المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

التكملة الثانية
المجموع شرح المهذب

للامام ابي زكريا محيى الدين بشرف النووي
المتوفى سنة 676 هـ
الجزء العشرون
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع

(20/1)


قال المصنف رحمه الله تعالى

كتاب الحدود

(الشرح) أصل الحد في اللغة: المنع، وقيل للبواب حداد، لانه يمنع من يدخل الدار من غير أهلها، قال الاعشى: فقمنا ولما يصح ديكنا
* إلى جونة عند حدادها وسمى الحديد حديدا لمنعه من السلاح ووصوله إلى لابسه: وحد الشئ يمنع أن يدخل فيه ما ليس منه وأن يخرج منه ما هو منه، والحد في الشرع يمنع المحدود من العود إلى ما كان ارتكبه، وكذا السجان سمى حدادا لهذا المعنى قال الشاعر: لقد ألف الحداد بين عصابة
* فسائل في الاقياد ماذا ذنوبها قال القائد الاعلى للقوات الاندلسية في حينه في كتابه المحلى لم يصف الله تعالى حدا من العقوبة محدودا لا يتجاوز في النفس أو الاعضاء أو البشرة الا في سبعة أشياء وهى:
1 - المحاربة
2 - الردة
3 - الزنا
4 - القذف بالزنا
5 - السرقة
6 - جحد العارية
7 - تناول الخمر في شرب أو أكل

قال المصنف رحمه الله:

(باب حد الزنا)

الزنا حرام وهو من الكبائر العظام، والدليل عليه قوله عز وجل (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) وقوله تعالى (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزفون ومن يفعل ذلك يلق أثاما) وروى عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله عز وجل قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك، قال قلت: ثم أي قال أن تزانى حليلة جارك.

(20/3)


(الشرح) حديث عبد الله (سألت النبي صلى الله عليه وسلم..) متفق عليه وأخرج أحمد والطبراني في الكبير والاوسط عن المقداد بن الاسود رضى الله عنه لاصحابه ما تقولون في الزنا؟ قالوا حرام حرمه الله عز وجل ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاصحابه: لان يزنى الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزنى بامرأة جاره) وروى بن أبى الدنيا والخرائطي عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الزانى بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه، ويقول ادخل النار مع الداخلين) اللغة قوله (أن تجعل لله ندا) الند المثل والنظير وكذلك النديد والنديدة.
أجمعت الشرائع القديمة والحديثة على حرمة الزنا، وهو أن يأتي رجل وامرأة بفعل الجماع بغير أن تكون بينهما علاقة الزوجية المشروعة، وما زالت المجتمعات
البشرية مجمعة عليه منذ أقدم عصور التاريخ إلى يومنا الحاضر ولم يخالفها فيه حتى اليوم إلا شرذمة قليلة من الذين جعلوا عقولهم تابعة لاهوائهم وشهواتهم البهيمية أو أوتوا من قبل عقولهم، ويظنون كل مخالفة للنظام والعرف الجارى اختراعا لفلسفة جديدة، والعلة في هذا الاجماع العالمي أن الفطرة الانسانية بنفسها تقتضي حرمة الزنا، ومما يتوقف عليه بقاء النوع الانساني وقيام التمدن الانساني أن لا تكون الحرية للرجل والمرأة في أن يجتمعا ابتغاء اللذة وقضاء لشهوتهما النفسية متى شاء اثم يفترقا متى أرادا، بل يجب أن تكون العلاقة بين كل رجل وامرأة قائمة على عهد للوفاء دائم بحكم معروف في المجتمع، وتكون مستندة إلى ضمان المجتمع كله.
قالت الحنابلة في منار السبيل: الزنى هو فعل الفاحشة في قبل أو دبر وهو من أكبر الكبائر، قال الامام أحمد لا أعلم حدا بعد القتل ذنبا أعظم من الزنا، وأجمعوا على تحريمه.
ولقد كان الزنا في الجاهلية على قسمين سرا وعلانية، وعاما وخاصا، فالخاص السرى هو أن يكون للمرأة خدن يزنى بها سرا فلا تبذل نفسها لكل أحد،

(20/4)


والعام الجهرى هو المراد بالسفاح، كما قال ابن عباس وهو البغاء، وكان البغايا من الاماء وكن ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن.
وروى عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر من الزنا ويقولون انه لؤم، ويستحلون ما خفى ويقولون لا بأس به، وهذان النوعان معروفان الان وفاشيان في بلاد الافرنج والبلاد التى تقلد الافرنج في شرور مدنيتهم كمصر والاستانة.
وقبل الكلام في الاحكام علينا أن نلقى نظرة سريعة على أحكام الشرائع
السابقة، ففى الكتاب المقدس لليهود الاصحاح الثاني والعشرون 16، 17 (وإذا أراد رجل عذراء لم تخطب فاضطجع معها يمهرها لنفسه زوجة إن أبى أبوها أن يعطية إياها يزن له فضة كمهر العذارى) وفى 28، 29، من نفس المرجع، إذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فأمسكها واضطجع معها فوجدا يعطى الرجل الذى اضطجع معها لابي الفتاة خمسين مثقالا من الفضة وتكون هي له زوجة من أجل أنه قد أذلها، غير أنه إذا زنى أحد ببنت القسيس عوقب بالشنق بموجب القانون اليهودي وعوقبت البنت بالاحراق وهذه الفكرة هي شبيهة بفكرة الهنادك، ففى كتاب القانون الدينى لمانو (أيما رجل زنى ببنت من طبقته عن رضاها فليس عليه شئ من العقوبة، وله أن يؤدى الاجرة إلى والدها وينكحها ان رضى به.
وأما إذا كانت البنت من طبقة أعلى من طبقته فلتخرج البنت من بيتها ويعاقب الرجل بقطع الاعضاء، ويجوز تغيير هذه العقوبة بإحراق البنت حية إذا كانت من الطبقة البرهمية.
أما عقوبة الزنا بالمتزوجة فعند المصريين الفراعنة أن يضرب الرجل ضربا شديدا بالعصا ويجدع أنفه، وكذا في بابل وآشور وفارس القديمة، أما الهنود فكانت عقوبة المرأة عندهم أن تطرح أمام الكلاب حتى تمزقها، وعقوبة الرجل أن يضجع على سرير محمى من الحديد وتشعل حوله النار، وقد كان من حق الرجل عند اليونان والروم في بدء الامر أنه إذا وجد أحدا يزنى بامرأته أن يقتله أو ينال منه إن شاء غرامة مالية، ثم أصدر قيصر أغسطس مرسوما بأن

(20/5)


يصادر الرجل بنصف ما يملك من المال والبيوت وينفى من موطنه، وأن تحرم المرأة من نصف صداقها وتصادر بنصف ما تملك من المال وتنفى إلى بقعة أخرى ثم جاء قسطنطين وغير هذا القانون بإعدام الرجل والمرأة، ثم تغير هذا في
عهد ليون مارسين بالحبس المؤبد، ثم جاء قيصر جستينين وخفف هذه العقوبة وغيرها بضرب الاسواط ثم حبسها في دير الراهبات وإعطاء زوجها الحق في أنه إن شاء استخرجها من الدير في ضمن مدة سنتين، أو تركها فيه إن شاء طول حياتها.
وأما الاحكام في القانون اليهودي عن الزنا بامرأة الغير فهى (إذا اضطجع رجل مع امرأة اضطجاع زرع وهى أمة مخطوبة لرجل ولم تفد فداء ولا أعطيت حريتها فليكن تأديب ولا يقتلا لانها لم تعتق) (إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة) .
(إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها فاخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه فتنتزع الشر من وسطك، ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وأمسكها الرجل واضطجع معها يموت الرجل الذى اضطجع معها وحده، وأما الفتاة فلا يفعل بها شيئا) الاصحاح الثاني والعشرون 22 - 26.
وقد استنبط المسيحيون استنباطات خاطئه.
ومن بعض أقوال المسيح في المرأة التى جاء بها اليهود وهى زانيه ليحكم، فإذا زنى عندهم رجل بكر بامرأة باكرة فإن فعلهما على كونه ذنبا ليس بجريمة مستلزمه للعقوبه على كل حال.
وأما إذا كان أحد المرتكبين لهذا الفعل الرجل أو المرأة أو كلاهما متزوجا فإنه الجريمه غير أن الذى يجعله الجريمه انما هو نقض العهد لا الزنا المحض، فكل من أتى بفعل الزنا بعد كونه متزوجا فإنه مجرم لانه نقض العهد الذى كان عقده
مع زوجته أو زوجها إن كانت المرتكبه امرأة أمام المذبح بواسطة القسيس،

(20/6)


أما عقوبته على إتيانه بهذه الجريمة فإنما هي أن تقيم زوجته عليه الدعوى وتشكو غدره إلى المحكمة وتطلب منها التفريق بينهما، وكذلك ليس من حق زوج المرأة الزانية أن يقيم عليها الدعوى في المحكمة ويطلقها أمامها فحسب، بل له كذلك أن ينال غرامة مالية من الرجل الذى أفسد زوجته.
ومن العجيب أن هذه العقوبة سيف يقطع من جانبين، فإن المرأة وإن كان لها أن تقيم الدعوى على زوجها الغادر وتنال من المحكمة حكم تفريقها منه، ولكن لا يجوز لها أن تنكح رجلا آخر طول حياتها، وكذلك الرجل إن فعل بزوجته الغادرة، ومعنى ذلك أن كل من أحب من الزوجين أن يحيا في الدنيا حياة الرهبان والراهبات فعليه أن يشكو إلى المحكمة.
أما الاسلام فإنه يراها جريمة مستلزمة للمؤاخذة والعقوبة ويغلظ في نظره شدة هذه الجريمة لا على أساس أنه نقض العهد أو تعدى على فراش غيره، ولكن على أساس أنه سلك لقضاء شهوته طريقا غير مشروع، وعلى أساس أنه إذا أطلق عناس الناس لاتيانها متى شاؤوا، فإنها لا تلبث أن تستأصل شأفة نوع الانسان وتمدنه معا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا وطئ رجل من أهل دار الاسلام امرأة محرمة عليه من غير عقد ولا شبهة عقد وغير ملك ولا شبهة ملك وهو عاقل بالغ مختار عالم بالتحريم وجب عليه الحد، فإن كان محصنا وجب عليه الرجم لما روى ابن عباس رضى الله عنه قال، قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائلهم ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلون ويتركون فريضة أنزلها الله، ألا إن الرجم إذا أحصن
الرجل وقامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف، وقد قرأتها الشيخ والشيخه إذا زنيا فارجموهما البتة، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، ولا يجلد المحصن مع الرجم لما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجنى رضى الله عنهما قالا: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقام إليه رجل فقال إن إبنى كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، فقال على إبنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس

(20/7)


على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها، ولو وجب الجلد مع الرجم لامر به.

(فصل)
والمحصن الذى يرجم هو أن يكون بالغا عاقلا حرا وطئ في نكاح صحيح، فإن كان صبيا أو مجنونا لم يرجم، لانهما ليسا من أهل الحد، وإن كان مملوكا لم يرجم.
وقال أبو ثور: إذا أحصن بالزوجبة رجم، لانه حد لا يتبعض فاستوى فيه الحر والعبد كالقطع في السرقة، وهذا خطأ لقوله عز وجل (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعلبهن نصف ما على المحصنات من العذاب) فأوجب مع الاحصان خمسين جلدة.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولان الرجم أعلى من جلد مائة، فإذا لم يجب على المملوك جلد مائة فلان لا يجب الرجم أولى، ويخالف القطع في السرقه فإنه ليس في السرقه حد غير القطع، فلو أسقطناه سقط الحد وفى ذلك فساد، وليس كذلك الزنا فإن فيه حدا غير الرجم فإذا أسقطناه لم يسقط الحد.
وأما من لم يطأ في النكاح الصحيح فليس بمحصن وإذا زنى لم يرجم، لما روى مسروق عن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يحل دم امرئ مسلم يشهد أَنْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعه) ولا خلاف أن المراد بالثيب الذى وطئ في نكاح صحيح واختلف أصحابنا هل يكون من شرطه أن يكون الوطئ بعد كماله بالبلوغ والعقل والحريه أم لا؟ فمنهم من قال ليس من شرطه أن يكون الوطئ بعد الكمال فلو وطئ وهو صغير أو مجنون أو مملوك ثم كمل فزنى رجم، لانه وطئ أبيح للزوج الاول فثبت به الاحصان، كما لو وطئ بعد الكمال، ولان النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطئ.
ومنهم من قال من شرطه أن يكون الوطئ بعد الكمال، فإن وطئ في حال الصغر أو الجنون أو الرق ثم كمل وزنى لم يرجم، وهو ظاهر النص، والدليل عليه ما رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(20/8)


(خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم، فلو جاز أن يحصن الوطئ في حال النقصان لما علق الرجم بالزنا، ولان الاحصان كمال فشرط أن يكون وطؤه في حال الكمال، فعلى هذا إذا وطئ في نكاح صحيح فإن كانا حرين بالغين عاقلين صارا محصنين، وإن كانا مملوكين أو صغيرين أو مجنونين لم يصيرا محصنين، وإن كان أحدهما حرا بالغا عاقلا والآخر مملوكا أو صغيرا أو مجنونا ففيه قولان
(أحدهما)
أن الكامل منهما محصن والناقص منهما غير محصن وهو الصحيح لانه لما جاز أن يجب بالوطئ الواحد الرجم على أحدهما دون الاخر جاز أن يصير أحدهما بالوطئ الواحد محصنا دون الاخر والقول الثاني أنه لا يصير واحد منهما محصنا لانه وطئ لا يصير به أحدهما محصنا فلم يصر الاخر به محصنا كوطئ الشبهة، ولا يشترط في إحصان الرجم
أن يكون مسلما لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أتى بيهوديين زنيا فأمر برجمهما.

(فصل)
وإن كان غير محصن نظرت فإن كان حرا جلد مائة وغرب سنة لقوله عز وجل (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وروى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
وإن كان مملوكا جلد خمسين عبدا كان أو أمة لقوله عز وجل (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) فجعل ما على الامة نصف ما على الحرة لنقصانها بالرق، والدليل عليه أنها لو أعتقت كمل حدها، والعبد كالامة في الرق فوجب عليه نصف ما على الحر، وهل يغرب العبد بعد الجلد؟ فيه قولان.

(أحدهما)
أنه لا يغرب لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد.
ولم يذكر النفى، ولان القصد بالتغريب تعذيبه بالاخراج عن الاهل، والمملوك لا أهل له والقول الثاني: أنه يغرب، وهو الصحيح، لقوله عز وجل (فعليهن نصف

(20/9)


ما على المحصنات من العذاب) ولانه حد يتبعض فوجب على العبد كالجلد، فإذا قلنا إنه يغرب ففى قدره قولان:
(أحدهما)
أنه يغرب سنة، لانها مدة مقدرة بالشرع، فاستوى فيها الحر والعبد كمدة العنين.

(والثانى)
أنه يغرب نصف سنة للآية، ولانه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كالجلد.
(الشرح) أثر ابن عباس (لقد خشيت أن يطول بالناس ... ) متفق عليه وفى رواية أخرى (قال عمر وهو جالس على مقبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلون بترك فريضة أنزلها الله، وان الرجم في كتاب الله حق على كل من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) رواه مسلم عن أبى الطاهر وحرملة، ورواه البخاري عن يحيى بن سلمان عن ابن وهب.
ورواه البيهقى.
وقال الحافظ وعزاه الشيخين ومراده أصل الحديث، وفى روايه الترمذي (لولا انى أكره أن أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف، فإنى قد خشيت أن يجئ قوم فلا يجدونه في كتاب الله فيكفرون به) وروى الحاكم والطبراني (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة لما قضيا من اللذة) وروى ابن حبان والبيهقي ((عن زر بن حبيش قال، قال لى أبى بن كعب كأين تعد أو كأين تقرأ سورة الاحزاب؟ قلت ثلاث وسبعين آية، قال أقط لقد رأيتها وإنها لتعدل سورة البقره وان فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم.
حديث أبى هريرة وزيد بن خالد الجهنى أنهما قالا (ان رجلا من الاعراب أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لى

(20/10)


بكتاب الله، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه نعم ناقض بيننا بكتاب الله وائذن لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل: قال ان ابني كان عسيفا على هذا
فزنى بامرأته وإنى أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وان على امرأة هذا الرجم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذى نهسى بيده لاقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس (لرجل من أسلم) إلى امرأة هذا، فان اعترفت فارجمها قال فغدا عليها فاعترفت فأمر بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجمت) رواه الجماعة والبيهقي.
حديث أبى هريرة (إذا زنت أمة أحدكم ... ) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم ان زنت فليجلدها الحد ولا يثرب ثم ان زنت الثالثة فليبعها ولو بحب من شعر) وفى رواية أبى داود (في الرابعة الحد والبيع) .
حديث عبد الله (لا يحل دم امرئ ... ) متفق عليه، وأبو داود والترمذي والنسائي.
وعن عائشة (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله إلا في إحدى ثلاث زنا بعد إحصان فانه يرجم ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فانه يقتل أو يصلب أو ينفى من الارض أو يقتل نهسا فيقتل بها) رواه أبو داود والنساء.
حديث عبادة بن الصامت (خذوا عنى ... ) (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك وتريد وجهه فأنزل الله عليه ذات يوم فلقى ذلك فلما سرى عنه قال خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب، والبكر بالبكر جلد مائة ثم رجم بالحجارة والبكر جلد مائة ونفى سنة) رواه مسلم.
وفى رواية (خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة
ونفى سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) رواه الجماعة الا البخاري والنسائي

(20/11)


حديث ابن عمر (أتى بيهوديين.
) سبق تخريجه.
اللغة.
قوله (وجب عليه الرجم) وأصله الرمى بالرجام وهى الحجارة الضخام.
وكل رجم في القرآن فمعناه القتل.
وأما الجلد فمأخوذ من جلد الانساني وهو الضرب الذى يصل إلى جلده.
قال الجوهرى جلده الحد جلدا أي ضربه وأصاب جلده كقولك رأسه وبطنه، وانما جعلت العقوبة في الزنا بذلك ولم تجعل بقطع آلة الزنا كما جعلت عقوبة السرقة والمحاربة بقطع آلة السرقة وهى اليد والرجل لانه يودى إلى قطع النسل، ولعل قطع يد السارق يكون عاما في السارق والسارقة وقطع الذكر يختص بالرجل دون المرأة.
قوله (كان عسيفا) العسيف الاجير والجمع عسفاء قال: أطعت النفس في الشهوات حتى أعادتني عسيفا عند عبدى (لا يثرب) قال الخطابى لا يقتصر على التثريب.
(العسيف) قال مالك الاجير، ويطلق العسيف على السائل والعبد والخادم والعسف في أصل اللغة الجور وسمى الاجير بذلك لان المستأجر يعسفه على العمل أي يجوز عليه.
(تنبيه) قوله يا أنيس بضم الهمزة بعدها نون إثم تحتية ثم سين مهملة مصغرا قال ابن عبد البر هو ابن الضحاك الاسلمي، وقيل ابن مرشد، وقال ابن السكن في كتاب الصحابة لم أدر من هو ولا ذكر الا في هذا الحديث، وغلط بعضهم فقال انه أنس بن مالك.
قوله (إذا وطئ رجل من أهل دار الاسلام..) وهو من باب ما لا خلاف فيه، وهذا قول امام الائمة ابن حزم في مراتب الاجماع، واتفقوا
أن من زنى وهو حر بالغ غير محصن وهو عاقل مسلم غير سكران ولا مكره في أرض غير حرم مكة ولا في أرض الحرب بامرأة بالغه ليست أمة لزوجته ولا لولده ولا لاحد من رقيقه ولا لاحد من أبويه ولا ممن ولده بوجه من الوجعة ولا ادعى أنها زوجته ولا ادعى أنها أمته بوجه من الوجوه ولا هي من المعنم ولا هي مخدمة له ولا مباحة الفرج له من مالكها، وهى عاقلة غير سكرى ولا

(20/12)


مكرهة ولا هي مستأجرة للزنا، ولا هي أمنه متزوجة من عبده، ولا هي ذمية ولا هي حربية وهو يعلم أنها حرام عليه أو ليست ملكا له ولا عقد عليها نكاحا ولم يتب ولا تقادم زناه قبل أخذه بشهر ولا تزوجها ولا اشتراها بعد أن زنى بها أن عليه جلد مائة، واتفقوا أنه إذا زنى كما ذكرنا وكان قد تزوج قبل ذلك وهو بالغ مسلم حر عاقل بحرة مسلمة بالغة عاقلة نكاحا صحيحا ووطئها وهو في عقله قبل أن يزنى ولم يتب ولا طال الامر أن عليه الرجم بالحجارة حتى يموت.
قوله (المحصن الذى يرجم..) قال ابن حزم في المحلى قال الله تعالى (فإذا أحصن ... ) فبيقين ندرى أن الله تعالى أراد فإذا تزوجن ووطئن فعليهن نصف ما على الحرائر المحصنات من العذاب، والحرة المحصنة فإن عليها جلد مائة والرجم وبالضرورة ندرى أن الرجم لا نصف له فبقى عليهن نصف المائة.
ثم قال: واختلف الناس في المملوك الذكر إذا زنى، فقالت طائفة ان حده حد الحر من الجلد والنفى والرجم.
وقال الكاسانى في البدائع (ان وجوب الحد على المرأة في باب الزنا ليس لكونها زانية، لان فعل الزنا لا يتحقق وهو الوطئ، لانها موطوءة وليست بواطئة، وتسميتها في الكتاب العزيز زانية مجاز لا حقيقة، وانما وجب عليها لكونها مزنيا بها وفعل الصبى والمجنون ليس بزنا فلا تكون هي مزنيا بها فلا
يجب عليها الحد، وفعل الزنا يتحقق من العاقل البالغ فكانت الصبية أو المجنونة مزنيا بها، الا أن الحد لم يجب عليها لعدم الاهلية، والاهلية ثابتة في جانب الرجل فيجب.
قالت الحنابلة في منار السبيل: فإذا زنى المحصن وجب رجمه حتى يموت.
وروى حديث عمر السابق الاشارة إليه وحديث ماعز، ولا يجب الرجم الا على المحصن بإجماع أهل العلم، والمحصن هو من وطئ زوجته في قبلها بنكاح صحيح لا باطل ولا فاسد لانه ليس بنكاح في الشرع، وهما حران مكلفان فلا احصان مع صغر أحدهما أو جنونه أو رقه، ولان الاحصان كمال فيشترط أن يكون في حال الكمال وتصير الزوجة أيضا محصنة حيث كانا بالصفات المتقدمة

(20/13)


حال الوطئ ولا يشترط الاسلام في الاحصان، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنى ووطئ الشبهة لا يصير به أحدهما محصنا، ولا نعلم بينهم خلافا في أن التسرى لا يحصل به الاحصان لواحد منهما، لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه أحكامه، وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة جلدة وغرب عاما إلى مسافة قصر لان أحكام السفر من القصر والفطر لا تثبت بدونه، وفى الكافي وحيث رأى الامام الزيادة في المسافة فله ذلك، لان عمر رضى الله عنه غرب إلى الشام والعراق، وإن رأى زيادة على الحول لم يجز لان مدة الحول منصوص عليها فلم يدخلها الاجتهاد والمسافة غير منصوص عليها فرجع فيها إلى الاجتهاد اه.
وتغرب المرأة مع محرم لعموم نهيها عن السفر بلا محرم وعليها أجرته، ويغرب غريب إلى غير وطنه.
وإن زنى الرقيق جلد خمسين جلدة، بكرا أو ثيبا لقوله تعالى (فعليهن نصف ما على المحصنات ... ) والعذاب المذكور في القرآن مائة جلدة فينصرف التنصيف إليه دون غيره والرجم لا يتأتى تنصيفه.
وعن عبد الله بن عباس المخزومى قال (أمرنى عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الامارة خمسين خمسين في الزنى) رواه مالك.
ولا يغرب لان تغريبه إضرارا بسيده دونه، ولانه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بتغريب الامة إذا زنت في حديث أبى هريرة وزيد بن خالد) وقد سبق قالت المالكية: والزناة الذين تختلف العقوبة باختلافهم أربعة أصناف، محصنون ثيب وأبكار، وأحرار وعبيد، وذكور وأناث، والحدود الاسلامية ثلاثة: رجم وجلد وتغريب: فأما الثيب الاحرار المحصنون فإن المسلمين أجمعوا على أن حدهم الرجم إلا فرقة من أهل الاهواء، فإنهم رأوا أن حد كل زان الجلد، وإنما صار الجمهور للرجم لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة، أعنى قوله تعالى (الزانيه والزانى) الاية.
واختلفوا موضعين، أحدهما هل يجلدون مع الرجم أم لا، والموضع الثاني في شروط الاحصان.
قال القرطبى في تفسيره: قوله تعالى (مائة جلدة) هذا حد الزانى الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة، وثبت بالسنة تغريب عام على الخلاف

(20/14)


في ذلك، وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة لقوله تعالى (فإن أتين بفاحشة) وهذا في الامة ثم العبد في معناها، وأما المحصن من الاحرار فعليه الرجم دون الجلد، ومن العلماء من يقول يجلد مائة ثم يرجم.
ثم قال في مكان آخر فإن زنى بالغ بصبية أو عاقل بمجنونة أو مستيقط بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى فهذا زان نكح غير زانية، ثم قال قلنا هو زنى من كل جهة إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والاخر ثبت فيه.
قال الشوكاني: والحاصل أن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة
عند الحنفية فيما ورد من السنة زائدا على القرآن، فليس لهم معذرة عنها بذلك وقد عملوا بما هو دونها، وقد أجاب صاحب البحر عن أحاديث التغريب بأنه عقوبة لا حد، ويجاب عن ذلك بالقول بموجبه، فإن الحدود كلها عقوبات، والنزاع في ثبوته لا في مجرد التسمية.
(قلت) فإن العلماء اختلفوا هل يجلد من وجب عليه الرجم، وقال الحسن البصري واسحاق وأحمد وأبو داود (الزانى المحصن يجلد ثم يرجم) عمدة الجمهور أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجم ماعزا ورجم امرأة من جهينة ورجم يهوديين وامرأة من عامر من الازد، كل ذلك مخرج في الصحاح ولم يرو أنه جلد واحد منهم.
ومن جهة المعنى أن الحد الاصغر ينطوى في الحد الاكبر، وذلك أن الحد انما وضع للزجر فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم.
وعمدة الفريق الثاني عموم قوله تعالى (الزانية والزانى ... ) فلم يخص محصن من غير محصن.
واحتجوا أيضا بحديث على رضى الله عنه خرجه مسلم وغيره أن عليا رضى الله عنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله.
وأما الاحصان فإنهم اتفقوا على أنه من شرط الرجم، واختلفوا في شروطه فقال مالك البلوغ والاسلام والحرية والوطئ في عقد صحيح وحالة جائز فيها الوطئ والوطئ المحظور هو عنده الوطئ في الحيض أو في الصيام، فإذا زنا بعد الوطئ الذى هو بهذه الصفة وهو بهذه الصفات فحده الرجم.

(20/15)


ووافق أبو حنيفة مالكا في هذه الشروط إلا في الوطئ المحظور واشترط في الحرية أن تكون من الطرفين أعنى أن يكون الزانى والزانية حرين ولم يشترط الاسلام الشافعي.
وعمدة الشافعي ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو
حديث متفق عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجم اليهودية واليهودى، وعمدة مالك من طريق المعنى أن الاحصان عنده فضيله، ولا فضيله مع عدم الاسلام وهذا مبناه على أن الوطئ في نكاح صحيح هو مندوب إليه فهذا هو حكم الثيب.
وأما الابكار فان المسلمين أجمعوا على أن حد البكر في الزنا جلد مائة، واختلفوا في التغريب فقال أبو حنيفة وأصحابه لا تغريب أصلا.
وقال الشافعي: لابد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو عبدا.
وقال مالك يغرب الرجل ولا تغرب المرأة، وبه قال الاوزاعي ولا تغريب عند مالك على العبيد فعمدة من أوجب التغريب على الاطلاق حديث عبادة بن الصامت، ومن خصص المرأة من هذا العموم فانما خصصه بالقياس، لانه رأى أن المرأه تعرض بالغربة لاكثر من الزنا، وهذا من القياس المرسل أعنى المصلحى الذيى كثيرا ما يقول به مالك.
وأما عمدة الحنفية فظاهر الكتاب وهو مبنى على رأيهم أن الزيادة على النص فسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الآحاد، ورووا عن عمر أنه حد ولم يغرب، وروى الكوفيون عن أبى بكر وعمر أنهم غربوا.
وأما حكم العبيد في هذه الفاحشة فان العبيد صنفان ذكور وأناث، أما الاناث فان العلماء أجمعوا على أن الامة إذا تزوجت وزنت أن حدها خمسون جلدة، واختلفوا إذا لم تزوج، فقال جمهور فقهاء الامصار حدها خمسون جلدة وقالت طائفة.
لا حد عليها وانما عليها تعزير فقط، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وقال قوم لا حد على الامة أصلا، والسبب في اختلافهم الاشتراك الذى في اسم الاحصان في قوله تعالى (فان أحصن) فمن فهم الاحصان التزوج قال بدليل الخطاب لا تجلد الغير المتزوجة، ومن فهم من الاحصان الاسلام

(20/16)


جعلة عاما في المتزوجة وغيرها، واحتج على من لم ير على غير المتزوجة حدا بحديث أبى هريرة وزيد بن خالد، وأما الذكر من العبيد ففقهاء الامصار على أن حد العبد نصف حد الحر قياسا على الامة، وقال أهل الظاهر حده مائة جلدة مصيرا إلى عموم قوله تعالى (فاجلدوا..) ولم يخصص حرا من عبد، ومن الناس من درأ الحد عنه قياسا على الامة، وهذا شاذ وروى عن ابن عباس.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن زنى وهو بكر فلم يحد حتى أحصن وزنى ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يرجم ويدخل فيه الجلد والتغريب لانهما حدان يجبان بالزنا فتداخلا، كما لو وجب حدان وهو بكر.

(والثانى)
أنه لا يدخل فيه لانهما حدان مختلفان فلم يدخل أحدهما في الاخر كحد السرقة والشرب، فعلى هذا يجلد ثم يرجم ولا يغرب، لان التغريب يحصل بالرجم.
(الشرح) أخرج البيهقى في سننة الكبرى عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يمسها ثم زنى، فقال سعيد السنة فيه أن يجلد ولا يرجم وأخرج عن رجل من بنى عجل قال: جئت مع على رضى الله عنه بصفين فإذا رجل في زرع ينادى أنى قد أصبت فاحشة فأقيموا على الحد، فرفعته إلى على رضى الله عنه، فقال له على رضى الله عنه هل تزوجت؟ قال نعم، قال فدخلت بها؟ قال لا، قال فجلده مائة وأغرمه نصف الصداق وفرق بينهما.
ورواه من طريق أخرى: ثم قال، قال الشيخ أما التفريق بينهما بالزنا حكما فلا نقول به.
وأخرج عن أبى الزناد عن الفقهاء من أهل المدينة كانوا يقولون (من تزوج
ممن لم يكن أحصن قبل ذلك فزنى أن يدخل بامرأته فلا رجم عليه، والمرأة مثل ذلك، فإن دخل بامرأته ساعة من ليل أو نهار أو أكثر فزنى بعد ذلك فعليه الرجم والمرأة مثل ذلك والاماء وأمهات الاولاد لا يوجبن الرجم.

(20/17)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والوطئ الذى يجب به الحد أن يغيب الحشفة في الفرج فإن أحكام الوطئ تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه وما يجب بالوطئ في الفرج من الحد يجب بالوطئ في الدبر لانه فرج مقصود فنعلق الحد بالايلاج فيه كالقبل، ولانه إذا وجب بالوطئ في القبل، وهو مما يستباح، فلان يجب بالوطئ في الدبر وهو مما لا يستباح أولى.

(فصل)
ولا يجب على الصبى والمجنون حد الزنا لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق، ولانه إذا سقط عنه التكليف في العبادات والمآثم في المعاصي فلان يسقط الحد ومبناه على الدرء والاسقاط.
أولى، وفى السكران قولان وقد بيناهما في الطلاق.

(فصل)
ولا يجب على المرأة إذا أكرهت على التمكين من الزنا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) ولانها مسلوبة الاختيار فلم يجب عليها الحد كالنائمة، وهل يجب على الرجل إذا أكره على الزنا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
وهو المذهب أنه لا يجب عليه لما ذكرنا في المرأة
(والثانى)
أنه يجب لان الوطئ لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة والاختيار.

(فصل)
ولا يجب على من لا يعلم تحريم الزنا لما روى سعيد بن المسيب قال
ذكر الزنا بالشام، فقال رجل زنيت البارحة، فقالوا ما تقول؟ قال ما علمت أن الله عز وجل حرمه، فكتب - يعنى عمر - إن كان يعلم أن الله حرمة فخذوه وإن لم يكن قد علم فأعلموه فإن عاد فارجموه.
وروى أن جارية سوداء رفعت إلى عمر رضى الله عنه وقيل إنها زنت فخفقها بالدرة خفقات، وقال أي لكاع زنيت؟ فقالت من غوش بدرهمين - تخبر بصاحبها الذى زنى بها ومهرها الذى أعطاها - فقال عمر رضى الله عنه ما ترون؟ وعنده على وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، فقال على رضى الله عنه أرى أن

(20/18)


ترجمها، وقال عبد الرحمن أرى مثل ما ر أي أخوك، فقال لعثمان ما تقول؟ قال أراها تستهل بالذى صنعت لا ترى به بأسأ، وإنما حد الله على من علم أمر الله عزوجل، فقال صدقت، فإن زنى رجل بامرأة وادعى أنه لم يعلم بتحريمه فإن كان قد نها فيما بين المسلمين لم يقبل قوله لانا نعلم كذبه، وإن كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ فِي بادية بعيدة من المسلمين أو كان مجنونا فأفاق وزنى قبل أن يعلم الاحكام قبل قوله لانه يحتمل ما يدعيه فلم يجب الحد، وإن وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن، وادعى أنه جهل تحريمه ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا يقبل دعواه إلا أن يكون قريب العهد بالاسلام أو نشأ في موضع بعيد من المسلمين كما لا يقبل دعوى الجهل إذا وطئها من غير إذن الراهن
(والثانى)
أنه يقبل قوله لان معرفة ذلك تحتاج إلى فقه.

(فصل)
وإن وجد امرأة في فراشه فظنها أمته أو زوجته فوطئها لم يلزمه الحد لانه يحتمل ما يدعيه من الشبهة.

(فصل)
وإن كان أحد الشريكين في الوطئ صغيرا والآخر بالغا أو أحدهما مستيقظا والاخر نائما، أو أحدهما عاقلا والاخر مجنونا، أو أحدهما عالما
بالتحريم والاخر جاهلا، أو أحدهما مختارا والاخر مستكرها، أو أحدهما مسلما والاخر مستأمنا وجب الحد على من هو من أهل الحد ولم يجب على الاخر، لان أحدهما انفرد بما يوجب الحد وانفرد الاخر بما يسقط الحد فوجب الحد على أحدهما وسقط عن الاخر.
وإن كان أحدهما محصنا والاخر غير محصن وجب على المحصن الرجم وعلى غير المحصن الجلد والتغريب، لان أحدهما انفرد بسبب الرجم والاخر انفرد بسبب الجلد والتغريب، وإن أقر أحدهما بالزنا وأنكر الاخر وجب على المقر الحد لما روى سهل بن سعد الساعدي أن رجلا أقر أنه زنى بامرأة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها فجحدت فحد الرجل.
وروى أبو هريرة رضى الله عنه وزيد بن خالد الجهنى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: على ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها.
فأوجب الحد على الرجل وعلق الرجم على اعتراف المرأة

(20/19)


(فصل)
وإن استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها أو تزوج ذات رحم محرم فوطئها وهو يعتقد تحريمها وجب عليه الحد لانه لا تأثير للعقد في إباحة وطئها فكان وجوده كعدمه، وإن ملك ذات رحم محرم ووطئها ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يجب عليه الحد لان ملكه لا يبيح وطأها بحال فلم يسقط الحد
(والثانى)
أنه لا يجب عليه الحد، وهو الصحيح لانه وطئ في ملك فلم يجب به الحد كوطئ أمته الحائض، ولانه لا يختلف المذهب أنه يثبت به النسب وتصير الجارية أم ولد له فلم يجب به الحد، فإن وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره لم يجب عليه الحد.
وقال أبو ثور: إن علم بتحريمها وجب عليه الحد، لان ملك البعض لا يبيح الوطئ فلم يسقط الحد كملك ذات رحم محرم.
وهذا خطأ لانه
اجتمع في الوطئ ما يوجب الحد وما يسقط فغلب الاسقاط، لان مبنى الحد على الدرء والاسقاط، وإن وطئ جارية ابنه لم يجب عليه الحد، لان له فيها شبهة ويلحقه نسب ولدها فلم يلزمه الحد بوطئها (الشرح) حديث (رفع القلم ... ) سبق تخريجه حديث (رفع عن أمتى ... ) أخرجه الطبراني عن ثوبان.
أثر سعيد بن المسيب أخرجه البيهقى في السنن من رواية بكر بن عبد الله عن عمر أنه كتب إليه في رجل قيل له متى عهدك بالنساء فقال البارحة، قبل بمن؟ قال بأم مثواى - يعنى ربة منزلي - فقيل له قد هلكت، قال ما علمت أن الله حرم الزنا، فكتب عمر أن يستحلف ثم يخلى سبيله وقال الحافظ في التلخيص: وروينا في فوائد عبد الوهاب بن عبد الرحيم الجويرى قال: أنا سفيان عن عمر وبن دينار أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ذكر الزنا بالشام فقال رجل قد زنيت البارحة، فقالوا ما تقول؟ فقال أو حرمه الله؟ ما علمت أن الله حرمه، فكتب إلى عمر فقال: إن كان علم أن الله حرمه فحدوه، وإن لم يكن علم فعلموه فإن عاد فحدوه.
ثم قال وهكذا أخرجه عبد الرزاق حديث سهل أخرجه البيهقى بألفاظ مقاربة وأحمد وأبو داود وفيه عبد السلام

(20/20)


ابن حفص متكلم فيه أثر (أن جارية سوداء) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى وأخرج عن سعيد بن المسيب أنه سمع ابن عباس يقول: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ الناس يوم الجمعة أتاه رجل مِنْ بَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مناه فتخطى الناس حتى اقترب إليه فقال يا رسول الله أقم على الحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اجلس فانتهره، فجلس ثم قام الثانية فقال مثل ذلك،
فقال اجلس ثم قام الثالثة فقال مثل ذلك، فقال ما حدك؟ قال أتيت امرأة حراما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجال من أصحابه فيهم على بن أبى طالب وعباس وزيد بن حارثة وعثمان بن عفان رضى الله عنهم انطلقوا به فاجلدوه مائة جلدة، ولم يكن الليثى تزوج، فقيل يا رسول الله ألا نجلد التى خبث بها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ائتونى به مجلودا، فلما أتى به قال له من صاحبتك؟ قال فلانة لامرأة من بنى بكر فدعاها فسألها عن ذلك فقالت كذب والله ما أعرفه وأنى مما قال لبريئه، الله على ما أقول من الشاهدين، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شهودك أنك خبثت بها فإنها تنكر، فإن كان لك شهداء جلدتها وإلا جلدتك حد الفرية، فقال يا رسول الله ما لى شهداء، فأمر به فجلد حد الفريه ثمانين) وفيه القاسم بن فياض تكلم فيه غير واحد، وقال النسائي هذا حديث منكر حديث أبى هريرة وزيد بن خالد الجهنى سبق تخريجه اللغة.
قوله (فخفقها بالدرة خفقات) أي ضربها ضربا خفيفا، يقال خفقه يخفقه ويخفقه، والمخفقة الدرة التى يخفق بها، وهى آلة عريضة فيها جلود مخفوقة قوله (أي لكاع) اللكع اللئيم والمرأة لكاع ولا يستعمل الا في النداء.
وقال أبو عبيد اللكع عند العرب العبد، وقال الليث يقال امرأة لكاع وملكعانة، ورجل لكع وملكعان ولكيع كل ذلك يوصف به الاحمق قوله (من غوش بدرهمين) هو اسم طائر سمى به الرجل قوله (أراها تستهل) أراها أظنها وكل ما كان أرى بالضم لما لم يسم فاعله فمعناه أظن وكل ما كان مفتوحا فهو الذى من الرأى أو رؤية البصر وتستهل بتخفيف اللام أي تراه سهلا لا بأس به عندها ومن رواه بالتشديد فهو خطأ وان صح فمقتضاه تضحك.
قوله (ومبناه على الدرء والاسقاط) الدرء الدفع ودرأه دفعه وقد ذكر

(20/21)


قوله (والوطئ الذى يجب به الحد..) قلت فيه مسألتان: الاولى: غياب الحشفة في الفرج فإن أحكام الوطئ تتعلق بذلك لا بما دونه وهذا ما لا خلاف فيه: الثانية: ما يجب بالوطئ في الفرج من الحد يجب بالوطئ في الدبر ... ) ففيه خلاف.
قال الكاسانى في البدائع (الوطئ في الدبر في الانثى أو الذكر لا يوجب الحد عند أبى حنيفة، وان كان حراما لعدم الوطئ في القبل فلم يكن زنا.
ثم قال: ولابي حنيفة ما ذكرنا أن اللواطة ليست بزنا لما ذكرنا أن الزنا اسم للوطئ في قبل المرأة، ألا ترى أنه يستقيم أن يقال لاط وما زنا وزنا وما لاط (ويقال فلان لوطى وفلان زانى فكذا يختلفان اسما واختلاف الاسامي دليل اختلاف المعاني، ولهذا اختلف الصحابة في حد هذا الفعل، ولو كان هذا زنا لم يكن لاختلافهم معنى، لان موجب الزنا كان معلوما لهم بالنص فثبت أنه ليس بزنا ولا في معنى الزنا أيضا لما في الزنا من اشتباه الانساب وتضييع الولد ولم يوجد ذلك في هذا الفعل إنما فيه تضييع الماء المهين الذى يباح مثله بالعزل.
والشافعي يوجب الحد وهو الرجم إن كان محصنا والجلد إن كان غير محصن لا لانه زنا بل لانه في معنى الزنا المشاركة الزنا في المعنى المستدعى لوجوب الحد وهو الوطئ الحرام.
وقالت الحنابلة: وشرط وجوب الحد ثلاثة (احدها) تغييب الحشفة في فرج أو دبر لآدمي حى ذكر أو أنثى، واستدلوا بحديث أبى هريرة في حديث الاسلمي الذى رواه أبو داود والدارقطني (فأقبل عليه في الخامسة قال أنكتها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر، قال: نعم، وفى آخره فأمر به فرجم، ولو تلوط بغلام لزمه الحد، لحديث أبى موسى مرفوعا
(إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان) وعنه حده الرجم بكل حال، لانه إجماع الصحابة فانهم أجمعوا على قتله وانما اختلفوا في الكيفية.
قال الخطابى في معالم السنن: بعد أن أورد حديثى ابن عباس (من وجدتموه

(20/22)


يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) والثانى (البكر يؤخذ على اللوطية قال يرجم) قلت: وفى كليهما ضعف، بل قال الحافظ في التلخيص عن الاول استنكره النسائي، ورواه ابن ماجه والحاكم وإسناده أضعف من رواية الترمذي وغيره.
وقال ابن الطلاع في أحكامه لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه، وفى الثاني قال لا يصح وقد أخرجه البزار وفيه عاصم متروك.
في هذا الصنع هذه العقوبة العظيمه، وكأن معنى الفقهاء فيه أن الله سبحانه أمطر الحجارة على قوم لوط فقتلهم بها ورتبوا للقتل المأمور به على معاني ما جاء فيه من أحكام الشريعة فقالوا: يقتل بالحجارة رجما ان كان محصنا ويجلد مائة إن كان بكرا ولا يقتل، وإلى هذا ذهب سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ والنخعي والحسن وقتادة وهو أظهر قولى الشافعي.
وحكى ذلك أيضا عن أبى يوسف ومحمد.
وقال الاوزاعي: حكمه حكم الزانى، وقال مالك بن أنس وإسحاق بن راهويه يرجم ان أحصن أو لم يحصن وروى ذلك عن الشعبى، وقال أبو حنيفة يعزر ولا يحد وذلك أن هذا الفعل ليس عندهم بزنا.
وقال بعض اهل الظاهر لا شئ على من فعل هذا الصنيع (قلت) وهذا أبعد الاقاويل عن الصواب دعاها إلى إغراء الفجار به وتهوين ذلك بأعينهم وهو قول مرغوب عنه.
قال الشيخ الفقى في تعليقه: والاظهر والله أعلم هو قتل الفاعل والمفعول به كما هو ظاهر الحديث، لان في هذه الفاحشة القذرة إفسادا أي افساد للفطرة وعكسا للاوضاع: ولذلك جمع الله تعالى لاهلها الفاعلين والمفعول بهم عقوبتين عظيمتين الخسف والحصب بحجارة من سجيل (قلت) ردا عليه، أما الفعله فأوافقه على ما قاله فيها بل ثبت فيها اللعن والخسف لقوم لوط، أما الحد استنادا إلى حديث لم يصح سنده فهذا تشريع حكم لم يأذن به الله ولا فعله رسوله وحكم بغير ما أنزل الله، وللحاكم أن يختار ما يشاء من التعذيب لهؤلاء الفسقة حتى يردعهم

(20/23)


وقد أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده والبيهقي عن على أنه رجم لوطيا، قال الشافعي وبهذا نأخذ محصنا كان أو غير محصن، وأخرج البيهقى عن أبى بكر أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء فَسَأَلَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فكان أشدهم يومئذ قولا على بن أبى طالب قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الامم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم نرى أن تحرقه بالنار فاجتمع أصحاب النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ يحرقه بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار، وفى إسناده إرسال.
وروى من وجه آخر عن على في غير هذه القصة قال يرجم ويحرق بالنار، وأخرج البيهقى عن ابن عباس أنه سئل عن حد اللوطى فقال ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسا ثم يتبع بالحجارة، وقد اختلف أهل العلم في عقوبة الفاعل للواط والمفعول به بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر.
قوله (ولا يجب على الصبى ... ) فهذا مما لا خلاف فيه.
قوله (ولا يجب على المرأة إذا أكرهت ... ) قال الكاسانى في البدائع (وكذلك الوطئ عن اكراه لا يوجب الحد)
قلت: أما الرجل فلا اكراه عليه، لان الوطئ لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة.
قوله (وإن كان أحد الشريكين ... ) وقال الشوكاني: استدل بحديث سهل بن سعد مالك والشافعي فقالا يحد من أقر بالزنا بامرأة معينة للزنا لا للقذف، وقال الاوزاعي وأبو حنيفة يحد للقذف فقط قال: لان إنكارها شبهة وأجيب بأنه لا يبطل اقراره، وذهبت الهادوية ومحمد، وروى عن الشافعي إلى أنه يحد للزنا وللقذف، واستدلوا بحديث ابن عباس الذى ذكرناه (قلت السابق تخريجه) وهذا هو الظاهر لوجهين، الاول أن غاية ما في حديث سهل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يحد ذلك الرجل للقذف وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط لاحتمال أن يكون ذلك لعدم الطلب من المرأة أو لوجود مسقط بخلاف حديث ابن عباس فان فيه أنه أقام الحد عليه

(20/24)


والوجه الثاني أن ظاهر أدلة القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل وقد صدق على من كان كذلك أنه قاذف قوله (وإن استأجر امرأة.
) روى محمد بن حزم بسنده أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت يا أمير المؤمنين أقبلت أسوق غنما لى فلقينى رجل فحفن لى حفنة من تمر ثم حفن لى حفنة من تمر ثم حفن لى حفة من تمر ثم أصابني، فقال عمر ما قلت؟ فأعادت، فقال عمر ويشير بيده مهر مهر مهر ثم تركها.
وبه إلى عبد الرزاق أن امرأة أصابها الجوع فأتت راعيا فسألته الطعام فأبى عليها حتى تعطيه نفسها، قالت فحثى لى ثلاث حثيات من تمر وذكرت أنها كانت جهدت من الجوع، فأخبرت عمر فكبر وقال مهر مهر مهر ودرأ عنها الحد وقال أبو محمد (ذهب إلى هذا أبو حنيفة ولم ير الزنا إلا ما كان عن مطارفة
وأما ما كان عن عطاء أو استئجار فليس زنا ولا حد فيه.
وقال أبو يوسف ومحمد وأبو ثور وأصحابنا وسائر الناس هو زنا كله وفيه الحد وأما المالكيون والشافعيون فعهدنا بهم يشنعون خلاف الصاحب الذى لا يعرف له مخالف من الصحابة إذا وافق تقليدهم، وهم قد خالفوا عمر، ولا يعرف له مخالف من الصحابة بل هم يعدون مثل هذا إجماعا، ويستدلون على ذلك بسكوت من بالحضرة من الصحابة عن النكير لذلك.
وأما الحنفيون المقلدون لابي حنيفة في هذا فمن عجائب الدنيا التى لا يكاد يوجد لها نظير أن يقلدوا عمر في إسقاط الحد ههنا بثلاث حشيات من تمر مهر، وقد خالفوا هذه القضية بعينها فلم يجيزوا النكاح الصحيح مثل هذا وأضعافه مهرا بل متعوا من أقل من عشرة دراهم في ذلك، فهذا هو الاستخفاف حقا والاخذ بما اشتهوا من قول الصاحب حيث اشتهوا وترك ما اشتهوا، فما هذا دينا وأف لهذا عملا، ثم قال: وعلى هذا لا يشاء زان ولا زانية أن يزنيا علانية إلا فعلا وهما في أمن من الحد بأن يعطيها درهما يستأجرها به الزنا ثم قال: وحد الزنا واجب على المستأجر والمستأجرة بل جرمهما أعظم من جرم الزانى والزانية بغير استئجار لان المستأجر والمستأجرة زادا على سائر الزنا حراما آخر، وهو أكل المال بالباطل، وأما المخدمة فروى ابن الماجشون

(20/25)


صاحب مالك أن المخدمة سنين كثيرة لا حد على المخدم إذا وطئها، وهذا قول فاسد، ومع فساده ساقط.
أما فساده فإسقاطه الحد الذى أوجبه الله تعالى في الزنا، وأما سقوطه فتفريقه بين المخدمة مدة طويلة والمخدمة مدة قصيرة ويكلف تحديد تلك المدة المسقطة للحد التى يسقط فهيا الحد، فإن حد مدة كان متزايدا من القول بالباطل بلا برهان، وإن لم يحد شيئا كان محرما موجبا شارعا مالا يدرى
فيما لا يدرى، وهذه تخاليط نعوذ بالله منها.
والحد كامل واجب على المخدم والمخدمة ولو أخدمها عمر نوح في قومه لانه زنا وعمر من ليست له فراشا.
ثم قال من زنى بامرأة ثم تزوجها لم يسقط الحد بذلك، لان الله تعالى قد أوجبه عليه فلا يسقطه زواجه إياها، وكذلك إذا زنى بأمة ثم اشتراها، وهو قول جمهور العلماء وقال أبو حنيفة لا حد عليه في كلتا المسألتين، وهذه من تلك الطوام.
قال الشوكاني بعد أن أورد حديث البراء (لقيت خالي ومعه الراية فقلت أبن تريد، قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رجل تزوج امرأة أبيه من بعد أن أضرب عنقه وآخذ ماله، رواه الخمسة ولم يذكر ابن ماجه والترمذي أخذ المال.
وأخرج أبو داود عن البراء بينما أطوف على إبل لى ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء، فجعل الاعراب يطيفون بى لمزلتى من النبي صلى الله عليه وسلم إذ اتوا قبة فاستخرجوا منها رجلا فضربوا عنقة، فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه) ثم أورد الاختلافات في الروايات، ثم قال وللحديث أسانيد كثيرة منها ما رجاله رجال الصحيح، والحديث فيه دليل على أنه يجوز للامام أن يأمر بقتل من خالف قطعيا من قطعيات الشريعة، ثم قال ولكنه لابد من حمل الحديث على أن ذلك الرجل الذى أمر صلى الله عليه وسلم بقتله عالم بالتحريم وفعله مستحلا وذلك من موجبات الكفر والمرتد يقتل، وفيه أيضا متمسك لقول مالك أنه يجوز التعزير بالقتل، وفيه دليل أيضا على أنه يجوز أخذ مال من ارتكب معصية مستحلا لها بعد إراقة دمه.

(20/26)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واللواط محرم لقوله عز وجل (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين) فسماه فاحشة، وقد قال عز وجل (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ولان الله عز وجل عذب بها قوم لوط بما لم يعذب به أحدا، فدل على تحريمه، ومن فعل ذلك وهو ممن يجب عليه حد الزنا وجب عليه الحد، وفى حده قولان
(أحدهما)
وهو المشهور من مذهبه أنه يجب فيه ما يجب في الزنا، فإن كان غير محصن وجب عليه الجلد والتغريب، وإن كان محصنا وجب عليه الرجم، لما روى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان، ولانه حد يجب بالوطئ فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا والقول الثاني أن يجب قتل الفاعل والمفعول به لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) ولان تحريمه أغلظ فكان حده أغلظ، وكيف يقتل؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يقتل بالسيف لانه أطلق القتل في الخبر فانصرف إطلاقه إلى القتل بالسيف.

(والثانى)
أنه يرجم لانه قتل يجب بالوطئ فكان بالرجم كقتل الزنا (الشرح) حديث أبى موسى الاشعري في إسناده محمد بن عبد الرحمن كذبه أبو حاتم.
وقال البيهقى لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الاسناد، وأخرجه اليبهقى في السنن الكبرى.
حديث ابن عباس أخرجه الخمسة الا النسائي والحاكم والبيهقي، وقال الحافظ رجاله موثقون الا أن فيه اختلافا، وقال الترمذي إنما يعرف هذا الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هذا الوجه
وروى محمد بن اسحاق هذا الحديث عن عمرو بن أبى عمرو فقال (ملعون

(20/27)


من عمل عمل قوم لوط.
ولم يذكر القتل) وقال يحيى بن معين: عمرو بن أبى عمرو مولى المطلب ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (اقتلوا الفاعل والمفعول به) قال الشوكاني ويجاب عن ذلك بأنه قد احتج الشيخان به، وروى عنه مالك في الموطأ وقد استنكر النسائي هذا الحديث وقد سبق الكلام في هذا الموضوع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ومن حرمت مباشرته في الفرج بحكم الزنا أو اللواط حرمت مباشرته فيما دون الفرج بشهوة، والدليل عليه قوله عز وجل (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان، فإذا حرمت الخلوة بها، فلان تحرم المباشرة أولى لانها أدعى إلى الحرام، فإن فعل ذلك لم يجب عليه الحد ما رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (إنِّي أخذت امرأة في البستان وأصبت منها كل شئ غير أنى لم أنكحها فاعمل بى ما شئت، فقرأ عليه أقم الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحسنات يذهبن السيئات.
ويعزر عليه لانه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فشرع فيها التعزير.

(فصل)
ويحرم إتيان المرأة المرأة لما روى أبو موسى الاشعري إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) ويجب فيه التعزير دون الحد لانها مباشرة من غير ايلاج فوجب بها التعزير دون الحد كمباشرة الرجل المرأة فيما دون الفرج.
(الشرح) حديث (لا يخلون رجل بامرأة.
) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس (لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ إلَّا مَعَ ذِي محرم) وروى الطبراني عنه (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يخلون بامرأة ليس بينه وبينها محرم)

(20/28)


وروى عن أبى أمامة (اياك والخلوة بالنساء، والذى نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة الا ودخل الشيطان بينهما، ولان يزحم رجل خنزيرا متلطخا بطين أو حمأة خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له) حديث غريب وأخرج الخطيب في تاريخ بغداد عن عمر بن الخطاب (لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، ومن سائته سيئتة وسرته حسنته فذاكم مؤمن) حديث أبى موسى سبق تخريجه اللغة.
قوله (وزلفا من الليل) الزلفة الطائفة من الليل، وجمعها زلف وزلفات وما ذكره المصنف لا خلاف فيه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويحرم اتيان البهيمة لقوله عز وجل (والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) فإن أتى البهيمة وهو ممن يجب عليه حد الزنا ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه يجب عليه القتل لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) وكيف يقتل؟ على الوجهين في اللواط.
والقول الثاني أنه كالزنا، فإن كان غير محصن جلد وغرب، وان كان محصنا رجم، لانه حد يجب بالوطئ فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا والقول الثالث أنه يجب فيه التعزير، لان الحد يجب للردع عما يشتهى وتميل
النفس إليه، ولهذا وجب في شرب الخمر ولم يجب في شرب البول وفرج البهيمة لا يشتهى فلم يجب فيه الحد.
وأما البهيمة فقد اختلف أصحابنا فيها، فمنهم من قال يجب قتلها لحديث ابن عباس وأبى هريرة، ولانها ربما أتت بولد مشوه الخلق، ولانها إذا بقيت كثر تعبير الفاعل بها.
ومنهم من قال لا يجب قتلها، لان البهيمة لا تذبح لغير مأكلة، وحديث

(20/29)


ابن عباس يرويه عمرو بن عمرو وهو ضعيف، وحديث أبى هريره يرويه على بن مسهر، وقال أحمد رحمه الله: إن كان روى هذا الحديث غير على وإلا فليس بشئ ومنهم من قال إن كانت البهيمة مما تؤكل ذبحت، وإن كانت مما لا تؤكل لم تذبح، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذبح الحيوان لغير مأكلة، فإن قلنا إنه يجب قتلها وهى مما يؤكل ففى أكلها وجهان
(أحدهما)
أنه يحرم لان ما أمر بقتله لم يؤكل كالسبع
(والثانى)
أنه يحل أكلها لأنه حيوان مأكول ذبحه من هو من أهل الذكاة وإن كانت البهيمة لغيره وجب عليه ضمانها إن كانت مما لا تؤكل وضمان ما نقص بالذبح إذا قلنا إنها تؤكل لانه هو السبب في إتلافها وذبحها.

(فصل)
وإن وطئ امرأة ميتة وهو من أهل الحد ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجب عليه الحد لانه إيلاج في فرج محرم ولا شبهة له فيه فأشه إذا كانت حية
(والثانى)
أنه لا يجب لانه لا يقصد فلا يجب فيه الحد (الشرح) حديث ابن عباس (من أتى بهيمة ... ) أخرجه أبو يعلى، وقال في اسناده كلام، ورواه ابن عدى عن أبى يعلى، ثم قال، قال لنا أبو يعلى: بلغنا
أن عبد الغفار رجع عنه، وقال ابن عدى انهم كانوا لقنوه حديث أبى هريرة (من وقع على بهيمة..) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبى عمرو وسبق الكلام عليه حديث نهى النبي عن ذبح الحيوان الا لاكله) أبو داود في المراسيل وفى الموطأ وروى البيهقى عن ابن عباس: من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه، فقيل لابن عباس ما شأن البهيمة؟ فقال مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك شيئا، ولكن أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كره أن يؤكل من لحمها أو ينتفع بها بعد ذلك العمل قال الشوكاني: وقد روى سفيان الثوري عن عاصم عن أبى رزين عن ابن عباس أنه قال (من أتى بهيمة فلا حد عليه)

(20/30)


حدثنا بذلك محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدى حدثنا سفيان، وهذا أصح من حديث ابن عباس اللغة قوله (مشوه الخلق) أي قبيح الخلق، ومنه الحديث شاهت الوجوه قبحت.
وشوهه الله فهو مشوه، قال الشاعر يصف فرسا: فهى شوهاء كالجوالق فوها مستجاف يضل فيه لشكيم قال الشوكاني اختلف أهل العلم فيمن وقع على بهيمة، فأخرج البيهقى عن جابر بن زيد أنه قال من أتى بهيمة أقيم عليه الحد وأخرج أيضا عن الحسن أنه قال ان كان محصنا رجم.
وروى عن الحسن البصري أنه قال هو بمنزلة الزانى، قال الحاكم أرى أن يجلد ولا يبلغ به الحد، وهو مجمع على تحريم اتيان البهيمة، كما حكى ذلك صاحب البحر، وقد ذهب إلى أنه يوجب الحد كالزنا الشافعي في قول له والهادوية وأبو يوسف، وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قول له
والمرتضى والمؤيد بالله والناصر والامام يحيى إلى أنه يوجب التعزير فقط، إذ ليس بزنا، ورد بأنه فرج محرم شرعا مشتهى طبعا فأوجد الحد كالقبل، وذهب الشافعي في قول له إلى أنه يقتل أخذا بحديث الباب وقد ذهب إلى تحريم لحم البهيمة المفعول بها والى أنها تذبح على عليه السلام والشافعي في قول، وذهبت القاسمية والشافعي في قول له وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يكره أكلها تنزيها فقط، قال في البحر انها تذبح البهيمة، ولو كانت غير مأكولة لئلا تأتى بولد مشوه، كما روى أن راعيا أتى بهيمة فأتت بولد مشوه اه (قلت) أما الاتيان بولد مشوه من بهيمة فهذا يعتبر من الفروض الغير معقولة التى أوردها هؤلاء في وقت الفراغ الذهنى
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويحرم الاستمناء لقوله عز وجل (والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) ولانها مباشرة تفضى إلى قطع النسل فحرم كاللواط.
فإن فعل عزر ولم يحد، لانها مباشرة محرمة من غير ايلاج فأشبهت مباشرة الاجنبية فيما دون الفرج وبالله التوفيق

(20/31)


(الشرح) قال الكاسانى في البدائع: وكذا وطئ المرأة الميتة لا يوجب الحد ويوجب التعزير لعدم وطئ المرأة الحية.
وقالت الحنابلة وإن زنى بميته فروايتان وأطلقهما في الهداية، والمذهب ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة، والمغنى، والكافي، والمقنع، والمحرر، والشرح، والحاوى الصغير، وغيرهما، وحكاهما في الكافي وغيره وجهين.

(أحدهما)
لا حد عليه وهو الصحيح من المذهب اختاره ابن عبدوس في تذكرته وصححه في التصحيح، وجزم به في الوجيز والآدمي ومنوره وغيرهما.
(والوجه الثاني) يجب عليه الحد اختاره أبو بكر والناظم وقدمه في الرعايتين قوله (ويحرم الاستمناء..) قالت الحنابلة ومن استمنى بيده بلا حاجة عزر وعنه يكره ذلك نقل ابن منصور لا يعجبنى بلا ضرورة.
قال مجاهد كانوا يأمرون فتيانهم أن يستعفوا به، وقال العلاء بن زياد كانوا يفعلونه في مغازيهم وعنه يحرم مطلقا.
وقال ابن عقيل إن كان غنيا بوجود طول زوجة أو أمة أو حرة لم يجز له الاستمناء، وأصحابنا وشيخنا لم يطلقوا التحريم ولم يذكروا سوى الكراهة قال وإن كان غير قادر على طول امرأة لكنه لا شهوة له تحمل على الزنا ولا يخاف غلبان اللذة حرم عليه أيضا للخبر، فان كان متردد الحال به للفتور والشهوة وليس له ما يتزوج به لم يحرم، لان حاله دون القادر ودون حال المتغلب للشهوة وإن كان متغلب الشهوة خائفا من العنت للضيق والشهوة ولا جدة له على النكاح جاز له ذلك، قال في الفصول وإن استمنى وصور في نفسه شخصا أو دعا باسمه فان كانت زوجته أو أمته وكان غائبا عنها فلا بأس وإن كان الشخص الذى يتصوره أو نادى أجنبية أو غلاما كره ذلك.
وقال في المفردات: الاستمناء أحب إلى من نكاح الامة، وقال إذا قور بطيخة أو سوى عجينة أو أديما أو كدة في صنم فاستمنى به كان على ما قدمنا س التفصيل، قال أبو العباس وهذا ليس بجيد، ولو خرجه على الآلة الذى تستمنى به

(20/32)


المرأة لكان أقرب، مع أن الرجل أغنى عن الآلة منها وقال ابن مفلح في الفروع: والمرأة كرجل فتستعمل شيئا مثل الذكر، ويحتمل المنع وعدم القياس.
ذكره ابن عقيل وفى هامش مخطوطة الازهر حاشية: قال القاضى في ضمن المسألة لما ذكر
المرأة قال بعض أصحابنا لا بأس به إذا قصد به طفى الشهورة والتعفف عن الزنا، قال والصحيح عندي أنه لا يباح والله أعلم قال ابن العربي في أحكام القرآن، قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه (والذين هم لفروجهم حافظون ... هم العادون) وهذا لانهم يكنون عن الذكر بعميرة، وفيه يقول الشاعر: إذا حللت بواد لا أنيس به فاجلد عميرة لا داء ولا حرج ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المنى، وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة، أصله الفصد والحجامة.
وعامة العلماء على تحريمه وهو الحق الذى لا ينبغى أن يدان الله إلا به.
وقال بعض العلماء إنه كالفاعل بنفسه وهى معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل، ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها.
فإن قبل فقد قيل إنها خير من نكاح الامة، قلنا نكاح الامة ولو كانت كافرة على مذهب العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل عار بالرجل الدنئ فكيف بالرجل الكبير (وهذا نص ما نقله القرطبى ولم يشر إلى مصدره) وقال الخازن في تفسير (فمن ابتغى وراه ذلك ... ) فيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام، وهو قول أكثر العلماء.
سئل عطاء فقال مكروه، سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء وقال سعيد بن جبير عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم.
وقال ابن كثير في تفسير الآية، وقد استدل الامام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة (والذين هم لفروجهم

(20/33)


حافظون..أيمانهم) قال فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين، وقد قال الله تعالى (فمن ابتغى ... ) وقد استأنسوا بحديث رواه الامام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث روى بعنعنته إلى أنس بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاملين ويدخلهم النار أول الداخلين الا أن يتوبوا، ومن تاب تاب الله عليه، الناكح يده والفاعل والمفعول به، ومن شرب الخمر والضارب والديه حتى يستخيثا، والمؤذى جيرانه حتى يلعنوه والناكح حليلة جاره، وقال ابن كثير حديث غريب واسناده فيه من لا يعرف لجهالته.
وقال ابن حزم في مراتب الاجماع (واختلفوا في الاستمناء أحرام هو أم مكروه أم مباح؟) (قلت) ولو كان الامر لى لافضت كثيرا في هذا الموضوع الذى أصبح بهم كثيرا من شبابنا في هذه الايام إلى تأخر فيها سن الزواج لطول مدة التعليم، ولكن الامر لله ومراعاة لطلب الناشر لذكرت ما قاله أهل الظاهر وما رووه عن الصحابة وبعض التابعين حينما سئلوا (انما هو عضوك تدلكه) ونشرت مجلة الدكتور بحثا عن الاستمناء قررت أن الافراط فيه مضر
قال المصنف رحمه الله تعالى

باب اقامة الحد لا يقيم الحدود على الاحرار الا الامام أو من فوض إليه الامام لانه لم يقم حد على حر عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الا بإذنه ولا في أيام الخلفاء الا بإذنهم، ولانه حق لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه الحيف فلم يجز بغير اذن الامام، ولا يلزم الامام أن يحضر اقامة الحد ولا أن يبتدئ
بالرجم، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ برجم جماعة ولم ينقل أنه حضر بنفسه ولا أنه رماهم بنفسه، فإن ثبت الحد على عبد بإقراره، ومولاه حر مكلف عدل فله أن يجلده في الزنا والقذف والشرب، لما روى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ

(20/34)


صلى الله عليه وسلم قال: اقيموا الحدوه على ما ملكت أيمانكم.
وقال عبد الرحمن ابن أبى ليلى: ادركت بقايا الانصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت، وهل له أن يغربه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يغرب الا الامام لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر، فأمر بالجلد دون النفى
(والثانى)
وهو المذهب أن له أن يغرب لحديث على كرم الله وجهه، ولان ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك، ولان من ملك الجلد ملك النفى كالامام، وان ثبت عليه الحد بالبينه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز أن يقيم عليه الحد، وهو المذهب، لانا قد جعلناه في حقه كالامام، وكذلك في اقامة الحد عليه بالبينة
(والثانى)
أنه لا يجوز لانه يحتاج إلى تزكية الشهود، وذلك إلى الحاكم، فعلى هذا إذا ثبت عند الحاكم بالبينة جاز للسيد أن يقيم الحد من غير اذنه، وهل له أن يقطعه في السرقة؟ فيه وجهان.
أحدهما أنه لا يملك، لانه لا يملك من جنس القطع ويملك من جنس الجلد وهو التعزير.
والثانى أنه يملك وهو المنصوص في البويطى لحديث على كرم الله وجهه، ولان ابن عمر قطع عبدا له سرق، وقطعت عائشة رضى الله عنها أمة لها سرقت، ولانه حد فملك السيد
اقامته على مملوكه كالجلد، وله أن يقتله بالردة على قول من ملك اقامة الحد على العبد، وعلى قول من منع من القطع يجب أن لا يجوز له القتل، والصحيح أن له أن يقتله، لان حفصة رضى الله عنها قتلت أمة لها سحرتها، والقتل بالسحر لا يكون الا في كفر، ولانه حد فملك المولى اقامته على المملوك كسائر الحدود وان كان المولى فاسقا ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يملك اقامة الحد لانه ولاية تثبت بالملك فلم يمنع الفسق منها كنرويج الامة.

(20/35)


(والثانى)
أنه لا يملكه لانه ولاية في إقامة الحد فمنع الفسق منها كولاية الحاكم، وإن كانت امرأة فالمذهب أنه يجوز لها إقامة الحد، لان الشافعي استدل بأن فاطمة عليها السلام جلدت أمة لها زنت.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يجوز لها لانها ولاية على الغير فلا تملكها المرأة كولاية التزويج، فعلى هذا فيمن يقيم وجهان
(أحدهما)
أنه يقيمه وليها في النكاح قياسا على تزويج أمتها
(والثانى)
أنه يقيمه عليها الامام لان الاصل في إقامة الحد هو الامام، فإذا سقطت ولاية المولى ثبت الاصل، وإن كان للمولى مكاتب ففيه وجهان ذكرناهما في الكتابة.
(الشرح) حديث (أقيموا الحدود ... ) عن على قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمة فجرت فقال أقم عليها الحد فانطلقت فوجدتها لم تجف من دمائها، فرجعت فقال أفرغت؟ فقلت وجدتها ولم تجف من دمائها، قال فإذا جفت من دمائها فأقم عليها الحد، قال، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقيموا الحد على ما ملكت أيمانكم، أخرجه البيهقى ومن طريق آخر (عن على قال: ولدت أمة لبعض أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أقم عليها الحد فذكر نحوه ومن طريق آخر قال: خطبنا على رضى الله عنه فقال أيها الناس أيما عبد وأمة فجرا فأقيموا عليهما الحد وإن زنيا اجلدوهما الحد ... ثم ذكر باقى الحديث الاول في أن دمها لم يجف بعد.
وأخرج مسلم قال خطب على فقال يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقاتكم من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بالنفاس..وذكر ما سبق حديث أبى هريره (إذا زنت أمة أحدكم ... ) أخرجه مسلم والبخاري عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهنى وأحمد وأبو داود، وذكر فيها الرابعة الحد والبيع) أثر فاطمة رضى الله عنها (أن فاطمة جلدت أمة لها زنت) أخرجه البيهقى في

(20/36)


السنن الكبرى أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدت جارية لها زنت وأخرج أن أنس بن مالك كان إذا زنى مملوكه أمر بعض بنيه فأقام عليه الحد.
وروى عن عبد الله بن عمر أنه حد جارية له زنت.
وروى عن سعيد بن جبير يقول إذا زنت الامة لم تجلد الحد ما لم تزوج، فسألت عبد الرحمن بن أبى ليلى فقال أدركت بقايا الانصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت وروى البيهقى عن أبى الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين ينتهى إلى قولهم من أهل المدينة كانوا يقولون لا ينبغى لاحد أن يقيم شيئا من الحدود دون السلطان إلا إن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده وأمته اللغة.
قوله (يضربون الوليدة من ولائدهم) الوليدة الامة وجمعها ولائد قيل سميت بذلك لانها تربى تربية الاولاد وتعلم الاداب قوله (ولا يثرب عليها) التثريب التعبير والاسنقصاء في اللوم، قال الله
تعالى (لا تثريب عليكم) أي لا توبيخ عليكم ولا تعداد لذنوبكم (ولا يثرب عليها) بمثناة تحتية مضمومة ومثلثة مفتوحة ثم راء مشددة وبعدها موحدة وهو التعنيف قوله (لا يقيم الحدود..) فهذا كما قلنا سابقا لا خلاف فيه قوله (فإن ثبت الحد على عبد ... ) قال الشوكاني أن المراد بالتبين أن يعلم السيد بذلك، وإن لم يقع إقرار ولا قامت شهادة، واليه ذهب بعضهم، وحكى في البحر الاجماع على أنه يعتبر شهادة أربعة في العبد كالحر، والامة حكمها حكمه وقد ذهب الاكثر إلى أن الشهادة تكون إلى الامام أو الحاكم.
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنها تكون عند السيد، ثم قال وفى الرابعة الحد والبيع نص في محل النزاع، وبها يرد على النووي حيث قال إنه لما لم يحصل المقصود من الزجر عدل إلى الاخراج عن الملك دون الجلد مستدلا على ذلك بقوله فليبعها، وكذا وافقه ابن دقيق العبد وهو مردود.
وأما الحافظ في الفتح فقال الارجح انه يجلدها قبل البيع ثم يبيعها، وصرح بأن السكوت عن الجلد للعلم به، ولا يخفى أنه لم يسكت عن ذلك، وظاهر الامر

(20/37)


بالبيع أنه واجب، وذهب الجمهور إلى أنه مستحب فقط، وزعم بعض الشافعية أن الامر بالبيع منسوخ كما حكاه ابن الرفعة في المطلب ولا أعرف له ناسخاء فإن كان هو النهى عن إضاعة المال كما زعم بعضهم، فيجاب عنه أولا بأن الاضاعة إنما تكون إذا لم يكن شئ في مقابل المبيع، والمأمور به ها هنا هو البيع لا الاضاعة وذكر الحبل من الشعر للمبالغة، ولو سلم عدم إرادة المبالغة لما كان في البيع بحبل من شعر إضاعة وإلا لزم أن يكون بيع الشئ الكثير بالحقير إضاعة وهو ممنوع.
وقد ذهب داود وأهل الظاهر إلى أن البيع واجب لان ترك مخالطة الفسقة ومفارقتهم واجبان، وبيع الكثير بالحقير جايز إذا كان البائع عالما به بالاجماع.
قال ابن بطال حمل الفقهاء الامر بالبيع على الحض على مباعدة من تكرر منه الزنا لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا، قال وحمله بعضهم على الوجوب ولا سلف له في الامة فلا يشتغل به.
اه وظاهره أنه أجمع السلف على عدم وجوب البيع، فإن صح ذلك كان هو القرينة الصارفة للامر عن الوجوب وإلا كان الحق ما قاله أهل الظاهر، والاحاديث دالة على أن السيد يقيم الحد على مملوكه، وإلى ذلك ذهب جماعة من السلف والشافعي.
وذهبت العترة إلى أن حد المماليك إلى الامام إن كان ثم إمام وإلا كان إلى سيده وذهب مالك إلى أن الامة إن كانت مزوجة كان أمر حدها إلى الامام، إلا أن يكون زوجها عبدا لسيدها فأمر حدها إلى السيد، واستثنى مالك أيضا القطع في السرقة، وهو وجه للشافعية، وفى وجه لهم آخر يستثنى حد الشرب.
وروى عن الثوري والاوزاعي أنه لا يقيم السيد الا حد الزنا وذهبت الحنفية إلى أنه لا يقيم الحدود على المماليك الا الامام مطلقا، الا أن الاحاديث التى ذكرت سابقا أنه يحد المملوك سيده من غير فرق بين أن يكون الامام موجودا أو معدوما، وبين أن يكون السيد صالحا لاقامة الحد أم لا وقال ابن حزم: يقيمه السيد الا إذا كان كافرا، وروى قول ابن أبى ليلى

(20/38)


المذكور سابقا.
وروى الشافعي عن ابن عباس أنه قطع يد عبده، وجلد عبدا له زنى.
وأخرج مالك عن عائشة أنها قطعت يد عبد لها، وأخرج أيضا أن حفصة
قتلت جارية لها سحرتها، وقد احتج من قال أنه لا يقيم الحدود مطلقا إلا الامام بما رواه الطحاوي عن مسلم بن يسار أنه قال: كان رجل من الصحابة يقول الزكاة والحدود والفئ والجمعة إلى السلطان.
وقال الطحاوي لا نعلم له مخالفا من الصحابة وتعقبه ابن حزم بأنه خالفه اثنى عشر صحابيا، والاحاديث تدل على أن الامة والعبد يجلدان سواء كانا محصنين أم لا.
وقد اختلف أهل العلم في المملوك إذا كان محصنا هل يرجم أم لا، فذهب الاكثر إلى الثاني، وذهب الزهري والثوري إلى الاول، واحتج الاولون بأن الرجم لا يتنصف، واحتج الآخرون بعموم الادلة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والمستحب أن يحضر اقامة الحد جماعة لقوله عز وجل (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) والمستحب أن يكونوا أربعة، لان الحد يثبت بشهادتهم، فإن كان الحد هو الجلد وكان صحيحا قويا والزمان معتدل أقام الحد ولا يجوز تأخيره، فإن الفرض لا يجوز تأخيره من غير عذر ولا يجرد ولا يمد لما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ليس في هذه الامة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد ويفرق الضرب على الاعضاء ويتوقى الوجه والمواضع المخوفة لما روى هنيدة بن خالد الكندى أنه شهد عليا كرم الله وجهه أقام على رجل حدا وقال للجلاد اضربه واعط كل عضو منه حقه واتق وجهه ومذاكيره وعن عمر أنه أتى بجارية قد فجرت فقال اذهبا بها واضرباها ولا تخرقا لها جلدا، ولان القصد الردع دون القتل، وان كان الحر شديدا أو البرد شديدا أو كان مريضا مرضا يرجى برؤه، أو كان مقطوعا أو أقيم عليه حد آخر ترك إلى أن يعتدل الزمان ويبرأ من المرض أو القطع ويسكن ألم الحد، لانه إذا أقيم عليه الحد في هذه الاحوال أعان على قتله.

(20/39)


وإن كان نضو الخلق لا يطيق الضرب أو مريضا لا يرجى برؤه جمع مائة شمراخ فضرت به دفعة واحدة، لما روى سهل بن حنيف أنه أخبره بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الانصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضى، فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودنه ذكر لهم ذلك وقال استفتوا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما رأينا بأحد من الضر مثل الذى هو به لو حملناه اليك يا رسول الله لتفسخت عظامه، ما هو الا جلد على عظم، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة، ولانه لا يمكن ضربه بالسوط لانه يتلف به ولا يمكن تركه لانه يؤدى إلى تعطيل الحد قال الشافعي رحمه الله ولانه إذا كانت الصلاة تختلف باختلاف حاله فالحد بذلك أولى، وإن وجب الحد على امرأة حامل لم يقم عليها الحد حتى تضع، وقد بيناه في القصاص.

(فصل)
وإن أقيم الحد في الحال التى لا تجوز فيها إقامته فهلك منه لم يضمن لان الحق قتله، وإن أقيم في الحال التى لا يجوز إقامته، فإن كانت حاملا فتلف منه الجنين وجب الضمان، لانه مضمون فلا يسقط ضمانه بجناية غيره، وإن تلف المحدود فقد قال إذا أقيم الحد في شدة حر أو برد فهلك لا ضمان عليه.
وقال في الام إذا ختن في شدة حر أو برد فتلف وجبت على عاقلته الدية، فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى الاخرى وجعلهما على قولين
(أحدهما)
لا يجب لانه هلك من حد
(والثانى)
أنه يجب لانه مفرط، ومنهم من قال لا يجب الضمان في الحد لانه منصوص عليه ويجب في الختان لانه ثبت بالاجتهاد، وإن قلنا انه يضمن ففى القدر الذى يضمن وجهان
(أحدهما)
أنه
يضمن جميع الدية لانه مفرط
(والثانى)
أنه يضمن نصف الدية لانه مات من واجب ومحظور فسقط النصف ووجب النصف (الشرح) حديث سهل بن حنيف، الحديث عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أن رجلا مقعدا زنا بامرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلد بأثكال النخل،

(20/40)


يروى أنه أمر أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة، أخرجه الشافعي، ورواه البيهقى وقال هذا هو المحفوظ عن أبى أمامة مرسلا، ورواه احمد وابن ماجة من حديث أبى الزناد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عن سعيد ابن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا رجل مخدج ضعيف فلم يرع إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها، فرفع شأنه سعد بن عبادة إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال اجلدوه مائة سوط، فقال يا نبى الله هو أضعف من ذاك لو ضربناه مائة سوط لمات، قال فخذوا له عشكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه واحدة وخلوا سبيله) ورواه الدارقطني وقال وهم فيه فليح، ورواه أبو داود عن رجل من الانصار، ورواه النسائي عن سهل بن حنيف، ورواه الطبراني عن أبى سعيد الخدرى.
قال الحافظ بن حجر: فإن كانت الطرق كلها محفوظة فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة وأرسله مرة.
اللغة.
قوله (ليس في هذه الامة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد) الغل بالفتح شد العنق بحبل أو غيره، والغل بالضم الحبل، والصفد بإسكان الفاء مصدر صفده بالحديد يصفده يخفف ويشدد.
والصفد بالتحريك القيد وهو الغل في العنق أيضا، وجمعه أيضا أصفاد وصفد، قال الله تعالى (مقرنين في الاصفاد) قوله (نضو الخلق) أي مهزول، وأصل النضو البعير المهزول والناقة نضوة
وقد أنضاه السفر هزله.
قوله (مائة شمراخ) الشمراخ واحد الشماريخ، وهو العثكال الذى يكون عليه البسر والرطب قوله (اشتكى رجل منهم حتى أضنى) أي مرض، والضنى المرض، يقال أضناه المرض أي أثقله.
قوله (مسرف الحر) أي مفرط في شدة الحر، وأصل السرف ضد القصد.
قوله (والمستحب أن يحضر..) قلت بل الواجب، لقول الله عز وجل (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) قوله (والمستحب أن يكونوا أربعا ... ) قال ابن حزم: واتفقوا أنه إن

(20/41)


صف الناس صفوفا كصفوف الصلاة فرجمه الشهود أو لا ثم الناس ورجمه الامام في المقر أو لا ثم الناس، واختلفوا فيما يدل عليه اسم الطائفة فقال مالك أربعة وقيل ثلاثة وقيل اثنان، وقيل سبعة وقيل ما فوقها.
وقال ابن حزم: وبيقين ندرى أن الله لو أراد بذلك عددا لبينه ولا وقفنا عليه ولم يدعنا نخبط فيه عشواء قوله (وكان صحيحا قويا..) وهذا ما لا خلاف فيه من تنفيذ الحد فورا دون إبطاء لكثرة الاحاديث في ذلك قوله (كان مريضا ... ) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم أن النفساء والمريضة ونحوهما يؤخر جلدهما إلى البرء.
قال الخطابى في المعالم: ان المريض إذا كان ميؤوسا منه ومن معاودة الصحة والفوة إياه، وقد وجب عليه الحد، فإنه يتناول بالضرب الخفيف الذى لا بهده وقال الشافعي (إذا ضربه ضربة واحدة بما يجمع له من الشماريخ فعلم أن قد وصلت كلها إليه ووقعت به أجزأه ذلك.
وكان بعض أصحاب الشافعي يقول (إذا
كان السارق ضعيف البدن فخيف عليه من القط التلف لم يقطع) وقال بعضهم في وجوب القصاص على من قتل رجلا مريضا بنوع من الضرب لو ضرب بمثله صحيحا لم يهلك، فإنه يعتبر خلفة المقتول في الضعف والقوة وبنيته في احتمال الالم، فإن من الناس من لو ضرب الضرب المبرح الشديد لاحتمله بدنه وسلم عليه.
ومنهم من لا يحتمله ويسرع إليه التلف بالضرب الذى ليس بالمبرح الشديد فإذا مات هذا الضعيف كان ضاربه قاتلا وكان حكم الاخر بخلافه لقوة هذا وضعف ذلك.
(قلت) وهذا قول فيه نظر وضبط ذلك غير ممكن واعتباره متعذر والله أعلم وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه لا تعرف الحد إلا حدا واحدا الصحيح والزمن فيه سواء، قالوا ولو جاز هذا لجاز مثله في الحامل أن تضرب بشماريخ النخل ونحوه فلما أجمعوا أنه لا يجرى ذلك في الحامل كان الزمن مثل ذلك.
(قلت) إن أول اشارة عن كيفية ضرب السوط تتضمنها كلمة (فاجلدوا) من آية القرآن نفسه، فإن الجلد مأخوذ من الجلد وهو ظاهر البشرة من جسد الانسان، ومن ثم قد اتفق أصحاب المعاجم وعلماء التفسير على أن الضرب

(20/42)


بالسوط ينبغى أن يصيب الجلد فقط ولا يعدوه إلى اللحم، فكل ضرب بقطع اللحم أو ينزع الجلد ويجرح اللحم مخالف للقرآن، ويجب أن لا يكون كل عصا أو سوط يستعمل للضرب شديدا جدا ولا رقيقا لينا جدا، بل يجب أن يكون بين اللين والشدة، والغلظة والدقه، فقد روى مالك في الموطأ أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوط فأتى بسوط مكسور، فقال فوق ذلك، فأتى بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال بين هذين، فأتى بسوط قد لان وركب به، فأمر به فجلد وروى أبو عثمان الهندي عن عمر أنه أتى بسوط فيه شدة، فقال أريد ألين
من هذا، فأتى بسوط فيه لين، فقال أريد أشد من هذا، فأتى بسوط بين السوطين فقال اضرب.
وكذلك لا يجوز أن يستعمل في الضرب سوط فيه العقود أو له فرعان أو ثلاثة فروع.
وكذلك يجب أن يكون الضرب بين الضربين، وقد كان عمر يقول للضارب لا ترفع إبطك (ذكره الجصاص وابن العربي في كتابوهما أحكام القرآن) أي لا تضرب بكل قوة يدك، والفقهاء متفقون على أن الضرب لا ينبغى أن يكون مبرحا أي موجعا، ولا ينبغى أن يكون في موضع واحد من الجسد، بل يفرق على الجسد كله حيث يأخذ كل عضو من أعضائه حقه، إلا الوجه والفرج والرأس أيضا عند الحنفية فإنها لا يجوز ضربها وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه) رواه أبو داود.
وروى عن على أنه أتى برجل سكران أو في حد فقال (اضرب واعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير) ذكره الجصاص في أحكام القرآن ولا يجوز الضرب في ساعة يشتد فيها الحر أو البرد بل يجب في ساعة اعتدال الجو في الصيف والشتاء.
وكذلك لا يجوز شد الجاني ولا مده للضرب، اللهم إلا أن يحاول الفرار.
وإذا أريد ضرب امرأة حامل يجب أن يؤخر حتى تضع حملها وتقضى أيام نفاسها، وإذا أريد رجمها يجب أن يؤخر حتى تضع حملها وتفطم صبيها، وإذا كان الزنا ثبت بشهادة الشهود فليبدأ بالضرب الشهود.
وإن كان ثبت بإقرار

(20/43)


الجاني فليبدأ به القاضى نفسه حتى لا يستهين الشهود بجسامة شهادتهم والقاضى بجسامة قضائه ان عليا رضى الله عنه لما قضى بالرجم لشراحة الهمدانية المذكورة قال ان الرجم سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كان شهد على هذه
أحد لكان أول من يرمى الشاهد يشهد ثم يتبع شهادته حجره، ولكنها أقرت فأنا أول من رماها فرماها بحجر ثم رماها الناس) أخرجه الامام أحمد وهذا واجب عند الحنفية وليس بواجب عند الشافعية

(20/44)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وجب التغريب نفى إلى مسافة يقصر فيها الصلاة، لان ما دون ذلك في حكم الموضع الذى كان فيه من المنع من القصر والفطر والمسح على الخف ثلاثة أيام، فان رجع قبل انقضاء المدة رد إلى الموضع الذى نفى إليه، فإن انقضت المدة فهو بالخيار بين الاقامة وبين العود إلى موضعه، وإن رأى الامام أن ينفيه إلى أبعد من المسافة التى يقصر فيها الصلاة كان له ذلك لان عمر رضى الله عنه غرب إلى الشام وغرب عثمان رضى الله عنه إلى مصر، وان رأى أن يزيد على سنة لم يجز، لان السنة منصوص عليها والمسافة مجتهد فيها.
وحكى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قال يغرب إلى حيث ينطلق عليه اسم الغربة، وان كان دون ما تقصر إليه الصلاة، لان القصد تعذيبه بالغربة وذلك يحصل بدون ما تقصر إليه الصلاة ولا تغرب المرأة الا في صحبة ذى رحم محرم أو امرأة ثقه في صحبة مأمونة، وان لم تجد ذا رحم محرم ولا امرأة ثقة يتطوع بالخروج معها استؤجر من يخرج معها ومن أين يستأجر فيه وجهان، من أصحابنا من قال يستأجر من مالها، لانه حق عليها فكانت مؤفته عليها، وان لم يكن لها مال استؤجرت من بيت المال.
ومن أصحابنا من قال يستأجر من بيت المال، لانه حق لله عز وجل فكانت مؤنته من بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ المال ما يستأجر به استؤجر من مالها.
(الشرح) أثر عمر وأثر عثمان أخرجه البيهقى في السنن الكبرى.
قوله (مسرف الحر) أي مفرط في شدة الحر، وأصل السرف ضد القصد واختلفوا في التغريب مع الجلد فقال أبو حنيفة وأصحابه لا تغريب أصلا.
وقال الشافعي لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا أو أنثى حرا كان أو عبدا وقال مالك يغرب الرجل ولا تغرب المرأة، به قال الاوزاعي، ولا تغريب عند مالك على العبيد فعمدة من أوجب التغريب على الاطلاق حديث عبادة ابن الصامت وفيه البكر بالبكر..الخ.
وكذلك حديث أبى هريرة وزيد بن خالد الجهنى في الباب.
ومن خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس،

(20/45)


لانه رأى أن المرأة تعرض بالغربة لاكثر من الزنا، وهذا من القياس المرسل أعنى المصلحى الذى كثيرا ما يقول به مالك.
وأما عمدة الحنفية فظاهر الكتاب وهو مبنى على رأيهم أن الزيادة على النص نسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الاحاد.
ورووا عن عمر أنه حد ولم يغرب.
وروى الكوفيون عن أبى بكر وعمر أنهم غربوا.
وقالت الحنابلة: وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة وغرب عاما إلى مسافة قصر لان أحكام السفر من القصر والفطر لا تثبت بدونه، قاله في الكافي.
وقال وحيث رأى الامام الزيادة في المسافة فله، وإن رأى الزيادة على الحول لم يجز له ذلك لان مدة الحول منصوص عليها فلم يدخلها الاجتهاد والمسافة غير منصوص عليها فرجع فيها إلى الاجتهاد.
اه وتغرب امرأة مع محرم ولعموم نهيها عن السفر بلا محرم وعليها أجرته، ويغرب غريب إلى غير وطنه.
قال ابن حزم بعد أن أورد الآراء وناقش الادلة لكل من المانعين والمجوزين هذه آثار متظاهرة رواها ثلاثة من الصحابة، عبادة بن الصامت، وأبو هريرة
وزيد بن خالد الجهنى بإيجاب تغريب عام مع جلد مائة على الزانى الذى لم يحصن مع اقسام النبي صلى الله عليه وسلم بالله تعالى في قضائه به أنه كتاب الله تعالى، وكتاب الله تعالى هو وحيه وحكمه، وفرق عليه السلام بين حد المملوك وحد الحر فصح النص أن على المماليك ذكورهم واناثهم نصف حد الحر والحرة وذاك جلد خمسين ونفى ستة أشهر وقال الشوكاني في النيل: إن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة عند الحنفية فيما ورد من السنة زائدا على القرآن فليس لهم معذرة عنها بذاك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان الحد رجما وكان صحيحا والزمان معتدل رجم، لان الحد لا يجوز تأخيره من غير عذر، وإن كان مريضا مرضا يرجى زواله أو الزمان مسرف الحر أو البرد ففيه وجهان.

(20/46)


(أحدهما)
أنه لا يؤخر رجمه لان القصد قتله فلا يمنع الحر والبرد والمرض منه
(والثانى)
أنه يؤخر لانه ربما رجع في خلال الرجم، وقد أثر في جسمه الرجم فيعين الحر والبرد والمرض على قتله، وإن كان امرأة حاملا لم ترجم حتى تضع لانه يتلف به الجنين.

(فصل)
فإن كان المرجوم رجلا لم يحفر له، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يحرف لماعز، ولان ليس بعورة، وإن كان امرأة حفر لها لما روى بريدة قال جاءت امرأة من غامد إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعترفت بالزنا، فأمر فحفر لها حفرة إلى صدرها ثم أمر برجمها لان ذلك أستر لها
(فصل)
وإن هرب المرجوم من الرجم، فإن كان الحد ثبت بالبينة أتبع ورجم لانه لا سبيل إلى تركه، وإن ثبت بالاقرار لم يتبع لما روى أبو سعيد
الخدرى قال: جاء ماعز إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن الاخر زنى وذكر إلى أن قال اذهبوا بهذا فارجموه، فأتينا به مكانا قليل الحجارة فلما رميناه اشتد من بين أيدينا يسعى فتبعناه فأتى بنا حرة كثيرة الحجارة فقال ونصب نفسه فرميناه حتى قتلناه ثم اجتمعنا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرناه فقال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فهلا خليتم عنه حين سعى من بين أيديكم، وإن وقف وأقام على الاقرار رجم، وان رجع عن الاقرار لم يرجم لان رجوعه مقبول وبالله التوفيق (الشرح) حديث لم يحفر لماعز..) رواه أحمد عن أبى سعيد بلفظ (لما أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فو الله ما حفرنا له ولا أوثقناه، ولكن قام لنا فرميناه بالعظام والخزف، فاشتكى فخرج يشتد حتى انتصب لنا في عرض الحرة فرمينا بجلاميد الجندل حتى سكت) وأخرجه مسلم عن أبى سعيد الخدرى وأبو داود حديث (جاءت امرأة من غامد..) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: جاءت الغامدية فقالت يا رسول الله إنى قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان الغد قالت يا رسول الله لم تردني؟ لعلك

(20/47)


تردني كما رددت ماعزا فو الله إنى لحبلى، قال إما لا فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبى في خرقة، قالت هذا قد ولدته، قال اذهبي فارضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبى في يده كسرة خبز، فقالت هذا يا نبى الله قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبى إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال مهلا يا خالد
فو الذى نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت) وعن عبد بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الاسلمي أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله إنى زنيت وإنى أريد أن تطهرني، فرده، فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله إنى قد زنيت، فرده الثانية، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قومه هل تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا، قالوا ما نعلمه الا وفى العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا، فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم) رواه أحمد ومسلم.
وقال أحمد في آخره فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فحفر حفرة فجعل فيها إلى صدرة ثم أمر الناس برجمه.
اللغة.
قوله (ان الاخر زنى) بقصر الالف وكسر الخاء معناه الابعد.
ويقال في الشتم أبعد الله الاخر.
وقال في التلويح أي الغائب البعيد المتأخر، ويقال هذا عند شتم الانسان من يخاطبه كأنه نزهه بذلك قوله (فأتى بنا حرة) الحرة أرض ذات أحجار كثيره سود نخرة كأنها أحرقت بالنار والجمع الحرار والحرات وأحرون بالواو والنون كما قالوا أرضون وأحرون جمع أحرة قال الراجز لا حمس الا جندل الاحرين.
قول (وان كان الحد ... ) وقد سبق الكلام عليه قوله (فإن كان المرجوم رجلا..) قال الشوكاني اختلف الروايات في ذلك

(20/48)


فحديث أبى سعيد فيه أنهم لم يحفروا لماعز.
وحديث عبد الله بن بريدة فيه أنهم حفروا، وقد جمع بين الروايتين بأن المنفي حفيرة لا يمنكه الوثوب منها والمثبت
عكسه أو أنهم لم يحفروا له أول الامر، ثم لما وجد مس الحجارة خرج من الحفرة فتبعوه، وعلى فرض عدم إمكان الجمع فاواجب تقديم روايه الاثبات على النفى، ولو فرضنا أن ذلك غير مرجح توجه إسقاط الروايتين والرجوع إلى غيرهما لوجدنا حديث خالد بن اللجلاج الذى أخرجه أبو داود وأحمد بلفظ أن أباه أخبره، فذكر قصة رجل اعترف بالزنا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أحصنت؟ قال نعم، فأمر برجمه، فذهبنا فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه بالحجارة حتى هدأ) فإن فيه التصريح بالحفر بدون تسمية المرجوم.
وكذلك حديثه أيضا في الحفر للغامدية.
وقد ذهبت العترة إلى أنه يستحب الحفر إلى سرة الرجل وثدى المرأة.
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يحفر للرجل.
وفى قول للشافعي أنه إذا حفر فلا بأس، وبه قال الامام يحيى.
وفى وجه للشافعية أنه يخير الامام.
وفى المرأة ثلاثه أوجه ثالثها يحفر ان ثبت زناها بالبينة لا بالاقرار، والمروى عن أبى يوسف وأبى ثور أنه يحفر للرجل والمرأة على المشهور عن الائمة الثلاثة أنه لا يحضر مطلقا، والظاهر مشروعية الحفر.
ثم قال: قالت الحنابلة والشافعية والحنفية والعترة: ويروى عن مالك في قول له أن يقبل من المقر الرجوع عن الاقرار ويسقط عنه الحد وذهب ابن أبى ليلى وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أنه لا يقبل منه الرجوع عن الاقرار بعد كماله كغيره من الاقرارات، قال الاولون ويترك إذا هرب لعله يرجع.
قال في البحر (مسألة) وإذا هرب المرجوم بالبينة أتبع بالرجم حتى يموت لا بالاقرار لقوله صلى الله عليه وسلم لماعز (هلا خليتموه) ولصحة الرجوع عن
الاقرار، ولا ضمان إذا لم يضمنهم صلى الله عليه وسلم لاحتمال كون هربه رجوعا أو غيره اه

(20/49)


وذهبت المالكية إلى أن المرجوم لا يترك إذا هرب وعن أشهب أن ذكر عذرا فقيل يترك والا فلا، ونقله العتبى عن مالك، وحكى اللخمى عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة.

قال المصنف رحمه الله تعالى

باب حد القذف القذف محرم والدليل عليه ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال (الشرك بالله عزوجل، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله الا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات.
(الشرح) حديث أبى هريرة متفق عليه، والطبراني والنسائي وابن مردويه وابن حبان والحاكم بنحوه.
وَعَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا تدبروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله اخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا يشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) مسلم اللغة: أصل القذف الرمى بالحجارة وغيرها والقذف بالزنا مأخوذ منه، والسبع الموبقات هي المهلكات، وأوبقه الله أهلكه، يقال منه وبقى يبق وأوبق يوبق إذا هلك قال الله تعالى (أو يوبقهن بما كسبوا) قوله (التولى يوم الزحف) التولى الادبار فرارا من القتال، والزحف هو
المشى إلى القتال.
قالت الحنابلة: والقذف حرام وواجب ومباح فيحرم (قلت) من أتى ما نصت عليه الآية (والذين يرمون المحصنات ... ) وواجب على من يرى

(20/50)


زوجته تزني، ويباح إذا رآها تزني ولم تلد أو استفاض زناها بين الناس أو أخبره به ثقة لا عداوة بينه وبينها أو برى معروفا به عندها خلوة، لان ذلك مما يغلب على الظن زناها، ولم يجب لانه لا ضرر على غيرها حيث لم تلد وفراقها أولى.
وصريح القذف: يا منيوكة، يا منيوك، يا عاهر، يا لوطى، ولست ولد فلان فقذف لانه وكنايته زنت يداك أو رجلاك، أو يدك أو بدنك، ويا مخنث يا قحبة يا فاجرة يا خبيثة، أو يقول لزوجه شخص فضحت زوجك وغطيت رأسك وجعلت له قرونا وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه فإذا أراد بهذه الالفاظ حقيقة الزنى حد والا عزر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قذف بالغ عاقل مختار مسلم أو كافر التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمى أو معاهد محصنا ليس بولد له بوطئ يوجب الحد وجب عليه الحد فإن كان حرا جلد ثمانين جلدة لقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وان كان مملوكا جلد أربعين لما روى يحيى ابن سعيد الانصاري قال (ضرب أبو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مملوكا افترى على حر ثمانين جلدة، فبلغ ذلك عبد الله بن عامر بن ربيعة فقال أدركت الناس من زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى اليوم فما رأيت أحدا ضرب المملوك المفترى على الحر ثمانين قبل أبى بكر بن محمد بن عمر بن حزم.
وروى خلاس أن عليا كرم الله وجهه قال في عبد قذف حرا فصف الحد، ولانه حد يتبعض فكان المملوك على النصف من الحر كحد الزنا.

(فصل)
وان قذف غير محصن لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) فدل على أنه إذا قذف غير محصن لم يجلدو المحتسن الذى يجب الحد بقذفه من الرجال والنساء من اجتمع فيه البلوغ والعقل والاسلام والحرية والعفة عن الزنا، فإن قذف صغيرا أو مجنونا لم يجب به عليه الحد، لان ما يرمى به الصغير والمجنون لو تحقق لم يجب به الحد فلم يجب الحد على القاذف، كما لو قذف بالغا عاقلا بما دون الوطئ وان قذف كافرا لم يجب عليه الحد لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

(20/51)


قال (من أشرك بالله فليس بمحصن) وان قذف مملوكا لم يجب عليه الحد، لان نقص الرق يمنع كمال الحد فيمنع وجوب الحد على قاذفه.
وإن قذف زانيا لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) فأسقط الحد عنه، إذا ثبت أنه زنى فدل أنه إذا قذفه وهو زان لم يجب عليه الحد.
وإن قذف من وطئ في غير ملك وطنا محرما لا يجب به الحد كمن وطئ امرأة ظنها زوجته أو وطئ في نكاح مختلف في صحته ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا يجب عليه الحد، لانه وطئ محرم لم يصادف ملكا فسقط به الاحصان كالزنا
(والثانى)
أنه يجب لانه وطئ لا يجب به الحد فلم يسقط به الاحصان كما لو وطئ زوجته وهى حائض.

(فصل)
وإن قذف الوالد ولده أو قذف الجد ولد ولده لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور يجب عليه الحد لعموم الآية، والمذهب الاول، لانه عقوبة تجب لحق الآدمى فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص وان قذف زوجته فماتت وله منها ولد سقط الحد، لانه لما لم يثبت له عليه الحد بقذفه لم يثبت له عليه بالارث عن أمه
وإن كان لها ابن آخر من غيره وجب له، لان حد القذف يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد.
(الشرح) حديث يحيى بن سعيد أخرجه البيهقى في السنن الكبرى.
وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا أربعين سوطا.
حديث ابن عمر أخرجه البيهقى في السنن الكبرى، وفى رواية أخرى عنه (لا يحص أهل الشرك بالله شيئا) .
وفى رواية عن كعب بن مالك أنه أراد أن يتزوج يهودية أو نصرانية فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنهاه عنها وقال انها لا تحصنك.
وقال الدارقطني: فيه أبو بكر بن أبى مريم ضعيف، وعلى بن أبى طلحة لم يدرك كعبا الصحابي، قال البيهقى: وروى من وجه آخر الا أنه منقطع.

(20/52)


اللغة: قوله (افترى على حر) أي كذب قال الله تعالى (لا تفتروا على الله كذبا) وقد ذكر.
الاحصان: قالت المالكية في تفسير (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) فالاحصان هاهنا هو الحرية.
قالت الحنفية في أحكام القرآن للجصاص: المحصنات هن العفائف، ثم قالوا في البدائع هن الحرائر لا العفائف عن الزنا فدل أن الحرية شرط.
وقال الشوكاني: والمراد بالمحصنات المرأة العفيفة: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل وقد ورد الاحصان في القرآن لمعان منها الحريه ومنها ذوات الازواج،
وقال ابن حزم احصان الفرج.
قال ابن العربي في أحكام القرآن (وهو مالكى) وشروط القذف عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف، وشرطان في المقذوف به، وخمسة في المقذوف، فأما الشرطان في القاذف فالعقل والبلوغ، وأما الشرطان في الشئ المقذوف به فهو أن يقذفه بوطئ يلزمه فيه الحد وهو الزنا أو اللواط أو ينفيه من أبيه دون سائر المعاصي، وأما الخمس التى في المقذوف فهى العقل والبلوغ والاسلام والحرية والعفه عن الفاحشة التى رمى بها كان عفيفا عن غيرها أو لا وقال ابن رشد في البداية: واختلفوا في العبد يقذف الحر كم حده، فقال الجمهور من فقهاء الامصار حده نصف حد الحر وذلك أربعون جلدة، وروى ذلك عن الخلفاء الاربعة وعن ابن عباس، وقالت طائفة حده حد الحر، وبه قال ابن مسعود من الصحابة وعمر بن عبد العزيز وجماعة من فقهاء الامصار أبو ثور والاوزاعي وداود وأصحابه من أهل الظاهر فعمدة الجمهور قياس حده في القذف على حده في الزنا، وأما أهل الظاهر فتمسكوا في ذلك بالعموم، ولما أجمعوا أيضا أن حد الكتابى ثمانون فكان العبد أحرى بذلك.
قالت الحنابلة في الفروع من قذف بزنا في قبل وهو مكلف مختار محصنا ولو ذات محرم نص عليه جلد الحر ثمانين والعبد أربعين ولو عتق قبل حد.

(20/53)


قوله (وان قذف غير محصن..) قالت الحنابلة في الفروع: ومن قذف غير محصن عزر، لان الآية مفهومها أنه لا يجلد بقذف غير المحصن.
قال ابن حزم في المراتب، واتفقوا أن الحر العاقل البالغ المسلم غير المكره إذا قذف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا لم يحد قط في زنا أو حرة بالغة عاقلة مسلمة عفيفة غير ملاعنة لم تحد في زنا قط بصريح الزنا أنه يلزمه ثمانون جلدة.
قوله (وان قذف صغيرا أو مجنونا ... ) قال مالك: إذا بلغت الصبيه حتى توطأ فعلى قاذفها الحد، وكذلك يجلد المجنون وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والحسن بن حى لا حد على قاذف صغير ولا مجنون.
قال ابن حزم: الصغار محصنون بمنع الله تعالى لهم من الزنا وبمنع أهليهم، وكذلك المجانين، وكذلك المجبوب والرتقاء والقرناء والعنين، وقد يكون كل هؤلاء محصنين بالعفه، وأما البكر والمكرة فمحصنان بالعفه فإذا كل هؤلاء يدخلون في جملة المحصنات بمنع الفروج من الزنا فعلى قاذفهم الحد، ولا سيما القائلون إن الحرية إحصان وكل حرة محصنة واسقاط الحد عن قاذفهم خطأ محض لا إشكال فيه.
قوله (وإن قذف كافرا..) قال مالك: سواء كانت حرة أو أمة أو مسلمة أو كافرة يجب الحد، وقال إبراهيم النخعي: لا حد عليه إذا كانت أم المقذوف أمة أو كتابية وهو قياس قول الشافعي.
وقالت الحنفية شرائط الاحصان خمسة: العقل والبلوغ والحرية والاسلام والعفة عن الزنا فلا يجب الحد بقذف الصبى والمجنون والرقيق والكافر ومن لا عفة له عن الزنا، وقالوا إن الحد إنما وجب بالقذف دفعا لعار الزنا عن المقذوف وما في الكافر من عار الكفر أعظم.
قوله (وان قذف مملوكا) قال أبو حنيفة ومالك والاوزاعي وسفيان الثوري وعثمان البتى والحسن بن حى والشافعي وأصحابهم لا حد على قاذف العبد والامة وقال الحسن البصري الزوج يلاعن الامة وان قذفها وهى أمة جلد لانها امرأته

(20/54)


وسأل أميرأ من الامراء ابن عمر عن رجل قذف أم ولد لرجل، فقال ابن عمر يضرب الحد صاغرا.
وعن ابن سيرين قال أراد عبد الله بن زياد أن يضرب قاذف أم ولد فلم يتابعه على ذلك أحد، وروى عن عطاء والزهرى لا حد على قاذف أم ولد.
قال ابن حزم: أما قولهم لا حرمة للعبد والامة فكلام سخيف والمؤمن له حرمة عظيمة ورب عبد جلف خير من خليفة قرشي، وسوى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حرمة العرض من الحر والعبد.
قوله (وان قذف زانيا) قلت: هذا ما لا خلاف فيه في حالة ثبوت الزنا.
قوله (وان قذف الوالد ولده..) قال عطاء: إذا افترى الاب على الابن فلا يحد، وقال الحسن ليس على الاب لابنه حد، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم والحسن بن حى وإسحاق بن راهويه وقال سفيان الثوري في الاب يقذف ابنه انهم يستحبون الدرأ عنه، وقال في المرأة تزني وهى محصنة وتقتل ولدها أنه يدرأ عنها الحد، وقال ابن حزم: الحدود والقود واجبان على الاب للولد لانه حد لله تعالى وليس حدا للمقذوف ثم قال: والحكم عند الحنفيين في إسقاط الحد عن الجد إذا قذف ولد الولد كالحكم في قاذف الابوين الادنين، والعجب بأن الحنفيين قد فرقوا بين حكم الولد وبين حكم ولد الولد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن رفع القاذف إلى الحاكم وجب عليه السؤال عن إحصان المقذوف لانه شرط في الحكم فيجب السؤال عنه كعدالة الشهود، ومن أصحابنا من قال لا يجب، لان البلوغ والعقل معلوم بالنظر إليه، والظاهر الحرية والاسلام والعفة.
وإن قال القاذف أمهلنى لاقيم البينة على الزنا أمهل ثلاثة أيام، لانه قريب لقوله عز وجل (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) ثم قال (تمتعوا في
داركم ثلاثة أيام) .

(20/55)


(فصل)
وإن قذف محصنة ثم زنى المقذوف أو وطئ وطئا زال به الاحصان سقط الحد عن القاذف.
وقال المزني وأبو ثور لا يسقط لانه معنى طرأ بعد وجوب الحد فلا يسقط ما وجب من الحد كردة المقذوف وثيوبة الزانى وحريته، وهذا خطأ لان ما ظهر من الزنا بوقع شبهة في حال القذف، ولهذا روى أن رجلا زنى بامرأة في زمان أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه فقال والله ما زنيت إلا هذه المرة، فقال له عمر كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة، والحد يسقط بالشبهة، وأما ردة المقذوف ففيها وجهان.

(أحدهما)
أنها تسقط الحد
(والثانى)
أنها لا تسقط، لان الردة ندين والعادة فيها الاظهار، وليس كذلك الزنا فإنه يكم، فإذا ظهر دل على تقدم أمثاله وأما ثيوبة الزانى وحريته فإنها لا تورث شبهة في بكارته ورقه في حال الزنا.
(الشرح) أثر عمر أخرجه البيهقى في السنن الكبرى قوله (وإن قذف محصنا ... ) قال ابن حزم في المحلى: إن من قذفه قاذف ثم زنى المقذوف لم يسقط ذلك الزنا قد وجب من الحد على قاذفه لانه زنا غير الذى رماه به فهو إذا رمى محصن أو محصنة فعليه الحد ولا بد ولا يسقط حد قد وجب إلا بنص أو إجماع، ولا نص ولا إجماع ها ههنا أصلا على سقوطه بعد وجوبه بنص.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجب الحد إلا بصريح القذف أو بالكناية مع النية، فالصريح مثل أن يقول زنيت أو يا زانى، والكناية كقوله: يا فاجر أو يا خبيث، أو يا حلال بن الحلال، فإن نوى به القذف وجب به الحد، لان مالا تعتبر فيه
الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلاق والعتاق، وإن لم ينو به القذف لم يجب به الحد، سواء كان ذلك في حال الخصومة أو غيرها، لانه يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفا من غير نية كالكناية في الطلاق والعناق

(20/56)


(فصل)
وإن قال لطت أو لاط بك فلان باختيارك فهو قذف لانه قذفه بوطئ يوجب الحد فأشبه القذف بالزنا.
وإن قال يا لوطى وأردا به أنه على دين قوم لوط لم يجب به الحد لانه يحتمل ذلك، وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد، وإن قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت لم يكن قولها قذفا له من غير نية، لانه يجوز أن تكون زانية ولا يكون هو زانيا بأن وطئها وهو يظن أنها زوجته وهى تعلم أنه أجنبي ولانه يجوز أن تكون قصدت نفى الزنا، كما يقول الرجل لغيره سرقت، فيقول معك سرقت، ويريد أنى لم أسرق كما لم تسرق، ويجوز أن يكون معناه ما وطئني غيرك، فإن كان ذلك زنا فقد زنيت.
وإن قال لها يا زانية فقالت أنت أزنى منى لم يكن قولها قذفا له من غير نية لانه يجوز أن يكون معناه ما وطئى غيرك، فإن كان ذلك زنا فأنت أزنى منى، لان المغلب في الجماع فعل الرجل.
وإن قال لغيره أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى الناس لم يكن قذفا من غير نية، لان لفظة أفعل لا تستعمل إلا في أمر يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما فيه بمزية، وما ثبت أن فلانا زان ولا أن الناس زناة فيكون هو أزنى مفهم.
وان قال فلان زان وأنت ازنى منه، أو أنت أزنى زناة الناس فهو قذف لانه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه.

(فصل)
وان قال لامرأته يا زانى فهو قذف لانه صرح بإضافة الزنا إليها وأسقط الهاء للترخيم، كقولهم في مالك يا مال، وفى حارث يا حار.
وان قال
لرجل يا زانية فهو قذف لانه صرح بإضافة الزنا إليه وزاد الهاء للمبالغة، كقولهم علامة ونسابة وشتامه ونوامة، فإن قال زنأت في الجبل فليس بقذف من غير نية، لان الزنء هو الصعود في الجبل، والدليل عليه قول الشاعر.
وارق إلى الخيرات زنئا في الجبل.
وان قال زنأت ولم يذكر الجبل ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه قذف لانه لم يقرن به ما يدل على الصعود
(والثانى)
وهو قول أبى الطيب بن سلمة رحمه الله أنه ان كان من أهل اللغة فليس بقذف، وان كان من العامة فهو قذف لان العامة لا يفرقون بين زنيت وزنأت.

(20/57)


(فصل)
وإن قال زنى فرجك أو دبرك أو ذكرك فهو قذف لان الزنا يقع بذلك، وان قال زنت عينك أو بدك أو رجلك فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هو قذف، وهو ظاهر ما نقله المزني رحمه الله، لانه أضاف الزنا إلى عضو منه فأشبه إذا أضاف إلى الفرج، ومنهم من قال ليس بقذف من غير نية.
وخطأ المزني في النقل لان الزنا لا يوجد من هذه الاعضاء حقيقة، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه، فإن قال زنى بدنك ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه قذف من غير نية، لان الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة فلم يكن صريحا في القذف.

(والثانى)
أنه قذف لانه أضاف إلى جميع البدن والفرج داخل فيه، وان قال لا ترد يد لا مس لم يكن قاذفا، لما روى أن رجلا من بنى قزارة قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ امرأتي لا ترد يد لامس، ولم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم قاذفا.
وان قال زنى بك فلان وهو صبى لا يجامع مثله لم يكن قاذفا، لانه
لا يوجد منه الوطئ الذى يجب به الحد عليها، وان كان صبيا يجامع مثله فهو قذف لانه يوجد منه الوطئ الذى يجب به الحد عليها وان قال لامرأته زنيت بفلانة أو زنت بك فلانة لم يحب به الحد، لان ما رماها به لا يوجب الحد.

(فصل)
وان أتت امرأته بولد فقال ليس منى لم يكن قاذفا من غير نية لجواز أن يكون معناه ليس منى خلقا أو خلقا أو من زوج غيرى أو من وطئ شبهة أو مستعار.
وان نفى نسب ولده باللعان فقال رجل لهذا الولد لست بابن فلان لم يكن قذفا، لانه صادق في الظاهر أنه ليس منه، لانه منفى عنه.
قال الشافعي رحمه الله: إذا أقر بنسب ولد فقال له رجل لست بابن فلان فهو قذف وقال في الزوج: إذا قال للولد الذى أقر به لست بابنى أنه ليس بقذف واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال ان أراد القذف فهو قذف في المسألتين، وان لم يرد القذف فليس بقذف في المسألتين، وحمل جوابه في المسألتين على هذين الحالين.
ومن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الاخرى وجعلهما على قولين.

(20/58)


(أحدهما)
أنه ليس بقذف فيهما لجواز أن يكون معناه لست بابن فلان أو لست بابنى خلقا أو خلقا.

(والثانى)
أنه قذف لان الظاهر منه النفى والقذف، ومن أصحابنا من قال ليس بقذف من الزوج وهو قذف من الأجنبي، لان الاب يحتاج إلى تأديب ولده فيقول لست بإنى مبالغة في تأديبه، والاجنبى غير محتاج إلى تأديبه فجعل قذفا منه.

(فصل)
وإن قال لعربى يا نبطى، فإن أراد نبطى اللسان أو نبطى الدار لم يكن قذفا، وإن أراد نفى نسبه من العرب ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه ليس بقذف
لان الله تعالى علق الحد على الزنا فقال (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) وشهادة الاربعة يحتاج إليها في إثبات الزنا.

(والثانى)
أنه يجب به الحد لما روى الاشعث بن قَيْسٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا أوتى برجل يقول إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال: لا حد إلا في اثنتين، قذف محصنة ونفى رجل من أبيه.

(فصل)
ومن لا يجب عليه الحد لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف من غير نية عزر لانه آذى من لا يجوز أذاه، وإن قال لامرأته استكرهت على الزنا ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يعزر لانه يلحقها بذلك عار عند الناس
(والثانى)
أنه لا يعزر، لانه لا عار عليها في الشريعه بما فعل بها مستكرهة.
(الشرح) قوله (ولا يجب الحد إلا بصريح القذف، قالت الحنابلة: وصريح القذف يا زان يا عاهر، قد زنيت، زنا فرجك ونحوه.
وكذا يا لوطى.
لقله واختاره الاكثر.
قال أحمد (يحده) قالوا وإن فسر يا منيوكة بفعل زوج فليس قذفا، ذكروه في الرعاية والتبصره.
وان أراد بزاني العين أو يا عاهر اليد لم يقبل منه مع سبقه ما يدل على قذف صريح، وكنايته زنت يداك أو رجلاك أو يدك أو بدنك

(20/59)


ويا مخنث، ويا قحبة، ويا فاجرة ويا خبيثة، أو يقول لزوجة شخص فضحت زوجك وغطيت رأسه وجعلت له قرونا وعلقت عليه أولاد من غيره وأفسدت فراشه، قال الامام أحمد في رواية حنبل لا أرى الحد الا على من صرح بالقذف أو الشتمة، فإن أراد بهذه الالفاظ حقيقة الزنى حد والا عزر.
قال ابن رشد في البداية: إذا كان القذف بلفظ صريح وجب الحد، واختلفوا ان كان بتعريض فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وابن أبى ليلى لا حد في التعريض، الا أن أبا حنيفة والشافعي يريان فيه التعزير.
وممن قال بقولهم من الصحابة ابن مسعود.
وقال مالك وأصحابه: في التعريض الحد، وهى مسألة وقعت في زمان عمر فشاور عمر فيها الصحابة فاختلفوا فيها، فرأى عمر فيها الحد، وعمدة مالك أن الكناية قد تقوم بعرف العادة والاستعمال مقام النص الصريح، وان كان اللفظ فيها مستعملا في غير موضعه، أعنى مقولا بالاستعارة، وعمدة الجمهور أن الاحتمال الذى في الاسم المستعار شبهة والحدود تدرأ بالشبهات والحق أن الكناية قد تقوم في مواضع مقام النص وقد تضعف في مواضع، وذلك أنه إذا لم يكثر الاستعمال لها.
قال ابن حزم: من قال لآخر فرجت بفلانة أو قال فسقت بها، فإن أبا حنيفة والشافعي وأصحابهما قالوا لا حد في ذلك، ثم قال ان كان لهذين اللفظين وجه غير الزنا فكما قالوا، وان كان لا يفهم منهما غير الزنا فالحد في ذلك، فلما نظرنا فيهما وجدناهما يقعان على اتيانهما في الدبر فسقط الحد في ذلك، وكذلك لو قال جامعتها حراما ولا فرق، قال على فلو أخبر بهذا عن نفسه لم يكن معترفا بالزنا قوله (وان قال لطت ... ) قالت الحنابلة: وصريح القذف يا لوطى ولا تحتمل غيره.
أورد ابن حزم في المحلى آثار عن قتادة أن رجلا قال لابي الأسود الدؤلى يا لوطى، قال يرحم الله لوطا.
وعن عكرمة حينما سأل عن رجل قال لآخر يا لوطى؟ قال عكرمة ليس عليه حد.
وعن الزهري وقتادة أنهما قالا جميعا في رجل قال لرجل يا لوطى.
أنه لا يحد، وبه يقول أبو حنيفة وأبو سليمان وأصحابنا.

(20/60)


وقال آخرون لا حد في ذلك إلا أن يبين عن ابن جريج قال.
قلت لعطاء في رجل قال لآخر يا لوطى، قال لا حد عليه حتى يقول إنك لتصنع بفلان.
وعن النخعي قال نيته يسأل عما أراد بذلك.
وقالت طائفة عليه الحد واستدلوا بحكم عمر بن عبد العزيز حينما رفع إليه مثل هذا الامر، فجعل عمر يقول يا لوطى يا محمدى، فكأنه لم ير عليه الحد وضربه بضعة عشر سوطا، ثم أرسل إليه من الغد فأكمل له الحد.
وعن الشعبى قال يجلد، وبإيجاب الحد يقول مالك والشافعي.
قال ابن حزم في المحلى: واللواط ليس عندنا زنا فلا حد في الرمى به، فإن قالوا إن الرمى بذلك حرام، قلنا نعم وإثم، ولكن ليس كل حرام وإثم تجب فيه الحدود، فالغصب حرام ولا حد فيه، وأكل لحم الخنزير حرام ولا حد فيه والرمى بالكفر حرام ولا حد فيه.
قوله (وإن قال لامرأته ... ) فهذا ما لا خلاف فيه.
قوله (وإن قال لامرأته يا زانى..) قالت الحنابلة: وإن قال لرجل يا زانية أو لامرأة يا زان فصريح كفتح التاء وكسرها لهما خلافا لصاحب الرعاية في عالم بعربية، وقيل كناية.
وإن قال زنأت في الجبل فصريح، وقيل إن عرف العربية وقال أردت الصعود في الجبل، قيل فإن لم يقل في الجبل، وقيل لا قذف.
قوله (وإن قال زنى فرجك أو دبرك) سبق الكلام عليه في الباب.
قوله (وإن أتت امرأة بولد) قال ابن حزم: اختلف الناس فيمن نفى آخر عن نسبه، فقالت طائفة فيه الحد، وقالت طائفة لا حد فيه، فأما من أوجب فيه الحد فهو كما قال ابن مسعود لا حد إلا في اثنين، أن يقذف محصنة أو ينفى
رجلا عن أبيه، وإن كانت أمه أمة.
وعن الشعبى في الرجل ينفى الرجل من فخذه، قال ليس عليه حد إلا أن ينفيه من أبيه، وعنه والحسن يضرب الحد، وعن النخعي من نفى رجلا عن أبيه كان أبوه ما كان، كان عليه الحد، وعنه في رجل نفى رجلا عن أبيه قال له لست.

(20/61)


لابيك وأمه نصرانية أو مملوكة، قال لا يجلد، وفى قضية رفعت لعمر بن عبد العزيز أن رجلا قال لآخر يهودى بن يهودى، فقال له أجل والله إنى اليهودي ابن اليهودي، قال ان كان الذى قال له ذلك يعرف أبوه فحد اليهودي.
وعن معاذ بن جبل وعهد الله بن عمر قالا: ليس الحد إلا في الكلمة ليس لها مصرف وليس لها إلا وجه واحد.
وعن على إذا بلغ الحد لعل وعسى فالحد معطل.
وعن ابن عباس فيمن قال لرجل يا نبطى أنه لا حد عليه، وكذا الشعبى وعطاء، قال ابن حزم فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر لنعلم الحق فنتبعه فوجدنا الزهري يقول في نفى المرء عن أبيه أو عن نسبه أن السنة على الغافى في كتاب الله تعالى وسنة نبية صلى الله عليه وسلم أن يأتي بأربعة شهداء، فنظرنا هل نجد هذا الذى ذكر الزهري في كتاب الله تعالى فلم نجده.
فإن قالوا النافي قاذف ولابد، قلنا لا ما هو قاذف ولا قذف أحدا، وقد ينفيه عن نسبه بأنه استلحق وأنه من غيرهم ابن نكاح صحيح، فقد كانت العرب تفعل هذا فلا قذف هاهنا أصلا.
ثم نظرنا فوجدنا الله تعالى قد أوجب القذف بالزنا الحد، وجاءت به السنة الصحيحة، وصح به الاجماع المتيقن.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وما يجب بالقذف من الحد أو التعزير بالاذى فهو حق للمقذوف يستوفى إذا طالب به ويسقط إذا عفا عنه، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أيعجز أحدكم أن يكون كأبى ضمضم كان يقول تصدقت
بعرضي والتصدق بالعرض لا يكون الا بالعفو عما يجب له، ولانه لا خلاف أنه لا يستوفى الا بمطالبته فكان له العفو كالقصاص، وان قال لغيره اقذفني فقذفه ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا حد عليه لانه حق له فسقط بإذنه كالقصاص.

(والثانى)
أنه يجب عليه الحد لان العار يلحق بالعشيرة فلا يملك الا بإذن فيه، وإذا أسقط الاذن وجب الحد، ومن وجب له الحد أو التعزير لم يجز أن

(20/62)


يستوفى الا بحضرة السلطان لانه يحتاج إلى الاجتهاد ويدخله التخفيف، فلو فوض إلى المقذوف لم يؤمن أن يجف للتشفي.

(فصل)
وأن مات من له الحد أو التعزير وهو ممن يورث انتقل ذلك إلى الوارث، وفيمن يرثه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يرثه جميع الورثة لانه موروث فكان لجميع الورثة كالمال
(والثانى)
أنه لجميع الورثة الا لمن يرث بالزوجية، لان الحد يجب لدفع العار ولا يلحق الزوج عار بعد الموت لانه لا تبقى زوجية.
(والثالث) أنه يرثه العصبات دون غيرهم لانه حق ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح، وان كان له وارثان فعفا أحدهما ثبت للآخر جميع الحد لانه جعل الردع ولا يحصل الردع الا بما جعله الله عز وجل للردع، وان لم يكن له وارث فهو للمسلمين ويستوفيه للسلطان.

(فصل)
وأن جن من له الحد أو التعزيز لم يكن لوليه أن يطالبه باستيفائه لانه حق يجب للتشفي ودرك الغيظ فأخر إلى الافاقة كالقصاص، وان قذف مملوكا كانت المطالبة بالتعزير للمملوك دون السيد، لانه ليس بمال ولا له بدل، هو مال فلم يكن السيد فيه حق كفسخ النكاح إذا عتقت الامة تحت عبد، وان
مات المملوك ففى التعزير ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يسقط لانه لا يستحق عنه بالارث فلا يستحق المولى لانه لو ملك بحق الملك لملك في حياته
(والثانى)
أنه للمولى لانه حق ثبت للمملوك فكان المولى أحق به بعد الموت كمال المكاتب (والثالث) أنه ينتقل إلى عصباته لانه حق ثبت لنفى العار فكان عصباته أحق به.
(الشرح) الحديث أخرجه ابن السنى.
اللغة.
قوله (تصدقت بعرضي) قال أبو بكر بن الانباري، قال أبو العباس العرض موضع الذم والمدح من الانسان، ومعناه أموره التى يرتفع بها أو يسقط بذكرها ومن جهتها يحمد أو يذم، ويجوز أن يكون ذكر أسلافه لانه يلحقه النقيصة بعيبهم.

(20/63)


وقال ابن قتيبة رض الرجل نفسه، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون، إنما هو عرق يخرج من أعراضهم مثل المسك أي أبدانهم.
واحتج بهذا الحديث المذكور (تصدقت بعرضي) أي بنفسى وأحللت من يغتابني.
قال ولو كان العرض الاسلاف لما جاز له أن يحل من يغتابهم وله كلام يطول.
قوله (العار يلحق بالعشيرة) هم القبيلة.
قوله (لم يؤمن أن يحيف) الحيف الجور والظلم وقد ذكر مرارا، وأصل التشفي من شفاه الله من المرض إذا زال عنه، فكأنه يزول ما يجد من الغيظ والحزن.
قوله (جعل للردع) الردع الكف، ردعته فارتدع أي كففته فانكف قوله (وما يجب بالقذف من الحد) قال ابن رشد وأما سقوطه فإنهم اختلفوا في سقوطه بعفو القاذف، فقال أبو حنيفة والثوري والاوزاعي لا يصح العفو
أي لا يسقط الحد، وقال الشافعي يصح العفو أي يسقط الحد بلغ الامام أو لم يبلغ وقال قوم إن بلغ الامام لم يجز العفو، وإن لم يبلغه جاز العفو، واختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال بقول الشافعي ومرة قال يجوز إذا لم يبلغ الامام، وان بلغ لم يجز الا أن يريد بذلك المقذوف الستر على نفسه.
وهو المشهور عنهم.
والسبب في اختلافهم هل هو حق لله أو حق للآدميين أو حق لكليهما، فمن قال حق لله لم يجز العفو كالزنا، ومن قال حق للآدميين أجاز العفو، ومن قال لكليهما وغلب حق الامام إذا وصل إليه قال بالفرق بين أن يصل الامام أو لا يصل وقياسا على الاثر الوارد في السرقة، وعمدة من رأى أنه حق للآدميين وهو الاظهر أن المقذوف إذا صدقه فيما قذفه به سقط عنه الحد.
قال ابن حزم فنظرنا في قول مالك فوجدناه ظاهر التناقض، وكذا قول أبى حنيفة ثم قال فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد القذف ولم يشاور عائشة أن تعفو أم لا، فلو كان لها في ذلك حق لما عطله صلى الله عليه وسلم، فصح أن الحد من حقوق الله تعالى لا مدخل للمقذوف فيه أصلا ولا عفو له عنه.
قالت الحنابلة والصدقة بالعرض لا تكون الا بالعفو عما وجب له، ولانه

(20/64)


حق له لا يقام الا بطلبه فيسقط بعفوه كالقصاص (قلت) وما ذهب إليه ابن حزم فهو الحق والله أعلم.
قوله (وان مات من له الحد) قالت الحنابلة في الفروع وحق القذف للورثة فص عليه، وقيل سوى الزوجين، وفى المغنى للعصبة) وان عفا بعضهم حده الباقون كاملا، وقيل يسقط.
وسأله ابن منصور افترى على أبيه وقد مات فعفا ابنه، قال جائز وسأله الاثرم (أله العفو بعد رفعه؟ قال في نفسه، فإنما هو
حقه، وإذا قذف أباه فهذا شئ يطلبه غيره.
قال في الروضة (ان مات بعد طلبه ملكه وارثه، فإن عفا بعضهم حد لمن يطلب منهم بقسطه وسقط قسط من عفا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قذف جماعة نظرت فإن كانوا جماعة لا يجوز أن يكونوا كلهم زناة كأهل بغداد لم يجب الحد، لان الحد يجب لنفى العار ولا عار على المقذوف لانا نقطع بكذبه ويعزر الكذب.
وان كانت جماعة يجوز أن يكونوا كلهم زناة نظرت، فإن كان قد قذف كل واحد منهم على الانفراد وجب لكل واحد منهم حد، وان قذفهم بكلمة واحدة ففيه قولان.
قال في القديم يجب حد واحد، لان كلمة القذف واحدة، فوجب حد واحد، كما لو قذف امرأة واحدة.
وقال في الجديد يجب لكل واحد منهم حد، وهو الصحيح لانه ألحق العار بقذف كل واحد منهم فلزمه لكل واحد منهم حد، كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف، فإن قذف زوجته برجل ولم يلاعن ففيه طريقان، من أصحابنا من قال هي على قولين، كما لو قذف رجلين أو امرأتين، ومنهم من قال يجب حد واحد قولا واحدا، لان القذف ههنا بزنا واحد، والقذف هناك بزناءين، فإن وجب عليه حد لا ثنين فإن وجب لاحدهما قبل الاخر وتشاحا قدم السابق منهما لان حقه أسبق، وان وجب عليه لهما في حالة واحدة بأن قذفهما معا وتشاحا أقرع بينهما، لانه لا مزية لاحدهما على الاخر فقدم بالقرعة

(20/65)


وإن قال لزوجته يا زانية بنت الزانية وهما محصنتان لزمه حدان، ومن حضر منهما وطالبت بحدها حد لها، وإن حضرتا وطالبتا بحدهما ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يبدأ بحد البنت لانه بدأ بقذفها
(والثانى)
وهو المذهب أنه
يبدأ بحد الام لان حدها مجمع عليه وحد البنت مختلف فيه، لان عند أبى حنيفة لا يجب على الزوج بقذف زوجته حد، ولان حد الام آكد لانه لا يسقط إلا بالبينة وحد البنت يسقط بالبينة وباللعان فقدم آكدهما.

(فصل)
وإن وجب حدان على حر لاثنين فحد لاحدهما لم يحد للآخر حتى يبرأ ظهره من الاول، لان الموالاة بينهما تؤدى إلى التلف، وإن كان الحدان على عبد ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يجوز الموالاة بينهما، كما لو كانا على حر
(والثانى)
أنه يجوز لان الحدين على العبد كالحد الواحد.

(فصل)
وان قذف أجنبيا بالزنا فحد ثم قذفه ثانيا بذلك الزنا عزر للاذى ولم يحد، لان أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر رضى الله عنه ثم أعاد القذف وأراد أن يجلده، فقال له على كرم الله وجهه: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبك، فترك عمر رضى الله عنه جلده، ولانه قد حصل التكذيب بالحد، وإن قذفه بزنا ثم قذفه بزنا آخر قبل أن يقام عليه الحد ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه يجب عليه حدان لانه من حقوق الآدميين فلم تتداخل كالديون
(والثانى)
يلزمه حد واحد، وهو الصحيح لانهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فتداخلا، كما لو زنى ثم زنى.
وان قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل اللعان ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجب عليه الحد لان اللعان في حق الزوج كالبينة، ولو أقام عليها البينة ثم قذفها لم يلزمه الحد فكذلك إذا لاعنها.

(والثانى)
أنه يجب عليه الحد، لان اللعان انما يسقط احصانها في الحالة التى يوجد فيها وما بعدها وما يسقط فيما تقدم فوجب الحد بما رماها به، وان قذف زوجته وتلاعنا ثم قذفها أجنبي وجب عليه الحد، لان اللعان يسقط
الاحصان في حق الزوج لانه بينة يختص بها، فأما في حق الأجنبي فهى باقية على

(20/66)


إحصانها فوجب عليه الحد بقذفها، وإن قدفها الزوج ولاعنها ولم تلاعن فحدث ثم قذفها الأجنبي بذلك الزنا ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا حد عليه لانه قذفها بزنا حدث فيه فلم يجب، كما لو أقيم عليها الحد بالبينة
(والثانى)
أنه يجب لان اللعان يختص به الزوج فزال به الاحصان في حقه وبقى في حق الأجنبي.
(الشرح) أثر (أبا بكرة شهد على المغيرة) سبق تخريجه.
قوله (وإن قذف جماعة) قالت الحنابلة في الفروع: ومن قذف جماعة بكلمة فحد طالبوا أو بعضهم فيحد لمن طلب ثم لا حد نقله الجماعة، وفى رواية لكل واحد حد.
وقالوا في منار السبيل (ومن قذف أهل بلدة أو جماعة لا يتصور الزنى منهم عزر ولا حد، وإن كان يتصور الزنى منهم عادة وقذف كل واحد بكلمة فلكل واحد حد، وإن كان إجمالا كقوله هم زناة فحد حد واحد لقوله (والذين يرمون المحصنات) ولم يفرق بين قذف واحد وجماعة، ولانه قذف واحد فلا يجب به أكثر من حد.
قال ابن رشد واختلفوا إذا قذف جماعة فقالت طائفة ليس عليه إلا حد واحد جمعهم في القذف أو فرقهم، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة.
وقال قوم بل عليه لكل واحد حد، وبه قال الشافعي والليث وجماعة حتى روى عن الحسن بن حيى أنه قال، إن قال إنسان من دخل هذه الدار فهو زان جلد الحد لكل من دخلها.
وقالت طائفة ان جمعهم في كلمة واحدة، مثل أن يقول لهم يا زناة فحد واحد وان قال لكل واحد منهم يا زان فعليه لكل انسان منهم حد، فعمدة من لم يوجب على قاذف الجماعة الا حد واحد حديث أنس وغيره أن هلال بن أمية
قذف امرأته بشريك بن سحماء، فرفع ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلاعن بينهما ولم يحده لشريك، وذلك اجماع من أهل العلم فيمن قذف زوجته برجل وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين، وأنه لو عفا بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد.
وأما من فرق بين قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات، أو في مجلس واحد أو في

(20/67)


مجالس فلانه رأى أنه واجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف، لانه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف كان أوجب أن يتعدد الحد.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا سمع السلطان رجلا يقول زنى رجل لم يقم عليه الحد لان المستحق مجهول ولا يطالبه بتعيينه لقوله عز وجل (لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم) ولان الحد يدرأ بالشبهة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (ألا سترته بثوبك يا هزال) .
وان قال سمعت رجلا يقول ان فلانا زنى لم يحد لانه ليس بقاذف وانما هو حاك ولا يسأله عن القاذف، لان الحد يدرأ بالشبهة.
وان قال زنى فلان فهل يلزم السلطان أن يسأل المقذوف فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يلزمه لانه قد ثبت له حق لا يعلم به فلزم الامام اعلامه، كما لو ثبت له عنده مال لا يعلم به، فعلى هذا ان سأل المقذوف فأكذبه وطالب بالحد حد، وان صدقه حد المقذوف لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) واوجه الثاني أنه لا يلزم الامام اعلامه لقوله صلى الله عليه وسلم (اردءوا الحد بالشبهات) .
(الشرح) حديث (يا أنيس اغد على امرأة هذا ... ) سبق تخريحه حديث (ادرءوا الحد بالشبهات ... ) سبق تخريجه
قوله (إذا سمع السلطان رجلا يقول زنى رجل ... ) سبق الكلام عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قذف محصنا وقال قذفته وأنا ذاهب العقل فإن لم يعلم له حال جنون فالقول قول المقذوف مع يمينه أنه لا يعلم أنه مجنون، لان الاصل عدم الجنون.
وان علم له حال جنون ففيه قولان بناء على القولين في الملفوف إذا قده ثم اختلفا في حياته، أحدهما أن القول قول المقذوف لان الاصل الصحة والثانى أن القول قول القاذف، لانه يحتمل ما يدعيه والاصل حمى الظهر.

(20/68)


ولان الحد يسقط بالشبهة، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ادءوا الحدود بالشبهات وادرءوا الحدود ما استطعتم، ولان يخطئ الامام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.

(فصل)
وإن عرض بالقذف وادعى المقذوف أنه أراد قذفه وأنكر القاذف فالقول قوله لان ما يدعيه محتمل والاصل براءة ذمته.

(فصل)
وإن قال لمحصنة زنيت في الوقت الذى كنت فيه نصرانية أو أمة، فإن عرف أنها كانت نصرانية أو أمة لم يجب الحد لانه أضاف القذف إلى حال هي فيها غير محصنة.
وإن قال لها زنيت ثم قال أردت في الوقت الذى كنت فيه نصرانية أو أمة، وقالت المقذوفة بل أردت قذفي في هذا الحال وجب الحد لان الظاهر أنه أراد قذفها في الحال، فإن قذف امرأة وادعى أنها مشركة أو أمة وادعت أنها أسلمت أو أعتقت فالقول قول القاذف، لان الاصل بقاء الشرك والرق.
وإن قذف امرأة وأقر أنها كانت مسلمة وادعى أنها ارتدت، وأنكرت المرأة ذلك فالقول قولها، لان الاصل بقاؤها على الاسلام.
وان قذف مجهولة وادعى أنها أمة أو نصرانية، وأنكرت المرأة، ففيه طريقان ذكرناهما
في الجنايات.

(فصل)
وإن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها، وأنكر، فشهد شاهدان أنه قذفها جاز أن يلاعن، لان انكاره للقذف لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا، لانه يقول انما أنكرت القذف، وهو الرمى بالكذب وما كذبت عليها لانى صادق أنها زنت فجاز أن يلاعن، كما لو ادعى على رجل أنه أودعه مالا، فقال المدعى عليه مالك عندي شئ، فشهد شاهدان أنه أودعه فإن له أن يحلف لان انكاره لا يمنع الايداع لانه قد يودعه ثم يتلف فلا يلزمه شئ.
(الشرح) حديث ادرءوا الحدود بالشبهات) سبق تخريجه (قلت) وفى نهاية باب القذف أجمل أحكام هذا الباب.

(20/69)


إن الاية الكريمة وإن جاءت بكلمة (يرمون المحصنات) تدل على أنه ليس المراد بالرمي في هذا المقام الرمى بكل نوع من أنواع الجرائم، بل المراد به ههنا الرمى بالزنا خاصة.
2 - ان الرمى حكم شامل سواء كان القذف من الرجال أو النساء للرجال أو للنساء - 3 - وحكم القذف أن يضرب ثمانين جلدة 4 - وهذا الحكم إنما ينفذ في ما إذا كان القاذف قذف محصنا من الرجال أو النساء ولا ينفذ في ما إذا كان المقذوف غير محصن، أما إذا كان معروفا بفجوره لا ينشأ السؤال عن قذفه، ولكنه إذا لم يكن كذلك فللقاضي أن يعين برأيه عقوبة من يقذفه أو لمجلس الشورى أن يضع في هذا الباب قانونا حسب الظروف والحاجات.
5 - لا يدان أحد باقتراف القذف بمجرد أنه رمى غيره بالزنا بدون أن يقيم عليه الشهادة، بل لادانته باقتراف القذف عدة شروط لا بد من استيفائها
في القاذف والمقذوف وفعلة القذف نفسها، واليك بيانها.
أما الشروط التى لا بد من جودها في القاذف.
(ا) أن يكون بالغا فإذا كان القاذف صبيا لا يقام عليه الحد، وانما يقام عليه التعزير (ب) أن يكون عاقلا فإذا كان القاذف مجنونا لا يقام عليه الحد، وكذلك لا يقام حد القذف على من كان في سكر، الا إذا سكر بمحرم، لانه كالصاحي فيما فيه حقوق العباد كسكر الكلورو فارم مثلا.
(ج) أن يكون قد قذف بإرادته الحرة طائعا، فمن قذف مكرها لا يقام عليه الحد (د) أن لا يكون والدا ولا جدا للمقذوف لانه لا يقام عليه الحد.
هذه الشروط متفق عليها بين الفقهاء الا أن الحنفية قد أضافوا إليها شرطا خامسا هو أن يكون القاذف ناطقا، فإذ قذف الاخرس غيره بالاشارة والكناية لا يقام عليه الحد، وقد خالفهم الامام الشافعي في ذلك وقال ان الاخرس إذا كانت اشارته أو كنايته واضحة يعرف بها مقصوده فهو قاذف، لان اشارته لا تقل عن صريح القول في تشويه سمعة المقذوف وإلحاق العار بذيله، ولكن

(20/70)


إشارة الاخرس عند الحنفية ليست بقويه التأثير حتى يضرب على أساسها ثمانين جلدة وإنما التعزير عندهم.
أما الشروط المطلوبة في المقذوف: ا - أن يكون عاقلا قد رمى بارتكاب الزنا في حالة العقل، فإذا قذف أحد مجنونا، سواء أكان أفاق من جنونه فيما بعد أو لم يفق لا يستحق حد القذف، لان المجنون لا يستطيع الاهتمام بحفظ عفافه، ولانه لو قامت عليه الشهادة بالزنا لما استحق الحد ولا قدح ذلك في عرضه، ولكن مالكا والليث بن سعد يقولان ان قاذف المجنون يستحق الحد لانه على كل حال يرميه بما هو برئ منه
ب - أن يكون بالغا، فإذا قذف أحد صبيا أو قال عن شاب أنه ارتكب الزنا في صباه فإنه لا يوجب عليه الحد، لان الصبى كالمجنون، الا أن مالكا يقول بأنه إذا قذف أحد طفلا يكاد يبلغ الحلم لا يستحق الحد، وأما إذا قذف بنتا وهى في سن من الممكن أن يزنى بها فيها فإنه يستحق الحد، لان ذلك لا يمس عرضها وحدها بل يمس كذلك بعرض أسرتها ويفسد عليها مستقبلها.
ج - أن يكون مسلما أي رمى بأنه ارتكب الزنا في حالة اسلامه فإذا قذف أحد الكافر أو قال عن مسلم أنه ارتكب الزنا في حال الكفر فإنه لا يستحق الحد د - أن يكون حرا فمن قذف للعهد أو الامة أو قال عن حر انه ارتكب الزنا أيام كان عبدا لم يعتق بعد فإنه لا يستحق الحد لان العبد قد لا يستطيع الاهتمام بحفظ عفافه لما يكون به من الضعف والغلبة على أمره، الا أن داود الظاهرى وابن حزم قالا ان قاذف العبد والامة أيضا يستحق الحد.
هـ - أن يكون عفيفا بريئا عن فعل الزنا وشبهته ومعنى البراءة من الزنا أن لا تكون جريمة الزنا قد ثبتت فعلا عليه قبلا، ومعنى البراءة من شبهة الزنا أن لا يكون وطئ بنكاح فاسد أو ملكية مشتبهة ولا تكون حياته ماجنة خليعة، ولا يأتي الافعال القبيحة المحظورة، لان هذه الامور قادحة في عفافه على كل حال ولا ينبغى أن يستحق ثمانين جلدة من يقذف صاحب مثل هذا العرض المقدوح فيه، ولذا إذا قامت على المقذوب بينة بجريمة الزنا قبل أن يقام عليه

(20/71)


حد القذف ترك القاذف لان المقذوف لم يعد عفافه ثابتا، ولكن ليس معنى عدم إقامة الحد في هذه الصور الخمس أن قاذف المجنون أو الصبى أو الكافر أو العبد أو غير العفيف لا يستحق عقوبة بل انه يستحق التعزير ويبلغ به غايته الشروط اللازمة في فعلة القذف نفسها:
أن كل رمى بحوله إلى القذف أحد الامرين: إما أن يرمى القاذف المقذوف بصريح الزنا إذا ثبتت بشهادة الشهود وجب عليه الحد أو يقول عنه أنه ولد الزنا ولكن يجب التصريح بارتكابه للزنا في كلتا الحالتين، ولا عبرة بالكناية، فإن ارادة الرمى بالزنا أو الطعن في النسب متوقفة في الكناية على نية القاذف، فإن كى بألفاظ سبق ذكرها كيا فاجر وكيا ابن الحرام فلا قذف فيها، غير أن الفقهاء قد اختلفوا حول اعتبار التعريض قذفا، والتعريض هو أن يقول أحد لغيره مثلا (يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت أو ما ولدتني أمي بالزنا) فقال مالك رحمه الله إن من جاء بتعريض يفهم به قطعا أنه يريد أن يقول عن مخاطبه أنه زنا أو أنه ولد الزنا وجب عليه حد القذف.
أما أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وسفيان وابن شبرمة والحسن بن صالح فقالوا إنه ليس التعريض قذفا، لانه على كل حال يحتمل الشك، ولان الاصل براءة الذمة فلا ينبغى أن يرجع عنه بالشك.
وأما أحمد واسحاق بن راهويه فقالا: ان التعريض ليس بقذف في حال الرضى والمزاح، وهو قذف في حال الغضب والمجادلة، فقد أقام عمر وعلى الحد على التعريض.
وروى أن رجلين استبا في زمن عمر، فقال أحدهما للآخر: ما أنا بزان ولا أمي بزانية، فاستشار عمر الصحابة فقال بعضهم مدح أباه وأمه وقال الآخرون: أما كان لابية مدح غير هذا؟ فجلده عمر ثمانين جلدة (أحكام القرآن للجصاص ج: ص 330) وكذلك أن الفقهاء بينهم الخلاف حول اعتبار الرمى بعمل قوم لوط قذفا، فيقول أبو حنيفة أنه ليس قذفا، ويقول أبو يوسف ومحمد من أصحابه ومالك والشافعي انه قذف يجب عليه الحد

(20/72)


6 - وكذلك هناك خلاف بين الفقهاء حول اعتبار القذف من الجنايات التى تؤاخذ الناس عليها شرطة الدولة ومحكمتها، فيقول ابن أبى ليلى أنه من حق الله فيجب أن يقام عليه الحد سواء أطالب به المقذوف أو لم يطالب وهو من حق الله ولكن المقذوف فيه حق من حيث دفع العارعنه عند أبى حنيفة وأصحابه أيضا، ولكن بمعنى أنه إذا ثبتت الجريمة على أحد وجب أن يقام عليه الحد، ولكن يتوقف رفع أمره إلى الحكام على ارادة المقذوف ومطالبته فهو من هذه الجهة من حقوق العباد.
وهذا الرأى هو الذى ذهب إليه الشافعي والاوزاعي، وأما مالك فعنده التفصيل، فيقول: ان قذف القاذف بحضور من الامام يؤخذ عليه والا فإن اقامة الدعوى عليه متوقفة على مطالبة المقذوف.
7 - ليس القذف من الجرائم التى يجوز التراضي عليها بين الفريقين 8 - وعند الحنفية لا يطالب بإقامة الحد على القاذف الا المقذوف نفسه أو من لحق بنسبه العار لقذفه عندما لم يكن المقذوف نفسه حاضرا للمطالبة كالوالد والوالدة والاولاد وأولاد الاولاد.
وعند مالك الشافعي هذا حق من الحقوق القابلة للموارثة، فإذا مات المقذوف قبل استيفائه الحد على القاذف فلورثته أن يطالبوا به، غير أنه من العجب أن الشافعي يستثنى من الورثة الزوج والزوجة، ويستدل على ذلك بأن علاقة الزوجية ترتفع بالموت وأن المقصود من الحد دفع العار عن النسب وهو لا يلحق بالزوج وبالزوجة - وهذا استدلال غير قوى في حقيقة الامر - فإذا كانت المطالبة بإقامة الحد على القاذف حقا يرثه ورثة المقذوف بعد موته فما هناك سبب معقول لان يحرم منه الزوجان.
9 - وإذا ثبت عن رجل أنه ارتكب القذف فإن الشئ الوحيد الذى ينقذه
من الحد هو أن يأتي بأربعة شهداء، ويجب أن يحضر هؤلاء الشهداء المحكمة مجتمعين ويؤدوا الشهادة في وقت واحد، وبهذا قال الحنفيون أما الشافعيون فقد ذهبوا إلى أنه لا يحصل أي فرق بحضور الشهداء المحكمة مجتمعين أو متفرقين

(20/73)


بل الافضل أن يأتوا واحدا بعد الاخر مثل ما يكون في سائر الاقضيه، ويجب أن يكون الشهداء متصفين بالعدل.
10 - ومن لم يستطع أن يقدم إلى المحكمة شهادة تبريه من جريمة القذف فقد حكم عليه القرآن بثلاثة أحكام.
(ا) أن يجلد ثمانين جلدة (ب) أن لا تقبل له شهادة (ج) أنه فاسق.
وقد اتفقوا على أنه لا يسقط الحد عن القاذف بتوبته وأنه لا بد له من الحد واختلفوا هل القاذف يفسق بفعل القذف ذاته أو انما يفسق بعد ما تحكم عليه المحكمة بالحد، فهو يفسق بفعل القذف ذاته عند الشافعي والليث بن سعد وعلى العكس من ذلك يقول أبو حنيفة وأصحابه ومالك أنه لا يفسق إلا بعد ما يقام عليه الحد والصحيح عندي في هذا الشأن أن كون القاذف فاسقا عند الله نتيجة لفعل القذف نفسه، وأما كونه فاسقا عند الناس فمتوقف على أن تثبت جريمته ويقام عليه الحد.
وهناك خلاف شديد حول (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) هل إليه أيضا يرجع العفو المذكور في جملة إلا اللذين تابوا وأصلحوا أم لا، فتقول طائفة منهم القاضى شريح وسعيد بن المسيب، والحسن البصري والنخعي وابن سيرين ومكحول وعبد الرحمن بن زيد وأبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد وسفيان الثوري والحسن بن صالح أن من تاب وأصلح لا يبقى فاسقا عند الله ولا عند الناس مع إقامة الحد عليه وعدم الاعتداد بشهادته إلى الابد.
وتقول طائفة أخرى منهم عطاء وطاوس ومجاهد والشعبى والقاسم بن محمد وسالم والزهرى وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وابن أبى نجيح وسليمان بن يسار ومسروق والضحاك ومالك وعثمان البنى والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل والطبري أن جملة (إلا الذين تابوا وأصلحوا) لا يرجع العفو المذكور فيها إلى إقامة الحد، ولكنه يرجع إلى أن من أقيم عليه الحد إذا تاب وحسنت حاله تقبل شهادته ولا يبقى فاسقا، واستدلو بقصة إقامة عمر الحد على أبى بكرة حينما قذف المغيرة بن شعبة.

(20/74)


والصحيح عندي أن حقيقة توبة المرء لا يعلمها إلا الله، ومن تاب عندنا فإن غاية ما لنا أن نجامله به هو أن لا نسميه الفاسق ولا نذكره بالفسق، وليس من الصحيح أن نبالغ في مجاملته حتى نعود إلى الثقة بقوله لمجرد أنه قد تاب عندنا في ظاهر الامر.
11 - أن يكون حد القذف في الضرب أخف من ضرب الزانى.
12 - اتفق الفقهاء على أن من لقى حده مرة في القذف لا يؤاخذ إلا إذا جاء بتهمة جديدة أخرى.
13 - والفقهاء بينهم خلاف حول قذف الجماعة، فالحنفية يرون أن من قذف عدة أفراد بلفظ أو بألفاظ لا يلقى إلا حدا واحد، لانه ما من تهمة بالزنا إلا وهى تتناول عرض شخصين، وعلى العكس من ذلك يقول الشافعي إن من قذف جماعة بلفظ أو بألفاظ متكررة يقام عليه الحد لكل فرد منهم على حدة، وبهذا يقول عثمان البتى وابن أبى ليلى ويوافق عليه الشعبى والاوزاعي هذه الخلاصة التى أوردتها لك هي ما كنت أحب أن أتبع كل باب من أبواب الفقه الواردة بمثلها لولا ضيق المقام.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب حد السرقة

اللغة: السارق الذى يأخذ الشئ على وجه الاستخفاء بحيث لا يعلم به المسروق منه، مأخود من مسارقة النظر، ومن قوله تعالى (إلا من استرق السمع) والمنتهب الذى يأخذ بالقهر والغلبة مع العلم به، وأصل النهب الغنيمة، والانتهاب الافتعال من ذلك، والمختلس الذى يأخذ الشئ عيانا ثم يهرب، مثل أن يمد يده إلى منديل إنسان فيأخذه، هكذا ذكره في البيان.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

ومن سرق وهو بالغ عاقل مختار التزم حكم الاسلام نصابا من المال الذى يقصد إلى سرقته من حرز مثله لا شبهة له فيه وجب عليه القطع، والدليل عليه

(20/75)


قوله تعالى (والسارق والسارقه فاقطعوا أيديهما) ولان السارق يأخذ المال على وجه لا يمكن الاحتراز منه ولو لم يجب القطع عليه لادى ذلك إلى هلاك الناس بسرقة أموالهم ولا يجب القطع على المنتهب ولا على المختلس لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (ليس على المنتهب قطع ولا على المختلس قطع ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا) ولان المنتهب والمختلس يأخذان المال على وجه يمكن انزاعه منه بالاستغاثة بالناس وبالسلطان فلم يحتج في ردعه إلى القطع ولا يجب على من جحد أمانة أو عارية لانه يمكن أخذ المال منه بالحكم فلم يحتج إلى القطع.

(فصل)
ولا يجب على صبى ولا على مجنون لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق.
وروى ابن مسعود رضى الله عنه أن صلى الله عليه وسلم أتى بجارية قد سرقت فوجدها لم تحض فلم يقطعها.
وهل يجب على السكران؟ فيه
قولان ذكرناهما في الطلاق، ولا يجب على مكره لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ ما أوجب عقوبة الله عز وجل على المختار لم يوجب على المكره ككلمة الكفر، ولا تجب على الحربى لانه لم يلتزم حكم الاسلام، وهل يجب على المستأمن فيه قولان ذكرناهما في السير.
(الشرح) حديث جابر (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) رواه الخمسة وصححه الترمذي والحاكم والبيهقي وابن حبان وصححه.
وفى رواية له عن ابن جريج عن عمر وبن دينار وأبى الزبير عن جابر، وليس فيه ذكر الخائن، ورواه ابن الجوزى في العلل وقال لم يذكر فيه الخائن غير مكى.
قال الحافظ قد رواه ابن حبان من غير طريقه فأخرجه من حديث سفيان عن أبى الزبير عن جابر بلفظ (ليس على المختلس ولا على الخائن قطع) وقال ابن أبى حاتم في العلل لم يسمعه ابن جريج من أبى الزبير إنما سمعه من ياسين بن معاذ الزيات وهو ضعيف، وكذا قال أبو داود.
وقال الحافظ أيضا.

(20/76)


وقد رواه المغيرة بن مسلم عن أبى الزبير عن جابر، وأسنده النسائي من حديث المغيرة، ورواه سويد بن نصر عن ابن المبارك عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير قال النسائي ورواه عيسى بن يونس والفضل بن موسى وابن وهب ومخلد بن زيد وجماعة فلم يقل واحد منهم عن ابن جريج حدثنى أبو الزبير ولا أحسبه سمعه عنه وقد أعله ابن القطان بعنعنة أبى الزبير عن جابر، وأجيب بأنه قد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، وصرح بسماع أبى الزبير من جابر.
وعن عبد الرحمن ابن عوف عند ابن ماجه بإسناد صحيح بنحو الحديث المذكور وعن أنس عند ابن ماجه أيضا والطيرانى في الاوسط، وعن ابن عباس عند ابن الجوزى في العلل وضعفه.
قال الشوكاني: وهذه الاحاديث يقوى بعضها بعضا ولا سيما بعد تصحيح الترمذي وابن حبان، وياسين الزيات هو الكوفى وأصله يمامى: قال المنذرى لا يحتج بحديثه، والمغيرة بن مسلم هو السراج خراساني، وكنيته أبو سلمة.
قال ابن معين صالح الحديث صدوق، وقال أبو داود الطيالسي انه كان صدوقا.
حديث (رفع القلم عن ثلاث..) سبق تخريجه حديث (أتى بجارية..) أخرجه البيهقى عن القاسم قال (أتى عبد الله بجارية قد سرقت ولم تحصن فلم يقطعها) وأخرج البخاري ومسلم والبيهقي عن ابن عمر قال: عرضت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فاستصغرني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فقبلني (قال ابن نافع حدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال إن هذا الحد بين الصغير والكبير.
حديث (رفع عن أمتى..سبق تخريجه) .
اللغة: قوله (نصابا من المال) النصاب الاصل، ومنه قولهم كريم النصاب وقد ذكره في الزكاة.
قوله (من الخلاص) الخلاص بالكسر ما أخلصته النار من الذهب ومثله الخلاصه، وهو الذى أخلص ولم يضرب، والتبر غير مخلص.
قوله (من حرز مهتوك) قد ذكرنا أن أصل الهتك خرق الستر.

(20/77)


قوله (ومن سرق وهو بالغ) قال ابن حزم في مراتب الاجماع: واتفقوا أنه من سرق من حرز من غير مغنم ولا من بيت المال بيده لا بآلة وحده منفردا وهو بالغ عاقل مسلم حر في غير الحرم بمكة وفى غير دار الحرب فسرق من غير
زوجته ومن غير ذى رحمه ومن غير زوجها إن كانت امرأة وهو غير سكران ولا مضطر بجوع ولا مكره فسرق مالا متملكا يحل للمسلمين بيعه وسرقه من غير غاصب له وبلغت قيمة ما سرق عشرة دراهم من الورق المحض بوزن مكة ولم يكن لحما ولا حيوانا مذبوحا ولا شيئا يؤكل أو يشرب ولا طيرا ولا صيدا ولا كلبا ولا سنورا ولا زبلا ولا عذرة ولا ترابا ولا زرنيخا ولا حصى ولا حجارة ولا فخارا ولا زجاجا ولا ذهبا ولا قصبا ولا خشبا ولا فاكهة ولا حمارا ولا حيوانا سارحا ولا مصحفا ولا زرعا من فدانه ولا تمرا من حائطه ولا شجرا ولا حرا ولا عبدا يتكلم ويعقل، ولا أحدث فيه جناية قبل إخراجه له من مكان لم يؤذن له في دخوله من حرزه وتولى إخراجه من حرزه بيده فشهد عليه بكل ذلك شاهدان رجلان ولم يختلفا ولا رجعا عن شهادتهما ولا ادعى هو ملك ما سرق وكان سالم اليد اليسرى وسالم الرجل اليمنى لا ينقص منها شئ ولم يهبه المسروق منه ما سرق ولا ملكه بعد ما سرق ولارد السارق على المسروق منه ولا أعاده السارق وحضر الشهود على السرقة ولم يمض للسرقة شهر فقد وجب عليه الحد، واتفقوا أن الغاصب المجاهر الذى ليس محاربا لا قطع عليه، واختلفوا في المختلس أتقطع يده أم لا.
قالت الحنابلة لا قطع على منتهب الذى يأخذ المال على وجه الغنيمة لحديث جابر ولا مختطف وهو الذى يختلس الشئ ويمر به غاصب.
قال ابن رشد أجمعوا على أنه ليس على الغاصب ولا على المكابر المغالب قطع وقال الشوكاني ذهب إلى أنه لا يقطع المختلس والمنتهب والخائن العنرة والشافعية والحنفية.
وذهب أحمد وإسحاق وزفر والخوارج إلى أنه يقطع، وذلك لعدم اعتبارهم الحرز.

(20/78)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجب فيما دون النصاب، والنصاب ربع دينار أو ما قيمته ربع
دينار، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا، فإن سرق غير الذهب قوم بالذهب، لان النبي صلى الله عليه وسلم قدر النصاب بالذهب فوجب أن يقوم غيره به.
وإن سرق ربع مثقال من الخلاص وقيمته دون ربع دينار ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى وأبى على بن أبى هريرة أنه لا يقطع لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى ربع دينار، وهذا قيمته دون ربع دينار وهو قول عامة أصحابنا أنه يقطع لان الخلاص يقع عليه اسم الدينار، وإن لم يصرف، لانه يقال دينار خلاص كما يقال دينار قراضة.
وإن نقب اثنان حرزا وسرقا نصابين قطعا لان كل واحد منهما سرق نصابا وإن أخرج أحدهما نصابين ولم يخرج الآخر شيئا قطع الذى أخرج دون الآخر لانه هو الذى انفرد بالسرقة، فإن اشتركا في سرقة نصاب لم يقطع واحد منهما وقال أبو ثور يجب القطع عليهما، كما لو اشترك رجلان في القتل وجب القصاص عليهما، وهذا خطأ لان كل واحد منهما، لم يسرق نصابا، ويخالف القصاص فإنا لو لم نوجب على الشريكين جعل الاشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص، وليس كذلك السرقة، فإنا إذا لم نوجب القطع على الشريكين في سرقة نصاب لم يصر الاشتراك طريقا إلى إسقاط القطع، لانهما لا يقصدان إلى سرقة نصاب واحد لقلة ما يصيب كل واحد منهما، فإذا اشتركا في نصابين أوجبنا القطع.
وإذا لقب حرز أو سرق منه ثمن دينار ثم عاد وسرق ثمنا آخر ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول أبى العباس أنه يجب القطع لانه سرق نصابا من حرز مثله فوجب عليه القطع، كما لو سرقه في دفعة واحدة.

(والثانى)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ القطع لانه سرق تمام النصاب من حرز مهتوك.
(والثالث) وهو قول أبى على بن خيران أنه إن عاد وسرق الثمن الثاني بعد

(20/79)


ما اشتهر هتك الحرز لم يقطع لانه سرق من حرز اشتهر خرابه، وإن سرق قبل أن يشتهر خرابه قطع لانه سرق من قبل ظهور خرابه.
(الشرح) حديث (لا يقطع السارق الا في ربع دينار ... ) رواه الجماعة الا ابن ماجه والبيهقي.
وَفِي رِوَايَةٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا تقطع يد السارق الا في ربع دينار فصاعدا) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه.
وفى رواية قال (تقطع يد السارق في ربع دينار) رواه البخاري والنسائي وأبو داود.
وفى رواية قال (تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا) البخاري وفى رواية قال (اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنى عشر درهما) رواه أحمد وفى رواية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن، قيل لعائشة ما ثمن المجن؟ قالت ربع دينار) رواه النسائي.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) قال الاعمش كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوى دراهم) متفق عليه، وليس لمسلم فيه زيادة.
أخرج البيهقى أن أمير المؤمنين عليا قطع في ربع دينار، وكانت قيمته درهمين ونصفا وأخرج عنه أنه قال القطع في ربع دينار فصاعدا.
وعنه (أنه قطع يد سارق في بيضه من حديد ثمنها ربع دينار ورجاله ثقات ولكنه منقطع ذهب الخاب والسلف إلى ثبوت القطع في ثلاثة دراهم أو ربع دينار، واختلفوا فيما يقوم به ما كان من غير الذهب والفضه، فذهب مالك في المشهور عنه أنه يكون التقويم بالدراهم لا بربع الدينار إذا كان الصرف مختلفا.
اللغة: قوله (حريسة الجبل) الحرية هي الشاة المسروقة من المرعى، يقال فلان يأكل الحرائس إذا كان يأكل أغنام الناس، والسارق يحترس، قال لنا حلماء لا يشيب غلامنا
* غريبا ولا تؤوى الينا الحرائس وكأنها لا حارس لها هناك الا الجبل.

(20/80)


وقال ابن السكيت: الحريسة المسروقة ليلا، قال في الشامل حريسة بمعنى محروسة أي مسروقة، كما يقال قتيل بمعنى مقتول، وسمى السارق حارسا.
قوله (المجن) بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون وهو الترس، ويقال له مجنة بكسر الميم.
وقال الشافعي: الاصل في تقويم الاشياء هو الذهب، لانه الاصل في جواهر الارض كلها، حتى قال إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع دينار لم توجب القطع.
قال مالك: وكل واحد من الذهب والفضة معتبر في نفسه لا يقوم بالآخر.
وذكر بعض البغداديين أنه ينظر في تقويم العروض بما كان غالبا في نقود أهل البلد.
وذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه وسائر فقهاء العراق إلى أن النصاب الموجب للقطع هو عشرة دراهم ولا قطع في أقل من ذلك.
واحتجوا بما أخرجه البيهقى والطحاوى عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقوم بعشرة دراهم.
وأخرج نحو ذلك النسائي عنه.
وأخرج أبو داود أن ثمنه كان دينارا أو عشرة دراهم.
وأخرج البيهقى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قال: كان ثمن المجن عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عشرة دراهم.
وأخرج النسائي عن عطاء مرسلا: أدنى ما يقطع فيه ثمن المجن، قال وثمنه عشرة دراهم.
قالوا هذه الروايات في تقدير ثمن المجن أرجح من الروايات الاولى، وإن كانت أكثر
وأصح، ولكن هذا أحوط، والحدود تدفع بالشبهات كأنها شبهة في العمل بما دونها وروى نحو ذلك عن ابن العربي قال: واليه ذهب سفيان مع جلالته.
قال الشوكاني ويجاب بأن الروايات المروية عن ابن عباس وابن عمرو في إسنادهما جميعا محمد بن إسحاق وقد عنعن، ولا يحتج بمثله إذا جاء بالحديث معنعنا فلا يصلح لمعارضة ما في الصحيحين، وقد تعسف الطحاوي فزعم أن حديث عائشة في الصحيحين مضطرب ثم بين الاضطراب بما يفيد بطلان قوله، وقد استوفى الرد عليه صاحب الفتح.

(20/81)


ونقل ابن عياض عن النخعي أنه لا يجب القطع الا في أربعة دنانير أو أربعين درهما، وهذا قول لا دليل عليه.
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ يقطع في درهمين، وحكاه في البحر عن زياد بن أبى زياد ولا دليل على ذلك من المرفوع وقد أخرج أبن أبى شيبة عن أنس بسند قوى أن أبا بكر قطع في شئ ما يساوى درهمين، في لفظ لا يساوى ثلاثة دراهم.
ونقل ابن المنذر عن أبى هريرة وأبى سعيد في أربعة دراهم، وهو مردود بما سلف.
وروى ابن المنذر عن الباقر ثلث دينار، وروى عن النخعي وابن شبرمة وابن أبى ليلى والحسن البصري أنه في خمسة، واستدلوا بما أخرجه ابن المنذر عن عمر أنه قال: لا تقطع الخمس الا في خمس.
وروى ابن المنذر عن النخعي وحكاه ابن حزم عن طائفة أنه في دينار وذهب ابن حزم ونقل نحوه ابن عبد البر أنه في ربع دينار من ذهب ومن غيره في القليل والكثير واستدل ابن حزم بأن التحديد في الذهب منصوص، ولم يوجد نص في غيره فيكون داخلا تحت عموم الآية قال الشوكاني ويجاب عن
ذلك برواية النسائي المذكورة سابقا، وبحديث (اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما دون ذلك) كما في الباب، لانه يصدق على ما لم تبلغ قيمته ربع دينار أنه دونه، وان كان من غير الذهب فإنه يفضل الجنس على جنس آخر مغير له باعبتار الزيادة في الثمن، وكذلك العرض على العرض باعتبار اختلاف ثمنهما وذهب الحسن البصري وداود والخوارج إلى أنه يثبت القطع في القليل والكثير واستدلوا بالآية (والسارق والسارقة ... ) ويجاب بأن اطلاق الآية مقيد بالاحاديث، واستدلوا بحديث أبى هريرة في الباب فإن فيه يسرق البيضة ... ) وقد أجيب عن ذلك أن المراد تحقير شأن السارق وخسار ما ربحه، هكذا قال الخطابى وابن قتيبة وفيه تعسف وذهب البنى وربيعة أنه يثبت القطع في درهم فصاعدا لا دونه.
هذه جملة المذاهب المذكورة في المسألة، وقد جعلها في الفتح عشرين

(20/82)


مذهبا ولكن البقية على ما ذكرنا لا يصلح جعلها مذاهب مستقلة لرجوعها إلى ما ذكر.
قوله (وإن نقب اثنان..) قالت الحنابلة، ولو اشترك جماعة في هتك حرز وإخراج النصاب قطعوا جميعا، وإن هتك الحرز أحدهما ودخل الآخر فأخرج المال فلا قطع عليهما ولو تواطأ، لان الاول لم يسرق والثانى لم يهتك الحرز قال في الكافي ويحتمل أن يقطع إذا كانا شريكين.
وقال ابن رشد: اختلفوا فيما إذا سرقت الجماعة ما يجب فيه القطع أعنى نصابا دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابا، وذلك بأن يخرجوا النصاب من الحرز معا مثل أن يكون عدلا أو صندوقا يساوى النصاب، فقال مالك يقطعون جميعا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو نور، وقال أبو حنيفة لا قطع
عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابا، فمن قطع الجميع رأى العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق، أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذى يوجب القطع لحفظ المال، قال ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد، قال: لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب الشرع فيه قطع يد واحدة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجب القطع فيما سرق من غير حرز، لما روى عبد الله بن عمر وبن العاص رضى الله عنه أن رجلا من مزينة قال يارسول الله كيف ترى في حريسة الجبل؟ قال ليس في شئ من الماشية قطع إلا ما أواه المراح، وليس في شئ من الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع، فأسقط القطع في الماشية إلا ما أواه المراح، وفى الثمر المعلق إلا ما أواه الجرين، فدل على أن الحرز شرط في ايجاب القطع، ويرجع في الحرز إلى ما يعرفه الناس حرزا، فما عرفوه حرزا قطع بالسرقة منه وما لا يعرفونه حرزا لم يقطع بالسرقة منه، لان الشرع دل على اعتبار الحرز وليس له حد من جهة الشرع فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالقبض والتفرق في البيع وإحياء

(20/83)


الموات، فإن سرق مالا مثنما كالذهب والفضة والخز والقز من البيوت أو الخانات الحريزة والدور المنيعة في العمران ودونها أغلاق وجب القطع لان ذلك حرز مثله، وإن لم يكن دونها أغلاق، فإن كان في الموضع حافظ مستيقظ وجب القطع لانه محرز به، وإن لم يكن حافظ أو كان فيه حافظ نائم لم يجب القطع لانه غير محرز، فإن سرق من بيوت في غير العمران كالرباطات التى في البرية، والجواسق التى في البساتين، فإن لم يكن فيها حافظ لم تقطع مغلقا كان الباب أو
مفتوحا، لان المال لا يحرز فيه من غير حافظ، وإن كان فيها حافظ فإن كان مستيقظا قطع السارق مغلقا كان الباب أو مفتوحا لانه محرز به، وإن كان نائما فإن كان مغلقا قطع لانه محرز، وإن كان مفتوحا لم يقطع لانه غير محرز، وان سرق متاع الصيادلة والبقالين من الدكاكين في الاسواق ودونها أغلاق أو درابات وعليها قفل أو سرق أواني الخزف ودونها شرايح القصب، فإن كان الامن ظاهرا قطع السارق لان ذلك حرز مثله وإن قل الامن، فإن كان في السوق حارس قطع لانه محرز به، وإن لم يكن حارس لم يقطع لانه غير محرز، وإن سرق باب دار أو دكان قطع لان حرزه بالنصب، وإن سرق حلقة الباب وهى مسمرة فيه قطع لانها محرزة بالتسمير في الباب، وإن سرق آجر الحائط قطع لانه محرز بالتشريج في البناء.
وإن سرق الطعام أو الدقيق في غراثر شد بعضها إلى بعض في موضع البيع قطع على المنصوص، فمن أصحابنا من قال: إن كان في موضع مأمون في وقت الامن فيه ظاهر ولم يمكن أخذ شئ منه إلا بحل رباطه أو فتق طرفه قطع لان العادة تركها في موضع البيع.
ومن أصحابنا من قال لا يقطع إلا أن يكون في بيت دونه باب مغلق، والذى نص عليه الشافعي رحمه الله في غير العراق.
وان سرق حطبا شد بعضه إلى بعض بحيث لا يمكن أن يسل منه شئ الا بحل رباطه قطع لانه محرز بالشد، وان كان متفرقا لم يقطع لانه غير محرز، ومن أصحابنا من قال لا يقطع الا أن يكون في بيت دونه باب مغلق مجتمعا كان أو

(20/84)


متفرقا، وان سرق أجزاعا ثقالا مطروحة على أبواب المساكن قطع لان العادة فيها تركها على الابواب.

(فصل)
وان نبش قبرا وسرق منه الكفن فإن كان في برية لم يقطع لانه ليس بحرز للكفن وانما يدفه في البرية للضرورة، وان كان في مقبرة تلى العمران قطع لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش قطعناه، ولان القبر حرز الكفن وان كان الكفن أكثر من خمسة أثواب فسرق ما زاد على الخمسة لم يقطع، لان ما زاد على الخمسة ليس بمشروع في الكفن فلم يجعل القبر حرزا له كالكيس المدفون معه، وان أكل السبع الميت وبقى الكفن ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه ملك للورثة يقسم عليهم، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأبى على الطبري، لان ذلك المال ينتقل إليهم بالارث، وانما اختص الميت بالكفن للحاجة وقد زالت الحاجة فرجع إليهم.

(والثانى)
أنه لبيت المال لانهم لم يورثوه عند الموت فلم يرثوه بعده.

(فصل)
وان نام رجل على ثوب فسرقه سارق قطع لما روى صفوان بن أمية أنه قدم المدينة فنام في المسجد متوسدا رداءه فجاءه سارق فأخذ رداءه من تحت رأسه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقطع يده، فقال صفوان انى لم أرد هذا هو عليه صدقة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فهلا قبل أن تأتيني به، ولانه محرز به.
وان زحف عنه في النوم فسرق لم يقطع لانه زال الحرز فيه، وان ضرب فسطاطا وترك فيه مالا فسرق وهو فيه، أو على بابه نائم أو مستيقظ قطع لان عادة الناس احراز المتاع في الخيم على هذه الصفة، وان لم يكن صاحبه معه لم يقطع السارق لانه لا يترك الفسطاط بلا حافظ.

(فصل)
وان كان ماله بين يديه وهو ينظر إليه فتغفله رجل وسرق ماله قطع لانه سرق من حرزه، وان نام أو اشتغل عنه أو جعله خلفه بحيث تناله
اليد فسرق لم يقطع لانه سرقه من غير حرز، وان علق الثياب في الحمام ولم

(20/85)


يأمر الحمامى بحفظها فسرقت لم يضمن الحمامى لانه لا يلزمه حفظها ولا يقطع السارق لانه سرق من غير حرز، لان الحمام مستطرق، وإن أمر الحمامى بحفظها فسرقت، فإن كان الحمامى مراعيا له لم يضمن لانه لم يفرط ويقطع السارق لانه سرق من حرز، وإن نام الحمامى أو تشاغل عن الثياب فسرقت ضمن الحمامى لانه فرط في الحفظ ولم يقطع السارق لانه سرق من غير حرز.

(فصل)
فإن سرق ماشية من الرعى نظرت فإن كان الراعى ينظر إليها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع السارق لانها في حرز، وإن سرق والراعي نائم أو سرق منها ما غاب عن عينه بحائل لم يقطع لان الحرز بالحفظ، وما لا يراه غير محفوظ، وإن سرق ما لا يبلغها صوته لم يقطع لانها تجتمع وتفترق بصوته وإذا لم يبلغها صوته لم تكن في حفظه فلم يجب القطع بسرقته.
وإن سرق ماشية سائرة أو جمالا مقطرة فإن كان خلفها سائق ينظر إليها جميعها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع لانها محرزة به.
وإن سرق منه ما غاب عن عينه أو ما لم يبلغه صوته لبعده لم يقطع لما ذكرناه في الراعية، وإن كان مع الجمال قائد إذا التفت نظر إلى جميعها وبلغها صوته إذا زجرها وأكثر الالتفات إليها قطع لانها محرزة بالقائد، وإن سرق ما لا ينظر إليه إذا التفت أو لا يبلغه صوته أو لم يكثر الالتفات إليها لم يقطع لانه سرق من غير حرز، وإن كانت الجمال باركة فإن كان صاحبها ينظر إليها قطع السارق لانها محرزة بحفظه وإن سرق وصاحبها نائم فإن كانت غير معقلة لم يقطع لانها غير محرزة، وان كانت معقلة قطع لان عادة الجمال إذا نام أن يعقلها، وإن كان على الجمال أحمال كان حرزها كحرز الجمال، لان العادة ترك الاحمال على الجمال.
(الشرح) حديث البراء بن عازب (من حرق ... ) أخرجه البيهقى في المعرفة من حديث بشر بن حازم عن عمران بن يزيد بن البراء عن أبيه عن جده، وقال البيهقى في هذا الاسناد بعض من يجهل حاله.
وقال البخاري في التاريخ، قال هشيم نا سهيل شهدت ابن الزبير قطع نباشا وسكت عليه الحافظ في التلخيص بينما قال البيهقى في السنن الكبرى، قال البخاري

(20/86)


قال عباد بن العوام (عن سهيل) كنا نتهمه بالكذب - يعنى سهيلا - وهو سهيل بن ذكوان.
حديث صفوان بن أمية (أنه قدم المدينة..) أخرجه البيهقى، وقال الشوكاني في النيل، وكذا الحافظ في التلخيص، قال البيهقى ليس بصحيح، وفى النسخة المصورة للسنن الكبرى لم أعثر على ما أورداه، رغم أن البيهقى أورده فيها من طريقين.
وروى الخمسة الا الترمذي نحوه وأحمد ومالك والشافعي والحاكم بطرق منها عن طاوس عن صفوان وطعن في سماع الاول من الثاني، وقال ابن عبد البر سماع طاوس من صفوان ممكن لانه أدرك زمن عثمان، وروى عنه أنه قال: أدركت سبعين صحابيا، ورواه مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ صفوان عن أبيه وقد صححه ابن الجارود والحاكم وله شاهد من حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قال الحافظ ضعيف ورواه البزار مرسلا.
حديث أبو الزبير عن جابر قال: أضاف رجل رجلا..) قال الحافظ لم أجده (قلت) وقد أخرج البيهقى في السنن الكبرى عن ابن لعبيد بن الابرص قال شهدت عليا أتى برجل اختلس من رجل ثوبه، فقال المختلس انى كنت أعرفه (وفى فسخ انى كنت أعرته) فلم يقطعه على.
حديث محمد بن حاطب أو الحارث أن رجلا قدم المدينة ... أخر جه مالك والشافعي وفى سنده انقطاع، والدارقطني وسعيد بن منصور وعبد الرزاق.
حديث ادرءوا الحدود بالشبهات..سبق تخريجه.
أثر (أن عاملا كتب إلى عمر..روى البيهقى من طريق الشعبى يقول ليس على من سرق من بيت المال قطع.
وروى ابن ماجه عن ابن عباس أن عبدا من رقيق الخمس سرق من المغنم، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه وقال: مال الله سرق بعضه بعضا.
واسناده ضعيف.
وأخرج ابن أبى شيبة أن رجلا سرق من بيت المال، فكتب فيه سعد إلى

(20/87)


عمر ثم ذكر أثر (أن عمر قطع سارقا سرق نبطية) قال الحافظ في التلخيص لم أجده أثر عبد الله بن عمر والحضرمى (أن غلاما سرق مرآة امرأتي) أخرجه مالك والشافعي والدارقطني.
قول عمر في سرقة غلام الحضرمي سبق تخريجه.
قول عمر لا قطع في عام؟ ؟ لم أجده وقرأته في منار السبيل بدون تخريج وفيه قيل لاحمد تقول به؟ قال إى لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة والناس في شدة ومجاعة.
حديث (أمر في سارق رداء صفوان) سبق تخريجه.
حديث عائشة (أتى بسارق قد سرق) أخرجه البيهقى ومتفق عليه بنحوه حديث أبى هريرة (وان سرق فاقطعوا يده) أخرجه الدارقطني وفى اسناده الواقدي، ورواه الشافعي عن أبى هريرة: السارق إذا سرق فاقطعوا يده، ثم ان سرق فاقطعوا رجله، ثم ان سرق
فاقطعوا يده، ثم ان سرق فاقطعوا رجله) ورواه الطبراني بإسناد ضعيف.
اللغة: قوله (ليس في الثمر المعلق قطع الا ما أواه الجرين) المعلق ما دام على النخلة فهو معلق على القنو، والجرين موضع يجفف فيه الثمر، وهو الجرن أيضا، ويسمى أيضا المربد والبيدر والابدر، والمجن البرس لانه يجن أي يستر والجمع المجان بالفتح وأصله مجابن بوزن مفاعل فأدغم، ومنه الحديث: كأن وجوههم المجان المطرقة.
قوله (فإن سرق مالا مثمنا) يقال شئ مثمن وثمين، أي مرتفع الثمن لا يباع الا بالثمن الكثير، والخانات جمع يبيع التجار، والخان أيضا موضع ينزله المسافرون.
قوله (ودونها أغلاق) جمع غلق وهو المغلاق الذى يغلق به الباب معروف ويقال الغلوق أيضا بالضم، والرباطات جمع رباط وهو ما يسكنه النساك والعباد.
والجواسق جمع جوسق وهو منظر يبنى في البساتين، والجوسق القصر أيضا قوله (متاع الصيادلة) هم الذين يبيعون العقاقير والادوية وأحدهم صيدلالى

(20/88)


والصيدنانى بالنون أيضا لغة فيه، وزيادة الالف والنون فيه للمبالغة، وهو في النسب كثير.
قوله (ودونها أغلاق أو درابات) هي شباك من خيوط تجعل على الدكاكين بالنهار.
قوله (شرائح القصب) جمع شريحة، هو شئ ينسج من القصب بعد أن يشق يكون مشبكا مثل الشريحة التى تعمل من سعف النخل يحمل فيها البطيخ وسميت بذلك لتماثلها واستوائها: يقال اشبه شرح شرحا وهو مثل.
قيل إن يوسف ابن عمر شريح الحجاج.
أي مثله، وتشريح الشئ بالشئ مداخلته وتشريح العيبة مداخلة عراها.
قوله (وان زحف عنه) أي تزلج وافسل قليلا قليلا، من زحف الصبى على الارض قبل أن يمشى.
والفسطاط قد ذكر والمحجن عود معقف الطرف وأصله من الحجن بالتحريك وهو الاعوجاج.
قوله (طعام فانثال) أي انصب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجب القطع إلا بأن يخرج المال من الحرز بفعله، فإن دخل الحرز ورمى المال إلى خارج الحرز أو نقب الحرز وأدخل يده أو محجنا معه فأخرج المال قطع، وإن دخل الحرز وأخذ المال ودفعه إلى آخر خارج الحرز قطع لانه هو الذى أخرجه، فإن أخرجه ولم يأخذ منه الآخر فرده إلى الحرز لم يسقط القطع لانه وجب القطع بالاخراج فلم يسقط بالرد، وإن ربط جيبه أو كمه فوقع منه المال أو نقب حرزا فيه طعام فانثال قطع لانه خرج بفعله، وإن كان في الحزر ماء جار فترك فيه المال حتى خرج إلى خارج الحرز قطع لانه خرج بسبب فعله، وإن تركه في ماء راكد فحركه حتى خرج المال قطع لما ذكرناه وإن حركه غيره لم يقطع، لانه لم يخرج المال بفعله، وان تفجر الماء وخرج المال ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يقطع لانه سبب لخروجه
(والثانى)
أنه لا يقطع لان خروجه بالانفجار الحادث من غير فعله.

(20/89)


وإن وضع المال في النقب في وقت هبوب الريح فأطارته الريح إلى خارج الحرز قطع كما لو تركه في ماء جار، وان وضعه ولا ريح ثم هبت ريح فأخرجته ففيه وجهان كما قلنا فيما لو تركه في ماء راكد فتفجر الماء فخرج به، فإن وضع المال على حمار ثم قاده أو ساقه حتى خرج من الحرز قطع لانه خرج بسبب فعله وان خرج الحمار من غير سوق ولا قود ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يقطع لان عادة البهائم إذا أثقلها الحمل أن تسير.

(والثانى)
أنه لا يقطع لانه سار باختياره.
وان ثقب الحرز وأمر صغيرا لا يميز بإخراج المال من الحرز فأخرجه قطع، لان الصغير كالآلة، وإن دخل الحرز وأخذ جوهرة فابتلعها وخرج ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا يقطع لانه استهلكها في الحرز، ولهذا يجب عليه قيمتها فلم يقطع كما لو أخذ طعاما فأكله.

(والثانى)
أنه يقطع لانه أخرجه من الحرز في وعاء فأشبه إذا جعلها في جيبه ثم خرج، وان أخذ طيبا فتطيب به ثم خرج، فإن لم يمكن أن يجتمع منه قدر النصاب لم يقطع لانه استهلكه في الحرز فصار كما لو كان طعاما فأكله، وان أمكن أن يجتمع منه قدر النصاب ففية وجهان
(أحدهما)
أنه لا يقطع لان استعمال الطيب اتلاف له فصار كالطعام إذا أكله في الحرز
(والثانى)
أنه يقطع لان عينه باقية، ولهذا يجوز لصاحبه أن يطالبه برده.

(فصل)
ولا يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز، فإن سرق جذعا أو عمامة فأخذ قبل أن ينفصل الجميع من الحرز لم يقطع لانه لا ينفرد بعضه عن بعض، ولهذا لو كان في طرف منه نجاسة لم تصح صلاته فيه، فإذا لم يجب القطع فيما بقى من الحرز لم يجب فيما خرج منه.
وان ثقب رجلان حرزا فأخذ أحدهما المال ووضعه على باب الثقب وأخذه الآخر ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه يجب عليهما القطع، لانا لو لم نوجب القطع عليهما صار هذا طريقا إلى اسقاط القطع.

(20/90)


(والثانى)
أنه لا يقطع واحد منهما، وهو الصحيح، لان كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز، وإن ثقب أحدهما الحرز ودخل الاخر واخرج
المال ففيه طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالمسألة قبلها، ومنهم من قال لا يجب القطع قولا واحدا، لان أحدهما نقب ولم يخرج المال والاخر أخرج.
المال من غير حرزه.

(فصل)
وإن فتح مراحا فيه غنم فحلب من ألبانها قدر النصاب وأخرجه قطع لان الغنم مع اللبن في حرز واحد فصار كما لو سرق فصابا من حرزين في بيت واحد
(فصل)
فإن دخل السارق إلى دار فيها سكان ينفرد كل واحد منهم ببيت مقفل فيه مال ففتح ببتا وأخرج المال إلى صحن الدار قطع لانه أخرج المال من حرزه، وإن كانت الدار لواحد وفيها بيت فيه مال فأخرج السارق المال من البيت إلى الصحن، فإن كان باب البيت مفتوحا وباب الدار مغلقا لم يقطع لان ما في البيت محرز بباب الدار، وإن كان باب الدار مفتوحا وباب البيت مغلقا قطع لان المال محرز بالبيت دون الدار، وإن كان باب البيت مفتوحا وباب الدار مفتوحا لم يقطع لان المال غير محرز.
وإن كان باب البيت مغلقا وباب الدار مغلقا ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يقطع لان البيت حرز لما فيه فقطع، كما لو كان باب الدار مفتوحا
(والثانى)
أنه لا يقطع لان البيت المغلق في دار مغلقة حرز في حرز فلم يقطع بالاخراج من أحدهما، كما لو كان في بيت مقفل صندوق مقفل فأخرج المال من الصندوق ولم يخرجه من البيت.

(فصل)
وإن سرق الضيف من مال المضيف نظرت فإن سرقه من مال لم يحرزه عنه لم يقطع لما روى أبو الزبير عن جابر قال: أضاف رجل رجلا فأنزله في مشربة له فوجد متاعا له قد اختانه فيه، فأتى به أبا بكر رضى الله عنه فقال خل عنه فليس بسارق وانما هي أمانة اختانها، ولانه غير محرز عنه فلم يقطع فيه، وإن سرقه من بيت مقفل قطع، لما روى محمد بن حاطب أو الحارث أن
رجلا قدم المدينة فكان يكثر الصلاة في المسجد وهو أقطع اليد والرجل، فقال له

(20/91)


أبو بكر رضى الله أنه ماليك بليل سارق، فلبثوا ما شاء الله ففقدوا حليا لهم، فجعل الرجل يدعو على من سرق أهل هذا البيت الصالح، فمر رجل بصائغ فرأى عنده حليا، فقال ما أشبه هذا الحلى بحلى آل أبى بكر، فقال للصائغ ممن اشتريته فقال من ضعيف أبى بكر فأخذ فأقر، فجعل أبو بكر رضى الله عنه يبكى، فقالوا ما يبكيك من رجل سرق، فقال أبكى لغرته بالله تعالى، فأمر به فقطعت يده، ولان البيت المغلق حرز لما فيه فقطع بالسرقة منه.

(فصل)
ولا يجب القطع بسرقة ما ليس بمال كالكلب والخنزير والخمر والسرجين، سواء سرقه من مسلم أو من ذمى لان القطع جعل لصيانة الاموال وهذه الاشياء ليس بمال فإن سرق اناء يساوى نصابا فيه خمر ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا يقطع لان ما فيه تجب اراقته ولا يجوز اقراره فيه
(والثانى)
أنه يقطع لان سقوط القطع فيما فيه لا يوجب سقوط القطع فيه، كما لو سرق اناء فيه بول.

(فصل)
وان سرق صنما أو بربطا أو مزمارا، فإن كان إذا فصل لم يصلح لغير معصية لم يقطع، لانه لا قيمة لما فيه من التأليف، وان كان إذا فصل يصلح لمنفعة مباحة ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يقطع لانه مال يقول على متلفه
(والثانى)
أنه لا يقطع لانه آلة معصيه فلم يقطع بسرقته كالخمر (وَالثَّالِثُ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رحمه الله أنه ان أخرجه مفصلا قطع لزوال المعصية، وان أخرجه غير مفصل لم يقطع لبقاء المعصية، وان سرق أواني الذهب والفضة قطع، لانها تتخذ للزينة لا المعصية.

(فصل)
وان سرق حرا صغيرا لم يقطع لانه ليس بمال، وان سرقه وعليه حلى بقدر النصاب ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يقطع لانه قصد سرقة ما عليه من المال
(والثانى)
أنه لا يقطع لان يده ثابتة على ما عليه، ولهذا لو وجد لقيط ومعه مال كان المال له فلم يقطع، كما لو سرق جملا وعليه صاحبه، وان سرق أم ولد نائمة ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يقطع لانها تضمن باليد فقطع بسرقتها كسائر الاموال

(20/92)


(والثانى)
أنه لا يقطع لانه معنى المال فيها ناقص لانه لا يمكن نقل الملك فيها، وإن سرق عينا موقوفة على غيره ففيه وجهان كالوجهين في أم الولد، وإن سرق من غلة وقف على غيره قطع لانه مال يباع ويبتاع، وان سرق الماء ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يقطع لانه يباع ويبتاع
(والثانى)
أنه لا يقطع لانه لا يقصد إلى سرقته لكثرته.

(فصل)
ولا يقطع فيما له فيه شبهة لقوله عليه الصلاة والسلام: ادرءوا الحدود بالشبهات، فإن سرق مسلم من مال بيت المال لم يقطع لما روى أن عاملا لعمر رضى الله عنه كتب إليه يسأله عمن سرق من مال بيت المال؟ قال لا تقطعه فما من أحد الا وله فيه حق.
وروى الشعبى أن رجلا سرق من بيت المال فبلغ عليا كرم الله وجهه فقال ان له فيه سهما ولم يقطعه وان سرق ذمى من بيت المال قطع لانه لا حق له فيه وان كفن ميت بثوب من بيت المال فسرقه سارق قطع، لان بالتكفين به انقطع عنه حق سائر المسلمين، وان سرق من غلة وقف على المسلمين لم يقطع لان له فيه حقا، وان سرق فقير من غلة وقف على الفقراء لم يقطع لان له فيها حقا، وان سرق منها غنى قطع لانه لا حق لها فيها.

(فصل)
وان سرق رتاج الكعبة أو باب المسجد أو تأزيره قطع لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قطع سارقا سرق قبطية من مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولانه مال محرز بحرز مثله لا شبهة له فيه، وان سرق مسلم من قناديل المسجد أو من حصره لم يقطع لانه جعل ذلك لمنفعة المسلمين وللسارق فيها حق، وان سرقه ذمى قطع لانه لا حق له فيها.

(فصل)
ومن سرق من ولده أو ولد ولده وان سفل، أو من أبيه أو من جده وان علا لم يقطع.
وقال أبو ثور يقطع، لقوله عز وجل (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) فعم ولم يخص، وهذا خطأ لقوله عليه الصلاة والسلام (ادرءوا الحدود بالشبهات) وللاب شبهة في مال الابن وللابن شبهة في مال الاب، لانه جعل ماله كماله في استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه، والاية نخصها بما ذكرناه.

(20/93)


ومن سرق ممن سواهما من الاقارب قطع لانه لا شبهة له في ماله ولا يقطع العبد بسرقة مال مولاه.
وقال أبو ثور يقطع لعموم الآية، وهذا خطأ لما روى السائب بن يزيد أنه حضر عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ جاءه عبد الله بن عمرو الحضرمي فقال: إن غلامي هذا سرق فاقطع يده، فقال عمر ما سرق؟ فقال مرآة امرأتي، فقال له أرسله، خادمكم أخذ متاعكم، ولكن لو سرق من غيركم قطع، ولان يده كيد المولى بدليل أنه لو كان بيده مال فادعاه رجل كان القول فيه قول المولى، فيصير كما لو نقل ماله من زاوية داره إلى زاوية أخرى، ولان له في ماله شبهة في استحقاق النفقة فلم يقطع كالاب والابن، وان سرق من غيره قطع لقول عمر رضى الله عنه، ولانه لا شبهة له في مال غيره، وان سرق أحد الزوجين من الاخر ما هو محرز عنه ففيه ثلاثة أقوال.
(أحدها) أنه يقطع لان النكاح عقد على المنفعة فلا يسقط القطع في السرقة كالاجارة.

(والثانى)
أنه لا يقطع لان الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك أن يحجر عليها ويمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء فصار ذلك شبهة (والثالث) أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج، لان للزوجة حقا في مال الزوج بالنفقة، وليس للزوج حق في مالها، ومن لا يقطع من الزوجين بسرقة مال الاخر لا يقطع عبده بسرقة ماله لقول عمر رضى الله عنه في سرقه غلام الحضرمي الذى سرق مرآة امرأته أرسله فلا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم، ولان يد عبده كيده فكانت سرقته من ماله كسرقته.

(فصل)
وان كان له على رجل دين فسرق من ماله، فإن كان جاحدا له أو مماطلا له لم يقطع، لان له أن يتوصل إلى أخذه بدينه، وإن كان مقرا مليا قطع لانه لا شبهة له في سرقته، وان غصب مالا فأحرزه في بيت فنقب المعصوب منه البيت وسرق مع ماله نصابا من مال الغاصب ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه لا يقطع لانه هتك حرزا كان له هتكه لاخذ ماله

(20/94)


(والثانى)
أنه يقطع لانه لما سرق مال الغاصب علم أنه قصد سرقة مال الغاصب (والثالث) أنه ان كان ما سرقه متميزا عن ماله قطع لانه لا شبهة له في سرقته، وان كان مختلطا بماله لم يقطع لانه لا يتميز ما يحب فيه القطع مما لا يجب فيه فلم يقطع.
وان سرق الطعام عام المجاعة نظرت ان كان الطعام موجودا قطع لانه غير محتاج إلى سرقته، وان كان معدوما لم يقطع لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: لا قطع في عام المجاعة أو السنة، ولان له أن يأخذه فلم يقطع فيه.

(فصل)
وان نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق منها مالا للمستأجر قطع لانه لا شبهة له في ماله ولا في هتك حرزه، وان نقب المعير الدار المستعارة وسرق منها مالا للمستعير ففيه وجهان.

(أحدهما)
انه لا يقطع لان له أن يرجع في العارية فجعل النقب رجوعا.

(والثانى)
وهو المنصوص أنه يقطع لانه أحرز ماله بحرز يحق فأشبه إذا نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق مال المستأجر، وان غصب رجل مالا أو سرقه وأحرزه فجاء سارق فسرقه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يقطع لانه حرز لم يرضه مالك
(والثانى)
أنه يقطع لانه سرق ما لا شبهة له فيه من حرز مثله
(فصل)
وان وهب المسروق منه العين المسروقة من السارق بعد ما رقع إلى السلطان لم يسقط القطع لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر في سارق رداء صفوان أن تقطع يده: فقال صفوان انى لم أرد هذا هو عليه صدقة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهلا قبل أن تأتيني به، ولان ما حدث بعد وجوب الحد ولم يوجب شبهة في الوجوب فلم يؤثر في الحد كما لو زنى وهو عبد فصار حرا قبل أن يحد أو زنى وهو بكر فصار ثيبا قبل أن يحد.
وان سرق عينا قيمتها ربع دينار فنقصت قيمتها قبل أن يقطع لم يسقط القطع لما ذكرناه، وان ثبتت السرقة بالبينة فأقر المسروق منه بالملك السارق أو قال كنت أبحته له سقط القطع لانه يحتمل أن يكون صادقا في اقراره، وذلك شبهة فلم يجب معها الحد.

(20/95)


وإن ثبتت السرقة بالبينة فادعى السارق أن المسروق ماله وهبه منه أو أباحه له وأنكر المسروق منه ولم يكن للسارق بينة لم يقبل دعواه في حق المسروق منه
لانه خلاف الظاهر بل يجب تسليم المال إليه.
وأما القطع فالمنصوص أنه لا يجب لانه يجوز أن يكون صادقا وذلك شبهة فمنعت وجوب الحد.
وذكر أبو إسحاق وجها آخر أنه يقطع لانا لو أسقطنا القطع بدعواه أفضى إلى أن لا يقطع سارق، وهذا خطأ لانه يبطل به إذا ثبت عليه الزنا بامرأة وادعى زوجيتها فإنه يسقط الحد وان أفضى ذلك إلى اسقاط حد الزنا، وان ثبتت السرقة بالبينة والمسروق منه غائب فالمنصوص في السرقة أنه لا يقطع حتى يحضر فيدعى، وقال فيمن قامت البينة عليه أنه زنى بأمة ومولاها غائب أنه يحد ولا ينتظر حضور المولى فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة مذاهب.
(أحدها) وهو قول أبى العباس ابن سريج رحمه الله انه لا يقام عليه الحد في المسألتين حتى يحضر، وما روى في حد الزنا سهو من الناقل، ووجهه أنه يجوز أن يكون عند الغائب شبهة تسقط الحد بأن يقول المسروق منه كنت أبحته له، ويقول مولى الامة كنت وقفتها عليه، والحد يدرأ بالشبهة فلا يقام عليه قبل الحضور.

(والثانى)
وهو قول أبى اسحق أنه ينقل جواب كل واحدة منهما إلى الاخرى فيكون في المسألتين قولان
(أحدهما)
أنه لا يحد لجواز أن يكون عند الغائب شبهة
(والثانى)
أنه يحد لانه وجب الحد في الظاهر فلا يؤخر.
(والثالث) وهو قول أبى الطيب ابن سلمة وأبى حفص بن الوكيل أنه يحد الزانى ولا يقطع السارق على ما نص عليه، لان حد الزنا لا تمنع الاباحة من وجوبه، والقطع في السرقة تمنع الاباحة من وجوبه، وان ثبتت السرقة والزنا بالاقرار فهو كما لو ثبتت بالبينة فيكون على ما تقدم من المذاهب.
ومن أصحابنا من قال فيه وجه آخر أنه يقطع السارق ويحد الزانى في الاقرار وجها واحدا، والصحيح أنه كالبينة، وإذا قلنا انه ينتظر قدوم الغائب ففيه
وجهان
(أحدهما)
أنه يحبس لانه قد وجب الحد وبقى الاستيفاء فحبس كما يحبس

(20/96)


من عليه القصاص إلى أن يبلغ الصبى ويقدم الغائب
(والثانى)
أنه ان كان السفر قريبا حبس إلى أن يقدم الغائب، وان كان السفر بعيدا لم يحبس لان في حبسه اضرارا به والحق لله عز وجل فلم يحبس لاجله.

(فصل)
وإذا ثبت الحد عند السلطان لم يجز العفو عنه ولا تجوز الشفاعة فيه، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسارق قد سرق فأمر به فقطع، فقيل يا رسول الله ما كنا نراك تبلغ به هذا؟ قال لو كانت فاطمة بنت محمد لاقمت عليها الحد.
وروى عروة قال: شفع الزبير في سارق فقيل حتى يأتي السلطان، قال إذا بلغ السلطان فلعن الله الشافع والمشفع كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولان الحد لله فلا يجوز فهى العفو والشفاعة.

(فصل)
وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا قطعت يده اليسرى فإن سرق رابعا قطعت رجله اليمنى لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في السارق وان سرق فاقطعوا يده ثم ان سرق فاقطعوا رجله ثم ان سرق فاقطعوا يده ثم ان سرق فاقطعوا رجله، وان سرق خامسا لم يقتل لان النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث أبى هريرة ما يجب عليه في أربع مرات، فلو وجب في الخامسة قتل لبين، ويعزر لانه معصية ليس حد فيها ولا كفارة فعزر فيها.

(فصل)
وتقطع اليد من مفصل الكف لما روى عن أبى بكر رضى الله عنهما أنهما قالا: إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع، ولان البطش بالكف وما زاد من الذراع تابع ولهذا تجب الدية فيه، ويجب فيما زاد الحكومة،
وتقطع الرجل من مفصل القدم.
وقال أبو ثور: تقطع الرجل من شطر القدم لما روى الشعبى قال: كان على عليه السلام يقطع الرجل من شطر القدم ويترك له عقبا ويقول أدع له ما يعتمد عليه، والمذهب ما ذكرناه، والدليل عليه ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كان يقطع القدم من مفصلها، ولان البطش بالقدم ويجب فيها الدية فوجب قطعه.

(20/97)


(فصل)
وإن سرق ولا يمين له قطعت الرجل اليسرى، فإن كانت له يمين عند السرقة فذهبت بآكلة أو جنابة سقط الحد، ولم ينتقل الحد إلى الرجل والفرق بين المسئلتين أنه إذا سرق ولا يمين له تعلق الحد بالعضو الذى يقطع بعدها، وإذا سرق وله يمين تعلق القطع بها، فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع فسقط، وإن سرق وله يده ناقصة الاصابع قطعت، لان اسم اليد يقع عليها، وإن لم يبق غير الراحة ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يقطع وينتقل الحد إلى الرجل، لانه قد ذهبت المنفعة المقصودة بها، ولهذا لا يضمن بأرش مقدر فصار كما لو لم يبق منها شئ.

(والثانى)
أنه يقطع ما بقى لانه بقى جزء من العضو الذى تعلق به القطع فوجب قطعه، كما لو بقيت أنملة، فإن سرق وله يد شلاء فإن قال أهل الخبرة إنها إذا قطعت انسدت عروقها قطعت، وان قالوا لا تنسد عروقها لم تقطع لان قطعها يؤدى إلى أن يهلك.

(فصل)
وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة، لما روى فضالة ابن عبيد قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسارق فأمر به فقطعت يده ثم أمر فعلقت في رقبته، ولان في ذلك ردعا للناس ويجسم موضع القطع لِمَا رَوَى
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بسارق فقال اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتونى به، فقطع فأتى به فقال: تب إلى الله تعالى، فقال تبت إلى الله تعالى، فقال تاب الله عليك والحسم هو أن يغلى الزيت غليا جيدا ثم يغمس فيه موضع القطع لتنحسم العروق وينقطع الدم، فإن ترك الحسم جاز لانها مداواة فجاز تركها وأما ثمن الزيت وأجرة القاطع فهو في بيت المال لانه من المصالح، فإن قال أنا أقطع بنفسى ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يمكن كما لا يمكن في القصاص.

(والثانى)
أنه يمكن لان الحق لله تعالى والقصد به التنكيل، وذلك قد يحصل بفعله بخلاف القصاص فإنه يجب للآدمي للتشفي فكان الاستيفاء إليه

(20/98)


(فصل)
وإن وجب عليه قطع يمينه فأخرج يساره فاعتقد أنها يمينه أو اعتقد أن قطعها يجزئ عن اليمين فقطعها القاطع ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص أنه يجزئه عن اليمين لان الحق لله تعالى ومبناه على المساهلة فقامت اليسار فيه مقام اليمين.

(والثانى)
أنه لا يجزئه لانه قطع غير العضو الذى تعلق به القطع، فعلى هذا ان كان القاطع تعمد قطع اليسار وجب عليه القصاص في يساره، وان قطعها وهو يعتقد أنها يمينه، أو قطعها وهو يعتقد أن قطعها يجزئه عن اليمين.
وجب عليه نصف الدية.

(فصل)
إذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله وقطع ولا يمنع أحدهما الآخر، لان الضمان يجب لحق الآدمى والقطع يجب لله تعالى فلا يمنع أحدهما الآخر كالدية والكفارة.
(الشرح) الشرط في وجوب هذا الحد فهو الحرز، وذلك أن جميع فقهاء.
الامصار الذين تدور عليهم الفتوى وأصحابهم متفقون على اشتراط الحرز في وجوب القطع، وان كان قد اختلفوا فيما هو حرز مما ليس بحرز، والاشبه أن يقال في حد الحرز أنه ما شأنه أن تحفظ به الاموال كى يعسر أحذها، مثل الاغلاق والحظأر وما أشبه ذلك، وفى الفعل الذى إذا فعله السارق اتصف بالاخراج من الحرز.
وممن ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأصحابهم وقال أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث القطع على من سرق النصاب، وان سرقه من غير حرز.
فعمدة الجمهور حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال (لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن، ومرسل مالك بنحوه، وعمدة أهل الظاهر عموم الآية، قالوا فوجب أن تحمل الآية على عمومها الا ما خصصته السنة الثابتة من ذلك، وقد خصصت المقدار الذى يقطع فيه من الذى لا يقطع وردوا حديث شعيب لموضع الاختلاف فيه وقال ابن عبد البر العمل بها واجب

(20/99)


إذا رواها الثقات وأما الحرز عند الذين أوجبوه فإنهم اتفقوا منه على أشياء واختلفوا في أشياء مثل اتفاقهم على أن باب البيت وغلقه حرز، واختلافهم في الاوعية، مثل اتفاقهم على أن من سرق من بيت دار غير مشتركة السكنى أنه لا يقطع حتى يخرج من الدار، واختلافهم في الدار المشتركة، فقال مالك وكثير ممن اشترط الحرز تقطع يده إذا أخرج من البيت، وقال أبو يوسف ومحمد: لا قطع عليه إلا إذا أخرج من الدار.
ومنها اختلافهم في القبر هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش أو ليس
بحرز، فقال مالك والشافعي وأحمد وجماعة (هو حرز وعلى النباش القطع) وبه قال عمر بن عبد العزيز.
وقال أبو حنيفة (لا قطع عليه) وكذلك قال سفيان الثوري، وروى ذلك عن زيد بن ثابت، والحرز عند مالك بالجملة هو كل شئ جرت العادة بحفظ ذلك الشئ المسروق فيه.
فمرابط الدواب عنده أحراز وكذلك الاوعية وما على الانسان من اللباس فالانسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده.
وإذا توسد النائم شيئا فهو له حرز على ما جاء في حديث صفوان، وما أخذ من المنتبه فهو اختلاس، ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبى من الحلى أو غيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه، ومن سرق من الكعبة شيئا لم يقطع عنده وكذلك من المساجد.
وقد قيل في المذهب أنه ان سرق منها ليلا قطع، واتفق القائلون بالحرز على أن كل من سمى مخرجا للشئ من حرزه وجب عليه القطع، وسواء كان داخل الحرز أو خارجه وإذا ترددت التسمية وقع الخلاف، مثل اختلاف إذا كان سارقان أحدهما داخل البيت والآخر خارجه، فقرب أحدهما المتاع المسروق إلى ثقب في البيت فتناوله الاخر، فقيل القطع على الخارج المتناول له، وقيل لا قطع على واحد منهما، وقيل القطع على المقرب للمتاع من الثقب، والخلاف في هذا كله آيل إلى انطلاق اسم المخرج من الحرز عليه أو لا انطلاقه فهذا هو القول في الحرز واشتراطه في وجوب القطع، ومن رمى بالمسروق من الحرز ثم أخذه خارج الحرز قطع، وقد توقف مالك فيه إذا أخذ بعد رميه وقبل أن يخرج، وقال ابن القاسم يقطع.

(20/100)


وأما جنس المسروق فإن العلماء اتفقوا على أن كل متملك غير ناطق يجوز بيعه وأخذ العوض عنه فإنه يجب في سرقته القطع ما عدا الاشياء الرطبة المأكولة
والاشياء التى أصلها الاباحة فانهم اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أن القطع في كل متمول يجوز بيعه وأخذ العوض فيه.
وقال أبو حنيفة: لا قطع في الطعام ولا فيما أصله مباح كالصيد فعمدة الجمهور عموم الآية الموجبة للقطع وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب، وعمدة أبى حنيفة في منعه القطع في الطعام الرطب قوله عليه السلام (لا قطع في ثمر ولا كثر) وعمدته أيضا في منع القطع فيما أصله مباح الشبهة التى فيه لكل مالك، وذلك أنهم اتفقوا على أن من شرط المسروق الذى يجب فيه القطع أن لا يكون للسارق فيه شبهة ملك.
واختلفوا في سرقة المصحف، فقال مالك والشافعي يقطع سارقه، وقال أبو حنيفة لا يقطع، ولعل هذا من أبى حنيفة بناء على أنه لا يجوز بيعه أو أن لكل أحد فيه حقا إذ ليس بمال.
واختلفوا فيمن سرق صغيرا مملوكا أعجميا ممن لا يفقه ولا يعقل الكلام، فقال الجمهور يقطع، وأما إن كان كبيرا يفقه، فقال مالك: يقطع، وقال أبو حنيفة: لا يقطع.
وقالت الحنابلة: فان سرق حرا صغيرا فلا قطع، لانه ليس بمال، ثم روى عنهم أنه يقطع لحديث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى برجل يسرق الصبيان ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى فأمر بيده فقطعت) رواه الدارقطني وقال المالكيون إن سارقه (الحر الصغير) يقطع ولا يقطع عند أبى حنيفة وهو قول ابن الماجشون - واختلفوا إذا سرق العبد من مال سيده، فالجمهور على أنه لا يقطع، وقال أبو ثور يقطع، وقال أهل الظاهر يقطع إلا أن يأتمنه سيده واشترط مالك أن يكون بلى الخدمة لسيده بنفسه، والشافعي مرة اشترط هذا ومرة لم يشترطه ويدرأ الحد.

(20/101)


قال عمر وابن مسعود ولا مخالف لهما من الصحابة، وكذا إذا سرق الزوج من زوجته من مالها الخاص أو العكس فقال مالك: إذا كان كل واحد ينفرد ببيت فيه متاعه فالقطع على من سرق من مال صاحبه.
وقال الشافعي: الاحتياط أن لا قطع على أحد الزوجين لشبهة الاختلاط وشبهة المال، وقد روى عنه مثل قول مالك واختاره المزني.
وقالت الحنابلة: ولا يقطع أحد الزوجين بسرقته من ماله المحرز عنه اختاره الاكثر كمنعه نفقتها فتأخذها، أما مال القرابات فقال مالك: أن لا يقطع الاب فيما سرق من مال الابن لقوله عليه السلام (أنت ومالك لابيك) ويقطع ما سواهم من القرابات.
وقال الشافعي: لا يقطع عمود النسب الاعلى والاسفل، يعنى الاب والاجداد والابناء وأبناء الابناء.
وقال أبو حنيفة: لا يقطع ذوا الرحم المحرمة، وقال أبو ثور: تقطع يد كل من سرق إلا ما خصصه الاجماع.
وقالت الحنابلة: ويقطع كل قريب بسرقة مال قريبه إلا عمودي نسبه، وقيل إلا أبويه وان علوا، وقيل إلا ذى رحم محرم، وظاهر الواضح قطع غير أب ومن سرق من المغنم أو من بيت المال فقال مالك: يقطع، وقال عبد الملك من أصحابه لا يقطع.
وقالت الحنابلة: لا قطع على مسلم سرق من بيت المال لقول عمر وابن مسعود (من سرق من بيت المال فلا قطع ما من أحد إلا وله في هذا المال حق) وروى عن على (ليس على من سرق من بيت المال قطع) واتفقوا على أنه إذا ثبتت أركان الجريمة فقد وجب القطع والغرم إذا لم يجب القطع، واختلفوا هل
يجمع الغرم مع القطع، فقال قوم عليه الغرم والقطع، وبه قال الشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة.
وقال قوم: ليس عليه غرم إذا لم يجد المسروق منه متاعه بعينه، وبه قال أبو حنيفة والثوري وابن أبى ليلى وجماعة، وفرق مالك وأصحابه فقال: إن كان

(20/102)


موسرا اتبع السارق بقيمة المسروق، وإن كان معسرا لم يتبع به إذا أثرى، واشترط مالك دوام اليسر إلى يوم القطع فيما حكى عنه ابن القاسم وحجة من جمع الامرين أن في السرقة حقان، حق لله وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه، وأيضا فإنهم لما أجمعوا على أخذ هـ منه إذا وجد بعينه لزم إذا لم يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسا على سائر الاموال الواجبة، وعمدة الكوفيين حديث عبد الرحمن بن عوف أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد) وهذا الحديث ضعيف لانه مقطوع ووصله بعضهم وخرجه النسائي.
ويقولون إن القطع هو بدل الغرم وأن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للاصول، وأما تفرقة مالك فاستحسان على غير قياس، والقطع محله اليد اليمنى باتفاق من الكوع وقال قوم الاصابع فقط، ولا دليل عليه، واختلفوا فيمن قطعت يده اليمنى في السرقة، ثم عاد فقال أهل العراق والحجاز تقطع رجله اليسرى بعد اليمنى وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى ولا يقطع منه غير ذلك.
واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا، فقال سفيان وأبو حنيفة يقف القطع في الرجل وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط وقال مالك والشافعي إن سرق
ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعه قطعت رجله اليمنى، فإذا ذهب محل القطع من غير سرقة ان كانت اليد شلاء فقيل ينتقل القطع إلى اليد اليسرى وقيل إلى الرجل.
واختلف في موضع القطع من القدم، فقيل يقطع من المفصل الذى في أصل الساق، وقيل يدخل الكعبان في القطع، وقيل لا يدخلان، وقيل انها تقطع من المفصل الذى في وسط القدم، واتفقوا على أن لصاحب السرقة أن يعفو ما لم يرفع ذلك إلى الامام، واتفقوا على أن السرقة تثبت بشاهدين عدلين أو بإقرار السارق الحر.

(20/103)


واختلفوا في العبد فقال جمهور فقهاء الامصار إقراره على نفسه موجب للحد وليس يوجب عليه غرما وقال زفر لا يجب اقرار العبد على نفسه بما يوجب قتله ولا قطع لكونه مالا لمولاه، وبه قال شريح والشافعي وقتادة وجماعة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب حد قاطع الطريق

من شهر السلاح وأخاف السبيل في مصر أو برية وجب على الامام طلبه لانه إذا ترك قويت شوكته وكثر الفساد به في قتل النفوس وأخذ الاموال، فإن وقع قبل أن يأخذ المال ويقتل النفس عزر وحبس على حسب ما يراه السلطان لانه تعرض للدخول في معصية عظيمة فعزر كالمتعرض للسرقة بالنقب والمتعرض للزنا بالقبلة، وان أخذ نصابا محرزا بحرز مثله ممن يقطع بسرقة ماله وجب عليه قطع يده اليمنى ورجله اليسرى لما روى الشافعي عن ابن عباس أنه قال في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخدوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم
وأرجلهم من خلاف ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا وتقام عليهم الحدود لانه ساوى السارق في أخذ النصاب على وجه لا يمكن الاحتراز منه فساواه في قطع اليد وزاد عليه بإخافة السبيل بشهر السلاح فغلظ بقطع الرجل فإن لم يكن له اليد اليمنى وله الرجل اليسرى قطع الرجل فأن الحد تعلق بهما، فإذا فقد أحدهما تعلق الحد بالباقي، كما قلنا في السارق إذا كانت له يد ناقصة الاصابع، وان لم يكن له اليد اليمنى ولا الرجل اليسرى انتقل القطع إلى اليد اليسرى والرجل اليمنى، لان ما يبدأ به معدوم فتعلق الحد بما بعده، وان أخذ دون النصاب لم يقطع.
وخرج أبو على بن خيران قولا آخر أنه لا يعتبر النصاب كما لا يعتبر التكافؤ في القتل في المحاربة في أحد القولين، وهذا خطأ لانه قطع يجب بأخذ المال

(20/104)


فشرط فيه النصاب كالقطع في السرقة، فإن أخذ المال من غير حرز بأن انفرد عن القافلة أو أخذ من جمال مقطرة ترك القائد تعاهدها لم يقطع لانه قطع يتعلق بأخذ المال فشرط فيه الحرز كقطع السرقة.

(فصل)
وإن قتل ولم يأخذ المال انحتم قتله ولم يجز لولى الدم العفو عنه، لما روى ابن عباس رضى الله عنه قال: نزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل ولم يأخذ المال قتل، والحد لا يكون إلا حتما، ولان ما أوجب عقوبة في غير المحاربة تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة، كأخذ المال يغلظ بقطع الرجل.
وإن جرح جراحة توجب القود قهل يتحتم القود؟ فيه قولان
(أحدهما)
أنه يتحتم، لان ما أوجب القود في غير المحاربة انحتم القود فيه في المحاربة كالقتل.

(والثانى)
أنه لا يتحتم لانه تغليظ لا يتبعض في النفس فلم يجب فيما دون
النفس كالفكارة.

(فصل)
وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن أصحابنا من قال يصلب حيا ويمنع الطعام والشراب حتى يموت، وحكى أبو العباس بن القاص في التخليص عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يصلب ثلاثا قبل القتل، ولا يعرف هذا للشافعي، والدليل على أنه يصلب بعد القتل قوله صلى الله عليه وسلم: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة.
وإن كان الزمان باردا أو معتدلا صلب بعد القتل ثلاثا، وإن كان الحر شديدا وخيف عليه التغير قبل الثلاث حنط وغسل وكفن وصلى عليه وقال أبو على بن أبى هريرة رحمه الله يصلب إلى أن يسيل صديده وهذا خطأ لان في ذلك تعطيل أحكام الموتى من الغسل والتكفين والصلاة والدفن، وإن مات فهل يصلب فيه وجهان.

(أحدهما)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله أنه لا يصلب، لان الصلب تابع للقتل وصفة له، وقد سقط القتل فسقط الصلب،
(والثانى)
وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب الطبري رحمه الله أنه يصلب لانهما حقان فإذا تعذر أحدهما لم يسقط الآخر.

(20/105)


(فصل)
وإن وجب عليه الحد ولم يقع في يده الامام طلب إلى أن يقع فيقام عليه الحد لقوله عز وجل (أو ينفوا من الارض) وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يوجدوا فتقام عليهم الحدود
(فصل)
ولا يجب ما ذكرناه من الحد إلا على من باشر القتل أو أخذ المال فأما من حضر ردءا لهم أو عينا فلا يلزمه الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل
نفس بغير حق ويعزر لانه أعان على معصية فعزر، وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال وجب على من قتل القتل وعلى من أخذ المال القطع لان كل واحد منهم انفر بسبب حد فاختص بحده.

(فصل)
إذا قطع قاطع الطريق اليد اليسرى من رجل وأخذ المال قدم قطع القصاص سواء تقدم على أخذ المال أو تأخر، لان حق الآدمى آكد، فإذا اندمل موضع القصاص قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لاخذ المال، ولا يوالى بينهما لانهما عقوبتان مختلفتان فلا تجوز الموالاة بينهما، وإن قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وأخذ المال وقلنا إن القصاص يتحتم، نظرت فإن تقدم أخذ المال سقط القطع الواجب بسببه، لانه يجب تقديم القصاص عليه لتأكد حق الآدمى.
وإذا قطع للآدمي زال ما تعلق الوجوب به الاخذ المال فسقط وإن تقدمت الجناية لم يسقط الحد لاخذ المال فتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى لانه استحق بالجناية فيصير كمن أخذ المال، وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى فتعلق باليد اليسرى والرجل اليمنى
(فصل)
وإن تاب قاطع الطريق بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شئ مما وجب عليه من حد المحاربة لقوله عز وجل (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) فشرط في العفو عنهم أن تكون التوبة قبل القدرة عليهم، فدل على أنهم إذا تابوا بعد القدرة لم يسقط عنهم، وان تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما يختص بالمحاربة، وهو انحتام القتل والصلب وقطع الرجل للآية، وهل يسقط قطع اليد؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يسقط لانه قطع عضو

(20/106)


وجب بأخذ المال في المحاربة فسقط بالتوبة قبل القدره كقطع الرجل
(والثانى)

وهو قول أبى اسحاق انه لا يسقط لانه قطع يد لاخذ المال فلم يسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع السرقة
(فصل)
فأما الحد الذى لا يختص بالمحاربة ينظر فيه فإن كان للآدمي وهو حد القذف لم يسقط بالتوبة لانه حق للآدمي فلم يسقط بالتوبة كالقصاص، وان كان لله عز وجل وهو حد الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يسقط بالتوبة لانه حد لا يختص بالمحاربة فلم يسقط بالتوبة كحد القذف
(والثانى)
أنه يسقط وهو الصحيح، والدليل عليه قوله عز وجل في الزنا (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ان الله كان توابا رحيما) وقوله تعالى في السرقه (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ان الله غفور رحيم) وقوله صلى الله عليه وسلم (التوبة تجب ما قبلها) ولانه حد خالص لله تعالى فسقط بالتوبة كحد قاطع الطريق.
فإن قلنا انها تسقط نظرت فإن كانت وجبت في غير المحاربة لم تسقط بالتوبة حتى يقترن بها الاصلاح في زمان يوثق بتوبته لقوله تعالى (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) وقوله تعالى (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) فعلق العفو بالتوبة والاصلاح، ولانه قد يظهر التوبة التقية فلا يعلم صحتها حتى يقترن بها الاصلاح في زمان يوثق فيه بتوبته، وان وجبت عليه الحدود في المحاربة سقطت بإظهار التوبة والدخول في الطاعة لانه خارج من يد الامام ممتنع عليه فإذا أظهر التوبة لم تحمل توبته على التقية.
(الشرح) أثر ابن عباس (إذا قلتوا وأخذوا المال) أخرجه البيهقى والشافعي في مسنده أثر ابن عباس (نزل جبريل بالحد فيهم) أخرجه البيهقى، قلت وفى حديث العرنيين المتفق عليه وعتاب الله عز وجل لنبيه حينما قتلهم وسمل أعينهم ما ينص على وجوب الحد عليهم بما اجترحوا فقط، واختلاف الحدود باختلاف
الافعال كما قال ابن عباس حديث (إذا قتلتم) أخرج مسلم عن أبى يعلى شداد ابن أوس عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)

(20/107)


حديث (لا يحل دم أمرئ مسلم) سبق تخريجه حديث (التوبة تجب ما قبلها) لم أجده وأخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى (التوبة النصوح الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر الله تعالى ثم لا تعود إليه أبدا) اللغة: قوله (من شهر السلاح) أي سله وأخرجه من غمده، وأخاف السبيل أي الطريق والمصر البلد العظيم، قوله (قويت شوكته) الشوكة شدة البأس والحدة في السلاح وقد شاك يشاك شوكا أي ظهرت شوكته وحدته، قوله (انحتم قتله) أي وجب ولم يسقط بالعفو ولا الفداء، والحتم قطع الامر وإرامه من غير شك ولا نظر.
قوله (أو ينفوا من الارض) أي يطردوا نفيت فلانا أي طردته، وأما الفقهاء فقال بعضهم نفيهم أن يطلبوا حيث كانوا فيوجدوا، وقال بعضهم نفيهم أن يحبسوا، وقال بعضهم نفيهم أن يقتلوا فلا يبقوا.
قوله (فأما من حضر ردءا) أي عونا، قال الله تعالى (ردءا يصدقني) وأردأته أعنته.
قوله (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) أي رجعوا عما كانوا عليه من المعصية إلى الطاعة وفعل الخير.
وتوبة الله تعالى على عباده رجوعه عن الغضب إلى الرضا، وقد تكون توبة الله عليهم الرجوع من التشديد إلى النخفيف ومن الحظر إلى الاباحة كقوله (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) أي رجع بكم إلى التخفيف بعد التشديد وقوله (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم) أي أباح لكم ما حظر عليكم.
قوله (الصلب) أصل الصلب سيلان الصليب وهو الصديد والودك.
قال الشاعر: جريمة ناهض في رأس فيق
* نرى لعظام ما جمعت صليبا.
وقيل للمقتول الذى يربط على خشبة حتى يسيل صليبه صليب ومصلوب، وسمى ذلك الفعل صلبا، قوله عليه الصلاة والسلام (التوبة تجب ما قبلها) أصل التوبة الرجوع تاب إذا رجع، والجب القطع ولهذا قيل لمقطوع الذكر مجبوب قال ابن حزم في المراتب: واتفقوا أن الغاصب المجاهر الذى ليس محاربا لا قطع عليه، واتفقوا على أن المحارب هو قاطع الطريق وهو من شهر السلاح بلا سلاح خارج المصر سواء كان مسلما أو ذميا، وقال ابن حزم هو مسلم عاص واختلفوا في داخل المصر، فقال مالك داخله وخارجه سواء اشترط الشافعي

(20/108)


الشوكه ولم يشترط العدد والشوكه عنده قوة المغالبة، وقال أبو حنيفة لا تكون محاربة في المصر، وقالت الحنابلة: في صحراء أو في مصر وهو الاصح، والله تعالى أعلم.
أما ما يجب على المحارب فقال مالك إن قتل قتل ولا بد وليس للامام تخيير في قطعه ولا نفيه وانما التخيير في قتله أو صلبه، وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه وانما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه والتخيير راجع إلى اجتهاد الامام، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن هذه العقوبة مرتبة على الجنايات فلا يقتل من المحاربين الا من قتل ولا يقطع الا من أخذ المال ولا ينفى الا من لم يأخذ المال ولا قتل، وقال قوم الامام يخير فيهم على الاطلاق.
واختلفوا في صلبه فقال قوم: انه يصلب حتى يموت جوعا، وقال قوم بل يقتل ويصلب معا، وهؤلاء منهم من قال: يقتل أولا ثم يصلب، وهو قول أشهب، وقيل أنه يصلب حيا ثم يقتل في الخشبة، وهو قول ابن القاسم وابن
الماجشون، ومن رأى أنه يقتل أولا ثم يصلب صلى عليه عنده قبل الصلب، ومن رأى أنه يقتل في الخشبة، فقال بعضهم: لا يصلى عليه تنكيلا له، وقيل يقف خلف الخشبة ويصلى عليه، وقال سحنون: ينزل من عليها ويصلى عليه وهل يعاد إلى الخشبة بعد الصلاة فيه قولان، وذهب أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام.
وقال ابن حزم: ان قتل فقد حرم صلبه وقطعه ونفيه، وان قطع فقد حرم قتله وصلبه ونفيه، وان نفى فقد حرم قتله وصلبه وقطعه، وان صلب فقد حرم قتله وقطعه ونفيه لا يجوز البتة غير هذا.
أما القطع في حقهم فهو أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم ان عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، واختلف إذا لم تكن له اليمنى، فقال ابن القاسم تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، وقال أشهب تقطع اليد والرجل اليسرى.
واختلفوا في النفى فقيل ان النفى هو السجن، وقيل ان النفى هو أن ينفى من

(20/109)


بلد إلى بلد فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته، وهو قول ابن القاسم عن مالك ويكون أقل البلدين ما تقصر فيه الصلاة، والقولان عن مالك وبالاول قال أبو حنيفة وقال ابن الماجشون النفى هو فرارهم من الامام لاقامة الحد عليهم، فأما أن ينفى بعد أن يقدر عليه فلا.
وقال الشافعي: أما النفى فغير مقصود، ولكن إن هربوا شردناهم في البلاد بالاتباع.
وقيل هي عقوبة مقصودة، فقيل على هذا ينفى ويسجن دائما وكلها عن الشافعي، وقالت الحنابلة: إن أخافوا الناس ولم يأخذوا مالا نفوا من الارض فلا يتركون يأوون إلى بلد حتى تظهر توبتهم، وقيل فلا يأووا إلى بلد عاما، وقيل يعزروا بما يردعهم.
والظاهر أن النفى هو تغريبهم عن وطنهم.
وأما حكم المحاربين فأن يحاربهم الامام، فإذا قدر على واحد منهم لم يقتل إلا إذا كانت الحرب قائمة، أما إذا أسر بعد انقضاء الحرب فإن حكمه حكم البدعى واختلفوا في توبته على: (أ) هل تقبل توبته؟ (ب) إن قبلت فما صفة المحارب الذى تقبل توبته.
(ج) هل يسقط الحكم بالتوبة؟ قال أهل العلم تقبل توبته، وأما صفة التوبة التى تسقط الحم فقد اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال.

(أحدهما)
أن تكون توبته بوجهين، بأن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الامام
(والثانى)
أن يلقى سلاحه ويأتى الامام طائعا، وهو مذهب ابن القاسم والقول الثاني أن توبته انما تكون بأن يترك ما هو عليه، وهذا هو قول ابن الماجشون.
والقول الثالث أن توبته انما تكون بالمجئ إلى الامام، وإن ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكما من الاحكام إن أخذ قبل أن يأتي الامام وتحصيل ذلك هو أن توبته قيل إنها تكون بأن يأتي الامام قبل أن يقدر عليه وقيل إنها انما تكون إذا ظهرت توبته قبل القدرة فقط، وقيل تكون بالامرين جميعا.
وأما صفة المحارب الذى تقبل توبته فإنهما اختلفوا فيها أيضا على ثلاثة

(20/110)


أقوال (أحدها) أن يلحق بدار الحرب
(والثانى)
أن تكون له فئة (والثالث) كيفما كان كانت له فئة أو لم تكن لحق بدار الحرب أو لم يلحق.
واختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الامام على أن يتزل، فقيل له الامان ويسقط عنه حد الحرابة، وقيل لا أمان له لانه انما يؤمن للشرك، وأما ما تسقط عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال.
(أحدها) أن التوبة انما تسقط عنه حد الحرابة فقط، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين وهو قول مالك.

(والثانى)
أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله، ويتبع بحقوق الناس من الاموال والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول.
(والثالث) أن التوبة ترفع جميع حقوق الله ويؤخذ بالدماء، وفى الاموال بما وجد بعينه في أيديهم ولا تتبع ذممهم (والرابع) أن التوبة تسقط جميع حقوق الله وحقوق الادميين من مال ودم إلا ما كان من الاموال قائم العين بيده.
وما احتواه هذا الباب من أحكام أوجزها فيما يلى: 1 - تعددت الاقوال فيمن تتحقق فيه صفة المحارب من المسلمين، منها أنه اللص المجاهر بلصوصيته المكابر المصر على ذلك في المدينة، ومنها أنه اللص المجاهر بلصوصيته المصر على ذلك في الصحراء دون المدينة، ومنها أنه المكابر في الفسق والفجور، وقد أوردها الطبراني في تفسيره.
ثم قال إن أولاها بالصواب قول من قال إن المحارب لله ورسوله من حارب سابلة المسلمين وأمتهم وأغار عليهم في أمصارهم وقراهم وأخاف عباد الله وقطع طريقهم وأخذ أموالهم وتوثب على حرماتهم فجورا وفسقا 2 - للامام أن يعاقب المحارب بأية عقوبة من عقوبات الآية، وقال الطبري بعد أن أورد كافة الآراء، وإن أولاها بالصواب من أوجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم على المحاربين مختلفا باختلاف أفعالهم 3 - المحاربون من المسلمين توبتهم بينهم وبين الله، وعلى الامام أن يقيم

(20/111)


عليهم حدود ما ارتكبوه من جرائم، وإن بقى في يد المحارب النائب من المال
الذى أخذه فللامام أن يسترده منه ويرده إلى أصحابه، وإذا طلب ولى قتيل دم قتيله منه وأقام البينة فعلى الامام أن يقيم عليه الحد وقال الشافعي: ليس لولى الدم حق قود ولا قصاص.
4 - فرض بعضهم حالة ارتداد مسلم إلى الكفر ثم ارتكابه القتل والنهب ثم عودته إلى الاسلام تائبا قبل القدرة عليه منع بعضهم سقوط الحد عنه بالتوبة عزاه الطبري إلى عكرمة والحسن البصري.
5 - للامام أن يقيم عليه حد واحد مما ذكرته الآية ولا يجمع عليه حدين

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب حد الخمر

كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وكثيره، والدليل عليه قوله تعالى (إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) واسم الخمر يقع على كل مسكر، والدليل عليه ما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خمر وكل خمر حرام.
وروى النعمان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: إن من التمر لخمرا، وإن من البر لخمرا، وإن من الشعير لخمرا وإن من العسل خمرا.
وروى سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره) وروت أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام)
(فصل)
ومن شرب مسكرا وهو مسلم بالغ عاقل مختار وجب عليه الحد، فإن كان حرا جلد أربعين جلدة لما روى أبو ساسان قال (لما شهد على الوليد بن عقبة قال عثمان لعلى عليه السلام دونك ابن عمك فاجلده، قال قم يا حسن فاجلده قال فيما أنت وذاك ول هذا غيرى، قال ولكنك ضعفت وعجزت ووهنت،

(20/112)


فقال قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده فجلده، وعلي عليه السلام بعد ذلك فعد أربعين وقال جلد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الخمر أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة.
وإن كان عبدا جلد عشرين لانه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنا، فإن رأى الامام أن يبلغ بحد الحر ثمانين وبحد العبد أربعين جاز لما روى أبو وبرة الكلبى قال (أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضى الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلى وطلحة والزبير رضى الله عنهم، فقلت ان خالد بن الوليد رضى الله عنه يقرأ عليك السلام ويقول ان الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، قال عمر هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال على عليه السلام تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون.
فقال عمر بلغ صاحبك ما قال، فجلد خالد ثمانين وجلد عمر ثمانين.
قال وكان عمر إذا أتى بالرجل القوى المتهمك في الشراب جلده ثمانين، وإذا أتى بالرجل الضعيف الذى كانت منه الزلة جلده أربعين، فإن جلده أربعين ومات لم يضمن لان الحق قتله، وان جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية، لان نصفه حد ونصفه تعزير، وسقط النصف بالحد ووجب النصف بالتعزير.
وإن جلد احدى وأربعين فمات ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه يضمن نصف ديته لانه مات من مضمون وغير مضمون فضمن نصف ديته، كما لو جرحه واحد جراحة وجرح نفسه جراحات.

(والثانى)
أنه يضمن جزءا من أحد وأربعين جزءا من الدية لان الاسواط متماثلة فقسطت الدية على عددها، ومخالف الجراحات فإنها لا تتماثل، وقد يموت من جراحة ولا يموت من جراحات، ولا يجوز أن يموت من سوط ويعيش
من أسواط.
وان أمر الامام الجلاد أن يضرب في الخمر ثمانين فجلده احدى وثمانين ومات المضروب، فإن قلنا ان الدية تقسط على عدد الضرب سقط منها أربعون جزءا لاجل الحد ووجب على الامام أربعون جزءا لاجل التعزير ووجب على الجلاد.

(20/113)


جزء وإن قلنا انه يقسط على عدد الجناية ففيه وجهان
(أحدهما)
يسقط نصفها لاجل الحد ويبقى النصف، على الامام نصفه وعلى الجلاد نصفه، لان الضرب نوعان، مضمون وغير مضمون، فسقط النصف بما ليس بمضمون ووجب النصف بما هو مضمون
(والثانى)
انه تقسط الدية أثلاثا فسقط ثلثها بالحد، وثلثها على الامام، وثلثها على الجلاد، لان الحد ثلاثة أنواع، فجعل لكل نوع الثلث.

(فصل)
ويضرب في حد الخمر بالايدي والنعال وأطراف الثياب على ظاهر النص، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى برجل قد شرب الْخَمْرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضربوه، قال فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض الناس أخزاك اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تقولوا هكذا ولا تعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا رحمك الله.
ولانه لما كان أخف من غيره في العدد وجب أن يكون أخف من غيره في الصفة.
وقال أبو العباس وأبوا سحاق يضرب بالسوط.
ووجهه ما روى أن عليا رضى الله عنه لما أقام الحد على الوليد بن عقبة قال لعبد الله بن جعفر أقم عليه الحد، قال فأخذ السوط فجلده حتى انتهى إلى أربعين سوطا فقال له أمسك وإن قلنا إنه يضرب بغير السوط فضرب بالسوط أربعين سوطا فمات ضمن،
لانه تعدى بالضرب بالسوط، وكم يضمن؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يضمن بقدر ما زاد ألمه على ألم النعال.

(والثانى)
أنه يضمن جميع الدية لانه عدل من جنس إلى غيره فأشبه إذا ضربه بما يجرح فمات منه.

(فصل)
والسوط الذى يضرب به سوط بين سوطين ولا يمد ولا يجرد ولا تشديده، لما روى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال (ليس في هذه الامة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفة) .

(فصل)
ولا يقام الحد في المسجد لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ

(20/114)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إقامة الحد في المسجد، ولانه لا يؤمن أن يشق الجلد بالضرب فيسيل منه الدم أو يحدث من شدة الضرب فينجس المسجد.
وإن أقيم الحد في المسجد سقط الفرض لان النهى لمعنى يرجع إلى المسجد لا إلى الحد فلم يمنع صحته، كالصلاة في الارض المغصوبة.

(فصل)
إذا زنى دفعات حل للجميع حدا واحدا، وكذلك ان سرق دفعات أو شرب الخمر دفعات حد للجميع حدا واحدا، لان سببها واحد فتداخلت، وان اجتمعت عليه حدود بأسباب بأن زنى وسرق وشرب الخمر وقذف لم تتداخل لانها حدود وجبت بأسباب فلم تتداخل، وان اجتمع عليه الجلد في حد الزنا والقطع في السرقة، أو في قطع الطريق قدم حد الزنا، تقدم الزنا أو تأخر لانه أخف من القطع، فلما تقدم أمكن استيفاء القطع بعده، وإذا قدم القطع لم يؤمن أن يموت منه فيبطل حد الزنا، وان اجتمع عليه مع ذلك حد الشرب أو حد القذف قدم حد الشرب وحد القذف على حد الزنا، لانهما أخف منه، وأمكن للاستيقاء.
وان اجتمع حد الشرب وحد القذف ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يقدم حد القذف لانه للآدمي
(والثانى)
أنه يقدم حد الشرب وهو الصحيح لانه أخف من حد القذف، فإذا أقيم عليه حد لم يقم عليه حد آخر حتى يبرأ من الاول، لانه إذا توالى عليه حدان لم يؤمن أن يتلف، وان اجتمع عليه حد السرقة والقطع في قطع الطريق قطعت يمينه للسرقة وقطع الطريق، ثم تقطع رجله لقطع الطريق، وهل تجوز الموالاة بينهما فيه وجهان:
(أحدهما)
أنه تجوز لان قطع الرجل مع قطع اليد حد واحد فجاز الموالاة بينهما
(والثانى)
أنه لا يجوز قطع الرجل حتى تندمل اليد، لان قطع الرجل لقطع الطريق وقطع اليد للسرقه وهما سببان مختلفان فلا يوالى بين حديهما، والاول أصح، لان اليد تقطع لقطع الطريق أيضا، فأشبه إذا قطع الطريق ولم يسرق وإن كان مع هذه الحدود قتل فإن كان في غير المحاربة أقيمت الحدود على ما ذكرناه من الترتيب والتفريق بينها، فإذا فرغ من الحدود قتل، وان كان القتل في المحاربة فَفِيهِ وَجْهَانِ.

(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه يوالى بين الجميع، والفرق بينه وبين

(20/115)


القتل في غير المحاربة أن القتل في غير المحاربة غير متحتم وربما عفى عنه فتسلم نفسه، والقتل في المحاربة متحتم فلا معنى لترك الموالاة.
والوجه الثاني أنه لا يوالى بينهما، لانه لا يؤمن إذا والى بين الحدين أن يموت في الثاني فيسقط ما بقى من الحدود.
(الشرح) حديث (كل مسكر خمر) متفق عليه وغيرهما، ولفظ لمسلم (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة) وروى أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي (كل مسكر خمر، ما أسكر
كثيره فقليه حرام) حديث النعمان بن بشير (ان من التمر لخمرا) رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وروى أيضا عنه (أن عمر خطب على المنبر وقال: ألا ان الخمر قد حرمت وهى من خمسة، من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل) ورواه البخاري ومسلم بنحوه.
حديث سعد (أنهاكم عن قليل) أخرجه البيهقى والنسائي والدارقطني وقالوا احتج بأكثر رجال هذا البخاري ومسلم في الصحيحين.
حديث عائشة (ما أسكر الفرق منه) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن، وروى البيهقى (كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام) وروى كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حرام أثر أبى ساسان أخرجه البيهقى، وأخرج مسلم عن حصين بن المنذر قال شهدت عثمان بن عفان أتى باوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان انه لم يتقيؤها حتى شربها، فقال يا على قم فاجلده، فقال على قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده وعلى يعد حتى بلغ أربعين، فقال أمسك، ثم قال

(20/116)


جلد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ أربعين وعمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلى) .
أثر أبى وبرة الكلبى أخرجه البيهقى.
حديث أبى هريرة رواه أحمد والبخاري وأبو داود.
حديث ابن مسعود أخرجه البيهقى.
حديث ابن عباس أخرجه البيهقى اللغة: في تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال (أحدها) أنها تخمر العقل، أي تستره، أخذ من خمار المرأة التى تستر به رأسها، والخمر الشجر الكثير الذى يغطى الارض.
قال (فقد جاوزتما خمر الطريق) .
(الثاني) أنها تخمر نفسها لئلا يقع فيها شئ يفسدها وخصت بذلك لدوامها تحت الغطاء لتزداد جودتها وشدة صورتها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (خمروا الانية) أي غطوها (الثالث) لانها تخامر العقل أي تخالطه.
قال الشاعر فخامر القلب من ترجيع ذكرتها
* رس لطيف ورهن منك مكبول.
قوله (انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) الميسر القمار.
قال مجاهد كل شئ فيه قمار فهو ميسر حتى لعب الصبيان بالجوز.
وقال الازهرى الميسر الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، وسمي ميسرا لانه يجزأ أجزاء، وكل ما جزأته أجزاء فقد يسرته، والياسر الجزار الذى يجزئها، والجمع أيسار، والازلام القداح واحدها زلم بفتح الزاى وضمها وهى السهام التى كان أهل الجاهلية يستقسمون بها على الميسر قاله العزيزي.
وقال الهروي كانت زلت وسويت، أي أخذ من حروفها، وكان أحد الجاهلية يجعلها في وعاء له وقد كتب الامر والنهى، فإذا أراد سفرا أو حاجة أدخل يده في ذلك الوعاء فإن خرج الآمر مضى لطيته، وان خرج الناهي كف وانصرف وفيها كلام يطول.
وأما الانصاب فهو جمع نصب بفتح النون وضمها، وهو حجر أو صنم منصوب يذبحون عنده، يقال نصب ونصب ونصب ثلاث لغات.
والرجس القذر والنتن ومنه قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس)

(20/117)


أي العمل الخبيث المستقذر، وقيل الشك والرجس أيضا العذاب، وسميت
الاصنام رجسا لانها سبب الرجس وهو العذاب.
قوله (فيه شدة مطربة (1) الطرب خفة تعترى الانسان من شدة فرح أو حزن قال في الطرب بمعنى الحزن.
وقالوا قد بكيت فقلت كلا
* وهل يبكى من الطرب الجليد.
وقال في معنى الفرح.
يا ديار الزهو والطرب
* ومغاني اللهو واللعب.
قوله (ما أسكر الفرق منه) الفرق بإسكان الراء مائة وعشرون رطلا وبفتحها ستة عشر رطلا.
وقال ثعلب الفرق بفتح الراء اثنا عشر مدا، ولا تقل فرق بالاسكان.
وقال الزمخشري هما لغتان والفتح أعلى قوله (وهنت) يقال وهن الانسان ووهنه غيره يتعدى ولا يتعدى ووهن أيضا بالكسر وهنا أي ضعف.
قوله (انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة) أي لجوا فيها، يقال انهمك الرجل في الامر أي جد ولج، وكذلك تهمك، وتحاقروا العقوبة، أي رأوها حقيرة صغيرة.
وحقره واستحقره استصغره، والحقير الصغير.
قوله (إذا سكر هذى) أي تكلم بالهذيان، وهو مالا حقيقة له من الكلام يقال هذى يهذى ويهذو.
قوله (افترى) أي كذب، والفرية الكذب والمفترى الكاذب، وأصله الخلق فرى الاديم خلقه، قال الله تعالى (وتخلقوني افكا) أي تتقولون وتفترون كذبا.
قوله (اخزاك الله) أي أذلك واهانك، يقال خزى يخزى خزيا، أي ذل وهان، والخزى في القرآن بمعنى الذل في قوله تعالى (لهم في الدنيا خزى) وبمعنى الهلاك في قوله تعالى (من قبل أن نذل ونخزى) أي نهلك الخمر يطلق على عصير العنب المشتد اطلاقا حقيقيا اجماعا، واختلفوا هل يطلق على غيره حقيقة أو مجازا، وعلى الثاني هو مجاز لغة كما جزم به صاحب المحكم؟ قال صاحب الهداية من الحنفية (الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب
__________
(1) هذه القولة لا توجد لها مناسبة هنا

(20/118)


إذا اشتد وهو المعروف عند أهل اللغه وأهل العلم قال الخطابى زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه اه وروى ابن عبد البر عن أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم أن كل مسكر خمر.
وقال القرطبى الاحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب.
وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة، لانهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الامر بالاجتناب تحريم كل ما يسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولم يستفصلوا ولم يشكل عليهم شئ من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم اهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم تردد لتوقفوا عن الاراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم.
واختلفوا في مقدار الحد الواجب، فقال الجمهور الحد في ذلك ثمانون: وقال الشافعي وأبو ثور وداود الحد في ذلك أربعون، وقالت الحنابلة من شرب مسكرا مائعا أو استعط به أو احتقن به، أو أكل عجينا ملتوتا به ولو لم يسكر حد ثمانين ان كان حرا وأربعين إن كان رقيقا.
واختلفوا في حد العبد، فقال الجمهور هو على النصف من حد الحر، وقال أهل الظاهر حد الحر والعبد سواء وهو أربعون، وعند الشافعي عشرون، وعند من قال ثمانون أربعون.
وادعى القاضى عياض الاجماع على مشروعية حد الشرب، وقال في البحر (مسألة) ولا ينقص حد الشرب عن الاربعين اجماعا، وذكر أن الخلاف انما هو في الزيادة على الاربعين، وحكى ابن المنذر والطبري وغيرهما عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير.
وإذا مات رجل بحد من الحدود لم يلزم الامام ولا نائبه القصاص الا حد

(20/119)


الشرب، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل والهادي والقاسم والناصر وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا شئ فيمن مات بحد أو قصاص مطلقا من غير فرق بين حد الشرب وغيره، وقد حكى النووي الاجماع على ذلك، وفيه نظر، فإنه قد قال أبو حنيفة وابن أبى ليلى إنها تجب الدية على العاقلة.
واختلفوا في الجلد فقال بعض الشافعية الجلد بالجريد، وقد صرح القاضى أبو الطيب ومن تبعه بأنه لا يجوز بالسوط، وصرح القاضى حسين بتعين السوط، واحتج بأنه إجماع الصحابة، وخالفه النووي في شرح مسلم فقال أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب، ثم قال والاصح جوازه بالسوط، وحكى الحافظ عن بعض المتأخرين أنه يتعين السوط للمتمردين وأطراف الثياب والنعال للضعفاء ومن عداهم بحسب ما يليق بهم.
واليك موجز ما مر بك: يتفق الفقهاء في أمور ويختلفون في أخرى.
الامور المتفق عليها:
1 - الخمر المستخرجة من العنب محرمة اتفاقا.
2 - يحل للمكره والمضطر أن يشربها.
الامور المختلف عليها.
1 - يحل شرب القليل الذى لا يذكر من النبيذ المستخرج من غير العنب
2 - الحكم في المخدرات التى لا ينطبق عليها تعريف ولكنها تعمل عملها وأشد
3 - ثبت في أحاديث صحيحة رواها الخمسة قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ولاستاذي الشيخ شاكر رسالة في ذلك.
وإن بالنفس لرغبة في الايضاح أكثر ولكن ما باليد من حيلة، ولكن هذا لا يمنعنا أن ننقل رأيا لشيخنا وإمامنا، وأظن أن الناشر يحب هذا الامام كحبنا فلن يبخل بالنشر، وهو الذى أفنى زهرة شبابه في خدمة كتب الشيخ.
يقول ابن تيمية (الحشيشة داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والسكر لفظا ومعنى ووردت به الاحاديث الصحيحة، فقد جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

(20/120)


وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع، ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا، على أن الخمر قد يصطبغ بها والحشيشة قد تذاب في الماء وتشرب، فكل خمر يشرب ويؤكل، والحشيشة تؤكل وتشرب وكل ذلك حرام) أقول: والحق في هذا الموضوع ما نقل عن الامام ابن تيمية فهو الموافق لرأى العارفين بخواص النباتات كابن البيطار وغيره، كما يساير روح الاسلام في علة تحريم المسكرات.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب التعزير

من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة، كمباشرة الاجنبية فيما دون الفرج وسرقة ما دون النصاب أو السرقة من غير حرز أو القذف بغير الزنا أو الجناية التى لا قصاص فيها وما أشبه ذلك من المعاصي عزر على حسب ما يراه السلطان
لما روى عبد الملك بن عمير قال (سئل علي كرم الله وجهه عن قول الرجل للرجل يا فاسق يا خبيث، قال هن فواحش فيهن التعزير وليس فيهن حد.
وروى عن ابن عباس أنه لما خرج من البصرة استخلف أبا الاسود الدبلى فأتى بلص نقب حرزا على قوم فوجدوه في النقب، فقال مسكين أراد أن يسرق فأعجلتموه، فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلى عنه، ولا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود، فإن كان على حر لم يبلغ به أربعين، وأن كان على عبد لم يبلغ به عشرين لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من بلغ بما ليس بحد حدا فهو من المعتدين) وروى عن عمر رضى الله عنه أنه كتب إلى أبى موسى لا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا، وروى عنه ثلاثين سوطا، وروى عنه ما بين الثلاثين إلى الاربعين سوطا) ولان هذه المعاصي دون ما يجب فيه الحد فلا تلحق بما يجب فيه الحد من العقوبة.
وان رأى السلطان ترك التعزير جاز تركه إذا لم يتعلق به حق آدمى، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال (أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم

(20/121)


إلا في الحدود.
روى عبد الله بن الزبير أن رجلا خاصم الزبير عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شراج الحرة الذى يسقون به النخل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير: اسق أرضك الماء ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الانصاري، فقال يا رسول الله وأن كان ابن عمتك، فتلون وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا زبير اسق أرضك الماء ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فقال الزبير فو الله إنى لاحسب هذه الآية نزلت في ذلك (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) ولو لم يجز ترك التعزير لعزره رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ما قال.

(فصل)
وإن عزر الامام رجلا فمات وجب ضمانه لما روى عمرو بن سعيد
عن على كرم الله وجهه أنه قال: ما من رجل أقمت عليه حدا فمات فأجد في نفسي أنه لا دية له إلا شارب الخمر فإنه لو مات وديته، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يسنه ولا يجوز أن يكون المراد به إذا مات من الحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر فثبت أنه أراد من الزيادة على الاربعين، ولانه ضرب جعل إلى اجتهاده فإذا أدى إلى التلف ضمن كضرب الزوج زوجته.

(فصل)
وإن كان على رأس بالغ عاقل سلعة لم يجز قطعها بغير إذنه، فان قطعها قاطع بإذنه فمات لم يضمن لانه قطع بإذنه، وان قطعها بغير اذنه فمات وجب عليه القصاص لانه تعدى بالقطع، وان كانت على رأس صبى أو مجنون لم يجز قطعها لانه جرح لا يؤمن معه الهلاك، فإن قطعت فمات منه نظرت فإن كان القاطع لا ولاية له عليه وجب عليه القود لانها جناية يعدى بها، وإن كان أبا أو جدا وجبت عليه الدية، وان كان وليا غيرهما ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه يجب عليه القود لانه قطع منه ما لا يجوز قطعه.

(والثانى)
أنه لا يجب القود لانه لم يقصد القتل وانما قصد المصلحة، فعلى هذه يجب عليه دية مغلظة لانها عمد خطأ وبالله التوفيق.
(الشرح) أثر عبد الملك بن نمير رواه البيهقى وسعيد بن منصور أثر ابن عباس رواه البيهقى.

(20/122)


أثر عمر أنه كتب إلى أبى موسى، قال الحافظ روى الاول ابن المنذر وروى عن أبى بردة أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى) رواه الجماعة إلا النسائي حديث (أقيلو ذوى الهيئات) رواه البيهقى عن عائشة (أقيلوا ذوى الهيئات زلاتهم) وفى رواية أخرى عنها (أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا حدا
من حدود الله) وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدى والعقيلي وقال له طرق ليس فيها شئ يثبت وفى رواية ابن عدى ضعيف، ورواه ابن حبان وأبو الشيخ وفى إسنادهما ضعيف والطبراني في الاوسط بإسناد ضعيف.
وقال الشافعي ذوى الهيئات الذين يقالون عثراتهم الذين ليسوا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة.
حديث عبد الله بن الزبير في شراج الحرة متفق عليه وغيرهما.
أثر على (ما من رجل أقمت عليه الحد..) متفق عليه والبيهقي والشافعي وأبو داود.
اللغة: التعزير التأديب والاهانة، والتعزير أيضا التعظيم، ومنه قوله عز وجل (وتعزروه وتوقروه) وهو من الاضداد قوله (كمباشرة الاجنبية) وكذا المباشرة في مواضع كثيرة من الكتاب هو الصاق بشرة الرجل ببشرة المرأة، والبشرة ظاهر الجلد.
قوله (فهو من المعتدين) المعتدى هو الذى يجاوز حده وفعل ما لا يجوز فعله قوله (لا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا) النكال ههنا العقوبة التى تنكل عن فعل جعلت له جزاء أي تمنع عن معاودة فعله وقوله تعالى (فجعلناها نكالا لما بين يديها) أي لمن يأتي بعدها فيتعظ بها فتمنعه عن فعل مثلها وسمى اللجام نكلا لانه يمنع الفرس، وسمى القيد نكلا لانه يمنع المحبوس، قال الله تعالى (ان لدنيا أنكالا وجحيما) أي قيودا.
قوله (أقيلوا ذوى الهيئات) الهيئة الشارة، يقال فلان حسن الهيئة، والهيئة وأراد ذوى المروءات والاحساب.
قوله (شراج الحرة) هي مسايل الماء من بين الحجارة إلى السهل وقد ذكر

(20/123)


قوله (فيما شجر بينهم) أي فيما وقع فيه خلاف بينهم، يقال اشتجر القوم وتشاجروا إذا اختلفوا واختصموا وتنازعوا، وقد ذكر أيضا.
قوله (فأجد في نفسي) فيه حذف واختصار، أي فأوجد في نفسي منه شكا ويحصل في صدري منه ارتياب، وهذا يشبه قوله عليه الصلاة والسلام (الاثم ما حاك في صدرك) والسلعة ذكرت.
ذهب إلى أنه لا يجلد فوق العشرة أسواط إلا في حد الليث وأحمد في المشهور عنه واسحاق وبعض الشافعية.
وذهب أبو حنيفة والشافعي وزيد بن على والمؤيد بالله والامام يحيى إلى جواز الزيادة على عشرة أسواط، ولكن لا يبلغ إلى أدنى الحدود، وذهب الهادى والقاسم والناصر وأبو طالب إلى أنه يكون في كل موجب للتعزير دون حد جنسه، والى مثل ذلك ذهب الاوزاعي، وهو مروى عن محمد بن الحسن الشيباني.
وقال أبو يوسف انه ما يراه الحاكم بالغا ما بلغ وقال مالك وابن أبى ليلى أكثره خمسة وسبعون.
هكذا حكى ذلك صاحب البحر والذى حكاه النووي عن مالك وأصحابه وأبى ثور وأبى يوسف ومحمد انه إلى رأى الامام بالغا ما بلغ.
وقال الرافعى: الاظهر أنها تجوز الزيادة على العشرة.
وقال البيهقى: عن الصحابة آثار مختلفة في مقدار التعزير، وأحسن ما يصار إليه في هذا مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذكر حديث أبى بردة عن الجماعة وذكره المصنف.
قال الحافظ فتبين بما نقله البيهقى عن الصحابة أنه لا اتفاق على عمل في ذلك، فكيف يدعى نسخ الحديث الثابت ويصار إلى ما يخالفه.
من غير برهان.
قالت الحنابلة يجب التعزير على كل مكلف.
وقال الشيخ تقى الدين: لا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبى المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا ويجب
في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة وهى من حقوق الله تعالى لا يحتاج في اقامته إلى مطالبة، الا إذا شتم الولد والده فلا يعزر الا بمطالبة والده، ولا يعزر الوالد بحقوق ولده، ولا يزاد في جلد التعزير على عشرة أسواط، وإذا شرب مسكرا في نهار رمضان فيعزر بعشرين مع الحد، ولا بأس بتسويد وجهه

(20/124)


والمناداة عليه ويحرم حلق لحيته وأخذ ماله، ومن الالفاظ الموجبة للتعزير قوله لغيره يا فاسق يا كافر يا فاجر يا شقى يا كلب يا حمار يا تيس يا رافضي يا خبيث يا كذاب يا خائن يا قرنان يا قواد يا ديوث يا علق.
ويعزر من قال لذمى يا جاح أو لعنه بغير موجب، وسبق الكلام فيمن مات وهو يقام عليه الحد أو يعزر.