد، فأما صاحب عمرو فذهب إلى مصر فلم يخرج عمرو بن العاص يومئذ وقتل خارجة بن زيد، ولما سئل قال: أردت عمرا وأراد الله خارجة.
وأما صاحب معاوية فلم يتمكن من قتله وإنما جرحه في أليته وكواه طبيب قال له: إنه ينقطع نسلك فقال في يزيد كفاية الشرط الثاني: أن يخرجوا من قبضة الامام، فإن لم يخرجوا من قبضته لم يكونوا بغاة، لما روى أن رجلا قال على باب المسجد وعلى يخطب على المنبر: لا حكم إلا لله ولرسوله تعريضا له في التحكيم في صفين فقال على: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: لكم علينا ثلاث، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال، فأخبر أنهم ما لم يخرجوا من قبضته لا يبدؤهم بقتال، ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة، فلئلا يتعرض لاهل البغى وهم مسلمون أولى.
الشرط الثالث، أن يكون لهم تأويل شائع مثل أن تقع لهم شبهة يعتقدون عنها الخروج عن الامام أو منع حق عليهم وان أخطأوا في ذلك كما تأول

(19/197)


بنو حنيفة منع الزكاة بقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) الآية فقالوا أمر الله بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا، وهو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا ابن أبى قحافة فليست صلاته سكنا لنا، ولذلك لما انهزموا قالوا والله ما كفرنا بعد ايماننا ولكن شححنا على أموالنا، فإذا لم يكن لهم تأويل شائع فحكمهم حكم
قطاع الطريق.
وهل من شرطهم أن ينصبوا اماما؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أن ذلك من شرطهم، لان الشافعي رضى الله عنه قال وأن ينصبوا اماما، فعلى هذا ان لم ينصبوا اماما كانوا لصوصا وقطاعا للطريق
(والثانى)
وهو المذهب أن ليس من شرطهم أن ينصبوا اماما، لان أهل البصرة وأهل النهروان طبق عليهم على رضى الله عنه أحكام البغاة ولم ينصبوا اماما وأما ما ذكره الشافعي رضى الله عنه فإنما ذكره لان الغالب من أمرهم أنهم ينصبوا اماما.
قال القفال، وسواء كان الامام عادلا أو جائرا فإن الخارج عليه باغ، فإذا اجتمعت هذه الشروط في الخارجين على الامام قاتلهم لقوله تعالى (وان طائفتان الخ الآية) وفى الآية خمسة معالم ظاهرة (أحدها) أن البغى لا يخرج عن الايمان لان الله سماهم مؤمنين في حال بغيهم
(والثانى)
وجوب قتالهم (قاتلوا التى تبغى) (والثالث) إذا رجعوا إلى الطاعة لم يقاتلوا (حتى تفئ إلى أمر الله) (الرابعة) ألا يجب عليهم ضمان ما أتلفوا في القتال (الخامس) وجوب قتال كل من عليه حق فمنعه.
ويدل على جواز قتال أهل البغى ما روى أن أبا بكر رضى الله عنه قاتل مانعي الزكاة وكانوا بغاة، لانهم كانوا متأولين، وقاتل على أهل الجمل وأهل صفين والخوارج بالنهروان، ولا يبدؤهم الامام بالقتال حتى يراسلهم ويسألهم ما ينقمون، فإن ذكروا مظلمة ردها وان ذكروا شبهة كشفها وبين لهم الصواب وقال أبو حنيفة: يبدؤهم بالقتال.
دليلنا قوله تعالى (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) فبدأ بالصلح قبل القتال، وفى هذا اصلاح.
وروى أن عليا رضى الله عنه لما كاتب معاوية وحكم خرج من معسكره ثمانية آلاف

(19/198)


ونزلوا بحروراء وأرادوا قتاله، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس يسألهم ما ينقمون منه؟ قالوا ثلاث، فقال ابن عباس ان رفعتها رجعتم؟ قالوا نعم.
قال وما هي؟ قالوا حكم في دين الله ولا حكم الا لله، وقتل ولم يسب، فإنه ان حل لنا قتلهم حل لنا سبيهم، ومحا اسمه من الخلافة فقد عزل نفسه من الخلافة يعنون اليوم الذى كتب الكتاب بينه وبين أهل الشام، فكتب فيه: أمير المؤمنين فقالوا لو أقررنا بأنك أمير المؤمنين ما قاتلناك، فمحاه من الكتاب، فقال ابن عباس أما قولكم انه حكم في الدين فقد حكم الله في الدين فقال تعالى (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) فحكم الله بين الزوجين، وقال الله تَعَالَى (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يحكم به ذوا عدل منكم) فحكم الله في أرنب قيمتها درهم، أفلا يجوز أن يحكم في هذا الامر العظيم بين المسلمين.
وأما قولكم أنه قتل ولم يسب، فأيكم كان يأخذ عائشة عليها السلام في سهمه وقد قال تعالى (وازواجه أمهاتهم) وإذا ثبت أن سبى عائشة لا يجوز كان غيرها من النساء مثلها وأما قولكم انه محا اسمه من الخلافة فقد عزل نفسه فغلط، لان النبي صلى الله عليه وسلم محا اسمه من النبوة، وذلك أنه لما قاضى سهيل بن عمرو يم الحديبية كتب الكتاب هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال لو اعترفنا بأنك رسول الله لما احتجت إلى كتاب، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أين رسول الله؟ فأراه إياه فمحاه للكاتب، وكان على بن أبى طالب أبى أن يمحوه حين أمره، فرجع منهم أربعة آلاف وقاتل الباقين (فرع)
وإذا أراد الامام أن يقتلهم فسألوه أن ينظرهم نظرت، فإن سألوه أن ينظرهم أبدا لم يجز له ذلك، لانه لا يجوز لبعض المسلمين ترك طاعة الامام
وان سألهم أن ينظرهم مدة، فاختلف أصحابنا فيه، فقال الشيخ أبو إسحاق ان سألوه أن ينظرهم يوما أو يومين أو ثلاثا أنظرهم، لان ذلك مدة قريبة ولعلهم يرجعون إلى الطاعة.
وان طلبوا أكثر من ذلك بحث فيه الامام فإن كان قصدهم الاجتماع على الطاعة أنظرهم، وان كان قصدهم الاجتماع على القتال لم ينظرهم لما في ذلك من الاضرار.

(19/199)


وقال ابن الصباغ: إذا سألوه أن ينظرهم مدة مديدة كشف الامام عن حالهم فإن كانوا إنما سألوا ذلك ليجتمعوا أو يأتيهم مدد عاجلهم بالقتال ولم ينظرهم.
وإن سألوا ليتفكروا ويعودوا إلى الطاعة أنظرهم لانه يجوز أن يلحقهم مدد في اليوم واليومين والثلاث كما يلحقهم فيما زاد على ذلك وكل موضع قلنا لا يجوز إنظارهم فبذلوا على الانظار مالا لا يجوز إنطارهم، لانه يأخذ المال على اقرارهم فيما لا يجوز له إقرارهم عليه، ولان فيه إجراء صغار على المسلمين فلم يجز وإن بذلوا على الانظار رهائن منهم أو من أولادهم لم يجز قبول ذلك منهم لانهم ربما قويت شوكتهم على أهل العدل فهزموهم واخذوا الرهائن، وأن كان في أيديهم أسارى من أهل العدل فسألوا الكف عنهم على أن يطلقوا الاسارى من أهل العدل وأعطوا بذلك رهائن من أولادهم قبل الامام ذلك منهم واستظهر لاهل العدل، فإن أطلق أهل البغى الاسارى الذين عندهم أطلق الامام رهائنهم وإن قتلوا من عندهم من الاسارى لم يقتل رهائنهم، لانهم لا يقتلون بقتل غيرهم فإذا انقضت الحرب خلى رهائنهم، وإن كان في أهل العدل ضعف عن قتالهم أخر الامام قتالهم إلا أن يكون بهم قوة، لانه إذا قاتلهم مع الضعف لم يؤمن الهلاك على أهل العدل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يتبع في القتال مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، لِمَا رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يابن أم عبد، ما حكم من بغى من أمتى؟ فقلت الله ورسوله أعلم، فقال لا يتبع مدبرهم ولايجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم، فيؤهم) .
وعن على كرم الله وجهه أنه قال، لا تجيزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا وعن أبى أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يطلبون موليا ولا يسلبون قتيلا.
ولان قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة دون القتل، فلا يجوز فيه القصد إلى القتل من غير حاجة، وان حضر معهم من لا يقاتل ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقصد بالقتل، لان القصد من قتالهم كفهم، وهذا قد كف نفسه

(19/200)


فلم يقصد
(والثانى)
يقتل، لان عليا كرم الله وجهه نهاهم عن قتل محمد بن طلحة السجاد، وقال إياكم وقتل صاحب البرنس، فقتله رجل وأنشأ يقول وأشعث قوام بآيات ربه
* قليل الاذى فيما ترى العين مسلم هتكت له بالرمح جيب قميصه
* فخر صريعا لليدين وللفم على غير شئ غير أن ليس تابعا
* عليا ومن لا يتبع الحق يظلم يناشدني حم والرمح شاجر
* فهلا تلا حم قبل التقدم ولم ينكر على كرم الله وجهه قتله، ولانه صار ردءا لهم، ولا تقتل النساء والصبيان، كما لا يقتلون في حرب الكفار، فإن قاتلوا جاز قتلهم كما يجوز قتلهم إذا قصدوا قتله في غير القتال، ويكره أن يقصد قتل ذى رحم محرم، كما يكره في قتال كفار، فإن قاتله لم يكره كما لا يكره إذا قصد قتله في غير القتال (الشرح) محمد بن طلحة بن عبيد الله القرشى التيمى، أمه حمنة بنت جحش أخت زينب، أتى به أبوه طَلْحَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وسماه
محمدا وكناه أبا القاسم، وفى تكنيته بأبى سليمان خلاف، وقد رجح ابن عبد البر في الاستيعاب أبا القاسم، وقد قتل يوم الجمل مع أبيه، وكان على رضى الله عنه قد نهى عن قتله في ذلك اليوم وقال: إياكم وصاحب البرنس.
قال ابن عبد البر: وروى أن عليا مر به وهو قتيل يوم الجمل، فقال هذا السجاد ورب الكعبة، هذا الذى قتله؟ بره بأبيه يعنى أن أباه أكرهه على الخروج في ذلك اليوم، وكان طلحة قد أمره أن يتقدم للقتال فتقدم ونثل درعه بين رجليه وقام عليها، وجعل كلما حمل عليه رجل قال نشدتك بحاميم، حتى شد عليه رجل فقتله، وقد روى ابن عبد البر شعره هكذا مختلفا عما ساقه المصنف.
فالبيت الاول كما ذكره والبيت الثاني جاء هكذا ضممت إليه بالقاة قميصه
* فخر صريعا لليدين وللفم ويروى في رواية أخرى، خرقت له بالرخ جيب قيمصه الخ والبيت الثالث، على غير ذنب، وبقية البيت كما هو والبيت الرابع يروى (والرمح شارع) ويقال قتله رجل من بين أسد بن خزيمة

(19/201)


اسمه كعب بن مدلج، وقيل بل قتله شداد بن معاوية العبسى، وقيل بل الاشتر وقيل بل قتله عصام بن مقعشر النصرى، وهو قول أكثرهم، وهو الذى يقول وأشعث قوام بآيات ربه
* قليل الاذى فيما ترى العين مسلم دلفت له بالرمح من تحت نحره
* فجر صريعا لليدين وللفم شككت إليه باسنان قميصه
* فأذريته عن ظهر طرف مسوم أقمت له في دفعة الخيل صلبه
* بمثل قدامى النسر حران لهذم على غير شئ غير أن ليس تابعا
* عليا ومن لا يتبع الحق يظلم يذكرنى حاميم لما طعنته
* فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وقد ادعى قتل محمد بن طلحة جماعة، منهم المكعبر الضبى وغفار بن المسعر البصري.
قال ابن عبد البر، وروينا عن محمد بن حاطب قال لما فرغنا من قتال يوم الجمل قام على بن أبى طالب والحسن بن على وعمار بن ياسر وصعصعه بن صوحان والاشتر ومحمد بن أبى بكر يطء فون في القتلى، فأبصر الحسن بن على قتيلا مكبوبا على وجهه فأكبه على قفاه، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا فرع قريش والله، فقال له أبوه ومن هو يا بنى؟ فقال محمد بن طلحة، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، ان كان ما علمته لشابا صالحا، ثم قعد كئيبا حزينا، فقال له الحسن يا أبت، قد كنت أنهاك عن هذا المسير فغلبك على رأيك فلان وفلان، قال قد كان ذلك يا بنى، فلوددت أنى مت قبل هذا بعشرين سنة روى عند محمد ابن طلحة إبنه ابراهيم وعبد الرحمن بن أبى ليلى أما قولهم يسجد كل يوم ألف سجدة، فإن اليوم بدقائقه وساعاته لا يتسع لمثل ذلك، ولعل المقصود انه كان كثير العبادة أما الاحكام فإذا قال أهل البغى رجعنا إلى طاعة الامام لم يجز قتالهم لقوله تعالى (فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) والفيئة الرجوع.
وهكذا إذا ألقوا سلاحهم لم يجز قتالهم، لان الظاهر من حالهم ترك القتال والرجوع إلى الطاعة فإن انهزموا نظرت، فإن انهزموا إلى غير فئة لم يجز اتباعهم ولا يجاز على جريحهم لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: يا ابن أم عبد ما حكم من يفئ من أمتى؟ فقلت الله ورسوله أعلم، فقال لايتبع مدبرهم

(19/202)


ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم رواه البيهقى والحاكم، وفى لفظ: ولا يذفف على جيرحهم، وزاد ولا يغنم فيئهم.
سكت عنه الحاكم وقال ابن عدى: هذا الحديث غير محفوظ.
وقال البيهقى ضعيف قال ابن
حجر في بلوغ المرام وصححه الحاكم فوهم، لان في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك.
قال وصح عن على من طرق نحوه موقوفا، أخرجه ابن أبى شيبة والحاكم وأخرج البيهقى عن أبى أمامة قال: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وأخرج أيضا عن أبى فاختة أن عليا أتى بأسير يوم صفين فقال لا تقتلني صبرا، فقال على رضى الله عنه لا أقتلك صبرا إنى أخاف الله رب العالمين ثم خلى سبيله ثم قال أفيك خير تبايع؟ وأخرج أيضا أن عليا لم يقاتل أهل الجمل حتى دعا الناس ثلاثا حتى إذا كان يوم الثالث دخل عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، فقالوا قد أكثروا فينا الجراح، فقال ما جهلت من أمرهم شيئا ثم توضأ وصلى ركعتين حتى إذا فرغ رفع يديه ودعا ربه وقال لهم ان ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا على جريح، وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم.
قال البيهقى هذا منقطع، والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا، ودخل على بن الحسين على مروان بن الحكم فقال ما رأيت أكرم علينا من أبيك ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديه لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح (يذفف) يروى بالدال والذال وقد مضى معناها في الصيد، فإن انهزموا إلى فئة ومدد ليستغيثوا بهم ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى حنيفة واختيار أبى اسحاق المروزى أنهم يتبعون ويقتلون، لانهم إذا لم يتبعا لم يؤمن أن يعودوا على أهل العدل فيقاتلونهم ويظفروا بهم.

(والثانى)
وهو ظاهر النص أنه لا يجوز أن يتبعوا ويقاتلوا لعموم الخبر

(19/203)


ولان دفعهم قد حصل وما يخاف من رجوعهم لا يوجب قتالهم كما لو تفرقوا، وإن حضر معهم من لا يقاتل ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز قتله، لان قتالهم للكف وقد كف نفسه، وهو مذهب أحمد
(والثانى)
يجوز قصد قتله، لان عليا رضى الله عنه نهاهم عن قتل محمد بن طلحة فقلته، ولم ينكر على، ولانه صار ردا لهم، وإن قاتل مع أهل البغى نساؤهم وصبيانهم جاز قتلهم مقبلين، لان هذا القتال لدفعهم عن النفس كما يجوز له قتل من قصد نفسه في غير أهل البغى، وإن كان لرجل من أهل العدل قريب في أهل البغى يقاتل فيستحب له أن ينحرف من قتله مادام يمكنه ذلك لقوله تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) فأمره بمصاحبتهما بالمعروف في أسوا حالهما، وهو دعوتهما إياه إلى الشرك.
وروى أن أبا بكر أراد أن يقتل أبا قحافة يوم أحد فكفه النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فإن لم يمكنه قتال أهل البغى إلا بقتل أبيه فقتله فلا شئ عليه لما روى أن أبا عبيدة قتل أباه، وقال للنبى صلى الله عليه وسلم سمعته يسبك وإذا ثبت هذا في حق المشرك كان في حق أهل البغى مثله
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يقتل أسيرهم لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عبد الله ابن مسعود (ولا يقتل أسيرهم) فإن قتله ضمنه بالدية، لانه بالاسر صار محقون الدم، فصار كما لو رجع إلى الطاعة، وهل يضمنه بالقصاص؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يضمنه لما ذكرناه
(والثانى)
لا يضمنه، لان أبا حنيفة رحمه الله يجيز قتله فصار ذلك شبهة
في إسقاط القود، فإن كان الاسير حرا بالغا فدخل في الطاعة أطلقه، وإن لم يدخل في الطاعة حبسه إلى أن تنقضي الحرب ليكف شره ثم يطلقه، ويشرط عليه أن لا يعود إلى القتال، وإن كان عبدا أو صبيا لم يحبسه، لانه ليس من أهل البيعة.
ومن أصحابنا من قال يحبسه، لان في حبسه كسرا لقولبهم

(19/204)


(فصل)
ولايجوز قتالهم بالنار والرمى عن المنجنيق من غير ضرورة، لانه لا يجوز أن يقتل إلا من يقاتل، والقتل بالنار أو المنجنيق يعم من يقاتل ومن لا يقاتل، وإن دعت إليه الضرورة جاز، كما يجوز أن يقتل من لا يقاتل إذا قصد قتله للدفع، ولا يستعين في قتالهم بالكفار ولا بمن يرى قتلهم مدبرين لان القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم، وهؤلاء يقصدون قتلهم، فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فإن كان يقدر على منعهم من ابتاع المدبرين جاز وان لم يقدر لم يجز.

(فصل)
وان اقتتل فريقان من أهل البغى، فإن قدر الامام على قهرهما لم يعاون واحدا منهما، لان الفريقين على الخطا، وان لم يقدر على قهرهما ولم يأمن أن يجتمعا على قتاله ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق، فإن استويا في ذلك اجتهد في رأيه في ضم أحدهما إلى نفسه، ولا يقصد بذلك معاونته على الآخر، بل يقصد الاستعانة به على الآخر، فإذا انهزم الآخر لم يقاتل الذى ضمه إلى نفسه حتى يدعوه إلى الطاعة لانه حصل بالاستعانة به في أمانه
(فصل)
ولا يجوز أخذ مالهم لحديث ابن مسعود وحديث أبى أمامة في صفين، ولان الاسلام عصم دمهم ومالهم، وانما أبيح قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة وبقى حكم المال على ما كان، فلم يجز أخذه كمال قطاع الطريق، ولا يجوز الانتفاع بسلاحهم وكراعهم من غير اذنهم من غير ضرورة لقوله صلى الله عليه
وسلم (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه) ولان من لا يجوز أخذ ماله لم يجز الانتفاع بماله من غير اذنه ومن غير ضرورة كغيرهم، وان اضطر إليه جاز كما يجوز أكل مال غيره عند الضرورة (الشرح) حديث عبد الله بن مسعود أخرجه الحاكم والبيهقي عن عبد الله ابن عمر، وأثر أبى أمامة في صفين أخرجه البيهقى قال (شهدت صفين فكاءوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا) وحديث (لا يحل ما امرى الخ) مضى في الزكاة والبيوع والربا وغيرها أما الاحكام فانه إذا أسر أهل العدل من البغى حرا بالغا فإن كان شابا

(19/205)


جلدا فإن للامام أن يحبسه ما دامت الحرب قائمة إن لم يرجع إلى الطاعة، فإن بدل الرجوع إلى الطاعة أخذت منه البيعة وخلى، وان انقضت الحرب أو انهزموا إلى غير فئة فإنه يخلى، وان انهزموا إلى فئة خلى على المذهب ولم يخل على قول أبى اسحاق، ولا يجوز قتله وقال أبو حنيفة: يجوز قتله.
دليلنا قوله صلى الله عليه (ولا يقتل سبيهم) فإن قتله رجل من أهل العدل عامدا فهل يجب عليه القصاص فيه وجهان
(أحدهما)
يجب عليه القصاص لانه صاربالاسر محقون الدم فصار كما لو رجع إلى الطاعة، وللولي أن يعفو عن القود إلى الدية
(والثانى)
لا يجب عليه القصاص، لان قول أبى حنيفة شبهة تسقط عنه القصاص، فعلى هذا تجب فيه الدية، وان كان الاسير شيخا لاقتال فيه أو مجنونا أو امرأة أو صبيا أو عبدا لم يحبسوا لانهم ليسوا من أهل البيعة على القتال.
ومن أصحابنا من قالوا يحبسون لان في ذلك كسرا لقلوبهم واقلا لا لجمعهم واضعافا من روحهم ومعنوياتهم، ولكن المنصوص هو الاول
قوله ((ولايجوز قتالهم بالنار الخ) فجملة ذلك أنه يحرم رمى أهل البغى بالنار أو المنجنيق من غير ضرورة، لان القصد بقتالهم كفهم وردهم إلى الطاعة فيجب تجنب ما يهلكهم أويبيدهم، ولان رميهم بالمدافع والرشاشات يصيب منهم من يقاتل ومن لا يقاتل، وانما يجوز قتل من يقاتل فقط، فإذا أحاط أهل البغى من كل جهة ولم يمكنهم التخلص منهم الا بالرمي بالنار أو رشقهم بالمدافع جاز ذلك للضرورة.
وقال ابن الصباغ: وكذلك ان رماهم أهل البغى بالنار وكان هذا سلاحا لهم جاز لاهل العدل رميهم بمثل سلاحهم (فرع)
ولا يجوز للامام أن يستعين على قتال أهل البغى بمن يرى جواز قتلهم مدبرين من المسلمين، لانه يعرف أنهم يظلمون فإن كان لا يقدر على قتال أهل البغى الا بالاستعانة بهم جاز إذا كان مع الامام من يمنعهم من قتلهم مدبرين، ولا يجوز للامام أن يستعين على قتالهم بالكفار، لانهم يرون قتل المسلمين مدبرين، تشفيا لما في قلوبهم قوله: وان اقتتل فريقان الخ.
فجملة ذلك أنهم إذا افترقوا فريقين واقتتلا،

(19/206)


فإن قدر الامام على قهرهما لم يعاون إحداهما على الاخرى لانهما على الخطأ والمعونة على الخطأ خطأ، وإن كان لا يقدر على قهرهما ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق وقاتل معها الطائفة الاخرى، ولا يقصد بقتاله معاونة الطائفة التى ضمها إلى نفسه، وانما يقصد رد الذين يقاتلون إلى طاعته، فإذا انهزمت الطائفة التى قاتلها أو رجعت إلى طاعته لم يقاتل الطائفة التى ضم إلى نفه حتى يدعوهم إلى طاعته، لانه بضمهم إليه صار إماما لهم، فإذا امتنعت من الدخول في طاعته قاتلهم فإن استوت الطائفتان اجتهد في أقربها إلى الحق وضم نفسه إليها.
وهذا كله كمذهب أحمد.
ولا يجوز لاهل العدل أخذ أموال أهل البغى لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا يقسم فيؤهم) وقد استؤذن على يوم الجمل في النهب فقال: انهم يحرمون بحرمة الاسلام ولا يحل مالهم، فإن انقضت الحرب ورجعوا إلى الطاعة وكان في يد أهل العدل مال لاهل البغى أو في يد أهل البغى مال لاهل العدل وجب رد كل مال إلى مالكه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه) ولانه مسلم فلم يجز الانتفاع بماله من غير اذنه كغير الكراع والسلاح وكأهل العدل.
وان دعته ضرورة بأن ذهب سلاحه أو خاف على نفسه جاز أن يندفع عن نفسه بسلاحه، فكذلك ان خاف على نفسه وأمكنه أن ينجو على دابة لهم جاز له ذلك، لانه لو اضطر إلى ذلك من مال أهل العدل لجاز له الانتفاع به فكذلك إذا اضطر إلى ذلك من أموال أهل البغى
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أتلف أحد الفريقين على الاخر نفسا أو مالا في غير القتال وجب عليه الضمان، لان تحريم نفس كل واحد منهما وماله كتحريمهما قبل البغى فكان ضمانهما كضمانهما قبل البغى، وان أتلف أهل العدل على أهل البغى نفسا أو مالا في حال الحرب بحكم القتال لم يجب عليه الضمان، لانه مأمور بإتلافه فلا يلزمه ضمانه، كما لو قتل من يقصد نفسه أو ماله من قطاع الطريق.
وإذا

(19/207)


أتلف أهل البغى على أهل العدل ففيه قولان
(أحدهما)
يجب عليه الضمان لانه أتلف عليه بعدوان فوجب عليه الضمان، كما لو أتلف عليه في غير القتال
(والثانى)
لا يجب عليه الضمان وهو الصحيح، لما روى عن الزهري أنه قال (كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون، فأجمعوا على أن لا يقام حد
على رجل ارتكب فرجا حراما بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دما حراما بتأويل القرآن، ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن) ولانها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل فلم تضمن ما تتلف على الاخرى بحم الحرب كأهل العدل.
ومن أصحابنا من قال: القولان في غير القصاص، فأما القصاص فلا يجب قولا واحدا لانه يسقط بالشبهة ولهم في القتل شبهة.

(فصل)
وان استعان أهل البغى بأهل الحرب في القتال وعقدوا لهم أمانا أو ذمة بشرط المعاونة لم ينعقد، لان من شرط الذمة والامان أن لا يقاتلوا المسلمين فلم ينعقد على شرط القتال، فإن عاونوهم جاز لاهل العدل قتلهم مدبرين وجاز أن يذفف على جريحهم، وان أسروا جاز قتلهم واسترقاقهم والمن عليهم والمفاداة لهم لانه لا عهد له ولا ذمة فصاروا كما لو جاءوا منفردين عن أهل البغى ولا يجوز شئ من ذلك لمن عاونهم من أهل البغى لانهم بذلوا الهم الذمة والامان فلزمهم الوفاء به، وان استعانوا بأهل الذمة فعاونوهم نظرت فإن قالوا كنا مكرهين أو ظنا انه يجوز أن نعاونهم عليكم كما يجوز أن نعاونكم عليهم لم تنتقض الذمة لان ما ادعوه محتملفلا يجوز نقص العقد مع الشبهة وان قاتلوا معهم عالمين من غير اكراه، فإن كان قد شرط عليهم ترك المعاونة في عقد الذمة انتقض العهد لانه زال شرط الذمة، وإن لم يشترط ذلك ففيه قولان.

(أحدهما)
ينتقض كما لو لو انفردوا بالقتال لاهل العدل
(والثانى)
لا ينتقض لانهم قاتلوا تابعين لاهل البغى، فإذا قلنا لا ينتقض عهدهم كانوا في القتال كأهل البغى لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم، وان ألمفوا نفسا أو مالا في الحرب لزمهم الضمان قولا واحدا، والفرق بينهم وبين أهل البغى أن في تضمين أهل البغى تنفيرا عن الرجوع إلى الطاعة، فسقط عنهم الضمان في أحد القولين ولا يخاف تنفير أهل الذمة لانا قد أمناهم على هذا القول، وإن استعانوا بمن له

(19/208)


أمان إلى مدة فعاونوهم أنتقض أمانهم، فإن أدعوا أنهم كانوا مكرهين ولم تكن لهم بينة على الاكراه انتقض الامان، والفرق بينهم، وبين أهل الذمة في أحد القولين أن الامان المؤقت ينتقض بالخوف من الخيانة فانتقض بالمعاونة، وعقد الذمة لا ينتقض بالخوف من الخيانة فلم ينتقض بالمعاونة.
(الشرح) قال الشافعي رحمه الله تعالى: فإن كانت لاهل البغى جماعة تكثر ويمتنع مثلها بموضعها الذى هي بعض الامتناع حتى يعرف أن مثلها لا ينال حتى تكثر نكايته واعتقدت، ونصبوا إماما وأظهروا حكماو وامتنعوا من حكم الامام العادل، فهذه الفئة الباغية التى تفارق حكم من ذكرنا قبلها يقصد القلة من النفر اليسير الذين لا يتأتى لهم أن يقيموا دولة أو حكومة ذات سلطان بإزاء حكومة أهل العدل فينبغي إذا فعلوا هذا أن نسألهم ما نقموا، فإن ذكروا مظلمة ببنة ردت فإن لم يذكروها بينة قيل لهم: عودوا لما فارقتم من طاعة الامام العادل وان تكون كلمتكم وكلمة أهل الدين الله على المشركين واحدة، إلى أن قال، وما أصابوا في هذه الحال على وجهين
(أحدهما)
ما أصابوا من دم ومال وفرج على التأويل ثم ظهر عليهم بعد لم يقم عليهم من ذلك شئ إلا أن يوجد مال رجل بعينه فيؤخذ والوجه الثاني: ما أصابوا على غير وجه التأويل من حد لله تعالى أو للناس ثم ظهر عليهم رأيت أن يقام عليهم كما يقام على غيرهم ممن هرب من حد أو أصابه وهو في بلاد لا والى فيها ثم جاء لها وال.
وهكذا غيرهم من أهل دار غلبوا الامام عليها فصار لا يجرى له بها حكم، فمتى قدر عليهم أقيمت عليهم تلك الحدود ولم يسقط عنهم ما أصابوا بالامتناع، ولا يمنع الامتناع حقا يقام انما يمنعه التأويل والامتناع معا.
اه
وكان الشافعي قد قال قبل ذلك في أول كتاب قتال أهل البغى والردة (وأمر الله تعالى أن فاءوا أن يصلح بينهما بالعدل، ولم يذكر تباعة في دم ولا مال، وانما ذكر الله تعالى الصلح آخرا كما ذكر الاصلاح بينهم أولا قبل الاذن بقتالهم فأشبه هذا والله أعلم أن تكون التباعات في الجراح والدماء وما فات من

(19/209)


الاموال ساقطة بينهم.
قال وقد يحتمل قول الله عزوجل: فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، والعدل أخذ الحق لبعض الناس من بعض، قال وانما ذهبنا إلى أن القود ساقط، والآية تحتمل المعنيين، أخبرنا مطرف بن مازن عن معمر بن راشد عن الزهري قال: أدركت الفتنة الاولى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت فيها دماء وأموال فلم يقتص فيها من دم ولا مال ولاقرح أصيب بوجه التأويل الا أن يوجد مال رجل بعينه فيدفع إلى صاحبه اه أما أحكام الفصل فإنه إذا أتلف أحد الفريقين على الآخر نفسا أو مالا قبل قيام الحرب أو بعدها وجب عليه الضمان لانه أتلف مالا محرما عليه بغير القتال فلزمه ضمانه مكما لو أتلفوه قبل البغى، وإن أتلفوه في حال القتال نظرت فإن أتلف ذلك أهل العدل لم يلزمه ضمانه بلا خلاف لانهم مأمورون بقتالهم، والقتال يقتضى اتلاف ذلك.
وان أتلف ذلك أهل البغى على أهل العدل فَفِيهِ قَوْلَانِ.
قَالَ فِي الْقَدِيمِ يَجِبُ عَلَيْهِ ضمان ذلك، وبه قال مالك لقوله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) والباغى ظالم فوجب أن يكون عليه السلطان وهو القصاص، ولان الضمان يجب على آحاد أهل البغى، فوجب أن يكون على جماعتهم وعكسه أهل الحرب.
وقال في الجديد لا يجب وعليهم الضمان، وبه قال أبو حنيفة وأحمد ابن حنبل وهو الاصح، لقوله تعالى (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) الخ
الآية، فأمر بقتالهم ولم يوجب ضمان ما أتلفوا عليهم.
وروى أن هشام بن عبد الملك أرسل إلى الزهري يسأله عن امرأة من أهل العد ذهبت إلى أهل البغى وكفرت زوجها وتزوجت من أهل البغى ثم تابت ورجعت هل يقام عليها الحد؟ فقال الزهري: كانت الفتنة العظمى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم البدريون، فأجمعوا على أنه لا حد على من ارتكب فرحا محظورا يتأويل القرآن، وأن لا ضمان على من سفك دما محرما بتأويل القرآن وألا غرم على من أتلف مالا بتأويل القرآن وروى أن عليا رضى الله عنه قاتل أهل الجمل وقتل منهم خلق عظيم وأتلف مال عظيم ثم ملكهم ولم ينقل أنه ضمن أحدا منهم ما أتلف من نفس أو مال،

(19/210)


فدل على أنه إجماع، ومن أصحابنا من قال: القولان في الاموال والديات، فأما القصاص فلا يجب قولا واحدا لانه يسقط بالشبهة (مسألة) إذا عقد أهل البغى لاهل الحرب الذمة أو الامان بشرط أن يعاونهم على قتال أهل العدل، لم يصح هذا العقد في حق أهل العدل، فيجوز لهم قتلهم مقبلين ومدبرين، ويجاز على جريحهم، ويجوز سبى ذراريهم، ويتخير الامام فيمن أسر منهم بين المن والقتل والاسترقاق والفداء، لان شرط صحة العقد لهم ألا يقاتلوا المسلمين، فإذا وقع القد على شرط قتال المسلمين لم يصح، وإن أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا لم يجب عليهم ضمانه قولا واحدا، كما لو قاتلوا المسلمين منفردين.
وهل يكونون في أمان من أهل البغى؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي.

(أحدهما)
ولم يذكر المصنف وابن الصباغ في الشامل غيره أنهم في أمان منهم، لانهم قد بذلوا لهم الامان فلزمهم الوفاء به

(والثانى)
أنهم لا يكونون في أمان منهم، لان من لم يصح أمانه في بعض المسلمين لم يصح في حق بعضهم كمن أمنه صبى أو مجنون، وأما إذا استعان أهل الغى بأهل الذمة على قتال أهل العدل وأعانوهم فهل تنتقض ذمتهم في حق أهل العدل؟ ينظر فيهم فإن قالوا: لم نعلم أنهم يستعينون بنا على المسلمين وإنما ظننا أنهم يستعينون بنا على الحرب، أو قالوا اعتقدنا أنه لا يجوز لنا إعانتهم عليكم إلا أنهم أكرهونا على ذلك لم تنتقض ذمتهم، لان عقد الذمة قد صح فلا ينتقض لامر محتمل، وان لم دعوا شيئا من ذلك فهل تنقض ذمتهم؟ فيه قولان؟
(أحدهما)
تنقض كما لو انفردوا بقتال المسلمين
(والثانى)
لا تنقض، لان أهل الذمة لا يعلمون المحق من المبطل، وذلك شبهة لهم.
وقال أبو إسحاق المروزى: القولان إذا لم يكن الامام قد شرط عليهم في عقد الذمة الكف عن القتال لفظا، وان شرط عليهم الكف عن ذلك انتقضت ذمتهم قولا واحدا، والطريق الاول هو المنصوص، فإذا قلنا تنتقض ذمتهم لم يجب عليهم ضمان ما أتلفوا على أهل العدل من نفس ومال قولا واحدا كأهل

(19/211)


الحرب قال الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق: ويجوز قتلهم على هذا مقبلين ومدبرين، ويتخير الامام في الاسير منهم كما قلنا في أهل الحرب.
وقال ابن الصباغ: هل يجوز قتلهم على هذا مقبلين ومدبرين؟ فيه قولان بناء على القولين فيهم إذا نقضوا الذمة، هل يقتلون في الحال؟ أو يجب ردهم إلى مأمنهم؟ وهل تنتقض ذمتهم في حق أهل البغى؟ ينبغى أن يكون على أوجهين اللذين مضيا في صحة أمان أهل البغى لاهل الحرب، وإذا قلنا لا تنتقض ذمتهم فحكمهم حكم أهل البغى فيجوز قتلهم مقبلين ولا يجوز قتلهم مدبرين، ولا
يجاز على جريحهم ولا يجوز سبى أموالهم ومن أسر منهم كان كمن أسر من أهل البغى إلا أنهم إذا أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا لزمهم ضمانه قولا واحدا والفرق بينهم وبين أهل البغى أن لاهل البغى شبهة، فلذلك سقط عنهم الضمان في أحد القولين، وليس لاهل الذمة شبهة فوجب عليهم الضمان، ولان في إيجاب الضمان على أهل البغى تنفيرا عن رجوعهم إلى الطاعة، وقد أمرنا بإصلاحهم، وأهل الذمة لا يخاف من نفورهم، ولم نؤمر بالاصلاح بيننا وبينهم فإن استعان أهل البغى بمن بيننا وبينهم هدنة فأعانوهم انتقض أمانهم الا إذا ادعو انهم أكرهوا على ذلك، وأقاموا على ذلك بينة، والفرق بينهم وبين أهل الذمة أن أهل الذمة أقوى حكما ولهذا لا تنتقض الذمة لخوف جنايتهم والهدنة تنتقض لخوف جنايتهم فلان تنتقض بنفس الاعانة أولى، وإذا انتقض أمانهم كان حكمهم حكم أهل الحرب.
قال الشافعي رحمه الله: فإن جاء أحد تائبا لم يقتص منه لانه مسلم محقون الدم، فمن أصحابنا من قال أراد بذلك الحربى والمستأمن وأهل الذمة إذا قلنا تنتقضى ذمتهم، فإن الواجد من هؤلاء إذا قتل أحدا من أهل العدل ثم رجع إليهم تائبا لم يقتص منه لانه قتله قبل اسلامه، فأما أهل البغى فلا يسقط عنهم الضمانم بالتوبة لانهم مسلمون.
ومنهم قال: ما أراد الشافعي بذلك الا أهل البغى، وقد نص في الام عليه ويجوز أن يعلل بأنه مسلم محقون الدم، لان قتله كان بتأويل فلم يزل خفر ذمته

(19/212)


وانما سقط القصاص في أحد القولين، ومذهب كمذهبنا في كل ما مضى من أوجه وأقوال وتأويلات.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وان ولوا فيما استولوا عليه قاضيا نظرت، فإن كان ممن يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم لم ينفذ حكمه لان من شرط القضاء العدالة والاجتهاد، وهذا ليس بعدل ولا مجتهد، وان كان ممن لا يستبيح دماءهم ولا أموالهم نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضى أهل العدل، ورد من حكمه ما يرد من حكم قاضى أهل العدل، لان لهم تأويلا يسوغ فيه الاجتهاد، فلم ينقض من حكمه ما يسوغ فيه الاجتهاد.
وإن كتب قاضيهم إلى قاضى أهل العدل استحب أن لا يقبل كتابه استهانة بهم وكسرا لقلوبهم، فإن قبله جاز، لانه ينفذ حكه فجاز الحكم بكتابه كقاضي أهل العدل.

(فصل)
وان استولوا على بلد وأقاموا الحدود وأخذوا الزكاة والخراج والجزية اعتد به، لان عليا كرم الله وجهه قاتل أهل البصرة ولم يلغ ما فعلوه وأخذوه، ولان ما فعلوه وأخذوه بتأويل سائغ فوجب امضاؤه كالحاكم إذا حكم بما يسوغ فيه الاجتهاد، فإن عاد البلد إلى أهل العدل فادعى من عليه الزكاة أنه دفعها إلى أهل البغى قبل قوله، وهل يحلف عليه مستحبا أو واجبا؟ فيه وجهان ذكرناهما في الزكاة.
وإن ادعى من عليه الجزية أنه دفعها إليهم لم يقبل قوله، لانها عوض فلم يقبل قوله في الدفع كالمستأجر إذا ادعى دفع الاجرة، وان ادعى من عليه الخراج أنه دفعه إليهم ففيه وجهان، أحدهما يقبل قوله، لانه مسلم فقبل قوله في الدفع كما قلنا فيمن عليه الزكاة، والثانى لا يقبل لان الخراج ثمن أو أجرة فلم يقبل قوله في الدفع كالثمن في البيع والاجرة في الاجارة (الشَّرْحُ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ في الامان (وقال بعض الناس: لا ينبغى لقاضي أهل البغى أن يحكم في الدماء والحدود وحقوق الناس

(19/213)


وإذا ظهر الامام على البلد الذى فيه قاض لاهل البغى لم يرد من حكمه إلا ما يرد من حكم غيره من قضاة غير أهل البغى، وان حكم على غير أهل البغى فلا ينبغى للامام أن يجيز كتابه خوف استحلاله أمواله الناس بما لا يحل له.
قال وإذا كان غير مأمون برأيه على استحلال ما لا يحل له من مال امرئ أو دمه لم يحل قبول كتابه ولا انفاذ حكمه، وحكمه أكثر من كتابه، فكيف يجوز أن ينفذ حكمه وهو الاكثر، ويرد كتابه وهو الاقل اه وجملة ذلك أنه إذا نصب أهل البغى قاضيا فإن كان يستحل دماء أهل العدل وأموالهم لم يصح قضاؤه، ولانه ليس بعدل، وان كان لا يستحل دماء أهل العدل وأموالهم نفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام قاضى أهل العدل سواء كان القاضى من أهل العدل أو من أهل البغى وقال أبو حنيفة: ان كان من أهل العدل العدل نفذ حكمه، وان كان من أهل البغى لم ينفذ حكمه بناء على أصله أن أهل البغى يفسقون بالبغى، وعدنا لا يفسقون وهو قول أحمد وأصحابه.
دليلنا أنه اختلاف في الفروع بتأويل سائغ فلم يمنع صحة القضاء ولم يفسق كاختلاف الفقهاء، ولان عليا رضى الله عنه لما غلب على أهل البغى وكانوا قد حكموا مدة طويلة بأحكام لم يرو أنه رد شيئا منها، ولم يرد قضاء قاضيهم، كقاضي أهل العدل.
إذا ثبت هذا فإن حكم قاضى أهل البغى بسقوط الضمان عن أهل البغى فيما أتلفوه حال الحرب جاز حكمه لانه موضع اجتهاد، وان كان حكمه فيما أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ لانه مخالف للاجماع.
وان حكم على أهل العدل بوجوب الضمان فيما أتلفواه حال الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته للاجماع، وان حكم
بوجوب ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب نفذ حكمه، فإن كتب قاضى أهل البغى إلى قاضى أهل العدل بحكم فالمستحب ألا يقبل كتابه استهانة بهم وكسرا لقلوبهم، أو كما يعبر المعاصرون بإضاف روحهم المعنوية، فان قبله جاز.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز لانه محكوم بفسقهم وولاية القضاء تنافى الفسوق ولنا اننا قد أقمنا الدليل على تنفيذ حكمه، ومن نفذ حكمه جاز قبول كتابه،

(19/214)


كقاضي أهل العدل، هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن كان قد نفذ الفضاء قبل كتابه، وإن لم ينفذ القضاء فهل يقبل كتابه؟ فيه قولان وإن شهد عدل من أهل البغى قبلت شهادته، ووافقنا أبو حنيفة على ذلك لانهم وإن كانوا فسقة عنده من جهة التدين، إلا أن ذلك لا يوجب رد الشهادة عنده، وإنما قبلت شهادتهم عندنا وعند الحنابلة لانهم ليسوا بفسقة فهم كأهل العدل المختلفين في الاحكام قوله: وإن استولوا على بلدو أقامه الحدود الخ، فجملة ذلك أنه إذا استولى أهل البغى على بلد وأقاموا فيه الحدود وأخذوا الزكوات والجزية والخراج وقع ذلك موقعه.
وحكى المسعود وجها آخر أنه لا يعيد بما أخذوه من الجزية وليس بشئ لان عليا رضى الله عنه لما ظهر على أهل البغى لم يطالب بشئ مما كانوا قد جبوه من ذلك إذا ثبت هذا فظهر الامام على البلدة التى كانوا قد غلبوا عليها، فادعى من عليه الزكاة أنه قد كان دفع إليهم الزكاة فإن علم الامام بذلك وقامت به عنده ببنة لم يطالبه بشئ، وان لم يعلم الامام بذلك ولاقامت به ببنة فإن دعوى من عليه الزكاة مخالفة للظاهر فيحلفه، وهل تكون يمينه واجبة أو مستحبة؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الزكاة للامام النووي رضى الله عنه
فإن ادعى من عليه الجزية أنه دفعها إليهم فإن علم الامام بذلك أو قامت به بينة لم يطالبه بشئ، وان لم يعلم الامام بذلك ولا قامت به بينة لم يقبل قول من عليه الجزية، لانه يجب عليه الدفع إلى الامام لانهم كفار ليسوا بمأمونين، ولان الجزية عوض عن المساكنة فلا يقبل قولهم في دفعها من غير بينة كثمن المبيع والاجرة.
وان ادعى من عليه الخراج أنه دفعه إليهم، فان علم الامام بذلك أو قامت به بينة، لم يطالب بشئ، وان لم يعلم بذلك ولا قامت به بينة ففيه وجهان
(أحدهما)
يقبل قوله مع يمينه لانه مسلم فقبل قوله مع يمينه فيما دفع كما قلنا فيمن عليه الزكاة
(والثانى)
لا يقبل قوله لان الخراج ثمن أو أجرة فلا يقبل قوله في دفعه من غير بينة كالثمن والاجرة في غيرذلك

(19/215)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أظهر قوم رأى الخوارج ولم يخرجوا عن قبضة الامام لم يتعرض لهم، لان عليا كرم الله وجهه سمع رجلا من الخوارج يقول: لا حكم إلا لله تعريضا له في التحكيم في صفين، فقال كلمة حق أريد بها باطل) ثم قال لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أنه تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم من الفئ مادامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال) ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة، فلان لا نتعرض لاهل البغى وهم من المسلمين أولى، وحكمهم في ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل، لان ابن ملجم جرح عليا كرم الله وجهه، فقال (أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولى دمى، أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت، وان مت فاقتلوه ولا تمثلوا به) فان قتل فهل يتحتم قتله؟ فيه وجهان

(أحدهما)
يتحتم لانه قتل بشهر السلاح، فتحتم قتله كقاطع الطريق
(والثانى)
لا يتحتم وهو الصحيح لقول على كرم الله وجهه (أعفو إن شئت وان شئت استقدت) وان سبوا الامام أو غيره من أهل العدل عزروا، لانه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فوجب فيه التعزير.
وإن عرضوا بالسب ففيه وجهان
(أحدهما)
يعزرون لانهم إذا لم يعزروا على التعريض صرحوا وخرقوا الهيبة
(والثانى)
لا يعزرون لما روى أبويحيى قال صلى بنا على رضى الله عنه صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج (لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فأجابه على رضوان الله عليه وهو في الصلاة (فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) ولم يعزره
(فصل)
وإن خرجت على الامام طائفة لا منعة لها أو أظهرت رأى الخوارج كان حكمهم في ضمان النفس والمال والحدود حكم أهل العدل، لانه لا يخاف نفورهم لقتلهم وقدرة الامام عليهم، فكان حكمهم فيما ذكرناه حكم الجماعة، كما لو كانوا في قبضته

(19/216)


(فصل)
وإن خرجت طائفة من المسلمين عن طاعة الامام بغير تأويل واستولت على البلاد ومنعت ما عليها وأخذت ما لا يجوز أخذه قصدهم الامام وطالبهم بما منعوا ورد ما أخذوا، وغرمهم مما أتلفوه بغير حق، وأقام عليهم حدود ما ارتكبوا، لانه لا تأويل لهم فكان حكمهم ما ذكرناه كقطاع الطريق (الشرح) الخارج هم جمع خارجة، أي طائفة، سموا بذلك لخروجهم على خيار المسلمين، وقد حكيا لرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على على رضى الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه
يقتله أؤ مواطاته، كذا قال، وهذا خلاف المستفيض من حقائق التاريخ وصادق الاخبار، فإن كل أولئك تقرر أن الخارج لم يطلبوا بدم عثمان، بل كانوا ينكرون عليه شيئا ويتبرءون منه.
وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء، لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم يتأولون القرآن على غير المراد منه ويستبدون بآرائهم ويبالغون في الزهد والخشوع فلما قتل عثمان قاتلوا مع على واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة على وكفر من قاتله من أهل الجمل بقيادة طلحة والزبير، فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليا فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة، فاتفقوا على طلب قتلة عثمان، وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ عليا فخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة، وانتصر على وقتل طلحة في المعركة، وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة.
فهذه الطائفة هي التى كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك وكان عاملا على الشام وقد أرسل إليه على أن يبايع له أهل الشام، فاعتل بأن عثمان قتل مظلوما وأنها تجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته، وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد ذلك وعلى يقول ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلى أحكم فيهم بالحق، فلما طال الامر خرج على في أهل العراق طالبا قتال أهل الشام، فخرج معاوية في

(19/217)


أهل الشام قاصدا لقتاله فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهم أشهرا وكاد معاوية وأهل الشام أن يكسروا، فرفعوا المصاحب على الرماح ونادوا: ندعوكم إلى كتاب الله، وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية فتكر القتال جمع
كثير ممن كان مع على خصوصا القراء بسبب ذلك تدينا محتجين بقوله تعالى (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم) الآية فراسلوا أهل الشام في ذلك فقالوا: ابعثوا حكما منكم وحكما منا ويحضر معهما من لم يباشر القتال فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب على ومن معه إلى ذلك وأنكرت ذلك الطائفة التى صارت خوارج وفارقوا عليا وهم ثمانية آلاف ونزلوا بمكان يسمى حروراء، ومن ثم سموا بالحرورية، وكانوا بقيادة كبيرهم عبد الله ابن الكواء اليشكرى وشبث التميمي، فأرسل إليهم على عبد الله بن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم، ثم خرج إليهم على فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة ومعهم رئيساهم المذكوران ثم أشاعا أن عليا تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه فبلغ ذلك عليا فخطب فيهم وأنكر ذلك فتنادوا من جانب المسجد لاحكم إلا لله فقال كلمة حق يراد بها باطل.
ثم قال: لكم علينا ثلاث، ألا نمنعكم من المساجد ولامن رزقكم من الفئ، وألا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا، وخرجوا شيئا بعد شئ إلى أن اجتمعوا بالمدائن فراسلهم على في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضا فأرادوا قتل رسوله، ثم اجتمعوا أيضا على ألا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، واستعرضوا الناس فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين ومربهم عبد الله ابن خباب بن الارت واليا لعلى على بعض تلك البلاد ومعه سريته وهى حامل فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ عليا فحرج إليها في الجيش الذى كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم في النهروان ولم ينج منهم الا دون العشرة، ولا قتل ممن معه الا نحو العشرة.
فهذا ملخص أمرهم ثم انضم إلى من بقى منهم ممن مال إلى رأيهم فكانوا مختفين في خلافة على حتى كان منهم ابن ملجم الذى قتل عليا رضى الله عنه بعد أن دخل
في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم

(19/218)


عسكر الشام بمكان يقال له النخيلة، وكانوا منقمعين في إمارة زياد وإبنه طول مدة ولاية معاوية وإبنه يزيد، وظفر زياد وابنه بجماعة منهم فأبادهم بين قتل وحبس طويل، ثم بعد ذلك ظهر الخوارج بالعراق في خلافة ابن الزبير وادعاء مروان الخلافة وكانوا بقيادة نافع بن الازرق وباليمامة مع نجدة بن عامر، وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب الملمين فهو كافر، ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم وتوسعوا حتى أبطلوا رجم المحصن وقطعوا يد السارق من الابط، وأوجبوا الصلاة على الحائض حال حيضها، وكفروا من ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر إن كان قادرا، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقا، وفتكوا في المنتسبين إلى الاسلام بالقتل والسبي والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقا، ومهم من يدعوا أولا ثم يفتك.
هذا معتقد الخوارج والسبب الذى لاجله خرجوا، ويتبين بذلك بطلان ما حكاه الرافعى.
قال الشوكاني: وقد وردت بما ذكرنا من أصل حال الخوارج أخبار جياد.
منها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري الخ وعدة فرق الخوارج نحو عشرين فرقة.
قال ابن حزم: وأقربهم إلى الحق الاباضية.
قلت وهم يعيشون الآن في جبال القبائل في شمال إفريقية من تونس والجزائر ومراكش، كما أن لهم إماما في عمان وقد قرأت في كتبهم أنهم يتبعون في فقههم أبا الشعثاء جابر بن زيد، وهو موثق في جميع كتب أهل السنة وله عندهم أخبار وروايات رواها عنه عبد الله بن إباض
لم أجدها عندنا.
فإذا ثبت هذا فأظهر قوم رأى الخوارج فتجنبوا الجماعات وسبوا السلف وأكفروهم وقالوا: من أتى بكبيرة خرج من الملة واستحق الخلود في النار، ولكنهم لم يخرجوا من قبضة الامام فإنه لا يقاتلهم في ذلك كما رويناه في الرجل الذى قال على باب المسجد وعلى يخطب: لاحكم الا لله، وكان خارجيا،

(19/219)


لان هذا كلامهم.
وروى أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه أن قوما يرون رأى الخوارج يسبونك، فقال إذا سبوني سبوهم، وإذا حملوا السلاح فاحملوا السلاح، وإذا ضربوا فاضربوهم اه فإذا سبوا الامام أو غيره عزروا، وإن عرضوا بسبب الامام عن طريق الكناية أو النكتة أو الفكاهة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يعزرون، لان عليا رضى الله عنه سمع رجلا خلفه في صلاة الفجر يقول (لئن أشركت ليحبطن عملك) ورفع بها صوته تعريضا له بذلك، فأجابه على (فاصبر أن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) ولم يعزره ولان التعريض يحتمل السب وغيره.

(والثانى)
يعزرون لانه إذا لم يعزرهم بالتعريض بالسب ارتقوا إلى التصريح بالسب وإلى أعظم منه، فإن بعث لهم الامام واليا فقتلوه وجب عليهم القصاص لان عليا بعث عبدبن خباب إلى أهل النهروان واليا كما قلنا فقتلوه، فبعث إليهم أن ابعثوا بقاتله فأبوا وقالوا (كلنا قلته) فسار إليهم وقاتلهم، وهل يتحتم القصاص على القاتل؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يتحتم لانه قتل بإشهار السلاح فصار بمنزلة قاطع الطريق.

(والثانى)
لا يتحتم لانه لم يقصد بذلك أخافة الطريق وأخذ الاموال فأشبه من قتل رجلا منفردا

(19/220)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب قتل المرتد

تصح الردة من كل بالغ عاقل مختار، فأما الصبى والمجنون فلا تصح ردتهما لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق) وأما السكران ففيه طريقان، من أصحابنا من قال تصح ردته قَوْلًا وَاحِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ، وقد بينا ذلك في الطلاق، فأما المكره فلا تصح ردته لقوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) وإن تلفظ بكلمة الكفر وهو أسير لم يحكم بردته لانه مكره، وإن تلفظ بها في دار الحرب في غير الاسر حكم بردته، لان كونه في دار الحرب لا يدل على الاكراه، وإن أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر لم يحكم بردته، لانه قد يأكل ويشرب من غير اعتقاد، ومن أكره على كلمة الكفر فالافضل أن لا يأتي بها لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان.
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يجب للمرء لا يحبه الا الله عزوجل، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها) وروى خباب بن الارث إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أن كان الرجل ممن كان قبلكم ليحفر له في الارض فيجعل فيها، فيجاء بمنشار فتوضح على رأسه ويشق باثنتين، فلا يمنعه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصده ذلك عن دينه) ومن أصحابنا من قال: إن كان ممن يرجو النكاية في العدو أو القيام بأحكام

(19/221)


الشرع فالافضل له أن يدفع القتل عن نفسه، ويتلفظ بكلمة الكفر، لما في بقائه من صلاح المسلمين، وإن كان لا يرجو ذلك اختار القتل.
(الشرح) قوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) ورد في سبب نزولها ثلاث روايات.
الاولى ما أخرجه ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال (لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يهاجر إلى المدينة أخذ المشركون بلالا وخبابا وعمارا، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، فلما رجع إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثه فقال: كيف كان قلبك حين قلت أكان منشرحا بالذى قلت؟ قالا لا، فنزلت) الثانية: ما أخرجه أيضا عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة أن هاجروا، فخرجوا يريدون المدينة فأدكرتهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية.
الثالثة: أخرج ابن سعد في الطبقات عن عمر بن الحكم قال: كان عمار ابن ياسر يعذب حتى لا يدرى ما يقول وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين وفيهم نزلت هذه الآية.
وقال مجاهد: أول من أظهر الاسلام سبعة: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر وبلال وخباب وعمار وصيهب وسمية فأما رسول الله فمنعه أبو طالب وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الاخرون فألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشاء أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يشتمهم ويوبخهم، ثم أتى سمية فطعن بالحربة في قبلها حتى خرجت من فمها، فهى أول شهيد استشهد في الاسلام أما حديث (رفع القلم عن ثلاثة الخ) فقد أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم
عن على وعن عمر رضى الله عنهما، وحديث أنس (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان.
الحديث) فقد أخرجه أحمد في المسند والشيخان والترمذي وابن ماجه والنسائي.
وحديث خباب بن الارت ولفظه (أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ

(19/222)


متوسد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فجلس محمرا وجهه فقال (قد كان من قبلكم الخ الحديث) فقد أخرجه البخاري في الاكراه عن مسدد، وفى علامات النبوة عن محمد بن المثنى، وفى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم عن الحميدى، وأخرجه أبو داود في الجهاد عن عمرو بن عون والنسائي في الزينة عن يعقوب بن ابراهيم ومحمد بن المثنى أما اللغات فإن الارتداد الرجوع عن الدين والاسم الردة، ورد عن الشىء رجع عنه، الاطمئنان السكون واستئناس القلب.
قوله (فيقذف فيها) أي يرمى فيها ويطرح، والمنشار والميشار غير مهموز.
الآلة المعروفة، والنكاية في العدو أصله الوجع والالم، وقيل هو قشر الجرح.
قال الشاعر (ولا تنكئى قرح الفؤاد فينجعا) أما الاحكام فإن المرتد هو الراجع عن دين الاسلام إلى الكفر.
قال تَعَالَى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) إذا ثبت هذا فإن الردة إنما تصح من كل بالغ عاقل مختار، فأما الصبى والمجنون فلا تصح ردتهما.
وقال أبو حنيفة تصح ردة الصبى ولكن لا يقتل حتى يبلغ.
ومرد هذا الخلاف إلى صحة إسلام الصبى، فعند الشافعي وزفر أن الصبى لا يصح إسلامه حتى يبلغ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنْ الصَّبِيِّ
حَتَّى يبلغ) ولانه قول تثبت به الاحكام فلم يصح من الصبى كالهبه، ولانه أحد من رفع القلم عنه فلم يصح إسلامه كالمجنون والنائم، ولانه ليس بمكلف أشبه الطفل وقال أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل وسائر أصحابه، وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو أيوب يصح إسلام الصبى إذا كان له عشر سنين وعقل الاسلام لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وقوله (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وقوله صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا واما كفورا) وهذه الاخبار يدخل في عمومها الصبى، ولان

(19/223)


الاسلام عبادة محضة فصحت من الصبى العقال كالصلاة والحج، ولان الله تعالى دعا عباده إلى دار السلام وجعل طريقها الاسلام، وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم والعذاب الاليم، ولان عليا أسلم صبيا وقال سبقتكم إلى الاسلام طرا
* صبيا ما بلغت أوان حلم ولذا قيل، أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان على، ومن النساء خديجة، ومن العبيد بلال.
وقال عروة أسلم على والزبير وهما إبنا ثمان سنين، وقد اختلف القائلون بصحة إسلام الصبى في حد السن، فقال الخرقى عشر سنين لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بضربه على الصلاة لعشر، وقال ابن قدامة أكثر المصححين لاسلامه لم يشترطوا ذلك ولم يحدوا له حدا من السنين وحكاه ابن المنذر عن أحمد، لان المقصود متى ما حصل لا حاجة إلى زيادة عليه وروى عن أحمد إذا كان ابن سبع سنين فإسلامه إسلام لقوله صلى الله عليه وسلم مروهم بالصلاة لسبع
وقال ابن أبى شيبة (إذا أسلم وهو ابن خمس سنين صح اسلامه) وقال أبو أيوب (أجيز اسلام ابن ثلاث سنين فمن أصاب الحق من صغير أو كبير أجزناه.
الا أنهم قالوا لا يقتل الا إذا بلغ وجاوز البلوغ بثلاثة أيام فإذا ثبت هذا فإذا ارتد صحت ردته عندهم، وهو الظاهر من مذهب أبى حنيفة ومالك.
وفى رواية عن أحمد بهذا، ورواية انه يصح اسلامه ولا تصح ردته وهل تصح ردة السكران؟ ذكر الشيخ أبو إسحق هنا فيها طريقين، أحدهما أنها على قولين، والثانية لا تصح ردته قولا واحدا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وأكثر أصحابنا غير هذه الطريقة.
ومن أكره على كلمة الكفر فالافضل ألا يأتي بها.
ومن أصحابنا من قال (ان كان ممن يرجوا النكاية في أمر العدو والقيام في أمر الشرع فالافضل أن يدفع القتل عن نفسه ويتلفظ بها، وان كان لا يرجو ذلك اختار القتل، والمذهب الاول، لما روى أَنَسٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لايحبه الا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره

(19/224)


أن يقذف في النار،) فإن أكره على التلفظ بكلمة الكفر فقالها وقصد بها الدفع عن نفسه ولم يعتقد الكفر بقلبه لم يحكم بردته، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ محمد بن الحسن هو كافر في الظاهر تبين منه امرأته ولا يرثه المسلمون أن مات ولا يغسل ولا يصلى عليه، وعزا العمرانى في البيان هذا إلى أبى يوسف.
دليلنا قوله تعالى (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله) وفى الآية تقديم وتأخير، وتقديرها من كفر بالله بعد ايمانه وشرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان، فإذا أكره الاسير على كلمة الكفر فقالها لم يحكم بكفره لما ذكرناه، فإن مات ورثه ورثته المسلمون، لانه محكوم ببقائه على الاسلام فإن عاد الى دار الاسلام عرض عليه السلام وأمر بالاتيان به لاحتمال أن يكون قال ذلك اعتقادا، فإن أتى بكلمة الاسلام علمنا أنه أتى بكلمة الكفر مكرها، وان لم يأت بالاسلام علمنا أنه يأتي بكلمة الكفر معتقدا له.
قال الشافعي رحمه الله وان قامت بينة على رجل أنه تلفظ بكلمة الكفر وهو محبوس أو مقيد ولم يقل البينة أنه أكره على التلفظ بذلك لم يحكم بكفره، لان القيد والحبس اكراه في الظاهر.
وهكذا قال في الاقرار إذا أقر بالبيع أو غيره من العقود وهو محبوس أو مقيد، ثم قال بعد ذلك كنت مكرها على الاقرار، قبل قوله في ذلك، لان القيد والحبس اكراه في الظاهر، وان قامت بينة أنه كان يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير في دار الكفر لم يحكم بكفره لانها معاص وقد يفعلها المسلم وهو يعتقد تحريمها فلم يحكم بكفره.
وان مات ورثه ورثته المسلمون لانه محكوم ببقائه على الاسلام.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا ارتد الرجل وجب قتله لما روى أمير المؤمنين عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، رجل كفر بعد اسلامه، أو، زنى بعد احصانه، أو قتل نفسا بغير نفس) فإن ارتدت امرأة وجب قتلها لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(19/225)


أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت عن الاسلام، فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن تستناب، فإن تابت وإلا قتلت) وهل يجب أن يستناب أو يستحب؟ فيه قولان

(أحدهما)
لا يجب لانه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمنه القاتل، ولو وجبت الاسثتابة لضمنه.

(والثانى)
أنها تجب لما روى أنه (لما ورد على عمر رضى الله عنه فتح تستر فسألهم هل كان من مغربة خبر؟ قالوا نعم، رجل ارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين فأخذناه وقتلناه، قال فهلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه ثلاثا، فإن تاب والا قتلتموه، اللهم إنى لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني) ولو لم تجب الاستتابة لما تبرأ من فعلهم.
فإن قلنا إنه تجب الاستتابة أو تستحب ففى مدتها قولان.

(أحدهما)
أنها ثلاثة أيام لحديث عمر رضى الله عنه، ولان الردة لا تكون إلا عن شبهة وقد لا يزول ذلك بالاستتابة في الحال فقدر بثلاثة أيام، لانه مدة قريبة يمكن فيها الارتياب والنظر، ولهذا قدر به الخيار في البيع.

(والثانى)
وهو الصحيح أنه يستتاب في الحال، فإن تاب وإلا قتل لحديث أم رومان، ولانه استتابة من الكفر فلم تتقدر بثلاث كاستتابة الحربى، وان كان سكرانا فقد قال الشافعي رحمه الله تؤخر الاستتابة، فمن أصحابنا من قال تصح استتابته والتأخير مستحب، لانه تصح ردته فصحت استتابته.
ومنهم من قال لا تصح استتابته ويجب التأخير، لان ردته لا تكون إلا عن شبهة، ولا يمكن بيان الشبهة ولا إزالتها مع السكر، وان ارتد ثم جن لم يقتل حتى يفيق ويعرض عليه الاسلام، لان القتل يجب بالردة، والاصرار عليها، والمجنون لا يوصف بأنه مصر على الردة.
(الشرح) حديث عثمان (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثلاث) أخرجه أبو داود في الديات عن سليمان بن حرب والترمذي في الفتن عن أحمد أبن عبده والنسائي في الاحباس عن زيدا بن أيوب، وعن عمران بن بكار بن

(19/226)


راشد، وأخرجه الشيخان وأبوداودو الترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود وحديث جابر أن أم رومان، وفى تلخيص الحبير أن الصواب أم مروان أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريقين، وزاد في أحدهما فأبت أن تسلم فقتلت قال الحافظ ابن حجر وإسناداهما ضعيفان.
وأخرج البيهقى من وجه آخر ضعيف عن عائشة أن أمرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وأخرج الدارقطني والبيهقي أن أبا بكر رضى الله عنه استتاب امرأة يقال لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقلتها قال الحافظ ابن حجر: وفى السير أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ قرفة يوم قريظة، وهى غير تلك.
وفى الدلائل عن أبى نعيم أن زيد بن ثابت قتل أم قرفة في سريته إلى بنى فزارة.
أما أثر عمر رضى الله عنه فقد أخرجه الشافعي عن محمد بن عبد الله بن عبد القارى قال (قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبى موسى فسأله عن الناس فأخبره، ثم قال هل من مغربة خبر؟ قال نعم، كفر رجل بعد إسلامه، قال فما فعلتم؟ قال قربناه فضربنا عنقه، فقال هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله، اللهم إنى لم أحضر ولم أرض إذ بلغى) وأخرجه مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد القارى عن أبيه قال الشافعي رضى الله عنه (من لا يتأنى بالمرتد) زعموا أن هذا الاثر عن عمر ليس بمتصل.
اه ورواه البيهقى من حديث أنس قال (لما نزلنا على تستر) فذكر الحديث وفيه
(فقدمت على عمر رضى الله عنه فقال يا أنس ما فعل الستة الرهط من بكر بن ولئل الذين أرتدوا عن الاسلام فلحقوا بالمشركين؟ قال يا أمير المؤمنين قتلوا بالمعركة، فاسترجع عمر، قلت وهل كان سبيلهم الا القتل؟ قال نعم، قال كنت أعرض عليهم الاسلام فإن أبوا أودعتهم السجن)

(19/227)


أما اللغتت فقوله (هل من مغربة خبر) بضم الميم وسكون الغين.
قال أبو عبيد وكسر الواء وفتحها مع الاضافة فيهما، معناه من خبر جديد.
قال الرافعى شيوخ الموطأ فنحو الغين وكسروا الراء وشدودها قلت وأصله من الغرب وهو البعد.
يقال (دار غربة) أي بعيدة.
الارتياء والنظر هو الافتعال من الرأى والتدبير والتفكر في الامر وعاقبته وصلاحه، والنظر هو التفكر أيضا.
وقوله (الاصرار عليها) أي الاقامة والدوام أما الاحكام فإنه إذا ارتد الرجل وجب قتله، سواء كان حرا أو عبدا، لقوله صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير نفس) وقد قدم معاذ على أبى موسى باليمن، فوجد عنهد رجلا موثقا كان يهوديا فأسلم ثم تهود منذ شهرين، فقال والله لاقعدت حتى تضرب عنقه، قضاء الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه) أخرجه أحمد والشيخان، ولابي داود (فأتى أبو موسى برجل قد ارتد عن الاسلام، فدعاه عشرين ليلة أو قريبا منها، فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه) وقد انعقد الاجماع على قتل المرتد، وان ارتدت امرأة حرة أو أمة وجب قتلها، وبه قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه والحسن والزهرى والاوزاعي
والليث ومالك وأحمد واسحق وقال على (إذا ارتدت المرأة استرقت) وبه قال قتادة، وهى احدى الروايتين عن الحسن.
وقال أبو حنيفة لا تقتل وانما تحبس وتطالب بالرجوع إلى الاسلام، وان لحقت بدار الحرب سبيت واسترقت، ويروى ذلك عن عبد الله بن عباس، دليلنا ما رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من بدل دينه فاقتلوه) وقال معاذ رضى الله عنه (قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه، وهذا عام في النساء والرجال، ولحديث جابر في أم رومان أو أم مروان.
(فرع)
إذا قال المرتد ناظروني واكشفوا إلى الحجة، فهل يناظر؟ قال المسعودي فيه وجهان

(19/228)


(أحدهما)
يناظر لانه هو الانصاف
(والثانى)
لا يناظر لان الاسلام قد وضح فلا معنى لحجته عليه.
(فرع)
يستتاب المرتد قبل أن يقتل وقال الحسن البصري لا يستتاب، وان كان كافرا فأسلم ثم ارتد فإنه يستتاب.
دليلنا أثر عمر (فهلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه ثلاثا فإن تاب والا قتلتموه، اللهم انى لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذا بلغني) إذا ثبت هذا فهل الاستتابة مستحبة أو واجبة؟ فيه قولان، قال الشيخ أبو حامد، وقيل هما وجهان
(أحدهما)
أنها مستحبة، وبه قال أبو حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) فأوجب قتله ولم يوجب استتابته، ولانه لو قتله قاتل قبل الاستتابة لم يجب عليه ضمانه، ولهذا لم يوجب عمر رضى الله عنه الضمان على الذين قتلوا المرتد قبل استتابته، فلو كانت الاستتابة واجبة لوجب ضمانه، فعلى هذا لا يأثم إذا قتله قبل الاستتابة

(والثانى)
أن الاستتابة واجبة لقوله تَعَالَى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قد سلف) فأمر الله بمخاطبة الكفار بالانتهاء ولم يفرق بين الاصلى والمرتد ولما رويناه عن عمر وعثمان رضى الله عنهما، وبالقول الاول قال عبيد بن عمير وطاوس والحسن وأحمد في احدى روايتيه، وبالقول الثاني قال عطاء والنخعي ومالك والثوري والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأى، والرواية الاخرى عن أحمد، وعزا ابن قدامة الوجوب إلى عمر وعلى، وفند القول بعدم الوجوب ورجح الوجوب.
قال الشوكاني بعدم الوجوب قال أهل الظاهر ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن عمير وعليه يدل تصرف البخاري، فإنه استظهر بالآيات التى لاذكر فيها للاستتابة، والتى فيها أن التوبة لا تنفع، وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) وبقصة معاذ المذكورة ولم يذكر غير ذلك.
وقال الطحاوي في شرح معاني الاثار ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الاسلام حكم الحربى الذى بلغته الدعوة، فإنه يقاتل من اقبل أن يدعى.
قالوا وانما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الاسلام لاعن بصيرة، فأما من خرج عن

(19/229)


بصيرة فلا، ثم نقل عن أبى يوسف موافقتهم، لكن إن جاء مبادرا بالتوبة خلى سبيله ووكل أمره إلى الله واختلف القائلون بالاستتابة هل يكتفى بالمرة أم لابد من ثلاث، وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام، ونقل ابن بطال عن على أنه يستتاب شهرا.
وعن النخعي يستتاب أبدا قلت، وقولهم لو وجبت الاستتابة لوجبت الضمان يبطل بقتال نساء أهل الحرب وذراريهم، فإنه يحرم قتلهم، ولو قتلهم لم يجب ضمانهم، فعلى هذا إذا قتله قبل الاستتابة أثم لاغير، وفى قدر مدة الاستتابة سواء قلنا بالاستحباب
أو الوجوب فبالثلاثة الايام.
قال مالك وأحد قولى الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ووجهه ما رويناه عن عمر، ولان الاستتابة تراد لزوال الشبهة فقدر ذلك بثلاث لانها آخر حد القلة وأول حد الكثرة، والثانى وهو الذى فصره الشافعي يستتاب في الحال.
وقال الزهري يستتاب ثلاث مرات في حالة واحدة، وقال أبو حنيفة يستتاب ثلاث في ثلاث جمع كل جمعة مرة، وقال الثوري يستتاب أبدا ويحبس إلى أن يتوب أو يموت.
(فرع)
وأما السكران فإنه لا يستتاب في حال سكره وإنما يؤخر إلى أن يفيق ثم يستتاب، لان استتابته في حال إفاقته أرجى لاسلامه، فإن استتيب في حال سكره صح إسلامه.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يصح إسلامه وبه قال أبو حنيفة، والمنصوص هو الاول لقوله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فخاطبه في حال السكر فدل على أنه مخاطب مكلف فكل من كان مخاطبا مكلفا صح إلا سلامه كالصاحي، وإذا أسلم في حال السكر فالمستحب ألا يخلى بل يحبس إلى أن يفيق فان أفاق وثبت على إسلامه خلى سبيله، وإن أعاد الكفر قتل، فإن ارتد ثم جن أو تبرسم لم يقتل حتى يفيق من جنونه ويبرأ من برسامه، لان المرتد لا يقتل

(19/230)


إلا بالردة والمقام عليها باختياره، والمجنون والمبرسم لا يعلم إقامته على الردة باختياره فلم يقتل.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا تاب المرتد قبلت توبته سواء كانت ردته إلى كفر ظاهر به أهله أو إلى كفر يستتر به أهله كالتعطيل والزندقة، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فإذا شهدوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وصلوا صلاتنا، وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولان النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين لما أظهروا من الاسلام مع ما كانوا يبطنون من خلافه، فوجب أن يكف عن المعطل والزنديق لما يظهرونه من الاسلام، فإن كان المرتد ممن لا تأويل له في كفره فأتى بالشهادتين حكم بإسلامه لحديث أنس رضى الله عنه فإن صلى في دار الحرب حكم بإسلامه، وان صلى في دار الاسلام لم يحكم بإسلامه، لانه يحتمل أن تكون صلاته في دار الاسلام للمرأة والتقية، وفى دار الحرب لا يحتمل ذلك، فدل على إسلامه وان كان ممن يزعم أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلى العرب وحدها أو ممن يقول إن محمدا نبى يبعث وهو غير الذى بعث، لم يصح إسلامه حتى يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خالف الاسلام، لانه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد ما يعتقده، وان ارتد بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح اسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لانه كذب الله وكذب رسوله بما اعتقده في خبره فلا يصح اسلامه حتى يأتي بالشهادتين، وان ارتد ثم أسلم ثم ارتد ثم أسلم، وتكرر منه ذلك قبل اسلامه ويعزر على تهاونه بالدين.
وقال أبو إسحاق لا يقبل اسلامه إذا تكررت ردته، وهذا خطأ لقوله عَزَّ وَجَلَّ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قد سلف) ولانه أتى بالشهادتين بعد الردة فحكم بإسلامه كما لو ارتد مردة ثم أسلم.

(19/231)


(الشرح) حديث أنس (أمرت أن أقاتل الناس) أخرجه الطبرائى عن
أفس وقد اعتبره السيوطي من المتواتر، وكذلك فعل عبد الله الصديق في الكنز الثمين، والسيوطي جعل شرطه في التواتر أن يرويه عشرة من الصحابة، وهذا رواه من الصحابة ابن عمر عند البخاري ومسلم وأبو هريرة عندهما وجابر عند مسلم وأبو بكر الصديق وعمر وأوس وجرير البجلى في مصنف ابن أبى شيبة وأفس وسمرة وسهل بن سعد وابن عباس وأبو بكرة وأبو مالك الاشجعى عند الطبراني وعياض الانصاري والنعمان بن بشير عند البزار.
أما اللغات: فالتعطيل مذهب قوم يذهبون إلى أن لا إله يعبد ولا جنة ولا نار، وقد ذهب بعض الدعاة لمذهب السلف في الصفات إلى إطلاق هذا على من يدعو لمذهب الخلف من الاولين.
والزندقة كلمة فارسية معربة، وهو مذهب المثنوية ووالواحد زنديق والجمع زنادقة، وكان مذهب قوم من قريش في الجاهلية، والثنوية يزعمون أن مع الله ثانيا تعالى الله عن ذلك قال الازهرى والذى يقول الناس زنديق، فإن أحمد بن يحيى زعم أن العرب لا تعرفه.
ويقال زندق وتزندق قال أبو حامد السجستاني الزنديق فارسي معرب أصله زنده كرد، أي يقول بدوام الدهر، وقال ثعلب ليس في كلام العرب، زنديق، وانما يقال زندقي لمن يكون شديد التحيل، وإذا أراد ما تريد العامة فالوا ملحد ودهرى (بفتح الدال) وإذا ضموها أرادوا كبر السن أما الاحكام فإن المرتد إذا أسلم ولم يقتل صح اسلامه، سواء كانت ردته إلى كفر مظاهر به أهله، كاليهودية والنصرانية وعبادة الاصنام، أو إلى كفر يستتر به أهله كالزندقة.
والزنديق هو الذى يظهر الاسلام ويبطن الكفر، فمتى قامت بينة أنه تكلم بما يكفر به فإنه يستتاب وإن تاب والا قتل.
فإن استتيب فتاب قبلت توبته،
وقال بعض الناس إذا أسلم المردت لم يحقن دمه بحال، لقوله صلى الله عليه وسلم

(19/232)


من يدل عينه فاقتلوه.
وهذا قد بدل.
وقال مالك وأحمد وإسحاق لا تقبل توبة الزنديق ولا يحقن دمه بذلك، وهو إحدى الروايتين عن أبى حنيفة، والرواية الاخرى كمذهبنا.
دليلنا قوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم إلى قوله تعالى فإن يتوبوا بك خيرا لهم) فأثبت لهم التوبة بعد الكفر بعد الاسلام وروى عمر وأبو بكر وأبو هريرة وأنس وَغَيْرِهِمْ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها) وهذا قد قالها.

(19/233)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن ارتد ثم أقام على الردة، فإن كان حرا كان قتله إلى الامام لانه قتل يجب لحق الله تعالى، فكان إلى الامام، كرجم الزانى، فإن قتله غيره بغير إذنه عزر لانه افتات على الامام، فإن كان عبدا ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز للمولى قتله لانه عقوبة تجب لحق الله تعالى فجاز للمولى إقامتها كحد الزنا.

(والثانى)
لا يجوز للمولى قتله لانه حق الله عز وجل لا يتصل بحق المولى فلم يكن للمولى فيه حق بخلاف حد الزنا فإنه يتصل بحقه في إصلاح ملكه (الشرح) من أسلم وعرف الاسلام إجمالا أو تفصيلا رجلا كان أو امرأة ثم انقلب عنه أو طعن فيه أو أنكر منه شيئا معروفا بالضرورة بين المسلمين
استنيب وبين له ما أشكل عليه من غير إمهال ولا انظار، فإن تاب والا قتل وأن يكون التنفيذ للامام وفى عصرنا الحاضر للحكومة ولا يجيز القانون الاسلامي أحدا غيرها أن يقيم الحد، فقد أجمعت فقهاء الامة على هذا، فإن اعترض معترض بقول الله تعالى (فاجلدوا) رد عليه بأن الاحكام جميعها من عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه الراشدين كانت تنفذ بأمرهم، ولما رواه البخاري من أنه بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، فلما قدم عليه ألقى له وسادة وإذا رجل موثق، فقال ما هذا؟ قال كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال لا أجلس حتى يقتل (قضاء الله ورسوله) ثلاث مرات، فأمر به فقتل، كما أنه حفاظا لكيان الدولة من أن يطغى أحد أفرادها على الآخر رجما بالغيب وافتئاتا على حقوق الآخرين، وقد توقفنا عن الكلام في اقامة السيد الحد على مملوكه ائتساءا بسلفنا ولما عرفناه في وقتنا الحاضر من أن تعاليم الاسلام محت الرق على مرور الزمن.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا ارتد وله مال ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه لا يزول ملكه عنه ماله، وهو اختيار المزني رحمه الله، لانه لم يوجد أكثر من سبب يبيح

(19/234)


الدم وهذا لا يوجب زوال الملك عن ماه، كما لو قتل أو زنى، والقول الثاني أنه يزول ملكه عن ماله، وهو الصحيح لما روى طارق به شهاب أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال لوقد بزاخة وغطفان: نغنم ما أصبنا منكم وتردون الينا ما أصبتم منا، ولانه عصم بالاسلام دمه ماله ثم ملك المسلمون دمه بالردة فوجب أن يملكوا ماله بالردة.
والقول الثالث أنه مراعى فإن أسلم حكمنا بأنه لم يزل ملكه وإن قتل أو مات على الردة حكمنا بأنه زال ملكه، لان ماله معتبر بدمه، ثم استباحة دمه موقوفة
على توبته فوجب أن يكون زوال ملكه عن المال موقوفا، وعلى هذا في ابتداء ملكه بالاصطياد، الابتياع وغيرهما، الاقوال الثلاثة، أحدها يملك، والثانى لا يملك، والثالث أنه مراعى.
فإن قلنا إن ملكه قد زال بالردة صار المال فيئا للمسلمين وأخذ إلى بيت المال.
وإن قلنا انه لا يزول أو مرعى حجر عليه ومنع من التصرف فيه، لانه تعلق به حق المسلمين وهو متهم في إضاعته، فحفظ كما يحفظ مال السفيه، وأما تصرفه في المال فإنه ان كان بعد الحجر لم يصح لانه حجر ثبت بالحاكم فمنع صحة التصرف فيه كالحجر على السفيه، وان كان قبل الحجر ففيه ثلاثة أقوال بناء على الاقوال في بقاء ملكه.
(أحدها) أنه يصح
(والثانى)
أنه لا يصح (والثالث) أنه موقوف
(فصل)
وان ارتد وعليه دين قضى من ماله لانه ليس بأكثر من موته، ولو مات قضيت ديونه فكذلك إذا ارتد (الشرح) أثر طارق بن شهاب أخرج بعضه البخاري وأخرجه البيهقى من حديث ابن اسحاق عن عاصم بن حمزة، وأخرجه البرقانى في مستخرجه على شرط البخاري بلفظ (عن طارق بن شهاب قال جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبى بكر يسألونه الصلح، فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية والكراع، ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا، وتدون قتلانا وتكون قتلاكم

(19/235)


في النار، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الا بل حتى يرى الله خليفة رسوله والمهاجرين والانصار أمرا يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب فقال قد رأيت رأيا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا
منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلت فقتلت على أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات، فتبايع القوم على ما قال عمر) اللغة (بزاخة) بالضم والخاء معجمة.
قال الاصمعي بزاخة ماء لطئ بأرض نجد.
وقال أبو عمرو الشيباني ماء لبنى أسد كانت فيه وقعة عظيمة في أيام أبى بكر الصديق مع طليحة بن خويلد الاسدي، وكان قد تنبأ بعد النبي صلى الله عليه وسلم انتهى من معجم البلدان.
(المجلية) قال في القاموس جلا القوم عن الموضع ومنه جلوا وجلاه وأجلوا تفرقوا أو جلا من الخوف وأجلى من الجدب، ويحتمل أن تكون بالخاء أي المهلكة، والمراد الحرب المفرقة لاهلها لشدة وقعها وتأثيرها (السلم المخزية) بالخاء المعجمة والزاى أي المذلة (الحلقة) بفتح الحاء المهملة وسكون اللام بعدها قاف، قال في القاموس الحلقة الدرع والخيل.
اه.
وقال في النهاية والحلفة بسكون اللام السلاح عاما وقيل الدروع خاصة.
(الكراع) الخيل.
قال في القاموس هو اسم لجميع الخيل (تدون قتلانا) قال في المختار وديت القتيل أدية دية، أعطيت دينه (يتبعون أذناب الابل) أي يمتهنون بخدمة الابل ورعيها والعمل بها لما في ذلك من الذلة الصغار.
اختلف الناس في ميراث المرتد، فقالت طائفة هو لورثته، لما روى أن على ابن أبى طالب قال (ميراث المرتد لولده) وعن الاعمش عن الشيباني قال أتى على بن أبى طالب بشيخ كان نصرانيا فأسلم ثم ارتد عن الاسلام، فقال له على لعلك إنما ارتددت لان تصيب ميراثا ثم ترجع إلى الاسلام؟ قال لا.
قال

(19/236)


فلعلك خطبت امرأة فأ بوا أن يزوجوكها فأردت أن تتزوجها ثم تعود إلى الاسلام قال لا قال فارجع إلى الاسلام؟ قال لا حتى ألقى المسيح، فأمر به فضربت عنقه، فدفع ميراثه إلى ولده، من المسلمين.
وعن ابن مسعود مثله، وبهذا قال الليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وقال الاوزاعي إن قتل في أرض السلام فماله لورثته من المسلمين.
وقالت طائفة ان كان له وارث على دينه فهو أحق به وإلا فماله لورثته من المسلمين لما روى أن عمر بن عبد العزيز كتب في رجل من المسلمين أسر فتنصر، إذا علم ذلك ترث منه امرأته وتعتد ثلاثة قروء ودفع ماله إلى ورثته من المسلمين، لا أعلمه قال إلا أن يكون له وارث على دينه في أرض فهو أحق به.
وقالت طائفة ميراث لاهل دينه فقط، لما روى عن قتادة قال (ميراث المرتد لاهله) وقال ابن جريج الناس فريقان، منهم من يقول ميراث المرتد للمسلمين، لانه ساعة يكفر يوقف فلا يقدر منه على شئ حتى ينظر أيسلم أم يكفر، منهم النخعي والشعبى والحكم بن عتيبة، وفريق يقول لاهل دينه وقالت طائفة إن راجع الاسلام فماله له، وإن قتل فماله لبيت مال المسلمين لا لورثته من الكفار، قال بهذا ربيعة ومالك وابن أبى ليلى والشافعي.
وقالت طائفة إن راجع الاسلام فماله له، وان قتل فماله لورثته من الكفار، قال بهذا أبو سليمان، وقال أبو حنيفة وأصحابه إن قتل المرتد فماله لورثته من المسلمين وترثه زوجته كسائر ورثته، وأن فر ولحق بأرض الحرب وترك ماله عندنا فإن القاضى يقضى بذلك ويعتق أمهات أولاده ومدبره ويقسم ماله بين ورثته من المسلمين على كتاب الله تعالى، فإن جاء مسلما أخذ من ماله ما وجد في أيدى ورثته ولا ضمان عليهم فيما استهلكوه، هذا فيما كان بيده قبل الردة، وأما ما
اكتسبه في حال ردته ثم قتل أو مات فهو فئ للمسلمين.
وقالت طائفة مال المرتد ساعة يرتد لجميع المسلمين قتل أو مات أو لحق بأرض الحرب أو راجع الاسلام، كل ذلك سواء، وهو قول بعض أصحاب مالك وقال ابن حزم لا يرث المسلم الكافر، مستندا إلى الحديث الذى رواه أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)

(19/237)


وعلى هذا فلا يرث ولد المرتد وهم مسلمون مال أبيهم المرتد لانه كافر، أما قضاء دينه فقالت الحنبلية في كتاب الفروع يقضى دينه وينفق على من تلزمه نفقته.
وقال ابن حزم كل وصية أوصى بها قبل ردته بما يوافق البر ودين الاسلام فكل ذلك نافذ في ماله الذى لم يقدر عليه حتى قتل لانه ماله وحكمه نافذ، فإذا قتل أو مات فقد وجبت فيه وصاياه بموته قيل أن يقدر على ذلك المال.
وأما إذا قدرنا عليه قبل موته من عبد وذمى أو مال فهو للمسلمين كله لا تنفذ فيه وصية، لانه إذا وجبت الوصية بموته لم يكن ذلك المال له بعد، ولا تنفذ وصية أحد فيما لا يملكه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولايجوز استرقاقه لانه لا يجوز إقراره على الكفر، فإن ارتد وله ولد أو حمل كان محكوما بإسلامه فاذإ بلغ ووصف الكفر قتل.
وقال أبو العباس فيه قول آخر انه لا يقتل، لان الشافعي رحمه الله قال ولو بلغ فقتله قاتل قبل أن يصف الاسلام لم يجب عليه القود، والمذهب الاول لانه محكوم بإسلامه وإنما أسقط الشافعي رحمه الله القود بعد البلوغ للشبهة هو أنه بلغ ولم يصف الاسلام، ولهذا لو قتل قبل البلوغ وجب القود، وإن ولد له ولد بعد الردة من ذمية فهو كافر لانه ولد بين كافرين، وهو يجوز استرقاقه؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يجوز لانه لا يسترق أبواه فلم يسترق

(والثانى)
لانه كافر ولد بين كافرين فجاز استرقاقه كولد الحربيين، فإن قلنا لا يجوز استرقاقه استتيب بعد البلوغ فإن تاب وإلا قتل، وان قلنا يجوز استرقاقه فوقع في الاسر فللامام أن يمن عليه، وله أن يفادى به، وله أن يسترقه كولد الحربيين، غير أنه إذا استرقه لم يجز إقراره على الكفر، لانه دخل في الكفر بعد نزول القرآن.

(فصل)
وإن ارتدت طائفة وامتنعت بمنعة وجب على الامام قتالها، لان أبا بكر الصديق رضى الله عنه قاتل المرتدة، ويتبع في الحرب مدبرهم ويذفف على جريحهم، لانه إذا وجب ذلك في قتال أهل الحرب فلان يجب ذلك في قتال

(19/238)


المرتدة وكفرهم أغلظ أولى، وان أخذ منهم أسير استتيب فإن تاب وإلا قتل لانه لا يجوز إقراره على الكفر
(فصل)
ومن أتلف منهم نفسا أو مالا على مسلم، فإن كان ذلك في غير القتال وجب عليه ضمانه، لانه التزم ذلك بالاقرار بالاسلام فلم يسقط عنه بالجحود كما لا يسقط عنه ما التزمه بالاقرار عند الحاكم بالجحود، فان أتلف ذلك في حال القتال ففيه طريقان
(أحدهما)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى وغيره من البغداديين أنه على قولين كما قلنا في أهل البغى
(والثانى)
وهو قول القاضى أبى حامد المروروذى وغيره من البصريين أنه يجب عليه الضمان قولا واحدا لانه لا ينفذ قضاء قاضيهم لكان حكمهم في الضمان حكم قاطع الطريق، والاول هو الصحيح أنه على قولين أصحهما أنه لا يجب الضمان لما روى طارق بن شهاب قال جاء وقد بزاخة وغطفان إلى أبى بكر يسألونه الصلح فقال تدون قتلانا وقتلاكم في النار، فقال عمر إن قتلانا قتلوا على أمر الله ليس
لهم ديات، فتفرق الناس على قول عمر رضى الله عنه (الشرح) أثر طارق بن شهاب سبق الكلام عليه (ذفف) قال في القاموسى ذف على الجريح ذفا وذفافا ككتاب وذففا محركة أجهز والاسم الذفاف كسحاب، قال في مادة جهاز وجهز على الجريح كمنع، وأجهز أثبت قتله وأسرعه وتمم عليه، وموت مجهز وجهيز سريع.
اه نقل الحافظ بن حجر في تلخيص الحبير أن حديث (أم محمد بن الحنفية كانت مرتدة فاسترقها على واستولدها) الواقدي في كتاب الردة من حديث خالد بن الوليد أنه قسم سهم بنى حنيفة خمسة أجزاء وقسم على الناس أربعة وعزل الخمس حتى قدم به على أبى بكر.
ثم ذكر من عدة طرق أن الحنفية كانت من ذلك السبى، ثم قال الحافظ قلت وروينا في جزء ابن لِمُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الحنفية في بيت فاطمة فأخر عليا أنها ستصير له وأنه لود له منها ولد اسمه محمد، وقد ثبت فيه

(19/239)


في صحيح البخاري في باب أهل الدار من كتاب الجهاد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أولاد المشركين هل يقتلون مع آبائهم؟ فقال هم منهم وقال الحافظ في الفتح: ليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يكن الوصلو إلى الآباء إلا بوطئ الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم.
وقد ذهب مالك والاوزاعي إلى أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم.
وذهب الكوفيون والشافعيون أنه إذا قاتلت المرأة جاز قتلها، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث رباح بن الربيع التميمي قَالَ (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة فرأى الناس مجتمعين فرأى
امرأة مقتولة فقال ما كانت هذه لتقاتل) فان مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت وأما مقاتلة أهل الردة فقد ثبت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فإذا قالوها عصموا دماءهم، أموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) رواه الجماعة، ولاجماع الصحابة على غزوز المرتدين في عهد الخليفة الاول
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وللسحر حقيقة وله تأثى في إيلام الجسم وإتلافه، وقال أبو جعفر الاستراباذى من أصحابنا لا حقيقة له ولا تأثير له، والمذهب الاول لقوله تعالى (وكمن شر النفاثات في العقد) والنفاثات السواحر، ولو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر بالاستعاذة من شره وروت عائشة رضى الله عنها قالت سحر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أنه ليخيل إليه أنه قد فعل الشئ وما فعله، ويحرم فعله لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (ليس منا من سحر أو سحر له، وليس منا من تكهن أو تكهن له، وليس منا من تطير أو تطير له) ويحرم تعلمه لقوله تعالى (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) فذمهم على تعليمه، ولان تعلمه يدعو إلى فعله، وفعله محرم فحرم ما يدعو إليه

(19/240)


فإن علم أو نعلم واعتقد تحريمه لم يكفر، لانه إذا لم يكفر يتعلم الكفر فلان لا يكفر بتعلم السحر أولى، وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه فقد كفر، لانه كذب الله تعالى في خبره ويقتل كما يقتل المرتد (الشرح) لقوله تعالى (ومن شر النفاثات في العقد..الخ) روى النسائي عن عقبة بن عامر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (إن
الناس لم بتعوذوا بمثل هذين) قل أعوذ برب الفلق و (قل أعوذ برب الناس) وطريق أخرى عنه قا ل: كنت أمشى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا عقبة قل.
قلت ماذا أقول، فسكت عنى ثم قال قل.
قلت ماذا أقول يا رسول الله قال (قل أعوذ برب الفلق) فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك (ما سأل سائل بمثلها ولا استعاذ مستعيذ بمثلها) ومن طريق ثالث عن أبى عبد الله بن عابس الجهنى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ له (يا ابن عابس ألا أدلك أو ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون) قال بلى يا رسول الله قال (قل أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ هاتان السورتان) ومن طريق رابع عن عبد الله الاسلمي هو ابن أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع يده على صدره ثم قال قل، فلم أدر ما أقول، ثم قال لى (قل) قلت (هو الله أحد) ثم قال لى قل قلت (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) حتى فرغت منها، ثم قال لى قل قلت (أعوذ برب الناس) حتى فرغت مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هكذا فتعوذوا، وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط) وقال الامام مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث فيهما، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه بالمعوذات وأمسح بيده عليه رجاء بركتها) ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبى والنسائي عن قتيبة وابن ماجه من حديث معن وبشر بن عمر ثمانيتهم عن مالك به

(19/241)


حديث عائشة رواه البخاري في كتاب الطب لفظ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن.
قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا، فقال يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتانى فيما استفتيته فيه أتانى رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلى، فقال الذى عند رأسي للآخر ما بال الرجل، قال مطبوب، قال ومن طبه؟ قال لبيد بن أعصم رجل من بنى زريق حليف اليهود كان منافقا، قال وفيم؟ قال في مشط ومشاطه، قال وأبن قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئرذروان) قالت فأتى البئر حتى استخرجه فقال (هذه بئر التى أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رءوس الشياطين، قال فاستخرج فقلت أفلا نشرت؟ فقال (أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا.
وفى رواية قالت: حتى كان بخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله وعنده فأمر بالبئر فدفنت.
وروى مسلم وأحمد عنها قالت لبث النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يرى أنه يأتي ولا يأتي فأتاه ملكان.
وذكر تمام الحديث.
وقال ابن جرير ان جبريل جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال اشتكيت يا محمد؟ فقال نعم، فقال باسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك، ومن شر كل حامد وعين والله يشفيك.
وقال المفسر الثعلبي، قال ابن عباس وعائشة رضى الله عنهما كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وكان الذى تولى ذلك رجل منهم يقال له ابن أعصم ثم دسها في بئر لبنى زريق يقال له ذروان فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن وجعل يذوب ولا يدرى ما عراه، فبينما هو نائم إذا أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذى عند
رجليه للذى عند رأسه ما بال الرجل؟ قال طب، قال وما طب؟ قال سحر، قال ومن سحره؟ قال لبيد بن الاعصم اليهودي، قال وبم طبه؟ قال بمشط ومشاطة، قال وأين هو؟ قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان

(19/242)


والجف قشر الطلع والراعوفة حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح، فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعورا وقال يا عائشة أما شعرت أن الله أخبرني بدائى.
ثم بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود فيه إثنا عشر عقدة مغروزة بالابر، فأنزل الله تعالى السورتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الاخيرة، فقام كأنما نشط من عقال وجعل جبريل عليه السلام يقول باسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من حاسد وعين الله يشفيك، فقالوا يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث نقتله؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن يثير على الناس شرا.
قال ابن كثير هكذا أورده بلا إسناد وفيه غرابة وفى بعضه نكارة شديدة ولبعضه شواهد (قلت) وأكتفى بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول صلى الله عليه وسلم (تنبيه) قال الشهاب نقل في التأويلات عن أبى بكر الاصم انه قال: ان حديث سحره صلى الله عليه وسلم المروى هنا متروك لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه، ونقل الرازي عن القاضى أنه قال: هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها، والله تعالى يقول (والله يعصمك من الناس) المائدة الآية 67 وقال (ولا يفلح الساحر حيث أتى) طه آية 69، ولان تجويزه يفضى إلى القدح في النبوة ولانه
لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الانبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لانفسهم، وكل ذلك باطل، ولكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوى ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب، ومعلوم أن ذلك غير جائز.
اه ويقول القاسمي في محاسن التأويل: ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه، وان كان مخرجا في الصحاح، وذلك لانه ليس كل مخرج فيها سالما من النقد سندا أو معنى كما يعرفه الراسخون، على ان المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عبد الصحابة.

(19/243)


وقال الغزالي في المستصفى: ما من أحد من الصحابة إلا وقدرد خبر الآحاد كرد على رضى الله عنه خبر أبى سنان الاشجعى في قصة (بروع بنت واشق) وأورد أمثلة.
وقال الامام ابن تيمية في المسودة: الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده لاعتقاد غلط الناقل أو كذبه لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الاخبار التى هي صحيحة عند أهل الحديث.
اه وقال العلامة الفنارى في فصول البدائع: ولا يضلل جاحد الاحاد (قلت) والبحث في هذا الحديث شهير قديما وحديثا وقد أوسع المقال فيه شراح (الصيحح) وابن قتيبة في شرح (تأويل مختلف الحديث) والرازي، والحق لا يخفى على طالبه.
والله أعلم (1) .
حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في الاوسط وفيه زمعة بن صالح عن سلمة
ابن وهرام وهما ضعيفان، وأخرجه الطبراني من طريق آخر عن عمران بن حصين وفيه اسحاق بن الربيع ضعفه الفلاس والرواى عنه أيضالين، وأخرجه أبو نعيم عن على بن أبى طالب وفيه مختار بن غسان مجهول الآية (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) البقرة الآية 102
__________
(1) هذا ما كتبه الاسناد السارح، ولكن الناشر يرى أن كل ما ورد في الصحيحين صحيح، وأن ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من السحر انما هو نوع من المرض، وقد أصيب صلى الله عليه وسلم بالحمى وغيرها، والمسألة خلافية، وقد رأيت بعض الاحاديث في مسلم كانت في نظرى تتعارض مع بعض الآيات، ولكن مع مرور الايام وسعة الاطلاع والبحث، وقفت على شروح للاحاديث توفق بينها وبين الايات مما زادني ثباتا على رأيى أن كل ما في الصحيحين صحيح.

(19/244)


معنى السحر في اللغة: وهو مشتق من سحرت الصبى إذا خدعته، وقيل أصله الخفا، فإن الساحر يفعله خفية، وقيل أصله الصرف لان السحر مصروف عن جهته، وقيل أصله الاستمالة، لان من سحرك استمالك، وقال الجوهرى السحر الاخذة وكل ما لطف ودق فهو سحر والساحر العالم وقد وافق أبو جعفر الاستراباذى المعتزلة والحنفية فقالوا انه خداع لا أصل له ولا حقيقة، وإذا أردت الاستزادة فارجع إلى كتاب أحكام القرآن للجصاص وكتب المعتزلة ترى فصلا ضافيا عن هذا الموضوع، وذهب من عداهم أن له حقيقة مؤثرة.
(قلت) كنت أود أن أطيل في هذا الموضوع شرحا وتنقيبا مع تصحيح وتضعيف وتقوية للآراء الصحيحة، إلا أن الكتاب كتاب فقه لا يحتمل
أكثر من هذا.
وقال تقى الدين السبكى في فتاويه ((أما مذهب الشافعي فحاصله أن الساحر له ثلاثة أحوال، حال يقتل كافرا، وحال يقتل قصاصا، وحال لا يقتل أصلا بل يعزر.
أما الحالة التى يقتل فيها كفرا فقال الشافعي رحمه الله أن يعمل بسحره ما يبلغ الكفر، وشرح أصحابه ذلك بثلاثة أمثلة (أحدها) أن يتكلم بكلام وهو كفر ولاشك في أن ذلك موجب القتل، ومتى تاب منه قبلت توبته وسقط عنه القتل، وهو يثبت بالاقرار والبينة (المثال الثاني) أن يعتقد ما اعتقده من التقريب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل بأنفسها فيجب عليه أيضا القتل، كما حكاه ابن الصباغ وتقبل توبته، ولا يثبت هذا القسم إلا بالاقرار.
(المثال الثالث) أن يعتقد أنه حق يقدر به على قلب الاعيان فيجب عليه القتل، كما قاله القاضى حسين والماوردي، ولا يثبت ذلك أيضا الا بالاقرار، وإذا تاب قبلت توبته وسقط عنه القتل.
وأما الحالة التى يقتل فيها قصاصا، فإذا اعترف أنه قتل بسحره إنسانا فكما قاله انه مات به وان سحره يقتل غالبا فها هنا يقتل قصاصا ولا يثبت هذه الحالة إلا الاقرار ولا يسقط القصاص بالتوبة.

(19/245)


وأما الحالة التى لا يقتل فيها أصلا ولكن يعزر فهى ما عدا ذلك.
ودليل الشافعي قوله صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثلاث..إلخ) قلت القتل في الحالة الاولى بقوله كفر بعد إيمان، وفى الحالة الثالثة بقوله وقتل نفس بغير نفس، وامتنع في الثانية لانها ليست بإحدى الثلاث فلا يحل دمه فيها عملا بصدر الحديث.
وأما الاحاديث فلم يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها شئ يقتضى القتل.
وورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال (حد الساحر ضربه بالسيف) وضعف الترمذي إسناده وقال الصحيح أنه عن جندب موقوف، يعنى فيكون قول صحابي.
اه وأقول في إسناد هذا الحديث اسماعيل بن مكى وهو ضعيف.
وقالت الحنابلة في كتاب الفروع ويكفر الساحر كاعتقاد حله، وعنه اختاره ابن عقيل وجزم به في البصرة، وكفره أبو بكر بعمله.
وقال في الترغيب وهو أشد تحريما، وحمل ابن عقيل كلام أحمد في كفره على معتقده وإن فاعله يفسق ويقتل حدا.
وفى عيون المسائل إن الساحر يكفر، وهل تقبل توبته؟ على روايتين.
انتهى.
قال في المسوى شرح الموطأ، السحر كبيرة واتفقت المالكية على قتل الساحر، واستدل الموجبون للقتل بما في صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر فقتلنا ثلاث سواحر) وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت، رواه مالك في الموطأ، ولعفوه صلى الله عليه وسلم عمن سحروه (؟ سق تخريجه) قال تقى الدين السبكى في فتاويه وحمل الشافعي ما روى عن عمر وحفصة على السحر الذى فيه كفر، وما يقال عن عائشة أنها باعت جارية لها سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب.
على السحر الذى ليس فيه كفر توفيقا بين الاثار، واعتمد في ذلك حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) ومن المعلوم أن الصحابة إذا اختلفوا وجب اتباع اشبههم قولا بالكتاب والسنة وقد سئل الزهري شيخ مالك أعلى من سحر من أهل العهد قتل؟ قال قد بلغنا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صنع له ذلك فلم يقتل من صنعه، وكان من أهل الكتاب

(19/246)