المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الأقضية

(باب ولاية القضاء وأدب القاضى)

القضاء فرض على الكفاية، والدليل عليه قوله عز وجل (يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق) وقوله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ولان النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين الناس، وبعث عليا كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس، ولان الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم حكموا بين الناس، وبعث عمر رضى الله عنه أبا موسى الاشعري إلى البصرة قاضيا، وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيا، ولان الظلم في الطباع فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحد تعين عليه ويلزمه طلبه وإذا امتنع أجبر عليه، لان
الكفاية لا تحصل إلا به، فإن كان هناك من يصلح له غيره نظرت، فإن كان حاملا وإذا ولى القضاء انتشر علمه استحب أن يطلبه لما يحصل به من المنفعة بنشر العلم وإن كان مشهورا، فإن كانت له كفاية كرة له الدخول فيه، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين، ولانه يلزمه بالقضاء حفظ الامانات وربما عجز عنه وقصر فيه فكره له الدخول فيه، وإن كان فقيرا يرجو بالقضاء كفاية من بين المال لم يكره له الدخول فيه، لانه

(20/125)


يكتسب كفاية بسبب مباح، وإن كان جماعة يصلحون للقضاء اختار الامام أفضلهم وأورعهم وقلده، فإن اختار غيره جاز لانه تحصل به الكفاية، وإن امتنعوا من الدخول فيه أثموا لانه حق وجب عليهم فأثموا بتركه كالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهل يجوز للامام ان يجبر واحدا منهم على الدخول فيه ام لا فيه وجهان:
(أحدهما)
أنه ليس له إجباره لانه فرض على الكفاية، فلو أجبرناه عليه تعين عليه
(والثانى)
أن له إجباره لانه إذا لم يجبر بقى الناس بلا قاض وضاعت الحقوق وذلك لا يجوز.

(فصل)
ومن تعين عليه القضاء وهو في كفاية لم يجز أن يأخذ عليه رزقا لانه فرض تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه مالا من غير ضرورة، فإن لم يكن له كفاية فله أن يأخذ الرزق عليه، لان القضاء لا بد منه والكفاية لا بد منها فجاز أن يأخذ عليه الرزق، فإن لم يتعين عليه فإن كانت له كفاية كره أن يأخذ عليه الرزق لانه قربة فكره أخذ الرزق عليها من غير حاجة، فإن أخذ جاز لانه لم يتعين عليه، وان لم يكن له كفاية لم يكره أن يأخذ عليه الرزق، لان أبا بكر الصديق رضى الله عنه لما ولى خرج برزمة إلى السوق، فقيل ما هذا؟ فقال أنا
كاسب أهلى فأجروا له كل يوم درهمين.
وعن عمر رضى الله عنه أنه قال: أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة ولى اليتيم ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف، وبعث عمر رضى الله عنه إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا وعبد الله بن مسعود قاضيا وعثمان بن حنيف ماسحا وفرض لهم كل يوم شاة.
نصفها وأطرافها لعمار والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان، ولانه لما جاز للعامل على الصدقات أن يأخذ مالا على العمالة جاز للقاضى أن يأخذ على القضاء، ويدفع إليه مع رزقه شئ للقرطاس، لانه يحتاج إليه لكتب المحاضر ويعطى لمن على بابه من الاجرياء لانه يحتاج إليهم لاحضار الخصوم، كما يعطى من يحتاج إليه العامل على الصدقات من العرفاء ويكون ذلك من سهم المصالح لانه من المصالح.

(فصل)
ولا يجوز أن يكون القاضى كافرا ولا فاسقا ولا عبدا ولا صغيرا

(20/126)


ولا معتوها، لانه إذا لم يجز أن يكون واحد من هؤلاء شاهدا فلان لا يجوز أن يكون قاضيا أولى، ولا يجوز أن يكون امرأة لقوله صلى الله عليه وسلم: ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، ولانه لا بد للقاضى من مجالسة الرجل من الفقهاء والشهود والخصوم والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجل لما يخاف عليهم من الافتتان بها ولا يجوز أن يكون أعمى لانه لا يعرف الخصوم والشهود، وفى الاخرس الذى يفهم الاشارة وجهان كالوجهين في شهادته، ولا يجوز أن يكون جاهلا بطرق الاحكام لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وقاض في الجنة، فأما الذى في الجنة فرجل عرف الحق فحكم به فهو في الجنة، وأما اللذان في النار فرجل عرف الحق فجار في حكمه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ولانه إذا لم يجز أن يفتى الناس وهو
لا يلزمهم الحكم، فلان لا يجوز أن لا يقضى بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى، ويكره أن يكون القاضى جبارا عسوفا، وأن يكون ضعيفا مهينا، لان الجبار يهابه الخصم فلا يتمكن من استيفاء حجته، والضعيف يطمع فيه الخصم ويتشط عليه، ولهذا قال بعض السلف وجدنا هذا الامر لا يصلحه الا شدة من غير عنف ولين من غير ضعف.

(فصل)
ولا يجوز ولاية القضاء الا بتولية الامام أو تولية من فوض إليه الامام لانه من المصالح العظام فلا يجوز الا من جهة الامام، فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح أن يكون حاكما ليحكم بينهما جاز، لانه تحاكم عمر وأبى بن كعب إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم واختلف قوله في الذى يلزم به حكمه، فقال في أحد القولين لا يلزم الحكم إلا بتراضيهما بعد الحكم وهو قول المزني رحمه الله تعالى، لانا لو ألزمناهما حكمه كان ذلك عزلا للقضاة وافتياتا على الامام، ولانه لما اعتبر تراضيهما في الحكم اعتبر رضاهما في لزوم الحكم.
والثانى أنه يلزم بنفس الحكم، لان من جاز حكمه لزم حكمه كالقاضي الذى ولاه الامام، واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فمنهم من قال يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان كما يجوز حكم القاضى الذى ولاه الامام، ومنهم من قال يجوز في الاموال، فأما في النكاح والقصاص واللعان وحد القذف فلا يجوز

(20/127)


فيها التحكيم لانها حقوق بنيت على الاحتياط فلم يجز فيها التحكيم.

(فصل)
ويجوز أن يجعل قضاء بلد إلى اثنين وأكثر على أن يحكم كل واحد منهم في موضع ويجوز أن يجعل إلى أحدهما القضاء في حق وإلى الآخر في حق آخر وإلى أحدهما في زمان والى الآخر في زمان آخر لانه نيابة عن الامام فكان على حسب الاستنابة، وهل يجوز أن يجعل اليهما القضاء في مكان واحد في حق واحد
وزمان واحد فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز لانه نيابة فجاز أن يجعل إلى اثنين كالوكالة.
والثانى أنه لا يجوز لانهما قد يختلفان في الحكم فتقف الحكومة ولا تنقطع الخصومة.

(فصل)
ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقوله عز وجل (فاحكم بين الناس بالحق) والحق ما دل عليه الدليل، وذلك لا يتعين في مذهب بعينه فإن قلد على هذا الشرط بطلت التولية لانه علقها على شرط، وقد بطل الشرط فبطلت التولية.

(فصل)
وإذا ولى القضاء على بلد كتب له العهد بما ولى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن وكتب أبو بكر الصديق رضى الله عنه لانس حين بعثه إلى البحرين كتابا وختمه بخاتم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى حارثة ابن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة: أما بعد فإنى بعثت اليكم عمارا أميرا وعبد الله قاضيا ووزيرا، فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بهما، فإن كان البلد الذى ولاه بعيدا أشهد له على التولية شاهدين ليثبت بهما التولية، وان كان قريبا بحيث يتصل به الخبر في التولية فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه يجب الاشهاد لانه عقد فلا يثبت بالاستفاضة كالبيع
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه لا يجب الاشهاد لانه يثبت بالاستفاضة فلا يفتقر إلى الاشهاد والمستحب للقاضى أن يسأل عن أمناء البلد ومن فيه من العلماء، لانه لا بد له منهم فاستحب تقدم العلم بهم.
والمستحب أن يدخل البلد يوم الاثنين، لان النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الاثنين، والمستحب أن ينزل وسط البلد ليتساوى الناس كلهم في القرب منه ويجمع الناس ويقرأ عليهم العهد ليعلموا التولية وما فرض إليه.

(20/128)


(فصل)
فإذا أذن له من ولاه أن يستخلف فله أن يستخلف، وإن نهاه عن الاستخلاف لم يجز له أن يستخلف لانه نائب عنه فتبع أمره ونهيه، وإن لم يأذن له ولم ينهه نظرت فإن كان ما تقلده يقدر أن يقضى فيه بنفسه ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه يجوز أن يستخلف لانه ينظر في المصالح فجاز أن ينظر بنفسه وبغيره
(والثانى)
وهو المذهب انه لا يجوز لان الذى ولاه لم يرض بنظر غيره، وإن كان ما ولاه لا يقدر أن يقضى فيه بنفسه لكثرته جاز أن يستخلف فيما لا يقدر عليه، لان تقليده لما لا يقدر عليه بنفسه إذن له في الاستخلاف فيما لا يقدر عليه كما أن توكيل الوكيل فيما لا يقدر عليه بنفسه إذن له في استنابة غيره، وهل له ان يستخلف فيما يقدر عليه ان يقضى فيه بنفسه فيه وجهان
(أحدهما)
أن له ذلك لان ما جاز له أن يستخلف في البعض جاز أن يستخلف في الجميع كالامام
(والثانى)
أنه لا يجوز لانه انما أجيز له أن يستخلف فيما لا يقدر عليه للعجز فوجب أن يكون مقصورا على ما عجز عنه.

(فصل)
ولا يجوز أن يقضى ولا يولى ولا يسمع البينة ولا يكاتب قاضيا في حكم في غير عمله، فإن فعل شيئا من ذلك في غير عمله لم يعتد به لانه لا ولاية له في غير عمله فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الرعية.

(فصل)
ولا يحكم لنفسه وإن اتفقت له حكومة مع خصم تحاكما فيها إلى خليفة له لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تحاكم مع أبى بن كعب إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان رضى الله عنه مع طلحة إلى جبير بن مطعم، وتحاكم على عليه السلام مع يهودى في درع إلى شريح، ولانه لا يجوز أن يكون شاهدا لنفسه فلا يجوز أن يكون حاكما لنفسه ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وان سفل وقال أبو ثور يجوز، وهذا خطأ لانه متهم في الحكم لهما كما يتهم في الحكم لنفسه وان تحاكم إليه والده مع ولده فحكم لاحدهما فقد قال بعض أصحابنا انه يحتمل وجهين

(أحدهما)
أنه لا يجوز كما لا يجوز إذا حكم له مع أجنبي
(والثانى)
أنه يجوز لانهما استويا في التعصيب فارتفعت عنه تهمة الميل، وان أراد أن يستخلف في أعماله والده وولده جاز لانهما يجريان مجرى نفسه، ثم يجوز أن يحكم في أعماله فجاز أن يستخلفهما للحكم في أعماله، وأما إذا فوض الامام إلى رجل ان يختار

(20/129)


قاضيا لم يجز أن يختار والده أو ولده لانه لا يجوز أن يختار نفسه فلا يجوز أن يختار والده أو ولده.

(فصل)
ولا يجوز أن يرتشى على الحكم لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لعن الله الراشى والمرتشي في الحكم، ولانه أخذ مال على حرام فكان حرام كمهر البغى، ولا يقبل هدية ممن لم يكن له عادة أن يهدى إليه قبل الولاية لما روى أبو حميد الساعدي قال: استعمل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا من بنى أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدى إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدى إلي: ألا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدى إليه أم لا، والذى نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا الا جاء يوم القيامة يحملة على رقبته، فدل على أن ما أهدى إليه بعد الولاية لا يجوز قبوله، وأما من كانت له عادة بأن يهدى إليه قبل الولاية برحم أو مودة فإنه ان كانت له في الحال حكومة لم يجز قبولها منه لانه لا يأخذ في حال يتهم فيه وإن لم يكن له حكومة فإن كان أكثر مما كان يهدى إليه أو أرفع منه لم يجز له قبولها لان الزيادة حدث بالولاية، وان لم يكن أكثر ولا أرفع مما كان يهدى إليه جاز قبولها لخروجها عن تسبب الولاية والاولى أن لا يقبل لجواز أن يكون قد أهدى إليه لحكومة منتظرة.

(فصل)
ويجوز أن يحضر الولائم لان الاجابة إلى وليمة غير العرس مستحبة
وفى وليمة العرس وجهان
(أحدهما)
أنها فرض على الاعيان
(والثانى)
أنها فرض على الكفاية، ولا يخص في الاجابة قوما دون قوم لان في تخصيص بعضهم ميلا وتركا للعدل، فإن كثرت عليه وقطعته عن الحكم ترك الحضور في حق الجميع لان الاجابة إلى الوليمة اما أن تكون سنة أو فرضا على الكفاية أو فرضا على الاعيان الا أنه لا يستضر بتركها جميع المسلمين والقضاء فرض عليه ويستضر بتركه جميع المسلمين فوجب تقديم القضاء.

(فصل)
ويجوز أن يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتى مقدم الغائب لقوله صلى الله عليه وسلم: عائد المريض في مخرف من مخارف الجنة حتى يرجع وعاد النبي صلى الله عليه وسلم سعدا وجابرا وعاد غلاما يهوديا في جواره وعرض عليه الاسلام

(20/130)


فأجاب، وكان يصلى على الجنائز فإن كثرت عليه أتى من ذلك ما لا يقطعه عن الحكم، والفرق بينه وبين حضور الولائم حيث قلنا انها إذا كثرت عليه ترك الجميع أن الحضور في الولائم لحق أصحابها فإذا حضر عند بعضهم كان ذلك للميل إلى من يحضره، والحضور في هذه الاشياء لطلب الثواب لنفسه فلم يترك ما قدر عليه
(فصل)
ويكره أن يباشر البيع والشرع بنفسه لما روى أبو الأسود المالكى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا، وقال شريح: شرط على عمر رضى الله عنه حين ولانى القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أرتشى ولا أقضى وأنا غضبان، ولانه إذا باشر ذلك بنفسه لم يؤمن أن يحابى فيميل إلى من حاباه، فإن احتاج إلى البيع والشراء وكل من ينوب عنه ولا يكون معروفا به، فان عرف أنه وكيله استبدل بمن لا يعرف به حتى لا يحابى فتعود المحاباة إليه، فان لم يجد من ينوب عنه تولى بنفسه، لانه لا بد له منه، فإذا وقعت لمن بايعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه
لانه إذا تولى الحكم بنفسه لم يؤمن أن يميل إليه.

(فصل)
ولا يقضى في حال الغضب ولا في حال الجوع والعطش ولا في حال الحزن والفرح، ولا يقضى والنعاس يغلبه ولا يقضى والمرض يقلقه ولا يقضى وهو بدافع الاخبثين ولا يقضى وهو في حر مزعج ولا في رد مؤلم لما روى أبو بَكْرَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا ينبغى للقاضى أن يقضى بين اثنين وهو غضبان وروى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يقضى القاضى إلا وهو شبعان ريان، ولان في هذه الاحوال يشتغل قبله فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم، وان حكم في هذه الاحوال صح حكمه لان الزبير ورجلا من الانصار اختصما إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شراج الحرة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الانصاري: وأن كان ابن عمتك يا رسول الله فغضب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احمر وجهه، ثم قال للزبير اسق زرعك والحبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم أرسله إلى جارك فحكم في حال الغضب.

(20/131)


(فصل)
والمستحب أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد ولا يحتجب من غير عذر، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من ولى من أمر الناس شيئا فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون فاقته وفقره والمستحب أن يكون المجلس فسيحا حتى لا يتأذى بضيقه الخصوم ولا يزاحم فيه الشيخ والعجوز وأن يكون موضعا لا يتأذى فيه بحر أو برد أو دخان أو رائحة منتنة، لان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الاشعري رضى الله عنه وإياك والقلق والضجر، وهذه الاشياء تفضى إلى الضجر وتمنع الحاكم من التوفر على الاجتهاد وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة فإن حكم مع هذه الاحوال صح الحكم كما يصح في حال الغضب، ويكره أن يجلس للقضاء في المسجد لِمَا رَوَى
مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسل سيوفكم وشراءكم وبيعكم، ولان الخصومة يحضرها اللغط والسفه فينزه المسجد عن ذلك، ولانه قد يكون الخصم جنبا أو حائضا فلا يمكنه المقام في المسجد للخصومة، فإن جلس في المسجد لغير الحكم فحضر خصمان لم يكره أن يحكم بينهما، لما روى الحسن البصري قال: دخلت المسجد فرأيت عثمان رضى الله عنه قد ألقى رداءه ونام فأتاه سقاء بقربة ومعه خصم فجلس عثمان وقضى بينهما، وإن جلس في البيت لغير الحكم فحضره خصمان لم يكره أن يحكم بينهما، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت اختصم إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلان من الانصار في مواريث متقادمة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في بيتى.

(فصل)
وان احتاج إلى أجرياء لاحضار الخصوم اتخذ أجرياء أمناء ويوصيهم بالرفق بالخصوم، ويكره أن يتخذ حاجبا، لانه لا يومن أن يمنع من له ظلامة أو يقدم خصما على خصم، فان دعت الحاجة إلى ذلك اتخذ أمينا بعيدا من الطمع ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق من الخصوم ولا يكره للامام أن يتخذ حاجبا.
لان يرفأ كان حاجب عمر والحسن البصري كان حاجب عثمان وقنبر كان حاجب على عليه السلام، ولان الامام ينظر في جميع المصالح فتدعوه الحاجة إلى أن يجعل لكل مصلحة وقتا لا يدخل فيه كل أحد.

(20/132)


(فصل)
ويستحب أن يكون له حبس، لان عمر رضى الله عنه اشترى دارا بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنا واتخذ على عليه السلام سجنا وحبس عمر رضى الله عنه الحطيئة الشاعر فقال: ماذا تقول لافراخ بذى مرخ
* حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
* فارحم عليك سلام الله يا عمر فخلاه وحبس عمر آخر فقال: يا عمر الفاروق طال حبسي
* ومل منى إخوتى وعرسي في حدث لم تقترفه نفسي
* والامر أضوأ من شعاع الشمس ولايه يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحق من المماطل بالدين، ويستحب أن يكون له درة للتأديب، لان عمر رضى الله عنه كانت له درة يؤدب بها الناس.

(فصل)
وان احتاج إلى كتاب اتخذ كاتبا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ له كتاب منهم على بن أبى طالب وزيد بن ثابت رضى الله عنهما ومن شرطه أن يكون عارفا بما يكاتب به القضاة من الاحكام وما يكتبه من المحاضر والسجلات لانه إذا لم يعرف ذلك أفسد ما يكتبه بجهله وهل من شرطه أن يكون مسلما عدلا فيه جهان.

(أحدهما)
أن ذلك شرط فلا يجوز أن يكون كافرا لان أبا موسى الاشعري قدم على عمر رضى الله عنه ومعه كاتب نصراني فانتهره عمر رضى الله عنه وقال لا تأمنوهم وقد خونهم الله ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله، ولان الكافر عدو للمسلمين فلا يؤمن أن يكتب ما يبطل به حقوقهم، ولا يجوز أن يكون فاسقا، لانه لا يؤمن أن يخون.
(والوجه الثاني) أن ذلك يستحب، لان ما يكتبه لا بد أن يقف عليه القاضى ثم يمضيه فيؤمن فيه من الخيانة.

(فصل)
ولا يتخذ شهودا معينين لا تقبل شهادة غيرهم، لان في ذلك

(20/133)


تضييقا على الناس وإضرارا بهم في حفظ حقوقهم، ولان شروط الشهادة لا تختص بالمعينين فلم يجن تخصيصهم بالقول.

(فصل)
ويتخذ قوما من أصحاب المسائل ليتعرف بهم أحوال من جهلت عدالته من الشهود، وينبغى أن يكونوا عدولا برآء من الشحناء بينهم وبين الناس بعداء من العصبية في نسب أو مذهب حتى لا يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية غير عدل وان يكونوا وافرى العقول ليصلوا بوفور عقولهم إلى المطلوب ولا يسترسلوا فيسألوا عدوا أو صديقا، لان العدو يظهر القبيح ويخفى الجميل والصديق يظهر الجميل ويخفى القبيح، وإن شهد عنده شاهد نظرت، فإن علم عدالته قبل شهادته، وإن علم فسقه لم يقبل شهادته ويعمل في العدالة والفسق بعلمه، وإن جهل إسلامه لم يحكم حتى يسأل عن إسلامه ولا يعمل في إسلامه بظاهر الدار كما يعلم في إسلام اللقيط بظاهر الدار، لان أعرابيا شهد عند النبي صلى صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال فلم يحكم بشهادته حتى سأل عن إسلامه، ولانه يتعلق بشهادته إيجاب حق على غيره فلا يعمل فيه بظاهر الدار ويرجع في إسلامه إلى قَوْلُهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع إلى قول الاعرابي وان جهل حريته ففيه وجهان.

(أحدهما)
وهو ظاهر النص أنها تثبت بقوله، لان الظاهر من الدار حرية أهلها كما أن الظاهر من الدار اسلام أهلها ثم يثبت الاسلام بقوله فكذلك الحرية
(والثانى)
وهو الاظهر أنها لا تثبت بقوله، والفرق بينها وبين الاسلام أنه يملك الاسلام إذا كان كافرا فقبل اقراره به ولا يملك الحرية إذا كان عبدا فلم يقبل اقراره بها، وان جهل عدالته لم يحكم حتى تثبت عدالته لقوله تعالى (فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) ولا يعلم أنه مرضى قبل السؤال.
وروى سليمان عن حريث قال: شهد رجل عند عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ له عمر رضى الله عنه انى ليست أعرفك ولا يضرك انى لا أعرفك
فأتني بمن يعرفك، فقال رجل أنا أعرفه يا أمير المؤمنين فقال بأى شئ تعرفه

(20/134)


قال بالعدالة، قال هو جارك الادنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه، قال لا، قال فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع، قال لا، قال فصاحبك في السفر الذى يستدل به على مكارم الاخلاق، قال لا قال لست تعرفه، ثم قال للرجل ائتنى بمن يعرفك، ولانه لا يؤمن أن يكون فاسقا فلا يحكم بشهادته.
وإن أراد أن يعرف عدالته كتب اسمه ونسبه وحليته وصنعته وسوقه ومسكنه حتى لا يشتبه بغيره، ويذكر من يشهد له حتى لا يكون ممن لا تقبل شهادته له من والد أو ولد، ويذكر من يشهد عليه حتى لا يكون عدوا لا تقبل شهادته عليه، ويذكر قدر ما يشهد به.
لانه قد يكون ممن يقبل قوله في قليل ولا يقبل قوله في كثير، ويبعث ما يكتبه مع أصحاب المسائل، ويجتهد أن لا يكون أصحاب المسائل معروفين عند المشهود له حتى لا يحتال في تعديل الشهود ولا عند المشهود عليه حتى لا يحتال في جرح الشهود ولا عند الشهود حتى لا يحتالوا في تعديل أنفسهم ولا عند المسئولين عن الشهود حتى لا يحتال لهم الاعداء في الجرح ولا الاصدقاء في التعديل، ويجتهد أن لا يعلم أصحاب المسائل بعضهم ببعض فيجمعهم الهوى على التواطؤ على الجرح والتعديل.
قال الشافعي رحمه الله: ولا يثبت الجرح والتعديل إلا باثنين، ووجهه أنه شهادته فاعتبر فيها العدد.
واختلف أصحابنا هل يحكم القاضى في الجرح والتعديل بأصحاب المسائل أو بمن عدل أو جرح من الجيران، فقال أبو إسحاق يحكم بشهادة الجيران لانهم يشهدون بالجرح والتعديل، فعلى هذا يجوز أن يقتصر على قول الواحد من
أصحاب المسائل، ويجوز بلفظ الخبر ويسمى للحاكم من عدل أو جرح، ثم يسمع الشهادة بالتعديل والجرح من الجيران على شرط الشهادة في العدد ولفظ الشهادة.
وحمل قول الشافعي رحمه الله في العدد على الجيران.
وقال أبو سعيد الاصطخرى يحكم بشهادة أصحاب المسائل وهو ظاهر النص لان الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم فحكم بشهادة أصحاب المسائل، فعلى هذا لا يجوز

(20/135)


أن يكون أصحاب المسائل أقل من اثنين ويجوز أن يكون من يخبرهم من الجيران واحدا إذا وقع في نفوسهم صدقه، ويجب أن يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم على شرط الشهادة في العدد ولفظ الشهادة.
وحمل قول الشافعي رحمه الله تعالى في العدد على أصحاب المسائل.
وإن بعث اثنين فعادا بالجرح حكم بالجرح وان عادا بالتعديل حكم بالتعديل وان عاد أحدهما بالتعديل وعاد الآخر بالجرح لم يحكم بقول واحد منهما في جرح ولا تعديل ويبعث ثالثا، فإن عاد بالجرح كملت بينة الجرح، وان عاد بالتعديل كملت بينة التعديل، وان شهد اثنان بالجرح واثنان بالتعديل حكم بالجرح لان شاهدى الجرح يخبران عن أمر باطن وشاهدي العدالة يخبران عن أمر ظاهر، فقدم من يخبر بالباطن، كما لو شهد اثنان بالاسلام وشهد آخران بالردة.
وان شهد اثنان بالجرح وشهد ثلاثة بالعدالة قدمت بينة الجرح، لان بينة الجرح كملت فقدمت على بينة التعديل، ولا يقبل الجرح إلا مفسرا، وهو أن يذكر السبب الذى به جرح، ولان الناس يختلفون فيما يفسق به الانسان، ولعل من شهد بفسقه شهد على اعتقاده والحاكم لا يعتقد أن ذلك فسق والجرح والتعديل إلى رأى الحاكم فوجب بيانه لينظر فيه، ولا يشهد بالجرح من يشهد
من الجيران وأهل الخبرة إلا أن يعلم الجرح بالمشاهدة في الافعال كالسرقة وشرب الخمر أو بالسماع في الاقوال كالشتم والقذف والكذب وإظهار ما يعتقده من البدع أو استفاض عنه ذلك بالخبر لانه شهادة على علم.
فأما إذا قال بلغني أو قيل لى انه يفعل أو يقول أو يعتقد لم يجز أن يشهد به لقوله تعالى (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) قال الشافعي رحمه الله: ولا تقبل الشهادة بالتعديل حتى يقول هو عدل على ولى، فمن أصحابنا من قال يكفى أن يقول هو عدل، وهو قول أبى سعيد الاصطخرى، لان قوله عدل يقتضى أنه عدل عليه وله، وما ذكره الشافعي رحمه الله تعالى ذكره على سبيل الاستحباب، منهم من قال لا يقبل حتى يقول عدل لى وعلى، وهو قول أبى إسحاق، لان قوله عدل لا يقتضى العدالة على

(20/136)


الاطلاق لانه قد يكون عدلا في شئ دون شئ، وإذا قال عدل على ولى دل على العدالة على الاطلاق.

(فصل)
ولا يقبل التعديل إلا ممن تقدمت معرفته وطالت خبرته بالشاهد لان المقصود معرفة العدالة في الباطن، ولا يعلم ذلك ممن لم يتقدم به معرفته، ويقبل الجرح من تقدمت معرفته به وممن لم يتقدم معرفته، لانه لا يشهد في الجرح إلا بما شاهد أو سمع أو استفاض عنه وبذلك يعلم فسقه.

(فصل)
وإن شهد مجهول العدالة فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز للحاكم أن يحكم بشهادته لان البحث عن العدالة لحق المشهود عليه وهو قد شهد له بالعدالة
(والثانى)
أنه لا يحكم لان حكمه بشهادته حكم بتعديله وذلك لا يجوز بقول الواحد، ولان اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى، ولهذا لو رضى المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادته

(فصل)
وإن ثبت عدالة الشاهد ومضى على ذلك زمان ثم شهد عند الحاكم بحق نظرت فإن كان بعد زمان قريب حكم بشهادته ولم يسأل عن عدالته، وان كان بعد زمان طويل ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يحكم بشهادته لان الاصل بقاء العدالة.

(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أنه لا يحكم بشهادته حتى يعيد السؤال عن عدالته لانه مع طول الزمان يتغير الحال.

(فصل)
وإن شهد عنده شهود وارتاب بهم فالمستحب أن يسألهم عن تحمل الشهادة ويفرقهم ويسأل كل واحد منهم على الانفراد عن صفة التحمل ومكانه وزمانه، لما روى أن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا عند دانيال ففرقهم وسألهم فاختلفوا فدعا عليهم فنزلت عليهم نار من السماء فأحرقتهم.
وإن فرقهم فاختلفوا سقطت شهادتهم وان اتفقوا وعظهم لما روى أبو حنيفة رحمه الله قال: كنت جالسا عند محارب بن دثار، وهو قاضى الكوفة، فجاءه رجل فادعى على رجل حقا فأنكره، فأحضر المدعى شاهدين فشهدا له، فقال المشهود عليه والذى تقوم به السموات والارض لقد كذبا على في الشهادة، وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت

(20/137)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمى بما في حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار، فإن صدقتما فاثبتا، وان كذبتما فغطيا على رؤسكما وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا.

(فصل)
والمستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء ليشاورهم فيما يشكل لقوله تعالى (وشاورهم في الامر) قال الحسن: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
مشاورتهم لغنيا، ولكن أراد الله تعالى أن يستسن بذلك الحكام، ولان النبي صلى الله عليه وسلم شاور في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بالفداء وأشار عمر رضى الله عنه بالقتل.
وروى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أبا بكر رضى الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأى والفقه دعا رجالا من المهاجرين ورجالا من الانصار، ودعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبى بن كعب وزيد بن ثابت رضى الله عنهم، فمضى أبو بكر على ذلك ثم ولى عمر رضى الله عنه وكان يدعو هؤلاء النفر فإن اتفق أمر مشكل شاورهم فيه، فإن اتضح له الحق حكم به، فإن لم يتضح أخره إلى أن يتضح، ولا يقلد غيره لانه مجتهد فلا يقلد.
وقال أبو العباس: إن ضاق الوقت وخاف الفوت بأن يكون الحكم بين مسافرين وهم على الخروج قلد غيره وحكم كما قال في القبلة إذا خاف فوت الصلاة وقد بينا ذلك في كتاب الصلاة.
وان اجتهد فأداه اجتهاده إلى حكم فحكم به، ثم بان له أنه أخطأ، فإن كان ذلك بدليل مقطوع به كالنص والاجماع والقياس الجلى نقض الحكم لقوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ولما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ردوا الجهالات إلى السنة وكتب إلى أبى موسى: لا يمنعنك قضاء قضيت به ثم راجعت فيه نفسك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شئ، وان الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، ولانه مفرط في حكمه غير معذور فيه فوجب نقضه.

(20/138)


(فصل)
وان ولى قضاء بلد وكان القاضى قبله لا يصلح القضاء نقض أحكامه
كلها أصاب فيها أو أخطأ لانه حكم ممن لا يجوز له القضاء فوجب نقضه كالحكم من بعض الرعية، وإن كان يصلح القضاء لم يجب عليه أن يتتبع أحكامه لان الظاهر أنها صحيحة، فإن أراد أن يتتبعها من غير متظلم فهل يجوز له ذلك أم لا فيه وجهان
(أحدهما)
وهو اختيار الشيخ أبى حامد الاسفراينى أنه يجوز لان فيه احتياطا
(والثانى)
أنه لا يجوز لانه يشتغل بماض لا يلزمه عن مستقبل يلزمه، وإن تظلم منه متظلم فإن سأل احضاره لم يحضره حتى يسأله عما بينهما، لانه ربما قصد أن يبتذله ليحلف من غير حق.
وإن قال لى عليه مال من معاملة أو غصب أو إتلاف أو رشوة أخذها منه على حكم أحضره.
وان قال حكم على بشهادة عبدين أو فاسقين ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يحضره كما يحضره إذا ادعى عليه مالا
(والثانى)
أنه لا يحضره حتى يقيم بينة بما يدعيه لانه لا تتعذر إقامة البينة على الحكم، فإن حضر وقال ما حكمت عليه إلا بشهادة حرين عدلين فالقول قوله لانه أمين، وهل يحلف؟ فيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه لا يحلف لانه عدل والظاهر أنه صادق.

(والثانى)
أنه يحلف لانه أمين ادعى عليه خيانة فلم يقبل قوله من غير يمين كالمودع إذا ادعى عليه خيانة وأنكرها.
وان قال جار على في الحكم نظرت فإن كان ما حكم به مما لا يسوغ فيه الاجتهاد نقضه كما ينقض على نفسه إذا حكم بمن لا يسوغ فيه الاجتهاد، وان كان مما يسوغ فيه الاجتهاد كثمن الكلب وضمان ما أتلف على الذمي من الخمر لم ينقضه كما لا ينقض على نفسه ما حكم فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لانا لو نقضنا ما يسوغ فيه الاجتهاد لم يستقر لاحد حق ولا ملك لانه كلما ولى حاكم نقض ما حكم به من قبله فلا يستقر لاحد حق ولا ملك
(فصل)
وإذا خرج إلى مجلس الحكم فالمستحب له أن يدعو بدعاء رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ماروت أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ مِنْ بيته يقول: اللهم انى أعوذ بك من أن أزل أو أزل أو أضل أو أضل أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يجهل على،

(20/139)


والمستحب أن يجلس مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم خير المجالس ما استقبل به القبلة، ولانه قربة فكانت جهة القبلة فيها أولى كالاذان.
والمستحب أن يقعد وعليه السكينة والوقار من غير جبرية ولا استكبار لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلا وهو متكئ على يساره فقال هذه جلسة المغضوب عليهم ويترك بين يديه القمطر مختوما ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويجلس الكاتب بقربه ليشاهد ما يكتبه فإن غلط في شئ رده عليه.

(فصل)
والمستحب أن يبدأ في نظره بالمحبسين لان الحبس عقوبة وعذاب وربما كان فيهم من تجب تخليته فاستحب البداية بهم ويكتب أسماء المحبسين وينادى في البلدان القاضى يريد النظر في أمر المحبسين في يوم كذا فليحضر من له محبوس، فإذا حضر الخصوم أخرج خصم كل واحد منهم، فإن وجب إطلاقه أطلقه، وإن وجب حبسه أعاده إلى الحبس، فان قال المحبوس حبست على دين وأنا معسر، فإن ثبت إعساره أطلق، وإن لم يثبت إعساره أعيد إلى الحبس، فإن ادعى صاحب الدين أن له دارا وأقام على ذلك البينة فقال المحبوس هي لزيد سئل زيد، فإن أكذبه بيعت الدار وقضى الدين، لان إقراره يسقط بإكذابه وإن صدقه زيد نظرت، فإن أقام زيد بينة أن الدار له حكم له بالدار ولم تبع في الدين، لان له بينة وبدا بإقرار المحبوس ولصاحب الدين بينة من غير يد فقدمت بينة زيد، وإن لم يكن لزيد بينة ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يحكم بها لزيد ولا تباع في الدين لان بينة صاحب الدين بطلت بإكذاب المحبوس وبقى إقرار المحبوس بالدار لزيد.

(والثانى)
أنه لا يحكم بها لزيد وتباع في الدين، لان بينة صاحب الدين شهدت للمحبوس بالملك وله بقضاء الدين من ثمنها فإذا أكذبها المحبوس سقطت البينة في حقه ولم تسقط في حق صاحب الدين.

(فصل)
ثم ينظر في أمر الاوصياء والامناء لانهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله وهم الاطفال فإذا ادعى رجل أنه وصى للميت لم يقبل قوله

(20/140)


إلا ببينة، لان الاصل عدم الوصية، فإن أقام على ذلك بينة، فإن كان عدلا قويا أقر على الوصية، وإن كان فاسقا لم يقر على الوصية، لان الوصية ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية، وإن كان عدلا ضعيفا ضم إليه غيره ليتقوى به وإن أقام بينة أن الحاكم الذى كان قبله أنفذ الوصية إليه أقره ولم يسأل عن عدالته لان الظاهر أنه لم ينفذ الوصية إليه إلا وهو عدل، فإن كان وصيا في تفرقة ثلثه فإن لم يفرقه فالحكم في إقراره على الوصية على ما ذكرناه، وإن كان قد فرقه فإن كان عدلا لم يلزمه شئ، وإن كان فاسقا، فإن كانت الوصية لمعينين لم يلزمه شئ لانه دفع الموصى به إلى مستحقه، وإن كانت الوصية لغير معينين ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يغرم، لانه دفع المال إلى مستحقه فأشبه إذا كانت الوصية لمعينين.

(والثانى)
أنه يغرم ما فرقه، لانه فرق ما لم يكن له تفرقته فغرمه كما لو فرق ما جعل تفرقته إلى غيره.

(فصل)
ثم ينظر في اللقطة والضوال وأمر الاوقاف العامة وغيرها من المصالح ويقدم الاهم فالاهم لانه ليس لها مستحق معين فتعين على الحاكم
النظر فيها.
(الشرح) حديث بعث عليا، رواه أبو داود والحاكم وابن ماجه والبزار والترمذي وفى طرقه مقال.
أثر بعث أبا موسى الاشعري، رواه البيهقى.
أثر بعث عبد الله بن مسعود، رواه البيهقى.
حديث (من استقضى ... ) أخرجه أصحاب السنن والحاكم والبيهقي من حديث أبى هريرة، وأعله ابن الجوزى فقال هذا حديث لا يصح، قال الحافظ وليس كما قال وكفاه قوة تخريج النسائي ولفظه (من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين) .
أثر أبى بكر (لما استقضى خرج برزمة..) روى ابن مسعود بسند صحيح إلى ميمون الجزرى قال: لما استحلف أبو بكر جعلوا له ألفين قال زيدوني

(20/141)


فإن لى عيالا وقد شغلتموني عن التجارة فزادوه خمسمائة) أخرجه البيهقى.
أثر عمر (أنزلت نفسي..) لم أجده وروى البخاري عن عائشة أن عمر لما استخلف أكل هو هو وأهله من المال واحترف في مال نفسه.
أثر عمر (بعث عمار وعبد الله بن مسعود..) أخرجه البيهقى.
حديث (ما أفلح قوم ولو أمرهم..) أخرجه البخاري من حديث أبى بكرة (لن يفلح قوم وليتهم امرأة) .
أثر (تحاكم عمر وأبى بن كعب ... ) أخرجه البيهقى عن الشعبى (كان بين عمر وأبى خصومة في حائط، فقال عمر بينى وبينك زيد بن ثابت فانطلقا فطرق عمر الباب فعرف زيد صوته فقال: يا أمير المؤمنين ألا بعثت إلى حتى آتيك؟ فقال في بيته يؤتى الحكم) .
أثر (تحاكم عثمان وطلحة..) أخرجه البيهقى من رواية ابن أبى مليكة (أن عثمان ابتاع من طلحة أرضا بالمدينة بأرض له بالكوفة ثم ندم عثمان فقال بعتك ما لم أره، فقال طلحة انما النظر لى لانك بعث ما رأيت وأنا ابتعت مغيبا، فجعلا بينهما جبير بن مطعم حكما، فقضى أن البيع جائز وأن النظر لطلحة لانه ابتاع مغيبا) .
حديث (كتاب عمرو بن حزم..) رواه مالك والشافعي وعبد الرزاق والدارقطني عن معمر، وأبو داود والنسائي عن الزهري مرسلا وابن حبان والحاكم والبيهقي موصولا، وفرقه الدارمي في مسنده، وقد اختلف أهل الحديث في صحته، فقال أبو داود لا يصح، وقال ابن حزم صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا تقوم بها حجة، وسليمان بن داود من الرواة لها متفق على تركه، وقال عبد الحق عنه ضعيف، وقال أبو زرعة عرضته على أحمد فقال ليس بشئ ووثق بن حبان سليمان بن داود الخولانى الراوى عن الزهري، وقال ليس هو الحرانى، قال الحافظ: ولولا أن الحكم بن موسى وهم في قوله سليمان بن داود وانما هو سليمان بن الارقم لكان لكلامه وجه صحيح، وصححه الحاكم والبيهقي وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور يستغنى بشهرته عن الاسناد.
(قلت) وما كان لمثل هذا الحافظ بن عبد البر الذى شهد ابن حزم لكتابه

(20/142)


التمهيد أن يقول مثل هذا فما يترك السند تصحح الاحاديث وقال العقيلى حديث ثابت محفوظ إلا أنا نرى أنه كتاب مسموع عمن فوق الزهري.
أثر (كتب عمر إلى أهل الكوفة) أخرجه البيهقى.
حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ المدينة يوم الاثنين، أخرجه البخاري عن عائشة في حديث الهجرة.
أثر تحاكم على ويهودى إلى شريح أخرجه الحاكم في ترجمه أبى سمير وقال منكر، وأورده ابن الجوزى في العلل وقال لا يصح، تفرد به أبو سمير وأخره البيهقى، وفيه عمرو بن شمر عن جابر الجعفي وهما ضعيفان، وقال ابن الصلاح لم أجد له اسناد، وقال ابن عسكر في الكلام على أحاديث المهذب اسناده مجهول حديث لعن الله الراشى.
أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان وابن ماجه، وفى اسناده مقال في بعض الروايات.
حديث استعمل ابن اللتبية على الصدقة.
متفق عليه وغيرهما.
حديث عائد المريض في مخرفة.
أخرجه البزار عن عبد الرحمن بن عوف حديث عاد صلى الله عليه وسلم سعدا وغلاما يهوديا.
البيهقى حديث ما عدل وال اتجر.
الحاكم في الكنى عن رجل أثر شريح شرط على عمر أن لا أبيع قال الحافظ لم أجده، وروى البيهقى في السنن ص 107 ج 10 المصورة (أن تجارة الامير في إمارته خسارة) حديث لا ينبغى القاضى أن يقضى.
متفق عليه من حديث أبى بكرة، ورواه ابن ماجه بلفظ (لا يقضى حكم بين اثنين وهو غضبان) وفى رواية مسلم لا يحكمن حكم بين اثنين وهو غضبان) وفى أخرى (لا يقضى القاضى بين اثنين وهو غضبان) .
حديث لا يقضى القاضى وهو شبعان.
أخرجه الطبراني في الاوسط والحارث في مسنده والدارقطني والبيهقي من حديث أبى سعيد وفيه القاسم العمرى وهو منهم بالوضع.
حديث من ولى شيئا من أمر الناس.
أخرجه أبو داود والحاكم من حديث

(20/143)


القاسم بن مخيمرة عن أبى مريم ورواه أحمد والترمذي عن عمر وبن مرة الجهنى
ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس، وقال أبو حاتم في العلل: هذا حديث منكر.
أثر كتب عمر إلى أبى موسى إياك والضجر.
أخرجه البيهقى.
حديث جنبوا مساجدكم صبيانكم.
أخرجه ابن ماجه من حديث مكحول وواثلة به وأتم منه والبيهقي كذلك وقال ليس بصحيح، وقال ابن الجوزى حديث لا يصح، ورواه البزار وقال ليس له أصل من حديث ابن مسعود، وله طريق أخرى عن أبى هريرة واهية.
أثر رأى عثمان نام في المسجد وأتاه سقاء بقربة.
أخرجه البيهقى حديث أم سلمه اختصم رجلان أخرجه البيهقى.
أثر كان يرفأ حاجب عمر.
أخرجه البيهقى.
أثر اشترى عمر دار وجعلها سجنا.
أخرجه البيهقى.
وروى الخمسة إلا ابن ماجه عن بَهْزَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه.
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم على..أخرجه البخاري تعليقا ووصله أبو داود عن زيد بن ثابت.
أثر أبى موسى في استعمال كاتبا نصرانيا.
رواه البيهقى من حديث نافع بن الحارث وعلقه البخاري.
حديث شهد اعرابيا برؤية الهلال.
أخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيقهى والحاكم، وقال الترمذي مرسلا، وقال النسائي انه أولى بالصواب، وفى رواته سماك، وإذا تفرد بأصل لم يكن حجة اللغة.
قال ابن الاعرابي: القضاء في اللغة إحكام الشئ وإمضاؤه والفراغ منه، وهو قوله تعالى (ثم اقضوا إلى) أي افرغوا من أمركم وامضوا ما في
أنفسكم، وأصله قضاى لانه من قضيت، لان الياء لما جاءت بعد الالف أبدلت همزة، والجمع الاقضية، القضية مثلها وجمعها قضايا على فعالى وأصله فعائل.

(20/144)


وقضى أي حكم، قال الله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) وقضى في القرآن واللغة يأتي على وجوه تتقارب معانيها، ومرجعها كلها إلى انقطاع الشئ وتمامه والفراغ منه، منها قوله تعالى (فقضاهن سبع سموات) أراد قطعهن وأحكم خلقهن وفرغ منهن، وقوله تعالى (فلما قضى ولوا إلى قومهم) أي فرغ من تلاوته، وقوله تعالى (ولولا أجل مسمى لقضى بينهم) لفصل الحكم وقطع وقال أبو ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما
* داود أو صنع التوابع تبع أي صنعهما وأحكام صنعتهما.
قوله (فإن كان خاملا) الخامل الساقط الذى لا نباهة له، وقد خمل يخمل خمولا وأخملته أنا.
قوله (من استقطمى فكأنما ذبح بغير سكين) قال في الشامل: لم يخرج مخرج الذم للقضاء وإنما وصفه بالمشقة فكأن من قلده فقد حمل على نفسه مشقة كمشقة الذبح، والمعتوه الناقص العقل، وقد ذكر في الوصايا.
قوله (وقلده) هو من القلادة التى تكون في العنق.
قوله (برزمة إلى السوق) الرزمة البكارة من الثياب، وقد رزمها ترزيما، أي شد رزمها.
قوله (جبارا) قيل الجبار الذى يقتل على الغضب، وقيل هو ذو السطوة والقهر، ومنه يقال جبرته عل كذا، وأجبرته إذا أكرهته عليه وقهرته، ومنه جبر العظم لانه كالاكراه على الاصلاح.
قوله (عسوفا) أي ظلوما، والعسف الظلم، وأصل العسف الاخذ على غير الطريق، ومثله التعسف والاعتساف.
قوله (مهينا) أي حقيرا، وفسر قوله تعالى (من ماء مهين) أي حقير.
وقال الفراء: المهين العاجز، وأراد بالضعيف ضعيف الرأى والتدبير لا ضعيف الجسم.
قوله (من غير عنف) العنف ضد الرفق يقال عنف عليه وعنف به أيضا قوله (بنيت على الاحتياط) الاحتياط على الشئ الاحداق به من جميع

(20/145)


جهله ومنه سمى الحائط وأصله الحفظ، حاطه يحوطه أي حفظه، والمعنى أن يحكم باليقين والقطع من غير تخمين ويأخذ بالثقة في أموره وأحكامه.
قوله (كتب له العهد) أصل العهد الوصية، وقد عهدت إليه أي وصيته.
ومنه اشتق العهد الذى يكتب للولاة، قال الله تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل نفسي) أي أوصيناه أن لا يأكل من الشجرة فنسى، والعهد اليمين، من قوله على عهد، والعهد من قولك عهدته بمكان كذا.
قوله (قاضيا ووزيرا) الوزير مشتق من الوزر وهو الجبل والملجأ، كأنه يستند إليه في الامور، قال الله تعالى (كلا لا وزر) أي لا ملجأ، وقيل بل هو مشتق من الوزر وهو الثقل، كأنه يحمل أثقال أموره وأعباءه، والوزر هو الحمل المثقل الظهر، من قوله تعالى (ووضعنا عنك وزرك الذى أنقض ظهرك) قوله (فقد آثرتكم بهما) قيل فضلتكم بهما وقيل اخترتكم، والمراد ههنا خصصتكم بهما دون غيركم، يقال استأثر فلان بكذا، أي خص به دون غيره وانفرد به.
قال الشاعر: استأثر الله بالبقاء وبالعد
* ل وولى الملامة الرجلا.
أي تفرد بالبقاء عزوجل.
قوله (ابن اللتبية) بضم اللام وإسكان التاء منسوب إلى بنى لتب، وهم حى من أزد قوله (عائد المريض في مخرف من مخارف الجنة) المخرف بالفتح البستان، قال الاصمعي واحد المخارف مخرف وهو جنس النخل، سمى بذلك لانه يخرف، أي يجتنى.
قوله (لم يؤمن أن يحابى) المحاباة أن يبيع إليه بأقل من ثمن المثل، وقد ذكر قوله (والمرض يقلقه) قال الجوهرى: القلق الانزعاج، يقال بات قلقا وأقلقه غيره قوله (يدافع الاخبثين) تثنية الاخبث، وهما البول والغائط، ومعناه الخبيثين أي النجسين المستقذرين، لكن لفظة أفعل أبلغ وأكثر.
قوله (في حر مزعج) أزعجه أي أقلقه من مكانه وانزعج بنفسه، والمزعاج المرأة التى لا تستقر في مكان والقلق ضيق الصدر وقلة الصبر.

(20/146)


قوله (فلا يتوفر على الاجتهاد) أي لا يستوفيه ويتمه، والموفور التام والموفور التمام، والوفر المال الكثير، وشراج الحرة قد ذكر.
قوله (لى موضع بارز) أي ظاهر غير مستور، وبرزوا لله الواحد القهار.
أي ظهروا ولم يسترهم عنه شئ.
قوله (دون فاقته وفقره) الفاقة الحاجة والفقر ضد الغنى وهما متقاربان قوله (يحضرها اللغط والسفه) هو الصوت والجلبة.
يقال لغطوا يلغطون لغطا ولغطا ولغاطا، والسفه ههنا التشاتم وذكر المعايب.
قوله (وإن احتاج إلى أجرياء) الاجرياء جمع جرى مشدد غير مهموز وهو الوكيل والرسول، يقال جرى بين الجراية والجراية والجمع أجرياء.
وسمى الوكيل جريا لانه يجرى مجرى موكله، وفى الحديث: قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان، والحاجب مشتق من الحجاب وهو الستر والمنع كأنه يستره
ويمنع من الدخول إليه، ويرفا غير مهموز هكذا السماع.
قوله (الحطيئة) سمى الحطيئة لقصره والحطيئة الرجل القصير، وقال ثعلب سمى الحطيئة لدمامته، وقيل انه كان في صغره يلعب مع الصبيان فضرط، فقيل ما هذا؟ قال حطيئة، يريد ضرطة فسمى حطيئة.
قوله (بذى مرخ) بالخاء اسم موضع بعينه ومن رواه مرج بالجيم فمخطئ لان المرج بإسكان الراء هو الموضع الذى يكون كثير الماء والشجر، وقد قال لا ماء ولا شجر فدل على غيره، ولا يستقيم وزن البيت من غير تسكين الراء أيضا.
قوله: وما منى اخوتى وعرسي
* في حدث لم تقترفه نفسي.
العرس الزوجة، ولم تقترفه لم تكتبسه والاقتراف الاكتساب، وفلان يقترف لعياله أي يكتسب، في حدث في أمر وقع ولم يكن قبل قوله (برآه من الشحناء) الشحناء العداوة وكذلك الشحنة، وعدو مشاحن ولعل اشتقاقه من الشحن وهو الملء، أي ممتلئ عداوة من قوله تعالى (في الفلك المشحون) أي المملوء.
قوله (على جرح عدل أو تزكية غير عدل) الجرح العيب والفساد، وجرح

(20/147)


الشاهد إظهار معايبه.
والعدل أصله من الاستقامة وترك الميل، والعدل أيضا الميل والجور.
يقال عدل عن الطريق إذا مال عنها وهو من الاضداد، والتزكية ههنا التطهير من قوله تَعَالَى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها) فكان المزكى يشهد لهم بالطهارة والبراءة من العيوب.
قوله (وافرى العقول) أي تامى العقول كاملين باوفر والتمام والكمال.
قوله (ولا يسترسلوا) استريل إليه أي انبسط واستأنس به، وأراد ترك
التحفظ وأخذ الامر بالحزم والتيقظ قوله (جارك الادنى) أي الاقرب، والدنو القرب ضد البعد قوله (يستدل بهما على الورع) الورع التقى والورع التقى، وقد ورع يرع بالكسر فهيما ورعا ورعة، وتورع من كذا أي تحرج قوله (فيجمعهم الهوى على التواطؤ) أي تحكمهم الشهوة على التوافق، واطأه على الامر أي وافقه.
قوله (وارتاب بهم) أي شك فيهم، والريب والارتياب الشك وكذا الريبة ودانيال بالدال المهملة وكسر النون وكان ممن أسره بختنصر وحبسه ثم رأى رؤيا ففسرها له فأكرمه وخلاه.
قوله (ان الطير لتخفق بأجنحتها وترمى بما في حواصلها) يقال خفق الطائر إذا طار وأخفق إذا ضرب بجناحه، الحوصلة من الطائر بمنزلة الكرش مما يجتر يجمع فيها الطائر الحب، وجمعها حواصل، والتشديد في اللام لغة فيها.
قوله (يتبوأ مقعده من النار) أي يلزمه ويقيم فيه وقد ذكر.
قوله (وشاورهم في الامر) أصله من شرت العسل إذا استخرجته من الخلية وهى بيت النحل، كأنه يستخرج ما عنده من الرأى وقد ذكر.
قوله (قلد غيره) التقليد في الفتيا والحكم والقبلة وغيرها مأخوذ من القلادة التى تكون في العنق كأن العامي يجعل ما يلحقه من عهدة العمل والاثم الذى يعمل فيه بفتوى العالم وقضاء القاضى في عنق المفتى والقاضى ويتخلص من مأثمه لان الاعمال توصف بكونها في الاعناق، قال الله تعالى (وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه) جاء في التفسير انه عمله، وان اجتهد وبذل الجهد فأخطأ فلا

(20/148)


وزر عليه وله أجر وإن تعمد الفتوى بغير الحق أو أخطأ ولم يجتهد في فتواه
كان عليه وزره ولا شئ على المستفتى، ويدل عليه قوله عليه السلام (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر) .
قوله (أولى من التمادي في الباطل) التمادي اللجاج في الشئ والاقامة عليه يقال تمادى في غيه إذا أقام عليه ولج في اتباعه.
قوله (ربما قصد أن يبتذله) الابتذال الامتهان وترك الصون، وثياب البذلة التى تمتهن ولا تصان.
قوله (يسوغ فيه الاجتهاد) أي يليق ويسهل من قولهم ساغ الطعام إذا سهل مدخله في الحلق.
قوله (وعليه السكينة والوقار) السكينة أصلها من السكون وهو ضد الحركة والوقار الحلم والرزانة، وقد وقر الرجل يقر وقارا وقرة فهو وقور.
قوله (ويترك بين يديه القمطر) وهو وعاء الكتب، وهو الذى يترك فيه المحاضر والسجلات.
قال الخليل حرف في صدرك خير من ألف في قمطرك، وهو أيضا الرجل القصير، المحاضر والسجلات، المحاضر التى يكتب فيها قصة المتحاكمين عند حضورهما مجلس الحكم وما جرى بينهما وما أظهر كل واحد منهما من حجة من غير تنفيذ ولا حكم مقطوع به والسجلات الكتب التى تجمع المحاظر وتزيد عليها بتنفيذ الحكم وإمضائه، وأصل السجل الصحيفة التى فيها الكتاب أي كتاب كان ذكر في تفسير قوله تعالى (كطى السجل للكتب) وقيل هو كاتب للنبى صلى الله عليه وسلم وهو مذكر، ويقال عندي ثلاثة سجلات وأربعة سجلات ولا يؤنت، لان المراد به الكتاب وهو مذكر، ولا يقال ثلاث سجلات على لفظه.
وكالتعليمات فسنكتب في أضيق الحدود بأن ننقل المتفق عليه بدون آراء، أما المختلف فيه فتحاول أن ننقل الآراء بإيجاز شديد قال ابن حزم في مراتب الاجماع: اتفقوا أن من ولاه الامام القرشى
الواجب طاعته، فإن أحكامه إذا وافق الحق نافذة، على أنه إن حكم بما يخالف

(20/149)


الاجماع فإن حكمه مردود، واتفقوا أن من لم يكن محجورا عليه وكان بالغا حسن الدين سالم الاعتقاد حرا غير معتق عالما بالحديث والقرآن والنظر والاجماع والاختلاف لم يبلغ الثمانين جائز أن يولى القضاء.
واتفقوا أن ما حكم به لغير نفسه ولغير أبويه ولغير عبده ولغير كل من يختلف في قبول شهادته له من ذوى رحمه ومن ولده أو من ولد ولده بكل وجه وأخوانه وأخوته ومن هو في كفالته وصديقه الملاطف وعلى عدوه أن حكمه جائز إذا وافق الحق، واتفقوا أن من ولى القضاء كما ذكر في جهة ما أو وقت ما أو أمر ما أو بين قوم ما فإن له أن يحكم بينهم.
واتفقوا على أن للقاضى أن يحكم في منزله، واتفقوا على أنه فرض عليه أن يحكم بالعدل والحق، اتفقوا على تحريم الرشوة على قضاء بحق أو باطل أو تعجيلا لقضاء بحق أو باطل، واتفقوا أن الامام إذا أعطى الحاكم مالا من وجه طيب دون أن يسأله إياه فإنه له حلال، وسواء رتبه له كل شهر أو كل وقت محدود أو قطعه عنه، واتفقوا أنه لا يحل لقاضي ولا مفت تقليد رجل بعينه بعد موت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يحكم ولا يفتى إلا بقوله، سواء كان ذلك الرجل قديما أو حديثا.
واتفقوا على وجوب الحكم بالقرآن والسنة والاجماع، واتفقوا أن من حكم بغيره هذه الثلاثة أو القياس أو الاستحسان أو قول صاحب لا مخالف له منهم أو قول تابع لا مخالف له من التابعين ولا من الصحابة، أو قول الاكثر من الفقهاء فقد حكم بباطل لا يحل، واتفقوا على قبول شاهدين مسلمين عدلين فاضلين في دينهما ومعتقدهما حرين بالغين معروفى النسب ضابطين للشهادة.
واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب، وقال أبو حنيفة يجوز حكم العامي، قال القاضى وهو ظاهر ما حكاه جدى رحمة الله عليه من المقدمات عن المذهب لانه جعل كون الاجتهاد فيه من الصفات المستحبة.
واختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور هي شرط، وقال أبو حنيفة

(20/150)


يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الاموال، قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الاطلاق في كل شئ.
واختلفوا في عدد القضاة، فقال مالك واحدا في المصر كله، والشافعي يجوز أن يكون في المصر قاضيان.
واختلفوا في نفوذ حكم من رضيه المتداعيان ممن ليس بوال على الاحكام، فقال مالك يجوز، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يجوز، وقال أبو حنيفة يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضى البلدة.
واختلفوا هل له أن يقوم الائمة في المساجد الجامعة، وكذلك هل يستخلف في المرض والسفر، وينظر في التحجير على السفهاء وفى الانكحة، فقال الجمهور الاموال والفروج في ذلك سواء لا يحل حكم الحاكم منها حراما ولا يحل حراما وذلك مثل أن شهد شاهد زور في امرأة أجنبية أنها زوج لرجل أجنبي ليست له بزوجة، فقال الجمهور: لا تحل له وإن أحلها الحاكم، وقال أبو حنيفة وجمهور أصحابه تحل له.

قال المصنف رحمه الله:
(باب ما يجب على القاضى في الخصوم والشهود)

إذا حضر خصوم واحد بعد واحد قدم الاول فالاول، لان الاول سبق
إلى حق له فقدم على من بعده، كما لو سبق إلى موضع مباح، وان حضروا في وقت واحد أو سبق بعضهم وأشكل السابق أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قدم لانه لا مزية لبعضهم على بعض فوجب التقديم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض فسانه، فإن ثبت السبق لاحدهم فقدم السابق غيره على نفسه جاز لان الحق له فجاز أن يؤثر به غيره، كما لو سبق إلى منزل مباح، ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة، لانا لو قدمناه في أكثر من حكومة استوعب المجلس بدعاويه وأضر بالباقين.

(20/151)


وإن حضر مسافرون ومقيمون في وقت واحد نظرت فإن كان المسافرون قليلا وهم على الخروج قدموا لان عليهم ضررا في المقام ولا ضررا على المقيمين وحكى بعض أصحابنا فيه وجها آخر أنهم لا يقدمون إلا بإذن المقيمين لتساويهم في الحضور، وظاهر النص هو الاول.
وإن كان المسافرون مثل المقيمين أو أكثر لم يجز تقديمهم من غير رضى المقيمين لان في تقدميهم إضرارا بالمقيمين والضرر لا يزال بالضرر، وإن تقدم إلى الحاكم إثنان فادعى أحدهما على الآخر حقا، فقال، المدعى عليه أنا جئت به وأنا المدعى قدم السابق بالدعوى، لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل وللسابق بالدعوى حق السبق فقدم.

(فصل)
وعلى الحاكم أن يسوى بين الخصمين في الدخول والاقبال عليهما والاستماع منهما، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه وإشارته ومقعده.
وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى الاشعري: آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف
من عدلك، ولانه إذا قدم أحدهما على الآخر في شئ من ذلك انكسر الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته، والمستحب أن يجلس الخصمان بين يديه لما روى عبد الله بن الزبير قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يجلس الخصمان بين يدى القاضى، ولان ذلك أمكن لخطابهما، وإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يسوى بينهما في المجلس كما يسوى بينهما في الدخول والاقبال عليهما والاستماع منهما.

(والثانى)
أنه يرفع المسلم على الذمي في المجلس لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حاكم يهوديا في درع إلى شريح، فقام شريح من مجلسه وأجلس عليا كرم الله وجهه فيه، فقال على عليه السلام لولا إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لا تسووا بينهم في المجالس لجلست معه بين يديك، ولا يضيف أحدهما دون

(20/152)


الآخر لما روى أن رجلا نزل بعلى بن أبى طالب عليه السلام فقال له ألك خصم قال نعم قال تحول هنا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يضيفن أحد الخصمين إلا ومعه خصمه، ولان في إضافة أحدهما إظهار الميل وترك العدل ولا يسار أحدهما ولا يلقنه حجة لما ذكرناه، ولا يأمر أحدهما بإقرار لان فيه إضرارا به ولا بإنكار لان فيه إضرارا بخصمه.
وإن ادعى أحدهما دعوى غير صحيحة فهل له أن يلقنه كيف يدعى، فيه وجهان، أحدهما وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه يجوز لانه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه.
والثانى أنه لا يجوز لانه ينكسر قلب الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته، وله أن يزن عن أحدهما ما عليه لان في ذلك نفعا لهما، وله أن يشفع لاحدههما لان الاجابة إلى المشفوع إليه ان شاء شفعه وان شاء لم يشفعه، وان مال قلبه
إلى أحدهما أو أحب أن يفلح أحدهما على خصمه ولم يظهر ذلك منه بقول ولا فعل جاز لانه لا يمكنه التسوية بينهما في المحبة والميل بالقلب، ولهذا قلنا يلزمه التسوية بين النساء في القسم ولا يلزمه التسوية ببنهن في المحبة والميل بالقلب.

(فصل)
ولا ينتهر خصما لان ذلك يكسره ويمنعه من استيفاء الحجة، وان ظهر من أحدهما لدد أو سوء أدب نهاه، فإن عاد زجره وان عاد عزره، ولا يزجر شاهدا ولا يتعنته، لان ذلك يمنعه من الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحمل الشهادة وأدائها وفى ذلك تضييع للحقوق.

(فصل)
فإن كان بين نفسين حكومة فدعا أحدهما صاحبه إلى مجلس الحكم وجبت عليه اجابته لقوله تعالى (انما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) فإن لم يحضر فاستعدى عليه الحاكم وجب عليه أن يعديه، لانه إذا لم يعده أدى ذلك إلى ابطال الحقوق، فإن استدعاه الحاكم فامتنع من الحضور تقدم إلى صاحب الشرطة ليحضره، وان كان بينه وبين غائب حكومة ولم يكن عليه بينة فاستعدى الحاكم عليه فإن كان الغائب في موضع فيه حاكم كتب إليه لينظر بينهما، وان لم يكن حاكم وهناك من يتوسط بينهما كتب إليه لينظر بينهما، وان لم يكن من ينظر بينهما لم يحضره حتى يحقق الدعوى

(20/153)


لانه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وثمن الكلب وقيمة خمر النصراني فلا يكلفه تحمل المشقة للحضور لما لا يقضى به، ويخالف الحاضر في البلد حيث قلنا إنه يحضر قبل أن يحقق المدعى دعواه لانه لا مشقة عليه في الحضور، فإن حقق الدعوى على الغائب أحضره لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كتب إلى المهاجر بن أمية أن ابعث إلى بقيس بن مكشوح في وثاق فأحلفه خمسين يوما عَلَى مِنْبَرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قتل دادويه،
ولانا لو لم نلزمه الحضور جعل البعد طريقا إلى إبطال الحقوق، فإن استعداه على امرأة، فإن كانت برزة فهى كالرجل لانها كالرجل في الخروج للحاجات.
وإن كانت غير برزة لم تكلف الحضور بل توكل من يخاطب عنها، وإن توجهت عليها يمين بعث إليها من يحلفها، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فبعث من يسمع اقرارها ولم يكلفها الحضور (الشرح) ما روى أن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا ... أخرجه البيهقى وأخرج ابن عساكر في ترجمة سليمان من طريقه من حديث ابن عباس في قصة طويله لسليمان بن داود في الاربعة الذين شهدوا على المرأة بالزنا لكونها امتنعت منهم أن يزنوا بها، فأمر داود برجمها، فمروا على سليمان ففرق بين الشهود ودرأ الحد عنها، فعلى هذا هو أول من فرق.
حديث ابن عمر (ان الطير لتخفق) أخرج البيهقى عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (شاهد الزور لا تزول قدماه حتى توجب له النار، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطير يوم القيامة ترفع مناقيرها وتضرب بأذنابها وتطرح ما في بطونها وليس عندها طلبه فاتقه) وفى رواته محمد بن الفرات ضعيف.
حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاور في أسارى..أخرجه مسلم والبيهقي عن ابن عباس عن عمر قال: لما كان يوم بدر قال ما ترون في هؤلاء الاسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبى الله بنو العم والعشيرة والاخوان، غير انا نأخذ منهم الفداء ليكون لنا قوة على المشركين، وعسى الله

(20/154)


أن يهديهم إلى الاسلام ويكونوا لنا عضدا، قال فماذا ترى يا ابن الخطاب؟ قلت يا نبى الله ما أرى الذى رأى أبو بكر ولكن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدهم فقربهم
فاضرب أعناقهم، قال فهوى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قال أبو بكر ولم يهو ما قلت أنا وأخذ منهم الفداء، فلما أصبحت غدوت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت يا نبى الله اخبرني من أي شئ تبكى أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما، قال الذى عرض على أصحابك لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة وشجرة قريبة حينئذ، فأنزل الله عز وجل (ما كان لنبى..) أثر عمر (ردوا الجهالات إلى السنة) لم أجده أثر عمر في كتابه إلى أبى موسى (لا يمنعنك قضاء قضيت) رواه الدارقطني والبيهقي وساقه ابن حزم من طريقين وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما مما يقوى أصل الرسالة لا سيما وفى بعض طرقه أن راوية أخرج الرسالة مكتوبة، رواه أحمد (لا يمنعنك قضاء قضيته بالامس راجعت فيه نفسك وهويت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، وإن الحق لا يبطله شئ ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل) .
وروى البيهقى عن عمر بن عبد العزيز (ما من طينة أهون على فكا وما من كتاب أيسر على ردا من كتاب قضيت به ثم أبصرت أن الحق في غيره ففسخته) حديث أم سلمة في السنن الاربعة، وقال الترمذي حسن صحيح حديث (خير المجالس..) أخرجه البيهقى.
اللغة: قوله (آس بين الناس) أي أصلح، يقال أسوت بينهم أي أصلحت بينهم، ويحتمل أن يكون معناه سو بينهم حتى يكون كل واحد منهم أسوة لصاحبه، والاسوه القدرة.
قوله (حتى لا يطمع شريف في حيفك) أصل الشرف العلو والرفعة مأخوذ من الجبل المشرف وهو العالي قال الشاعر:
يبدو وتضمره البلاد كأنه
* سيف على شرف يسل ويغمد أي موضع عال، والشريف من القوم الرفيع المنزلة العالي القدر والحسب

(20/155)


قوله (في حيفك) أي في جورك والحيف الجور، حاف أي جار، قال الله تعالى (أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله) قوله (يميل إليه طبعه) الطبع والطباع ما ركب في الانسان من الطعم والمشرب وغيرهما من الاخلاق التى لا يزيلها، يقال فلان كريم الطباع، وهو اسم مؤنث على فعال نحو مثال ومهاد.
قوله (أو أحب أن يفلح) أي يغلب، يقال فلح خصمه أي غلبه.
قوله (لدد) اللدد شدة الخصومة، يقال رجل الد بين اللدد، وهو الشديد الخصومة وقوم لد، قال الله تعالى (ألد الخصام) وقال (وتنذر به قوما لدا) وقال الازهرى (اللدد) التواء الخصم في محاكمته، مأخوذ من لديدى الوادي وهما جانباه.
قوله (فإن عاد زبره) الزبر الزجر والمنع، يقال زبره يزبره بالضم زبرا إذا انتهره، كذا ذكره الجوهرى.
قوله (ولا يتعنته) أي يطلب زلته، تقول جاءني فلان متعنتا إذا جاء يطلب زلتك، وأصل العنت المشقة، واستعدى عليه الحاكم أي استعانه، يقال استعديت على فلان الامير فأعدانى أي استعنت به فأعانى، والاسم منه العدوى وهى المعونة قال زهير: وإنى لتعديني على الهم جسرة
* تخب بوصال صروم وتعنق وصاحب الشرطة، يقال أشرط فلان نفسه لامر كذا أي أعلمها وأعدها، قال الاصمعي ومنه سمى الشرط لانهم جعلوا لانفسهم علامة يعرفون بها، الواحد شرطة وشرطي.
وقال أبو عبيد سموا شرطة لانهم أعدوا.
قوله (ما قتل دادويه) ذكر القلعى أنه بدالين مهملتين مفتوحتين وتخفيف الياء تسكينها قوله (فإن كانت برزة) أي ظاهرة غير محتجبة وقد ذكر

(20/156)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب صفة القضاء

إذا حضر عند القاضى خصمان وادعى أحدهما على الآخر حقا يصح فيه دعواه وسأل القاضى مطالبة الخصم بالخروج من دعواه طالبه وإن لم يسأله مطالبة الخصم ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يجوز للقاضى مطالبته لان ذلك حق للمدعى فلا يجوز استيفاؤه من غير إذنه.

(والثانى)
وهو المذهب أنه يجوز له مطالبته لان شاهد الحال يدل على الاذن في المطالبة، فإن طولب لم يخل إما أن يقر أو ينكر أو لا يقر ولا ينكر فإن أقر لزمه الحق ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعى، لان الحكم حق له فلا يستوفيه من غير إذنه، فإن طالبه بالحكم حكم له عليه وإن أنكر فإن كان المدعى لا يعلم أن له إقامة البينه قال له القاضى الك بينة، وان كان يعلم فله أن يقول ذلك وله أن يسكت، وإن لم تكن له بينة وكانت الدعوى في غير دم فله أن يحلف المدعى عليه ولا يجوز للقاضى إحلافه إلا بمطالبة المدعى، لانه حق له فلا يستوفيه من غير اذنه، وان أحلفه قبل المطالبة لم يعتد بها لانها يمين قبل وقتها وللمدعى أن يطالب بإعادتها لان اليمين الاولى لم تكن يمينه، وان أمسك المدعى عن احلاف المدعى عليه ثم أراد أن يحلفه بالدعوى المتقدمة جاز لانه لم يسقط حقه من اليمين وانما أخرها.
وان قال أبرأتك من اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى وله أن يستأنف
الدعوى لان حقه لم يسقط بالابراء من اليمين، فإن استأنف الدعوى فأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لان هذه الدعوى غير الدعوى التى أبرأه فيها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى، لما روى وائل بن حجر أن رجلا من حضرموت ورجلا من كندة أَتَيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الحضرمي هذا غلبنى على أرض ورثتها من أبى، وقال الكندى أرضى وفى يدى أزرعها لا حق له

(20/157)


فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه، قال انه لا يتورع عن شئ، فقال ليس لك الا ذلك، فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه فإن ابتدأ وقال امتنعت لانظر في الحساب أمهل ثلاثة أيام لانها مدة قريبه ولا يمهل أكثر منها لانها مدة كثيرة، فإن لم يذكر عذرا لامتناعه جعله ناكلا ولا يقضى عليه بالحق بنكوله لان الحق انما يثبت بالاقرار أو البينة.
والنكول ليس بإقرار ولا بينة، فإن بذل اليمين بعد النكول لم يسمع لان بنكوله ثبت للمدعى حق وهو اليمين فلم يجز ابطاله عليه، فإن لم يعلم المدعى أن اليمين صارت إليه قال له القاضى أتحلف وتستحق، وان كان يعلم فله أن يقول ذلك وله أن يسكت وان قال أحلف ردت اليمين عليه لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق.
وروى أن المقداد استقرض من عثمان مالا فتحاكما إلى عمر، فقال المقداد هو أربعة آلاف، وقال عثمان سبعة آلاف، فقال المقداد لعثمان احلف أنه سبعة آلاف فقال عمر انه أنصفك فلم يحلف عثمان، فلما ولى المقداد قال عثمان والله لقد أقرضته سبعة آلاف، فقال عمر لم لم تحلف؟ فقال خشيت أن يرافق ذلك به قدر بلاء فيقال بيمينه.
واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى في نكول المدعى عليه مع يمين المدعى
فقال في أحد القولين هما بمنزلة البينة لانه حجة من جهة المدعى، وقال في القول الآخر هما بمنزلة الاقرار وهو الصحيح، لان النكول صادر من جهة المدعى عليه واليمين ترتب عليه وله فصار كإقراره، فإن نكل المدعى عن اليمين سئل عن سبب نكوله، والفرق بينه وبين المدعى عليه يحث لم يسأل عن سبب نكوله أن بنكول المدعى عليه وجب للمدعى حق في رد اليمين والقضاء له فلم يجز سؤال المدعى عليه وبنكول المدعى لم يجب لغيره حق فيسقط بسؤاله، فإن سئل فذكر أنه امتنع من اليمين لان له بينة يقيمها وحسابا ينظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في المدة ويترك ما تارك والفرق بينه وبين المدعى عليه حيث قلنا انه لا يترك أكثر من ثلاثة أيام أن يترك المدعى عليه يتأخر حق المدعى

(20/158)


في الحكم له وبترك المدعى لا يتأخر إلا حقه وإن قال امتنعت لانى لا أختار أن أحلف حكم بنكوله، فإن بذل اليمين بعد النكول لم يقبل في هذه الدعوى لانه أسقط حقه منها، فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى وأنكر المدعى عليه وطلب يمينه حلف، فإن حلف ترك وإن نكل ردت اليمين على المدعى فإذا حلف حكم له لانها يمين في غير الدعوى التى حكم فيها بنكوله، فإن كان له شاهد واختار أن يحلف المدعى عليه جاز وتنتقل اليمين إلى جنبة المدعى عليه، فإن أراد أن يحلف مع شاهده لم يكن له في هذا المجلس، لان اليمين انتقلت عنه إلى جنبة غيره فلم تعد إليه، فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى جاز أن يقيم الشاهد ويحلف معه لان حكم الدعوى الاولى قد سقط، وان حلف المدعى عليه في الدعوى الاولى سقطت عنه المطالبة، وان نكل عن اليمين لم يقض عليه بنكوله وشاهد المدعى، لان للشاهد معنى تقوى به جنبة المدعى فلم يقض به مع النكول من غير يمين كاللوث في القسامة، وهل ترد اليمين على المدعى ليحلف
مع الشاهد، فيه قولان.

(أحدهما)
أنه لا ترد لانها كانت في جنبته وقد أسقطت وصارت في جنبة غيره فلم تعد إليه كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت إلى المدعى فنكل فإنها لا ترد على المدعى عليه.
والقول الثاني وهو الصحيح أنها ترد لانه هذه اليمين غير الاولى لان سبب الاولى قوة جنبة المدعى بالشاهد وسبب الثانية قوة جنبته بنكول المدعى عليه واليمين الاولى لا يحكم بها إلا في المال وما يقصد به المال، والثانية يقضى بها في جميع الحقوق التى تسمع فيها الدعوى فلم يكن سقوط إحداهما موجبا لسقوط الاخرى، فإن قلنا انها لا ترد حبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لانه تعين عليه ذلك، وإن قلنا انها ترد حلف مع الشاهد واستحق:
(فصل)
وإن كانت الدعوى في موضع لا يمكن رد اليمين على المدعى بأن ادعى على رجل دينا ومات المدعى ولا وارث له غير المسلمين وأنكر المدعى عليه ونكل عن اليمين ففيه وجهان ذكرهما أبو سعيد الاصطخرى.

(20/159)


(أحدهما)
أنه يقضى بنكوله لانه لا يمكن رد اليمين على الحاكم لانه لا يجوز أن يحلف عن المسلمين، لان اليمين لا تدخلها النيابة ولا يمكن ردها على المسلمين لانهم لا يتعينون فقضى بالنكول لموضع الضرورة.

(والثانى)
وهو المذهب أنه يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر، لان الرد لا يمكن لما ذكرناه والقضاء بالنكول لا يجوز لما قدمناه لانه إما أن يكون صادقا في إنكاره فلا ضرر عليه في اليمين أو كاذبا فيلزمه الاقرار.
وإن ادعى وصى دينا لطفل في حجره على رجل وأنكر الرجل ونكل عن اليمين وقف إلى أن يبلغ الطفل فيحلف، لانه لا يمكن رد اليمين على الوصي،
لان اليمين لا تدخلها النيابة ولا على الطفل فالحال لانه لا يصح يمينه فوجب التوقف إلى أن يبلغ.

(فصل)
وان كان للمدعى بينة عادلة قدمت على يمين المدعى عليه لانها حجة لا تهمة فيها لانها من جهة غيره واليمين حجة يتهم فيها لانها من جهته، ولا يجوز سماع البينة ولا الحكم بها إلا بمسألة المدعى لانه حق له فلا يستوفى إلا بإذنه، فإن قال المدعى عليه أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لان في ذلك طعنا في البينة العادلة.
وإن قال أبرأني منه فحلفوه أنه لم يبرئني منه أو قضيته فحلفوه إنى لم أقضه حلف لانه ليس في ذلك قدح في البينة وما يدعيه محتمل فحلف عليه، وان كانت البينة غير عادلة قال له القاضى زدنى في شهودك، وان قال المدعى لى بينة غائبة وطلب يمين المدعى عليه أحلف لان الغائبة كالمعدومة لتعذر اقامتها، فإن حلف المدعى عليه ثم حضرت البينة وطلب سماعها والحكم بها وجب سماعها والحكم بها لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة ولان البينة كالاقرار ثم يجب الحكم بالاقرار بعد اليمين فكذلك بالبينة وان قال لى بينة حاضرة ولكني أريد أن أحلفه حلف، لانه قد يكون له غرض في احلافه بأن يتورع عن اليمين فيقر، واثبات الحق بالاقرار أقوى وأسهل من اثباته بالبينة، وان قال ليس لى بينة حاضره ولا غائبة أو قال كل بينة

(20/160)


تشهد لى فهى كاذبة وطلب إحلافه فحلف ثم أقام البينة على الحق ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنها لا تسمع لانه كذبها بقوله
(والثانى)
أنه ان كان هو الذى استوثق بالبينة لم تسمع لانه كذبها، وإن كان غيره المستوثق بالبينة سمعت لانه لم يعلم بالبينة فرجع قوله لا بينة لى إلى ما عنده (والثالث) أنها تسمع بكل حال وهو
الصحيح لانه يجوز أن يكون ما علم، وإن علم فلعله نسى فرجع قوله لا بينة لى إلى ما يعتقده
(فصل)
وان قال المدعى لى بينة بالحق لم يجز له ملازمة الخصم قبل حضورها لقوله صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه ليس لك الا ذلك، وان شهد له شاهدان عدلان عند الحاكم وهو لا يعلم أن له دفع البينة بالجرح قال له قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عندي وقد أطردتك جرحهما، وان كان يعلم فله أن يقول وله أن يسكت، فإن قال المشهود عليه لى بينة بحرجهما نظر فإن لم يأت بها حكم عليه لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ في كتابه إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهى إليه، فإن أحضر بينته أخذت له حقه والا استحللت عليه القضية فانه أنفى للشك وأجلى العمى، ولا ينظر أكثر من ثلاثة أيام، لانه كثير وفيه اضرار بالمدعى، وان قال لى بينة بالقضاء أو الابراء أمهل ثلاثة أيام فان لم يأت بها حلف المدعى أنه لم يقضه ولم يبرئه ثم يقضى له لما ذكرناه وله أن يلازمه إلى أن يقيم البينة بالجرح أو القضاء لان الحق قد ثبت له في الظاهر، وان شهد له شاهدان ولم تثبت عدالتهما في الباطن فسأل المدعى أن يحبس الخصم إلى أن يسأل عن عدالة الشهود فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وهو ظاهر المذهب أنه يحبس لان الظاهر العدالة وعدم الفسق
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه لا يحبس لانه الاصل براءة ذمته، وان شهد له شاهد واحد وسأل أن يحبسه إلى أن يأتي بشاهد آخر ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يحبس كما يحبس إذا جهل عدالة الشهود
(والثانى)
أنه لا يحبس وهو الصحيح لانه لم يأت بتمام البينة، ويخالف إذا جهل عدالتهم، لان البينة تم عددها والظاهر عدالتها وقال أبو إسحاق ان كان الحق مما يقضى فيه بالشاهد واليمين حبس قولا واحدا لان الشاهد الواحد حجة فيه لانه يحلف معه

(20/161)


(فصل)
وإذا علم القاضى عدالة الشاهد أو فسقه عمل بعلمه في قبوله ورده، وإن علم حال المحكوم فيه نظرت، فان كان ذلك في حق الآدمى ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه لقوله عليه الصلاة والسلام للحضرمي شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك، ولانه لو كان علمه كشهادة اثنين لانعقد النكاح به وحده.

(والثانى)
وهو الصحيح وهو اختيار المزني رحمه الله أن يجوز أن يحكم بعلمه لما رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو علمه أو سمعه، ولانه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود وهو من قولهم على ظن فلان يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه وهو على علم أولى، وإن كان ذلك في حق الله تعالى ففيه طريقان.

(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هريرة إنها على قولين كحقوق الآدميين.

(والثانى)
وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه قولا واحد، لما روى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي، ولانه مندوب إلى ستره ودرئه.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هلا سترته بثوبك يا هزال، فلم يجز الحكم فيه بعلمه.

(فصل)
وإن سكت المدعى عليه ولم يقر ولم ينكر قال له الحاكم إن أجبت وإلا جعلتك ناكلا، والمستحب أن يقول له ذلك ثلاثا، فإن لم يجب جعله ناكلا وحلف المدعى وقضى له، لانه لا يخلو إذا أجاب من يقر أو ينكر، فان أقر فقد قضى عليه ما يحب على المقر، وان أنكر فقد وصل انكاره بالنكول
عن اليمين فقضينا عليه بما يحب على المنكر إذا نكل عن اليمين.

(فصل)
وإذا تحاكم إلى الحاكم أعجمى لا يعرف لسانه لم يقبل في الترجمة الا عدلين، لانه اثبات قول يقف الحكم عليه فلم يقبل الا من عدلين كالاقرار وان كان الحق مما يثبت بالشاهد والمرأتين قبل ذلك في الترجمة وان كان مما لا يقبل

(20/162)


فيه الا ذكرين لم يقبل في الترجمة الا ذكرين، فإن كان اقرارا بالزنا ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يثبت بشاهدين
(والثانى)
أنه لا يثبت الا بأربعة.

(فصل)
وان حضر رجل عند القاضى وادعى على غائب عن البلد أو على حاضر فهرب أو على حاضر في البلد استتر وتعذر احضاره، فان لم يكن بينة لم يسمع دعواه، لان استماعها لا يفيد، وان كانت معه بينة سمع دعواه وسمعت بينته، لانا لو لم تسمع جعلت الغيبة والاستتار طريقا إلى اسقاط الحقوق التى نصب الحاكم لحفظها ولا يحكم عليه الا أن يحلف المدعى أنه لم يبرئ من الحق لانه يجوز أن يكون قد حدث بعد ثبوته بالبينه ابراء أو قضاء أو حوالة.
ولهذا لو حضر من عليه الحق وادعى البراءة بشئ من ذلك سمعت دعواه وحلف عليه المدعى، فإذا تعذر حضوره وجب على الحاكم أن يحتاط له ويحلف عليه المدعى، وان ادعى على حاضر في البلد يمكن احضاره ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه تسمع الدعوى والبينة ويقضى بها بعد ما يحلف المدعى، لانه غائب عن مجلس الحكم فجاز القضاء عليه كالغائب عن البلد والمستتر في البلد
(والثانى)
أنه لا يجوز سماع البينة عليه ولا الحكم وهو المذهب، لانه يمكن سؤاله فلا يجوز القضاء عليه قبل السؤال كالحاضر في مجلس الحكم.
وان ادعى على ميت سمعت البينة وقضى عليه، فإن كان له وارث كان احلاف المدعى إليه، وان لم يكن له وارث فعلى الحاكم أن يحلفه ثم يقضى له، وان كان
على صبى سمعت البينة وقضى عليه بعد ما يحلف المدعى، لانه تعذر الرجوع إلى جوابه فقضى عليه مع يمين المدعى كالغائب والمستتر، وان حكم على الغائب ثم قدم أو على الصبى ثم بلغ كان على حجته في القدح في البينة والمعارضة ببينة يقيمها على القضاء أو الابراء.

(فصل)
ويجوز للقاضى أن يكتب إلى القاضى فيما ثبت عنده ليحكم به ويجوز أن يكتب إليه فيما حكم به لينفذه، لما روى الضحاك بن قيس قال كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أورث امرأة أشبم الضبابى من دية زوجها

(20/163)


ولان الحاجة تدعو إلى كتاب القاضى إلى القاضى فيما ثبت عنده ليحكم به وفيما حكم به لينفذه، فإن كان الكتاب فيما حكم به جار قبول ذلك في المسافة القريبة والبعيدة، لان ما حكم به يلزم كل أحد إمضاوه، وإن كان فيما ثبت عنده ولم يجز قبوله إذا كان بينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة، لان القاضى الكاتب فيما حمل شهود الكتاب كشاهد الاصل، والشهود الذين يشهدون بما في الكتاب كشهود الفرع وشاهد الفرع لا يقبل مع قرب شاهد الاصل.

(فصل)
ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان، وقال أبو ثور: يقبل من غير شهادة، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يكتب ويعمل بكتبه من غير شهادة.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: إذا عرف المكتوب إليه خط القاضى الكاتب وختمه جاز قبوله وهذا خطأ، لان الخط يشبه الخط والختم يشبه الختم فلا يؤمن أن يزور على الخط والختم، وإذا أراد انفاذ الكتاب أحضر شاهدين ويقرأ الكتاب عليهما أو يقرأ غيره وهو يسمعه، والمستحب أن ينظر الشاهدان في الكتاب حتى لا يحذف منه شئ، وان لم ينظرا جاز لانهما يؤديان ما سمعا.
وإذا وصلا إلى القاضى المكتوب إليه قرآ الكتاب عليه وقالا فشهد أن هذا الكتاب كتاب فلان اليك وسمعناه وأشهدنا أنه كتب اليك بما فيه، وان لم يقرآ الكتاب ولكنهما سلماه إليه وقالا نشهد أنه كتب اليك بهذا لم يجز، لانه ربما زور الكتاب عليهما، وان انكسر ختم الكتاب لم يضر، لان المعول على ما فيه وان محى بعضه، فإن كانا يحفظان ما فيه أو معهما نسخة أخرى شهدا وان لم يحفظاه ولا معهما نسخة أخرى لم يشهدا لانهما لا يعلمان ما أمحى منه.

(فصل)
وان مات القاضى الكاتب أو عزل جاز للمكتوب إليه قبول الكتاب والعمل به، لانه ان كان الكتاب بما حكم به وجب على كل من بلغه أن ينفذه في كل حال، وان كان الكتاب بما ثبت عنده فالمكاتب كشاهد الاصل، وشهود المكتاب كشاهد الفرع وموت شاهد الاصل لا يمنع من قبول شهادة شهود الفرع وان فسق المكاتب ثم وصل كتابه، فإن كان ذلك فيما حكم به لم يؤثر

(20/164)


فسقه لان الحكم لا يبطل بالفسق الحادث بعده، وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز الحكم به لانه كشاهد الاصل، وشاهد الاصل إذا فسق قبل الحكم لم يحكم بشهادة شاهد الفرع، وإن مات القاضى المكتوب إليه أو عزل أو ولى غيره قبل الكتاب لان المعول على ما حفظه شهود الكتاب وتحملوه، ومن تحمل شهادة وجب على كل قاض أن يحكم بشهادته.

(فصل)
فإن وصل الكتاب إلى المكتوب إليه فحضر الخصم وقال لست فلان بن فلان فالقول قوله مع يمينه لان الاصل أنه لا مطالبة عليه، فإن أقام المدعى بينة أنه فلان بن فلان فقال أنا فلان بن فلان الا أنى غير المحكوم عليه لم يقبل قوله إلا أن يقيم البينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به، لان الاصل عدم من يشاركه فلم يقبل قوله من غير بينة، وان اقام بينة أن له من يشاركه في
جميع ما وصف به توقف عن الحكم حتى يعرف من المحكوم عليه منهما، وإذا حكم المكتوب إليه على المدعى عليه بالحق فقال المحكوم عليه اكتب إلى الحاكم الكاتب انك حكمت على حتى لا يدعى على ثانيا ففيه وجهان.

(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى رحمه الله أنه يلزم لانه لا يأمن أن يدعى ثانيا ويقيم عليه البينة فيقضى عليه ثانيا.

(والثانى)
أنه لا يلزمه لان الحاكم انما يكتب ما حكم به أو ثبت عنده والكاتب هو الذى حكم أو ثبت عنده دون المكتوب إليه
(فصل)
إذا ثبت عند القاضى حق بالاقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده من الاقرار لزمه ذلك لانه لا يؤمن أن ينكر المقر فلزمه الاشهاد ليكون حجة له إذا أنكر، وان ثبت عنده الحق بيمين المدعى بعد نكول المدعى عليه فسأله المدعى أن يشهد على نفسه لزمه لانه لا حجة للمدعى غير الاشهاد، وان ثبت عنده الحق بالبينة فسأله المدعى الاشهاد ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا يجب لان له بالحق بينة فلم يلزم القاضى تجديد بينة أخرى
(والثانى)
أنه يلزمه لان في اشهاده على نفسه تعديلا لبينته واثباتا لحقه والزاما لخصمه، فإن ادعى عليه حقا فأنكره وحلف عليه وسأله الحالف أن يشهد على

(20/165)


براءته لزمه ليكون حجة له في سقوط الدعوى حتى لا يطالبه بالحق مرة أخرى وان سأله أن يكتب له محضر في هذه المسائل كلها وهو أن يكتب ما جرى وما ثبت به الحق، فإن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال ولم يأته المحكوم له بقرطاس لم يلزمه أن يكتب لان عليه ان يكتب وليس عليه أن يغرم، وان كان عنده قرطاس من بيت المال، أو أتاه صاحب الحق بقرطاس، فهل يلزمه أن يكتب المحضر؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يلزمه لانه وثيقة بالحق فلزمه كالاشهاد على نفسه.

(والثانى)
أنه لا يلزمه لان الحق يثبت باليمين أو بالبينة دون الحضر، وان سأله أن يسجل له وهو أن يذكر ما يكتبه في المحضر ويشهد على انفاذه ويسجل له فهل يلزم ذلك أم لا؟ على ما ذكرناه في كتب المحضر وما يكتب من المحاضر والسجلات يكتب في نسختين
(أحدهما)
تسلم إلى المحكوم له والاخرى تكون في ديوان الحكم، فان حضر عند القاضى رجلان لا يعرفهما وحكم بينهما ثم سأل المحكوم له كتب محضر أو سجل كتب: حضر إلى رجلان قال أحدهما انه فلان بن فلان وقال الآخر انه فلان بن فلان ويحليهما ويذكر ما جرى بينهما ويشهد على ذلك.

(فصل)
وان اجتمعت عنده محاضر وسجلات كتب على كل محضر اسم المتداعيين ويضم ما اجتمع منها في كل شهر أو في كل سنة على قدر قلتها وكثرتها وضم بعضها إلى بعض ويكتب عليها محاضر شهر كذا وكذا من سنة كذا ليسهل عليه طلبته إذا احتاج إليه.
وان حضر رجلان عند القاضى فادعى أحدهما أن له في ديوان الحكم حجة على خصمه فوجدها، فان كان حكما حكم به غيره لم يعمل به الا أن يشهد به شاهدان أن هذا حكم به فلان القاضى، ولا يرجع في ذلك إلى الخط والختم فانه يحتمل التزوير في الخط والختم، وان كان حكما حكم هو به فان كان ذاكرا للحكم به عالما به عمل به وألزم الخصم حكمه، وان كان غير ذاكر لم يعمل به لانه يجوز أن يكون قد زور على خطه وختمه

(20/166)


وإن شهد إثنان عليه أنه حكم به لم يرجع إلى شهادتهما لانه يشك في فعله فلا يرجع فيه إلى قول غيره، كما لو شك في فرض من فروض صلابته، فان شهد
الشاهدان على حكمه عند حاكم آخر أنفذ ما شهدا به، فإن شهد شاهدان أن الاول توقف في شهادتهما لم يجز للثاني أن ينفذ الحكم الذى شهدا به، لان الشهود فرع للحاكم الاول، فإذا توقف الاصل لم يجز الحكم بشهادة الفرع، كما لو شهد شاهدان على شهادة شاهد الاصل، ثم شهد شاهدان أن شاهد الاصل توقف في الشهادة.

(فصل)
إذا اتضح الحكم للقاضى بين الخصمين فالمستحب أن يأمرهما بالصلح فإن لم يفعلا لم يجز ترددهما لان الحكم لازم فلا يجوز تأخيره من غير رضا من له الحكم
(فصل)
إذا قال القاضى حكمت لفلان بكذا قبل قوله لانه يملك الحكم فقبل الاقرار به كالزوج لما ملك الطلاق قبل إقراره به، وإن عزل ثم قال حكمت لفلان بكذا لم يقبل إقراره لانه لا يملك الحكم فلم يملك الاقرار به، وهل يكون شاهدا في ذلك؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه يكون شاهدا لانه ليس فيه أكثر من أنه يشهد على فعل نفسه، وذلك لا يوجب رد شهادته، كما لو قالت امرأة أرضعت هذا الصبى.

(والثانى)
وهو المذهب أنه لا يكون شاهدا، لانه شهادته بالحكم تثبت لنفسه العدالة لان الحكم لا يكون إلا من عدل فتلحقه التهمة في هذه الشهادة فلم تقبل ويخالف المرضعة لان شهادتها بالرضاع لا تثبت عدالة لنفسها لان الرضاع يصح من غير عدل، ولان المغلب في الرضاع فعل المرتضع، ولهذا يصح به دونها، والمغلب في الحكم فعل الحاكم، فيكون شهادته على فعله فلم يقبل وبالله التوفيق.
(الشرح) حديث أم سلمه (من ابتلى ... ) رواه أبو يعلى والدارقطني والطبراني في الكبير من حديث أم سلمة وفى إسناده عبادة بن كثير وهو ضعيف
ورواه البيهقى عن أم سلمة وقال: هذا اسناد فيه ضعف.

(20/167)


(قلت) قال الحافظ في إسناده عبادة بن كثير وهو ضعيف، وذكر في السنن الكبرى البيهقى أنه عباد بن كثير.
أثر عمر (آس بين الناس في وجهك..) أخرجه البيهقى (هذا كتاب عمر إلى أبى موسى أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة أفهم إذا أدلى اليك فإنه لا ينفع كلمة حق لا نفاذ له، آسى بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما وحرم حلالا، ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهى إليه فإن جاء ببينة أعطيته بحقه) .
أثر (أن عليا حاكم يهوديا في درع..) أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكنى في ترجمة أبى سمية عن الاعمش عن ابراهيم التيمى وقال منكر، وأورده ابن الجوزى في العلل من هذا الوجه وقال لا يصح، تفرد به أبو سمية ورواه البيهقى من وجه آخر وفى إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي، وهما ضعيفان، قال ابن الصلاح في كلامه على الوسيط: لم أجد له إسنادا يثبت، وقال ابن عساكر في الكلام على أحاديث المهذب: إسناده مجهول.
أثر (أن رجلا نزل بعلى فقال ألك خصم..) أخرجه البيهقى بإسناد ضعيف منقطع وهو في مسند إسحاق بن راهويه، وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه ورواه ابن خزيمة في صحيحه عن على قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يضيف الخصم الا وخصمه معه، وأخرج الطبراني في الاوسط نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يضيف أحد الخصمين، وقال تفرد به الواسطي.
أثر (أن أبا بكر كتب إلى المهاجرين أمية أن ابعث إلى بقيس..) أخرجه البيهقى، وقال البركمانى على تقدير صحته فقد خالفه الشافعي.
حديث (يا أنيس اغد على امرأة هذا..) سبق تخريجه اللغة: قوله (لا يتورع) أي لا يتقى، والورع التقوى واجتناب الظلم، وقد ذكر.

(20/168)


قوله (أن يوافق قدر بلاء) القدر ما يقدر على الانسان ويقضى عليه من حكم الله السابق في علمه، يقال قدر وقدر بالفتح والاسكان، وأنشد الاخفش: ألا يا لقومي النوائب والقدر
* وللامر يأتي الهرء من حيث لا يدرى والبلاء ما يصيب الانسان من الشدة والتعب في النفس والمال قوله (جنبة المدعى) جنبة بمعنى جانب.
قوله (ونكل عن اليمين) قيل جبن وهاب الاقدام عليها.
قال: (فلم أنكل عن الضرب مسمعا) أي لم أجبن ولم أمتنع، وقيل نكل امتنع ومنه سمى القيد نكلا لانه يمنع المحبوس.
قوله (لطفل في حجره) الحجر بمعنى الحضن وهو ما بين الابط إلى الكشح وهو الجنب لانه يحمل هنالك.
قوله (طعنا في البينة) طعن فيه بالقول يطعن إذا انتقصه وجرحه قوله (أحق من اليمين الفاجرة) معناه الكاذبة وقد ذكرنا أن الفجر أصله الشق ومنه سمى الفجر، وقيل انه الميل عن القصد، فقيل للكاذب فاجر لانه مال عن الصدق، وقيل للمائل عن الخير والعادل عنه فاجر لانه مال عن الرشد قوله (ملازمة الخصم) هو أن يقعد معه حيث قعد، ويذهب معه حيث ذهب ولا يفارقه.
قوله (أطردتك جرحهما) يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون من الطرد بالتحريك وهو مزاولة الصيد للصيد كأنه يزاول جرحه ويختله من حيث لا يعلم.
والثانى يحتمل أن يكون معناه الاتباع، أي جعلت لك، أن تتبعه وتنظر زلاته ومعايبه، من مطاردة الفرسان.
قوله (أمدا ينتهى إليه) الامد الغاية كالمدى، يقال ما أمدك أي منتهى عمرك قوله (والا استحالت عليه القضية) يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون من الحلال ضد الحرام، أي جعل لك أن تقضى عليه ولم يحرم عليك والثانى أن يكون من الحول ضد التأجيل، أي قد وجب القضاء عليه وحان حلوله ولم يجز تأجيله.
قوله (أنفى للشك وأجلى العمى) أي أوضح وأبين، من جلا لى الخبر،

(20/169)


أي وضح وبان.
والعمى ههنا أراد به عمى القلب والتحير عن الصواب.
قوله (هيبة الناس) الهيبة الاجلال والمخافة، وهبت الشئ وتهيبته أي خفته قوله (لم يقبل في الترجمة إلا عدلين) يقال ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر ومنه الترجمان والجمع والتراجم مثل زعفران وزعافر، ويقال ترجمان، ولك أن تضم التاء بضم الجيم، فتقول ترجمان مثل سروع وسروع.
قال: كالترجمان لقى الانباطا.
القياس الجلى (1) نقيض الخفى.
وجلوت الشئ أظهرته بعد خفائه، ولهذا سمى الصبح ابن جلاء لانه يجلو الاشخاص ويظرها من ظلم الليل.
قوله (لا يؤمن أن يحرف (2) تحريف الكلام عن مواضعه تغييره قوله (ختم الكتاب) أي يجعل عليه شئ من شمع أو ما شاكله ويعلم عليه بعلامة من كتاب أو غيره، وأصله عند العرب ختم الدن وهو وعاء الخمر
بالطين.
قال الاعشى: وصهباء يطاوف يهوديها
* وأبرزها وعليها ختم دادويه هو خليفة باذام عامل النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، وهو أحد قتلة الاسود العنسى الكذاب.
حديث (أن رجلا من حضرموت ورجلا من كنده ... ) أخرجه مسلم والترمذي وصححه.
حديث (رد اليمين على صاحب الحق..) أخرجه البيهقى.
أثر أن المقداد استقرض من عثمان مالا فتحاكما ... أخرجه البيهقى.
حديث عمر (البينة العادلة أحق ... ) أخرجه البيهقى
__________
(1) كثيرا ما ياتي المقرر بكلمات لا مناسبة لها في المهذب ويشرحها، ومنها قوله (القياس الجلي) الخ (2) الموجود في المهذب (فلا يؤمن أن يزوروا، ولكن المقرر غير يزور يحرف وفسر التحريف

(20/170)


حديث (شاهداك أو يمينه..) عن الاشعث بن قيس قال: كان بينى وبين رجل خصومة في بئر فاختصما إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال (شاهداك أو يمينه) فقلت انه إذا يحلف ولا يبالى، فقال (من حلف عن يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان) متفق عليه.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قضى بيمين وشاهد) مسلم وأحمد، وفيها (انما كان ذلك في الاموال) .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قضى باليمين مع الشاهد) أحمد وابن ماجه والترمذي.
أثر كتب عمر إلى أبى موسى (واجعل لمن ادعى حقا غائبا..) سبق تخريجه
حديث (لا يمنع أحمدكم هيبة الناس ... ) أخرجه البيهقى عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق إذا علمه) قال أبو سعيد: فما زال بنا البلاء حتى قصرنا وإنا لنبلغ في السر، وفى رواية قال: وذلك الذى حملني على أن رحلت إلى معاوية فملات مسامعه ثم رجعت.
وفى رواية عنه (لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله عليه فيه مقال لا يقوم به فيلقى الله فيقول ما منعك أن تقول يوم كذا وكذا؟ قال يا رب انى خشيت الناس، قال إياى أحق أن تخشى) حديث (هلا سترته بثوبك ... ) سبق تخريجه.
حديث كتب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الضحاك أن أورث امرأة أقيم ... أخرجه البيهقى.

(20/171)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب القسمة

تجوز قسمة الاموال المشتركة لقوله عز وجل (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) ولان النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب يقال له الصفراء، وقسم غنائم خيبر على ثمانية عشر بينهما، وقسم غنائم حنين بأوطاس وقيل بالجعرانة، ولان بالشركاء حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد منهم من التصرف في ماله على الكمال ويتخلص من كثرة الايدى وسوء المشاركة.

(فصل)
ويجوز لهم أن يتقاسموا بأنفسهم ويجوز أن ينصبوا من يقسم بينهم ويجوز أن يرفعوا إلى الحاكم لينصب من أنفسهم بينهم، ويجب أن يكون القاسم عالما بالقسمة ليوصل كل واحد منهم إلى حقه، كما يجب أن يكون الحاكم
عالما ليحكم بينهم بالحق، فإن كان القاسم من جهة الحاكم لم يجز أن يكون فاسقا ولا عبدا، لانه نصبه لالزام الحكم فلم يجز أن يكون فاسقا ولا عبدا فالحاكم، فإن لم يكن فيها تقويم جاز قاسم واحد، وإن كان فيها تقويم لم يجز أقل من اثنين لان التقويم لا يثبت إلا باثنين، وان كان فيها خرص ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه يجوز أن يكون الخارص واحدا.

(والثانى)
أنه يجب أن يكون الخارص اثنين
(فصل)
إن كان القاسم نصبه الحاكم كانت أجرته من سهم المصالح، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أعطى القاسم من بيت المال، ولانه من المصالح فكانت أجرته من سهم المصالح، فإن لم يكن في بيت المال شئ وجبت على الشركاء على قدر أملاكهم لانه مؤنة تجب لمال مشترك فكانت على قدر الملك كنفقة العبيد والبهائم المشتركة، وإن كان القاسم نصبه الشركاء جاز أن يكون فاسقا وعبدا لانه وكيل لهم وتجب أجرته عليهم على ما شرطوا لانه أجير لهم.

(فصل)
وإن كان في القسمة رد فهو بيع لان صاحب الرد بذل المال

(20/172)


في مقابلة ما حصل له من حق شريكه عوضا، وإن لم يكن فيها رد ففيه قولان:
(أحدهما)
أنها بيع لان كل جزء من المال مشترك بينهما فإذا أخذ نصف الجميع فقد باع حقه بما حصل له من حق صاحبه.
(والقول الثاني) أنها فرز النصيبين وتمييز الحقين، لانها لو كانت بيعا لم يجز تعليقه على ما تخرجه القرعة، ولانها لو كانت بيعا لافتقرت إلى لفظ التمليك ولثبتت فيها الشفعة ولما تقدر بقدر حقه كسائر البيوع، فإن قلنا إنها بيع لم يجز فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب والعسل الذى انعقدت أجزاؤه بالنار، وإن قلنا إنها فرز النصبيين جاز.
وإن قسم الحبوب والادهان فإن قلنا انها بيع لم يجز أن يتفرقا من غير قبض ولم يجز قسمتها إلا بالكيل كما لا يجوز في البيع، وان قلنا انها فرز النصيبين لم يحرم التفرق فيها قبل التقابض ويجوز قسمتها بالتكيل والوزن.
وإن كانت بينهما ثمرة على شجرة، فإن قلنا إن القسمة بيع لم يجز قسمتها خرصا كما لا يجوز بيع بعضها ببعض خرصا، وإن قلنا انها تمييز الحقين فإن كانت ثمرة غير الكرم والنخل لم تجز قسمتها لانها لا يصح فيها الخرص، وان كانت ثمرة النخل والكرم جاز لانه يجوز خرصها للفقراء في الزكاة فجاز الشركاء
(فصل)
وان وقف على قوم نصف أرض وأراد أهل الوقف أن يقاسموا صاحب الطلق، فإن قلنا إن القسمة بيع لم يصح، وان قلنا انها تمييز الحقين نظرت فإن لم يكن فيها رد صحت وان كان فيها رد، فإن كان من أهل الوقف جاز لانهم يتنازعون الطلق، وان كان من أصحاب الطلق لم يجز لانهم يتنازعون الوقف.

(فصل)
وأن طلب أحد الشريكين القسمة وامتنع الآخر نظرت فإن لم يكن على واحد منهم ضرر في القسمه كالحبوب والادهان والثياب الغليظة وما تساوت أجزاؤه من الارض والدور أجبر الممتنع لان الطالب يريد أن ينتفع بماله على الكمال وأن يتخلص من سوء المشاركة من غير إضرار بأحد فوجبت اجابته إلى ما طلب، وان كان عليهما ضرر كالجواهر والثياب والمرتفعة إلى تنقص قيمتها بالقطع والرحى الواحدة والبئر والحمام الصغير لم يجبر الممتنع لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا ضَرَرَ وَلَا إضرار) وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن إضاعة

(20/173)


المال، ولانه إتلاف مال وسفه يستحق بها الحجر فلم يجبر عليه، وإن كان على أحدهما ضرر دون الآخر نظرت فإن كان الضرر على الممتنع أجبر عليها.
وقال أبو ثور رحمه الله: لا يجبر لانها قسمة فيها ضرر فلم يجبر عليها كما لو دخل الضرر
عليهما، وهذا خطأ لانه يطلب حقا له فيه منفعة فوجبت الاجابة إليه، وإن كان على المطلوب منه ضرر كما لو كان له دين على رجل لا يملك إلا ما يقصى به دينه، وإن كان الضرر على الطالب دون الآخر ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يجبر لانه قسمة لا ضرر فيها على أحدهما فأجبر الممتنع كما لو كان الضرر على الممتنع دون الطالب.

(والثانى)
أنه لا يجبر وهو الصحيح، لانه يطلب ما لا يستضر به فلم يجبر الممتنع، ويخالف إذا لم يكن على الطالب ضرر لانه يطلب ما ينتفع به، وهذا يطلب ما يستضر به، وذلك سفه فلم يجبر الممتنع.

(فصل)
وإن كان بينهما دور أو أراض مختلفة في بعضها نخل وفى بعضها شجر، أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها يسقى بالناضح وطلب أحدهما أن يقسم بينهما أعيانا بالقيمة وطلب الآخر قسمة كل عين، قسم كل عين لان كل واحد منهما له حق في الجميع فجاز له أن يطالب بحقه في الجميع، وإن كان بينهما عضائد متلاصقه وأراد أحدهما أن يقسم أعيانا وطلب الاخر أن يقسم كل واحد منها على الانفراد ففيه وجهان
(أحدهما)
أنها تقسم أعيانا كالدار الواحدة إذا كان فيها بيوت
(والثانى)
أنه يقسم كل واحدة منها، لان كل واحدة على الانفراد فقسم كل واحد منها فالدور المتفرقة.

(فصل)
فإن كان بينهما دار وطلب أحدهما أن تقسم فيجعل العلو لاحدهما والسفل للآخر وامتنع الاخر لم يجبر الممتنع لان العلو تابع العرصة في القسمة ولهذا لو كان بينهما عرصة وطلب أحدهما القسمة وجبت القسمة، ولو كان بينهما غرفة فطلب أحدهما القسمة لم يجب، ولا يجوز أن يجعل التابع في القسمة متبوعا.

(فصل)
وإن كان بين ملكهما عرصة حائط فأراد أن تقسم طولا فيجعل.

(20/174)


لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض واتفقا عليه جاز، وإن طلب أحدهما ذلك وامتنع الآخر أجبر عليها لانه لا ضرر فيها، وإن أرادا قسمتها عرضا في كمال الطول واتفقا عليه جاز، وان طلب أحدهما وامتنع الآخر ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يجبر لانه لا تدخله القرعة، لانه إذا أقرع بينهما ربما صار بهما مال كل واحد منهما إلى ناحية ملك الاخر ولا ينتفع به، وكل قسمة لا تدخلها القرعة لا يجبر عليها كالقسمة التى فيها رد.

(والثانى)
وهو الصحيح أنه يجبر عليها، لانه ملك مشترك يمكن كل واحد من الشريكين أن ينتفع بحصته إذا قسم فأجبر على القسمة، كما لو أراد أن يقسماها طولا، فإن كان بينهما حائط فأراد قسمته نظرت فإن أراد قسمته طولا في كمال العرض واتفقا عليه جاز، وإن أراد ذلك واحد وامتنع الآخر ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يجبر لانه لا بد من قطع الحائط وفى ذلك إتلاف
(والثانى)
أنه يجبر وهو الصحيح لانه تمكن قسمته على وجه ينتفعان به فأجبرا عليها كالعرصة فإن أرادا قسمته عرضا في كمال الطول واتفقا عليها جاز، وان طلب أحدهما وامتنع الاخر لم يجبر لان ذلك إتلاف وإفساد.

(فصل)
وإن كان بينهما أرض مختلفة الاجزاء بعضها عامر وبعضها خراب أو بعضها قوى وبعضها ضعيف أو بعضها شجر أو بناء وبعضها بياض أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها بالناضح نظرت، فإن أمكن التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بأن يكون الجيد في مقدمها والردئ في مؤخرها، فإذا قسمت بينهما نصفين صار إلى كل واحد منهما من الجيد والردئ مثل ما صار إلى الآخر من الجيد والردئ فطلب أحدهما هذه القسمة أجبر الآخر عليها، لانها كالارض
المتساوية الاجزاء في امكان التسوية بينهما فيها، وان لم تمكن التسوية بينهما في الجيد والردئ بأن كانت العمارة أو الشجر أو البناء في أحد النصفين دون الآخر نظرت، فإذا أمكن أن يقسم قسمة تعديل بالقيمة بأن تكون الارض ثلاثين جريبا وتكون عشرة أجربة من جيدها بقيمة عشرين جريبا من ردئيها فدعا إلى ذلك أحد الشركين وامتنع الآخر ففيه قولان،

(20/175)


(أحدهما)
أنه لا يجبر الممتنع لتعذر التساوى في الزرع وتوقف القسمة إلى أن يتراضيا.
(والقول الثاني) أنه يجبر لوجود التساوى بالتعديل، فعلى هذا في أجرة القسام وجهان:
(أحدهما)
أنه يجب على كل واحد منهما نصف الاجرة، لانهما يتساويان في أصل الملك.

(والثانى)
أنه يجب على صاحب العشرة ثلث الاجرة وعلى صاحب العشرين ثلثاها لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة، وان أمكن قسمته بالتعديل وقسمة الرد فدعا أحدهما إلى قسمة التعديل ودعا الآخر إلى قسمة الرد، فإن قلنا: ان قسمة التعديل يجبر عليها فالقول قول من دعا إليها، لان ذلك مستحق، وان قلنا: لا يجبر وقف إلى أن يتراضيا على احداهما.

(فصل)
وان كانت بينهما أرض مزروعة وطلاب أحدهما قسمة الارض دون الزرع وجبت القسمة، لان الزرع لا يمنع القسمة في الارض فلم يمنع وجوبها كالقماش في الدار، وان طلب أحدهما قسمة الارض والزرع لم يجبر، لان الزرع لا يمكن تعديله، فإن تراضيا على ذلك فإن كان بذرا لم يجز قسمته لانه مجهول، وان كان قد ظهر فإن كان مما لا ربا فيه كالقصيل والقطن جاز لانه
معلوم مشاهد، وان كان قد انعقد فيه الحب لم يجز لانا ان قلنا ان القسمة بيع لم يجز لانه بيع أرض وطعام بأرض وطعام، ولانه قسمة مجهول ومعلوم، وان قلنا ان القسمة فرز النصيبين لم يجز لانه قسمة مجهول ومعلوم
(فصل)
وإن كان بينهما عبيد أو ماشية أو أخشاب أو ثياب فطلب أحدهما قسمتها أعيانا وامتنع الآخر، فإن كانت متفاضلة يجبر الممتنع، وان كانت متماثلة ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس وأبى اسحاق وأبى سعيد قول أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أبى هريرة أنه لا يجبر الممتنع لانها أعيان مختلفة فلم يجبر على قسمتها أعيانا كالدور المتفرقة.

(20/176)


(فصل)
وإن كان بينهما منافع فأرادا قسمته مهايأة، وهو أن تكون العين في يد أحدهما مدة ثم في يد الاخر مثل تلك المدة جاز، لان المنافع كالاعيان فجاز قسمتها كالاعيان، وإن طلب أحدهما وامتنع الاخر لم يجبر الممتنع، ومن أصحابنا من حكى فيه وجها آخر أنه يجبر كما يجبر على قسمة الاعيان، والصحيح أنه لا يجبر لانه حق كل واحد منهما تعجل فلا يجبر على تأخيره بالمهايأة، ويخالف الاعيان فإنه لا يتأخر بالقسمة حق كل واحد، فإذا عقدا على مدة اختص كل واحد منهما بمنفعة تلك المدة، وإن كان يحتاج إلى النفقة كالعبد والبهيمة كانت نفقته على من يستوفى منفعته، وإن كسب العبد كسبا معتادا في مدة أحدهما كان لمن هو في مدته، وهل تدخل فيها الاكساب النادرة كاللقطة والركاز والهبة والوصية فيه قولان.

(أحدهما)
أنها تدخل فيها لانها كسب فأشبه المعتاد.

(والثانى)
أنها لا تدخل فيها لان المهايأة بيع لانه يبيع حقه من الكسب في أحد اليومين بحقه في اليوم الاخر والبيع لا يدخل فيه إلا ما يقدر على تسليمه
في العادة، والنادر لا يقدر على تسليمه في العادة، فلم يدخل فيه، فعلى هذا يكون بينهما.

(فصل)
وينبغى للقاسم أن يحصى عدد أهل السهام ويعدل السهام بالاجزاء أو بالقيمة أو بالرد، فإن تساوى عددهم وسهامهم كثلاثة بينهم أرض أثلاثا فله أن يكتب الاسماء ويخرج على السهام، وله أن يكتب السهام ويخرج على الاسماء، فإن كتب الاسماء كتبها في ثلاث رقاع في كل رقعة اسم واحد من الشركاء ثم يأمر من لم يحضر كتب الرقاع والبندقة أن يخرج رقعة على السهم الاول، فمن خرج اسمه أخذه ثم يخرج على السهم الثاني فمن خرج اسمه أخذه وتعين السهم الثالث للشريك الثالث، فإن كتب السهام كتب في ثلاث رقاع، في رقعة السهم الاول، وفى رقعة السهم الثاني، وفى رقعة السهم الثالث ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم أحد الشركاء، أي سهم خرج أخذه، ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم آخر، فأى سهم خرج أخذه الثاني، ثم يتعين السهم الباقي للشريك الثالث.

(20/177)


وإن اختلفت سهامهم فإن كان لواحد السدس وللآخر الثلث والثالث النصف قسمتها على أقل السهام وهو السدس فيجعلها أسداسا ويكتب الاسماء ويخرج على السهام فيأمر أن يخرج على السهم الاول، فإن خرج اسم صاحب السدس أخذه ثم يخرج على السهم الثاني إن خرج اسم صاحب الثلث أخذ الثاني والذى يليه، لانه له سهمين وتعين الباقي لصاحب النصف.
وإن خرجت الرقعة الاولى على اسم صاحب النصف أخذ السهم الاول والذين يليانه وهو الثاني والثالث ثم يخرج على السهم الرابع، فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذه والسهم الذى يليه وهو الخامس وتعين السهم السادس لصاحب السدس، وإنما قلنا انه يأخذ مع الذى يليه لينتفع بما يأخذه ولا يستضر به ولا يخرج في هذا القسم السهام على الاسماء لانالو فعلنا ذلك ربما خرج السهم
الرابع لصاحب النصف فبقول آخذه وسهمين قبله، ويقول الاخران بل نأخذه وسهمين بعده فيؤدى إلى الخلاف والخصومة.

(فصل)
وإذا ترافع الشريكان إلى الحاكم وسألاه أن ينصب من يقسم بينهما فقسم قسمة اجبار لم يعتبر تراضى الشركاء، لانه لما لم يعتبر التراضي في ابتداء القسمة لم يعتبر بعد خروج القرعة، فإن نصب الشريكان قاسما فقسم بينهما فالمنصوص أنه يعتبر التراضي في ابتداء القسمة وبعد خروج القرعة، وقال في رجلين حكما رجلا ليحكم بينهما ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه يلزم الحكم ولا يعتبر رضاهما.

(والثانى)
أنه لا يلزم الحكم إلا برضاهما والقاسم ههنا بمنزلة هذا الحاكم لانه نصبه الشريكان فيكون على قولين، أحدهما وهو المنصوص أنه يعتبر الرضى بعد خروج القرعة، لانه لما اعتبر الرضا في الابتداء اعتبر بعد خروج القرعة والثانى أن لا يعتبر، لان القسام مجتهد في تعديل السهام والاقراع، فلم يعتبر الرضى بعد حكمه كالحاكم، وان كان في القسمة رد وخرجت القرعة لم تلزم إلا بالتراضى.
وقال أبو سعيد الاصطخرى تلزم من غير تراض كقسمة الاجبار،

(20/178)


وهذا خطأ لان في قسمته الاجبار لا يعتبر الرضى في الابتداء، وههنا يعتبر فاعتبر بعد القرعة.

(فصل)
إذا تقاسما أرضا ثم ادعى أحدهما غلطا، فإن كان في قسمة اجبار لم يقبل قوله من غير بينة، لان القاسم كالحاكم فلم تقبل دعوى الغلط عليه من غير بينة كالحاكم، فإن أقام البينة على الغلط نقضت القسمة، وان كان في قسمة اختيار نظرت فإن تقاسما بأنفسهما من غير قاسم لم يقبل قوله لانه رضى بأخذ حقه ناقصا، وان أقام بينة لم تقبل لجواز أن يكون قد رضى دون حقه ناقصا
وان قسم بينهما قاسم نصباه، فإن قلنا انه يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة لم تقبل دعواه لانه رضى بأخذ الحق ناقصا، وان قلنا انه لا يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة فهو كقسمة الاجبار فلا يقبل قوله الا ببينة، فإن كان في القسمة رد لم يقبل قوله على المذهب، وعلى قول أبى سعيد الاصطخرى هو كقسمة الاجبار فلم يقبل قوله الا ببينة.

(فصل)
وان تنازع الشريكان بعد القسمة في بيت في دار اقتسماها فادعى كل واحد منهما أنه في سهمه ولم يكن له بينة تحالفا ونقضت القسمة كما قلنا في المتبايعين، وأن وجد أحدهما بما صار إليه عينا فله الفسخ كما قلنا في البيع
(فصل)
إذا اقتسما أرضا ثم استحق مما صار لاحدهما شئ بعينه نظرت فإن استحق مثله من نصيب الاخر أمضيت القسمة، وان لم يستحق من حصة الاخر مثله بطلت القسمة، لان لمن استحق ذلك من حصته أن يرجع في سهم شريكه، وإذا استحق ذلك عادت الاشاعة، وإذا استحق جزء مشاع بطلت القسمة في المتسحق، وهل تبطل في الباقي فيه وجهان.

(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يبنى على تفريق الصفقة فإن قلنا ان الصفقة لا تفرق بطلت القسمة في الجميع، وان قلنا انها تفرق صحت في الباقي.

(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أن القسمة تبطل في الباقي قولا واحدا،

(20/179)


لان القصد من القسمة تمييز الحقين ولم يحصل ذلك لان المستحق صار شريكا لكل واحد منهما فبطلت القسمة.

(فصل)
إذا قسم أو ارثان التركة ثم ظهر دين على الميت فإنه يبنى على بيع التركة قبل قضاء الدين، وفيه وجهان ذكرناهما في التفليس، فإن قلنا إن القسمة
تمييز الحقين لم تنقض القسمة، وإن قلنا إنها بيع ففى نقضها وجهان والله أعلم (الشرح) قسم غنائم بدر بشعب..سبق تخريجه في باب الغنائم.
وروى البخاري ومسلم من حديث جابر ومن حديث ابن مسعود وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم بين المسلمين.
حديث (قسم غنائم خيبر ... ) سبق تخريجه في باب الغنائم حديث (قسم غنائم حنين ... ) سبق تخريجه في باب الغنائم أثر (أن عليا رضى الله عنه أعطى القاسم ... ) لم أجده حديث (لا ضرر ولا ضرار) أخرجه ابن ماجه والدارقطني من حديث أبى سعيد، وكذلك رواه مالك مرسلا وحسنه النووي في الاربعين النووية حديث (نهى عن إضاعة المال) أخرج البخاري ومسلم عن المغير بن شعبة (إن الله حرم عليكم عقوق الامهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) اللغة قوله (فارزقوهم منه) أي اعطوهم، والرزق العطاء، ورزق الجند عطاؤهم، وقولوا لهم قولا معروفا.
قال في التفسير قولا جميلا للاعتذار قوله (وإن كان في القسمة رد) الرد ما يرده أحد الشريكين إلى صاحبه إذا لم يتعادل الجزءان فيرد صاحب الجزء الكثير على صاحب القليل، من رده إذا رجعه إليه.
قوله (فرز النصببين) الفرز مصدر فرزت الشئ أفرزه فرزا إذا عزلته عن غيره وميزته، والقطعة منه فرزة بالكسر، وكذلك أفرزته بالهمز وكذلك التمييز مثله، لا ضرر ولا إضرار، وقد ذكر قوله (صاحب الطلق) بكسر الطاء هو ضد الوقف، سمى طلقا لان مالكه

(20/180)


مطلق التصرف فيه والوقف غير مطلق التصرف بل هو ممنوع من بيعه وهبته، والمطلق أيضا الحلال.
قوله (أراض) قال أهل النحو لا يجوز جمع أرض على أراض والصواب أرضون بفتح الراء لان أفاعل جمع أفعل كأحمر وأحامر وأفكل وأفاكل، ولا يجمع فعل على أفاعل بل يجمع على أرضين وأراض في القليل وأروض أيضا، وقال الجوهرى: أراض جمع وآراض جمع الجمع قوله (يسقى بالسيح) هو الماء الجارى على وجه الارض، وقد ذكر في الزكاة، والناضح البعير الذى يستقى عليه، والانثى ناضحة وسانية، والناضح الذى ينضح على البعير أي يسوق السانية ويسقى بخلاف غيره.
قوله (وإن كان بينهما عضائد) أراد دكاكين متلاصقة متوالية البناء، قال الجوهرى: أعضاء كل شئ ما يسند حوله من البناء وغيره كأعضاد الحوض، وهى حجارة تنصب حول شفيره، ولعلها سميت عضائد من هذا البناء، ويقال عضد من نخل إذا كانت منعطفة متساوية، والعرصة هي ساحة فارغة لا بناء فيها بين الدور، والجمع العراص والعرصات، والحائط معروف وهو الجدار، سمى حائطا لانه يحيط بما دونه.
قوله (فأراد قسمتها مهايأة) المهايأة أصلها الاصلاح، وهيأت الشئ أصلحته وهى مفاعلة من ذلك، فإذا تصالحا على هذه القسمة قيل تهايأ مهايأة، والاكساب المبادرة التى تشذ ويعدم وجودها في كل حين.
قوله (جزء مشاع) من أشعت الخبر أي أذعته فهو شائع في الناس لا يعلمه واحد دون واحد، كذلك الشئ المشاع بين الشركاء لا يختص به واحد دون واحد قوله (التركة) ذكرنا أن التركة ما يتركه الميت تراثا فعلة من الترك والنظر في هذا الكتاب في:
1 - القاسم 2 - المقسوم عليه 3 - القسمة والقسمة تنقسم أولا إلى قسمين (1) قسمة رقاب الاموال (2) منافع الرقاب

(20/181)


فأما قسمة الرقاب التى لا تكال ولا توزن فتقسم بالجملة إلى ثلاثة أقسام: 1 - قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل 2 - قسمة مراضاة بعد تقويم وتعديل 3 - قسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل وأما ما يكال أو يوزن فبالكيل والوزن.
وأما الرقاب فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ما لا ينقل ولا يحول وهى الرباع والاصول، وما ينقل ويحول، وهذا قسمان، إما غير مكيل ولا موزون وهو الحيوان والعروض، وإما مكيل أو موزون، ففى هذا الباب ثلاثة فصول: الاول في الرباع والاصول، والثانى في العروض، والثالث في المكيل والموزون.
الرباع والاصول فيجوز أن تقسم بالتراضى وبالسهمة إذا عدلت بالقيمة، اتفق أهل العلم على ذلك اتفاقا مجملا.
وإن كانوا اختلفوا في محل ذلك وشروطه، والقسمة لا تخلو أن تكون في محل واحد أو في محال كثيرة، فإذا كانت في محل واحد فلا خلاف في جوازها إذا انقسمت إلى أجزاء متساوية بالصفة ولم تنقص منفعة الاجزاء بالانقسام ويجبر الشركاء على ذلك، وأما إذا انقسمت إلى ما لا منفعة فيه، فاختلف في ذلك مالك وأصحابه، فقال مالك أنها تقسم بينهم إذا دعى أحدهم لذلك، ولو لم يصر لواحد منهم الا مالا منفعة فيه، مثل قدر القدم، وبه قال ابن كنانة من أصحابه فقط، وهو قول أبى حنيفة والشافعي.
وقال ابن القاسم لا يقسم إلا أن يصير لكل واحد في حظه ما ينتفع به من غير مضرة داخلة عليه في الانتفاع من قبل القسمة، وان كان لا يراعى في ذلك
نقصان الثمن.
وقال ابن الماجشون يقسم إذا صار لكل واحد منهم ما ينتفع به، وان كان من غير جنس المنفعة التى كانت في الاشتراك أو كانت أقل، وقال مطرف من أصحابه: إن لم يصر في حظ كل واحد ما ينتفع به لم يقسم، وان صار في حظ بعضهم ما ينتفع به وفى حظ بعضهم مالا ينتفع به قسم وجبروا على ذلك، سواه

(20/182)


دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل أو الكثير، وقيل يجبر إن دعا صاحب النصيب القليل، ولا يجبر ان دعا صاحب النصيب الكثير، وقيل بعكس هذا وهو ضعيف.
واختلفوا من هذا الباب فيما إذا قسم انتقلت منفعته إلى منفعة أخرى مثل الحمام، فقال مالك يقسم إذا طلب ذلك أحد الشريكين، وبه قال أشهب.
وقال ابن القاسم لا يقسم، وهو قول الشافعي، فعمدة من منع القسمة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار) .
وقوله (لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم) والتعضية التفرقة وعمدة من رأى القسمة قوله تعالى (مما قل أو كثر نصيبا مفروضا) .
أما إذا كانت الرباع أكثر من واحد فإنها لا تخلو أيضا أن تكون من نوع واحد ومختلفة الانواع، فإذا كانت متفقة الانواع فإن فقهاء الامصار في ذلك مختلفون، فقال مالك إذا كانت متفقة الانواع قسمت بالتقويم والتعديل والسهمة.
وقال أبو حنيفة والشافعي: بل يقسم كل عقار على حدته، فعمدة ذلك أنه أقل للضرر الداخل على الشركاء من القسمة، وعمدة الفريق الثاني أن كل عقار قائم بنفسه لانه تتعلق به الشفعة.
واختلف أصحاب مالك إذا اختلفت الانواع المتفقة في النفاق وإن تباعدت
مواضعها على ثلاثة أقوال.
وأما إذا كانت الرباع مختلفة مثل أن يكون منها دور ومنها حوائط ومنها أرض فلا خلاف أنه لا يجمع في القسمة بالسهمية، ومن شرط قسمة الحوائط المثمرة أن لا تقسم مع الثمرة إذا بدا صلاحها باتفاق، وأما قسمتها قبل بدو الصلاح ففيه اختلاف، وأما ان كان بعد الابار فإنه لا يجوز الا بشرط.
وصفة القسم بالقرعة أن تقسم الفريضة وتحقق وتضرب ان كان في سهامها كسر إلى أن تصح السهام، ثم تقوم كل موضع منها وكل نوع من غراساتها، ثم يعدل على أقل السهام بالقيمة، فإذا قسمت على هذه الصفات وعملت وكتبت في بطائق أسماء المشتركين وأسماء الجهات، فمن خرج اسمه في جهة أخذ منها، وقيل يرمى بالاسماء في الجهات، فهذه هي حال قرعة السهم في الرقاب، والسهمة انما

(20/183)


جعلها الفقهاء في القسمه تطيببا لنفوس المتقاسمين، وهى موجودة في الشرع في قوله تعالى (فساهم فكان من المدحضين) (وما كنت لديهم أذ يلقون أقلامهم) والاثر الصحيح الذى جاء فيه أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق ثلث ذلك الرقيق.
وأما القسمة بالتراضى سواء كانت بعد تعديل وتقويم أو بغير تقويم وتعديل فتجوز في الرقاب المتفقة والمختلفة.
(العروض) وأما الحيوان والعروض فاتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قسمة واحد منها للفساد الداخل في ذلك، واختلفوا إذا تشاح الشريكان في العين الواحدة منهما ولم يتراضيا الانتفاع بها على الشياع وأراد أحدهما أن يبيع صاحبه معه، فقال مالك وأصحابه يجبر على ذلك، فإن أراد أحدهما أن يأخذ بالقيمة التى أعطى
فيها أخذه.
وقال أهل الظاهر لا يجبر لان الاصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده الا بدليل من كتاب أو سنة أو اجماع، وحجة مالك أن في ترك الاجبار ضررا وهذا من باب القياس المرسل، وقد قلنا في غير ما موضع أنه ليس يقول به أحد من فقهاء الامصار الا مالك، ولكنه كالضروري في بعض الاشياء، وأما إذا كانت العروض أكثر من جنس واحد فاتفق العلماء على قسمتها على التراضي واختلفوا في قسمتها بالتعديل والسهمة.
(المكيل والموزون) فلا تجوز فيه القرعة باتفاق، والمكيل لا يخلو أن يكون صبرة أو صبرتين فزائدا فلا يخلو أن تكون قسمته على الاعتدال بالكيل أو الوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشريكين، ولا خلاف في جواز قسمته على التراضي على التفصيل البين كان ذلك من الربوي أو من غير الربوي، أعنى الذى لا يجوز فيه التفاضل ويجوز ذلك بالكيل المعلوم والمجهول، ولا يجوز قسمته جزافا بغير كيل ولا وزن وأما ان كانت قسمته تحريا فقيل لا يجوز في المكيل ويجوز في الموزون

(20/184)


ويدخل في ذلك من الخلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا، وأما إن لم يكن ذلك من صبرة واحدة وكانا صنفين، فإن كان ذلك مما لا يجوز فيه التفاضل فلا تجوز قسمتها على جهة الجمع إلا بالكيل المعلوم فيم يكال وبالوزن بالصنجة المعروفة فيما يوزن، لانه إن كان بمكيال مجهول لم يدر كم يحصل فيه من الصنف الواحد إذا كانا مختلفين من الكيل المعلوم، وهذا كله مذهب مالك، وأما إن كان مما يجوز فيه التفاضل فيجوز قسمته على الاعتدال والتفاضل المعروف بالمكيال المعروف أو الصنجة المعروفة.
(قسمة المنافع) فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم ولا يجبر عليها من أباها ولا تكون القرعة على قسمة المنافع، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر على قسمة المنافع، وقسمة المنافع هي عند الجميع بالمهايأة، وذلك اما بالازمان واما بالاعيان، أما قسمة المنافع بالازمان فهو أن ينتفع كل واحد منهما بالعين مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه، وأما قسم الاعيان بأن يقسما الرقاب على أن ينتفع كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة والرقاب باقية على أصل الشركة، وفى قسمة المنافع بالزمان واختلاف في تحديد المدة التى يجوز فيها القسمة لبعض المنافع دون بعض للاغتلال أو الانتفاع مثل استخدام العبد وركوب الدابة وزراعة الارض، وذلك أيضا فيما ينقل ويحول أو لا ينقل ولا يحول، فأما فيما ينقل ويحول فلا يجوز عند مالك وأصحابه في المدة الكثير ويجوز في المد اليسيرة وذلك في الاغتلال الانتفاع واما فيما لا ينقل ولا يحول في المدة البعيده والاجل البعيد وذلك في الاغتلال والانتفاع.
واختلفوا في المدة اليسيرة فيما ينقل ويحول في الاغتلال، فقيل اليوم الواحد ونحوه، وقيل لا يجوز ذلك في الدابة والعبد وأما الاستخدام فقيل يجوز في الخمسة الايام، وقيل في الشهر وأكثر من الشهر قليلا.
وأما التهايؤ في الاعيان بأن يستعمل هذا دارا مدة من الزمان وهذا دارا تلك المدة بعينها، فقيل يجوز في سكنى الدار وزراعة الارضين ولا يجوز ذلك

(20/185)


في الغلة والكراء إلا في الزمان اليسير، وقيل يجوز على قياس التهايؤ بالازمان وكذلك القول في استخدام العبد والدواب يجرى القول فيه على الاختلاف في قسمتها بالزمان.
وقالت الحنابلة: والقسمة نوعان عن تراض أو إجبار ولا قسمة في مشترك إلا برضا الشركاء كلهم حيث كان في القسمة ضرر ينقص القيمة كحمام ودور
صغار وشجر مفرد وحيوان، وحيث تراضيا صحت وكانت بيعا يثبت فيها ما يثبت فيه من الاحكام.
وإن لم يتراضيا ودعا أحدهما شريكه إلى البيع في ذلك أو إلى بيع عبد أو بهيمة أو سيف ونحوه مما هو شركة بينهما أجبر ان امتنع، فإن أبى بيع عليهما وقسم الثمن ولا إجبار في قسمة المنافع، فإن اقتسماها بالزمن كهذا شهرا والآخر مثله أو بالمكان كهذا في بيت والاخر في بيت صح جائزا ولكل الرجوع.
النوع الثاني قسمة إجبار وهى ما لا ضرر فيها ولا رد عوض، وتتأتى في مكيل وموزون وفى دار كبيرة وأرض واسعة ويدخل الشجر تبعا، وهذا النوع ليس بيعا فيجبر الحاكم أحد الشريكين إذا امتنع، ويصح أن يتقاسما بأنفسهما وأن ينصبا قاسما بينهما، ويشترط إسلامه وعدالته وتكليفه ومعرفته بالقسمة وأجرته على قدر أملاكهما، وان تقاسما بالقرعة جاز ولزمت القسمة بمجرد خروج القرعة ولو فيما فيه رداءة وضرر.
وان خير أحدهما الاخر بلا قرعة وتراضيا لزمت بالتفرق، وان خرج في نصيب أحدهما عيب جهله خير بين فسخ وامساك ويأخذ الارش، وان غبن غبنا فاحشا بطلت، وان ادعى كل أن هذا من سهمه تحالفا ونقضت، وان حصلت الطريق في حصة أحدهما ولا منفذ للآخر بطلت.

(20/186)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب الدعوى والبينات

لا تصح دعوى مجهول في غير الوصية، لان القصد بالحكم فصل الحكومة والتزام الحق ولا يمكن ذلك في المجهول، فإن كان المدعى دينا ذكر الجنس والنوع والصفة، وإن كان عينا باقيا ذكر صفتها، وإن ذكر قيمتها كان أحوط، وإن
كانت العين تالفة، فإن كان لها مثل ذكر صفتها، وإن ذكر القيمة كان أحوط، وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها، وإن كان المدعى سيفا محلى أو لجاما محلى، فإن كان بفضة قومه بالذهب، وإن كان بالذهب قومه بالفضة، وان كان محلى بالذهب والفضة قومه بما شاء منهما.
وإن كان المدعى مالا عن وصية جاز أن يدعى مجهولا، لان بالوصية يملك المجهول، ولا يلزم في دعوى المال ذكر السبب الذى ملك به لان أسبابه كثيرة فيشق معرفة سبب كل درهم فيه، وان كان المدعى قتلا لزمه ذكر صفته وأنه عمد أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره، ويذكر صفته وأنه عمد أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره، ويذكر صفة العمد لان القتل لا يمكن تلافيه، فإذا لم يبين لم تؤمن أن يقتص فيما لا يجب فيه القصاص، وان كان المدعى نكاحا فقد قال الشافعي رحمه الله: لا يسمع حتى يقول نكحتها بولي وشاهدين ورضاها، فمن أصحابنا من قال لا يشترط لانه دعوى ملك فلا يشترط فيه ذكر السبب كدعوى المال، وما قال الشافعي رحمه الله ذكره على سبيل الاستحاب، كما قال في امتحان الشهود إذا ارتاب بهم.
ومنهم قال ان ذلك شرط لانه مبنى على الاحتياط وتتعلق العقوبة بجنسه، فشرط في دعواه ذكر الصفة كدعوى القتل.
ومنهم قال ان كان يدعى ابتداء النكاح لزمه ذكره لانه شرط في الابتداء، وان كان يدعى استدامة النكاح لم يشترط لانه ليس بشرط في الاستدامة، وان ادعت امرأة على رجل نكاحا، فإن كان مع النكاح حق تدعيه من مهر أو نفقة سمعت دعواها، وان لم تدع حقا سواه ففيه وجهان

(20/187)


(أحدهما)
أنه لا تسمع دعواها لان النكاح حق للزوج على المرأة فإذا
ادعت المرأة كان ذلك اقرارا، والاقرار لا يقبل مع انكار المقر له، كما لو أقرت له بدار.

(والثانى)
أنه تسمع لان النكاح يتضمن حقوقا لها فصح دعواها فيه، وان كان المدعى بيعا أو اجارة ففيه ثلاثة أوجه: (أحدها) أنه لا يفتقر إلى ذكر شروطه لان المقصود به المال فلم يفتقر إلى ذكر شروطه كدعوى المال.

(والثانى)
أنه يفتقر إلى ذكر شروطه لانه دعوى عقد فافتقر إلى ذكر شروطه كالنكاح.
(والثالث) أنه ان كان في غير الجارية لم تفتقر لانه لا يقصد به غير المال وان كان في جارية افتقر لانه يملك به الوطئ فأشبه النكاح، وما لزم ذكره في الدعوى ولم يذكره، سأله الحاكم عنه ليذكره، فتصير الدعوى معلومة فيمكن الحكم بها.

(فصل)
وإن ادعى عليه مالا مضافا إلى سببه فإن ادعى عليه ألفا اقترضه أو أتلف عليه فقال ما أقرضنى أو ما أتلفت عليه صح الجواب لانه أجاب عما ادعى عليه، وان لم يتعرض لما ادعى عليه بل قال لا يستحق على شيئا صح الجواب ولا يكلف انكار ما ادعى عليه من القرض أو الاتلاف لانه يجوز أن يكون قد أقرضه أو أتلف عليه ثم قضاه أو أبرأه منه، فإن أنكره كان كاذبا في إنكاره وإن أقر به لم يقبل قوله انه قضاء أو أبرأه منه فيستضر به، وان أنكر الاستحقاق كان صادقا ولم يكن عليه ضرر.

(فصل)
وان ادعى على رجل دينا في ذمته فأنكره لم تكن بينة فالقول قوله مع يمينه لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ أَنَّ الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن
اليمين على المدعى عليه، ولان الاصل براءة ذمته فجعل القول قوله وان ادعى عينا في يده فأنكره ولا بينة فالقول قوله مع يمينه لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في قصة الحضرمي والكندي شاهداك أو يمينه، ولان الظاهر من اليد

(20/188)


الملك فقبل قوله، وإن تداعيا عينا في يدهما ولا بينة حلفا وجعل المدعى بينهما نصفين لما روى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رجلين تداعيا دابة ليس لاحدهما بينة فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ولان يد كل واحد منهما على نصفها فكان القول فيه قوله، كما لو كانت العين في يد أحدهما.

(فصل)
وإن تداعيا عينا ولاحدهما بينة وهى في يدهما أو في يد أحدهما أو في يد غيرهما حكم لمن له البينه لقوله صلى الله عليه وسلم (شاهدان أو يمينه) فبدأ بالحكم بالشهادة، ولان البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها، واليد تحتمل الملك وغيره، والذى يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها، وإن كان لكل واحد منهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما قضى لمن له اليد من غير يمين ومن أصحابنا من قال لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين لان بينته تعارضها بينة المدعى فتسقطها ويبقى له اليد.
واليد لا يقضى بها من غير يمين، المنصوص أنه يقضى له من غير يمين لان معه بينة معها ترجيح وهو اليد ومع الآخر بينة لا ترجيح معها، والحجتان إذا تعارضتا ومع إحداهما ترجيح قضى بالتى معها الترجيح، كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما قياس، وإن كانت العين في يد أحدهما فأقام الآخر بينة فقضى له وسلمت العين إليه ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه، لانا حكمنا للآخر ظنا منا أنه لا بينة له، فإذا أتى بالبينة بان لنا أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر.

(فصل)
وإن كان لكل واحد منهما بينة والعين في يدهما أو في يد غيرهما أو لا يد لاحدهما عليها تعارضت البينتان، وفيهما قولان
(أحدهما)
أنهما يسقطان وهو الصحيح لانهما حجتان تعارضتا ولا مزية لاحداهما على الاخرى فسقطتا كالنصين في الحادثة، فعلى هذا يكون الحكم فيه، كما لو تداعيا ولا بينة لواحد منهما.

(والثانى)
أنهما يستعملان وفى كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال.
أحدها أنه يوقف الامر إلى أن ينكشف أو يصطلحا، لان إحداهما صادقة والاخرى كاذبة ويرجى معرفة الصادقة فوجب التوقف، كالمرأة إذا زوجها وليان أحدهما بعد

(20/189)


الآخر وفى السابق منهما.
والثانى أنه يقسم بينهما لان البينة حجة كاليد، ولو استويا في اليد قسم بينهما فكذلك إذا استويا في البينة.
والثالث أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حكم له لانه لا مزية لاحداهما على الاخرى فوجب التقديم بالقرعة كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما.

(فصل)
وان كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الآخر أربعة وأكثر فهما متعارضتان وفيهما القولان لان الاثنين مقدران بالشرع فكان حكمهما وحكم ما زاد سواء، وإن كانت إحدى البينتين أعدل من الاخرى فهما متعارضتان وفيهما القولان، ولانهما متساويتان في إثبات الحق.
وإن كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الآخر شاهدا وامرأتين فهما متعارضتان وفيهما القولان لانهما يتساويان في إثبات المال، وان كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الاخر شاهدا ويمينا ففيه قولان
(أحدهما)
أنهما يتعارضان وفيهما القولان لانهما تساويا في اثبات المال (والقول الثاني) أنه يقضى لمن له الشاهدان لان بينته مجمع عليها وبينة الاخر مختلف فيها.

(فصل)
وان كانت العين في يد غيرهما فشهدت بينة أحدهما بأنه ملكه من سنة وشهدت بينة الآخر أنه ملكه من سنتين ففيه قولان.
قال في الهويطى هما سواء لان القصد إثبات الملك في الحال وهما متساويتان في اثبات الملك في الحال والقول الثاني أن التى شهدت بالملك المتقدم أولى وهو اختيار المزني وهو الصحيح لانها انفردت بإثبات الملك في زمان لا تعارضها فيه البينة الاخرى.
وأما إذا كان الشئ في يد أحدهما فإن كان في يد من شهد له بالملك المتقدم حكم له، وان كان في يد الآخر فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبوا لعباس رحمه الله بينى على القولين في المسألة قبلها ان قلنا انهما يتساويان حكم لصاحب اليد، وان قلنا ان التى شهدت بالملك المتقدم تقدم قدمت ههنا أيضا لان الترجيح من جهة البينة أولى من الترجيح باليد.
ومن أصحابنا من قال يحكم به لمن هو في يده قولا واحدا لان اليد الموجودة أولى من الشهادة بالملك المتقدم.
وأما إذا تداعيا دابة وأقام أحدهما بينة أنها ملكه نتجت في ملكه، وأقام

(20/190)


الآخر أنها دابته ولم يذكر النتاج فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو العباس الحكم فيه كالحكم في الشهادة بالملك المتقدم وفيها قولان، لان الشهادة بالنتاج كشهادته بالملك المتقدم.
وقال أبو إسحاق: يحكم لمن شهدت له البينة بالنتاج قولا واحدا، لان بينة النتاج تنفى أن يكون الملك لغيره، والبينة بالملك المتقدم لا تنفى أن يكون الملك قبل ذلك لغير المشهود له
(فصل)
إذا ادعى رجل دارا في يد رجل وأقام بينة أن هذه الدار كانت في يده أو في ملكه أمس فقد نقل المزني والربيع أنه لا يحكم بهذه الشهادة، وحكى البويطى أن يحكم بها، فقال أبو العباس فيها قولان: أحدهما أنه يحكم
بذلك لانه قد ثبت بالبينة أن الدار كانت له والظاهر بقاء الملك.
والقول الثاني أنه لا يحكم بها وهو الصحيح لانه ادعى ملك الدار في الحال وشهدت له البينة بما لم يدعه فلم يحكم بها، كما لو ادعى دارا فشهدت له البينة بدار أخرى.
وقال أبو إسحاق لا يحكم بها قولا واحدا، وما ذكره البويطى من تخريجه.

(فصل)
وان ادعى رجل على رجل دارا في يده وأقر بها لغيره نظرت فإن صدقه المقر له حكم له، لانه مصدق فيما في يده، وقد صدقه المقر له فحكم له وتنتقل الخصومة إلى المقر له، فإن طلب المدعى يمين المقر أنه لا يعلم أنها له ففيه قولان بناء على من أقر بشئ في يده لغيره ثم أقر به لآخر، وفيه قولان:
(أحدهما)
يلزمه أن يغرم الثاني.

(والثانى)
لا يلزمه، فإن قلنا يلزمه أن يغرم حلف لانه ربما خاف أن يحلف فيقر للثاني فيغرم له، وان قلنا لا يلزمه لم يحلف لانه ان خاف من اليمين فأقر للثاني لم يلزمه شئ فلا فائدة في تحليفه، وان كذبه المقر ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس أنه يأخذها الحاكم ويحفظها إلى أن يجد صاحبها، لان الذى في يده لا يدعيها والمقر له أسقط اقراره بالتكذيب وليس للمدعى بينة فلم يبق الا أن يحفظها الحاكم كالمال الضال
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أنه يسلم إلى المدعى، لانه ليس ههنا من

(20/191)


يدعيه غيره، وهذا خطأ لانه حكم بمجرد الدعوى، وان أقر بها لغائب ولا بينة وقف الامر إلى أن يقدم الغائب لان الذى في يده لا يدعيها ولا بينة تقضى بها فوجب التوقف، فإن طلب المدعى يمين المدعى عليه أنه لا يعلم أنها له فعلى ما ذكرناه من القولين.
وان كان للمدعى بينة قضى له، وهل يحتاج إلى أن يحلف مع البينة فيه وجهان:

(أحدهما)
أنه يحتاج أن يحلف مع البينة لانا حكمنا بإقرار المدعى عليه أنها ملك للغائب، ولا يجوز القضاء بالبينة على الغائب من غير يمين.

(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق انه لا يحتاج أن يحلف لانه قضاء على الحاضر وهو المدعى عليه، وان كان مع المدعى عليه بينة أنها للغائب فالمنصوص أنه يحكم ببينة المدعى وتسلم إليه، ولا يحكم ببينة المدعى عليه وان كان معها يد لان بينة صاحب اليد انما يقضى بها إذا أقامها صاحب الملك أو وكيل له والمدعى عليه ليس بمالك ولا هو وكيل للمالك فلم يحكم ببينته.
وحكى أبو إسحاق رحمه الله عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ المقر للغائب يدعى أن الدار في يده وديعة أو عارية لم تسمع بينته، وان كان يدعى أنها في يده بإجارة سمعت بينته وقضى بها، لانه يدعى لنفسه حقا فسمعت بينته فيصح الملك للغائب ويستوفى بها حقه من المنفعة، وهذا خطأ لانه إذا لم تسمع البينة في اثبات الملك وهو الاصل، فلان لا تسمع لاثبات الاجارة وهى فرع على الملك أولى، وان أقر بها لمجهول فقد قال أبو العباس فيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يقال له اقرارك لمجهول لا يصح، فإما أن تقر بها لمعروف أو تدعيها لنفسك أو نجعلك ناكلا ويحلف المدعى ويقضى له
(والثانى)
أن يقال له اما أن تقر بها لمعروف أو نجعلك ناكلا ولا يقبل دعواه لنفسه لانه بإقراره لغيره نفى أن يكون الملك له فلم تقبل دعواه بعد
(فصل)
إذا ادعى جارية وشهدت البينة أنها ابنة أمته لم يحكم له بها لانها قد تكون ابنة أمته ولا تكون له بأن تلدها في ملك غيره ثم يملك الامة دونها فتكون ابنة أمته ولا تكون له.
وان شهدت البينة أنها ابنة أمته ولدتها في ملكه فقد قال الشافعي رحمه الله

(20/192)


حكمت بذلك، وذكر في الشهادة بالملك المتقدم قولين، فنقل أبو العباس جواب تلك المسألة إلى هذه وجعلها على قولين، وقال سائر اصحابنا يحكم بها ههنا قولا واحدا وهناك على قولين، والفرق بينهما أن الشهادة هناك بأصل الملك فلم تقبل حتى يثبت في الحال، والشهادة ههنا بتمام الملك وأنه حدث في ملكه فلم يفتقر إلى اثبات الملك في الحال.
وان ادعى غزلا أو طيرا أو آجرا وأقام البينة أن الغزل من قطنه والطير من بيضه والآخر من طينه قضى له، لان الجميع عين ماله وانما تغيرت صفته
(فصل)
إذا ادعى رجل أن هذه الدار ملكه من سنتين وأقام على ذاك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منذ سنتين وأقام على ذاك بينة قضى ببينة الابتياع، لان بينة الملك شهدت بالملك على الاصل وبينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفى على بينة الملك فقدمت على بينة الملك كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.

(فصل)
وان كان في يد رجل دار وادعى رجل أنه ابتاعها من زيد وهو يملكها وأقام على ذلك بينة حكم له لانه ابتاعها من مالكها، وان شهدت له البينة أنه ابتاعها منه وسلمها إليه حكم له لانه لا يسلم الا ما يملكه، وان شهدت أنه ابتاعها منه ولم تذكر الملك ولا التسليم لم يحكم بهذه الشهادة ولم تؤخذ الدار ممن هي في يده لانه قد يبيع الانسان ما يملكه وما لا يملكه فلا تزال يد صاحب اليد
(فصل)
وان كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها ممن هي في يده وأقام الذى في يده الدار بينة أنها له قدمت بينة الخارج الذى لا يد له، لان الدار المستأجرة في ملك المؤجر وبيده وليس للمستأجر الا الانتفاع فتصير كما لو كانت في يده دار وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذى هي في يده وأقام البينة فإنه يحكم بها للمغصوب منه.

(فصل)
وان تداعى رجلان دارا في يد ثالث فشهد لاحدهما شاهدان أن
الذى في يده الدار غصبه عليها وشهد للآخر شاهدان أنه أقر له بها قضى للمغصوب منه لانه ثبت بالبينة أنه غاصب، واقرار الغاصب لا يقبل فحكم بها للمغصوب منه.

(فصل)
إذا ادعى رجل أنه ابتاع دارا من فلان ونقده الثمن وأقام على

(20/193)


ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منه ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وتاريخ أحدهما في رمضان وتاريخ الآخر في شوال قضى لمن ابتاعها في رمضان، لانه ابتاعها وهى في ملكه والذى ابتاعها في شوال ابتاعها بعد ما زال ملكه عنها، وان كان تاريخهما واحدا، أو كان تاريخهما مطلقا أو تاريخ أحدهما مطلقا وتاريخ الآخر مؤرخا، فإن كانت الدار في يد أحدهما قضى له لان معه بينة ويدا، وان كانت في يد البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان، أحدهما أنهما يسقطان والثانى أنهما يستعملان.
فإن قلنا انهما يسقطان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لكل واحد منهما يمينا على الانفراد وقضى له، وإن أقر لاحدهما سلمت إليه.
وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان، وان أقر لهما جعلت لهما نصفين، وهل يحلف كل واحد منهما للآخر على النصف الاخر؟ على القولين.
وان قلنا انهما يستعملان نظرت فإن صدق البائع أحدهما ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس أنها تجعل لمن صدقه البائع لان الدار في يده فإذا أقر لاحدهما فقد نقل يده إليه فتصير له يد وبينة.
وقال أكثر أصحابنا لا يرجح بإقرار البائع وهو الصحيح لان البينتين اتفقتا على إزالة ملك البائع وإسقاط يده فعلى هذا يقرع بينهما في أحد الاقوال ويقسم بينهما في الثاني فيجعل لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذى ادعى
أنه ابتاع به، ولا يجئ القول بالوقف لان العقود لا توقف.

(فصل)
وان ادعى رجل أنه ابتاع هذه الدار من زيد وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة وادعى آخر أنه ابتاعها من عمرو وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة، فإن كانت في يد أجنبي أو في أحد البائعين وقلنا على المذهب الصحيح أنه لا ترجح البينة بقول البائع تعارضت البينتان، وفيهما قولان:
(أحدهما)
أنهما يسقطان
(والثانى)
أنهما يستعملان، فإن قلنا انهما يسقطان رجع إلى من هو في يده، فان ادعاه لنفسه فالقول قوله ويحلف لكل واحد منهما، وان أقر لاحدهما سلم إليه.
وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان،

(20/194)


وإن أقر لهما جعل لكل واحد منهما نصفه، وهل يحلف للآخر على النصف الاخر؟ على القولين، وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الاقوال ويقسم بينهما في القول الثاني فيجعل لكل واحد منهما النصف بنصف الثمن الذى ادعى أنه ابتاعه ولا يجئ الوقف لان العقود لا توقف.

(فصل)
وإن كان في يد رجل دار فادعى زيد أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة وادعى عمرو أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة، فإن كانت البينتان بتاريخ واحد تعارضتا، وفيهما قولان:
(أحدهما)
أنهما يسقطان.

(والثانى)
أنهما يستعملان، فإذا قلنا إنهما يسقطان رجع إلى قول من هي في يده، فإن ادعاها لنفسه وأنكر الشراء حلف لكل واحد منهما وحكم له وإن أقر لاحدهما لزمه الثمن لمن أقر له وحلف للآخر قولا واحدا، لانه لو أقر له بعد إقراره للاول لزمه له الالف لانه يقر له بحق في ذمته فلزمه أن يحلف قولا واحدا، وان قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الاقوال ويقسم في
القول الثاني، ولا يجئ الوقف لان العقود لا توقف وإن كانتا بتاريخين مختلفين، بأن شهدت بينة أحدهما بعقد في رمضان، وبينة أحدهما بعقد في شوال لزمه الثمنان، لانه يمكن الجمع بينهما بأن يكون قد اشتراه في رمضان من أحدهما ثم باعه واشتراه من الاخر في شوال.
وان كانت البينتان مطلقتين ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يلزمه الثمنان، لانه يمكن استعمالهما بأن يكون قد اشتراه في وقتين مختلفين.

(والثانى)
انهما يتعارضان فيكون على القولين، لانه يحتمل أن يكونا في وقتين فيلزمه الثمنان، ويحتمل أن يكونا في وقت واحد، والاصل براءة الذمة.

(فصل)
وان ادعى رجل ملك عبد فأقام عليه بينة وادعى آخر أنه باعه أو وقفه أو أعتقه وأقام عليه بينة قدم البيع والوقف والعتق.
لان بينة الملك شهدت بالاصل وبينة البيع والوقف والعتق شهدت بأمر حادث خفى على بينة الملك فقدمت على بينة الملك.

(20/195)


وإن كان في يد رجل عبد فادعى رجل أنه ابتاعه وأقام عليه بينة، وادعى العبد أن مولاه أعتقه وأقام عليه بينة، فإن عرف السابق منهما بالتاريخ قضى بأسبق التصرفين، لان السابق منهما يمنع صحة الثاني فقدم عليه، وان لم يعرف السابق منهما تعارضتا، وفيهما قولان.

(أحدهما)
أنهما يسقطان ويرجع إلى من في يده العبد، وان كان كذبهما حلف لكل واحد منهما يمينا على الانفراد، وان صدق أحدهما قضى لمن صدقه والقول الثاني أنهما يستعملان فيقرع بينهما في أحد الاقوال فمن خرجت له القرعة قضى له ويقسم في القول الثاني فيعتق نصفه ويحكم للمبتاع بنصف الثمن
ولا يجئ القول بالوقف لان العقود لا توقف.

(فصل)
قال في الامام: إذا قال لعبده إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة أنه قتل وأقام الورثة بينة أنه مات ففيه قولان
(أحدهما)
أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبد، لان بينة القتل تثبت القتل وتنفى الموت، وبينة الموت تثبت الموت وتنفى القتل فتسقطان ويبقى العبد على الرق.

(والثانى)
أنه تقدم بينة القتل ويعتق العبد لان بينة الورثة تشهد بالموت وبينة العبد تشهد بالقتل، لان المقتول ميت، ومعها زيادة صفة وهى القتل فقدمت، وان كان له عبدان سالم وغانم، فقال لغانم ان مت في رمضان فأنت حر، وقال لسالم أن مت في شوال فأنت حر، ثم مات.
فأقام غانم بينة أنه مات في رمضان، وأقام سالم بينة بالموت في شوال ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبدان، لان الموت في رمضان ينفى الموت في شوال، والموت في شوال ينفى الموت في رمضان فيسقطان ويبقى العبدان على الرق.
والقول الثاني أنه تقدم بينة الموت في رمضان لانه يجوز أن يكون قد علمت البينة بالموت في رمضان وخفى ذلك على البينة الاخرى إلى شوال فقدمت بينة رمضان لما معها من زيادة العلم.
وإن قال لغانم إن مت من مرضى فأنت حر، وقال لسالم إن برئت من مرضى

(20/196)


فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة بالموت من مرضه، وأقام سالم بينة بأنه برئ من المرض ثم مات تعارضت البينتان وسقطتا ورق العبدان، لان بينة أحدهما أثبتت الموت من مرضه ونفت البرء منه والاخرى أثبتت البرء من مرضه ونفت
موته منه فتعذر الجمع بينهما فتعارضتا وسقطتا وبقى العبدان على الرق.

(فصل)
وإن اختلف المتبايعان في قدر الثمن أو اختلف المتكاريان في في قدر الاجرة أو في مدة الاجارة، فإن لم يكن بينة فالحكم في التحالف والفسخ على ما ذكرناه في الفسخ في البيع، وإن كان لاحدهما بينة قضى له، وإن كان لكل واحد منهما بينة فنظرت فإن كانا مؤرختين بتاريخين مختلفين قضى بالاولى منهما لان العقد الاول يمنع صحة العقد الثاني، وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخا واحدا، أو إحداهما مطلقة والاخرى مؤرخة فهما متعارضتان، وفيهما قولان
(أحدهما)
أنهما يسقطان ويصير كما لو لم تكن بينة فيتحالفا على ما ذكرناه في البيع
(والثانى)
أنهما يستعملان فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة قضى له ولا يجئ القول بالوقف لان العقود لا توقف ولا يجئ القول بالقسمة لانهما يتنازعان في عقد والعقد لا يمكن قسمته.
وخرج أبو العباس قولا آخر أنه إذا كان الاختلاف في قدر المدة أو في قدر الاجرة قضى بالبينة التى توجب الزيادة كما لو شهدت بينة أن لفلان عليه ألفا وشهدت بينة أن له عليه الفين، وهذا خطأ لان الشهادة بالالف لا تنفى الزيادة عليه فلم يكن بينها وبين بينة الاخرى تعارض، وههنا أحد البينتين ينفى ما شهدت به البينة الاخرى، لانه إذا عقد بأحد العوضين لم يجز أن يعقد بالعوض الآخر فتعارضتا.

(فصل)
إذا ادعى رجلان دارا في يد رجل وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضى اشتراكهما كالارث عن ميت والابتياع في صفقة، فأقر المدعى عليه بنصفها لاحدهما شاركه الآخر، لان دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منهما، ولهذا لو كان طعاما فهلك بعضه كان هالكا منهما وكان الباقي بينهما، فإذا

(20/197)


جحد النصف وأقر بالنصف جعل المجحود بينهما والمقر به بينهما، وان ادعيا ولم يعزيا إلى سبب فأقر لاحدهما بنصفها لم يشاركه الآخر لان دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء منه.

(فصل)
وان ادعى رجلان دارا في يد ثالث لكل واحد منهما نصفها وأقر الذى هي في يده بجميعها لاحدهما نظرت فان كان قد سمع من المقر له الاقرار للمدعى الاخر بنصفها لزمه تسليم النصف إليه لانه أقر بذلك، فإذا صار إليه لزمه حكم إقراره كرجل أقر لرجلين بعين ثم صارت العين في يده، وان لم يسمع منه اقرار فادعى جميعها حكم له بالجميع، لانه يجوز أن يكون الجميع له ودعواه للنصف صحيح لان من له الجميع فله النصف، ويجوز أن يكون قد خص النصف بالدعوى، لان على النصف بينة، أو يعلم أنه مقر له بالنصف وتنقل الخصومة إليه مع المدعى الاخر في النصف.
وان قال الذى الذى في يده الدار نصفها لى والنصف الآخر لا أعلم لمن هو، ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يترك النصف في يده لانه أقر لمن لا يدعيه فبطل الاقرار وبقى على ملكه.

(والثانى)
أن الحاكم ينتزعه منه ويكون عنده لان الذى في يده لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فأخذه الحاكم للحفظ كالمال الضال.
(والثالث) أنه يدفع إلى المدعى الاخر لانه يدعيه وليس له مستحق آخر وهذا خطأ لانه حكم بمجرد الدعوى.

(فصل)
إذا مات رجل وخلف إبنا مسلما وإبنا نصرانيا وادعى كل واحد منهما أنه مات أبوه على دينه وأنه يرثه وأقام على ما يدعيه بينة، فان عرف أنه كان نصرانيا نظرت فان كانت البينتان غير مؤرختين حكم ببينة الاسلام، لان
من شهد بالنصرانية شهد بالاصل والذى شهد بالاسلام شهد بأمر حادث خفى على من شهد بالنصرانية، فقدمت شهادته كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل فان شهدت إحداهما بأنه مات وآخر كلامه الاسلام وشهدت الاخرى بأنه مات

(20/198)


وآخر كلامه النصرانية فهما متعارضتان، وفيهما قولان
(أحدهما)
أنهما يسقطان فيكون كما لو مات ولا بينة فيكون القول قول النصراني لان الظاهر معه
(والثانى)
أنهما يستعملان، فإن قلنا بالقرعة أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة ورث، وان قلنا بالوقف وقف، وإن قلنا بالقسمة ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يقسم كما يقسم في غير الميراث
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أنه لا يقسم، لانه إذا قسم بينهما تيقن الخطأ في توريثهما وفى غير الميراث يجوز أن يكون المال مشتركا بينهما فقسم، وإن لم يعرف أصل دينه تعارضت البينتان، سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين وفيها قولان.

(أحدهما)
أنهما تسقطان، فإن كان المال في يد غيرهما فالقول قول من في يده المال، وأن كان في يديهما كان بينهما، وان قلنا انهما يستعملان، فإن قلنا يقرع أقرع بينهما، وإن قلنا يوقف وقف إلى أن ينكشف، وان قلنا يقسم قسم.
وقال أبو إسحاق لا يقسم لانه يتيقن الخطأ في توريثهما، والمنصوص أنه يقسم، وما قاله أبو إسحاق خطأ لانه يجوز أن يموت وهو نصراني فورثه ابناه وهما نصرانيان ثم أسلم أحدهما وادعى أن أباه مات مسلما ليأخذ الجميع، ويغسل الميت ويصلى عليه في المسائل كلها ويدفن في مقابر المسلمين وينوى بالصلاة عليه وان كان مسلما كما قلنا في موتى المسلمين إذا اختلطوا بموتى الكفار.

(فصل)
وان مات رجل وخلف ابنين واتفق الابنان أن أباهما مات
مسلما وأن أحد الابنين أسلم قبل موت الاب، واختلفا في الاخر فقال أسلمت أنا أيضا قبل موت أبى فالميراث بيننا وأنكر الاخر فالقول قول المتفق على اسلامه لان الاصل بقاؤه على الكفر.
ولو اتفقا على اسلامهما واختلفا في وقت موت الاب، فقال أحدهما مات أبى قبل اسلامك فالميراث لى، وقال الاخر بل مات بعد اسلامي أيضا فالقول قول الثاني لان الاصل حياة الاب.
وان مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين، فقال الابوان مات كافرا وقال الابنان مات مسلما فقد قال أبو العباس يحتمل قولين:

(20/199)


(أحدهما)
أن القول قول الابوين، لانه إذا ثبت أنهما كافران كان الولد محكوما بكفره إلى أن يعلم الاسلام.

(والثانى)
أن الميراث يوقف إلى أن يصطلحوا أن ينكشف الامر لان الولد إنما يتبع الابوين في الكفر قبل البلوغ، فأما بعد البلوغ فله حكم نفسه، ويحتمل أنه كان مسلما ويحتمل أنه كان كافرا فوقف الامر إلى أن ينكشف.

(فصل)
وإن مات رجل وله ابن حاضر وابن غائب وله دار في يد رجل فادعى الحاضر أن أباه مات وأن الدار بينه وبين أخيه وأقام بينة من أهل الخبرة بأنه مات وأنه لا وارث له سواهما انتزعت الدار ممن هي في يده ويسلم إلى الحاضر نصفها وحفظ النصف للغائب، وان كان له دين في الذمة قبض الحاضر نصفه، وفى نصيب الغائب وجهان:
(أحدهما)
أنه يأخذه الحاكم ويحفظه عليه كالعين.

(والثانى)
أنه لا يأخذه لان كونه في الذمة أحفظ له ولا يطالب الحاضر فيما يدفع إليه بضمين لان في ذلك قدحا في البينة، وان لم تكن البينة من أهل
الخبرة الباطنة أو كانت من أهل الخبرة إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعرف له وارثا سواه لم يدفع إليه شئ حتى يبعث الحاكم إلى البلاد التى كان يسافر إليها فيسأل هل له وارث آخر؟ فإذا سأل ولم يعرف له وارث غيره دفع إليه.
قال الشافعي رحمه الله: يأخذ منه ضمينا، وقال في الام: وأحب أن يأخذ منه ضمينا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
أنه يجب أخذ الضمين لانه ربما ظهر وارث آخر.

(والثانى)
أنه يستحب ولا يجب لان الظاهر أنه لا وارث له غيره، ومنهم من قال إن كان الوارث ممن يحجب كالاخ والعم وجب، وان كان ممن لا يحجب كالابن استحب، لان من لا يحجب يتيقن أنه وارث، ويشك فيمن يزاحمه فلم يترك اليقين بالشك، ومن يحجب يشك في إرثه، وحمل القولين على هذين الحالين.
ومنهم من قال ان كان الوارث غير مأمون وجب لانه لا يؤمن أن يضيع حق من يظهر، وان كان مأمونا لم يجب لانه لا يضيع حق من يظهر، وحمل القولين على هذين الحالين.

(20/200)


وان كان الوارث ممن له فرض لا ينقص كالزوجين، فإن شهد الشهود أنه لا وارث له سواه وهم من أهل الخبرة دفع إليه أكمل للفرضين ولا يؤخذ منه ضمين، وان لم يشهدوا أنه لا وارث له سواه، أو شهدوا بذلك ولم يكونوا من أهل الخبرة دفع إليه أنقص الفرضين، فإن كان زوجا دفع إليه ربع المال عائلا، وان كان زوجة دفع إليها ربع الثمن عائلا ويوقف الباقي، فإن لم يظهر وارث آخر دفع إليه الباقي.

(فصل)
وان ماتت امرأة وابنها، فقال زوجها ماتت فورثها الابن، ثم مات الابن فورثته، وقال أخوها بل مات الابن أولا فورثته الام ثم ماتت
فورثتها لم يورث ميت من ميت، بل يجعل مال الابن للزوج ومال المرأة للزوج والاخ، لانه لا يرث الا من تيقن حياته عند موت مورثه، وههنا لا تعرف حياة واحد من الميتين عند موت مورثه فلم يورث أحدهما من الآخر كالغرقى
(فصل)
وإن مات رجل وله دار وخلف إبنا وزوجة، فادعى الابن أنه تركها ميراثا، وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار، وأقام كل واحد منهما بينة، قدمت بينة الزوجة على بينة الارث، لان بينة الارث تشهد بظاهر الملك المتقدم وبينة الصداق تشهد بأمر حادث على الملك خفى على بينة الارث.

(فصل)
وإن تداعى رجلان حائطا بين داريهما، فإن كان مبنيا على تربيع إحداهما مساويا لها في السمك والحد ولم يكن بناؤه مخالفا لبناء الدار الاخرى ولم تكن بينة لاحدهما فالقول قول من بنى على تربيع داره، لان الظاهر أنه بنى لداره.
وان كان لاحدهما عليه أزج فالقول قوله لان الظاهر أنه بنى للازج، وإن كان مطلقا وهو الذى لم يقصد به سوى السترة ولم تكن بينة حلفا وجعل بينهما لانه متصل بالملكين اتصالا واحدا.
وان كان لاحدهما عليه جذوع ولم يقدم على الآخر بذلك لانهما لو تنازعا فيه قبل وضع الجذوع كان بينهما، ووضع الجذوع يجوز أن يكون بإذن من الجار أو بقضاء حاكم يرى وضع الجذوع على حائط الجار بغير رضاه يزيل ما تيقناه بأمر محتمل، كما لو مات رجل عن دار ثم وجد الدار في يد أجنبي

(20/201)


(فصل)
وإن تداعى صاحب السفل وصاحب العلو السقف ولا بينة حلف كل واحد منهما وجعل بينهما، لانه حاجز توسط ملكيهما فكان بينهما كالحائط بين الداربن، فإن تنازعا في الدرجة، فإن كان تحتها مسكن فهى بينهما لانهما متساويان في الانتفاع بها، وأن كان تحتها موضع جب ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنهما يحلفان ويجعل بينهما لانهما يرتفقان بها
(والثانى)
أنه يحلف صاحب العلو ويقضى له لان المقصود بها منفعة صاحب العلو، وإن تداعيا سلما منصوبا حلف صاحب العلو وقضى له، لانه يختص بالانتفاع به في الصعود، وإن تداعيا صحن الدار نظرت فإن كانت الدرجة في الصحن حلفا وجعل بينهما، لان لكل واحد منهما يدا عليه، وإن كانت الدرجة في الدهليز ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنها بينهما لان لكل واحد منهما يدا، ولهذا لو تنازعا في أصل الدار كانت بينهما.

(والثانى)
أنه لصاحب السفل لانها في يده، ولهذا يجوز أن يمنع صاحب العلو من الاستطراق فيها.

(فصل)
وان تداعى رجلان مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر حلفا وجعل بينهما لان فيها منفعة لصاحب النهر لانها تجمع الماء في النهر ولصاحب الارض منها منفعة لانها تمنع الماء من أرضه.

(فصل)
وان تداعى رجلان دابة وأحدهما راكبها والآخر آخد بلجامها حلف الراكب وقضى له.
وقال أبو إسحاق رحمه الله هي بينهما لان كل واحد منهما لو انفرد لكانت له، والصحيح هو الاول، لان الراكب هو المنفرد بالتصرف فقضى له وإن تداعيا عمامة وفى يد أحدهما منها ذراع وفى يد الاخر الباقي حلفا وجعلت بينهما، لان يد كل واحد منهما ثابتة على العمامة، وان تداعيا عبدا ولاحدهما عليه ثياب حلف وجعل بينهما، ولا يقدم صاحب الثياب لان منفعة الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب.

(فصل)
وان كان في يد رجل عبد بالغ عاقل فادعى أنه عبده، فإن صدقه حكم له بالملك، وان كذبه فالقول قوله مع يمينه لان الظاهر الحرية، وان كان

(20/202)


طفلا لا يميز فالقول قول المدعى لانه لا يعبر عن نفسه وهو في يده فهو كالبهيمة وان بلغ هذا الطفل فقال لست بمملوك له لم يقبل قوله، لانا حكمنا له بالملك فلا يسقط بإنكاره.
وان جاء رجل فادعى أنه ابنه لم يثبت نسيه بمجرد دعواه لان فيه اضرارا بصاحب الملك لانه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء.
وإذا ثبت نسبه لمن يدعى النسب سقط حق ولائه، وان كان مراهقا وادعى أنه مملوكه فأنكر ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يحكم بالملك لانه يعبر عن نفسه فلم يحكم بملكه مع انكاره كالبالغ
(والثانى)
أنه يحكم له بالملك وهو الصحيح لانه لا حكم لقوله.

(فصل)
وان تداعى الزوجان متاع البيت الذى يسكنانه ولا بينة حلفا وجعل الجميع بينهما نصفين لانه في يدهما فجعل بينهما، كما لو تداعيا الدار التى يسكنان فيها، وان تداعى المكرى والمكترى المتاع الذى في الدار المكراة فالقول قول المكترى لان يده ثابتة على ما في الدار، وان تداعيا سلما غير مسمر فهو للمكترى لانه كالمتاع.
وان تداعيا سلما مسمرا فالقول قول المكرى لانه من أجزاء الدار، وان تداعيا الرفوف المسمرة فالقول قول المكرى لانها متصلة بالدار فصارت كأجزائها، وان كانت غير مسمرة فقد قال الشافعي رحمه الله أنهما يتحالفان وتجعل بينهما لان الرفوف قد تترك في العادة وقد تنقل عنها فيجوز أن تكون للمكترى ويجوز أن تكون للمكرى فجعل بينهما
(فصل)
ومن وجب له حق على رجل وهو غير ممتنع من دفعع لم يجز لصاحب الحق أن يأخذ من ماله حقه بغير اذنه لان الخيار فيما يقضى به الدين إلى من عليه الدين ولا يجوز أن يأخذ الا ما يعطيه، وان أخذ بغير إذنه لزمه رده، فإن تلف ضمنه لانه أخذ مال غيره بغير حق، وان كان ممتنعا من أدائه فإن لم يقدر على أخذه بالحاكم فله أن يأخذ من ماله لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(لَا ضَرَرَ وَلَا إضرار) وفى منعه من أخذ ماله في هذا الحال اضرار به، وان كان يقدر على أخذه بالحاكم بأن تكون له عليه بينة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجوز أن يأخذه لانه يقدر على أخذه بالحاكم فلم يجز أن يأخذه بنفسه.

(20/203)


(والثانى)
وهو المذهب أن يجوز لان هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطينى ما يكفيني وولدى إلا ما آخذه سرا، فقال عليه السلام خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف، فأذن لها في الاخذ مع القدرة على الاخذ بالحاكم، ولان عليه في المحاكمة مشقة فجاز له أخذه، فإن كان الذى قدر عليه من جنس حقه أخذ قدر حقه، وإن كان من غير جنسه أخذه ولا يجوز أن يتملكه لانه من غير جنس ماله فلا يجوز أن يتملكه ولكن يبيعه ويصرف ثمنه في حقه، وفى كيفية البيع وجهان:
(أحدهما)
أنه يواطئ رجلا ليقر له بحق وأنه ممتنع من أدائه فيبيع الحاكم المال عليه.

(والثانى)
وهو المذهب أنه يبيع المال بنفسه لانه يتعذر عليه أن يثبت الحق عند الحاكم وأنه ممتنع من بيعه فملك بيعه بنفسه، فإن تلفت العين قبل البيع ففيه وجهان: أحدهما أنها تتلف من ضمان من عليه الحق ولا يسقط دينه لانها محبوسة لاستيفاء حقه منها، فكان هلاكها من ضمان المالك كالرهن.
والوجه الثاني: أنها تتلف من ضمان صاحب الحق لانه أخذها بغير إذن المالك فتلفت من ضمانه بخلاف الرهن فإنه أخذه بإذن المالك فتلف من ضمانه (الشرح) حديث ابن عباس (لو أن الناس أعطوا ... ) متفق عليه بلفظ (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على
المدعى عليه) وأخرجه البيهقى عن نافع عن ابن عمر وابن حبان عن مجاهد عن ابن عمر، والترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، والدارقطني وإسناده عنده ضعيف.
حديث (في قصة الحضرمي..) سبق تخريجه.
حديث أبى موسى الاشعري (أن رجلين تداعيا دابة..) أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بلفظ (أن رجلين تداعيا دابة وأقام كل واحد منهما بينة أنها دابته فقضى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للتى في يده، واسناده ضعيف.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي (أن رجلين اختصما

(20/204)


إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعير، فأقام كل واحد منهما بينة أنه له، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما) وذكر الاختلاف فيه على قتادة، وقال البيهقى هو معلول فقد رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشر بن نهيك عن أبى هريرة.
ومن هذا الوجه أخرجه ابن حبان في صحيحه، واختلف فيه على سعيد بن أبى عروبة، فقيل عنه عن قتادة عن سعيد بن أبى بردة عن أبيه عن أبى موسى وقيل عنه عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال: أنبئت أن رجلا، قال البخاري قال سماك بن حرب أنا حدثت ابا بردة بهذا الحديث، فعلى هذا لم يسمع أبو بردة هذا الحديث من أبيه، ورواه أبو كامل مظفر بن مدرك عن حماد عن قتادة عن النضر بن أنس عن أبى بردة مرسلا، قال حماد فحدثت به سماك بن حرب فقال أنا حدثت أبا بردة وقال الدارقطني والبيهقي والخطيب: الصحيح أنه عن سماك مرسلا.
ورواه ابن أبى شيبة عن أبى الاحوص عن سماك عن تميم بن طرفة أن رجلين ادعيا بعيرا فأقام كل واحد منهما البينة أنه له فقضى النبي صلى الله عليه وسلم
به بينهما، ووصله الطبراني بذكر جابر بن سمرة بإسنادين في أحدهما حجاج بن أرطاه والراوي عنه سويد بن عبد العزيز، وفى الآخر ياسين الزيات والثلاثة ضعفاء.
حديث (شاهداك أو يمينه) سبق تخريجه حديث (لا ضرر ولا ضرار) سبق تخريجه حديث (أن هندا قالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح..) متفق عليه عن عائشة رضى الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبى سفيان عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى من النفقة ما يكفيني ويكفى بنى إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل على في ذلك من جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خذى من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفى بنيك) اللغة: المدعى في اللغة كل من ادعى نسبا أو علما أو ادعى ملك شئ نوزع

(20/205)


فيه أو لم ينازع، ولا يقال في الشرع مدع إلا إذا نازع غيره، وسميت البينة بينة وهى الشهود، لانها تبين عن الحق وتوضحه بعد خفائه من بان الشئ.
إذا ظهر، وأبنته أظهرته وتبين لى ظهر ووضح.
قوله (امتحان الشهود) وهو اختبارهم، محنت الشئ وامتحنته أي اختبرته والاسم المحنة وأصله من محنت البئر محنا إذا خرجت ترابها وطينها.
قوله (الترجيح) مأخوذ من رجحان الميزان، ورجحت بفلان إذا كنت أرزن منه، وقوم مراجيح في الحلم، ومعناه أن يكون إحدى الحجتين أقوى بزيادة شئ ليس في الاخرى.
قوله (ونقده الثمن) النقد ضد الفقد وهو إحضاره في المجلس
قوله (وعزيا الدعوى) يقال عزيته إلى أبيه، وعزوته أي نسبته إليه، واعتزى هو أي انتمى وانتسب، وفى الحديث من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا أي من انتسب وانتمى، وذلك قولهم يا آل فلان قوله (قدحا في البينة) القدح مثل الجرح، يقال قدحت في نسبه أي طعنت قوله (أزج) على وزن فعل محرمك مخفف، الارج ضرب من الابنية والجمع آزج وآزاج، قال الاعشى: بناه سلميان بن داود حقة
* له أزج صم وطئ موثق ويروى أرج عال وهو كالعقود في محاريب المساجد وبين الاساطين قوله (موضع جب) هو السرداب ووعاء الماء، وقد ذكرنا أن صحن الدار وسطها.
قوله (مسناة) قال الهروي: المسناة ضفين يبنى للسبيل يرده.
سميت مسناة لان فيها مفاتيح الماء، يقال سنيت الشئ إذا فتحته قال الشاعر: إذا الله سنى عقد أمر تيسرا وذكر في مواضع من الكتاب ما يدل أن المسناة تجمع الماء من النهر، ولم أقف منه على حقيقة، وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى (سيل العرم) أن العرم المسناة، وكان ذلك سدا يجمع فيه ماء السيول قوله (مراهقا) هو الذى قارب الاحتلام، وقد ذكر

(20/206)


قوله (المتاع الذى في الدار) هو ههنا الاثات وآلات البيت والابنية ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف حر مكلف رشيد، وإن تداعيا عينا لم تخل من أربعة أحوال.
1 - أن لا تكون بيد أحد ولا ثم ظاهر يعمل به ولا بينة فيتحالفان
ويتناصفانها، وإن وجد ظاهر يرجح أنها لاحدهما عمل به فيحلف بها ويأخذها 2 - أن تكون بيد أحدهما فهى له بيمينه، فإن لم يحلف قضى عليه بالنكول ولو أقام بينة.
3 - أن تكون بينيهما كشئ كل ممسك ببعضه فيتحالفان ويتناصفانه فإن قويت يد أحدهما كحيوان واحد سائقة والآخر راكبه فللثانى بيمينه لان تصرفه أقوى، ومتى كان لاحدهما بينة فالعين له لحديث الحضرمي والكندي فإن كان لكل واحد منهما بينة به وتساوتا من كل وجه وتعارضتا وتساقطتا فيتحالفان ويتناصفان ما بأيديهما ويقترعان فيما عداه، فمن خرجت له القرعة فهو بيمينه، وإن كانت العين بيد أحدهما فهو داخل والاخر خارج، وبينة الخارج مقدمة على بينة الداخل لحديث (البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه) الترمذي.
لكن لو أقام الخارج بينة أنها ملكه والداخل بينة أنه اشتراها منه قدمت بينة الداخل لما معها من زياده العلم 4 - أن تكون بيد ثالث فإن ادعاها لنفسه حلف لكل واحد يمينا، فإن نكل أخذاها منه مع بدلها أي مثلها واقترعا عليها، وان أقر بها لهما اقتسماها وحلف لكل واحد يمينا وحلف كل واحد لصاحبه على النصف المحكوم له به، وإن قال هي لاحدهما وأجمله فصدقاه لم يحلف وإلا حلف يمينا واحدة ويقرع بينهما، فمن قرع حلف وأخذها لحديث أبى هريرة (أن رجلين تداعيا عينا لم يكن لواحد منهما بينة، فأمرهما رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يستهما على اليمين أحبا أم كرها) أبو داود.
وروى الشافعي نحوه عن ابن المسيب.

(20/207)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب اليمين في الدعاوى

إذا ادعى رجل على رجل حقا فأنكره ولم يكن للمدعى بينة، فإن كان ذلك في غير الدم حلف المدعى عليه، فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعى، وقد بينا ذلك في باب الدعاوى، وان كانت الدعوى في دم ولم يكن للمدعى بينة فإن كان في قتل لا يوجب القصاص نظرت فإن كان هناك لوث حلف المدعى خمسين يمينا وقضى له بالدية.
والدليل عليه ما روى سهل بن أبى جثمة أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خبير من جهد أصابهما، فأتى محيصة وذكر أن عبد الله طرح في فقير أو عين ماء فأتى يهودا فقال أنتم والله قلتموه؟ قالوا والله ما قتلناه، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن أخو المقتول إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذهب محيصة يتكلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكبر الكبر، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن ياذنوا بحرب من الله ورسوله، فكتب إلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فكتبوا إنا والله ما قتلناه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون خمسين وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا لا، قال اتحلف لكم يهود؟ قالوا لا ليسوا بمسلمين، فوداه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عنده فبعث إليهم بمائة ناقة، قال سهل لقد ركضتنى منها ناقة حمراء، ولان باللوث تقوى جنبة المدعى ويغلب على الظن صدقه فسمعت يمينه كالمدعى إذا شهد له عدل وحلف معه.
وان كانت الدعوى في قتل يوجب القود ففيه قولان: قال في القديم يجب القود بأيمان المدعى لانها حجة يثبت بها قتل العمد فوجب بها القود كالبينة.
وقال في الجديد لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم أو يأذنوا
يحرب من الله ورسوله، فذكر الدية ولم يذكر القصاص، ولانه حجة لا يثبت

(20/208)


بها النكاح فلا يثبت بها القصاص كالشاهد واليمين، فإن قلنا بقوله القديم وكانت الدعوى على جماعة وجب القود عليهم.
وقال أبو إسحاق رحمه الله لا يقتل إلا واحد يختاره الولى لانها بينة ضعيفة فلا يقتل بها جماعة، وهذا خطأ لان الجماعة عندنا تقتل بالواحد، والقسامة على هذا القول كالبينة في إيجاب القود فإذا قتل بها الواحد قتل بها الجماعة.

(فصل)
وإن كان المدعى جماعة ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، لان ما حلف به الواحد إذا انفرد حلف به كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى.
والقول الثاني: أنه يقسط عليهم الخمسون يمينا على قدر مواريثهم لانه لما قسط عليهم ما يجب بأيمانهم من الدية على قدر مواريثهم وجب أن تقسط الايمان أيضا على قدر مواريثهم، وإن دخلها كسر جبر الكسر، لان اليمين الواحدة لا تتبعض فكملت، فإن نكل المدعى عن اليمين ردت اليمين على المدعى عليه فيحلف خمسين يمينا لقوله عليه الصلاة والسلام (تبرئكم يهود منهم بخمسين يمينا) ولان التغليظ بالعدد لحرمة النفس، وذلك يوجد في يمين المدعى والمدعى عليه وان كان المدعى عليه جماعة ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا.

(والثانى)
أن الخمسين تقسط على عددهم، والصحيح من القولين ههنا أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، والصحيح من القولين في المدعين أنهم يحلفون خمسين يمينا، والفرق بينهما أن كل واحد من المدعى عليه ينفى عن نفسه ما ينفيه لو انفرد، وليس كذلك المدعون، فإن كل واحد منهم لا يثبت لنفسه
ما يثبته إذا انفرد.

(فصل)
فأما إذا لم يكن لوث ولا شاهد فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) ولان اليمين انما جعلت في جنبة المدعى عند اللوث لقوة جنبته باللوث، فإذا عدم اللوث حصلت القوة في جنبة المدعى عليه لان الاصل براءة ذمته وعدم القتل فعادت اليمين إليه.

(20/209)


وهل تغلظ بالعدد؟ فيه قولان
(أحدهما)
أنها لا تغلظ بل يحلف يمينا واحدة، وهو اختيار المزني لانها يمين توجهت على المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالعدد كما في سائر الدعاوى.

(والثانى)
أنها تغلظ فيحلف خمسين يمينا وهو الصحيح لان التغليظ بالعدد لحرمة الدم وذلك موجود مع عدم اللوث، فإن قلنا إنها يمين واحدة فإن كان المدعى عليه جماعة حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، فإن نكلوا ردت اليمين على المدعى، فإن كان واحدا حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، وإن قلنا يغلظ بالعدد وكان المدعى عليه واحدا حلف خمسين يمينا.
وان كانوا جماعة فعلى القولين.

(أحدهما)
أنه يحلف كل واحد خمسين يمينا.

(والثانى)
أنه يقسط على عدد رؤوسهم فإن نكلوا ردت اليمين على المدعى فإن كان واحدا حلف خمسين يمينا، وإن كانوا جماعة فعلى القولين
(أحدهما)
أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا
(والثانى)
أنه يقسط عليهم خمسون يمينا على قدر مواريثهم من الدية.
وإذا نكل المدعى عليه فحلف المدعى وقضى له، فإن كان في قتل يوجب المال قضى له بالدية، وإن كان في قتل يوجب القصاص وجب
القصاص قولا واحدا، لان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة في أحد القولين وكالاقرار في القول الاخر والقصاص يجب بكل واحد منهما.

(فصل)
وإن ادعى القتل على اثنين وعلى أحدهما لوث دون الاخر حلف المدعى على صاحب اللوث لوجود اللوث وحلف الذى لا لوث عليه لعدم اللوث وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم على القتل لم تسمع دعواه لانها دعوى محال، وإن ادعى القتل على ثلاثة وهناك لوث فحضر منهم واحد وغاب اثنان وأنكر الحاضر حلف المدعى خمسين يمينا، فإن حضر الثاني وأنكر ففيه أوجهان:
(أحدهما)
أنه يحلف عليه خمسين يمينا، لانهما لو حضرا ذكر كل واحد منهما في يمينه فإذا انفرد وجب أن يكرر ذكره.
والوجه الثاني أنه يحلف خمسا وعشرين يمينا لانهما لو حضرا حلف عليهما

(20/210)


خمسين يمينا، فإذا انفرد وجب أن يحلف عليه نصف الخمسين، فإن حضر الثالث وأنكر ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يحلف عليه خمسين يمينا
(والثانى)
أنه يحلف عليه ثلث خمسين يمينا ويجبر الكسر فيحلف سبع عشرة يمينا.
وإن قال قتله هذا عمدا ولا أعلم كيف قتله الاخران أقسم على الحاضر ووقف الامر إلى أن يحضر الاخران، فإن حضرا وأقرا بالعمد ففى القود قولان، وان أقرا بالخطأ وجب على الاول ثلث الدية مغلظة، وعلى كل واحد من الآخرين ثلث الدية مخففة، وان أنكر القتل ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يحلف لانه لا يعلم ما يحلف عليه، ولا يعلم الحاكم ما يحكم به
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أن يحلف لان جهله بصفة القتل ليس بجهل بأصل القتل، فإذا حلف حبسا حتى يصفا القتل.
وإن قال قتله هذا وتفر لا أعلم عددهم، فإن قلنا إنه لا يجب القود
لم يقسم على الحاضر لانه لا يعلم ما يخصه، وان قلنا انه يجب القود ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يقسم لان الجماعة تقتل بالواحد فلم يضر الجهل بعددهم
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أنه لا يقسم لانه ربما عفا عن القود على الدية ولا يعلم ما يخصه منها.

(فصل)
واللوث الذى يثبت لاجله اليمين في جنبة المدعى هو أن يوجد معنى يغلب معه على الظن صدق المدعى، فإن وجد القتيل في محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم كان ذلك لوثا فيحلف المدعى، لان قتيل الانصار وجد في خبير وأهلها أعداء للانصار، فجعل النبي ى صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعين، فصار هذا أصلا لكل من يغلب معه على الظن صدق المدعى، فيجعل القول قول المدعى مع يمينه، وان كان يخالطهم غيرهم لم يكن لوثا لجواز أن يكون قتله غيرهم، وان تفرقت جماعة عن قتيل في دار أو بستان وادعى الولى أنهم قتلوه فهو لوث، فيحلف المدعى أنهم قتلوه لان الظاهر أنهم قتلوه، وان وجد قتيل في زحمة فهو لوث، فإن ادعى الولى أنهم قتلوه حلف وقضى له، وان وجد قتيل في أرض وهناك رجل معه سيف مخضب بالدم وليس هناك غيره فهو لوث، فإن ادعى الولى عليه القتل حلف عليه لان الظاهر أنه قتله فإن كان هناك غيره من سبع أو رجل مول لم يثبت اللوث على صاحب السيف لانه يجوز أن يكون قتله السبع أو الرجل المولى

(20/211)


ان تقابلت طائفتان فوجد قتيل من احدى الطائفتين فهو لوث على الطائفة الاخرى، فإن ادعى الولى أنهم قتلوه حلف وقضى له بالدية، لان الظاهر أنه لم تقتله طائفة، وان شهد جماعة من النساء أو العبيد على رجل بالقتل نظرت، فان جاءوا دفعة واحدة وسمع بعضهم كلام البعض لم يكن ذلك لوثا، لانه يجوز أن يكونوا قد تواطأوا على الشهادة، وان جاؤا متفرقين واتفقت أقوالهم ثبت
اللوث ويحلف الولى معهم، وان شهد صبيان أو فساق أو كفار على رجل بالقتل وجاءوا دفعة واحدة وشهدوا لم يكن ذلك لوثا، لانه يجوز أن يكونوا قد تواطأوا على الشهادة، فإن جاءوا متفرقين وتوافقت أقوالهم ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه ذلك لوث: لانه اتفاقهم على شئ واحد من غير تواطؤ يدل على صدقهم.

(والثانى)
أنه ليس بلوث لانه لا حكم لخبرهم فلو أثبتنا بقولهم لوثا لجعلنا خبرهم حكما، وان قال المجروح قتلني فلان ثم مات لم يكن قوله لوثا، لانه دعوى ولا يعلم به صدقه فلا يجعل لوثا، فان شهد عدل على رجل بالقتل، فان كانت الدعوى في قتل يوجب المال حلف المدعى يمينا وقضى له بالدية، لان المال يثبت بالشاهد واليمين، وان كانت في قتل يوجب القصاص حلف خمسين يمينا ويجب القصاص في قوله القديم والدية في قوله الجديد.

(فصل)
وان شهد واحد أنه قتله فلان بالسيف وشهد آخر أنه قتله بالعصا لم يثبت القتل بشهادتهما، لانه لم تتفق شهادتهما على قتل واحد، وهل يكون ذلك لوثا يوجب القسامة في جانب المدعى، قال في موضع: يوجب القسامة، وقال في موضع: لا يوجب القسامة.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ هو لوث يوجب القسامة قولا واحدا لانهما اتفقاء على اثبات القتل وانما اختلفا في صفته وجعل القول الآخر غلطا من الناقل.
وقال أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل ان ذلك ليس بلوث ولا يوجب القسامة قولا واحدا، لان كل واحد منهما يكذب الآخر فلا يغلب على الظن

(20/212)


صدق ما يدعيه، والقول الآخر غلط من الناقل، ومنهم من قال في المسألة
قولان
(أحدهما)
أنه لوث يوجب القسامة،
(والثانى)
ليس بلوث، ووجههما ما ذكرناه، وإن شهد واحد انه قتله فلان وشهد آخر أنه أقر بقتله لم يثبت القتل بشهادتهما، لان أحدهما شهد بالقتل والآخر شهد بالاقرار وثبت اللوث على المشهود عليه وتخالف المسألة قبلها فان هناك كل واحد منهما يكذب الاخر، وههنا كل واحد منهما غير مكذب للآخر بل كل واحد منهما يقوى الآخر فيحلف المدعى مع من شاء منهما، فإن كان القتل خطأ حلف يمينا واحدة وثبتت الدية، فإن حلف مع من شهد بالقتل وجبت الدية على العائلة لانها تثبت بالبينة، وإن حلف مع من شهد بالاقرار وجبت الدية في ماله لانها تثبت بالاقرار، وان كان القتل موجبا للقصاص حلف المدعى خمسين يمينا ووجب له القصاص في أحد القولين والدية في الاخر، وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه ولم يقل عمدا ولا خطأ وشهد له بما ادعاه شاهد لم يكن ذلك لوثا، لانه لو حلف مع شاهده لم يمكن الحكم بيمينه، لانه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفى موجبه فسقطت الشهادة وبطل اللوث.

(فصل)
وإن شهد شاهدان أن فلانا قتله أحد هذين الرجلين ولم يعينا ثبت اللوث فيحلف الولى على من يدعى القتل عليه، لانه قد ثبت أن المقتول قتله أحدهما فصار كما لو وجد بينهما مقتول، فإن شهد شاهد على رجل أنه قتل أحد هذين الرجلين لم يثبت اللوث، لان اللوث ما يغلب معه على الظن صدق ما يدعيه المدعى ولا يعلم أن الشاهد لمن شهد من الوليين فلا يغلب على الظن صدق واحد من الوليين فلم يثبت في حقه لوث، وان ادعى أحد الوارثين قتل مورثه على رجل في موضع اللوث وكذبه الاخر سقط حق المكذب من القسامة وهل يسقط اللوث في حق المدعى فيه قولان.

(أحدهما)
أنه لا يسقط فيحلف ويستحق نصف الدية وهو اختيار المزني
لان القسامة مع اللوث كاليمين مع الشاهد، ثم تكذيب أحد الوارثين لا يمنع

(20/213)


الآخر من أن يحلف مع الشهادة فكذلك تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الاخر من أن يقسم مع اللوث.
(والقول الثاني) أنه يسقط، لانه اللوث يدل على صدق المدعى من جهة الظن وتكذيب المنكر يدل على كذب المدعى من جهة الظن فتعارضا وسقطا وبقى القتل بغير لوث فيحلف المدعى عليه على ما ذكرناه وإن قال أحد الابنين قتل أبى زيد ورجل آخر لا أعرفه، وقال الآخر قتله عمرو ورجل آخر لا أعرفه أقسم كل واحد على من عينه ويستحق عليه ربع الدية، لان كل واحد منهما غير مكذب للآخر لجواز أن يكون الاخر هو الذى ادعى عليه أخوه، فإن رجعا وقال كل واحد منهما علمت أن الآخر هو الذى ادعى عليه أخى أقسم كل واحد منهما على الذى ادعى عليه أخوه ويستحق عليه ربع الدية.
وإن قال كل واحد منهما علمت أن الاخر غير الذى ادعى عليه أخى صار كل واحد منهما مكذبا للآخر، فإن قلنا: إن تكذيب أحدهما لا يسقط اللوث أقسم كل واحد منهما على الذى يمينه ثانيا واستحق عليه ربع الدية.
وإن قلنا: إن التكذيب يسقط اللوث بطلت القسامة، فإن أخذ شيئا رده ويكون القول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن ادعى القتل على رجل عليه لوث فجاء آخر وقال أنا قتلته ولم يقتله هذا لم يسقط حق المدعى من القسامة بإقراره وإقراره على نفسه لا يقبل، لان صاحب الدم لا يدعيه وهل للمدعى أن يرجع ويطالب المقر بالدية فيه قولان.

(أحدهما)
أنه ليس له مطالبته، لان دعواه على الاول ابراء لكل من سواه

(والثانى)
أن له أن يطالب، لان دعواه على الاول باللوث من جهة الظن والاقرار يقين فجاز أن يترك الظن ويرجع إلى اليقين، وان ادعى على رجل قتل العمد فقيل له صف العمد ففسره بشبه العمد فقد نقل المزني أنه لا يقسم، وروى الربيع أنه يقسم، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ.

(20/214)


(أحدهما)
أنه لا يقسم لان بقوله قتله عمدا أبرأ العائلة، وبتفسيره أبرا القاتل (والقول الثاني) أنه يقسم وتجب الدية على العاقلة، لان المعول على التفسير وقد فسر بشبه العمد، ومنهم من قال يقسم قولا واحدا لما بينا.
وقوله (لا يقسم) معناه لا يقسم على ما ادعاه
(فصل)
وإن كانت الدعوى في الجنابة على الطرف ولم تكن شهادة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لان اللوث قضى به في النفس بحرمة النفس فلا يقضى به في الطرف كالكفارة، وهل تغلظ اليمين فيه بالعدد؟ فيه قولان.

(أحدهما)
لا تغلظ لانه يسقط فيه حكم اللوث فسقط فيه حكم التغليظ بالعدد
(والثانى)
أنه تغلظ بالعدد لانه يجب فيه القصاص والدية للغلظة فوجب فيه تغليظ اليمين، فإن قلنا لا تغلظ حلف المدعى عليه يمينا واحدة، وإن قلنا تغلظ فإن كان في جناية توجب دية كاملة كاليدين غلظ بخمسين يمينا، وإن كان فيما لا توجب دية كاملة كاليد الواحدة ففى قدر التغليظ قولان.

(أحدهما)
أنه يغلظ بخمسين يمينا لانه التغليظ لحرمة الدم، وذلك موجود في اليد الواحدة.

(والثانى)
أنه تغلظ بحصته من الدية، لان ديته دون دية النفس فلم تغلظ بما تغلظ به في النفس.

(فصل)
فإن كانت الدعوى في قتل عبد وهناك لوث ففيه طريقان:

(أحدهما)
أنه يبنى ذلك على أن العاقلة هل تحمل قيمته بالجناية، فإن قلنا تحمل العاقلة قيمته ثبتت فيه القسامة للسيد، وان قلنا لا تحمل لم تثبت القسامة.

(والثانى)
وهو قول أبى العباس أن للسيد القسامة قولا واحدا، لان القسامة لحرمة النفس فاستوى فيه الحر والعبد كالكفارة، فإن قلنا إن السيد يقسم أقسم المكاتب في قتل عبده، فإن لم يقسم حتى عجز عن أداء الكتابة أقسم المولى، وان قتل عبد وهناك لوث ووصى مولاه بقيمته لام ولده ولم يقسم السيد حتى مات ولم تقسم الورثة فهل تقسم أم الولد؟ فيه قولان.

(أحدهما)
تقسم
(والثانى)
لا تقسم كما قلنا في غرماء الميت إذا كان له دين

(20/215)


وله شاهد ولم تحلف الورثة الغرماء يقسمون في أحد القولين ولا يقسمون في الآخر وقد بينا ذلك في التفليس.

(فصل)
وإن قتل مسلم وهناك لوث فلم يقسم وليه حتى ارتد المدعى لم يقسم لانه إذا أقدم على الردة وهى من أكبر الكبائر لم يؤمن أن يقدم على اليمين الكاذبة فإن أقسم صحت القسامة.
وقال المزني رحمه الله لا تصح لانه كافر فلا يصح يمينه بالله، وهذا خطأ لان القصد بالقسامة اكتساب المال والمرتد من أهل الاكتساب، فإذا أقسم وجب القصاص لوارثه أو الدية، فإن رجع إلى الاسلام كان له، وإن مات على الردة كان ذلك لبيت المال فيتا.
وقال أبو على بن خيران وأبو حفص بن الوكيل: يبنى وجوب الدية يقسامته على حكم ملكه، فإن قلنا إن ملكه لا يزول بالردة أو قلنا إنه موقوف فعاد إلى الاسلام ثبتت الدية، وإن قلنا إن ملكه يزول الردة أو قلنا انه موقوف فلم يسلم حتى مات لم تثبت الدية، وهذا غلط لان اكتسابه للمال يصح على الاقوال
كلها، وهذا اكتساب.

(فصل)
ومن توجهت عليه يمين في دم غلظ عليه في اليمين لما روى أن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام، فقال أعلى دم؟ قيل لا، قال أفعلى عظيم من المال؟ قيل لا، قال لقد خشيت أن يبها الفاس بهذا المقام، وإن كانت اليمين في نكاح أو طلاق أو حد قذف أو غيرهما مما ليس بمال ولا المقصود منه المال غلظ لانه ليس بمال ولا المقصود منه المال فغلظ اليمين فيه كالدم.
وإن كانت اليمين في مال أو ما يقصد به المال، فإن كان يبلغ عشرين مثقالا غلظ وان لم يبلغ ذلك لم يغلظ، لان عبد الرحمن بن عوف فرق بين المال العظيم وبين ما دونه، فإن كانت اليمين في دعوى عتق فإن كان السيد هو الذى يحلف، فإن كانت قيمة العبد تبلغ عشرين مثقالا غلظ اليمين، وان لم تبلغ عشرين مثقالا لم يغلظ لان المولى يحلف لاثبات المال ففرق بين القليل والكثير كأروش

(20/216)


الجنايات فإن كان الذى يحلف هو العبد غلظ قلت قيمته أو كثرت لانه يحلف لاثبات العتق، والعتق ليس بمال ولا المقصود منه المال فلم تعتبر قيمته كدعوى القصاص، ولا فرق بين أن يكون في طرف قليل الارش، أو في طرف كثير الارش.

(فصل)
والتغليظ قد يكون بالزمان وبالمكان وفى اللفظ، فأما التغليظ بالمكان ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يستحب
(والثانى)
أنه واجب، وأما التغليظ بالزمان فقد ذكر الشيخ أبو حامد الاسفراينى رحمه الله أنه يستحب، وقد بينا ذلك في اللعان.
وقال أكثر أصحابنا: إن التغليظ بالزمان كالتغليظ بالمكان.
وفيه قولان.
وأما التغليظ باللفظ فهو مستحب، وهو أن يقول والله الذى لا إله هو
عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احلف رجلا فقال قل والله الذى لا إله إلا هو، ولان القصد باليمين الزجر عن الكذب، وهذه الالفاظ أبلغ في الزجر وأمنه من الاقدام على الكذب.
وان اقتصر على قوله (والله) أجزأه، لان النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في احلاف ركانة على قوله والله.
وان اقتصر على صفة من صفات الذات كقوله وعزة الله أجزأه لانها بمنزلة قوله والله في الحنث في اليمين وايجاب الكفارة.
وأن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي رحمه الله عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف.
قال ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف، قال الشافعي وهو حسن، ولان القرآن من صفات الذات، ولهذا يجب بالحنث فيه الكفارة.
وان كان الحالف يهوديا أحلفه بالله الذى أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق، وان كان نصرانيا أحلفه بالله الذى أنزل الانجيل على عيسى، وان كان مجوسيا أو وثنيا أحلفه بالله الذى خلقه وصوره
(فصل)
ولا يصح اليمين في الدعوى الا أن يستحلفه القاضى لان ركمانة ابن عبد يزيد قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا رسول الله انى طلقت امرأتي سهيبة ألبتة والله ما أردت الا واحدة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(20/217)


والله ما أردت إلا واحدة، قال ركانة والله ما أردت إلا واحدة، ولان الاعتبار بنية الحاكم فإذا حلف من غير استحلافه نوى مالا يحنث به فيجعل ذلك طريقا إلى إبطال الحقوق، وإن وصل بيمينه استثناء أو شرطا أو وصله بكلام لم يفهمه أعاد عليه اليمين من أولها، وإن كان الحالف أخرس ولا يفهم إشارته وقف
الامر إلى أن يفهم إشارته، فإن طلب المدعى أن يرد اليمين عليه لم يرد اليمين عليه لان رد اليمين يتعلق بنكول المدعى عليه، ولا يوجد النكول، فإن كان الذى عليه اليمين حلف بالطلاق أنه لا يحلف بيمين مغلظة، فان كان التغليظ مستحقا عليه لزمه أن يحلف.
وان حنث في يمينه بالطلاق كما لو حلف بالطلاق أنه لا يحلف عند القاضى فان امتنع جعل ناكلا وردت اليمين على خصمه، وان كان التغليظ غير مستحق لم يلزمه أن يحلف يمينا مغلظة، وان امتنع من التغليظ لم يجعل ناكلا.

(فصل)
وان حلف على فعل نفسه في نفى أو إثبات حلف على القطع لان علمه يحيط بحاله فيما فعل وفيما لم يفعل، وان حلف على فعل غيره فان كان في إثبات حلف على القطع لان له طريقا إلى العلم مما فعل غيره، وان كان على نفى حلف على نفى العلم فيقول: والله لا أعلم أن أبى أخذ منك مالا ولا أعلم أن أبى أبرأك من دينه لانه لا طريق له إلى القطع بالنفى فلم يكلف اليمين عليه.

(فصل)
وإن ادعى عليه دين من بيع أو قرض فأجاب بأنه لا يستحق عليه شئ ولم يتعرض إليه والقرض لم يحلف الا على ما أجاب ولا يكلف أن يحلف على نفى البيع والقرض لانه يجوز أن يكون قد استقرض منه أو ابتاع ثم قضاه أو أبرأه منه، فإذا حلف على نفى البيع والقرض حلف كافيا، وان أجاب بأنه ما باعنى ولا أقرضنى ففى الاحلاف وجهان،
(أحدهما)
أنه يحلف أنه لا يستحق عليه شئ ولا يكلف أن يحلف على نفى البيع والقرض لما ذكرناه من التعليل (الثاني) أنه يحلف على نفى البيع والقرض لانه نفى ذلك في الجواب فلزمه أن يحلف على النفى، فان ادعى رجل على رجل ألف درهم فأنكر حلف أنه

(20/218)


لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئا منه فان حلف أنه لا يستحق عليه الالف لم يجزه لان يمينه على نفى الالف لا يمنع وجوب بعضها.

(فصل)
وان كان لجماعة على رجل حق فوكلوا رجلا في استحلافه لم يجز أن يحلف لهم يمينا واحدة، لان لكل واحد منهم عليه يمينا فلم تتداخل، فإن رضوا بأن يحلف لهم يمينا واحدة ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يجوز كما يجوز أن يثبت ببينة واحدة حقوق الجماعة
(والثانى)
وهو المذهب أنه لا يجوز لان القصد من اليمين الزجر وما يحصل من الزجر بالتفريق لا يحصل بالجمع فلم يجز، وان رضوا كما لو رضيت المرأة أن يقتصر الزوج في اللعان على شهادة واحدة.
(الشرح) حديث سهل بن أبى خيثمة أن عبد الله ومحبصة خرجا..أخرجه مسلم والشافعي، وأخرج بعضه البخاري والبيهقي عن سهل بن أبى حثمة أن عبد الله بن سهل الانصاري ومحيصة ابنا مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا لحاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذهب عبد الرحمن أخو المقتول ليتكلم فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الكبر الكبر فتكلم حويصة ومحيصة فذكروا له شأن عبد الله بن سهل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيحلف منكم خمسون فتستحقون قاتلكم أو صاحبكم، فقالوا يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد، قال رسول الله صلى عليه وسلم: تبرئكم يهود بخمسين يمينا، قالو يارسول الله كيف نقبل ايمان قوم كفار، قال فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده.
حديث (اما أن يدوا صاحبكم..) أخرجه البيهقى حديث (يبرئكم يهود بخمسين يمينا..) سبق تخريجه حديث (لو أن الناس أعطوا بدعواهم..) سبق تخريجه
حديث (اليمين على المدعين..) سبق تخريجه.
حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقتصر في احلاف ركانة على قوله والله

(20/219)


أخرجه البيهقى وذكره الشوكاني في نيل الاوطار بدون تخريج في الشرح حديث أن مطرف بن الزبير كان يحلف على المصحف.
قال الشافعي أخبرني مطرف بن مازن بإسناد لا أحفظه أن الزبير أمر بأن يحلف على المصحف وقال رأيت مطرف بصنعاء يحلف على المصحف وقال قد كان من حكام الآفاق من يستحلف على المصحف وذلك عندي حسن ذكر البيهقى هذا كله في السنن الكبرى.
حديث (لان ركانة قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا رسول الله إنى طلقت ... ) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى والشافعي.
اللغة: اللوث بالفتح القوة.
قال الاعشى.
بذات لوث عفرناه إذا عثرت
* فالتعس أدنى لها من أن يقال لغا ومنه سمى الاسد ليثا، فاللوث قوه جنبة المدعى، وأما اللوث بالضم فهو الاسترخاء، واللوثة مس جنون، وسميت الايمان ههنا القسامة لتكرارها وكثرتها، وان كانت كل يمين قسما، وقيل لانها تقسم على الاولياء في الدم قوله (من جهد أصابهما) الجهد بالفتح المشقة وجهد الرجل فهو مجهود من المشقة، يقال أصابهم قحط من المطر فجهدوا.
قوله (طرح في فقير) الفقير مخرج الماء من القناة، وهو حفير كالبئر.
وعبد الله بن سهل المقتول وأخوه عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود.
قوله (الكبر الكبر) معناه ليبدأ الكلام الاكبر، وكان عبد الرحمن أصغر
من صاحبيه.
قوله (وإما أن يأذنوا بحرب من الله) يأذنوا يعلموا والاذان الاعلام، كأنه الايقاع في الاذن.
قوله (لحويصة ومحيصة) السماع فيهما بسكون الياء وياء التخفيف وبرهان الدين بن الحضرمي أسمعناه يكسر الياء وبالتشديد.
قوله (يبرئكم يهود) أي يحلفون فيبرءون من القتل، يقال برئ من الدين وأبرأته أنا فهو برئ وخلى منه.

(20/220)


قوله (مغلظة) الغلظ في الجسم الكثافة والثخونة والامتلاء، وفيما سواه الكثرة، فتغلظ الايمان بكثره العدد وبالصفات، وتغليظ الدية تكثيرها بالاسنان التى تكثر قيمتها.
قوله (تواطأوا على الشهادة) توافقوا قوله (لان المعول) أي المعتمد.
والعرب تقول عولت عليه في الامر أي استعنت به فيه واعتمدت عليه.
قوله (لقد خشيت أن يبهأ الناس) أي يأنسوا به فتقل هيبته عندهم فيتهاونوا به ويحتقروه وقد ذكر.
قوله (من صفات الذات) أي حقيقته وثبوت وجوده في النفس من غير صورة ولا شخص ولا مثال.
إن ادعى ولى قتيل على رجل أو على جماعة وعليهم لوث ظاهر، وهو ما يغلب على القلب صدق المدعى بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم كقتيل خيبر وجد بينهم، والعداوة بين الانصار وبين أهل خيبر ظاهرة، أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل، أو وجد في ناحية قتيل وثم
رجل مختضب بدمه، أو يشهد عدل واحد على أن فلانا قتله أو قاله جماعة من العبيد والنسوان جاءوا متفرقين بحيث لا يمكن تواطؤهم ونحو ذلك فيبدأ بيمين المدعى فيحلف خمسين يمينا ويستحق دعواه، فإن نكل المدعى عن اليمين ردت إلى المدعى عليه فيحلف خمسين يمينا على نفى القتل ويجب بها الدية المغلظة، فإن لم يكن هناك لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه كما في سائر الدعاوى، ثم يحلف يمينا واحدا أو خمسين يمينا قولان أصحهما الاول فإن كان المدعون جماعة توزع الايمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح القولين ويجبر الكسر.
والقول الثاني يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وإن كان المدعى عليهم جماعة وزع على عدد رؤوسهم على أصح القولين ان كان الدعوى في الاطراف سواء كان اللوث أو لم يكن فالقول قول المدعى عليه مع يمينه هذا كله بيان مذهب الشافعي.

(20/221)


وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعى بل يحلف المدعى عليه مع يمينه.
هذا كله بيان مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: إذا وجد قتيل في محلة يختار الامام خمسين رجلا من صلحاء أهلها ويحلفهم على أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا، ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة، فإن لم يعرفوا فمن سكانها.
قال صديق حسن خان في الروضة الندية: اعلم أن هذا الباب قد وقع فيه لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة من الدلائل، ولم يثبت في حديث صحيح ولا حسن قط ما يقتضى الجمع بين الايمان والدية بعض الاحاديث مصرح بوجوب الايمان فقط وبعضها بوجوب الدية فقط والحاصل أنه قد كثر الخلط والخبط في هذا الباب إلى غاية
فلم يتعبدنا الله بإثبات الاحكام العاطلة عن الدلائل، ولا سيما إذا خالفت ما هو شرع ثابت وكانت تستلزم أخذ المال الذى هو معصوم إلا بحقه.
وإذا كان القاتل من جماعة محصورة ثبتت وهى خمسين يمينا يختارهم ولى القتيل والدية إن نكلوا عليهم، وإن حلفوا سقطت، وان التبس الامر كانت الدية من بيت المال.

(20/222)