المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الطهارة
باب ما تجوز به الطهارة من المياه وما لا تجوز
يجوز رفع الحدث وإزالة النجس بالماء المطلق وهو ما نزل من السماء أو نبع من

(1/15)


الأرض فما نزل من السماء ماء المطر وذوب الثلج والبرد والأصل فيه قوله عز وجل {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [لأنفال:11] وما نبع من الأرض ماء البحار وماء الأنهار وماء الأبار والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته1" وروي أن النبي توضأ من بئر بضاعة".
فصل: ولا يكره من ذلك إلا ما قصد إلى تشميسه فإنه يكره الوضوء به ومن أصحابنا من قال: لا يكره ما تشمس بنفسه في البرك والأنهار والمذهب الأول والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها وقد سخنت ماء
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 41. الترمذي في كتاب الطهارة باب 52. النسائي في كتاب الطهارة باب 46. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 38. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 12. الدارمي في كتاب الوضوء باب 53. أحمد في مسنده "2/237، 361، 378".

(1/16)


الشمس "يا حميراء لا تفعلي هذا فإنه يورث البرص" ويخالف ماء البرك والأنهار لأن ذلك لا يمكن حفظه من الشمس فلم يتعلق به المنع فإن خالف وتوضأ به صح الوضوء لأن المنع منه لخوف الضرر فلم يمنع صحة الوضوء كما لو توضأ بما يخاف من حره أو برده.
فصل: وما سوى الماء المطلق من المائعات كالخل وماء الورد والنبيذ وما اعتصر من الثمر أو الشجر لا يجوز رفع الحدث ولا إزالة النجس به لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] فأوجب التيمم على من لم يجد الماء فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره ولقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها في دم الحيض يصيب الثوب "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" فأوجب الغسل بالماء فدل على أنه لا يجوز بغيره.
فصل: فإن كمل الماء المطلق بمائع بأن احتاج في طهارته إلى خمسة أرطال ومعه أربعة أرطال فكمله بمائع لم يتغير به كماء ورد انقطعت رائحته ففيه وجهان قال أبو علي الطبري: لا يجوز الوضوء به لأنه كمل الوضوء بالماء والمائع فأشبه إذا غسل بعض أعضائه بالماء وبعضها بالمائع ومن أصحابنا من قال: إنه يجوز لأن المانع استهلك في الماء فصار كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه.

(1/17)


باب ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده
إذا اختلط بالماء شيء طاهر ولم يتغير به لم يمنع الطهارة به لأن الماء باقي على إطلاقه وإن لم يتغير به لمرافقته الماء في الطعم واللون والرائحة كماء ورد انقطعت رائحته ففيه وجهان: أحدهما: عن كانت الغلبة للماء جازت الطهارة به لبقاء اسم الماء المطلق وإن كانت الغلبة للمخالط لم يجز لزوال إطلاق اسم الماء والثاني: إن كان

(1/17)


ذلك قدراً لو كان مخالفاً للماء في صفاته لم يغيره لم يمنع وإن كان قدراً لو كان مخالفاً له غيره منع لأن الماء لما لم يغير بنفسه اعتبر بما يغيره كما نقول في الجناية التي ليس لها أرش مقدر لما لم يمكن اعتبارها بنفسها اعتبرت بالجناية على العبيد وإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة نظرت فإن كان مما يمكن حفظ الماء منه كالطحلب وما يجري عليه الماء من الملح والنورة وغيرهما جاز الوضوء به لأنه لا يمكن صون الماء عنه فعفي عنه كما عفي عن النجاسة اليسيرة والعمل القليل في الصلاة وإن كان مما يمكن حفظ الماء منه نظرت فإن مان ملحاً انعقد من الماء لم يمنع الطهارة به لأنه كان ماء في الأصل فهو كالثلج إذا ذاب فيه وإن كان تراباً طرح فيه لم يؤثر لأنه يوافق الماء في التطهير فهو كما لو طرح فيه ماء آخر فتغير به وإن كان شيئاً سوى ذلك كالزعفران والتمر والدقيق والملح الجبلي والطحلب إذا أخذ ودق وطرح فيه وغير ذلك مما يستغني الماء عنه لم يجز الوضوء به لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر والماء مستغن عنه فلم يجز الوضوء به كماء اللحم وماء الباقلاء وإن وقع فيه ما لا يختلط به فتغيرت به رائحته كالدهن الطيب والعود ففيه قولان: قال في البويطي: لا يجوز الوضوء كما لا يجوز بما تغير بالزعفران وروى المزني أنه يجوز الوضوء به لأن تغيره عن مجاوره فهو كما لو تغير بجيفة بقربه وإن وقع فيه قليل كافور فتغير به ريحه ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز الوضوء به كما لو تغير بالزعفران والثاني يجوز لأنه لا يختلط به وإنما تغير من جهة المجاورة.

(1/18)


باب ما يفسد الماء من النجاسة وما لا يفسده
إذا وقعت في الماء نجاسة لا يخلو إما أن يكون راكداً أو جارياً أو بعضه راكداً وبعضه جارياً فإن كان راكداً نظرت في النجاسة فإن كانت نجاسة يدركها الطرف من

(1/18)


خمر أو بول أو ميتة لها نفس سائلة نظرت فإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه1" فنص على الطعم والريح وقسنا اللون عليهما لأنه في معناهما وإن تغير بعضه دون بعض نجس الجميع لأنه ماء واحد فلا يجوز أن ينجس بعضه دون بعض وإن لم يتغير نظرت فإن كان الماء دون القلتين فهو نجس وإن كان قلتين فصاعداً فهو طاهر لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا كان الماء قلتين فإنه لا يحمل الخبث2" ولأن القليل يمكن حفظه من النجاسة في الظروف والكثير لا يمكن حفظه من النجاسة فجعل القلتين حداً فاصلاً بينهما والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي لأنه روي في الخبر "بقلال هجر" قال ابن
__________
1رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 34. الترمذي في كتاب الطهارة باب 49. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 76. أحمد في مسنده "1/235".
2 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 33. الترمذي في كتاب الطهارة باب 50. النسائي في كتاب الطهارة باب 43. الدارمي في كتاب الوضوء باب 55. أحمد في مسنده "3/ 12، 38".

(1/19)


جريج: رأيت قلال هجر فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئاً فجعل الشافعي رحمه الله الشيء نصفاً احتياطاً وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصار الجميع خمسمائة رطل وهل ذلك تحديد أو تقريب فيه وجهان: أحدهما أنه تقريب فإن نقص منه رطل أو رطلان لم يؤثر لأن الشيء يستعمل فيما دون النصف في المادة والثاني أنه تحديد فلو نقص منه ما نقص نجس لأنه لما وجب أن يجعل الشيء نصفاً احتياطاً وجب استيفاؤه كما أنه لما وجب غسل شيء من الرأس احتياطاً لغسل الوجه صار ذلك فرضاً فإن كانت النجاسة مما لا يدركها الطرف ففيه ثلاث طرق: من أصحابنا من قال لا حكم لها لأنها لا يمكن الاحتراز منها فهي كغبار السرجين ومنهم من قال حكمها حكم سائر النجاسات لأنها نجاسة متيقنة فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا حكم لها والثاني لها حكم وجهها ما ذكرناه وإن كانت النجاسة ميتة لا نفس لها سائلة كالذباب والزنبور وما أشبههما ففيه قولان: أحدهما أنها كغيره من الميتات لأنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته فهو كالحيوان الذي له نفس سائلة والثاني أنه لا يفسد الماء لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء والآخر دواء1" وقد يكون الطعام حاراً فيموت بالمقل فيه فلو كان يفسده لما أمر بمقلة ليكون شفاء لنا إذا أكلناه فإن كثر من ذلك ما غير
__________
1 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 17. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 48. النسائي في كتاب الفرع باب 11. ابن ماجه في كتاب الطب باب 31. الدارمي في كتاب الأطعمة باب 12. أحمد في مسنده "2/329".

(1/20)


الماء فيه وجهان: أحدهما أنه ينجس لأنه ماء تغير بالنجاسة والثاني لا ينجس لأن ما لا ينجس الماء إذا وقع فيه وهو دون القلتين لم ينجسه وإن تغير به كالسمك والجراد.
فصل: إذا أراد تطهير الماء النجس نظرت فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين طهر بأن يزول التغير بنفسه أو بأن يضاف إليه ماء آخر أو بأن يؤخذ بعضه لأن النجاسة بالتغير وقد زال وإن طرح فيه تراب أو جص فزال التغير ففيه قولان: قال في الأم: لا يطهر كما لو يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النجاسة وقال في حرملة يطهر وهو الأصح لأن التغير قد زال فصار كما لو زال بنفسه أو بماء آخر ويفارق الكافور والمسك لأن هناك يجوز أن تكون الرائحة باقية وإنما لم تطهر لغلبة رائحة الكافور والمسك وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكرناه إلا بأخذ بعضه فإنه لا يطهر لأنه ينقص عن قلتين وفيه نجاسة وإن كانت نجاسته بالقلة بأن يكون دون القلتين طهر بأن يضاف إليه ماء آخر حتى يبلغ قلتين ويطهر بالمكاثرة من غير أن يبلغ قلتين كالأرض النجسة إذا طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة ومن أصحابنا من قال لا يطهر لأنه دون القلتين وفيه نجاسة والأول أصح لأن الماء إنما ينجس إذا وردت عليه النجاسة وههنا ورد الماء على النجاسة فلم ينجس إذا لو نجس لم يطهر الثوب النجس إذا صب عليه الماء.
فصل: وإذا أراد الطهارة بالماء الذي وقعت فيه نجاسة وحكم بطهارته نظرت فإن كان دون القلتين وطهر بالمكاثرة بالماء لم تجز الطهارة به لأنه وإن كان طاهراً فهو غير مطهر لأن الغلبة للماء الذي غمره وهو ماء أزيل به النجاسة فلم يصلح للطهارة وإن كان أكثر من قلتين نظرت فإن كانت النجاسة جامدة فالمذهب أنه تجوز الطهارة منه لأنه لا حكم للنجاسة القائمة فكان وجودهما كعدمها وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن القاص: لا تجوز حتى يكون بينه وبين النجاسة قلتان فإن كان بينه وبين النجاسة أقل من قلتين لم يجز لأنه لا حاجة به إلى استعمال ماء فيه نجاسة قائمة وإن كان الماء قلتين وفيه نجاسة قائمة ففيه وجهان قال أبو إسحاق: لا تجوز الطهارة به لأنه ماء واحد فإذا كان ما يبقى بعد ما غرف منه نجساً وجب أن يكون الذي غرفه نجساً والمذهب أنه يجوز لأن ما يغرف منه ينفصل منه قبل أن يحكم بنجاسته فبقي على الطهارة وإن كانت

(1/21)


النجاسة ذائبة جازت الطهارة به ومن أصحابنا من قال لا يتطهر بالجميع بل يبقى منه قدر النجاسة كما قال الشافعي رحمه الله فيمن حلف لا يأكل تمرة فاختلطت بتمر كثير أنه ياكل الجميع إلا تمرة وهذا لا يصح لأن النجاسة لا تتميز بل تختلط بالجميع فلو وجب ترك بعضه لوجب ترك جميعه بخلاف التمرة.
فصل: فإن كان الماء جارياً وفيه نجاسة جارية كالميتة والجرية المتغيرة فالماء الذي قبلها طاهر لأنه لم يصل إلى النجاسة فهو كالماء الذي يصب على النجاسة من إبريق والذي بعدها طاهر أيضاً لأنه لم تصل إليه النجاسة وأما ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها فإن كان قلتين ولم يتغير فهو طاهر وإن كان دونهما فهو نجس كالراكد وقال أبو العباس بن القاص فيه قول آخر قاله في القديم أنه لا ينجس الماء الجاري إلا لتغير لأنه ماء ورد على النجاسة فلم ينجس من غير تغير كالماء المزال به النجاسة وإن كانت النجاسة واقفة والماء يجري عليها فإن ما قبلها وما بعدها طاهر وما يجري عليها إن كان قلتين فهو طاهر وإن كان دونهما فهو نجس وكذلك كل ما يجري عليها بعدها فهو نجس ولا يطهر شيء من ذلك حتى يركد في موضع ويبلغ قلتين وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن القاص والقاضي أبو حامد: ما لم تصل إلى الجيفة فهو طاهر والماء الذي بعد الجيفة يجوز أن يتوضأ منه إذا كان بينه وبين الجيفة قلتان والأول أصح لأن لكل جرية حكم نفسها فلا يعتبر فيه القلتان.
فصل: وإن كان بعضه جارياً وبعضه راكداً بأن يكون في النهر موضع منخفض يركد فيه الماء والماء يجري بجنبه والراكد زائد عن سمت الجري فوقع في الراكد نجاسة وهو دون القلتين فإن كان مع الجرية التي يحاذيها يبلغ قلتين فهو طاهر وإن لم يبلغ قلتين فهو نجس وتنجس كل جرية بجنبها إلى أن يجتمع في موضع قلتان فيطهر.

(1/22)


باب ما يفسد الماء من الاستعمال وما لا يفسده
الماء المستعمل ضربان: مستعمل في طهارة الحدث ومستعمل في طهارة النجس فأما المستعمل في طهارة الحدث فينظر فيه فإن استعمل في رفع حدث فهو طاهر لأنه

(1/22)


ماء طاهر لاقى محلاً طاهراً فكان طاهراً كما لو غسل به ثوب طاهر وهل تجوز به الطهارة أم لا؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان المنصوص أنه لا يجوز لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء فصار كما لو تغير بالزعفران وروي عنه أنه قال: يجوز الوضوء به لأنه استعمال لم يغير صفة الماء فلم يمنع الوضوء به كما لو غسل به ثوب طاهر ومن أصحابنا من لم يثبت هذه الرواية فإن قلنا لا يجوز الوضوء به فهل تجوز إزالة النجاسة به أم لا؟ فيه وجهان: قال أبو القاسم الأنماطي وأبو علي بن خيران رحمة الله عليهما: يجوز لأن للماء حكمين رفع الحدث وإزالة النجس فإذا رفع الحدث بقي عليه إزالة النجس والمذهب أنه لا يجوز لأنه ماء لا يرفع الحدث فلم يزل النجس كالماء النجس فإن جمع الماء المستعمل حتى صار قلتين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يزول حكم النجاسة ولأنه لو توضأ فيه أو اغتسل وهو قلتان لم يثبت له حكم الاستعمال فإذا بلغ قلتين وجب أن يزول عنه حكم الاستعمال ومن أصحابنا من قال: لا يزول لأن المنع منه لكونه مستعملاً وهذا لا يزول بالكثرة وإن استعمل في نقل الطهارة كتجديد الوضوء والدفعة الثانية والثالثة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تجوز الطهارة لأنه مستعمل في طهارة فهو كالمستعمل في رفع الحدث والثاني: أنه يجوز لأنه ماء لم يرفع به حدث ولا نجس فهو كما لو غسل به ثوب طاهر.
فصل: وأما المستعمل في النجس فينظر فيه فإن انفصل من المحل متغيراً فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه1" وإن كان غير متغير ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه طاهر وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق لأنه ماء لا يمكن حفظه من النجاسة فلم ينجس من غير تغير كالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة
والثاني: أنه ينجس وهو قول بي القاسم الأنماطي لأنه ماء قليل لا في نجاسة فأشبه ما إذا وقعت فيه نجاسة
والثالث: أنه إن انفصل والمحل طاهر فهو طاهر وإن انفصل والمحل نجس فهو نجس وهو قول أبي العباس ابن القاص لأن المنفصل من جملة الباقي في المحل فكان حكمه في النجاسة والطهارة حكمه فإذا قلنا إنه طاهر فهل يجوز الوضوء به؟ فيه وجهان قال أبو علي بن خيران يجوز وقال سائر أصحابنا لا يجوز وقد مضى توجيههما.
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 76.

(1/23)


باب الشك في نجاسة الماء والتحري فيه
إذا تيقن طهارة الماء وشك في نجاسته توضأ به لأن الأصل بقاؤه على الطهارة

(1/23)


وإن تيقن نجاسته وشك في طهارته لم يتوضأ به لأن الأصل بقاؤه على النجاسة وإن لم يتيقن طهارته ولا نجاسته توضأ به لأن الأصل طهارته فإن وجده متغيراً ولم يعلم بأي شيء تغير توضأ به لأنه يجوز ان يكون تغيره بطول المكث وإن رأى حيواناً يبول في ماء ثم وجده متغيراً وجوز أن يكون تغيره بالبول لم يتوضأ به لأن الظاهر أن تغيره من البول وإن رأى هرة أكلت نجاسة ثم وردت على ماء قليل فشربت منه ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها تنجسه لأنا تيقنا نجاسة فمها
والثاني: أنها إن غابت ثم رجعت لم تنجسه لأنه يجوز أن تكون قد وردت على ماء فطهر فمها فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك
والثالث: لا ينجس بكل حال لأنه لا يمكن الاحتراز منها فعفى عنها فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات1".
فصل: وإن ورد على ماء فأخبره رجل بنجاسته لم يقبل حتى يبين بأي شيء نجس لجواز أن يكون قد رأى سبعاً ولغ فيع فاعتقد انه نجس بذلك فإن بين النجاسة قبل منه كما يقبل ممن يخبره بالقبة ويقبل في ذلك قول الرجل والمرأة والحر والعبد لأن أخبارهم مقبولة ويقبل خبر العمى فيه لأن له طريقاً إلى العلم به بالحس والخبر ولا يقبل فيه قول صبي ولا فاسق ولا كافر لأن أخبارهم لا تقبل وإن كان معه إنا آن فأخبره رجل ان الكلب ولغ في أحدهما قبل قوله ولم يجتهد لأن الخبر مقدم على الاجتهاد كما
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 38. الترمذي في كتاب الطهارة باب 69. النسائي في كتاب الطهارة باب 53. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 32. الدارمي في كتاب الوضوء باب 58. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 13. أحمد في مسنده "5/296".

(1/24)


تقول في القبلة وإن أخبره رجل أنه ولغ في هذا دون ذاك وقال آخر: بل ولغ في ذاك دون هذا حكم بنجاستهما لأنه يمكن صدقهما بأن يكون قد ولغ فيهما في وقلتين وإن قال أحدهما: ولغ في هذا دون ذاك في وقت معين وقال الآخر بل ولغ في ذلك دون هذا في ذلك الوقت بعينه فهما كالبيتين إذا تعارضتا فإن قلنا إنهما يسقطان سقط خبرهما وجازت الطهارة بهما لأنه لم تثبت نجاسة واحد منهما وإن قلنا إنهما لا يسقطان أراقهما أو صب أحدهما في الآخر ثم تيمم.
فصل: وإن اشتبه عليه ماآن طاهر ونجس تحرى فيهما فإن غلب على ظنه طهارته منهما توضأ به لأنه سبب من أسباب الصلاة يمكن التوصل إليه بالاستدلال فجاز له الاجتهاد عند الاشتباه فيه كالقبلة فإن انقلب أحدهما قبل الاجتهاد ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يتحرى في الثاني لأنه قد ثبت جواز الاجتهاد فيه فلم يسقط بالانقلاب
والثاني: وهو الأصح أنه لا يجتهد لأن الاجتهاد يكون بين أمرين فإذا قلنا لا يجتهد فما الذي يصنع؟ فيه وجهان: قال أبو علي الطبري: يتوضأ به لأن الأصل فيه الطهارة فلا يزال اليقين بالشك وقال القاضي أبو حامد: يتيمم ولا يتحرى لأن حكم الأصل قد زال بالاشتباه بدليل أنه منع من استعماله من غير تحر فوجب أن يتيمم وإن اجتهد فيهما فلم يغلب على ظنه شيء أراقهما أو صب أحدهما في الآخر وتيمم فإن تيمم وصلى قبل الإراقة أو الصب أعاد الصلاة لأنه تيمم ومعه ماء طاهر بيقين وإن غلب على ظنه طهارة أحدهما توضأ به والمستحب أن يريق الآخر حتى لا يتغير اجتهاده بعد ذلك فإن تيقن أن الذي توضأ به كان نجساً غسل ما أصابه منه وأعاد الصلاة لأنه تعين له يقين الخطأ فهو كالحاكم إذا أخطأ النص وإن لم يتيقن ولكن تغير اجتهاده فظن أن الذي توضأ به كان نجساً قال أبو العباس: يتوضأ بالثاني كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده والمنصوص في حرملة أنه لا يتوضأ بالثاني لأنا لو قلنا إنه يتوضأ به ولم يغسل ما أصابه المال الأول من ثيابه وبدنه أمرناه أن يصلي وعلى بدنه نجاسة بيقين وهذا لا يجوز وإن قلنا إنه يغسل ما أصابه من الماء الأول نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد وهذا لا يجوز ويخالف القبلة فإن هناك لا يؤدي إلى الأمر بالصلاة إلى غير القبلة ولا إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وإذا قلنا بقول أبي العباس توضأ بالثاني وصلى ولا إعادة عليه وإن قلنا بالمنصوص فإنه يتمم ويصلي وهل يعيد الصلاة؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يعيد لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله بالشرع فصار وجوده كعدمه كما لو تيمم ومعه ما يحتاج إليه للعطش
والثاني: يعيد لأنه تيمم ومعه ماء محكوم بطهارته
والثالث وهو قول أبي

(1/25)


الطيب بن سلمة: إن كان بقي من الأول بقية أعاد لأن معه ماء طاهراً بيقين وإن لم يكن بقي معه شيء لم يعد لأنه ليس معه ماء طاهر بيقين وإن اشتبه عليه ماآن ومعه ماء ثالث يتيقن طهارته ففيه وجهان: أحدهما: لا يتحرى لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين فلا يؤدي يالاجتهاد كالمكي في القبلة والثاني: أنه يتحرى لأنه يجوز إسقاط الفرض بالطاهر في الظاهر مع القدرة على الطاهر بيقين ألا ترى أنه يجوز أن يترك ما نزل من السماء ويتيقن طهارته ويتوضأ بما يجوز نجاسته وإن اشتبه عليه ماء مطلق وماء مستعمل ففيه وجهان: أحدهما لا يتحرى لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين بأن يتوضأ بكل واحد منهما والثاني: أنه يتحرى لأنه يجوز أن يسقط الفرض بالطاهر مع القدرة على اليقين وإن اشتبه عليه ماء مطلق وماء ورد لم يتحر بل يتوضأ بكل واحد منهما وإن اشتبه عليه ماء ورد وبول انقطعت رائخته لم يتحر بل يريقهما ويتيمم لأن ماء الورد والبول لا أصل لهما في التطهير فيرد إلا الاجتهاد وإن اشتبه عليه طعام طاهر وطعام نجس تحرى فيهما لأن أصلهما على الإباحة فهما كالماءين وإن اشتبه الماء الطاهر بالماء النجس على أعمى ففيه قولان قال في حرملة: لا يتحرى لأن عليه أمارات تتعلق بالبصر فهو كالقبلة وقال في الأم: يتحرى لأن له طريقاً إلى إدراكه بالسمع والشم فيتحرى فيه كما يتحرى في وقت الصلاة فإذا قلنا يتحرى فلم يكن له دلالة على الأغلب عنده ففيه وجهان: من أصحابنا من قال: لا يقلد لأن من جاز له الاجتهاد في شيء لم يقلد فيه غيره كالبصير ومنهم من قال: يجوز أن يقلد وهو ظاهر قوله في الأم لأن أماراته تتعلق بالبصر وغيره فإذا لم تغلب على ظنه دل على أن أماراته تعلقت بالبصر فصار كالأعمى في القبلة وإن اشتبه ذلك على رجلين فأدى اجتهاد أحدهما إلى طهارة أحدهما واجتهاد الآخر إلى طهارة الآخر توضأ كل واحد منهما بما أداه إليه اجتهاده ولم يأتم أحدهما بالآخر لأنه يعتقد أن صلاة إمامه باطلة وإن كثرت الأواني وكثر المجتهدون فأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى طهارة إناء وتوضأ به وتقدم أحدهم وصلى بالباقين الصبح وتقدم آخر وصلى بهم الظهر وتقدم آخر وصلى بهم العصر فكل من صلى خلف إمام يجوز أن يكون طاهراً فصلاته خلفه صحيحة وكل من صلى خلف إمام يعتقد أنه نجس فصلاته خلفه باطلة وبالله التوفيق.

(1/26)


باب الآنية
كل حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدباغ وهو ما عدا الكلب والخنزير لقوله

(1/26)


عليه الصلاة والسلام "أيما إهاب دبغ فقد طهر1" ولأن الدباغ يحفظ الصحة على الجلد ويصلحه للانتفاع به كالحياة ثم الحياة تدفع النجاسة عن الجلد فكذلك الدباغ وأما الكلب والخنزير فكذلك وما توالد منهما أو من أحدهما فلا يطهر جلدهما بالدباغ لأن الدباغ كالحياة ثم الحياة لا تدفع النجاسة عن الكلب والخنزير فكذلك الدباغ.
فصل: ويجوز الدباغ بكل ما ينشف فضول الجلد ويطيبه ويمنع من ورود الفساد عليه كالشب والقرظ وغير ذلك ما يعمل عمله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أليس في الماء والقرظ ما يطهرانه" فنص على القرظ لأنه يصلح الجلد ويطيبه فوجب أن يجوز بكل ما عمل عمله وهل يفتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يفتقر لأن طهارته تتعلق بالاستحالة وقد حصل ذلك فطهر كالخمر إذا استحالت خلا وقال أبو إسحاق: لا يطهر حتى يغسل بالماء لأن ما يدبغ به تنجس بملاقاة الجلد فإذا زالت نجاسة الجلد بقيت نجاسة ما يدبغ به فوجب أن يغسل حتى يطهر.
فصل: وإذا طهر الجلد بالدباغ جاز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" وهل يجوز بيعه؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يجوز لأنه حرم
__________
1 رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 105. أبو داود في كتاب اللباس باب 38. الترمذي في كتاب اللباس باب 7. النسائي في كتاب الفرع باب 4. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 20. الموطأ في كتاب الصيد حديث 17. أحمد في مسنده "1/219".

(1/27)


التصرف فيه بالموت ثم رخص بالانتفاع فيه فبقي ما سوى الانتفاع على التحريم وقال في الجديد: يجوز لأنه منع بيعه لنجاسته وقد زالت النجاسة فوجب أن يجوز البيع كالخمر إذا تخللت وهل يجوز أكله؟ ينظر فإن كان من حيوان يؤكل ففيه قولان: قال في القديم: لا يؤكل لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما حرم من الميتة أكلها1" وقال في الجديد: يؤكل لأنه جلد طاهر من حيوان مأكول فأشبه جلد المذكى وإن كان من حيوان لم يؤكل لم يحل أكله لأن الدباغ ليس بأقوى من الذكاة والذكاة لا تبيح ما لا يؤكل لحمه فلأن لا يبيحه الدباغ أولى وحكى شيخنا أبو حاتم القزويني عن القاضي أبي القاسم بن كنج أنه حكى وجهاً آخر أنه يحل لأن الدباغ عمل في تطهيره كما عمل في تطهير ما يؤكل فعمل في إباحته بخلاف الذكاة.
فصل: كل حيوان نجس بالموت نجس شعره وصوفه على المنصوص وروي عن الشافعي رحمه الله أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق: فمنهم من لم يثبت هذه الرواية وقال ينجس الشعر بالموت قولاً واحداً لأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فينجس بالموت كالأعضاء ومنهم من جعل الرجوع عن تنجيس شعر الآدمي رجوعاً عن تنجيس جميع الشعور فجعل في الشعور قولين أحدهما: ينجس لما ذكرناه والثاني: لا ينجس لأنه لا يحس ولا يتألم فلا تلحقه نجاسة الموت ومنهم من جعل هذه الرواية رجوعاً عن تنجيس شعر الآدمي خاصة فجعل في الشعور قولين أحدهما: ينجس الجميع لما ذكرناه والثاني: ينجس الجميع إلا شعر الآدمي فإنه لا ينجس لأنه منصوص بالكرام ولهذا يحل لبنه مع تحريم أكله.
وأما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا إن شعر غيره طاهر فشعره صلى الله عليه وسلم أولى بالطهارة وإذا قلنا إن شعر غيره نجس ففي شعره عليه الصلاة والسلام وجهان: أحدهما: أنه نجس لأن ما كان نجساً من غيره كان نجساً منه كالدم وقال أبو جعفر الترمذي: هو طاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس وكل موضع قلنا إنه نجس عفى عن الشعرة والشعرتين في الماء والثوب لأنه لا يمكن الاحتراز منه فعفى عنه كما عفي عن دم البراغيث فإن دبغ جلد الميتة وعيه شعر فقد قال في الأم: لا يطهر لأن الدباغ لا يؤثر في تطهيره وروى الربيع بن سليمان الجيزي عنه أنه يطهر لأنه شعر نابت على جلد
__________
1 رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 61. مسلم في كتاب الحيض حديث 100 أبو داود في كتاب اللباس باب 38. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 20. الموطأ في كتاب الضير حديث 16.

(1/28)


طاهر فكان كالجلد في الطهارة كشعر الحيوان في حال الحياة وإن جز الشعر من الحيوان نظرت فإن كان من حيوان يؤكل لم ينجس لأن الجز في الشعر كالذبح في الحيوان ولو ذبح الحيوان لم ينجس فكذلك إذا جز شعره وإن كان من حيوان لا يؤكل فحكمه حكم الحيوان ولو ذبح الحيوان كان ميتة كذلك إذا جز شعره وجب أن يكون ميتة.
فصل: فأما العظم والسن والقرن والظلف والظفر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو كالشعر والصوف لأنه لا يحس ولا يألم ومنهم من قال ينجس قولاً واحداً.
فصل: وأما اللبن في ضرع الشاة الميتة فهو نجس لأنه ملاق للنجاسة فهو كاللبن في إناء نجس وأما البيض في جوف الدجاجة الميتة فإن لم يتصلب قشره فهو كاللبن وإن تصلب قشرة لم ينجس كما لو وقعت بيضة في شيء نجس.
فصل: إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذبح شيء من أجزائه ويجوز الانتفاع بجلده وشعره وعظمه ما لم يكن عليها نجاسة لأنه جزء طاهر من حيوان طاهر مأكول فجاز الانتفاع به بعد الذكاة كاللحم وإن ذبح حيوان لا يؤكل نجس بذبحه كما ينجس بموته لأنه ذبح لا يبيح أكل اللحم فنجس به كما ينجس بالموت كذبح المجوسي.
فصل: ويكره استعمال أواني الذهب والفضة لما روى حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنهما لهم في الدنيا ولكم في الآخرة1" وهل يكره كراهية تنزه أو تحريم قولان: قال في القديم: كراهية تنزيه لأنه إنما نهي عنه للسرف والخيلاء والتشبه بالأعاجم وهذا لا يوجب التحريم وقال في الجديد: يكره كراهية تحريم وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم2" فتوعد عليه بالنار فدل على أنه محرم وإن توضأ منه صح
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب 39.
2 رواه البخاري في كتاب الأشربة باب 28. مسلم في كتاب اللباس حديث1. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 17. الدارمي في كتاب الأشربة باب 25. الموطأ في كتاب صفة النبي حديث 11. أحمد

(1/29)


الوضوء لأن المنع لا يختص بالطهارة فأشبه الصلاة في الدار المغصوبة ولأن الوضوء هو جريان الماء على الأعضاء وليس في ذلك معصية وإنما المعصية في استعمال الظرف دون ما فيه فإن أكل أو شرب منه لم يكن المأكول والمشروب حراماً لأن المنع لأجل الظرف دون ما فيه وأما اتخاذها ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأن الشرع ورد بتحريم الاستعمال دون الاتخاذ والثاني لا وهو الأصح لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه كالطنبور والبربط وأما أواني البلور والفيروزج وما أشبههما من الأجناس المثمنة ففيه قولان: روى حرملة أنه لا يجوز لأنه أعظم في السرف من الذهب والفضة فهو بالتحريم أولى وروى المزني أنه يجوز وهو الأصح لأن السرف فيه غير ظاهر لأنه لا يعرفه إلا الخواص من الناس.
فصل: وأما المضبب بالذهب فإنه يحرم قليله وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير "إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها1" فإن اضطر إليه جاز لما روي أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا
__________
1 رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 74. ابن ماجه في كتاب اللباس باب 19. الدارمي في كتاب الأشربة باب 13 أحمد في مسنده "3/138، 292".

(1/30)


من ذهب وأما المضبب بالفضة فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن كان قليلاً للحاجة لم يكره لما روى أنس أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فتخذ مكان الشفة سلسلة من فضة وإن كان للزينة كره لأنه غير محتاج إليه ولا يحرم لما روى أنس قال: كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة وقبيعة سيفه فضة وما بين ذلك حلق الفضة وإن كان كثيراً للحاجة كره لكثرته ولم يحرم للحاجة وإن كان كثيراً للزينة حرم لقول ابن عمر لا يتوضأ ولا يشرب من قدح فيه حلقة من فضة أو ضبة من فضة وعن عائشة رضي الله عنها أنها نهت أن تضبب الأقداح بالفضة ومن أصحابنا من قال: يحرم في موضع الشرب لأنه يقع الاستعمال به ولا يحرم فيما سواه لأنه لا يقع به الاستعمال ومنهم من قال: يكره ولا يحرم لحديث أنس في سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل: ويكره استعمال أواني المشركين وثيابهم لما روى أبو ثعلبة الخشني قال قلت: يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب ونأكل في آنيتهم فقال: "لا تأكلوا في آنيتهم إلا إن لم تجدوا عنها بداً فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها1" ولأنهم لا يتجنبون النجاسة فكره
__________
1 رواه البخاري في كتب الذبائح باب 4، 10. مسلم في كتاب الصيد حديث 8. الترمذي في كتاب الصيد باب 1. ابن ماجه في كتاب الصيد باب 3. الدارمي في كتاب السير باب 56. أحمد في مسنده "4/193".

(1/31)


لذلك فإن توضأ من أوانيهم نظرت فإن كانوا ممن لا يتدينون باستعمال النجاسة صح الوضوء لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر من جرة نصراني ولأن الأصل في أوانيهم الطهارة وإن كانوا ممن يتدينون باستعمال النجاسة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يصح الوضوء لأن الأصل في أوانيهم الطهارة والثاني: لا يصح لأنهم يتدينون باستعمال النجاسة كما يتدين المسلمون بالماء الطاهر فالظاهر من أوانيهم وثيابهم النجاسة ويستحب تغطية الإناء لما روى أبو هريرة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطية الإناء وإيكاء السقاية.

(1/32)


باب السواك
السواك سنة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب1" ويستحب في ثلاثة أحوال: أحدها: عند القيام للصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك2" والثاني: عند اصفرار الأسنان لما روى العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استاكوا لا تدخلوا علي قلحاً3" والثالث: عند تغير الفم وذلك قد يكون من النوم وقد يكون بالأزم وهو ترك
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 27. النسائي في كتاب الطهارة باب 4. ابم ماجه في كتاب الطهارة باب 7. الدارمي في كتاب الوضوء باب 19. أحمد في مسنده "1/ 3، 10".
2 رواه أحمد في مسنده "6/272".
3 رواه أحمد في مسنده "3/442".

(1/32)


الأكل وقد يكون يأكل شيء يتغير به الفم لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك وإنما استاك لأن النائم ينطبق فمه ويتغير وهذا المعنى موجود في كل ما يتغير به الفم فوجب أن يستحب لنا السواك ولا يكره إلا في حالة واحدة وهو للصائم بعد الزوال لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك1" والسواك يقطع ذلك فوجب أن يكره ولأنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره إزالته كدم الشهداء والمستحب أن يستاك عرضاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "استاكوا عرضاً وادهنوا غباً واكتحلوا وتراً" والمستحب أن لا يستاك بعود
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 3،9. مسلم في كتاب الصيام حديث 162 – 164. الترمذي في كتاب الصوم باب 54 النسائي في كتاب الصيام باب 41. ابن ماجه في كتاب الصيام 1. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده "1/446".

(1/33)


رطب لا يقلع ولا بيابس يجرح اللثة بل يستاك بعود بين عودين وبأي شيء استاك مما يقلع القلح ويزيل التغير كالخرقة الخشنة وغيرها أجزأه لأنه يحصل به المقصود وإن أمر إصبعه على أسنانه لم يجزئه لأنه لا يسمى سواكاً.
فصل: ويستحب أن يقلم الأظفار ويغسل البراجم ويقص الشارب وينتف الإبط ويحلق العانة لما روى عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفطرة عشرة المضمضة والاستئناف والسواك وقص الشارب وتقليم الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط والانتضاح بالماء والختان والاستحداد1"
فصل: ويجب الختان لقوله عز وجل {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وروي أن إبراهيم عليه السلام إختتن بالقدوم ولأنه لو لم يكن واجباً لما كشفت له العورة لأن كشف العورة محرم فلما كشفت له العورة دل على وجوبه.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 56. أبو داود في كتاب الطهارة باب 29. الترمذي في كتاب الأدب باب 14. النسائي في كتاب الزينة باب 1. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 8.

(1/34)


باب نية الوضوء
الطهارة ضربان: طهارة عن حدث وطهارة عن نجس فأما الطهارة عن النجس فلا

(1/34)


تفتقر إلى النية لأنها من باب التروك فلم تفتقر إلى النية كترك الزنى والخمر واللواط والغضب والسرقة وأما الطهارة عن الحدث فهو الوضوء والغسل والتيمم فإنه لا يصح شيء منها إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى1" ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال فلم تصح من غير نية كالصلاة.
فصل: ويجب أن ينوي بقلبه أن النية هي القصد تقول العرب: نواك الله بحفظه أي قصدك الله بحفظه فإن تلفظ بلسانه وقصد بقلبه فهو آكد.
فصل: والأفضل أن ينوي من أول الوضوء إلى أن يفرغ منه وأن يكون مستديماً للنية فإن نوى عند غسل الوجه ثم عزبت نيته أجزأه لأنه أول فرض فإذا نوى عنده اشتملت النية على جميع الفروض وإن عزبت نيته عند المضمضة قبل أن يغسل شيئاً من وجهه ففيه وجهان: أحدهما: تجزئه لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض فإذا عزبت النية عنده أجزأه كغسل الوجه والثاني: لا تجزئه وهو الأصح لأن نيته عزبت قبل الفرض فأشبه إذا عزبت عند غسل الكف وما قاله الأول يبطل بغسل الكف فإنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض ثم إذا عزبت النية عنده لم تجزئه.
فصل: وصفة النية أن ينوي رفع الحدث أو الطهارة من الحديث وأيهما نوى أجزأه لأنه نوى المقصود وهو رفع الحدث فإن نوى الطهارة المطلقة لم تجزه لأن الطهارة قد تكون عن حدث وقد تكون عن نجس فلم تصح بنية مطلقة وإن نوى الطهارة للصلاة أو لأمر لا يستباح إلا بالطهارة كمس المصحف ونحوه أجزأه لأنه لا يستباح مع الحدث فإذا نوى الطهارة لذلك تضمنت نيته رفع الحدث فإن نوى الطهارة لقراءة القرآن والجلوس
__________
1 رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب 1 مسلم في كتاب الإمارة حديث 155 أبو داود في كتاب الطلاق باب 11. النسائي في كتاب الطهارة باب 59.

(1/35)


في المسجد وغير ذلك مما تستحب له الطهارة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تجزئة لأنه يستباح من غير طهارة فأشبه إذا توضأ للبس الثوب والثاني: تجزئة لأنه يستحب له أن لا يفعل ذلك وهو محدث فإذا نوى الطهارة لذلك تضمنت نيته رفع الحدث وإن نوى بطهارته رفع الحدث والتبرد والتنظيف صح وضوؤه على المنصوص في البويطي لأنه نوى رفع الحدث وضم إليه ما لا ينافيه ومن أصحابنا من قال لا يصح وضوؤه لأنه شرك في النية بين القربة وبين غيرها وإن أحدث أحداثاً ونوى رفع حدث منها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يصح وضوؤه لأن الأحداث تتداخل فإذا ارتفع واحد ارتفع الجميع والثاني: أنه لا يصح لأنه لم ينو رفع جميع الأحداث والثالث: أنه إن نوى به رفع الحدث الأول صح وإن نوى رفع ما بعده لم يصح لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول دون ما بعده والأول أصح وإن نوى أن يصلي به صلاة وأن لا يصلي غيرها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يصح وضوؤه لأنه لم ينو كما أمر والثاني: يصح لأن نيته للصلاة تضمنت رفع الحدث ونيته أن لا يصلي غيرها لغو والثالث: أنه يصح لما نوى اعتباراً بنيته وإن نوى نية صحيحة ثم غير النية في بعض الأعضاء بأن ينوي بغسل الرجل التبرد أو التنظف ولم يحضر نية الوضوء لم يصح ما غسله للتبرد والتنظيف وإن حضرته نية الوضوء وأضاف إليها نية التبرد فعلى ما ذكرت من الخلاف.

(1/36)


باب صفة الوضوء
المستحب أن لا يستعين في وضوئه بغيره لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نستعين على الوضوء بأحد" فإن استعان بغيره جاز لما روي أن أسامة والمغيرة والربيع بنت معوذ بن عفراء صبوا على النبي صلى الله عليه وسلم الماء فتوضأ وإن أمر غيره حتى وضأه ونوى هو أجزأه لأن فعله غير مستحق في الطهارة ألا ترى أنه لو وقف تحت ميزاب فجرى الماء عليه ونوى الطهارة أجزأه.
فصل: ويستحب أن يسمي الله تعالى على الوضوء لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من توضأ وذكر اسم الله تعالى عليه كان طهوراً لجميع بدنه" فإن نسي التسمية في أولها وذكرها في أثنائها أتى بها حتى لا يخلو الوضوء من اسم الله عز وجل وإن تركها

(1/36)


عمداً أجزأه لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لما مر عليه الماء ".
فصل: ثم يغسل كفيه ثلاثاً لأن عثمان وعلياً كرم الله وجههما وصفا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلا اليد ثلاثاً ثم ينظر فأن لم يقم من النوم فهو بالخيار إن شاء غمس يده ثم غسل وإن شاء أفرغ الماء على يده ثم غمس فإن قام من النوم فالمستحب أن لا يغمس يده حتى يغسلها لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده1" فإن خالف وغمس لم يفسد الماء لأن الأصل الطهارة فلا يزال اليقين بالشك.
فصل: ثم يتمضمض ويستنشق والمضمضة أن يجعل الماء في فيه ويديره فيه ثم يمجه والاستنشاق أن يجعل الماء في أنفه ويمده بنفسه إلى خياشيمه ثم يستنثر لما روى عمر بن عبسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ثم يستنشق ويستنثر إلا جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء2" والمستحب أن يبالغ فيهما لقوله عليه الصلاة والسلام للقيط بن صبرة "أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً3" ولا يستقصي في البالغة فيكون سعوطاً فإن كان صائماً لم يبالغ للخبر وهل يجمع بينهما أو يفصل قال في الأم يجمع لأن علي بن أبي طالب عليه السلام وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمضمض مع الاستنشاق بماء واحد وقال في البويطي: يفصل بينهما لما روى طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق ولأن الفصل أبلغ في النظافة فكان أولى اختلف أصحابنا في كيفية الجمع والفصل فقال بعضهم على قوله في الأم يغرف غرفة واحدة فيتمضمض منها ثلاثاً ويستنشق منها ثلاثاً ويبدأ بالمضمضة وعلى رواية البويطي يغرف غرفة فيتمضمض منها ثلاثاً ثم يغرف غرفة أخرى فيستنشق منها ثلاثاً وقال بعضهم على قوله في الأم يغرف غرفة فيتمضمض منها ويستنشق ثم يغرف غرفة
__________
1رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 87. أبو داود في كتاب الطهارة باب 49. الترمذي في كتاب الطهارة باب 19. النسائي في كتاب الطهارة باب 1 أحمد في مسنده "2/214،289"
2 رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 294. أحمد في مسنده "4/112".
3 رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 68. أبو داود في كتاب الطهارة باب 56. النسائي في كتاب الطهارة باب 70 ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 44. أحمد في مسنده"4/33".

(1/37)


أخرى فيتمضمض منها ويستنشق ثم يغرف غرفة ثالثة فيتمضمض منها ويستنشق فيجمع في كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق وعلى رواية البويطي يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق والأول أشبه بكلام الشافعي رحمه الله لأنه قال يغرف غرفة لفيه وأنفه والثاني أصح لأنه أمكن فإن ترك المضمضة والاستنشاق جاز لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: توضأ كما أمرك الله وليس فيما أمر الله تعالى المضمضة ولا الاستنشاق ولأنه عضو باطن دون حائل معتاد فلا يجب غسله كالعين.
فصل: ولا يغسل العين ومن أصحابنا من قال: يستحب غسلها لأن ابن عمر كان يغسل عينه حتى عمي والأول أصح لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً ولا فعلاً فدل على أنه ليس بمسنون ولأن غسلها يؤدي إلى الضرر.
فصل: ثم يغسل وجهه وذلك فرض لقوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} "المائدة:6] والوجه ما بين منابت شعر الرأس إلى الذقن ومنتهى اللحيتين طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً والاعتبار بالمنابت المعتادة لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته ولا بمن نزل الشعر إلى جبهته وفي موضع التحذيف وجهان: قال أبو العباس: هو من الوجه لأنهم أنزلوه من الوجه وقال أبو إسحاق: هو من الرأس لأن الله عز وجل خلقه من الرأس فلا يصير وجهاً بفعل الناس فإن كان ملتحياً نظرت فإن كانت لحيته خفيفة لا تستر البشرة وجب غسل الشعر والبشرة للآية وإن كانت كثيفة تستر البشرة وجب إفاضة الماء على الشعر لأن المواجهة تقع به ولا يجب غسل ما تحته لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغرف غرفة وغسل بها وجهه وبغرفة واحدة لا يصل الماء إلى ما تحت الشعر مع كثافة اللحية ولأنه باطن دونه حائل معتاد فهو كداخل الفم والأنف.

(1/38)


والمستحب أن يخلل لحيته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته فإن كان بعضها خفيفاً وبعضها كثيفاً غسل ما تحت الخفيف وأفاض الماء على الكثيف ولا يجب غسل ما تحت الشعر الكثيف في الوضوء إلا في خمسة مواضع: الحاجب والشارب والعنفقة والعذار واللحية الكثة للمرأة لأن الشعر في هذه المواضع يخف في العادة وإن كثف لم يكن إلا نادراً فلم يكن له حكم فإن استرسلت اللحية ونزلت عن حد الوجه ففيها قولان: أحدهما لا تجب إفاضة الماء عليها لأنه شعر لا يلاقي محل الفرض فلم يكن محلاً للفرض كالذؤابة والثاني يجب لأنه شعر ظاهر نابت على بشرة الوجه فأشبه شعر الخد.
فصل: ثم يغسل يديه وهو فرض لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ويستحب أن يبدأ باليمنى ثم اليسرى لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم1" فإن بدأ باليسرى أجزأه لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ولو وجب الترتيب فيهما لما جمع بينهما ويجب إدخال المرفقين في الغسل لما روى جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه وإن طالت أظافره وخرجت عن رؤوس الأصابع ففيه طريقان: قال أبو علي بن خيران يجب غسلها قولاً واحداً لأن ذلك نادر ومن أصحابنا من قال: فيه قولان كاللحية المسترسلة وإن كان له إصبع زائدة أو كف زائد لزمه غسلها لأنه في محل الفرض فإن كانت له يدان متساويتان على منكب أو مرفق لزمه غسلهما لوقوع اسم اليد عليهما وإن كانت إحاهما تامة والأخرى ناقصة فالتامة هي الأصلية وينظر في الناقصة فإن كانت خلقت على محل لزمه غسلها كالإصبع الزائدة وإن خلقت على العضد ولم تحاذ محل الفرض لم يلزمه غسلها وإن حاذت بعض محل الفرض وإن تقلع من الذراع وبلغ التقلع إلى العضد ثم تدلى منه لم يلزمه غسله لأنه صار من العضد وإن تقلع من العضد وتدلى منه لم يلزمه غسله لأن
__________
1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 31. مسلم في كتاب الجنائز حديث 42 أبو داود في كتاب الجنائز باب 29. الترمذي في كتاب الجنائز باب 15. النسائي في كتاب الجنائز باب 31.

(1/39)


محل الفرض لأنه بمنزلة الجلد الذي على الذراع إلى العضد فإن كان ذلك متجافياً عن ذراعه لزمه غسل ما تحته وإن لم كان أقطع اليد لم يبق من محل الفرض شيء فلا فرض عليه والمستحب أن يمس ما بقي من اليد ماء حتى لا يخلو العضو من الطهارة وإن لم يقدر الأقطع على الوضوء ووجد من يوضئه بأجهزة المثل لزمه كما يلزمه شراء الماء بثمن المثل وإن لم يجد صلى وأعاد كما لو لم يجد ماء ولا تراباً وإن توضأ ثم قطعت يده لم يلزمه غسل ما ظهر بالقطع من الحدث وكذلك لو مسح شعور رأسه ثم حلقه لم يلزمه مسح ما ظهر لأن ذلك ليس ببدل عما تحته فلم يلزمه بظهوره طهارة كما لو غسل يده ثم كشط جلده فإن أحدث بعد ذلك لزمه غسل ما ظهر بالقطع لأنه صار ظاهراً وإن حصل في يده ثقب لزمه غسل باطنه لأنه صار ظاهراً.
فصل: ثم يمسح برأسه وهو فرض لقوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] والرأس ما اشتمل عليه منابت الشعر المعتاد والنزعتان منه لأنه في سمت الناصية والصدغ من الرأس لأنه من منابت شعره والواجب منه أن يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح وإن قل وقال أبو العباس بن القاص: أقله ثلاث شعرات كما نقول في الحلق في الإحرام والمذهب أنه لا يتقدر لأن الله تعالى أمر بالمسح وذلك يقع على القليل والكثير والمستحب أن يمسح جميع الرأس فيأخذ الماء بكفيه ثم يرسله ثم يلصق طرف سبابته بطرف سبابته الأخرى ثم يضعهما على مقدم رأسه ويضع إبهاميه على صدغيه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه لما روي أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما

(1/40)


إلى قفاه ولأن منابت شعر الرأس مختلفة ففي ذهابه يستقبل الشعر الذي على مقدم رأسه فيقع المسح على باطن الشعر دون ظاهره ولا يستقبل الشعر من مؤخر رأسه فيقع المسح على ظاهر الشعر فإذا رد يديه حصل المسح على ما لم يمسحه في ذهابه فإن كان عليه شعر فمسح ما نزل منها عن الرأس لم يجزه لأنه لا يقع عليها اسم الرأس وإن كان له شعر مسترسل عن منبته ولم ينزل عن محل الفرض فمسح أطرافه أجزأه لأن اسم الرأس يتناوله ومن أصحابنا من قال: لا يجزيه لأنه مسح على شعر في غير منبته فهو كطرف الذؤابة وليس بشيء وإن كان على رأسه عمامة ولم يرد نزعها مسح بناصيته والمستحب أن يتمم المسح بالعمامة لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بناصيته وعلى عمامته فإن اقتصر على مسح العمامة لم يجزه لأنها ليست برأس ولأنه عضو لا تلحق المشقة في إيصال الماء إليه فلا يجوز المسح على حائل منفصل عنه كالوجه واليد.
فصل: ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما لما روى المقداد بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل أصبعين في جحري أذنيه ويكون ذلك بماء جديد غير الماء الذي مسح به الرأس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأمسك مسبحتيه لأذنيه ولأنه عضو تميز عن الرأس في الاسم والخلقة فلا يتبعه في الطهارة كسائر الأعضاء قال في الأم والبويطي ويأخذ لصماخيه ماء جديداً غير الماء الذي مسح به ظاهر الأذن وباطنه لأن الصماخ في الأذن كالفم والأنف في الوجه فكما أفرد الفم والأنف عن الوجه بالماء فكذلك الصماخ فإن ترك مسح الأذن جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" وليس فيما أمر الله تعالى مسح الأذنين.
فصل: ثم يغسل رجليه وهو فرض لما روى جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأنا أن نغسل أرجلنا ويجب إدخال الكعبين في الغسل لقوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] قال أهل التفسير: مع الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان عند

(1/41)


مفصل الساق والقدم والدليل عليه ما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه وقال: "أقيموا صفوفكم" فلقد رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه فدل على أن الكعب ما قلناه ويستحب أن يبدأ باليمنى قبل اليسرى لما ذكرناه في اليد فإن كانت أصابعه منفرجة فالمستحب أن يخلل بين أصابعه لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة "خلل بين الأصابع1" وإن كانت ملتفة لا يصل الماء إليها إلا بالتخليل وجب التخليل لقوله صلى الله عليه وسلم: "خللوا بين أصابعكم لا يخلل الله بينها بالنار" والمستحب أن يغسل فوق المرفقين وفوق الكعبين لقوله صلى الله عليه وسلم "تأتي أمتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل2 ".
فصل: والمستحب أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً لما روى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الصلاة إلا به ثم توضأ مرتين مرتين ثم قال من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم عليه السلام" فإن اقتصر على مرة وأسبغ أجزأه لقوله صلى الله عليه وسلم "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" فإن خالف بين الأعضاء فغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثاً جاز لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثم قال: "هذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم "
فصل: ويجب أن يرتب الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه وحكى أبو العباس بن القاص قولاً آخر أنه إن نسي الترتيب جاز والمشهور هو الأول والدليل عليه قوله عز وجل {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] الآية
__________
1رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 69. أبو داود في كتاب الطهارة باب 56. النسائي في كتاب الطهارة باب 91. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 54 الدارمي في كتاب الوضوء باب 34: أحمد في مسنده "4/211".
2 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 47.

(1/42)


فأدخل المسح بين الغسلين وقطع النظر عن النظير فدل على أنه قصد إيجاب الترتيب ولأنها عبادة تشتمل على أفعال متغايرة يرتبط بعضها ببعض فوجب فيها الترتيب كالصلاة والحج فإن غسل أربعة أنفس أعضاءه الأربعة دفعة واحدة لم يجزه إلا غسل الوجه لأنه لم يرتب وإن اغتسل وهو محدث من غير ترتيب ونوى الوضوء ففيه وجهان: أحدهما أنه يجزئه لأنه إذا جاز ذلك عن الحدث الأعلى فلأن يجوز عن الحدث الأدنى أولى والثاني لا يجزئه وهو الأصح لأنه أسقط ترتيباً واجباً بفعل ما ليس بواجب.
فصل: ويوالي بين أعضائه وإن فرق تفريقاً يسيراً لم يضر لأنه لا يمكن الاحتراز منه وإن فرق تفريقاً كثيراً وهو بقدر ما يجف الماء على العضو في زمان معتدل ففيه قولان: قال في القديم: لا يجزيه لأنه عبادة يبطلها الحدث فأبطلها التفريق كالصلاة وقال في الجديد: يجزيه لأنه عبادة لا يبطلها التفريق القليل فلا يبطلها التفريق الكثير كتفرقة الزكاة فإذا قلنا إنه يجوز فهل يلزمه استئناف النية؟ وفيه وجهان: أحدهما أنه يلزمه لأنها انقطعت بطول الزمان والثاني لا يستأنف لأنه لم يقطع حكم النية فلم يلزمه الاستئناف.
فصل: والمستحب لمن فرغ من الوضوء أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن وضوءه ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله خالصاً من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب الحنة يدخلها من أي باب شاء1" ويستحب أن يقول أيضاً سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ وقال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم
__________
1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 46. النسائي في كتاب الطهارة 108. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 57. الدارمي في كتاب المقدمة 19. أحمد في مسنده "4/94".

(1/43)


طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة" ويستحب لمن توضأ أن لا ينفض يده لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم".
فصل: ويستحب أن لا ينشف أعضاءه من بلل الوضوء لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت: أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلاً من الجنابة فأتيته بالمنديل فرده ولأنه أثر عبادة فكان تركه أولى فإن تنشف جاز لما روى قيس بن سعد قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلاً فاغتسل ثم أتيناه بملحفة ورسية فالتحف بها فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه.
فصل: والفرض مما ذكرناه ستة أشياء: النية وغسل الوجه وغسل اليدين ومسح بعض الرأس وغسل الرجلين والترتيب وأضاف إليه في القديم الموالاة فجعلها سبعاً وسننه إثنتا عشرة: التسمية وغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق وتخليل اللحية الكثة ومسح جميع الرأس ومسح الأذنين وإدخال الماء في صماخي أذنيه وتخليل أصابع الرجلين وتطويل الغرة والابتداء بالميامن والتكرار وزاد أبو العباس بن القاص مسح العنق بعد مسح الأذنين فجعلها ثلاث عشرة وزاد غيره أن يدعو على وضوئه فيقول عند غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه وعلى غسل اليد اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني بشمالي وعلى مسح الرأس اللهم حرم شعري وبشري على النار وعلى مسح الأذنين اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وعلى غسل الرجلين اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم فجعلها أربعة عشر وبالله التوفيق.

(1/44)


باب المسح على الخفين
يجوز المسح على الخفين في الوضوء لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيت؟ فقال: "بل أنت نسيت بهذا أمرني ربي" ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه وتلحق المشقة في نزعه فجاز المسح عليه كالجبائر ولا يجوز ذلك في غسل الجنابة لما روى صفوان بن عسال المرادي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا

(1/44)


إذا كنا مسافرين أو سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط أو بول أو نوم ثم تحدث بعد ذلك وضوءاً ولأن غسل الجنابة يندر فلا تدعو الحاجة فيه إلى المسح على الخف فلم يجز.
فصل: وهل هو مؤقت أم لا؟ فيه قولان: قال في القديم: غير مؤقت لما روى أبي بن عمارة قال: قلت يا رسول الله أمسح على الخف؟ قال: نعم قلت: يوماً؟ قال ويومين قلت: وثلاثة؟ قال: "نعم وما شئت" وروي وما بدا لك وروي حتى بلغ سبعاً قال: نعم وما بدا لك ولأنه مسح بالماء فلم يتوقت كمسح الجبائر ورجع عنه قبل أن يخرج إلى مصر وقال يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة ولأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر من يوم وليلة للمقيم وإلى أكثر من ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر فلم تجز الزيادة عليه وإن كان السفر معصية لم يجز أن يمسح أكثر من يوم وليلة لأن ما زاد يستفيده بالسفر والسفر معصية فلا يجوز أن يستفاد به رخصة ويعتبر ابتداء المدة من حين يحدث بعد لبس الخف لأنها عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها كالصلاة.
فصل: فإن لبس الخف في الحضر وأحدث ومسح ثم سافر أتم مسح مقيم لأنه بدأ بالعبادة في الحضر فلزمه حكم الحضر كما لو أحرم بالصلاة في الحضر ثم سافر وإن أحدث في الحضر ثم سافر ومسح في السفر قبل خروج وقت الصلاة أتم مسح مسافر من حين أحدث في الحضر لأنه بدأ بالعبادة في السفر فثبت له رخصة السفر وإن سافر بعد خروج وقت الصلاة ثم مسح ففيه وجهان قال أبو إسحاق: يتم مسح مقيم لأن خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة دخوله في الصلاة في وجوب الإتمام فكذلك في المسح وقال أبو علي ابن أبي هريرة: يتم مسح مسافر لأنه تلبس بالمسح وهو مسافر فهو كما لو سافر قبل خروج الوقت ويخالف الصلاة لأن الصلاة تفوت وتقضى فإذا فاتت في الحضر ثبتت في الذمة صلاة الحضر فلزمه قضاؤها والمسح لا يفوت ولا

(1/45)


يثبت في الذمة فصار كالصلاة قبل فوات الوقت وإن أحدث في السفر ومسح ثم أقام أتم مسح مقيم وقال المزني إن مسح يوماً وليلة مسح ثلث يومين وليلتين وهو ثلثا يوم وليلة لأنه لو مسح ثم أقام في الحال مسح ثلث ما بقي له وهو يوم وليلة فإذا بقي له يومان وليلتان وجب أن يمسح ثالثهما ووجه المذهب أنها عبادة تتغير بالسفر والحضر فإذا اجتمع فيها السفر والحضر غلب حكم الحضر ولم يقسط عليهما كالصلاة وإن شك هل مسح في الحضر أو في السفر بنى الأمر على أنه مسح في الحضر لأن الأصل غسل الرجلين والمسح رخصة بشرط فإذا لم يتقن شرط الرخصة رجع إلى أصل الفرض وهو الغسل وإن شك هل أحدث في وقت الظهر أو في وقت العصر بنى الأمر على أنه أحدث في وقت الظهر لأن الأصل غسل الرجلين فلا يجوز المسح إلا فيما تيقن وإن لبس خفيه فأحدث ومسح وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم شك هل كان مسحه قبل الظهر أو بعده بنى الأمر في الصلاة أنه صلاها قبل المسح فتلزمه الإعادة لأن الأصل بقاؤها في ذمته وبنى الأمر في المدة أنها من الزوال ليرجع إلى الأصل وهو غسل الرجلين.
فصل: ويجوز المسح على كل خف صحيح يمكن متابعة المشي عليه سواء كان من الجلود أو اللبد أو الخرق أو غيرها فأما الخف المخرق ففيه قولان: قال في القديم: إن كان الخرق لا يمنع متابعة المشي عليه جاز المسح عليه لأنه خف يمكن متابعة المشي عليه فأشبه الصحيح وقال في الجديد: إن ظهر من الرجل شيء لم يجز المسح عليه لأن ما انكشف حكمه الغسل وما استتر حكمه المسح والجمع بينهما لا يجوز فغلب حكم الغسل كما لو انكشف إحدى الرجلين واستترت الأخرى وإن تخرقت الظهارة فإن كانت البطانة صفيقة جاز المسح عليه وإن كانت تشف لم يجز لأنه كالمكشوف وإن لبس خفاً له شرج في موضع القدم فإن كان مشدوداً بحيث لا يظهر شيء من الرجل واللفافة إذا مشي فيه جاز المسح عليه وإن لبس جورباً جاز عليه المسح عليه بشرطين: أحدهما أن يكون صفيفاً لا يشف والثاني أن يكون منعلاً فإن اختل أحد هذين الشرطين لم يجز المسح عليه وإن لبس خفاً لا يمكن متابعة المشي عليه إما لرقته أو لثقله لم يجز

(1/46)


المسح عليه لأن الذي تدعو الحاجة إليه ما يمكن متابعة المشي عليه وما سواه لا تدعو الحاجة إليه فلم تتعلق به الرخصة وفي الجرموقين وهو الخف الذي يلبس فوق الخف وهما صحيحان قولان: قال في القديم: والأصلي يجوز المسح عليه لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي عليه فأشبه المنفرد وقال في الجديد: لا يجوز لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب وإنما تدعو الحاجة إليه في النادر فلا تتعلق به رخصة عامة كالجبيرة فإن قلنا بقوله الجديد وأدخل يده في ساق الجرموق ومسح على الخف ففيه وجهان: قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني رحمه الله: لا يجوز وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري: يجوز لأنه مسح على ما يجوز المسح عليه فأشبه إذا نزع الجرموق ثم مسح عليه فإذا قلنا يجوز المسح على الجرموق فلم يمسح عليه وأدخل يده إلى الخف ومسح عليه ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه يجوز المسح على الظاهر فإذا أدخل يده ومسح على الباطن لم يجز كما لو كان في رجله خف منفرد فأدخل يده إلى باطنه ومسح الجلد الذي يلي الرجل والثاني يجوز لأن كل واحد منهما محل للمسح فجاز المسح على ما شاء منهما وإن لبس خفاً مغصوباً ففيه وجهان: قال ابن القاص: لا يجوز المسح عليه لأن لبسه معصية فلم تتعلق به رخصة وقال سائر أصحابنا: يجوز لأن المعصية لا تختص باللبس فلم تمنع صحة العبادة كالصلاة في الدار المغصوبة.
فصل: ولا يجوز المسح إلا أن يلبس الخف على طهارة كاملة فإن غسل إحدى الرجلين وأدخلها الخف ثم غسل الأخرى فأدخلها الخف لم يجز المسح عليه حتى يخلع ما لبسه قبل كمال الطهارة ثم يعيده إلى رجله والدليل عليه ما روى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما فإن لبس الخفين على طهارة ثم أحدث ثم لبس الجرموقين لم يجز المسح عليه قولاً واحداً لأنه لبس الجرموقين على غير طهارة وإن مسح على الخفين ثم لبس الجرموقين ثم أحدث وقلنا يجوز المسح على الجرموقين ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز المسح عليه لأن المسح على الخف لم يزل الحدث عن الرجل فكأنه لبس على حدث والثاني يجوز لأن مسح الخف قائم مقام غسل الرجلين وإن تطهر فلبس خفيه فأحدث قبل أن تبلغ الرجل إلى قدم الخف لم يجز له المسح نص عليه في الأم لأن الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فصار كما لو بدأ باللبس وهو محدث.
فصل: وإذا توضأت المستحاضة ولبست الخفين ثم أحدثت حدثاً غير حدث الاستحاضة ومسحت على الخفين جاز لها أن تصلي بالمسح فريضة واحدة وما شاءت من

(1/47)


النوافل وإن تيمم المحدث ولبس الخف ثم وجد الماء لم يجز له المسح على الخف لأن التيمم طهارة ضرورة فإذا زالت الضرورة بطلت من أصلها فتصير كما لو لبس الخف على حدث وقال أبو العباس بن سريج: يصلي بالمسح فريضة واحدة وما شاء من النوافل كالمستحاضة.
فصل: والمستحب أن يمسح أعلى الخف وأسفله فيغمس يديه في الماء ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف وكفه اليمين على أطراف أصابعه ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف أصابعه لما روى المغيرة بن شعبة قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله وهل يمسح على عقب الخف؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: يمسح عليه قولاً واحداً لأنه خارج من الخف يلاقي محل الفرض فهو كغيره ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يمسح عليه وهو الأصح لما ذكرناه والثاني لا يمسح لأنه صقيل وبه قوام الخف فإذا تكرر المسح عليه بلي وخلق وأضر به وإن اقتصر على مسح القليل من أعلى الخف أجزأه لأن الخبر ورد بالمسح وهذا يقع عليه اسم المسح فإن اقتصر على مسح ذلك من أسفله ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجزيه لأنه خارج من الخف محاذ محل الفرض فهو كأعلاه وقال أبو العباس بن سريج لا يجزيه وهو المنصوص في البويطي وهو ظاهر ما نقله المزني.
فصل: إذا مسح على الخف ثم خلعه أو انقضت مدة المسح وهو على طهارة المسح قال في الجديد: يغسل قدميه وقال في القديم: يستأنف الوضوء واختلف أصحابنا في القولين: فقال أبو إسحاق هي مبينية على القولين في تفريق الوضوء فإن قلنا يجوز التفريق كفاه غسل القدمين وإن قلنا لا يجوز التفريق لزمه استئناف الوضوء وقال سائر أصحابنا: القولان أصل في أنفسهما أحدهما يكفيه غسل القدمين لأن المسح قائم مقام غسل القدمين فإذا بطل المسح عاد إلى ما قام المسح مقامه كالتيمم إذا رأى الماء والثاني يلزمه استئناف الوضوء لأن ما أبطل بعض الوضوء أبطل جميعه كالحدث فإن مسح على خفيه ثم أخرج الرجلين من قدم الخف إلى الساق لم يبطل المسح على المنصوص لأنه لم تظهر الرجل من الخف وقال القاضي أبو حامد في جامعه: يبطل

(1/48)


وهو اختبار شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله لأن استباحة المسح تتعلق باستقرار القدم في الخف ولهذا لو بدأ باللبس فأحدث قبل أن تبلغ الرجل إلى قدم الخف ثم أقرها لم يجز المسح عليه وإن مسح على الجرموق فوق الخف وقلنا يجوز المسح عليه ثم نزع الجرموق في أثناء المدة ففيه ثلاث طرق: أحدها أن الجرموق كالخف المنفرد فإذا نزعه كان على قولين: أحدهما يستأنف الوضوء فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويمسح على الخفين والثاني لا يستأنف الوضوء فعلى هذا يكفيه الوضوء والمسح على الخفين والطريق الثاني إن نزع الجرموق لا يؤثر لأن الجرموق مع الخف تحته بمنزلة الظهارة مع البطانة ولو تعلقت الظهارة بعد المسح لم يؤثر في طهارته والطريق الثالث أن الجرموق فوق الخف كالخف فوق اللفافة فعلى هذا إذا نزع الجرموق نزع الخف كما ينزع اللفافة وهل يستأنف الوضوء أم يقتصر على غسل الرجلين فيه قولان.

(1/49)


باب الأحداث التي تنقض الوضوء
والأحداث التي تنقض الوضوء خمسة: الخارج من السبيلين والنوم والغلبة على العقل بغير النوم ولمس النساء ومس الفرج فأما الخارج من السبيلين فإنه ينقض الوضوء لقوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} "المائدة:6] ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا وضوء إلا من صوت أو ريح1" فإذا انسد المخرج المعتاد وانفتح دون المعدة مخرج انتقض الوضوء بالخارج منه لأنه لا بد للإنسان من مخرج يخرج منه البول والغائط فإذا انسد المعتاد صار
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 56. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 74.

(1/49)


هذا هو المخرج فانتقض الوضوء بالخارج منه وإن انفتح فوق المعدة ففيه قولان: أحدهما ينتقض الوضوء بالخارج منه لما ذكرناه وقال في حرملة: لا ينتقض لأنه في معنى القيء وإن لم ينسد المعتاد وانفتح فوق المعدة لم ينتقض الوضوء بالخارج منه وإن كان دون المعدة ففيه وجهان: أحدهما لا ينتقض الوضوء بالخارج منه لأن ذلك كالجائفة فلا ينتقض الوضوء بما يخرج منه والثاني ينتقض لأنه مخرج يخرج منه الغائط فهو كالمعتاد وإن أدخل في إحليله مسباراً وأخرجه أو زرق فيه شيئاً وخرج منه انتقض وضوءه.
فصل: وأما النوم فينظر فيه فإن وجد منه وهو مضطجع أو مكب أو متكئ انتقض وضوؤه لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ1" وإن وجد منه وهو قاعد ومحل الحدث متمكن من الأرض فإنه قال في البويطي ينتقض وضوؤه وهو اختيار المزني لحديث علي كرم الله وجهه ولأن ما نقض الوضوء في حال الاضطجاع نقضه في حال القعود كالأحداث والمنصوص في الكتب أنه لا ينتقض وضوؤه لما روى أنس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون قعوداً ثم يصلون ولا يتوضئون وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نام جالساً فلا وضوء عليه ومن وضع جنبيه فعليه الوضوء" ويخالف الأحداث فإنها تنقض الوضوء لعينها والنوم ينقض لأنه يصحبه خروج الخارج وذلك لا يحسب به إذا نام زائلاً عن مستوى الجلوس ويحس به إذا نام جالساً وإن نام راكعاً أو ساجداً أو قائماً في الصلاة ففيه قولان: قال في الجديد لا ينتقض وضوؤه لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا نام العبد في سجوده باهى الله به ملائكته يقول عبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي" فلو انتقض وضوءه لما جعله ساجداً.
فصل: وأما زوال العقل بغير النوم فهو أن يجن أو يغمى عليه أو يسكر أو يمرض فيزول عقله فينتقض وضوؤه لأنه إذا انتقض الوضوء بالنوم فلأن ينتقض بهذه الأسباب
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 79. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 62 الدارمي في كتاب الوضوء باب 48. أحمد في مسنده "4/97".

(1/50)


أولى ولا فرق في ذلك بين القاعد وغيره ويخالف النوم فإن النائم إذا كلم تكلم وإذا نبه تنبه فإذا خرج منه الخارج وهو جالس أحس به بخلاف المجنون والسكران قال الشافعي رحمه الله: قد قيل إنه قل من يجن إلا وينزل فالمستحب أن يغتسل احتياطاً.
فصل: وأما لمس النساء فإنه ينقض الوضوء وهو أن يلمس الرجل بشرة المرأة أو المرأة بشرة الرجل بلا حائل بينهما فينتقض وضوء اللامس منهما لقوله عز وجل {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} "النساء:43] وفي الملموس قولان: أحدهما ينتقض وضوؤه لأنه لمس بين الرجل والمرأة ينقض طهر اللامس فينقض طهر الملموس كالجماع وقال في حرملة: لا ينتقض لأن عائشة رضي الله عنها قالت: افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفراش فقمت أطلبه فوقعت يدي على أخمص قدمه فلما فرغ من صلاته قال: أتاك شيطانك ولو انتقض طهره لقطع الصلاة ولأنه لمس ينقض الوضوء فنقض طهر اللامس دون الملموس كما لو لمس ذكر غيره وإن لمس شعرها أو ظفرها لم ينتقض الوضوء لأنه لا يلتذ بمسه وإنما يلتذ بالنظر إليه وإن لمس ذات رحم محرم ففيه قولان: أحدهما ينتقض وضوؤه للآية والثاني لا ينتقض لأنها ليست بمحل لشهوته فأشبه لمس الرجل والمرأة المرأة وإن لمس صغيرة لا تشتهى أو عجوزاً لا تشتهى ففيه وجهان: أحدهما ينتقض لعموم الآية والثاني لا ينتقض لأنه لا يقصد بلمسها الشهوة فأشبه الشعر.
فصل: وأما مس الفرج فإنه إن كان ببطن الكف نقض الوضوء لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ1" وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضئون" قالت عائشة رضي الله عنها الله عنها: بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء قال: "إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ" وإن كان بظهر الكف لم ينتقض الوضوء لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ وضوءه للصلاة2".
والإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف ولأن ظهر الكف ليس بآلة لمسه فهو كما لو أولج الذكر في غير الفرج فإن مس بما بين الأصابع ففيه وجهان: المذهب أنه لا ينتقض لأنه
__________
1رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 9. أبو داود في كتاب الطهارة باب 69. الترمذي في كتاب الطهارة باب 61. النسائي في كتاب الطهارة باب17. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 63. الدارمي في كتاب الوضوء باب 50. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 60، 61. أحمد في مسنده "2/273".
2 رواه أحمد في مسنده "2/ 223".

(1/51)


ليس بباطن الكف والثاني ينتقض لأن خلقته خلقة الباطن وإن مس حلقه الدبر انتقض وضوؤه وحكى ابن القاص قولاً أنه لا ينتقض وهو غير مشهور ووجهه أنه لا يلتذ بمسه والدليل على أنه ينتقض أنه أحد السبيلين فأشبه القبل وإن انسد المخرج المعتاد انفتح دون المعدة مخرج فمسه ففيه وجهان: أحدهما لا ينتقض لأنه ليس بفرج والثاني ينتقض لأنه سبيل للحدث فأشبه الفرج وإن مس فرج غيره من صغير أو كبير أو حي أو ميت انتقض وضوؤه لأنه إذا انتقض بمس ذلك من نفسه ولم يهتك به حرمته فلأن ينتقض بمس ذلك من غيره وقد هتك حرمته أولى وإن مس ذكراً مقطوعاً ففيه وجهان: أحدهما لا ينتقض وضوؤه كما لو مس يداً مقطوعة من امرأة والثاني ينتقض لأنه قد وجد مس الذكر ويخالف اليد المقطوعة فإنه لم يوجد لمس المرأة وإن مس فرج بهيمة لم يجب الوضوء وحكى ابن عبد الحكيم قولاً آخر أنه يجب الوضوء وليس بشيء لأن البهيمة لا حرمة لها ولا تعبد عليها وإن مس الخنثى المشكل فرجه أو ذكره أو مس ذلك منه غيره لم ينتقض الوضوء حتى يتحقق أنه مس الفرج الأصلي أو الذكر الأصلي ومتى جوز أن يكون الذي مسه غير الأصلي لم ينتقض الوضوء وكذا لو تيقنا أنه انتقض طهر أحدهما ولم نعرفه بعينه لم نوجب الوضوء على واحد منهما لأن الطهارة متيقنة فلا يزال ذلك بالشك.
فصل: وما سوى هذه الأشياء الخمسة لا ينقض الوضوء كدم الفصد والحجامة

(1/52)


والقيء لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه وكذلك أكل شيء من اللحوم لا ينقض الوضوء وحكى ابن القاضي قولاً آخر أن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء وليس بمشهور والدليل على أنه لا ينقض الوضوء ما روى جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار ولأنه إذا لم ينتقض الوضوء بأكل لحم الخنزير وهو حرام فلأن لم ينتقض بغيره أولى وكذلك لا ينتقض الطهر بقهقهة المصلي لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء" والمستحب أن يتوضأ من الضحك في الصلاة ومن الكلام القبيح لما روى عن عبد الله بن مسعد رضي الله عنه أنه قال: لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب وقالت عائشة رضي الله عنها الله عنها: يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب ولا يتوضأ من الكلمة العوراء وقال ابن عباس: الحدث حدثان حدث اللسان وحدث الفرج وأشدهما حدث اللسان.
فصل: ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة لأن الطهارة يقين فلا يزال ذلك بالشك وإن تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على يقين الحدث لأن الحدث يقين فلا يزال بالشك وإن تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما نظر فإن كان قبلهما طهارة فهو الآن محدث لأنه قد تيقن أن الطهارة قبلهما ورد عليها حدث فأزالها وهو يشك هل ارتفع هذا الحدث بطهارة بعده أم لا فلا يزال يقين الحدث بالشك وإن كان قبلهما حدث فهو الآن متطهر لأنه قد تيقن أن الحدث قبلهما قد ورد عليه طهارة فأزالته وهو يشك هل ارتفعت هذه الطهارة بحدث بعدها أم لا فلا يزال يقين الطهارة بالشك وهذا كما تقول في رجل أقام بينة بدين وأقام المدعي عليه بينة بالبراءة فإنا نقدم بينة البراءة لأنا تيقنا أن البراءة وردت على دين واجب فأزالته ونحن نشك هل اشتغلت ذمته بعد البراءة بدين بعدها فلا نزيل يقين البراءة بالشك.
فصل: إذا أحدث حرمت عليه الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" 1 ويحرم عليه الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة2" إلا أن الله تعالى أباح فيه
__________
1 رواه النسائي في كتاب الطهارة باب 117. أحمد في مسنده "2/223" "6/407".
2 رواه النسائي في كتابالمناسك باب 136. الدارمي في كتاب المناسك باب 32. أحمد في مسنده "3/414" 4/64".

(1/53)


الكلام ويحرم عليه مس المصحف لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ولما روى حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر1" ويحرم عليه حمله في كمه لأنه إذا حرم مسه فلأن يحرم حمله وهو في الهتك أبلغ أولى ويجوز أن يتركه بين يديه ويتصفح أوراقه بخشبة لأنه غير مباشر له ولا حامل له وهل يجوز للصبيان حمل الألواح وهم محدثون؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز لغيرهم والثاني يجوز لأن طهارتهم لا تنحفظ وحاجتهم إلى ذلك ماسة وإن حمل رجل متاعاً وفي جملته مصحف وهو محدث جاز لأن القصد نقل المتاع فعفى عما فيه من القرآن كما لو كتب كتاباً إلى دار الشرك وفيه آيات من القرآن وإن حمل كتاباً من كتب الفقه وفيه آيات من القرآن أو حمل الدراهم الأحدية أو الثياب التي طرزت بآيات من القرآن ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه يحمل القرآن والثاني يجوز لأن القصد منه غير القرآن وإن كان على موضع من بدنه نجاسة فمس المصحف بغيره جاز وقال القاضي أبو القاسم الصيمري رحمه الله: لا يجوز كما لا يجوز للمحدث أن يمس المصحف بظهره وإن كانت الطهارة تجب في غيره وهذا لا يصح لأن حكم الحدث يتعدى وحكم النجاسة لا يتعدى محلها.

(1/54)


باب الاستطابة
إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء عليه ذكر الله عز وجل فالمستحب له أن ينحيه لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه وإنما وضعه لأنه كان عليه محمد رسول الله ويستحب أن يقول إذا دخل الخلاء باسم الله لقوله صلى الله عليه وسلم "ستر ما بين عورات أمتي وأعين الجن باسم الله" ويستحب أن يقول اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال ذلك ويقول إذا خرج
__________
1 رواه الدارمي في كتاب الطلاق باب 3. الموطأ في كتاب مس القرآن حديث 1.

(1/54)


غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني لما روى أبو داود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" وروت عائشة رضي الله عنها الله عنها قالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط إلا قال: "غفرانك" ويستحب أن يقدم في الدخول رجله اليسرى وفي الخروج رجله اليمنى لأن اليسار للأذى واليمنى لما سواه وإن كان في الصحراء أبعد لما روى المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد ويستتر عن العيون بشيء لما روى أبو هريرة رضي اللهى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستتر به ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول1" ويجوز ذلك في البنيان لما روت عائشة رضي الله عنها الله عنه أن ناساً كانوا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وقد فعلوها حولوا بمقعدتي إلى القبلة" ولأن في الصحراء خلقاً من الملائكة والجن يصلون فيستقبلهم بفرجه وليس في البنيان ذلك ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ويرتاد موضعاً للبول فإن كانت الأرض صلبة دقها بعود أو حجر حتى
__________
1 رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 59، 60. البخاري في كتاب الصلاة 29. أبو داود في كتاب الطهارة باب 4. الترمذي في كتاب الطهارة باب 6. 18، 19. الموطأ في كتاب القبلة حديث 1.

(1/55)


لا يترشش عليه البول لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله" ويكره أن يبول قائماً من غير عذر لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما بلت قائماً منذ أسلمت ولأنه لا يأمن أن يترشش عليه ولا يكره ذلك للعذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً لعلة بمأبضيه ويكره أن يبول في ثقب أو سرب لما روي عن عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في جحر ولأنه خرج منه ما يلسعه أو يرد عليه البول ويكره أن يبول في الطريق والظل والموارد لما روى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل1" ويكره أن يبول في مساقط الثمار لأنه يقع عليه فينجس ويكره أن يتكلم لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله تبارك وتعالى يمقت على ذلك2" ويكره أن يرد السلام أو يحمد الله إذا عطس أو يقول مثل ما يقول المؤذن لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى توضأ ثم قال: كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر والمستحب أن يتكئ على رجله اليسرى لما روى سراقة بن مالك رحمه الله تعالى قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسار ولأنه أسهل في قضاء الحاجة ولا يطيل القعود لما روي عن لقمان عليه السلام أنه قال: طول القعود على الحاجة ييجع
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 14. ابن ماجه في كتاب الطهارة 31. أحمد في مسنده "1/299".
2 رواه أحمد في مسنده "3/36".

(1/56)


منه الكبد ويأخذ منه الباسور فاقعد هويناً واخرج وإذا بال تنحنح حتى يخرج إن كان هناك شيء ويمسح ذكره من مجامع العروق ثم ينتره والمستحب أن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لما روى عبدا لله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فإن عامة الوسواس منه1"
فصل: والاستنجاء واجب من البول والغائط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليستنج بثلاثة أحجار2" ولأنها نجاسة لا تلحق المشقة في إزالتها غالباً فلم تصح الصلاة معها كسائر النجاسات وإن خرجت منه حصاة أو دودة لا رطوبة معها ففيه قولان: أحدهما يجب الاستنجاء لأنه لا تخلو من رطوبة والثاني لا يجب وهو الأصح لأنه خارج من غير رطوبة فأشبه الريح ويستنجي قبل أن يتوضأ فإن توضأ ثم استنجى صح الوضوء وإن تيمم ثم استنجى لم يصح التيمم قال الربيع فيه قول آخر أنه يصح قال أبو إسحاق: هو من كيسه والأول هو المنصوص عليه في الأم ووجهه أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما تستباح به الصلاة من نجاسة النجو فلا تستباح مع بقاء المانع ويخالف الوضوء فإنه يرفع الحدث فجاز أن يرفع الحدث والمانع قائم وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في غير موضع الاستنجاء ففيه وجهان: أحدهما أنه كنجاسة النجو
__________
1رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68. مسلم في كتاب الطهارة حديث 94-96. أبو داود في كتاب الطهارة باب 36. الترمذي في كتاب الطهارة باب 51.
2 رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 58. النسائي في كتاب الطهارة باب 41. أحمد في مسنده "5/437، 438".

(1/57)


والثاني أنه يصح التيمم لأن التيمم لا تستباح به الصلاة من هذه النجاسة فصح فعله مع وجودها بخلاف نجاسة النجو وإن أراد الاستنجاء نظرت فإن كانت النجاسة بولاً أو غائطاً ولم تجاوز الموضع المعاتد جاز بالماء والحجر والأفضل أن يجمع بينهما لأن الله تعالى أثنى على أهل قباء فقال فيهم {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يصنعون فقالوا: نتبع الحجارة الماء فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لأنه أبلغ في الإنقاء وإن اقتصر على الحجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عمر رضي الله عنه خلفه بكوز من ماء فقال: "ما هذا يا عمر"؟ فقال: ماء تتوضأ به قال: "ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ ولو فعلت لكان سنة" ولأنه قد يبتلى بالخارج في موضع لا يلحق الماء فيه فسقط وجوبه وإن أراد الاقتصار على الحجر لزمه أمران: أحدهما أن يزيل العين حتى لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء والثاني أن يستوفي ثلاث مسحات لما روي أن رجلاً قال لسلمان رضي اله عنه: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال: أجل نهانا أن نجترئ بأقل من ثلاثة أحجار فإن استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه لأن القصد عدد المسحات وقد وجد ذلك وفي كيفية الاستنجاء بالحجر وجهان: قال أبو علي ابن أبي هريرة رضي الله عنه: يضع حجراً على مقدم صفحته اليمنى ويمرها إلى آخرها ثم يدير الحجر إلى الصفحة اليسرى ويمره عليها إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي بدأ منه ويأخذ الثاني فيمره على الصفحة اليسرى ويمره إلى آخرها ثم يديره إلى الصفحة اليمنى فيمره عليها إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي بدأ منه ويأخذ الثالث فيمره على الصفحتين والمسربة لقوله صلى الله عليه وسلم: يقبل بواحد ويدبر بآخر ويحلق بالثالث وقال أبو إسحاق: يمر حجراً على الصفحة اليمنى وحجراً على الصفحة اليسرى وحجراً على المسربة لقوله صلى الله عليه وسلم: أو لا يجد ثلاثة أحجار حجرين للصفحتين وحجراً للمسربة والأول أصح لأنه يمر كل حجر على المواضع الثلاثة ولا يجوز أن يستنجي بيمينه ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى فإن يستنجي بغير الماء أخذ ذكره بيسراه ومسحه

(1/58)


على ما يستنجي به من أرض أو حجر فإن كان الحجر صغيراً غمز عقبه عليه أو مسكه بين إبهامي رجليه ومسح ذكره عليه بيساره وإن كان يستنجي بالماء صب الماء بيمينه ومسحه بيساره فإن خالف واستنجى بيمينه أجزأه لأن الاستنجاء يقع بما في اليد لا باليد فلم يمنع صحته.
فصل: ويجوز الإستنجاء بالحجر وما يقوم مقامه قال أصحابنا: يقوم مقامه كل جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة ولا هو جزء من حيوان فأما غير الماء من المائعات فلا يجوز الإستنجاء به لأنه ينجس بملاقاة النجاسة فيزيد في النجاسة وما ليس بطاهر كالروث والحجر النجس لا يجوز الإستنجاء به لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالروث ولأنه نجس فلا يستنجي به كالماء النجس فإن استنجى بذلك لزمه بعد ذلك أن يستنجي بالماء لأن الموضع قد صار نجساً بنجاسة نادرة فوجب غسله بالماء ومن أصحابنا من قال يجزي فيه الحجر لأنها نجاسة فلم يؤثر وما لا يزيل العين لا يجوز به الاستنجاء كالزجاج والحممة لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإستنجاء بالحممة ولأن ذلك لا يزيل النجو وما له حرمة من المطعومات كالخبز والعظم لا يجوز به الاستنجاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإستنجاء بالعظم وقال: "هو زاد إخوانكم من الجن" فإن خالف واستنجى به لم يجزئه لأن الاستنجاء بغير الماء رخصة والرخصة لا تتعلق بالمعاصي وما هو جزء من الحيوان كذنب حمار يجوز الإستنجاء به ومن أصحابنا من قال يجوز والأول أصح لأنه جزء من حيوان فلم يجز الإستنجاء به كما لو استنجى بيده ولأن له حرمة فهو كالطعام وإن استنجى بجلد مدبوغ ففيه قولان: قال في حرملة: لا يجوز لأنه كالرمة وقال في الأم: يجوز لأنه إن كان ليناً فهو كالخرق وإن استنجى بجلد حيوان مأكول اللحم مذكى غير مدبوغ ففيه قولان: قال في الأم: وحرملة لا يجوز لأنه لا

(1/59)


يقلع النجو لزوجته وقال في البويطي: يجوز والأول هو المشهور
فصل: وإن جاوز الخارج الموضع المعتاد فإن كان غائطاً فخرج إلى ظاهر الألية لم يجز فيه إلا الماء لأن ذلك نادر فهو كسائر النجاسات: وإن خرج إلى باطن الألية ولم يخرج إلى ظاهرها ففيه قولان: أحدهما أنه لا يجزئ فيه إلا الماء لأنه نادر فهو كما لو خرج إلى ظاهر الألية والثاني يجزئ فيه الحجر لأن المهاجرين رضي الله عنهم هاجروا إلى المدينة فأكلوا التمر ولم يكن ذلك عادتهم ولا شك أنه رقت بذلك أجوافهم ولم يؤمروا بالاستنجاء بالماء ولأن ما يزيد على المعتاد لا يمكن ضبطه فجعل الباطن كله حداً ووجب الماء فيما زاد وإن كان بولاً ففيه طريقان: قال أبو إسحاق: إذا جاوز مخرجه حتى رجع على الذكر أعلاه أو أسفله لم يجز فيه إلا الماء لأن ما يخرج من البول لا ينتشر إلا نادراً بخلاف ما يخرج من الدبر فإنه لا بد من أن ينتشر ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما لا يجوز فيه إلا الماء نص عليه في البويطي ووجهه ما قال أبو إسحاق والثاني أنه يجوز فيه الحجر ما لم يجاوز موضع الحشفة نص عليه في الأم لأنه لما جاز الحجر في الغائط ما لم يجاوز باطن الألية لتعذر الضبط وجب أن يجوز في البول ما لم يجاوز الحشفة لتعذر الضبط وإن كان الخارج نادرا كالدم والمذي والودي أو دوداً أو حصاة وقلنا إنه يجب منه الإستنجاء فهل يجزئ فيه الحجر أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كالبول والغائط وقد بيناهما والثاني: لا يجزئ فيه إلا الماء لأنه نادر فهو كسائر النجاسات.

(1/60)


باب ما يوجب الغسل

(1/60)


والذي يوجب الغسل: إيلاج الحشفة في الفرج وخروج المني والحيض والنفاس فأما إيلاج الحشفة فإنه يوجب الغسل لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا التقى الختانان وجب الغسل1" والتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة في الفرج وذلك أن ختان الرجل هو الجلد الذي يبقى بعد الختان وختان المرأة جلدة كعرف الديك فوق الفرج فتقطع منها في الختان فإذا غابت الحشفة في الفرج حاذى ختانه ختانها فإذا تحاذيا فقد التقيا ولهذا يقال التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم يتضاما فإن أولج في فرج امرأة ميتة وجب عليه الغسل لأنه فرج آدمية فأشبه فرج الحية وإن أولج في دبر امرأة أو رجل أو بهيمة وجب عليه الغسل لأنه فرج حيوان فأشبه فرج المرأة وإن أولج في دبر خنثى مشكل وجب عليه الغسل وإن أولج في فرجه لم يجب لجواز أن يكون ذلك عضواً زائداً فلا يجب الغسل بالشك.
فصل: وأما خروج المني فإنه يوجب الغسل على الرجل والمرأة في النوم واليقظة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الماء من الماء2" وروت
__________
1 رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 88. البخاري في كتاب الغسل باب 28. أبو داود في كتاب الطهارة باب 83. الترمذي في كتاب الطهارة باب 80. النسائي في كتاب الطهارة باب 128 أحمد في مسنده "2/178" "6/47، 97".
2 رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 81 أبو داود في كتاب الطهارة باب 131. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 110. أحمد في مسنده "3/29".

(1/61)


أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ "قال نعم إذا رأت الماء" فإن احتلم ولم ير المني أو شك هل خرج المني لم يلزمه الغسل وإن رأى المني ولم يذكر احتلاماً لزمه الغسل لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام قال: يغتسل وعن الرجل يرى أنه احتلم ولا يجد البلل قال: "لا غسل عليه" وإن رأى المني في فراش نام فيه هو وغيره لم يلزمه الغسل لأن الغسل لا يجب بالشك والأولى أن يغتسل وإن كان لا ينام فيه غيره لزمه الغسل وإعادة الصلاة من آخر يوم نام فيه ولا يجب الغسل من المذي وهو الماء الذي يخرج بأدنى شهوة لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: كنت رجلاً مذاء فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة فإذا نضحت الماء فاغتسل1" ولا من الودي وهو ما يقطر منه عند البول لأن الإيجاب بالشرع ولم يرد بالشرع إلا في المني فإذا خرج منه ما يشبه المني والمذي ولم يتميز له فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال يجب عليه الوضوء منه لأن وجوب غسل الأعضاء متيقن وما زاد على أعضاء الوضوء مشكوك في وجوبه فلا يجب بالشك ومنهم من قال: هو مخير بين أن يجعله منياً فيجب الغسل منه وبين أن يجعله مذياً فيجب الوضوء وغسل الثوب منه لأنه يحتمل الأمرين احتمالاً واحداً وقال الشيخ الإمام أحسن الله توفيقه: وعندي أنه يجب أن يتوضأ مرتباً ويغسل سائر بدنه ويغسل الثوب منه لأنا إذا جعلناه منياً أوجبنا عليه غسل ما زاد على أعضاء الوضوء بالشك والأصل عدمه وإن جعلناه مذياً أوجبنا عليه غسل الثوب والترتيب
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 82. النسائي في كتاب الطهارة باب 129. أحمد في مسنده "1/125".

(1/62)


في الوضوء بالشك والأصل عدمه وليس أحد الأصليين أولى من الآخر ولا سبيل إلى إسقاط حكمهما لأن الذمة قد اشتغلت بفرض الطهارة والصلاة والتخيير لا يجوز لأنه إذا جعله مذياً لم يأمن من أن يكون منياً فلم يغتسل له وإن جعله منياً لم يأمن أن يكون مذياً ولم يغسل الثوب منه ولم يرتب الوضوء منه واجب أن يجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين.
فصل: وأما الحيض فإنه يوجب الغسل لقوله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة:222] الآية قيل في التفسير هو الاغتسال ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي1" وأما دم النفاس فإنه يوجب الغسل لأنه حيض مجتمع ولأنه يحرم الصوم والوطء ويسقط فرض الصلاة فأوجب الغسل كالحيض وأما إذا ولدت المرأة ولداً ولم تر دماً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليها الغسل لأن الولد مني منعقد والثاني: لا يجب لأنه لا يسمى منياً وإن استدخلت المرأة المني ثم خرج منها لم يلزمها الغسل.
فصل: وإن أسلم الكافر ولم يجب عليه غسل في حال الكفر فالمستحب أن يغتسل لما روي أنه أسلم قيس بن عاصم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ولا يجب ذلك لأنه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وإن وجب عليه غسل في حال الكفر ولم يغتسل لزمه أن يغتسل وإن كان قد اغتسل في حال الكفر فهل يجب عليه إعادته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تجب الإعادة لأنه غسل صحيح بدليل أنه تتعلق به إباحة الوطء في حق الحائض إذا طهرت فلم تجب إعادته كغسل المسلم والثاني تجب الإعادة وهو الأصح لأنه عبادة محضة فلم تصح من الكافر في حق الله تعالى كالصوم والصلاة.
فصل: ومن أجنب حرم عليه الصلاة والطواف ومس المصحف وحمله لأنا دللنا على أن ذلك يحرم على المحدث فلأن يحرم على الجنب أولى ويحرم عليه قراءة القرآن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن2" ويحرم عليه اللبث في المسجد ولا يحرم عليه العبور لقوله عز وجل:
__________
1رواه البخاري في كتاب الحيض باب 19. مسلم في كتاب الحيض حديث 62. أبو داود في كتاب الطهارة باب 108. الترمذي في كتاب الطهارة باب 93. النسائي في كتاب الطهارة باب 133. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 104.
2 رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 98. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 10.

(1/63)


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: من الآية43] وأراد موضع الصلاة وقال في البويطي: ويكره له أن ينام حتى يتوضأ لما روي أن عمر رضي الله عنه قال يا رسول الله: أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: "نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد" قال أبو علي الطبري: وإذا أراد أن يطأ أو يأكل أو يشرب توضأ ولا يستحب ذلك للحائض لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها ويؤثر في حدث الجنابة لأنه يخففه ويزيله عن أعضاء الوضوء.

(1/64)


باب صفة الغسل
إذا أراد الرجل أن يغتسل من الجنابة فإنه يسمي الله عز وجل وينوي الغسل من الجنابة أو الغسل لاستباحة أمر لا يستباح إلا بالغسل كقراءة القرآن والجلوس في المسجد ويغسل كفيه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء ثم يغسل ما على فرجه من الأذى ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يدخل أصابعه العشر في الماء فيغرف بها غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات ثم يفيض الماء على سائر جسده ويمر يديه على ما قدر عليه من بدنه ثم يتحول من مكانه ثم يغسل قدميه لأن عائشة وميمونة رضي الله عنهما وصفتا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك والواجب من ذلك ثلاثة أشياء: النية وإزالة النجاسة - إن كانت - وإفاضة الماء على البشرة الظاهرة وما عليها من الشعر حتى يصل الماء إلى ما تحته وما زاد على ذلك سنة لما روى جبير بن مطعم قال: تذاكرنا الغسل من الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما أنا فيكفيني أن أصب على رأسي ثلاثاً ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي" وإن كانت امرأة تغتسل من الجنابة كان غسلها كغسل الرجل فإن كان لها ضفائر فإن كان الماء يصل إليها من غير نقض لم يلزمها نقضها لأن أم سلمة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للغسل من الجنابة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا إنما يكفيك أن

(1/64)


تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت" وإن لم يصل إليها الماء إلا بنقضها لزمها نقضها لأن إيصال الماء إلى الشعر والبشرة واجب وإن كانت تغتسل من الحيض فالمستحب لها أن تأخذ فرصة من المسك فتتبع بها أثر الدم لما روت عائشة رضي الله عنها الله عنها أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن الغسل من الحيض فقال: "خذي فرصة من مسك فتطهري بها" فقالت كيف أتطهر بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله تطهري بها" قالت عائشة رضي الله عنها قلت تتبعي بها أثر الدم فإن لم تجد مسكاً فطيباً غيره لأن القصد تطييب الموضع فإن لم تجد فالماء كاف ويستحب أن لا ينقص في الغسل عن صاع ولا في الوضوء عن مد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد فإن أسبغ بما دونه أجزأه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بما لا يبل الثرى قال الشافعي رحمه الله: وقد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير فلا يكفي.
فصل: ويجوز أن يتوضأ الرجل والمرأة من إناء واحد لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ويجوز أن يتوضأ أحدهما بفضل وضوء الآخر لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت: أجنبت فاغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منه فقلت إني قد اغتسلت منه فقال "الماء ليس عليه جنابة" واغتسل منه.
فصل: فإن أحدث وأجنب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجب الغسل ويدخل فيه

(1/65)


الوضوء وهو المنصوص في الأم لأنهما طهارتان فتدخلتا كغسل الجنابة وغسل الحيض والثاني أنه يجب عليه الوضوء والغسل لأنهما حقان مختلفان يجبان بسببين مختلفين فلم يتداخل أحدهما في الأخر كحد الزنا والفرقة والثالث أنه يجب عليه أن يتوضأ مرتبا ويغسل سائر البدن لأنهما متفقان في الغسل ومختلفان في الترتيب فما اتفقا فيه تداخلا وما اختلفا فيه لم يتدخلا قال الشيخ الإمام رحمه الله وأحسن توفيقه: وسمعت شيخنا أبا حاتم القزويني رحمه الله يحكي فيه وجهاً رابعاً أنه يقتصر على الغسل إلا أنه يحتاج أن ينويهما ووجهه أنهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية كالحج والعمرة فإن توضأ من الحديث ثم ذكر أنه كان جنباً أو اغتسل من الحدث ثم ذكر أنه كان جنباً أجزأه ما غسل من الحدث عن الجنابة لأن فرض الغسل في أعضاء الوضوء من الجنابة والحدث واحد وبالله التوفيق.

(1/66)


باب التيمم
يجوز التيمم عن الحدث الأصغر لقوله عز وجل {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] ويجوز عن الحديث الأكبر وهو الجنابة والحيض لما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: أجنبت فتمعكت في التراب فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "إنما كان يكفيك هكذا" وضرب يديه على الأرض ومسح وجهه وكفيه ولأنها طهارة عن حدث فناب عنها التيمم كالوضوء ولا يجوز ذلك عن إزالة النجس لأنها طهارة فلا يؤمر بها للنجاسة في غير محل النجاسة كالغسل.
فصل: والتيمم مسح الوجه واليدين مع المرفقين بالتراب بضربتين أو بأكثر والدليل عليه ما روى أبو أمامة وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التيمم ضربتان ضربة

(1/66)


للوجه وضربة اليدين إلى المرفقين" وحكى بعض أصحابنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال في القديم: التيمم ضربتان ضربة للكفين ووجهه في حديث عمار وأنكر الشيخ أبو حامد الأسفراييني رحمه الله ذلك وقال: المنصوص في القديم والجديد هو الأول ووجهه أنه عضو في التيمم فوجب استعيابه كالوجه وحديث عمار رضي الله عنه يتأول على أنه مسح كفيه إلى المرفقين بدليل حديث أبي أمامة وابن عمر
فصل: ولا يجوز إلا بالتراب لما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض مسجداً وجعل ترابها لنا طهوراً وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة1" فعلق الصلاة على الأرض ثم نزل في التيمم إلى التراب فلو جاز التيمم بجميع الأرض لما نزل عن الأرض إلى التراب ولأنه طهارة عن الحدث فاختص بجنس واحد كالضوء فأما الرمل فقد قال في القديم والإملاء: يجوز التيمم به وقال في الأم: لا يجوز فمن أصحابنا من قال لا يجوز قولاً واحداً وما قال في القديم والإملاء محمول على رمل يخالطه التراب ومنهم من قال على قولين أحدهما يجوز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا بأرض الرمل وفينا الجنب والحائض ونبقى أربعة أشهر لا نجد الماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالأرض" والثاني لا يجوز لأنه ليس بتراب فأشبه الجص وإن أحرق الطين وتيمم بمدقوقه ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز بالخزف المدقوق والثاني يجوز لأن إحراقه لم يزل اسم الطين والتراب عن مدقوقه بخلاف الخزف ولا يجوز إلا بتراب له غبار يعلق بالعضو فإن تيمم بطين رطب أو بتراب ندي لا يعلق غباره ولم يجزه لقوله عز وجل: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [النساء43] وهذا يقتضي أنه يمسح بجزء من الصعيد ولأنه طهارة فوجب إيصال الطهور فيها إلى محل الطهارة كمسح الرأس ولا يجوز بتراب نجس لأنه طهارة فلا تجوز بالنجس كالوضوء ولا يجوز بما خالطه دقيق أو جص لأنه ربما حصل بالعضو فمنع من وصول التراب إليه ولا يجوز بما استعمل في العضو فأما ما تناثر من أعضاء من أعضاء المتيمم ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز التيمم به كما لا يجوز الوضوء بما تساقط من أعضاء المتوضئ والثاني يجوز لأن المستعمل منه ما بقي على العضو وما تناثر غير مستعمل فجاز التيمم به ويخالف الماء لأنه لا يدفع بعضه بعضاً والتراب يدفع بعضه بعضاً فدفع ما أدى به الفرض في العضو ما تناثر منه
__________
1 رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 4 أحمد في مسنده "5/383.

(1/67)


فصل: ولا يصح التيمم إلا بالنية لما ذكرناه في الوضوء وينوي بالتيمم إستباحة الصلاة فإن نوى به رفع الحدث ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه لا يرفع الحدث والثاني يصح لأن نية رفع الحدث تتضمن إستباحة الصلاة ولا يصح التيمم للفرض إلا بنية الفرض فإن نوى بتيممه صلاة مطلقة أو صلاة نافلة لم يستبح الفريضة وحكى شيخنا أبو حاتم القزويني رحمه الله أن أبا يعقوب البارودي حكى عن الإملاء قولاً آخر أنه يستبيح به الفرض ووجهه أنه طهارة فلم يفتقر إلى نية الفرض كالوضوء والذي يعرفه البغداديون من أصحابنا كالشيخ أبي حامد الإسفراييني وشيخنا القاضي أبي الطيب رحمهما الله أنه لا يستبيح به الفرض لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستباح به الصلاة فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه بخلاف الوضوء فإنه يرفع الحدث فاستباح به الجميع وهل يحتاج إلى تعيين الفرضة فيه وجهان: أحدهما أنه يحتاج إلى تعيينها لأن كل موضع افتقر إلى نية الفريضة افتقر إلى تعيينها كأداء الصلاة والثاني لا يحتاج إلى تعيينها ويدل عليه قوله في البويطي فإن تيمم للنفل كان له أن يصلي على الجنازة نص عليه في البويطي لأن صلاة الجنازة كالنافلة وإن تيمم لصلاة الفرض استباح به النفل لأن النفل تابع للفرض فإذا استباح المتبوع استباح التابع كما إذا أعتق الأم عتق الحمل.
فصل: وإذا أراد التيمم فالمستحب له أن يسمي الله عز وجل لأنه طهارة عن حدث فاستحب فيها اسم الله عز وجل عليه كالوضوء ثم ينوي ويضرب يديه على التراب ويفرق أصابعه فإن كان التراب ناعماً فترك الضرب ووضع اليدين جاز ويمسح بهما وجهه ويوصل التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه وإلى ما ظهر من الشعر ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الحاجبين والشارب والعذارين والعنفقة ومن أصحابنا من قال يجب ذلك كما يجب إيصال الماء إليه في الوضوء والمذهب الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف التيمم واقتصر على ضربتين ومسح وجهه بإحداهما ومسح إحدى اليدين بالأخرى وبذلك لا يصل التراب إلى باطن هذه الشعور ويخالف الوضوء لأنه لا مشقة في إيصال الماء إلى ما تحت هذه الشعور وعليه مشقة في إيصال التراب فسقط وجوبه ثم يضرب ضربة أخرى فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى ويمرها على ظهر الكف فإذا بلغ الكوع جعل أطراف أصابعه على حرف الذراع ثم يمر ذلك إلى المرافق ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمره عليه ويرفع إبهامه فإذا بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى ثم يمسح بكفه اليمنى يده اليسرى مثل

(1/68)


ذلك ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل أصابعهما لما روى أسلم قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا جنب فنزلت آية التيمم فقال: "يكفيك هكذا فضرب بكفيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما وجهه ثم أمرهما على لحيته ثم أعادهما إلى الأرض فمسح بهما الأرض ثم دلك إحداهما بالأخرى ثم مسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما".
فصل: والفرض مما ذكرناه النية ومسح الوجه ومسح اليدين بضربتين أو أكثر وتقديم الوجه على اليدين وسنته التسمية وتقديم اليمنى على اليسرى.
فصل: قال في الأم: فإن أمر غيره حتى يممه ونوى هو جاز كما يجوز في الوضوء وقال ابن القاص رحمه الله: لا يجوز قلته تخريجاً قال في الأم: وإن سفت الريح عليه تراباً ناعماً فأمر يديه على وجهه لم يجزه لأنه لم يقصد الصعيد وقال القاضي أبو حامد رحمه الله: هذا محمول عليه إذا لم يقصد فأما إذا صمد للريح فسفت عليه التراب أجزأه وهذا خلاف المنصوص.
فصل: ولا يجوز التيمم للمكتوبة إلا بعد دخول الوقت لأنه قبل دخول الوقت مستغن عن التيمم فلم يصح تيممه كما لو تيمم مع وجود الماء وإن تيمم قبل دخول الوقت لفائتة فلم يصلها حتى دخل وقت الحاضرة ففيه وجهان: قال أبو بكر ابن الحداد رحمه الله: يجوز أن يصلي به الحاضرة بعد دخول الوقت لأنه تيمم وهو غير مستغن عن التيمم فأشبه إذا تيمم للحاضرة بعد دخول الوقت ومن أصحابنا من قال لا يجوز لأنها فريضة تقدم التيمم على وقتها فأشبه إذا تيمم لها قبل دخول الوقت.
فصل: ولا يجوز التيمم بعد دخول الوقت إلا للعادم للماء أو للخائف من استعماله فأما الواجد فلا يجوز له التيمم لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ما لم يجد الماء1" فإن وجد الماء وهو محتاج إليه للعطش فهو كالعادم لأنه ممنوع من استعماله فأشبه إذا وجد ماء وحال بينهما سبع.
فصل: ولا يجوز للعادم للماء أن يتيمم إلا بعد الطلب لقوله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ولا يقال لم يجد إلا بعد الطلب ولأنه بدل أجيز عند عدم المبدل فلا يجوز فعله إلا بعد ثبوت العدم كالصوم في الكفارة لا يفعله حتى يطلب الرقبة ولا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت لأنه إنما يطلب ليثبت شرط التيمم وهو
__________
1 رواه البخاري في كتاب التيمم باب 6،5. أبو داود في كتاب الطهارة باب 123. الترمذي في كتاب الطهارة باب 92. النسائي في كتاب الطهارة باب 203. أحمد في مسنده "5/146، 147، 155"

(1/69)


عدم الماء فلم يجز في وقت لا يجوز فيه فعل التيمم والطلب أن ينظر عن يمينه وشماله وأمامه ووراءه فإن كان بين يديه حائل من جبل أو غير صعده ونظر حواليه وإن كان معه رفيق سأله عن الماء فإن بذله لزمه قبوله لأنه لا منة عليه في قبوله فإن باعه منه بثمن المثل وهو واجد للثمن غير محتاج إليه لزمه شراؤه كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة والطعام للمجاعة فإن لم يبذله له وهو غير محتاج إليه لنفسه لم يجز له أن يكابره على أخذه كما يكابره على طعام يحتاج إليه للمجاعة وصاحبه لا يحتاج إليه لأن الطعام ليس له بدل وللماء بدل فإن دل على ماء ولم يخف فوات الوقت ولا انقطاعاً عن الرفقة لا ضرراً على نفسه وماله لزمه طلبه وإن طلب ولم يجد فتيمم ثم طلع عليه ركب قبل أن يدخل في الصلاة لزمه أن يسألهم عن الماء فإن لم يجده معهم أعاد التيمم لأنه لما توجه عليه الطلب بطلب التيمم وإن طلب ولم يجد جاز له التيمم لقوله عز وجل: "فلم تجدوا ماء فتيمموا" "المائدة: 6" وهل الأفضل أن يقدم التيمم والصلاة أم لا؟ ينظر فيه فإن كان على ثقة من وجود الماء أخر الوقت فالأفضل أن يؤخر التيمم لأن الصلاة في أول وقتها فضيلة والطهارة بالماء فريضة فكان انتظار الفريضة الأولى وإن كان على إياس من وجوده فالأفضل أن يتيمم ويصلي لأن الظاهر أنه لا يجد الماء فلا يضيع فضيلة أول الوقت لأمر لا يرجوه وإن كان يشك في وجوده ففيه قولان: أحدهما أن تأخيرها أفضل لأن الطهارة بالماء فريضة والصلاة في أول الوقت فضيلة فكان تقديم الفريضة أولى والثاني أن تقديم الصلاة بالتيمم أفضل وهو الأصح لأن فعلها في أول الوقت فضيلة متيقنة والطهارة بالماء مشكوك فيها فكان تقديم الفضيلة المتيقنة أولى فإن تيمم وصلى ثم علم أنه كان في رحله ماء نسيه لم تصح صلاته وعليه الإعادة على المنصوص لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالنسيان كما لو نسي عضواً من أعضائه فلم يغسله وروى أبو ثور عن الشافعي رحمه الله أنه قال: تصح صلاته ولا إعادة عليه لأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء فسقط الفرض بالتيمم كما لو حال بينهما سبع وإن كان في رحله ماء فأخطأ رحله فطلبه فلم يجده فتيمم وصلى ففيه وجهان: قال أبو علي الطبري رحمه الله: لم تلزمه الإعادة لأنه غير مفرط في الطلب ومن أصحابنا من قال تلزمه لأنه فرط في حفظ الرحل فلزمته الإعادة.
فصل: وإن وجد بعض ما يكفيه للطهارة ففيه قولان: قال في الأم: يلزمه استعمال ما معه ثم يتيمم لقوله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] وهذا واجد للماء فيجب أن لا يتيمم وهو واجد له ولأنه مسح أبيح للضرورة فلا ينوب إلا في موضع

(1/70)


الضرورة كالمسح على الجبيرة وقال في القديم والإملاء: يقتصر على التيمم لأن عدم بعض الأصل بمنزلة عدم الجميع في جواز الاقتصار على البدل كما تقول فيمن وجد بعض الرقبة في الكفارة.
فصل: وإن اجتمع ميت وجنب أو ميت وحائض انقطع دمها وهناك ما يكفي أحدهما فإن كان لأحدهما كان صاحبه أحق به لأنه محتاج إليه لنفسه فلا يجوز له بذله لغيره فإن بذله للآخر وتيمم لم يصح تيممه وإن كان الماء لهما كانا فيه سواء وإن كان الماء مباحاً أو لغيرهما وأراد أن يجود على أحدهما فالميت أولى لأنه خاتمة طهارته والجنب والحائض يرجعان إلى الماء ويغتسلان وإن اجتمع ميت وحي على بدنه نجاسة والماء يكفي أحدهما ففيه وجهان: أحدهما أن صاحب النجاسة أولى لأنه ليس لطهارته بدل ولطهارة الميت بدل وهو التيمم فكان صاحب النجاسة أحق بالماء والثاني أن الميت أولى وهو ظاهر المذهب لأنه خاتمة طهارته وإن اجتمع حائض وجنب والماء يكفي أحدهما ففيه وجهان: قال أبو إسحاق رحمه الله: الجنب أولى لأن غسله منصوص عليه في القرآن ومن أصحابنا من قال إن الحائض أولى لأنها تستبيح بالغسل ما يستبيح الجنب وزيادة وهو الوطء فكانت أولى وإن اجتمع جنب ومحدث وهناك ماء يكفي المحدث ولا يكفي الجنب فالمحدث أولى لأن حدثه يرتفع به ولا يرتفع به حدث الجنب وإن كان الماء يكفي الجنب ولا يفضل عنه شيء ويكفي المحدث ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض بدنه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الجنب أولى لأنه يستعمل جميع الماء بالإجماع فإذا دفعناه إلى المحدث بقي ماء مختلف في وجوب استعماله في الجنابة والثاني أن المحدث أولى لأن فيه تشريكاً بينهما في الماء والثالث أنهما سواء فيدفع الماء إلى من شاء منهما لأنه يرفع حدث كل واحد منهما ويستعمله كل واحد منهما بالإجماع.
فصل: وإن لم يجد ماء ولا تراباً صلى على حسب حاله وأعاد الصلاة لأن الطهارة شرط من شروط الصلاة فالعجز عنها لا يبيح ترك الصلاة كستر العورة وإزالة النجاسة واستقبال القبلة والقيام والقراءة
فصل: وأما الخائف من استعمال الماء فهو أن يكون به مرض أو قروح يخاف معها من استعمال الماء أو في برد شديد يخاف من استعمال الماء فينظر فيه فإن خاف التلف من استعمال الماء جاز له التيمم لقوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] قال ابن عباس رضي الله عنه: إذا

(1/71)


كانت بالرجل جراحة في سبيل الله أو قروح أو جدري فيجنب فيخاف أن يغتسل فيموت فإنه يتيمم بالصعيد وروي عن عمرو بن العاص رحمه الله أنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح فذكرت ذلك للنبي فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فقلت سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وإن خاف الزيادة في المرض وإبطاء البرء قال في الأم: لا يتيمم وقال في القديم والبويطي والإملاء: يتيمم إذا خاف الزيادة فمن أصحابنا من قال هما قولان: أحدهما يتيمم لأنه يخاف الضرر من استعمال الماء فأشبه إذا خاف التلف والثاني لا يجوز لأنه واجد للماء لا يخاف التلف من استعماله فأشبه إذا خاف أنه يجد البرد ومنهم من قال لا يجوز قولاً واحداً وما قال في القديم والبويطي والإملاء محمول على ما إذا خاف زيادة مخوفة وحكى أبو علي في الإفصاح طريقاً آخر أنه تيمم قولاً واحداً وإن خاف من استعمال الماء شيئاً فاحشاً في جسمه فهو كما لو خاف الزيادة في المرض لأنه يألم قلبه بالشين الفاحش كما يألم قلبه بزيادة المرض وإن كان في بعض بدنه قرح يخاف من استعمال الماء فيه التلف غسل الصحيح وتيمم عن الجريح وقال أبو إسحاق يحتمل قولاً آخر أنه يقتصر على التيمم كما لو عجز عن الماء في بعض بدنه للإعواز والأول أصح لأنه العجز هناك ببعض الأصل وههنا العجز ببعض البدن وحكم الأمرين مختلف ألا ترى أن الحر إذا عجز عن بعض الأصل في الكفارة جعل كالعاجز عن جميعه في الاقتصار على البدل ولو كان نصفه حراً ونصفه عبداً لم يكن العجز بالرق في البعض كالعجز في الجميع بل إذا ملك بنصفه الحر مالاً لزمه أن يكفر بالمال.
فصل: ولا يجوز للمتيمم أن يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة وقال المزني: يجوز وهذا خطأ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من السنة أن لا يصلي

(1/72)


بتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للصلاة الأخرى وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه طهارة ضرورة فلا يصلي بها فريضتين من فرائض الأعيان كطهارة المستحاضة فإن نسي صلاة من صلاة اليوم والليلة لا يعرف عينها قضى خمس صلوات وفي التيمم وجهان: أحدهما أنه يكفيه تيمم واحد لأن المنسية واحدة وما سواها ليس بفرض والثاني أنه يجب لكل واحدة تيمم لأنه صار كل واحد منها فرضاً وإن نسي صلاتين من صلاة اليوم والليلة ولا يعرف عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات قال ابن القاص: يجب أن يتيمم لكل واحدة منها لأنه أي صلاة بدأ بها يجوز أن تكون هي المنسية فزال بفعلها حكم التيمم ويجوز أن تكون الثانية هي التي تليها فلا يجوز أداؤها بتيمم مشكوك فيه ومن أصحابنا قال يمكن أن يصلي ثماني صلوات بتيممين فيزيد ثلاث صلوات وينقص ثلاث تيممات فيتيمم ويصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيكون قد صلى إحداهما بالتيمم الأول والثانية بالتيمم الثاني وإن نسي صلاتين من يومين فإن كانتا مختلفتين فهما بمنزلة الصلاتين من يوم وليلة وإن كانتا متفقتين لزمه أن يصلي عشر صلوات فيصلي خمس صلوات بتيمم ثم يتيمم ويصلي خمس صلوات وإن شك هل هما متفقتان أو مختلفتان لزمه أن يأخذ بالأشد وهو أنهما متفقتان.
فصل: ويجوز أن يصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل لأنها غير محصورة فخف أمرها ولهذا أجيز ترك القيام فيها فإن نوى بالتيمم بالفريضة والنافلة جاز أن يصلي النافلة قبل الفريضة وبعدها لأنه نواها بالتيمم وإن نوى بالتيمم الفريضة ولم ينو النافلة جاز أن يصلي النفل بعدها وهل يجوز أن يصليها قبلها؟ فيه قولان: قال في الأم: له ذلك لأن كل طهارة جاز أن ينتفل بها بعد الفريضة جاز قبلها كالوضوء وقال في البويطي: ليس له ذلك لأنه يصليها على وجه التبع للفريضة فلا يجوز أن يتقدم على متبرعها ويجوز أن يصلي على جنائز بتيمم واحد إذا لم يتعين عليه لأنه يجوز تركها فهي كالنوافل وإن تعينت عليه ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجوز أن يصلي بتيم واحد أكثر من صلاة لأنها فريضة تعينت عليه فهي كالمكتوبة والثاني يجوز وهو ظاهر المذهب لأنها ليست من جنس فرائض الأعيان.
فصل: إذا تيمم عن الحدث استباح ما يستبيح بالوضوء فإن أحدث بطل تيممه كما يبطل وضوؤه ويمنع مما كان يمنع من قبل التيمم وإن تيمم عن الجنابة استباح ما يستبيح

(1/73)


بالغسل من الصلاة وقراءة القرآن فإن أحدث منع من الصلاة ولم يمنع من قراءة القرآن لأن تيمم قام مقام الغسل ولو اغتسل ثم أحدث لم يمنع من القراءة فكذلك إذا تيمم ثم أحدث وإن تيمم ثم ارتد بطل تيممه لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستباح به الصلاة والمرتد ليس من أهل الاستباحة.
فصل: وإن تيمم لعدم الماء ثم رأى الماء فإذا كان قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه لأنه لم يحصل في المقصود فصار كما لو رأى الماء في أثناء التيمم وإن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة نظرت فإن كان في الحضر أعاد الصلاة لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل فلم يسقط معه فرض الإعادة كما لو صلى بنجاسة نسيها وإن كان في السفر نظرت فإن كان في سفر طويل لم يلزمه الإعادة لأن عدم الماء في السفر عذر عام فسقط معه فرض الإعادة كالصلاة مع سلس البول وإن كان في سفر قصير ففيه قولان: أشهرهما أنه لا تلزمه الإعادة لأنه موضع يعدم فيه الماء غالباً فأشبه السفر الطويل وقال في البويطي: لا يسقط الفرض عنه لأنه لا يجوز له القصر فلا يسقط الفرض عنه بالتيمم كما لو كان في الحضر وإن كان في سفر معصية ففيه وجهان: أحدهما تجب عليه الإعادة لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تتعلق بالسفر والسفر معصية فلا تجوز أن تتعلق به رخصة والثاني لا يجب لأنا لما أوجبنا عليه ذلك صار عزيمة فلا تلزمه الإعادة وإن كان معه في السفر ماء ودخل عليه وقت الصلاة فأراقه أو شربه من غير حاجة وتيمم وصلى ففيه وجهان: أحدهما تلزمه الإعادة لأنه مفرط في إتلافه والثاني لا تلزمه الإعادة لأنه تيمم وهو عادم للماء فصار كما لو أتلفه قبل دخول الوقت وإن رأى الماء في أثناء الصلاة نظرت فإن كان ذلك في الحضر بطل تيممه وصلاته لأنه تلزمه الإعادة لوجود الماء وقد وجد الماء فوجب أن يشتغل بالإعادة وإن كان في السفر لم يبطل تيممه وقال المزني: يبطل والمذهب الأول لأنه وجد الأصل بعد الشروع في المقصود فلا يلزمه الانتقال إليه كما لو حكم بشهادة شهود الفرع ثم وجد شهود الأصل وهل يجوز الخروج منها؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز وإليه أشار في البويطي لأن ما لا يبطل الطهارة والصلاة لم يبح الخروج منها كسائر الأشياء وقال أكثر أصحابنا: يستحب الخروج منها كما قال الشافعي رحمه الله فيمن دخل في صوم الكفارة ثم وجد الرقبة أن الأفضل أن يعتق فإن رأى الماء في الصلاة في السفر ثم نوى الإقامة بطل تيممه وصلاته لأنه اجتمع حكم السفر والحضر في الصلاة فوجب أن يغلب حكم الحضر ويصير كأنه تيمم وصلى وهو حاضر ثم رأى الماء وإن رأى الماء في أثناء الصلاة في

(1/74)


السفر فأتمها وقد فنى الماء لم يجز له أن يتننفل حتى يجدد للتيمم لأن برؤيته الماء حرم عليه افتتاح الصلاة وإن رأى الماء في صلاة نافلة فإن كان قد نوى عدداً أتمها كالفريضة وإن لم ينو عدداً سلم من ركعتين ولم يزد عليهما وإن تيمم للمرض ثم برئ لم تلزمه الإعادة لأن المرض من الأعذار العامة فهو كعدم الماء في السفر وإن تيمم لشدة البرد وصلى ثم زال البرد فإن كان في الحضر لزمه الإعادة لأن ذلك من الأعذار النادرة وإن كان في السفر ففيه قولان: أحدهما لا يجب لأن عمرو بن العاص تيمم وصلى لشدة البرد وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بالإعادة والثاني يجب لأن البرد الذي يخاف منه الهلاك ولا يجد ما يدفع ضرره عذر نادر غير متصل فهو كعدم الماء في الحضر ومن صلى بغير طهارة لعدم الماء والتراب لزمه الإعادة لأن ذلك عذر نادر غير متصل فصار كما لو نسي الطهارة فصلى مع القدرة على الطهارة.
فصل: إذا كان على بعض أعضائه كسر يحتاج إلى وضع الجبائر وضع الجبيرة على طهر فإن وضعها على طهر ثم أحدث وخاف من نزعها أو وضعها على غير طهر وخاف من نزعها مسح على الجبائر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً كرم الله وجهه أن يمسح الجبائر ولأنه تلحق المشقة في نزعها فجاز المسح عليها كالخف وهل يلزمه مسح الجميع أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما يلزمه مسح الجميع لأنه مسح أجيز للضرورة فوجب فيه الاستيعاب كالمسح في التيمم والثاني أنه يجزيه ما يقع عليه الاسم لأنه مسح على حائل منفصل فهو كمسح الخف وهل يجز التيمم مع المسح؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يتيمم كما لا يتيمم مع المسح على الخف وقال في الأم: يتيمم لحديث جابر رضي الله عنه أن رجلاً أصابه حجز فشجه في رأسه ثم احتلم فاغتسل فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على رأسه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" ولأنه يشبه الجريح لأنه يترك غسل العضو لخوف الضرر ويشبه لابس الخف لأنه لا يخاف الضرر من غسل العضو وإنما يخاف المشقة في نزع الحائل كلابس الخف فلما أشبهها وجب عليه بين المسح والتيمم فإن نوى وقدر على الغسل فإن كان قد وضع الجبائر على غير طهر لزمه إعادة الصلاة وإن كان قد وضع على طهر ففيه قولان: أحدهما لا يلزمه كما لا يلزم ماسح الخف والثاني يلزمه لأنه ترك غسل العضو لعذر نادر غير متصل فكان كما لو ترك غسل العضو ناسيا

(1/75)


باب الحيض
إذا حاضت المرأة حرم عليها الطهارة لأن الحيض يوجب الطهارة وما أوجب الطهارة منع صحتها كخروج البول ويحرم عليها الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" ويسقط فرض الصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقضي الصلاة ولا نؤمر بالقضاء ولأن الحيض يكثر فلو أوجبنا قضاء ما يفوتها لشق وضاق ويحرم عليها الصوم لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة فدل على أنهن كن يفطرن ولا يسقط فرضه لحديث عائشة رضي الله عنها ولأن الصوم في السنة مرة فلا يشق قضاؤه فلم يسقط ويحرم عليها الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت1" ولأنه يفتقر إلى الطهارة ولا يصح منها الطهارة ويحرم عليها قراءة القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن2" ويحرم عليها حمل المصحف ومسه لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ويحرم عليها اللبث في المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لجنب ولا
__________
1 نفسه في ص 31 هامش رقم "1"
2 رواه البخاري في كتاب الحيض باب 1، 7. مسلم في كتاب الحج حديث 119 أبو داود في كتاب المناسك باب 23. النسائي في كتاب الطهارة باب 182. الموطأ في كتاب الحج حديث 224. أحمد في مسنده "1/364، 370".

(1/76)


لحائض1" فأما العبور فيه فإنها إن استوثقت من نفسها بالشد والتلجم جاز لأنه حدث يمنع اللبث في المسجد فلا يمنع العبور كالجنابة ويحرم الوطء في الفرج لقوله عز وجل: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] فإن وطئها مع العلم بالتحريم ففيه قولان: قال في القديم: إن كان في أول الدم لزمه أن يتصدق بدينار وإن كان في آخره لزمه أن يتصدق بنصف دينار لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو بنصف دينار وقال في الجديد: لا تجب عليه الكفارة لأنه وطء محرم للأذى فلم تتعلق به الكفارة كالوطء في الدبر ويحرم الاستمتاع فيما بين السرة والركبة وقال أبو إسحاق: لا يحرم غير الوطء في الفرج لقوله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح2" ولأنه وطء محرم للأذى فاختص به الفرج كالوطء في الدبر والمذهب الأول لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال: "ما فوق الإزار" وإذا طهرت من الحيض حل لها الصوم لأن تحريمه بالحيض وقد زال الحيض ولا تحل الصلاة والطواف وحمل المصحف وقراءة القرآن لأن المنع منها لأجل الحدث والحدث باق ولا يحل الاستمتاع بها حتى تغتسل لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] الآية قال مجاهد حتى يغتسلن فإن لم تجد الماء فتيممت حل لها ما يحل بالغسل لأن التيمم قائم مقام الغسل فاستبيح به ما يستباح بالغسل وإن تيممت وصلت فريضة لم يحرم وطؤها ومن أصحابنا من قال يحرم وطؤها بفعل الفريضة كما يحرم فعل الفريضة بعدها والأول أصح لأن الوطء ليس بفرض فلم يحرم بفعل الفريضة كصلاة النفل.
فصل: أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين قال الشافعي رحمه الله: أعجل من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة فإنهن يحضن لتسع سنين فإذا رأت الدم لدون ذلك فهو دم فساد لا يتعلق به أحكام الحيض وأقل الحيض يوم وليلة وقال في موضع
__________
1رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 98. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 105.
2 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 126. أبو داود في كتاب الطهارة باب 92.

(1/77)


آخر يوم فمن أصحابنا من قال هما قولان ومنهم من قال هو يوم وليلة قولاً واحداً وقوله يوم أراد بليلته ومنهم من قال يوم قولاً واحداً وإنما قال يوم وليلة قبل أن يثبت عنده اليوم فلما ثبت عنده اليوم رجع إليه والدليل على ذلك أن المرجع في ذلك إلى الوجود وقد ثبت الوجود في هذا القدر قال الشافعي رحمه الله: رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوماً لا تزيد عليه وقال الأوزاعي: عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية وقال عطاء رأيت من النساء من تحيض يوماً وتحيض خمسة عشر يوماً وقال أبو عبد الله الزبيري رحمه الله: كان في نسائنا من تحيض يوماً وتحيض خمسة عشر يوماً وأكثره خمسة عشر يوماً لما روينا عن عطاء وأبي عبد الله الزبيري وغالبه ست أو سبع لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش "تحيضي في علم الله تعالى ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرن" وأقل طهر فاصل بين الدمين خمسة عشر يوماً لا أعرف فيه خلافاً فإن صح ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في النساء "نقصان دينهن أن إحداهن تمكث شطر دهرها لا تصلي" دل ذلك على أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً لكني لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه وفي الدم الذي تراه الحامل قولان: أحدهما أنه حيض لأنه دم لا يمنعه الرضاع فلا يمنعه الحمل كالنفاس والثاني أنه دم فساد لأنه لو كان ذلك حيضاً لحرم الطلاق وتعلق به انقضاء العدة فإن رأت يوماً طهراً أو يوماً دماً ولم يعبر خمسة عشر يوماً ففيه قولان: أحدهما أنه لا يلفق الدم بل يجعل الجميع حيضاً لأنه لو كان ما رأته من النقاء طهراً لانقضت العدة بثلاثة منها والثاني أنه يلفق الدم إلى الدم والطهر إلى الطهر فتكون أيام النقاء طهراً وأيام الدم حيضاً لأنه لو جاز أن يجعل أيام النقاء حيضاً لجاز أن يجعل أيام الدم طهراً ولما لم يجز أن تجعل أيام الدم طهراً لم يجز أن تجعل أيام النقاء حيضاً فوجب أن يجزي كل واحد منهما على حكمه.
فصل: إذا رأت المرأة الدم لسن يجوز أن تحيض فيه أمسكت عما تمسك عنه الحائض فإن انقطع لدون اليوم والليلة كان ذلك دم فساد فتتوضأ وتصلي وإن انقطع ليوم وليلة أو لخمسة عشر يوماً أو لما بينهما فهو حيض فتغتسل عند انقطاعه سواء كان

(1/78)


الدم على صفة دم الحيض أو على غير صفته وسواء كان لها عادة فخالفت عادتها أو لم تكن وقال أبو سعيد الاصطخري رحمه الله: إن رأت الصفرة أو الكدرة في غير وقت العادة لم يكن حيضاً لما روي عن أم عطية قالت: كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة بعد الغسل شيئاً ولأنه ليس فيه أمارة الحيض فلم يكن حيضاً والمذهب أنه حيض لأنه دم صادف زمان الإمكان ولم يجاوزه فأشبه إذا رأت الصفرة أو الكدرة في أيام عادتها وحديث أم عطية يعارضه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنا نعد الصفرة والكدرة حيضاً وقوله إنه ليس فيه أمارة غير مسلم بل وجوده في أيام الحيض أمارة لأن الظاهر من حالها الصحة والسلامة وأن ذلك دم الجبلة دون العلة وإن عبر الدم الخمسة عشر فقد اختلط حيضها بالاستحاضة فلا تخلو إما أن تكون مبتدأة غير مميزة أو مبتدأة مميزة أو معتادة غير مميزة أو ناسية مميزة فإن كانت مبتدأة غير مميزة وهي التي بدأ بها الدم وعبر الخمسة عشر والدم على صفة واحدة ففيها قولان: أحدهما أنها تحيض أقل الحيض لأنه يقين وما زاد مشكوك فيه فلا يحكم بكونه حيضاً والثاني أنها ترد إلى غالب عادة النساء وهي ست أو سبع وهو الأصح لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش "تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرن" ولأنه لو كانت لها عادة ردت إليها لأن الظاهر أن حيضها في هذا الشهر كحيضها فيما تقدم فإذا لم يكن لها عادة فالظاهر أن حيضها كحيض نسائها ولداتها فردت إليها وإلى أي عادة ترد فيه وجهان: أحدهما إلى غالب عادة النساء لحديث حمنة والثاني إلى غالب عادة نساء بلدها وقومها لأنها أقرب إليهن فإن استمر بها الدم في الشهر الثاني اغتسلت عند انقضاء اليوم والليلة في أحد القولين وعند انقضاء الست أو السبع في الآخر لأنا قد علمنا في الشهر الأول أنها مستحاضة وأن حكمها ما ذكرناه فتصلي وتصوم ولا تقضي الصلاة وأما الصوم فلا تقضي ما تأتي به بعد الخمسة عشر وفيما تأتي به قبل الخمسة عشر وجهان: أحدهما تقضيه لجواز أن يكون قد صادف زمان الحيض فلزمها قضاؤه كالناسية والثاني لا تقضي وهو الأصح لأنها صامت في زمان حكمنا بالطهر فيه بخلاف الناسية فإنا لم نحكم لها بحيض ولا طهر.
فصل: فإن كانت مبتدأة مميزة وهي التي بدأ بها الدم وعبر الخمسة عشر ودمها

(1/79)


في بعض الأيام دم الحيض وهو المحتدم القاني الذي يضرب إلى السواد وفي بعضها أحمر مشرق أو أصفر فإن حيضها أيام السواد بشرطين: أحدهما أن يكون الأسود لا ينقص عن أقل الحيض والثاني أن لا يزيد على أكثره والدليل عليه ما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أستحاض فأدع الصلاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق1" ولأنه خارج يوجب الغسل فجاز أن يرجع إلى صفته عند الإشكال كالمني فإذا رأت في الشهر الأول يوماً وليلة دماً أسود ثم أحمر أو أصفر أمسكت عن الصلاة والصوم لجواز أن لا يجاوز الخمسة عشر يوماً فيكون الجميع حيضاً وفي الشهر الثاني يلزمها أن تغتسل عند تغير الدم وتصلي وتصوم لأنا قد علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة فإن رأت في الشهر الثالث السواد في ثلاثة أيام ثم أحمر أو أصفر وفي الشهر الرابع رأت السواد في أربعة أيام ثم أحمر أو أصفر كان حيضها في كل شهر الأسود وإن رأت خمسة أيام دماً أحمر أو أصفر ثم رأت خمسة أيام دماً أسود ثم احمر الدم إلى آخر الشهر فالحيض هو الأسود وما قبل الأسود وما بعده استحاضة وخرج أبو العباس رضي الله عنه وجهين ضعيفين: أحدهما أنه لا تمييز لها لأن الخمسة الأول حيض لأنه دم بدأ بها في وقت يصلح أن يكون حيضاً والخمسة الثانية أولى أن تكون حيضاً لأنه في وقت يصلح للحيض وقد انضم إليه علامة الحيض وما بعدهما بمنزلتهما فيصير كأن الدم كله مبهم فيكون على القولين في المبتدأة غير المميزة والوجه الثاني أن حيضها العشر الأول لأن الخمسة الأول حيض بحكم البداية في وقت يصلح أن يكون حيضاً والخمسة الثانية حيض باللون وإن رأت خمسة أيام دماً أحمر ثم رأت دماً أسود إلى آخر الشهر فهي غير مميزة لأن السواد زاد على الخمسة عشر يوماً فبطلت دلالته فيكون على القولين في المبتدأة غير المميزة وخرج أبو العباس فيه وجهاً آخر إن ابتداء حيضها من أول الأسود إما يوم وليلة وإما ست أو سبع لأنه بصفة دم الحيض
__________
1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 63. أحمد في مسنده "6/304، 323".

(1/80)


وهذا لا يصح لأن هذا اللون لا حكم له إذا اعتبر الخمسة عشر وإن رات خمسة يوماً دماً أحمر وخمسة عشر يوماً دماً أسود وانقطع فحيضها الأسود وإن استمر الأسود ولم ينقطع لم تكن مميزة فيكون حيضها من ابتداء الدم يوماً وليلة في أحد القولين أو ستاً أو سبعاً في القول الآخر وعلى الوجه الذي خرجه أبو العباس رضي الله عنه يكون حيضها من أول الدم الأسود يوماً وليلة أو ستاً أو سبعاً في الآخر وإن رأت سبعة عشر يوماً دماً أحمر ثم رأت دماً أسود واتصل لم يكن لها تمييز فيكون حيضها يوماً وليلة من أول الدم الأمر في أحد القولين أو ستاً أو سبعاً في الآخر وقال أبو العباس رضي الله عنه: يكون حيضها يوماً وليلة من أول الأحمر وخمسة عشر طهراً وتبتدئ من أول الدم الأسود حيضاً آخر في أحد القولين يوماً وليلة وفي القول الآخر يجعل حيضها ستاً أو سبعاً والباقي استحاضة إلا أن يكون الأسود في الثالث والعشرين فإنه إذا كان ابتداء الأسود من الثالث والعشرين فعلى قول أبي العباس رضي الله عنه يكون حيضها من أول الأحمر سبعة وخمسة عشر طهراً وتبتدئ من أول الأسود حيضاً آخر يوماً وليلة في أحد القولين وستاً أو سبعاً في القول الآخر.
فصل: فإن كانت معتادة غير مميزة وهي التي كانت تحيض من كل شهر أياماً ثم عبر الدم عادتها وعبر الخمسة عشر فلا تمييز لها فإنها لا تغتسل لمجاوزة الدم عادتها لجواز أن ينقطع الدم لخمسة عشر يوماً فإذا عبر الخمسة عشر ردت إلى عادتها فتغتسل بعد الخمسة عشر وتقضي صلاة ما زاد على عادتها لما روي أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت أم سلمة رضي الله عنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتدع الصلاة قدر ذلك" فإن استمر بها الدم في الشهر الثاني وجاوز العادة اغتسلت عند مجاوزة العادة لأنا قد علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة فتغتسل في كل شهر عند مجاوزة العادة فتصلي وتصوم وتثبت العادة بمرة واحدة فإذا حاضت في شهر مرة خمسة أيام ثم استحيضت في شهر بعده ردت إلى الخمسة ومن أصحابنا من قال: لا تثبت إلا بمرتين فإن لم تحض الخمسة مرتين لم تكن معتادة بل هي مبتدأة لأن العادة لا تستعمل في مرة والمذهب الأول لحديث المرأة التي استفتت لها أم سلمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إلى الشهر الذي يلي شهر الاستحاضة ولأن ذلك أقرب إليها فوجب ردها إليه وتثبت العادة بالتمييز كما تثبت بانقطاع الدم فإن رأت المبتدأة خمسة أيام دماً أسود ثم أصفر واتصل ثم رأت في الشهر الثاني دماً منهما كانت عادتها أيام السواد ويثبت الطهر بالعادة كما يثبت

(1/81)


الحيض فإذا حاضت خمسة أيام وطهرت خمساً وخمسين يوماً ثم رأت الدم وعبر الخمسة عشر جعل حيضها في كل شهرين خمسة أيام والباقي طهر ويجوز أن تنتقل العادة فتتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص فترد إلى آخر ما رأت من ذلك لأن ذلك أقرب إلى شهر الاستحاضة وإن كانت عادتها الخمسة الثانية من الشهر فرأت الدم من أول الشهر واتصل فالحيض هي الخمسة المعتادة وقال أبو العباس رضي الله عنه: فيه وجه آخر أن حيضها هي الخمسة الأول لأنه بدأ بها في زمان يصلح أن يكون حيضاً والأول أصح لأن العادة قد ثبتت في الخمسة الثانية فوجب الرد إليها كما لو لم يتقدمها دم وإن كانت عادتها خمسة أيام من أول كل شهر ثم رأت في بعض الشهور الخمسة المعتادة ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأت الدم وعبر الخمسة عشر يوماً فإنها ترد إلى عادتها وهي الخمسة الأول من الشهر وخرج أبو العباس رضي الله عنه وجهاً آخر أن الخمسة الأول من الدم الثاني حيض لأنها رأته في وقت يصلح أن يكون حيضاً والأول هو المذهب لأن العادة قد تثبت في الحيض من أول كل شهر فلا تتغير إلا بحيض صحيح.
فصل: فإن كانت معتادة مميزة وهي أن تكون لها عادة في كل شهر أن تحيض خمسة أيام ثم رأت في شهر عشرة أيام دماً أسود ثم رأت دماً أحمر أو أصفر واتصل ردت إلى التمييز وجعل حيضها أيام السواد وهي العشرة وقال أبو علي بن خيران رحمه الله: ترد إلى العادة وهي الخمس والأول أصح لأن التمييز علامة قائمة في شهر الاستحاضة فكان اعتباره أولى من اعتبار عادة قد انقضت.
فصل: وإن كانت ناسية مميزة وهي التي كانت لها عادة ونسيت عادتها ولكنها تميز الحيض من الاستحاضة باللون فإنها ترد إلى التمييز لأنها لو ذكرت عادتها لردت إلى التمييز فإذا نسيت أولى وعلى قول من قال تقدم العادة على التمييز حكمها وحكم من لا تمييز لها واحد ونحن نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
فصل: وإن كانت ناسية للعادة غير مميزة لم يخل إما أن تكون ناسية للوقت والعدد أو ناسية للوقت ذاكرة للعدد أو ناسية ذاكرة للوقت فإن كانت ناسية للوقت والعدد وهي المتحيرة ففيها قولان: أحدهما أنها كالمبتدأة التي لا تمييز لها نص عليه في العدد فيكون حيضها من أول كل هلال يوماً وليلة في أحد القولين أو ستاً أو سبعاً في الآخر فإن عرفت متى رأت الدم جعلنا ابتداء شهرها من ذلك الوقت وعددنا لها ثلاثين يوماً وحيضناها لأنه ليس بعض الأيام بأن يجعل حيضاً بأولى من البعض فسقط حكم الجميع وصارت كمن لا عادة لها ولا تمييز والثاني وهو المشهور المنصوص في الحيض أنه لا

(1/82)


حيض لها ولا طهر بيقين فتصلي وتغتسل لكل صلاة لجواز أن يكون ذلك وقت انقطاع الحيض ولا يطؤها الزوج وتصوم مع الناس شهر رمضان فيصح لها أربعة عشر يوماً لجواز أن يكون يوم الخامس عشر من حيضها بعضه من أول يوم من الشهر وبعضه من السادس عشر فيفسد عليها بذلك يومان ثم تصوم شهراً آخر فيصح لها منه أربعة عشر يوماً فإن كان الشهر الذي صامه الناس ناقصاً صح لها منه ثلاثة عشر يوماً من الصوم لجواز أن يكون ابتداء الحيض من بعض اليوم الأول وانتهاؤه في بعض السادس عشر فيبطل عليها صوم ستة عشر يوماً ويصح لها ثلاثة عشلا يوماً فإن كان شهر قضائها كاملاً بقي عليها قضاء يومين وإن كان ناقصاً بقي قضاء ثلاثة أيام وإن كانا كاملين بقي قضاء يومين وإن كان شهر الأداء كاملاً وشهر القضاء ناقصاً بقي قضاء ثلاثة أيام وإن قضت في شوال صح لها صوم ثلاثة عشر يوماً إن كمل واثني عشر إن نقص وإن قضت في ذي الحجة فعشرة إن كمل وتسعة إن نقص فإن كان الشهر الذي صامه الناس ناقصاً وجب عليها قضاء يوم فتصوم أربعة أيام من سبعة عشر يوماً يومين في أولها ويومين في آخرها وإن كان الشهر تاماً وجب عليها قضاء يومين فتصوم ستة أيام من ثمانية عشر يوماً ثلاثة في أولها وثلاثة في آخرها فيصح لها صوم الشهر وإن لزمها صوم ثلاثة أيام قضتها من تسعة عشر يوماً أربعة من أولها وأربعة من آخرها وإن لزمها صوم أربعة أيام قضتها من عشرين يوماً في أولها وخمسة في آخرها وكلما زاد في المدة يوم زاد في الصوم يومان في أولها ويوم في آخرها وعلى هذا القياس يعمل في طوافها.
فصل: وإن كانت ناسية لوقت الحيض ذاكرة للعدد فكل زمان تيقنا فيه الحيض ألزمناها اجتناب ما تجتنبه الحائض وكل زمان تيقنا طهرها أبحنا فيه ما يباح للطاهر وأوجبنا ما يجب على الطاهر وكل زمان شككنا في طهرها حرمنا وطأها وأوجبنا ما يجب على الطاهر احتياطاً وكل زمان جوزنا فيه انقطاع الحيض أوجبنا عليها أن تغتسل فيه للصلاة ويعرف ذلك بتنزيل أحوالها ونذكر من ذلك مسائل تدل على جميع أحوالها إن شاء الله عز وجل وبه التوفيق: فإن قالت كان حيضي عشرة أيام من الشهر لا أعرف وقتها لم يكن لها حيض ولا طهر بيقين لأنه يمكن في كل وقت أن تكون حائضاً ويمكن أن تكون طاهراً فيجعل زمانها في الصوم والصلاة زمان الطهر فتتوضأ في العشر الأول لكل فريضة ولا تغتسل لأنه لا يمكن انقطاع الدم فيه فإذا مضت العشر أمرناها بالغسل لإمكان انقطاع الدم ثم نلزمها بعد ذلك أن تغتسل لكل صلاة إلى آخر الشهر لأن كل وقت من ذلك يمكن انقطاع الدم فيه فإن عرفت وقتاً من اليوم كان ينقطع فيه دمها

(1/83)


ألزمناها أن تغتسل كل يوم في ذلك الوقت ولا نلزمها أن تغتسل في غيره لأنا علمنا وقت انقطاع دمها من اليوم وإن قالت كنت أحيض إحدى العشرات الثلاث من الشهر فهذه ليس لها حيض ولا طهر بيقين فنجعل زمانها زمان الطهر فتصلي من أول الشهر وتتوضأ لكل صلاة وتغتسل في آخر كل عشر لإمكان انقطاع الدم فيه وإن قالت كان حيضي ثلاثة أيام من الشهر الأول فهذه ليس لها حيض ولا طهر بيقين في هذه العشر فتصلي من أول العشر ثلاثة أيام بالوضوء ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشر إلا أن تعرف انقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل لذلك الوقت في كل يوم وتتوضأ في غيره وإن قالت كان حيضي أربعة أيام من العشرة الأولى صلت بالوضوء أربعة أيام ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشر وعلى هذا التنزيل في الخمس والست والسبع والثمان والتسع فإن عرفت يقين طهرها في وقت من الشهر بأن قالت كان حيضي عشرة أيام في كل شهر وأعلم أني كنت في العشر الأخيرة طاهراً فإنها في العشر الأول تتوضأ لكل صلاة لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه فإذا مضت العشر اغتسلت لكل صلاة إلا أن تعلم انقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل فيه دون غيره وفي العشر الثالثة طاهر بيقين فتتوضأ لكل فريضة وإن قالت كان حيضي خمسة أيام في العشر الأول وكنت في اليوم الأول من العشر الأول طاهراً ففي اليوم الأول طهر بيقين فتتوضأ فيه لكل صلاة فريضة وفي اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس طهر مشكوك فيه فتتوضأ فيه لكل فريضة والسادس حيض بيقين فإنه على أي تنزيل نزلنا لم يخرج اليوم السادس منه فتترك فيه ما تترك الحائض ثم تغتسل في آخره لإمكان انقطاع الدم فيه ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر العاشر ثم تدخل في طهر بيقين فتتوضأ لكل فريضة وإن قالت كان حيضي ستة أيام في العشر الأول كان لها يومان حيض بيقين وهما الخامس والسادس لأنه إن ابتدأ الحيض من أول العشر فآخره السادس وإن ابتدأ من الخامس فآخره العاشر والخامس والسادس داخلان فيه بكل حال وإن قالت كان حيضي سبعة أيام من العشر الأول حصل لها أربعة أيام حيض بيقين وهي من الرابع إلى السابع وإن قالت ثمانية كان حيضها بيقين ستة من الثالث إلى آخر الثامن فإن قالت تسعة كان ثمانية من الثاني إلى آخر التاسع لما بينا وإن قالت كان حيضي في كل شهر عشرة أيام لا أعرفها وكنت في اليوم السادس طاهراً فإنها من أول الشهر إلى آخر السادس في طهر بيقين ومن السابع إلى آخر الشهر في طهر مشكوك فيه فتتوضأ لكل فريضة إلى أن تمضي عشرة أيام بعد السادس ثم تغتسل لإمكان انقطاع الدم فيه ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلا أن تعرف الوقت الذي

(1/84)


كان ينقطع فيه الدم فتغتسل كل يوم فيه دون غيره وإن قالت كان حيضي في كل شهر خمسة أيام لا أعرف موضعها وأعلم أني كنت في الخمسة الأخيرة طاهراً وأعلم أن لي طهراً صحيحاً غيرها في كل شهر فإنه يحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الأولى والباقي طهر ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الثانية والباقي طهر ولا يجوز أن يكون في الخمسة الثالثة لأن ما قبلها وما بعدها دون أقل الطهر ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الرابعة ويكون ما قبلها طهراً ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الخامسة ويكون ما قبلها طهراً فلزمها أن تتوضأ لكل صلاة في الخمسة الأولى وتصلي لأنه طهر مشكوك فيه ثم تغتسل لكل فريضة من أول السادس إلى آخر العاشر لأنه طهر مشكوك فيه ويحتمل انقطاع الدم في كل وقت منه ومن أول الحادي عشر إلى آخر الخامس عشر تتوضأ لكل فريضة لأنه طهر بيقين ومن أول السادس عشر تتوضأ لكل صلاة إلى آخر العشرين لأنه طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الحيض فيه ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الخامس والعشرين لأنه طهر مشكوك فيه وتغتسل لكل صلاة لأنه يحتمل انقطاع الحيض في كل وقت منها ومن أول السادس والعشرين إلى آخر الشهر تتوضأ لكل فريضة لأنه طهر بيقين وإن علمت يقين الحيض في بعض الأيام بأن قالت كان حيضي في كل شهر عشرة أيام وكنت أكون في اليوم العاشر حائضاً فإنه يحتمل أن يكون العاشر آخر حيضها ويكون ابتداؤها من أول الشهر ويحتمل أن يكون العاشر أول حيضها فيكون آخره التاسع عشر ويحتمل أن يكون ابتداؤها ما بين اليوم الأول من الشهر واليوم العاشر فهي من أول الشهر إلى اليوم التاسع في طهر مشكوك فيه ولا يحتمل انقطاع الدم فيه فتتوضأ لكل صلاة وتصلي واليوم العاشر يكون حيضاً بيقين تترك فيه ما يجب على الحائض تركه وتغتسل في آخره ثم تغتسل لكل صلاة إلى تمام التاسع عشر إلا أن تعلم انقطاع الدم في وقت بعينه فتغسل فيه من الوقت إلى الوقت ثم بعد ذلك في طهر بيقين إلى آخر الشهر فتتوضأ لكل صلاة فريضة فإن قالت كان حيضي في كل شهر عشرة أيام ولي في كل شهر طهر صحيح وكنت في اليوم الثاني عشر حائضاً فإنها في خمسة عشر يوماً من آخر الشهر في طهر بيقين وفي اليوم الأول والثاني من أول الشهر في طهر بيقين وفي الثالث والرابع والخامس في طهر مشكوك فيه تتوضأ فيه لكل فريضة وفي السادس إلى تمام الثاني عشر في حيض بيقين ومن الثالث عشر إلى تمام الخامس عشر في طهر مشكوك فيه ويحتمل انقطاع الحيض في كل وقت منها فتغتسل لكل صلاة وإن قالت كان حيضي خمسة أيام من العشر الأول وكنت في اليوم الثاني من

(1/85)


الشهر طاهراً وفي الخامس حائضاً فإنه يحتمل أن يكون ابتداء حيضها من الثالث وآخره إلى تمام السابع ويحتمل أن يكون من الرابع وآخره إلى تمام الثامن ويحتمل ان يكون ابتداؤه من الخامس وآخره من التاسع فاليوم الأول والثاني طهر بيقين والثالث والرابع طهر مشكوك فيه والخامس والسادس والسابع حيض بيقين ثم تغتسل في آخر السابع فيكون ما بعده إلى تمام التاسع طهراً مشكوكاً فيه تغتسل فيه لكل صلاة وإن قالت كان لي في كل شهر حيضتان ولا أعلم موضعهما ولا عددهما فإن الشيخ أبا حامد الإسفراييني رحمه الله ذكر أن أقل ما يحتمل أن يكون حيضها يوماً من أول الشهر ويوماً من آخره ويكون ما بينهما طهراً وأكثر ما يحتمل أن يكون حيضها أربعة عشر يوماً من أول الشهر أو من آخره ويوماً وليلة من أول الشهر أو من آخره ويكون ما بينهما خمسة عشر يوماً طهراً ويحتمل ما بين الأقل والأكثر فيلزمها أن تتوضأ وتصلي في اليوم الأول من الشهر لأنه طهر مشكوك فيه ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر لاحتمال انقطاع الدم فيه ويكون الخامس عشر والسادس عشر طهراً بيقين لأنه إن كان ابتداء الطهر في اليوم الثاني فاليوم السادس عشر آخره وإن كان من الخامس عشر فالخامس عشر والسادس عشر داخل في الطهر ومن السابع عشر إلى آخر الشهر طهر مشكوك فيه وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله: هذا خطأ لأنا إذا نزلنا هذا التنزيل لم يجب أن يكون هذا حالها في الشهر وتصوم رمضان وتقضيه على ما بيناه.
فصل: فإن كانت ذاكرة للوقت ناسية للعدد نظرت فإن كانت ذاكرة لوقت ابتدائه بأن قالت كان ابتداء حيضي من أول يوم من الشهر حيضناها يوماً وليلة وليلة من أول الشهر لأنه يقين ثم تغتسل بعده فتحصل في طهر مشكوك فيه إلى آخر الخامس عشر وتصلي وتغتسل لكل صلاة لجواز انقطاع الدم فيه وما بعده طهر بيقين إلى آخر الشهر فتتوضأ لكل صلاة وإن كانت ذاكرة لوقت انقطاعه بأن قالت كان حيضي ينقطع في آخر الشهر قبل غروب الشمس حيضناها قبل ذلك يوماً وليلة وكانت طاهراً من أول الشهر إلى آخر الخامس عشر تتوضأ لكل صلا ة فريضة ثم تحصل في طهر مشكوك إلى آخر التاسع والعشرين تتوضأ لكل صلاة لأنه لا يحتمل انقطاع الدم ولا يجب الغسل إلا في آخر الشهر في الوقت الذي تيقنا انقطاع الحيض فيه وإن قالت كان حيضي في كل شهر خمسة عشر يوما وكنت أخلط أحد النصفين فيه بالآخر أربعة عشر في أحد النصفين ويوماً في النصف الآخر ولا أدري أن اليوم في النصف الأول أو الأربعة عشر فهذه يحتمل أن يكون اليوم في النصف الثاني والأربعة عشر في النصف الأول فيكون ابتداء الحيض من

(1/86)


اليوم الثاني من الشهر وآخره تمام السادس عشر ويحتمل أن يكون اليوم في النصف الأول والأربعة عشر في النصف الثاني فيكون ابتداء الحيض من أول الخامس عشر وآخره التاسع والعشرون فاليوم الأول والآخر من الشهر طهر بيقين والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين ومن الثاني إلى الخامس عشر طهر مشكوك فيه ومن أول السابع عشر إلى آخر التاسع والعشرين طهر مشكوك فيه فتغسل في آخر السادس عشر وفي آخر التاسع والعشرين لأنه يحتمل انقطاع الدم فيهما وعلى هذا التنزيل والقياس فإن قالت كان حيضي خمسة عشر يوماً وكنت أخلط اليوم وأشك هل كنت أخلط بأكثر من يوم فالحكم فيه كالحكم في المسألة قبلها إلا في شيء واحد وهو أن ههنا يلزمها أن تغتسل لكل صلاة بعد السادس عشر لجواز أن يكون الخلط بأكثر من يوم فيكون ذلك الوقت وقت انقطاع الحيض إلا أن تعلم انقطاع الحيض في وقت بعينه من اليوم فتغتسل فيه في مثله.
فصل: هذا الذي ذكرناه في المستحاضة إذا عبر دمها الخمسة عشر ولم يتخللها طهر فأما إذا تخللها طهر بأن رأت يوماً وليلة دماً ورأت يوماً وليلة نقاء إلى أن عبر الخمسة عشر فهي مستحاضة وقال ابن بنت الشافعي رضي الله عنه: الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض وبين ما بعده فيكون الدم في الخمسة عشر حيضاً وفي النقاء الذي بينهما قولان في التلفيق لأنا حكمنا في اليوم السادس عشر لما رأت النقاء بطهارتها وأمرناها بالصوم والصلاة وما بعده ليس بحيض بل هو طهر فكان بمنزلة ما لو انقطع الدم بعد الخمسة عشر لم يعد والمنصوص أنها مستحاضة اختلط حيضها بالاستحاضة لأنه لو كان النقاء في اليوم السادس عشر يميز لوجب أن يميز في الخمسة عشر كالتميز باللون فعلى هذا ينظر فيها فإن كانت مميزة بأن ترى يوماً وليلة دماً أسود ثم ترى النقاء عشرة أيام ثم ترى يوماً وليلة دماً أسود ثم أحمر فترد إلى التمييز فيكون الحيض أيام الأسود وما بينها على القولين وإن كان لها عادة في كل شهر خمسة أيام ردت إلى عادتها فإن قلنا لا يلفق كانت الخمسة كلها حيضاً وإن قلنا يلفق كانت أيام الدم حيضاً وذلك ثلاثة أيام ونقص يومان من العادة ومن أصحابنا من قال: يلفق لها قدر العادة من الخمسة عشر يوماً فيحصل لها خمسة أيام من تسعة أيام وإن كانت عادتها ستة أيام فإن قلنا لا يلفق كان حيضها خمسة أيام لأن اليوم السادس من أيام العادة لا دم فيه لأن الدم في الإفراد فلم يجز أن يجعل حيضاً لأن النقاء إنما يجعل حيضاً على هذا القول إذا كان الدم واقعاً بين الدمين فعلى هذا ينقص من عادتها يوم وإذا قلنا يلفق من أيام العادة كان حيضها ثلاثة أيام وينقص يومان وإذا قلنا يلفق من خمسة عشر حصل لها ستة أيام

(1/87)


من أحد عشر يوماً وإن كانت عادتها سبعة أيام فإن قلنا إن الجميع حيض كان حيضها سبعة أيام لا ينقص منها شيء لأن اليوم السابع دم فيمكن استيفاء جميع أيام عادتها وإن قلنا يلفق لها من أيام العادة كان حيضها أربعة أيام وإن قلنا يلفق من خمسة عشر كان لها سبعة أيام من ثلاثة عشر يوماً وعلى هذا القياس وإن كانت مبتدأ لا تمييز لها ولا عادة ففيها قولان: أحدهما ترد إلى يوم وليلة فيكون حيضها من أول ما رأت يوماً وليلة والباقي طهر وإن قلنا ترد إلى ست أو سبع فهي كمن عادتها ستة أيام أو سبعة أيام وقد بيناه فأما إذا رأت نصف يوم دماً ونصف يوم نقاء ولم تجاوز الخمسة عشر فهي على القولين في التلفيق وقال بعض أصحابنا: هذه مستحاضة هذه لا يثبت لها حكم الحيض حتى يتقدم لها أقل الحيض ومنهم من قال: لا يثبت لها حكم الحيض إلا أن يتقدمه أقل الحيض متصلاً ويتعقبه أقل الحيض متصلاً والصحيح هو الأول وأنها على القولين في التلفيق فإذا قلنا لا يلفق حصل لها أربعة عشر يوماً ونصف يوم حيضاً وإذا قلنا يلفق حصل لها سبعة أيام ونصف حيضاً وما بينهما من النقاء طهر وإن جاوز الخمسة عشر كانت مستحاضة فترد إلى التمييز إن كانت مميزة أو إلى العادة إن كانت معتادة وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها ولا عادة فإن قلنا إنها ترد إلى ست أو سبع كان ذلك كالعادة وإن قلنا ترد إلى يوم وليلة فإن قلنا لا يلفق فلا حيض لها لأنه لا يحصل لها يوم وليلة من غير تلفيق وإن قلنا يلفق من أيام العادة لم يكن لها حيض لأن اليوم والليلة كأيام العادة ولا يحصل لها من اليوم والليلة أقل الحيض وإن قلنا يلفق من الخمسة عشر لفق لها مقدار يوم وليلة من يومين وليلتين وإن رأت ساعة دماً وساعة نقاء ولم يجاوز الخمسة عشر فإن كان الدم بمجموعه يبلغ أقل الحيض فقد قال أبو العباس وأبو إسحاق: فيه قولان في التلفيق وإن كان لا يبلغ بمجموعه أقل الحيض مثل أن ترى ساعة دماً ثم ينقطع ثم ترى في آخر الخامس عشر ساعة دماً قال أبو العباس: إذا قلنا يلفق فهو دم فساد لأنه لا يتلفق منه ما يكون حيضاً وإذا قلنا لا يلفق احتمل وجهين: أحدهما يكون حيضاً لأن زمان النقاء على هذا القول حيض فلا ينقض الحيض عن أقله بل الخمسة عشر حيض والثاني لا يكون حيضاً لأن النقاء إنما يكون حيضاً على سبيل التبع للدم والدم لم يبلغ بمجموعه أقل الحيض فلم يجعل النقاء تابعاً له وإن رأت ثلاثة أيام دماً ثم انقطع اثني عشر يوماً ثم رأت ثلاثة أيام دماً وانقطع فالأول حيض لأنها رأته في زمان إمكانه والثاني دم فساد ولا يجوز أن يجعل ابتداء الحيض لأنه لم يتقدمه أقل الطهر ولا يمكن ضمه إلى ما رأته قبل الخمسة عشر لأنه خارج عن الخمسة عشر وإن رأت دون اليوم دماً ثم انقطع إلى تمام الخمسة عشر يوماً ثم رأت ثلاثة أيام دماً فإن الحيض هو الثاني والأول ليس بحيض

(1/88)


لأنه لا يمكن إضافته إلى ما بعد الخمسة عشر ولا يمكن أن يجعل بانفراده حيضاً لأنه دون أقل الحيض
فصل: دم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض ويسقط الحيض لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل فكان حكمه حكم الحيض فإن خرج قبل الولادة شيء لم يكن نفاساً وإن خرج بعد الولادة كان نفاساً وإن خرج مع الولد ففيه وجهان: أحدهما أنه ليس بنفاس لأنه ما لم ينفصل جميع الولد فهي في حكم الحامل ولهذا يجوز للزوج رجعتها فصار كالدم الذي تراه في حال الحمل وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن أبي أحمد بن القاص: هو نفاس لأنه دم انفصل بخروج الولد فصار كالخارج بعد الولادة وإن رأت الدم قبل الولادة خمسة أيام ثم ولدت ورأت الدم فإن الخارج بعد الولادة نفاس وأما الخارج قبله ففيه وجهان: من أصحابنا من قال هو استحاضة لأنه لا يجوز أن يتوالى حيض ونفاس من غير طهر كما لا يجوز أن يتوالى حيضتان من غير طهر ومنهم من قال: إذا قلنا إن الحامل تحيض فهو حيض لأن الولد يقوم مقام الطهر في الفصل وأكثر النفاس ستون يوماً وقال المزني: أربعون يوماً والدليل على ما قلناه ما روي عن الأوزاعي أنه قال: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين وعن عطاء والشعبي وعبيد الله بن الحسن العنبري والحجاج بن أرطأة أن النفاس ستون يوماً وليس لأقله حد وقد تلد المرأة ولا ترى الدم وروي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تر نفاساً فسميت ذات الجفوف فإن ولدت توأمين بينهما زمان ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يعتبر النفاس من الولد الأول لأنه دم يعقب الولادة فاعتبرت المدة منه كما لو كان وحده والثاني يعتبر من الثاني لأنه ما دام معها حمل فالدم ليس بنفاس كالدم الذي تراه قبل الولادة والثالث أن يعتبر ابتداء المدة من الأول ثم يستأنف المدة من الثاني لأن كل واحد منهما سبب للمدة فإذا وجدا اعتبر الابتداء من كل واحد منهما كما لو وطئ امرأة بشبهة فدخلت في العدة ثم وطئها فإنها تستأنف العدة فإن رأت دم النفاس ساعة ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأت الدم يوماً وليلة ففيه وجهان: أحدهما أن الأول نفاس والثاني حيض وما بينهما طهر والوجه الثاني أن الجميع نفاس لأن الجميع وجد في مدة النفاس وفيما بينهما القولان في التلفيق وإن نفست المرأة وعبر الدم الستين فحكمها حكم الحيض إذا عبر الخمسة عشر يوماً في الرد إلى التمييز والعادة والأقل والغالب لأنه بمنزلة الحيض في أحكامه وكذلك في الرد عند الأشكال فإن كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً فإن شهرها عشرون يوماً فإن ولدت في وقت حيضها ورأت عشرين يوماً الدم ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأت الدم بعد ذلك واتصل وعبر الخمسة عشر كان حيضها وطهرها

(1/89)


على عادتها فتكون نفساء في مدة العشرين وطاهراً في مدة الخمسة عشر وحائضاً في الخمسة أيام بعدها وإن كانت عادتها أن تحيض عشرة أيام وتطهر عشرين يوماً فإن شهرها ثلاثون يوماً فإن ولدت في وقت حيضها فرأت عشرين يوماً دماً وانقطع وطهرت شهرين ثم رأت الدم بعد ذلك وعبر الخمسة عشر فإن حيضها لم يتغير بل هي في الحيض على عادتها ولكن زاد طهرها فصار شهرين بعد ما كان عشرين يوماً فتكون نفساء في العشرين الأول وطاهراً في الشهرين بعدها وحائضاً في العشر التي بعدها
فصل: ويجب على المستحاضة أن تغسل الدم وتعصب الفرج وتستوثق بالشد والتلجم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش رضي الله عنها "أنعت لك الكرسف" فقالت: إنه أكثر من ذلك فقال: "تلجمي" فإن استوثقت ثم خرج الدم من غير تفريط في الشد لم تبطل صلاتها لما روت عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة" وتصلي حتى يجيء ذلك الوقت وإن قطر الدم على الحصير ولا تصلي بطهارة أكثر من فريضة لحديث فاطمة بنت أبي حبيش ويجوز أن تصلي ما شاءت من النوافل لأن النوافل تكثر فلو ألزمناها أن تتوضأ لكل نافلة شق عليها ولا يجوز أن تتوضأ لفرض الوقت قبل الدخول لأنه طهارة ضرورية فلا يجوز قبل وقت الضرورة فإن توضأت في أول الوقت وأخرت الصلاة فإن كان لسبب يعود إلى مصلحة الصلاة كانتظار الجماعة وستر العورة والإقامة صحت صلاتها وإن كان لغير ذلك ففيه وجهان: أحدهما أن صلاتها باطلة لأنها تصلي مع نجاسة يمكن حفظ الصلاة منها والثاني تصح لأنه وسع في الوقت فلا يضيق عليها فإن أخرتها حتى خرج الوقت لم يجز أن تصلي به لأنه لا عذر لها في ذلك ومن أصحابنا من قال: يجوز أن تصلي بعد خروج الوقت لأنا لو منعناها من ذلك صارت طهارتها مقدرة بالوقت وذلك لا يجوز عندنا وإن دخلت في الصلاة ثم انقطع دمها ففيه وجهان: أحدهما لا تبطل صلاتها كالمتيمم إذا رأى الماء في الصلاة والثاني تبطل لأن عليها طهارة حدث وطهارة نجس ولم تأت عن طهارة النجس بشيء وقد قدرت عليها فلزمها الإتيان بها وإن انقطع دمها قبل الدخول في الصلاة لزمها غسل

(1/90)


الدم وإعادة الوضوء فإن لم تفعل حتى عاد الدم فإن كان عوده بعد الفراغ من الصلاة لا تصح صلاتها لأنه اتسع الوقت للوضوء والصلاة من غير حدث ولا نجس وإن كان عود الدم قبل الفراغ من الصلاة ففيه وجهان: أحدهما أنها تصح لأنا تيقنا بعود الدم أن الإنقطاع لم يكن له حكم لأنه لا يصلح للطهارة والصلاة والثاني وهو الأصح أن صلاتها باطلة لأنها استفتحت الصلاة وهي ممنوعة منها فلم تصح بالتبين كما لو استفتح لابس الخف الصلاة وهو شاك في انقضاء مدة المسح ثم تبين أن المدة لم تنقض.
فصل: وسلس البول وسلس المذي حكمهما حكم المستحاضة فيما ذكرناه ومن به ناصور أو جرح يجري منه الدم حكمهما حكم المستحاضة في غسل النجاسة عند كل فريضة لأنها نجاسة متصلة لعلة فهو كالاستحاضة.

(1/91)


باب إزالة النجاسة
النجاسة هي البول والغائط والقيء والمذي والودي ومني غير الأدمي والدم والقيح وماء القروح والعلقة والميتة والخمر والنبيذ والكلب والخنزير وما توالد منهما وما توالد من أحدهما ولبن ما لا يؤكل لحمه غير الآدمي ورطوبة فرج المرأة وما تنجس بذلك فأما البول فهو نجس لقوله صلى اله عليه وسلم "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " وأما الغائط فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم لعمار: "إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والمذي والدم والقيء" وأما سرجين البهائم وذرق الطيور كالغائط في النجاسة لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "إنها ركس1" فعلل نجاستها بأنه ركس والركس الرجيع وهذا رجيع فكان نجسا ولأنه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 21. الترمذي في كتاب الطهارة باب 13. النسائي في كتاب الطهارة باب 37. أحمد في مسنده "1/388، 418".

(1/91)


خارج من الدبر أحالته الطبيعة فكان نجساً كالغائط وأما القيء فهو نجس لحديث عمار ولأنه طعام استحال في الجوف إلى النتن والفساد فكان نجساً كالغائط أما المذي فهو نجس لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: كنت رجلاً مذاء فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة1" ولأنه خارج من سبيل الحدث لا يخلق منه طاهر فهو كالبول وأما الودي فهو نجس لما ذكرت من العلة ولأنه يخرج مع البول فكان حكمه حكم البول وأما مني الآدمي فهو طاهر لما روي عن عائشة رضي الله عنها الله عنها أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولو كان نجساً لما انعقدت معه الصلاة ولأنه مبدأ خلق بشر فكان طاهراً كالطين وأما مني غير الآدمي ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الجميع طاهر إلا مني الكلب والخنزير لأنه خارج من حيوان طاهر يخلق منه مثل أصله فكان طاهراً كالبيض ومني الآدمي والثاني أن الجميع نجس لأنه من فضول الطعام المستحيل وإنما حكم بطهارته من الآدمي لحرمته وكرامته كما أحل لبنه معه كونه لا يؤكل لحرمته وكرامته وهذا لا يوجد في غيره والثالث ما أكل لحمه فمنيه طاهر كلبنه وما لا يؤكل لحمه فمنيه نجس كلبنه وأما الدم فهو نجس لحديث عمار وفي دم السمك وجهان: أحدهما أنه نجس كغيره والثاني أنه طاهر لأنه ليس بأكثر من الميتة وميتة السمك طاهرة فكذلك دمه وأما القيح فهو نجس لأنه دم استحال إلى النتن فإذا كان الدم نجساً فالقيح أولى وأما ماء القروح فإن كان له رائحة فهو نجس كالقيح وإن لم يكن له رائحة فهو طاهر كرطوبة البدن ومن أصحابنا من قال فيه قولان:
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 82. النسائي في كتاب الطهارة باب 129. أحمد في مسنده "1/125".

(1/92)


أحدهما أنه طاهر كالعرق والثاني أنه نجس لأنه تحلل بعلة فهو كالقيح وأما العلقة ففيها وجهان: قال أبو إسحاق: هي نجسة لأنه دم خارج من الرحم فهو كالحيض وقال أبو بكر الصيرفي: هي طاهرة لأنه دم غير مسفوح فهو كالكبد والطحال فأما الميتة سوى السمك والجراد والآدمي فهي نجسة للآية لأنها محرمة الكل من غير ضرر فكانت نجسة كالدم وأما السمك والجراد فهما طاهران لأنه يحل أكلهما ولو كانا نجسين لم يحل أكلهما وأما الآدمي ففيه قولان: أحدهما أنه نجس لأنه ميت لا يحل أكله فكان نجساً لما غسل كسائر الميتات وأما الخمر فهو نجس لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] ولأنه يحرم تناوله من غير ضرورة فكان نجساً كالدم وأما النبيذ فهو نجس لأنه شراب فيه شدة مطربة فكان نجساً كالخمر وأما الكلب فهو نجس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار فأجاب ودعى إلى دار فلم يجب فقيل له في ذلك فقال: "إن في دار فلان كلباً" فقيل وفي دار فلان هرة فقال: "الهرة ليست بنجسة" فدل على أن الكلب نجس وأما الخنزير فهو نجس لأنه أسوأ حالاً من الكلب لأنه مندوب إلى قتله من غير ضرر فيه ومنصوص على تحريمه فإذا كان الكلب نجساً فالخنزير أولى وأما ما توالد منهما أو من أحدهما فهو نجس لأنه مخلوق من نجس فكان مثله وأما لبن ما لا يؤكل لحمه غير الآدمي ففيه وجهان: قال أبو سعيد الإصطخري: هو طاهر لأنه حيوان طاهر فكان لبنه طاهراً كالشاة والبقرة والمنصوص أنه نجس لأن اللبن كاللحم المذكي بدليل أنه يتناول من الحيوان ويؤكل كما يتناول اللحم المذكي ولحم ما لا يؤكل نجس فكذلك لبنه وأما رطوبة فرج المرأة فالمنصوص أنها نجس لأنها رطوبة متولدة في محل النجاسة فكانت نجسة ومن

(1/93)


أصحابنا من قال: هي طاهرة كسائر رطوبات البدن وأما ينجس بذلك فهي الأعيان الطاهرة إذا لاقاها شيء من هذه النجاسات وأحدهما رطب والآخر يابس فينجس بملاقاتها.
فصل: ولا يطهر شيء من النجاسة بالاستحالة إلا شيئان: أحدهما جلد الميتة إذا دبغ وقد دللنا عليه في موضعه والثاني الخمر إذا استحالت بنفسها خلاً فتطهر بذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال: لا يحل خل من خمر أفسدت حتى يبدأ الله إفسادها فعند ذلك يطيب الخل ولا بأس أن يشتروا من أهل الذمة خلاً ما لم يتعمدوا إلى إفساده ولأنه إنما حكم بتحريمها للشدة المطربة الداعية إلى الفساد وقد زال ذلك من غير نجاسة خلفتها فوجب أن يحكم بطهارتها وإن خللت بخل أو ملح لم تطهر لما روي أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً فقال "أهرقها" قال: أفلا أخللها؟ قال لا فنهاه عن التخليل فدل على أنه لا يجوز ولأنه لو جاز لندبه إليه لما فيه من إصلاح مال اليتيم ولأنه إذا طرح فيها الخل نجس الخل فإذا زالت الشدة المطربة بقيت نجاسة الخل النجس فلم تطهر فإن نقلها من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس حتى تخللت ففيه وجهان: أحدهما تطهر لأن الشدة قد زالت من غير نجاسة خلفتها والثاني لا تطهر لأنه لو فعل محظور توصل به إلى استعجال ما يخل في الثاني فلم يحل كما لو قتل مورثه أو نفر صيداً حتى خرج من الحرم إلى الحل وإن أحرق العذرة أو السرجين حتى صار رماداً لم يطهر لأن نجاستهما لعينهما وتخالف الخمر فإن نجاستهما لمعنى معقول وقد زال ذلك وأما دخان النجاسة إذا أحرقت ففيه وجهان: أحدهما أنه نجس لأنه أجزاء متحللة من النجاسة فهو كالرماد والثاني أنه ليس بنجس لأنه بخار نجاسة فهو كالبخار الذي يخرج من الجوف.
فصل: وإذا ولغ الكلب في إناء أو أدخل عضواً منه فيه وهو رطب لم يطهر الإناء حتى يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب1" فعلق طهارته
__________
1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 33. مسلم في كتاب الطهارة حديث 89. أبو داود في كتاب الطهارة باب 37. الترمذي في كتاب الطهارة 68. النسائي في كتاب الطهارة باب 50- 52. أحمد في مسنده "2/245، 253".

(1/94)


بسبع مرات فدل على أنه لا يطهر بما دونه والأفضل أن يجعل التراب في غير السابعة ليرد عليه ما ينظفه وفي أيها جعل جاز لعموم الخبر وإن جعل بدل التراب الجص أو الأشنان وما أشبههما ففيه قولان: أحدهما لا يجزئه لأنه تطهير نص فيه على التراب فاختص به كالتيمم والثاني أن يجزئه لأنه تطهير نجاسة نص فيه على جامد فلم يختص به كالإستنجاء والدباغ وفي موضع القولين وجهان: أحدهما أن القولين في حال عدم التراب فأما مع وجود التراب فلا يجوز بغيره قولاً واحداً والثاني أن القولين في الأحوال كلها لأنه جعله في أحد القولين كالتيمم وفي الآخر جعله كالإستنجاء والدباغ وفي الأصلين جميعاً لا فرق بين وجود المنصوص عليه وبين عدمه وإن غسل بالماء وحده ففيه وجهان: أحدهما أنه يجزئه لأن الماء أبلغ من التراب فهو بالجواز أولى والثاني لا يجزئه لأنه أمر بالتراب ليكون معونة للماء لتغلظ النجاسة وهذا لا يحصل بالماء وحده وإن ولغ كلبان ففيه وجهان: أحدهما أنه يجب لكل كلب سبع مرات كما أمر في بول الرجل بذنوب ثم يجب في بول رجلين ذنوبان والثاني أنه يجزئه للجميع سبع مرات وهو المنصوص في حرملة لأن النجاسة لا تتضاعف بعد الكلب بخلاف البول وإن ولغ الكلب في إناء ووقعت فيه نجاسة أخرى أجزأه سبع مرات للجميع لأن الطهارة تتداخل ولهذا لو وقع فيه بول ودم أجزأه لهما غسل مرة واحدة وإن أصاب الثوب من ماء الغسلات ففيه وجهان: احدهما يغسل من كل غسلة مرة لأن كل غسلة تزيل سبع النجاسة فيغسل منه بقدر السبع والثاني حكمه حكم الإناء الذي انفصل عنه لأن المنفصل كالبلل الباقي في الإناء وذلك لا يطهر إلا بما بقي من العدد فكذلك المنفصل فإن جمع ماء الغسلات ففيه وجهان: أحدهما أن الجميع طاهر لأنه ماء انفصل من الإناء وهو طاهر والثاني أنه نجس وهو الصحيح لأن السابع طاهر والباقي نجس فإذا اختلط بعضه ببعض ولم يبلغ قلتين وجب أن يكون نجساً.
فصل: وإن ولغ الخنزير فقد قال ابن القاص: قال في القديم: يغسل مرة واحدة وقال سائر أصحابنا يحتاج إلى سبع مرات وقوله في القديم مطلق لأنه قال يغسل وأراد به سبع مرات والدليل عليه أن الخنزير أسوأ من الكلب على ما بيناه فهو باعتبار العدد أولى.

(1/95)


فصل: ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح وهو أن يبله بالماء وإن لم ينزل عنه ولا يجزئ في بول الصبية إلا الغسل لما روي عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الرضيع "يغسل من بول الجارية وينضج من بول الغلام1"
فصل: وما سوى ذلك من النجاسات ينظر فيها فإن كانت جامدة كالعذرة أزيلت ثم غسل موضعها على ما بينته وإذا كانت ذائبة كالبول والدم والخمر فإنه يستحب أن يغسل منه ثلاثاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده2" فندب إلى الثلاث للشك في النجاسة فدل على أن ذلك يستحب إذا تيقن ويجوز الاقتصار على غسل مرة واحدة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل الثوب من البول سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً والغسل من الجنابة مرة والغسل من الثوب من البول مرة والغسل الواجب في ذلك أن يكاثر النجاسة بالماء حتى تستهلك فيه فإن كانت النجاسة على الأرض أجزأته المكاثرة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في بول الأعرابي بذنوب من ماء وإنما أمر بالذنوب لأن ذلك يغمر البول ويستهلك فيه وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو القاسم الأنماطي: الذنوب تقدير فيجب في بول واحد ذنوب وفي بول اثنين ذنوبان والمذهب أن ذلك ليس بتقدير لأن ذلك يؤدي إلى أن يطهر البول الكثير من الرجل بذنوب وما دون ذلك من رجلين لا يطهر إلا بذنوبين وإن كانت النجاسة على الثوب ففيه وجهان: أحدهما يجزئه المكاثرة كالأرض والثاني لا يجزئه حتى يعصر لأنه يمكن عصره بخلاف الأرض والأول أصح وإن كانت النجاسة في إناء فيه شيء ففيه وجهان: أحدهما تجزئ فيه المكاثرة كالأرض والثاني لا تجزئ حتى يراق ما فيه ثم يغسل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء: فليهرقه
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 135. الترمذي في كتاب الجمعة باب 77. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 77. أحمد في مسنده "1/76، 97".
2 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 26. مسلم في كتاب الطهارة حديث 87. أبو داود في كتاب الطهارة باب 49. الترمذي في كتاب الطهارة باب 19. النسائي في كتاب الطهارة باب 115. أحمد في مسنده "2/241، 253".

(1/96)


ثم ليغسله سبع مرات وإن كانت النجاسة خمراً فغسلها وبقيت الرائحة ففيه قولان: أحدهما لا يطهر كما لو بقي اللون والثاني يطهر لأن الخمر لها رائحة شديدة فيجوز أن يكون لقوة رائحتها تبقى الرائحة غير جزء من النجاسة وإن كانت النجاسة دماً فغسله فلم يذهب الأثر أجزاءه لما روي أن خولة بنت يسار قالت: يارسول الله أرأيت لو بقي أثر فقال صلى اله عليه وسلم: "الماء يكفيك ولا يضرك أثره" وإن كان الثوب نجساً فغمسه في إناء فيه دون القلتين من الماء نجس الماء ولا يطهر الثوب ومن أصحابنا من قال: إن قصد إزالة النجاسة لم ينجسه وليس بشيء لأن القصد لا يعتبر في إزالة النجاسة ولذلك يطهر بماء المطر وبغسل المجنون قال أبو العباس بن القاص: إذا كان ثوب كله نجس فغسل بعضه في جفنة ثم عاد فغسل ما بقي لم يطهر حتى يغسل الثوب كله دفعة واحدة لأنه إذا صب على بعضه ماءً ورد جزء من البعض الآخر على الماء فنجسه وإذا نجس الماء نجس الثوب.
فصل: إذا أصاب الأرض نجاسة ذائبة في موضع ضاح فطلعت عليه الشمس وهبت عليه الريح فذهب أثرها ففيه قولان: قال في القديم والإملاء: يطهر لأنه لم يبق شيء من النجاسة فهو كما لو غسل بالماء وقال في الأم: لا يطهر وهو الأصح لأنه محل نجس فلا يطهر بالشمس كالثوب النجس وإن طبخ البن الذي خلط بطينه السرجين لم يطهر لأن النار لا تطهر النجاسة وقال أبو الحسن بن المرزبان: إذا غسل طهر ظاهره فتجوز الصلاة عليه ولا تجوز الصلة فيه لأن ما فيه من السرجين كالزئبر في الثوب

(1/97)


فيحترق بالنار لذلك يتثقب موضعه وإذا غسل طهر فجازت الصلاة عليه والمذهب الأول وإن أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه على الأرض نظرت فإن كانت النجاسة رطبة لم يجز وإن كانت يابسة ففيه قولان: قال في الجديد: لا يجوز حتى يغسله لأنه ملبوس نجس فلا يجزيء فيه المسح كالثوب وقال في الإملاء والقديم: يجوز لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر نعليه فإن كان بهما خبث فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما1" ولأنه تتكرر فيه النجاسة فأجزأ فيه المسح كموضع الاستنجاء.
__________
1 رواه أحمد في مسنده "3/92".

(1/98)