المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الصلاة
مدخل
...
كتاب الصلاة
الصلوات المكتوبات خمس لما روى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: أتى رسول صلى الله عليه وسلم رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس صلوات كتبهن الله عليك في اليوم والليلة" فقال: هل علي غيرها؟ فقال: "لا إلا أن تطوع1"
فصل: ولا يجب ذلك إلا على مسلم بالغ عاقل طاهر فأما الكافر فإن كان أصلياً لم تجب عليه وإذا أسلم لم يخاطب بقضائها لقوله عز وجل {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] ولأن في إيجاب ذلك عليه تنفيراً عن الإسلام فعفى عنه وإن كان مرتداً وجبت عليه وإذا أسلم لزمه قضاؤه لأنه اعتقد وجوبها وقدر على التسبب إلى أدائها فهو كالمحدث وأما الصبي فلا تجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق2" ولا يجب عليه القضاء إذا بلغ لأن زمان الصغر يطول فلو أوجبنا القضاء لشق فعفي عنه وأما من زال عقله بجنون أو إغماء أو مرض فلا تجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة" فنص على المجنون وقسنا عليه كل من زال عقله بسبب مباح ومن زال عقله بمحرم كمن شرب المسكر أو تناول دواء من غير حاجة فزال عقله وجب عليه القضاء إذا أفاق لأنه زال
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 34. في كتاب الإيمان حديث 8. أبو داود في كتاب الصلاة باب 1، الترمذي في كتاب الزكاة باب 2. الموطأ في كتاب السفر حديث 94.
2 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 17. أحمد في مسنده "1/116".

(1/99)


عقله بمحرم فلم يسقط عنه الفرض وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما فعل الصلاة لما ذكرناه في باب الحيض فإن جن في حال الردة ففاته صلوات لزمه قضاؤها وإن حاضت المرأة في حال الردة ففاتها صلوات لم يلزمها قضاؤها لأن سقوط الصلاة عن المجنون للتخفيف والمرتد لا يستحق التخفيف وسقوط الصلاة عن الحائض عزيمة ليس لأجل التخفيف والمرتد من أهل العزائم.
فصل: ولا يؤمر أحد ممن لا يجب عليه فعل الصلاة بفعلها إلا الصبي فإنه يؤمر بفعلها لسبع ويضرب على تركها لعشر لما روى سمرة الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علموا الصبي الصلاة لسبع سنين واضربوه عليها ابن عشر1" فإن دخل في الصلاة ثم بلغ في أثنائها قال الشافعي رحمه الله تعالى: أحببت أن يتم ويعيد ولا يبين لي أن عليه الإعادة قال أبو إسحاق: يلزمه الإتمام ويستحب له أن يعيد وقوله أحببت يرجع إلى الجمع بين الإتمام والإعادة وهو الظاهر من المنصوص والدليل عليه أن صلاته صحيحة وقد أدركه الوجوب وهو فيها فلزمه الإتمام ولا يلزمه أن يعيد لأنه صلى الواجب بشروطه فلا يلزمه الإعادة وعلى هذا لو صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره أجزأه ذلك عن الفرض لأنه صلى صلاة الوقت بشروطها فلا يلزمه الإعادة وحكي عن أبي العباس مثل قول أبي إسحاق وحكي عنه أنه قال: يستحب الإتمام وتجب الإعادة فعلى هذا إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره لزمه أن يعيد لأن ما صلى قبل البلوغ نفل فاستحب إتمامه ويلزمه أن يعيد لأنه أدرك وقت الفرض ولم يأت به فلزمه أن يأتي به ومن أصحابنا من قال: إن خرج منها ثم بلغ ولم يبق من وقتها ما يمكن قضاؤها فيه لم يلزمه الإعادة وإن بقي من وقتها ما يمكن قضاؤها فيه لزمه الإعادة وهذا غير صحيح لأنه لو وجبت الإعادة إذا بقي من الوقت قدر الصلاة لوجبت الإعادة إذا أدرك من الوقت مقدار ركعة.
فصل: ومن وجبت عليه الصلاة وامتنع من فعلها فإن كان جاحداً لوجوبها فهو كافر ويجب قتله بالردة لأنه كذب الله تعالى في خبره وإن تركها وهو معتقد لوجوبها
__________
1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 182. أبو داود في كتاب الصلاة باب 26.

(1/100)


وجب عليه القتل وقال المزني يضرب ولا يقتل والدليل على أنه يقتل قوله صلى الله عليه وسلم: نهيت عن قتل المصلين ولأنها إحدى دعائم الإسلام لا تدخلها النيابة بنفس ولا مال فقتل بتركها كالشهادتين ومتى يقتل؟ فيه وجهان قال أبو سعيد الأصطخري: يقتل بترك الصلاة الرابعة إذا ضاق وقتها فيقال له إن صليت وإلا قتلناك لأنه يجوز أن يكون ما دون ذلك تركه لعذر وقال أبو إسحاق يقتل بترك الصلاة الثانية إذا ضاق وقتها فيقال له إن صليت وإلا قتلناك ويستتاب كما يستتاب المرتد لأنه ليس بأعظم من المرتد وفي استتابة المرتد قولان: أحدهما ثلاثة أيام والثاني يستتاب في الحال فإن تاب وإلا قتل وكيف يقتل؟ المنصوص أنه يقتل ضرباً بالسيف وقال أبو العباس: لا يقصد قتله لكن يضرب بالخشب وينخس بالسيف حتى يصلي أو يموت كما يفعل بمن قصد النفس أو المال ولا يكفر بترك الصلاة لأن الكفر بالاعتقاد واعتقاده صحيح فلم يحكم بكفره ومن أصحابنا من قال يكفر بتركها لقوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر1" والمذهب الأول والخبر متأول.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب 9. النسائي في كتاب الصلاة باب 8. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 77. أحمد في مسنده "5/346".

(1/101)


باب مواقيت الصلاة
أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وآخره إذا صار ظل كل شيء مثله غير الظل الذي يكون للشخص عند الزوال والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل عليه السلام عند باب البيت مرتين فصلى بين الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك ثم صلى بي المرة الأخيرة حين كان ظل كل شيء مثله".
فصل: وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وزاد أدنى زيادة وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وصلى بي جبريل العصر حين كان ظل كل شيء مثله ثم صلى بي المرة الأخيرة حين كان ظل كل

(1/101)


شيء مثليه1" ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز والأداء إلى غروب الشمس وقال أبو سعيد الاصطخري: إذا صار ظل كل شيء مثليه فاتت الصلاة ويكون ما بعده وقت القضاء والمذهب الأول لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى2".
فصل: وأول وقت المغرب إذا غابت الشمس لما روي أن جبريل عليه السلام صلى المغرب حين غابت الشمس وأفطر الصائم وليس لها إلا وقت واحد وهو بمقدار ما يتطهر ويستر العورة ويؤذن ويقيم الصلاة ويدخل فيها فإن أخر الدخول عن هذا الوقت أثم لما روى ابن عباس أن جبريل عليه السلام صلى في المرة الأخيرة كما صلاها في المرة الأولى ولم يغير ولو كان لها وقت آخر لبين كما بين في سائر الصلوات فإن دخل فيها في وقتها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن له أن يستديمها إلى غيبوبة الشفق لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب والثاني لا يجوز أن يستديمها أكثر من قدر ثلاث ركعات لأن جبريل عليه السلام صلى ثلاث ركعات والثالث أن له أن يصلي مقدار أول الوقت في سائر الصلوات لأنه لا يكون مؤخراً في هذا القدر ويكون مؤخراً فيما زاد عليه ويكره أن يسمى صلاة المغرب العشاء لما روى عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاة المغرب3" ويقول الأعراب العشاء.
فصل: وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق وهو الحمرة وقال المزني: الشفق البياض والدليل عليه أن جبريل عليه السلام صلى العشاء الأخيرة حين غاب الشفق والشفق هو الحمرة والدليل عليه ما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقت
__________
1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 1. أبو داود في كتاب الصلاة باب 2. النسائي في كتاب المواقيت باب 15. أحمد في مسنده "1/ 332، 354".
2 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 11. الترمذي في كتاب المواقيت باب 16. مسلم في كتاب المساجد حديث 311.
3 رواه تالبخاري في كتاب المواقيت باب 19. مسلم في كتاب المساجد حديث 228 أبو داود في كتاب الأدب باب 78. أحمد في مسنده "2/10، 433".

(1/102)


المغرب إلى أن يذهب حمرة الشفق" ولأنها صلاة تتعلق بإحدى النيرين المتفقين في الاسم الخاص فتعلقت بأظهرهما وأنورهما كالصبح وفي آخره قولان: قال في الجديد إلى ثلث الليل لما روي أن جبريل عليه السلام صلى في المرة الأخيرة العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل وقال في القديم والإملاء: إلى نصف الليل لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقت العشاء ما بينك وبين نصف الليل" ثم يذب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني وقال سعيد الاصطخري: إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه فاتت الصلاة وتكون قضاء والمذهب الأول لما رويناه من حديث أبي قتادة ويكره أن يسمى العشاء العتمة لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم" قال ابن عيينة إنها العشاء وإنهم يعتمون بالإبل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها لما روى أبو هريرة قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوم قبلها والحديث بعدها.
فصل: ووقت الصبح إذا طلع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق الذي يحرم به الطعام والشراب على الصائم وآخره إذا أسفر الصبح لما روي أن جبريل عليه السلام صلى الصبح حين طلع الفجر وصلى من الغد حين أسفر ثم التفت وقال: هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك وفيما بين هذين وقت ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى حين طلوع الشمس وقال أبو سعيد الاصطخري: يذهب الوقت وما بعده وقت القضاء والمذهب الأول لحديث أبي قتادة ويكره أن تسمى صلاة الغداة لأن الله تعالى سماها بالفجر فقال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فقال: "من أدرك ركعة من الصبح فقد أدركها1"
فصل: وتجب الصلاة في أول الوقت لأن الأمر تناول أول الوقت فاقتضى الوجوب فيه والأفضل فيما سوى الظهر والعشاء التقديم في أول الوقت لما روى عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة في أول وقتها2" ولأن الله تعالى أمر بالمحافظة عليها قال الشافعي رحمه الله تعالى: ومن المحافظة عليها تقديمها في أول الوقت لأنه إذا أخرها عرضها للنسيان وحوادث الزمان وأما الظهر فإنه إن كان في غير حر شديد فتقديمها أفضل لما ذكرناه وإن كان في حر شديد ويصلي في جماعة
__________
1رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 28. مسلم في كتاب المساجد حديث 161 -165. النسائي في كتاب المواقيت باب 11 ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 91.
2 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 137، 140، أحمد في مسنده "1/418،442".

(1/103)


في موضع يقصده الناس من البعد فالمستحب الإبراد بها بمقدار ما يحصل فيء يمشي فيه القاصد إلى الصلاة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم1" وفي صلاة الجمعة وجهان: أحدهما أنها كالظهر لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد البرد بكر بها وإذا اشتد الحر أبرد بها والثاني أن تقديمها أفضل بكل حال لأن الناس لا يتأخرون عنها لأنهم قد ندبوا إلى التبكير إليها فلم يكن للتأخير وجه وأما العشاء ففيها قولان: قال في القديم والإملاء: تقديمها أفضل وهو الأصح لما ذكرناه في سائر الصلوات وقال في الجديد: تأخيرها أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة2".
فصل: وآكد الصلاة في المحافظة عليها الصلاة الوسطى لأن الله عز وجل خصها بالذكر فقال: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] والصلاة الوسطى هي الصبح والدليل عليه أن الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فقرنها بالقنوت ولا قنوت إلا في الصبح ولأن الصبح يدخل وقتها والناس في أطيب نوم فخصت بالمحافظة عليها حتى لا يتغافل عنها بالنوم ولهذا خصت بالتثويب فدل على ما قلناه
فصل: ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله3" ولأنا لو لم نجوز التأخير لضاق على الناس فسمح لهم بالتأخير فإن صلى ركعة في الوقت ثم خرج الوقت ففيه وجهان: أحدهما وهو ظاهر المذهب وهو قول أبي علي بن خيران أنه يكون مؤدياً للجميع لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" ومن أصحابنا من قال: يكون مؤدياً لما صلى في الوقت قاضياً لما صلى بعد خروج الوقت اعتباراً بما أدركه من الوقت وبما صلى بعد خروج الوقت
__________
1 رواه البخاري في كتاب الموقيت باب 9، 10. أبو داود في كتاب الصلاة باب 4. الترمذي في كتاب الصلاة باب 5. النسائي في كتاب المواقيت باب 5. أحمد في مسنده "2/229، 238".
2 رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 103،106 البخاري في كتاب الإيمان باب 26. أبو داود في كتاب الطهارة باب 25. الترمذي في كتاب الطهارة باب 25. الترمذي في كتاب الطهارة باب 18 الموطأ في كتاب الطهارة حديث 114. أحمد في مسنده "1/80" 2/28".
3 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 13.

(1/104)


فصل: ولا يعذر أحد من أهل الفرض في تأخير الصلاة عن وقتها إلا نائم أو ناس أو مكروه أو من يؤخرها للجمع لعذر السفر والمطر لقوله صلى الله عليه وسلم "ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى1" فنص على النائم وقسنا عليه الناسي والمكروه لأنهما في معناه وأما من يؤخرها لسفر أو مطر فإنما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل: إذا بلغ الصبي أو أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو النفساء أو أفاق المجنون أو المغمى عليه وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة لزمه فرض الوقت لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر2" فإن بقي من الوقت دون الركعة ففيه قولان: روى المزني عنه أنه لا يلزمه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ولأنه بدون الركعة لا يدرك الجمعة فكذلك ههنا وقال في كتاب استقبال القبلة: يلزمه بقدر تكبيرة لأنه إدراك حرمة فاستوى فيه الركعة والتكبيرة كإدراك الجماعة وتخالف الجمعة فإنه إدراك فعل فاعتبر فيه الركعة وهذا إدراك حرمة فهو كالجماعة وأما الصلاة التي قبلها فينظر فيها فإن كان ذلك في وقت الصبح أو الظهر أو المغرب لم يلزمه ما قبلها لأن ذلك ليس بوقت لا قبلها وإن كان ذلك في وقت العصر أو في وقت العشاء قال في الجديد: يلزمه الظهر بما يلزم به العصر ويلزم المغرب بما يلزم به العشاء وفيما يلزم به العصر والعشاء قولان: أحدهما ركعة والثاني تكبيرة والدليل عليه أن وقت العصر وقت الظهر ووقت العشاء وقت المغرب في حق أهل العذر وهو المسافر وهؤلاء من أهل العذر فجعل ذلك وقتاً لها في حقهم وقال في القديم: فيه قولان: أحدهما يجب بركعة وطهارة والثاني يجب الظهر والعصر بمقدار خمس ركعات أربع للظهر وركعة للعصر وتجب المغرب مع العشاء بأربع ركعات ثلاث للمغرب وركعة للعشاء لأن الوقت اعتبر لإدراك الصلاتين فاعتبر وقت يمكن الفراغ من إحداهما والشروع في الأخرى وغلط أبو إسحاق في هذا فقال أربع من العصر وركعة من الظهر وأربع من العشاء وركعة من المغرب وهذا خلاف النص في القديم وخلاف النظر لأن العصر تجب بركعة فدل على أن الأربع للظهر وخرج أبو إسحاق في المسألة قولاً خامساً أنه يدرك الظهر والعصر بمقدار إحدى الصلاتين وتكبيرة.
__________
1 تقدم.
2 تقدم.

(1/105)


فصل: وأما إذا أدرك جزءاً من أول الوقت ثم طرأ العذر بأن كان عاقلاً في أوال الوقت ثم جن أو طاهرة فحاضت نظرت فإن لم يدرك ما يتسع لفرض الوقت سقط الوجوب ولم يلزمه القضاء وقال أبو يحيى البلخي: حكمه حكم آخر الوقت فيلزمه في أحد القولين بركعة وفي الثاني بتكبيرة والمذهب الأول لأنه لم يتمكن من فعل الفرض فسقط وجوبه كما لو هلك النصاب بعد الحول وقبل التمكن من الأداء ويخالف آخر الوقت فإنه يمكنه أن يبني ما بقي على ما أدرك بعد خروج الوقت فيلزمه وإن أدرك من الوقت ما يسع الفرض ثم طرأ الجنون أو الحيض استقر الوجوب ولزمه القضاء إذا زال العذر وحكى عن أبي العباس أنه قال: لا يستقر حتى يدرك آخر الوقت والمذهب الأول لأنه وجب عليه وتمكن من أدائه فأشبه إذا وجبت الزكاة وتمكن من أدائها فلم يخرج حتى هلك المال وأما الصلاة التي بعدها فإنها لا تلزمه وقال أبو يحيى البلخي: تلزمه العصر بإدراك وقت الظهر وتلزمه العشاء بإدراك وقت المغرب لأن وقت الأولى وقت الثانية في حال الجمع كما أن وقت الثانية وقت الأولى في حال الجمع فإذا لزمته الأولى بإدراك وقت الثانية لزمته الثانية بإدراك وقت الأولى والمذهب الأول لأن وقت الأولى وقت الثانية على سبيل التبع ولهذا لا يجوز فعل الثانية حتى تقدم الولى بخلاف وقت الثانية فإنه وقت الأولى لا على وجه التبع ولهذا يجوز فعلها قبل الثانية.
فصل: ومن وجبت عليه الصلاة فلم يصل حتى فات الوقت لزمه قضاؤها لقوله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها1" والمستحب أن يقضيها على الفور للحديث الذي ذكرناه وإن أخرها جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته صلاة الصبح فلم يصلها حتى خرج من الوادي ولو كانت على الفور لما أخرها وقال أبو إسحاق: إن تركها لغير عذر لزمه قضاؤها على الفور لأنه مفرط في التأخير وإن فاتته صلوات فالمستحب أن يقضيها على الترتيب لأن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته أربع صلوات يوم الخندق فقضاها على الترتيب فإن قضاها من غبر ترتيب جاز لأنه ترتيب إستحق للفوت فسقط بفوات الوقت كقضاء الصوم وإن ذكر الفائتة وقد ضاق وقت الصلاة الحاضرة لزمه لأن يبدأ بالحاضرة لأن الوقت تعين لها فوجب البداية بها كما لو حضره رمضان وعليه صوم رمضان آخر ولأنه إذا أخر الحاضرة فاتت فوجب البداية بها وإن نسي صلاة ولم يعرف عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات وقال المزني: يلزمه أن يصلي أربع ركعات وينوي الفائتة ويجلس في
__________
1 رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 37. مسلم في كتاب المساجد حديث 309 الترمذي في كتاب الصلاة باب 16. النسائي في كتاب المواقيت باب 52 – 54 الموطأ في كتاب المواقيت حديث 25.

(1/106)


ركعتين ثم يجلس في الثالثة ثم يجلس في الرابعة ويسلم وهذا غير صحيح لأن تعيين النية شرط في صحة الصلاة ولا يحصل ذلك إلا بأن يصلي خمس صلوات بخمس نيات.

(1/107)


باب الآذان والإقامة
الأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار المسلمين فيما يجمعهم على الصلاة فقالوا البوق فكرهه من أجل اليهود ثم ذكر الناقوس فكرهه من أجل النصارى فأري تلك الليلة عبد الله بن زيد النداء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن به وهو أفضل من الإمامة ومن أصحابنا من قال: الإمامة أفضل لأن الأذان إنما يراد للصلاة فكان القيام بأمر الصلاة أولى من القيام بما يراد لها والأول أصح لقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت:33] قالت عائشة رضي الله عنها الله عنها: نزلت في المؤذنين ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين1" والأمناء أحسن حالاً من الضمناء وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو كنت مؤذناً لما باليت أن لا أجاهد ولا أحج ولا أعتمر بعد حجة الإسلام فإن تنازع جماعة في الأذان وتشاحوا أقرع بينهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لا يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا2".
فصل: وهما سنتان ومن أصحابنا من قال هما فرض من فروض الكفاية فإن اتفق أهل بلد أو أهل صقع على تركهما قوتلوا عليه لأنه من شعار الإسلام فلا يجوز تعطيله وقال أبو علي بن خيران وأبو سعيد الإصطخري: هو سنة إلا في الجمعة فإنه من فرائض الكفاية فيها لأنه لما اختصت الجمعة بوجوب الجماعة اختصت بوجوب الدعاء إليها والمذهب الأول لأنه دعاء إلى الصلاة فلا يجب كقوله الصلاة جامعة.
فصل: وهل يسن للفوائت؟ فيه ثلاثة أقوال: قال في الأم: يقيم لها ولا يؤذن والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 39. أبو داود في كتاب الصلاة باب 32. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 47. أحمد في مسنده "2/232/ 382".
2 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 9. مسلم في كتاب الصلاة حديث 129 الترمذي في كتاب المواقيت باب 52. الموطأ في كتاب الجماعة حديث 6. أحمد في مسنده "2/303، 533".

(1/107)


الليل حتى كفينا وذلك قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره فأقام فصلاها وأحسن كما تصلى في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك ولأن للإعلام بالوقت وقد فات الوقت والإقامة تراد لإفتتاح الصلاة وذلك موجود وقال في القديم: يؤذن ويقيم للأولى وحدها ويقيم للتي بعدها والدليل عليه ما روى عبد الله بن مسعود أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن ثم أقام وصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء ولأنهما صلاتان جمعهما في وقت واحد فكانتا بأذان وإقامتين كالمغرب والعشاء بالمزدلفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بأذان وإقامتين وقال في الإملاء: إن أمل اجتماع الناس أذن وأقام وإن لم يؤمل أقام والدليل عليه أن الأذان يراد لجمع الناس فإذا لم يؤمل الجمع لم يكن للأذان وجه وإذا أمل كان له وجه قال أبو إسحاق: وعلى هذا القول الصلاة الحاضرة أيضاً إذا أمل الاجتماع لها أذن وأقام وإن لم يؤمل أقام ولم يؤذن فإن جمع بين صلاتين فإن جمع بينهما في وقت الأولى منهما أذن وأقام للأولى وأقام الثانية كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وإن جمع بينهما في وقت الثانية فهما كالفائتتين لأن الأولى قد فات وقتها والثانية تابعة لها وقد بينا حكم الفوائت.
فصل: ولا يجوز الأذان لغير الصبح قبل دخول الوقت لأنه يراد بها الإعلام بالوقت فلا يجوز قبله وأما الصبح فيجوز لها بعد نصف الليل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً لا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" ولأن الصبح يدخل وقتها والناس نيام وفيهم الجنب والمحدث فاحتيج إلى تقديم الأذان ليتأهب الناس للصلاة ويخالف سائر الصلوات فإنه يدخل وقتها والناس مستيقظون فلا يحتاج إلى تقديم الأذان وأما الإقامة فلا يجوز تقديمها على الوقت لأنها تراد لاستفتاح الصلاة فلا تجوز قبل الوقت

(1/108)


فصل: والأذان تسع عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ثم يرجع فيمد صوته فيقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله لما روى أبو محذورة قال: ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين بنفسه فقال: قل الله أكبر الله أكبر فذكر نحو ما قلناه فإن كان في

(1/109)


أذان الصبح زاد فيه التثويب وهو أن يقول بعد الحيعلة الصلاة خير من النوم مرتين وكره ذلك في الجديد وصلت وقال أصحابنا: يسن ذلك قولاً واحداً فإنه إنما كره ذلك في الجديد لأن أبا محذورة لم يحكمه وقد صح في حديث أبي محذورة أنه قال له حي على الفلاح الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله أكبر الله أكبر لا إله إلا

(1/110)


الله وأما الإقامة فإنها إحدى عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وقال في القديم الإقامة مرة مرة لأنه لفظ في الإقامة فكان فرادى كالحيعلة والأول أصح لما روى أنس رضي الله عنه قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولأن سائر ألفاظ الإقامة إلا الإقامة قد قضى حقه في أول الأذان فأعيدت على النقصان كآخر الأذان ولفظ الإقامة لم يقض حقه في الأذان فلم يلحق النقصان.
فصل: ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل فأما الكافر والمجنون فلا يصح أذانهما لأنهما ليسا من أهل العبادات ويصح من الصبي العاقل لأنه من أهل العبادات ويكره للمرأة أن تؤذن ويستحب لها أن تقيم لأن في الأذان ترفع الصوت وفي الإقامة لا ترفع الصوت فإن أذنت للرجال لم يعتد بأذانها لأنه لا تصح إمامتها للرجال فلا يصح تأذينها لهم.
فصل: ويستحب أن يكون المؤذن حراً بالغاً لما روى ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً يؤذن لكم خياركم وقال عمر رضي الله عنه لرجل: من مؤذنوكم؟ فقالوا موالينا أو عبيدنا فقال: إن ذلك لنقص كبير والمستحب أن يكون عدلاً لأنه أمين على المواقيت ولأنه يؤذن على موضع عال فإذا لم يكن أميناً لم يؤمن أن ينظر إلى العورات وينبغي أن يكون عارفاً بالمواقيت لأنه إذا لم يعرف ذلك غر الناس بأذانه والمستحب أن يكون من ولد من جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأذان فيهم أو من الأقرب فالأقرب إليهم لما روى أبو محذورة قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان لنا وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الملك في قريش والقضاء في الأنصار والأذان في الحبشة1" والمستحب أن يكون صيتاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أبا محذورة لصوته ويستحب أن يكون حسن الصوت لأنه أرق لسامعيه ويكره أن يكون المؤذن أعمى لأنه ربما غلط في المواقيت فإن كان معه
__________
1 رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 71. أحمد في مسنده "2/364".

(1/111)


بصير لم يكره لأن ابن أم مكتوم كان يؤذن مع بلال والمستحب أن يكون على طهارة لما روى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق وسنة أن لا يؤذن لكم أحدكم إلا وهو طاهر" ولأنه لم يكن على طهارة انصرف لأجل الطهارة فيجيء من يريد الصلاة فلا يرى أحداً فينصرف والمستحب أن يكون على موضع عال لأن الذي رآه عبد الله بن زيد كان على جذم حائط ولأنه أبلغ في الإعلام والمستحب أن يؤذن قائماً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال قم فنادي" ولأنه أبلغ في الإعلام فإن كان مسافراً وهو راكب أذن وهو قاعد كما يصلي وهو قاعد والمستحب أن يكون مستقبل القبلة فإن بلغ إلى الحيلعة لوى عنه يميناً وشمالاً ولا يستدبر لما روى أبو جحيفة قال: رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فأذن واستقبل القبلة فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدبر ولأنه إذا لم يكن له بد من جهة فجهة القبلة أولى والمستحب أن يجعل أصبعيه في صماخي أذنيه لما روى أبو جحيفة قال: رأيت بلالاً وأصبعاه في صماخي أذنيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له حمراء ولأن ذلك أجمع للصوت المستحب أن يرسل في الأذان ويدخل الأقامة لما روي عن أبي الزبير مؤذن بيت المقدس أن عمر رضي الله عنه قال: إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحذم ولأن الأذان للغائبين فكان الترسل فيه أبلغ والإقامة للحاضرين فكان الإدراج فيها أشبه ويكره التمطيط وهو

(1/112)


التمديد والتغني وهو الترطيب لما روي أن رجلاً قال لابن عمر: إني لأحبك في الله قال: وأنا أبغضك في الله إنك تغني في أذانك قال حماد: التغني الترطيب والمستحب أن يرفع صوته في الأذان إذا كان يؤذن للجماعة لقوله صلى الله عليه وسلم "يغفر للمؤذن مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس1" ولأنه أبلغ في جمع الجماعة ولا يبالغ بحيث يشق حلقه لما روي أن عمر رضي الله عنه سمع أبا محذورة وقد رفع صوته فقال له: أما خشيت أن تنشق مريطاؤك قال: أحببت أن يرفع صوتي فإن أسر بالأذان لم يعتد به لأنه لا يحصل به المقصود وإن كان يؤذن لصلاته وحده لم يرفع الصوت لأنه لا يدعو غيره فلا وجه لرفع الصوت والمستحب أن يكون رفع الصوت في الإقامة دون رفع الصوت في الأذان لأن الإقامة للحاضرين ويجب أن يرتب الأذان لأنه إذا نكسه لم يعلم السامع أن ذلك أذان والمستحب أن لا يتكلم في أذانه فإن تكلم لم يبطل أذانه لأنه إذا لم تبطل الخطبة بالكلام فلأن لا يبطل الأذان أولى فإن أغمي عليه وهو في الأذان لم يجز لغيره أن يبني عليه لأن الأذان من الاثنين لا يحصل به المقصود لأن السامع يظن أن ذلك على وجه اللهو واللعب فإن أفاق في الحال وبنى عليه جاز لأن المقصود يحصل به وإن ارتد في الأذان ثم رجع إلى الإسلام في الحال ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز يبني عليه لأن ما فعله بطل بالردة والمذهب أنه يجوز لأن الردة إنما تبطل إذا اتصل بها الموت وههنا رجع قبل الموت فلم يبطل.
فصل: والمستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول إلا في الحيلعة فإنه
__________
1 رواه النسائي في كتاب الأذان باب 14. ابن ماجه في كتاب الأذان باب 5. أبو داود في كتاب الصلاة باب 31.

(1/113)


يقول لا حول ولا قوة إلا بالله لما روى عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن الله أكبر فقال: أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمداً رسول الله فقال أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال حي على الصلاة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح فقال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر فقال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله فقال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة" فإن سمع ذلك وهو في الصلاة لم يأت به في الصلاة فإذا فرغ أتى به وإن كان في قراءة أتى به ثم رجع إلى القراءة لأنه يفوت والقراءة لا تفوت ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولما روى عبد الله ابن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً1" ثم سأل الله تعالى لي الوسيلة فيقول اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال
__________
1 رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 13. الترمذي في كتاب الصلاة باب 42. ابن ماجه في كتاب الأذان باب 4.

(1/114)


حين يسمع النداء ذلك حلت له الشفاعة يوم القيامة1" وإن كان الأذان للمغرب قال: اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تقول ذلك ويدعو الله تعالى بين الأذان والإقامة لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة فادعوا2" والمستحب أن يقعد بين الأذان والإقامة قعدة ينتظر فيها الجماعة لأن الذي رآه عبد الله بن زيد في المنام أذن وقعد قعدة ولأنه إذا وصل الأذان بالإقامة فات الناس الجماعة فلم يحصل المقصود بالأذان ويستحب أن يتحول من موضع الأذان إلى موضع غيره للإقامة لما روي في حديث عبد الله بن زيد ثم استأخر غير كثير ثم قال مثل ما قال وجعلها وتراً والمستحب أن يكون المقيم هوالمؤذن لأن زياد بن الحارث الصدائي أذن فجاء بلال ليقيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم فإن أذن واحد وأقام غيره جاز لأن بلالاً أذن وأقام عبد الله بن زيد ويستحب لمن سمع الإقامة أن يقول مثل ما يقول إلا في الحيعلة فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وفي لفظ الإقامة يقول أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض لما روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك والمستحب أن يكون المؤذن للجماعة اثنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنان بلال وابن أم مكتوم وإن احتاج إلى الزيادة جعلهم أربعة لأنه كان لعثمان رضي الله عنه أربعة والمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد كما فعل بلال وابن أم مكتوم ولأن ذلك أبلغ في الإعلام ويجوز استدعاء الأمر إلى الصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها أن بلالاً جاء فقال السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قال ابن قسيط: وكان بلال يسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنها كما كان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل: وإذا وجد من يتطوع بالأذان لم يرزق المؤذن من بيت المال لأن مال بيت
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 7. مسلم في كتاب الصلاة حديث 10. الترمذي في كتاب الصلاة باب 40. الموطأ في كتاب النداء حديث 2.
2 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 35. الترمذي في كتاب الصلاة باب 44.

(1/115)


المال جعل للمصلحة ولا مصلحة في ذلك وإن لم يوجد من يتطوع رزق من يؤذن من خمس الخمس لأن ذلك من المصالح وهل يجوز أن يستأجر؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز وهو اختيار الشيخ أبي حامد الاسفراني رحمه الله لأنه قربة في حقه فلم يستأجر عليه كالإمامة في الصلاة والثاني يجوز لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر الأعمال.

(1/116)


باب طهارة البدن من النجاسة
وما يصلى عليه وفيه الطهارة ضربان: طهارة عن حدث وطهارة عن نجس فأما الطهارة عن حدث فهي شرط في صحة الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول1" وقد مضى حكمها في كتاب الطهارة وأما طهارة البدن عن النجس فهي شرط في صحة الصلاة والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه2" والنجاسة ضربان: دماء وغير دماء فأما غير الدماء فينظر فيه فإن كان قدرا يدركه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 2. مسلم في كتاب الطهارة حديث 1. أبو داود في كتاب الطهارة باب 31. الترمذي في كتاب الطهارة باب 1. الدارمي في كتاب الوضوء باب 21. أحمد في مسنده "2/20، 39، 73".
2 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 26. أحمد في مسنده "2/326،388".

(1/116)


الطرف لم يعف عنه لأنه لا يشق الاحتراز منه وإن كان قدراً لا يدركه الطرف ففيه ثلاث طرق: أحدها أنه يعفى عنه لأنه لا يدركه الطرف فعفى عنه كغبار السرجين والثاني لا يعفى عنه لأنه نجاسة لا يشق الاحتراز منها فلم يعف عنها كالذي يدركه الطرف والثالث أنه على قولين: أحدهما يعفى عنه والثاني لا يعفى عنه ووجه القولين ما ذكرناه وأما الدماء فينظر فيها فإن كان دم القمل والبراغيث وما أشبههما فإنه يعفى عن قليله لأنه يشق الاحتراز منه فلو لم يعف عنه شق وضاق وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وفي كثيره وجهان: قال أبو سعيد الإصطخري: لا يعفى عنه لأنه نادر لا يشق غسله وقال غيره: يعفى عنه وهو الأصح لأن هذا الجنس يشق الاحتراز في الغالب فألحق نادره بغالبه وإن كان دم غيرهما من الحيوان ففيه ثلاثة أقوال: قال في الأم: يعفى عن قليله وهو القدر الذي يتعافاه الناس في العادة لأن الإنسان لا يخلو من بثرة وحكة يخرج منها هذا القدر فعفى عنه وقال في الإملاء لا يعفى عن قليله ولا عن كثيره لأنه نجاسة لا يشق الاحتراز منها فلم يعف عنها كالبول وقال في القديم: يعفى عما دون الكف ولا يعفى عن الكف والأول أصح.
فصل: إذا كان على بدنه نجاسة غير معفو عنها ولم يجد ما يغسل به صلى وأعاد كما قلنا فيمن لم يجد ماء ولا ترابا وإن كان على فرجه دم يخاف من غسله صلى وأعاد وقال في القديم: لا يعيد لأنها نجاسة يعذر في تركها فسقط معها الفرض كأثر الاستنجاء والأول أصح لأنه صلى بنجس نادر غير معتاد متصل فلم يسقط عنه الفرض كما لو صلى بنجاسة نسيها وإن جبر عظمه بعظم نجس فإن لم يخف التلف من قلعة لزمه قلعه لأنها نجاسة غير معفو عنها أوصلها إلى موضع يلحقه حكم التطهير لا يخاف

(1/117)


التلف من إزالتها فأشبه إذا وصلت المرأة شعرها بشعر نجس فإن امتنع من قلعه أجبره السلطان على قلعه لأنه مستحق عليه يدخله النيابة فإذا امتنع لزم السلطان أن يقلعه كرد المغصوب وإن خاف التلف من قلعه لم يجب قلعه ومن أصحابنا من قال يجب قلعه لأنه حصل بفعله وعدوانه فانتزع منه وإن خيف عليه التلف كما لو غصب مالاً ولم يمكن انتزاعه منه إلا بضرب يخاف منه التلف والمذهب الأول لأن النجاسة يسقط حكمها عند خوف التلف ولهذا يجوز أكل الميتة عند خوف التلف فكذلك ههنا وإن مات فقد قال أبو العباس: يقلع حتى لا يلقى الله تعالى حاملاً للنجاسة والمنصوص أنه لا يقلع لأن قلعه للعبادة وقد سقطت العبادة عنه بالموت وإن فتح موضعاً من بدنه وطرح فيه دماً والتحم وجب فتحه وإخراجه كالعظم ومن شرب خمراً فالمنصوص في صلاة الخوف أن يلزمه أن يتقايأ لما ذكرناه في العظم ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لأن النجاسة حصلت في معدنها فصار كالطعام الذي أكله وحصل في المعدة.
فصل: وأما طهارة الثوب الذي يصلي فيه فهي شرط في صحة الصلاة والدليل عليه قوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وإن كان على ثوبه نجاسة غير معفو عنها ولم يجد ما يغسل به صلى عرياناً ولا يصلي في الثوب النجس وقال في البويطي: وقد قيل يصلي فيه ويعيد والمذهب الأول لأن الصلاة مع العري يسقط بها الفرض ومع النجاسة لا يسقط لأنه تجب إعادتها فلا يجوز أن يترك صلاة يسقط بها الفرض إلى صلاة لا يسقط بها الفرض وإن اضطر إلى لبس الثوب النجس لحر أو برد صلى فيه وأعاد إذا قدر لأنه صلى بنجس نادر غير مفصل فلا يسقط معه الفرض كما لو صلى بنجاسة نسيها وإن قدر على غسله وخفي عليه موضع النجاسة لزمه أن يغسل الثوب كله ولا يتحرى فيه لأن التحري إنما يكون في عينين فإذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما رده إلى أصله وإنه طاهر بيقين وهذا لا يوجد في الثوب الواحد وإن شقه نصفين لم يتحر فيه لأنه يجوز أن يكون الشق في موضع النجاسة فتكون القطعتان نجستين وإن كان معه ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس واشتبها عليه تحرى وصلى في الطاهر على الأغلب عنده لأنه شرط

(1/118)


من شروط الصلاة يمكنه التوصل إليه بالاجتهاد فيه فجاز التحري فيه كالقبلة وإن اجتهد ولم يؤده الاجتهاد إلى طهارة أحدهما صلى عرياناً وأعاد لأنه صلى عرياناً ومعه ثوب طاهر بيقين وإن أداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما ونجاسة الآخر فغسل النجس عنده جاز أن يصلي في كل واحد منهما فإن لبسهما معاً وصلى فيهما ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: تلزمه الإعادة لأنهما صارا كالثوب الواحد وقد تيقن حصول النجاسة وشك في زوالها لأنه يحتمل أن يكون الذي غسله هو الطاهر فلم تصح صلاته كالثوب الواحد إذا أصابته نجاسة وخفي عليه موضعها فتحرى وغسل موضع النجاسة بالتحري وصلى فيه وقال أبو العباس: لا إعادة عليه لأنه صلى في ثوب طاهر بيقين وثوب طاهر في الظاهر فهو كما لو صلى في ثوب اشتراه لا يعلم حاله وثوب غسله وإن كانت النجاسة في أحد الكمين واشتبها عليه ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يتحرى لأنه ثوب واحد وقال أبو العباس: يتحرى لأنهما عينان متميزتان فهما كالثوبين وإن فصل في أحد الكمين من القميص جاز التحري فيه بلا خلاف وإن كان عليه ثوب طاهر وطرفه موضوع على نجاسة كالعمامة على رأسه وطرفها على أرض نجسة لم تجز صلاته لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة فلم تجز صلاته وإن كان في وسطه حبل مشدود إلى كلب صغير لم تصح صلاته لأنه حامل للكلب لأنه إذا مشى انجر معه وإن كان مشدوداً إلى كلب كبير ففيه وجهان: أحدهما لا تصح صلاته لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة فهو كالعمامة على رأسه وطرفها على نجاسة والثاني تصح لأن الكلب اختياراً وإن كان الحبل مشدوداً إلى سفينة فيها نجاسة والشد في موضع طاهر من السفينة فإن كانت السفينة صغيرة لم تجز لأنه حامل للنجاسة وإن كانت كبيرة ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنها منسوبة إليه والثاني يجوز لأنه غير حامل للنجاسة ولا لما هو متصل بالنجاسة فهو كما لو صلى والحبل مشدود إلى باب دار فيها نجس وإن حمل حيواناً طاهراً في صلاته صحت صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت أبي العاص في صلاته ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدن النجاسة فهو كالنجاسة التي في جوف المصلي وإن حمل قارورة فيها نجاسة وقد شد رأسها ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن النجاسة لا تخرج منها فهو كما لو حمل حيواناً طاهراً والمذهب أنه لا يجوز لأنه حمل نجاسة غير معفو عنها في غير معدنها فأشبه إذا حمل النجاسة في كمه.
فصل: طهارة الموضع الذي يصلي فيه شرط في صحة الصلاة لما روي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة المجزرة والمزبلة

(1/119)


والمقبرة ومعاطن الإبل والحمام وقارعة الطريق وفوق بيت الله العتيق1" فذكر المجزرة والمزبلة وإنما منع من الصلاة فيهما للنجاسة فدل على أن طهارة الموضع الذي يصلي فيه شرط فإن صلى على بساط وعليه نجاسة غير معفو عنها فإن صلى على الموضع النجس منه لم تصح لأنه ملاق للنجاسة وإن صلى على موضع طاهر منه صحت صلاته لأنه غير ملاق للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بالنجاسة فهو كما لو صلى على أرض طاهرة وفي موضع منها نجاسة فإن صلى على أرض فيها نجاسة فإن عرف موضعها تجنبها وصلى في غيرها وإن فرش عليها شيئاً وصلى عليه جاز لأنه غير مباشر للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بها وإن خفي عليه موضع النجاسة فإن كانت في أرض واسعة فصلى في موضع منها جاز لأنه غير متحقق لها ولأن الأصل فيها الطهارة وإن كانت النجاسة في بيت وخفي عليه موضعها لم يجز أن يصلي فيه حتى يغسله ومن أصحابنا من قال: يصلي فيه حيث شاء كالصحراء وليس بشيء لأن الصحراء لا يمكن حفظها من النجاسة ولا يمكن غسل جميعها والبيت يمكن حفظه من النجاسة فإذا نجس أمكن غسله وإذا خفي موضع النجاسة منه غسله كالثوب وإن كانت النجاسة في أحد البيتين واشتبها عليه تحرى كما يتحرى في الثوبين وإن حبس في حبس ولم يقدر أن
__________
1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 141. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 4.

(1/120)


يتجنب النجاسة في قعوده وسجوده تجافى عن النجاسة وتجنبها في قعوده وأما في السجود إلى الحد الذي لو زاد لاقى النجاسة ولا يسجد على الأرض لأن الصلاة قد تجزئ مع الإيماء ولا تجزئ مع النجاسة وإذا قدر ففيه قولان: قال في القديم: لا يعيد لأنه صلى على حسب حاله فهو كالمريض وقال في الإملاء: بعيد لأنه ترك الفرض لعذر نادر غير متصل فلم يسقط الفرض عنه كما لو ترك السجود ناسياً وإذا عاد ففي الفرض أقوال: قال في الأم: الفرض هو الثاني لأن الفرض به يسقط وقال في القديم: الفرض هو الأول لأن الإعادة مستحبة غير واجبة في القديم وقال في الإملاء: الجميع فرض لأن الجميع يجب فعله فكان الجميع فرضاً وخرج أبو إسحاق قولاً رابعاً إن الله تعالى يحسب له بأيتهما شاء قياساً على ما قال في القديم فيمن صلى الظهر ثم سعى إلى الجمعة فصلاها إن الله تعالى يحسب له بأيتهما شاء.
فصل: إذا فرغ من الصلاة ثم رأى على بدنه أو ثوبه أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنها نظرت فإن كان جوز أن يكون حدث بعد الفراغ من الصلاة لم يلزمه الإعادة لأن الأصل أنها لم تكن في حال الصلاة فلم تجب الإعادة بالشك كما لو توضأ من بئر وصلى ثم وجد في البئر فأرة فإن علم أنها كانت الصلاة فإن كان قد علم أنها قبل الدخول في الصلاة لزمته الإعادة لأنه فرط في تركها وإن لم يعلم بها حتى فرغ من الصلاة ففيه قولان: قال في القديم: لا يعيد لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في الصلاة وخلع الناس نعالهم فقال: مالكم خلعتم نعالكم؟ فقالوا رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا فقال: أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن فيهما قذرا أو قال دم حلمة فلو لم تصح الصلاة لاستأنف الإحرام وقال في الجديد: يلزمه الإعادة لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالجهل كالوضوء.
فصل: ولا يصلي في مقبرة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام1" فإن صلى في مقبرة نظرت فإن كانت
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 24. الترمذي في كتاب المواقيت باب 119. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 4. أحمد في مسنده "3/83،86".

(1/121)


مقبرة تكرر فيها النبش لم تصح صلاته لأنه قد اختلط بالأرض صديد الموتى وإن كانت جديدة ولم يتكرر فيها نبش كرهت الصلاة فيها لأنها مدفن النجاسة والصلاة صحيحة لأن الذي باشر بالصلاة طاهر وإن شك هل نبشت أو لا ففيه قولان: أحدهما لا تصح صلاته لأن الأصل بقاء الفرض في ذمته وهو يشك في إسقاطه والفرض لا يسقط بالشك والثاني تصح لأن الأصل طهارة الأرض فلا يحكم بنجاستها بالشك.
فصل: ولا يصلي في الحمام لحديث أبي سعيد الخدري واختلف أصحابنا لأي معنى منع من الصلاة فمنهم من قال إنما منع لأنه يغسل فيه النجاسات فعلى هذا إذا صلى في موضع تحقق طهارته صحت صلاته وإن صلى في موضع تحقق نجاسته لم تصح وإن شك فعلى قولين كالمقبرة ومنهم من قال إنما منع لأنه مأوى الشياطين لما يكشف فيه من العورات فعلى هذا تكره الصلاة فيه وإن تحقق طهارته فالصلاة صحيحة لأن المنع لا يعود إلى الصلاة.
فصل: وتكره الصلاة في أعطان الإبل ولا تكره في مراح الغنم لما روى عبد الله بن مغفل المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين1" ولأن في أعطان الإبل لا يمكن الخشوع في الصلاة لما يخاف من
__________
1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 142. النسائي في كتاب المساجد باب 41. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 12. الدارمي في كتاب الصلاة باب 112. أحمد في مسنده "3/404" "4/85، 303".

(1/122)


نفورها ولا يخاف من نفور الغنم.
فصل: ويكره أن يصلي في مأوى الشياطين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إخرجوا من هذا الوادي فإن فيه شيطاناً" ولم يصل فيه.
فصل: ولا يصلي في قارعة الطريق لحديث عمر رضي الله عنه سبعة مواطن لا يجوز فيها الصلاة وذكر قارعة الطريق ولأنه يمنع الناس من الممر وينقطع خشوعه بممر الناس فإن صلى فيه صحت صلاته لأن المنع لترك الخشوع أو لمنع الناس من الطريق وذلك لا يوجب بطلان الصلاة.
فصل: ولايجوز أن يصلي في أرض مغصوبة لأن اللبث فيها يحرم في غير الصلاة فلأن يحرم في الصلاة أولى فإن صلى فيها صحت صلاته لأن المنع لا يختص بالصلاة فلم يمنع صحتها.

(1/123)


باب ستر العورة
ستر العورة عن العيون واجب لقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28] قال ابن عباس: كانوا يطوفون بالبيت عراة فهي فاحشة وروي

(1/123)


عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت1" فإن اضطر إلى الكشف للمداواة أو للختان جاز ذلك لأنه موضع ضرورة وهل يجب سترها في حال الخلوة؟ فيه وجهان: أصحهما أنه يجب لحديث علي كرم الله وجهه والثاني لا يجب لأن المنع من الكشف للنظر وليس في الخلوة من ينظر فلم يجب الستر.
فصل: وعورة الرجل ما بين السرة والركبة والسرة والركبة ليستا من العورة ومن أصحابنا من قال: هما منها والأول هو الصحيح لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته2" فأما الحرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجهها وكفيها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة في الحرام عن لبس القفازين والنقاب ولو كان الوجه والكف عورة لما حرم سترهما في الإحرام ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه في البيع والشراء وإلى إبراز الكف للأخذ والإعطاء فلم يجعل ذلك عورة وأما الأمة ففيها وجهان: أحدهما أن جميع بدنها عورة إلا موضع التقليب وهي الرأس والذراع لأن ذلك تدعو الحاجة إلى كشفه وما سواه لا تدعو الحاجة إلى كشفه والثاني وهو المذهب أن عورتها ما بين السرة والركبة لما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال على المنبر: ألا لا أعرفن أحداً أراد أن يشتري جارية
__________
1رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 28. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 8.
2 رواه أحمد في مسنده "2/187".

(1/124)


فلينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة لا يفعل ذلك إلا عاقبته ولأن من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة كالرجل.
فصل: ويجب ستر العورة بما لا يصف البشرة من ثوب صفيق أو جلد أو ورق فإن ستر بما يظهر منه لون البشرة من ثوب رقيق لم يجز لأن الستر لا يحصل بذلك.
فصل: والمستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب: خمار تغطي به الرأس والعنق ودرع تغطي به البدن والرجلين وملحفة صفيقة تستر بها الثياب لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: تصلي في الدرع والخمار والملحفة والمستحب أن تكثف جلبابها حتى لا يصف أعضاءها وتجافي الملحفة عنها في الركوع والسجود حتى لا يصف ثيابها.
فصل: ويستحب للرجل أن يصلي في ثوبين قميص ورداء أو قميص وإزار أو قميص وسراويل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله تعالى أحق من يزين له" من لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى ولا يشتمل اشتمال اليهود فإن أراد أن يصلي في ثوب فالقميص أولى لأنه أعم في الستر لأنه يستر العورة ويحصل على الكتف فإن كان القميص واسع الفتح بحيث إذا نظر رأى العورة زره لما روى سليمة بن الأكوع قال: قلت يا رسول الله إنا نصيد فنصلي في

(1/125)


القميص الواحد؟ قال: "نعم ولتزره ولو بشوكة" فإن لم يزره وطرح على عاتقه ثوباً جاز لأن الستر يحصل به وإن لم يفعل ذلك لم تصح صلاته وإن كان القميص ضيق الفتح جاز أن يصلي فيه محلول الإزار لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي محلول الإزار فإن لم يكن القميص فالرداء أولى لأنه يمكنه أن يستر العورة به ويبقى منه ما يطرحه على الكتف فإن لم يكن فالإزار اولى من السراويل لأن الإزار يتجافى عنه فلا يصف الأعضاء والسراويل تصف الأعضاء وإن كان الإزار ضيقاً ائتزر به كان واسعاً التحف به وخالف بين طرفيه على عاتقه كما يفعل القصار في الماء لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا صليت وعليك ثوب واحد فإن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به" وروي عن عمر بن أبي سلمة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد ملتحفاً به مخالفاً بين طرفيه على منكبيه وإن كان ضيقاً فليأتزر به أو صلي في سراويل فالمستحب أن يطرح على عاتقه شيئاً لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء1" فإن لم يجد ثوباً يطرحه على عاتقه طرح حبلاً حتى لا يخلو من شيء.
فصل: ويكره اشتمال الصماء وهو أن يلتحف بثوب ثم يخرج يديه من قبل صدره لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء ويكره أن يسدل في الصلاة وفي غيرها وهو أن يلقي طرفي الرداء من الجانبين لما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه رأى قوماً سدلوا في الصلاة فقال: كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم وعن ابن مسعود
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 5. مسلم في كتاب الصلاة حديث 277. النسائي في كتاب القبلة باب 18. الدارمي في كتاب الصلاة باب 99. أحمد في مسنده "2/243".

(1/126)


أنه رأى أعرابياً عليه شملة قد ذيلها وهو يصلي قال: إن الذي يجر ثوبه من الخيلاء في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام ويكره أن يصلي الرجل وهو ملثم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة ويكره للمرأة أن تنتقب في الصلاة لأن الوجه من المرأة ليس بعورة فهي كالرجل.
فصل: ولا يجوز للرجل أن يصلي في ثوب حرير ولا على ثوب حرير لأنه يحرم عليه استعماله في غير الصلاة فلأن يحرم في الصلاة أولى فإن صلى فيه أو صلى عليه صحت صلاته لأن التحريم لا يختص بالصلاة ولا النهي يعود إليها فلم يمنع صحتها وتجوز للمرأة أن تصلي فيه وعليه لأنه لا يحرم عليها استعماله وتكره الصلاة في الثوب الذي عليه في الصور لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان لي ثوب في صورة وكنت أبسطه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال لي: أخريه عني فجعلت منه وسادتين.
فصل: إذا لم يجد ما يستر به العورة ووجد طيناً ففيه وجهان: يلزمه أن يستر به العورة لأنه سترة طاهرة فأشبهت الثوب وقال أبو إسحاق: لا يلزمه لأنه يتلوث به البدن وإن وجد ما يستر به بعض العورة يستر به القبل والدبر لأنهما أغلظ من غيرهما وإن وجد ما يكفي أحدهما ففيه وجهان أصحهما أن يستر به القبل لأنه يستقبل به القبلة ولأنه لا يستتر بغيره والدبر يستتر بالأليتين والثاني أنه يستر به الدبر لأنه أفحش في حال الركوع والسجود وإن اجتمع رجل وامرأة وهناك سترة تكفي أحدهما قدمت للمرأة لأن عورتها أعظم فإن لم يجد شيئاً يستر به العورة صلى عرياناً ولا يترك القيام وقال المزني: يلزمه أن يصلي قاعداً لأنه يحصل له بالقعود ستر بعض العورة وستر بعض العورة آكد من القيام لأن القيام يجوز تركه مع القدرة بحال والستر لا يجوز تركه بحال فوجب تقديم الستر وهذا لا يصح لأنه يترك القيام والركوع والسجود على التمام

(1/127)


ويحصل له ستر القليل من العورة والمحافظة على الأركان أولى من المحافظة على بعض الفرض فإن صلى عرياناً ثم وجد السترة لم تلزمه الإعادة لأن العري عذر عام وربما اتصل ودام فلو أوجبنا الإعادة لشق وضاق فإن دخل في الصلاة وهو عريان ثم وجد السترة في أثنائها فإن كانت بقربه ستر العورة وبنى على صلاته لأنه عمل قليل فلا يمنع البناء وإن كانت بعيدة بطلت صلاته لأنه يحتاج إلى عمل كثير وإن دخلت الأمة في الصلاة وهي مكشوفة الرأس فأعتقت في أثنائها فإن كانت السترة قريبة منها سترت وأتمت صلاتها وإن كانت بعيدة بطلت صلاتها وإن أعتقت ولم تعلم حتى فرغت من الصلاة ففيها قولان كما قلنا فيمن صلى بنجاسة ولم يعلم بها حتى فرغ من الصلاة.
فصل: وإن اجتمع جماعة عراة قال في القديم: الأولى أن يصلوا فرادى لأنهم إذا صلوا جماعة لم يمكنهم أن يأتوا بسنة الجماعة وهي تقديم الإمام وقال في الأم: يصلون جماعة وفرادى فسوى بين الجماعة والفرادى لأن في الجماعة إدراك فضيلة الجماعة وفوات فضيلة سنة الموقف وفي الفرادى إدراك فضيلة الموقف وفوات فضيلة الجماعة فاستويا فإن كان معهم مكتس يصلح للإمامة فالأفضل أن يصلوا جماعة لأنهم يمكنهم الجمع بين فضيلة الجماعة وفضيلة الموقف بأن يقدموه فإن لم يكن فيهم مكتس وأرادوا الجماعة استحب أن يقف الإمام وسطهم ويكون المأمومون صفاً واحداً حتى لا ينظر بعضهم إلى عورة بعض فإن لم يكن إلا صفين صلوا وغضوا الأبصار فإن اجتمع نساء عراة استحب لهن الجماعة لأن سنة الموقف في حقهن لا تتغير بالعري وإن اجتمع جماعة عراة ومع إنسان كسوة استحب أن يعيرهم فإن لم يفعل لم يغصب عليه لأن صلاتهم تصح من غير سترة فإن أعار واحداً بعينه لزمه قبوله فإن لم يقبل وصلى عرياناً بطلت صلاته لأنه ترك الستر مع القدرة عليه وإن وهبه له لم يلزمه قبوله لأن عليه في قبوله منة وفي احتمل المنة مشقة فلم يلزم وإن أعار جماعتهم صلى فيه واحد بعد واحد فإن خافوا إن صلى واحد أن يفوتهم الوقت قال الشافعي رحمه الله: ينظرون حتى يصلوا في الثوب وقال في قوم في سفينة وليس فيها موضع يقوم فيه إلا واحد أنهم يصلون من قعود ولا يؤخرون الصلاة فمن أصحابنا من نقل الجواب في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وقال فيهما قولان ومنهم من حملها على ظاهرهما

(1/128)


فقال في السترة ينتظرون وإن خافوا الفوات ولا ينتظرون في القيام لأن القيام يسقط مع القدرة في حال النافلة والستر لا يسقط مع القدرة بحال ولأن القيام يتركه إلى بدل وهو القعود والستر يتركه إلى غير بدل.

(1/129)


باب استقبال القبلة
استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا في حالين في شدة الخوف وفي النافلة في السفر والأصل فيه قوله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] فإن كان بحضرة البيت لزمه التوجه إلى عينه لما روى أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت ولم يصل وخرج وركع ركعتين قبل الكعبة وقال: هذه القبلة فإن دخل البيت وصلى فيه جاز لأنه متوجه إلى جزء من البيت والأفضل أن يصلي النفل في البيت لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام1" والأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت لأنه يكثر فيه الجمع فكان أعظم للأجر وإن صلى على سطحه نظرت فإن كان بين يديه سترة متصلة به جازت صلاته لأنه متوجه إلى جزء منه وإن لم يكن بين يديه سترة متصلة لم تجز لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة" وذكر منها فوق بيت الله العتيق ولأنه صلى عليه ولم يصل إليه من غير عذر فلم يجز كما لو وقف على طرف السطح واستدبره وإن كان بين يديه عصاً مغروزة
__________
1 رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 1. مسلم في كتاب الحج حديث 505. النسائي في كتاب القبلة باب 18. الدارمي في كتاب المواقيت باب 126. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 195، 198. الموطأ في كتاب القبلة حديث 9.

(1/129)


غير مثبتة ولا مسمرة ففيه وجهان: أحدهما أنها تصح لأن المغروز من البيت ولهذا تدخل الأوتاد المغروزة
في بيع الدار والثاني لا يصح لأنها غير متصلة بالبيت ولا منسوبة إليه وإن صلى في عرصة البيت وليس بين يديه سترة متصلة ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يجوز وهو المنصوص لأنه صلى عليه ولم يصل إليه من غير عذر فأشبه إذا صلى على السطح وقال أبو العباس: يجوز لأنه صلى إلى ما بين يديه من أرض البيت فأشبه إذا خرج من البيت وصلى إلى أرضه.
فصل: وإن لم يكن بحضرة البيت نظرت فإن عرف القبلة صلى إليها وإن أخبره من يقبل خبره عن علم قبل قوله ولا يجتهد كما يقبل الحاكم النص من الثقة ولا يجتهد وإن رأى محاريب المسلمين في موضع صلى إليها ولا يجتهد لأن ذلك بمنزلة الخبر وإن لم يكن شيء من ذلك نظرت فإن كان ممن يعرف الدلائل فإن كان غائباً عن مكة اجتهد في طلب القبلة لأن له طريقاً إلى معرفتها بالشمس والقمر والجبال والرياح ولهذا قال الله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] فكان له أن يجتهد كالعالم في الحادثة وفي فرضه قولان: قال في الأم: فرضه إصابة العين لأن من لزمه فرض القبلة لزمه إصابة العين كالمكي وظاهر ما نقله المزني أن الفرض هو الجهة لأنه لو كان الفرض هو العين لما صحت صلاة الصف الطويل لأن فيهم من يخرج عن العين وإن كان في أرض مكة فإن كان بينه وبين البيت حائل أصلي كالجبل فهو كالغائب عن مكة وإن كان بينهما حائل طارئ وهو البناء ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجتهد لأنه في موضع كان فرضه الرجوع إلى العين فلا يتغير فرضه بالحائل الطارئ والثاني أنه يجتهد وهو ظاهر المذهب لأن بينه وبين البيت حائلاً يمنع المشاهدة فأشبه إذا كان بينهما جبل وإن اجتهد رجلان فاختلفا في جهة القبلة لم يقلد أحدهما صاحبه ولا يصلي أحدهما خلف الآخر لأن كل واحد منهما يعتقد بطلان اجتهاد صاحبه وبطلان صلاته وإن صلى

(1/130)


بالاجتهاد إلى جهة ثم حضرت صلاة أخرى ففيه وجهان: أحدهما أن يصلي بالاجتهاد الأول لأنه قد عرف بالاجتهاد الأول والثاني يلزمه أن يعيد الاجتهاد وهو المنصوص في الأم كما نقول في الحاكم إذا اجتهد في حادثة ثم حدثت تلك الحادثة مرة أخرى فإن اجتهد للصلاة الثانية فأداه اجتهاده إلى جهة أخرى صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية ولا تلزمه إعادة ما صلى إلى الجهة الأولى كالحاكم إذا حكم باجتهاده ثم تغير اجتهاده لم ينقض ما حكم فيه بالاجتهاد الأول وإن تغير اجتهاده وهو في الصلاة ففيه وجهان: أحدهما يستأنف الصلاة لأنه لا يجوز أن يصلي صلاة واحدة باجتهادين كما لا يحكم الحاكم في قضية واحدة باجتهادين والثاني يجوز لأنا لو ألزمناه أن يستأنف الصلاة نقضنا ما أداه من الصلاة بالاجتهاد باجتهاد بعده وذلك لا يجوز كالحاكم في قضية ثم تغير اجتهاده لم ينقض ما حكم به بالاجتهاد الثاني وإن دخل في الصلاة باجتهاد ثم شك في اجتهاده أتم صلاته لأن الاجتهاد ظاهر والظاهر لا يزال بالشك وإن صلى ثم تيقن الخطأ ففيه قولان: قال في الأم: يلزمه أن يعيد لأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء فلم يعتد بما مضى كالحاكم إذا حكم ثم وجد النص بخلافه وقال في القديم: وفي باب الصيام من الجديد لا يلزمه لأنه جهة تجوز الصلاة إليها بالاجتهاد فأشبه إذا لم يتيقن الخطأ وإن صلى إلى جهة ثم بان له أن القبلة في يمينها أو شمالها لم يعد لأن الخطأ في اليمين والشمال لا يعلم قطعاً ولا ينقض به الاجتهاد وإن كان ممن لا يعرف الدلائل نظرت فإن كان ممن إذا عرف يعرف والوقت واسع لزمه أن يتعرف الدلائل ويجتهد في طلبها لأنه يمكنه أداء الفرض بالاجتهاد فلا يؤديه بالتقليد وإن كان ممن إذا عرف لا يعرف فهو كالأعمى لأنه لا فرق بين أن لا يعرف لعدم البصر وبين أن لا يعرف لعدم البصيرة وفرضهما التقليد لأنه لا يمكنهما الاجتهاد فكان فرضهما التقليد كالعامي في الأحكام الشرعية فإن صلى من غير تقليد وأصاب لم تصح صلاته لأنه صلى وهو شاك في صلاته وإن اختلف عليه اجتهاد رجلين قلد أوثفهما وأبصرهما فإن قلد الآخر جاز وإن عرف الأعمى القبلة بالمس صلى وأجزاه لأن ذلك بمنزلة التقليد فإن قلد غيره ودخل في الصلاة ثم أبصر فإن كان هناك ما يعرف به القبلة من محراب في مسجد أو نجم يعرف به أتم الصلاة وإن لم يكن شيء من ذلك بطلت صلاته لأنه صار من أهل الاجتهاد لا يجوز أن يصلي بالتقليد فإن لم يجد من فرضه التقليد من يقلده صلى على حسب حاله حتى لا يخلو الوقت من الصلاة فإذا وجد من يقلده أعادها.
فصل: وإن كان ممن يعرف الدلائل ولكن خفيت عليه لظلمة أو غيم فقد قال في

(1/131)


موضع: ومن خفيت عليه الدلائل فهو كالأعمى أراد به كالأعمى في أنه يصلي ويعيد كالأعمى لا أنه يقلد وقال أبو العباس: إن ضاق الوقت قلد وإن اتسع الوقت لم يقلد وعليه تأول قول الشافعي رحمه الله وقال المزني وغيره: المسألة على قولين وهو الأصح: أحدهما يقلد وهو اختيار المزني لأنه خفيت عليه الدلائل فهو كالأعمى والثاني لا يقلد لأنه يمكنه التوصل بالاجتهاد.
فصل: فأما في شدة الخوف والتحام القتال فيجوز أن يترك القبلة إذا اضطر إلى تركها ويصلي حيث أمكنه لقوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] قال ابن عمر رضي الله عنه: مستقبلي القبلة وغير مستقبلها أو لأنه فرض اضطر إلى تركه فصلى مع تركه كالمريض إذا عجز عن القيام وأما النافلة فينظر فيها فإن كانت في السفر وهو على دابة نظرت فإن كان يمكنه أن يدور على ظهرها كالعمارية والمحمل الواسع لزمه أن يتوجه إلى القبلة لأنها كالسفينة وإن لم يمكنه ذلك جاز أن يترك القبلة ويصلي عليها حيث توجه لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به ويجوز ذلك في السفر الطويل والقصير لأنه أجيز حتى لا ينقطع عن السير وهذا موجود في السفر القصير والطويل ثم ينظر فيه فإن كان واقفاً نظرت فإن كان في قطار لا يمكنه أن يدير الدابة إلى القبلة صلى حيث توجه وإن كان منفرداً لزمه أن يدير رأسها إلى القبلة لأنه لا مشقة عليه في ذلك وإن كان سائراً فإن كان في قطار أو منفرداً والدابة حرون يصعب عليه إدارتها صلى حيث توجه وإن كان سهلاً ففيه وجهان: أحدهما يلزمه أن يدير رأسها إلى القبلة في حال الإحرام لما روى أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في السفر وأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به والمذهب أنه لا يلزمه أن يشق إدارة البهيمة في حال السير وإن صلى على الراحلة متوجهاً إلى مقصده فعدلت البهيمة إلى جهة أخرى نظرت فإن كانت جهة القبلة جاز لأن الأصل في فرضه جهة القبلة وإذا عدلت إليه فقد أتى بالأصل وإن لم تكن جهة القبلة فإن كان ذلك باختياره مع العلم بطلت صلاته لأنه ترك القبلة لغير عذر وإن نسي أنه في الصلاة أو ظن أن ذلك طريق

(1/132)


بلده أو غلبته الدابة لم تبطل صلاته فإذا علم رجع إلى جهة القصد قال الشافعي رحمه الله: وسجد للسهو وإن كان المسافر ماشياً جاز أن يصلي النافلة حيث توجه كالراكب لأن الراكب أجيز له ترك القبلة حتى لا ينقطع عن الصلاة في السفر وهذا المعنى موجود في الماشي غير أنه يلزم أن يحرم ويركع ويسجد على الأرض مستقبل القبلة لأنه يمكنه أن يأتي بذلك من غير أن ينقطع عن السير وإن دخل الراكب أو الماشي إلى البلد الذي يقصد وهو في الصلاة أتم صلاته إلى القبلة وإن دخل إلى بلد في طريقه جاز أن يصلي حيث توجه ما لم يقطع السير لأنه باق على السير وأما إذا كانت النافلة في الحضر لم يجز أن يصليها إلى غير القبلة وقال أبو سعيد الاصطخري رحمه الله: يجوز لأنه إنما رخص في السفر حتى لا ينقطع عن التطوع وهذا موجود في الحضر والمذهب الأول لأن الغالب من حال الحاضر اللبث والمقام فلا مشقة عليه في استقبال القبلة.
فصل: والمستحب لمن يصلي إلى سترة أن يدنو منها لما روى سهل بن خيثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها حتى لا يقطع الشيطان عليه صلاته1" والمستحب أن يكون بينه وبينها قدر ثلاثة أذرع لما روى سهل بن سعد الساعدي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بينه وبين القبلة قدر ممر العنز وممر العنز قدر ثلاثة أذرع فإن كان يصلي في موضع ليس فيه بين يديه بناء فالمستحب أن ينصب بين يديه عصاً لما روى أبو جحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في حلة له حمراء فركز عنزة فجعل يصلي إليها بالبطحاء يمر الناس من ورائها والكلب والحمار والمرأة والمستحب أن يكون ما يستره قدر مؤخرة الرحل لما روى طلحة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك2" قال عطاء: مؤخرة الرحل ذراع فإن لم يجد عصاً فليخط بين يديه خطاً إلى القبلة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد شيئاً فلينصب عصاً فإن لم يجد عصاً فليخط خطاً ولا يضره ما مر بين يديه3" ويكره أن يصلي وبين يديه رجل يستقبله بوجه لما روي أن
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 90 أبو داود في كتاب الصلاة باب 106 الترمذي في كتاب المواقيت باب 123. الموطأ في كتاب السفر حديث 42. أحمد في مسنده "4/2".
2 رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 241 -244. أبو داود في كتاب الصلاة باب 101. الترمذي في كتاب الصلاة باب 133. النسائي في كتاب القبلة باب 04 أحمد في مسنده "1/376، 396".
3 رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 36. أحمد في مسنده "2/249، 255".

(1/133)


عمر رضي الله عنه رأى رجلاً يصلي ورجل جالس مستقبله بوجهه فضربهما بالدرة وإن صلى ومر بين يديه مار فدفعه لم تبطل صلاته بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع صلاة المره شيء وادرءوا ما استطعتم1".
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصلاةباب 114 الترمذيفي كتاب الصلاة باب 135. الموطأ في كتاب السفر حديث 40. أحمد في مسنده "6/85".

(1/134)


باب صفة الصلاة
إذا أراد أن يصلي في جماعة لم يقم حتى يفرغ المؤذن من الإقامة لأنه ليس بوقت للدخول في الصلاة والدليل عليه ما روى أمامة رضي الله عنه أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقامها الله وأدامها وقال في سائر الإقامة مثل ما يقوله فإذا فرغ المؤذن قام والقيام فرض في الصلاة المفروضة لما روى عمر أن ابن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صل قائماً فإن لم تستطع فعلى جنب2" فأما في النافلة فليس بفرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفل على الراحلة وهو قاعد ولأن النوافل تكثر فلو وجب فيها القيام شق وانقطعت النوافل.
فصل: ثم ينوي والنية فرض من فروض الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" ولأنها قربة محضة فلم تصح من غير نية كالصوم ومحل النية القلب فإن نوى بقلبه دون لسانه أجزأه ومن أصحابنا من قال: ينوي بالقلب ويتلفظ باللسان وليس بشيء لأن النية هي القصد بالقلب ويجب أن تكون النية مقارنة للتكبير لأنه أول فرض من فروض الصلاة فيجب أن تكون النية مقارنة له فإن كانت الصلاة فريضة لزمه تعيين النية فينوي الظهر أو العصر لتتميز عن غيرها وهل يلزمه نية الفرض؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يلزمه لتتميز عن ظهر الصبي وظهر من صلى وحده ثم أدرك جماعة فصلاها معهم وقال أبو علي بن أبي هريرة: تكفيه نية الظهر أو العصر لأن الظهر والعصر لا يكونان في حق هذا إلا فرضاً ولا يلزمه أن ينوي الأداء والقضاء ومن
__________
2 رواه البخاري في كتاب تقصير الصلاة باب 19. الترمذي في كتاب الصلاة باب 157. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 139. أحمد في مسنده "4/426".

(1/134)


أصحابنا من قال يلزمه نية القضاء والأول هو المنصوص فإنه قال فمن صلى في يوم غيم بالاجتهاد فوافق ما بعد الوقت أنه يجزيه وإن كان عنده أنه يصليها في الوقت وقال في الأسير إذا اشتبهت عليه الشهور فصام شهراً بالاجتهاد فوافق رمضان أو ما بعده إنه يجزيه وإن كان عنده أنه يصوم في شهر رمضان وإن كانت الصلاة سنة راتبة كالوتر وسنة الفجر لم تصح حتى يعين النية لتتميز عن غيرها وإن كانت نافلة غير راتبة أجزأته نية الصلاة وإن أحرم ثم شك هل نوى ثم ذكر أنه نوى فإن كان قبل أن يحدث شيئاً من أفعال الصلاة أجزأه وإن ذكر ذلك بعد ما فعل شيئاً من ذلك بطلت صلاته لأنه فعل ذلك وهو شاك في صلاته وإن نوى الخروج من الصلاة أو نوى أنه سيخرج أو شك هل يخرج أم لا بطلت صلاته لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطع ذلك بما أحدث فبطلت صلاته كالطهارة إذا قطعها بالحدث وإن دخل في الظهر ثم صرف النية إلى العصر بطل الظهر لأنه قطع نيتها ولم يصح العصر لأنه لم ينو عند الإحرام وإن صرف نية الظهر إلى التطوع بطل الظهر لما ذكرناه وفي التطوع قولان: أحدهما لا يصح لما ذكرناه في العصر والثاني تصح لأن نية الفرض تتضمن نية النفل بدليل أن من دخل في الظهر قبل الزوال وهو يظن أنه بعد الزوال كانت صلاته نافلة.
فصل: ثم يكبر والتكبير للإحرام فرض من فروض الصلاة لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم1" والتكبير هو أن يقول الله أكبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل به في الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي2" فإن قال الله أكبر أجزأه لأنه أتى بقوله الله أكبر وزاد زيادة لا تحيل المعنى فهو كقوله الله أكبر كبيراً وإن قال أكبر الله ففيه وجهان: أحدهما يجزيه كما لو قال عليكم السلام في آخر الصلاة والثاني لا يجزيه وهو ظاهر قوله في الأم لأنه ترك الترتيب في الذكر فهو كما لو قدم آية على آية وهذا يبطل بالتشهد والسلام وإن كبر بالفارسية وهو يحسن بالعربية لم يجز لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فإن لم يحسن بالعربية وضاق الوقت أن يتعلم كبر بلسانه لأنه عجز عن اللفظ
__________
1رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 31. الترمذي في كتاب الطهارة باب 3. ابن ما جه في كتاب الطهارة 32. الدارمي في كتاب الوضوء باب 22.
2 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 18. الدارمي في كتاب الصلاة باب 42 أحمد في مسنده "5/53".

(1/135)


فأتى بمعناه وإن اتسع الوقت لزمه أن يتعلم فإن لم يتعلم وكبر بلسانه بطلت صلاته لأنه ترك الفرض مع القدرة عليه وإن كان بلسانه خبل أوخرس حركه بما يقدر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم1" ويستحب للإمام أن يجهر بالتكبير ليسمع من خلفه ويستحب لغيره أن يسر به وأدناه أن يسمع نفسه.
فصل: ويستحب أن يرفع يديه مع تكبيرة الإحرام حذو منكبيه لما روى ابن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع ويفرق بين أصابعه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينشر أصابعه في الصلاة نشراً أو يكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير وانتهاؤه مع انتهائه فإن سبقت اليد أثبتها مرفوعة حتى يفرغ من التكبير لأن الرفع للتكبير فكان معه وإن لم يمكنه رفعهما أو أمكنه رفع إحداهما أو رفعهما إلى ما دون المنكب رفع ما أمكنه لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتو به ما استطعتم2 " وإذا كان به علة إذا رفع اليد جاوز المنكب رفع لأنه يأتي بالمأمور به وزيادة هو مغلوب عليه وإن نسي الرفع وذكر بعد أن يفرغ من التكبير أتى به لأن محله باق.
فصل: ويستحب إذا فرغ من التكبير وضع اليمنى على اليسرى فيضع اليمنى على بعض الكف وبعض الرسغ لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال: قلت لأنظرن إلى صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يصلي فظرت إليه وقد وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد والمستحب أن يجعلهما تحت الصدر لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فوضع يديه على صدره إحداهما على الأخرى والمستحب أن ينظر إلى موضع سجوده لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة لم ينظر إلا إلى موضع سجوده".
__________
1رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 2. مسلم في كتاب الحج حديث 412. النسائي في كتاب المناسك باب 1. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 1. أحمد في مسنده "2/247".
2 المصدر السابق.

(1/136)


فصل: ثم يقرأ دعاء الاستفتاح وهو سنة والأفضل أن يقول ما رواه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى المكتوبة كبر وقال "وجهت وجهي للذين فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين أللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لايغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدني لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك" كما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك غير أن في حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "وأنا أول المسلمين" فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول المسلمين وغيره لا يقول إلا ما ذكرناه.
فصل: ثم يتعوذ ويقول أعوذ بالله الشيطان الرجيم لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك قال في الأم: كان ابن عمر رضي الله عنه يتعوذ في نفسه وأبو هريرة رضي الله عنه كان يجهر به وأيهما فعل جاز قال أبو علي

(1/137)


الطبري: المستحب أن يسر به لأنه ليس بقراءة ولا علم على الإتباع ويستحب ذلك في الركعة الأولى قال في الأم: يقول في أول ركعة وقد قيل إن قاله في كل ركعة فحسن ولا آمر به أمري به في أول ركعة فمن أصحابنا من قال فيما سوى الركعة الأولى قولان: أحدهما يستحب لأنه يستفتح القراءة فيها فهي كالأولى والثاني لا يستحب لأن استفتاح القراءة في الأولى ومن أصحابنا من قال يستحب في الجميع قولأً واحدً وإنما قال في الركعة الأولى أشد استحباباً وعليه يدل قول الشافعي رحمه الله تعالى.
فصل: ثم يقرأ فاتحة الكتاب وهي فرض من فروض الصلاة لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب1" فإن تركها ناسياً ففيه قولان: قال في القديم: يجزيه لأن عمر رضي الله عنه ترك القراءة فقيل له في ذلك فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا حسناً قال: فلا بأس وقال في الجديد: لا يجزيه لأنه ما كان ركناً من الصلاة لم يسقط فرضه بالنسيان كالركوع والسجود ويجب أن يبتدئها بسم الله الرحمن الرحيم فإن آية منها والدليل عليه ما روت أم سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فعدها آية منها ولأن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها فيما جمعوا من القرآن فيدل على أنها آية منها فإن كان في صلاة يجهر فيما جهر بها كما يجهر في سائر الفاتحة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ولأنها تقرأ على أنها آية من القرآن بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة ويجب أن يقرأها مرتباً فإن قرأ من خلالها غيرها ناسياً ثم أتى بما بقي منها أجزاءه فإن قرأ عامداً لزمه أن يستأنف القراءة كما لو تعمد في خلال الصلاة ما ليس منها لزمه استئنافها وإن نوى قطعها ولم يقطع لم يلزمه استئنافها لأن القراءة باللسان ولم يقطع ذلك بخلاف ما لو نوى قطع الصلاة لأن النية بالقلب وقد قطع ذلك فإن قرأ الإمام الفاتحة وأمن والمأموم في أثناء الفاتحة فأمن بتأمينه ففيه وجهان: قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني رضي الله عنه: تنقطع القراءة كما لو قطعها بقراءة غيرها وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله: لا تنقطع لأن ذلك مأمور به فلا يقطع القراءة كالسؤال في آية الرحمة والإستعاذة من النار في آية العذاب فيما يقرأ في صلاته منفرداً وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة لما روى رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ورجل يصلي
__________
1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 69، 115. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 11.

(1/138)


فلما انصرف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال له: "أعد صلاتك فإنك لم تصل فقال: علمني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر إلى أن قال ثم اصنع في كل ركعة ذلك" ولأنها ركعة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة مع القدرة كالركعة الأولى وهل تجب على المأموم؟ ينظر فيه فإن كان في صلاة يسر فيها بالقراءة وجبت عليه وإن كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة ففيه قولان: قال في الأم والبويطي: يجب عليه لما "روى عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: إني لأراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا: والله أجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعل هذا قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" ولأن من لزمه قيام القراءة لزمه القراءة مع القدرة كالإمام والمنفرد وقال في القديم: لا يقرأ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: "هل قرأ معي أحد منكم؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله قال: إني أقول مالي أنازع القرآن" فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل: وإذا فرغ من الفاتحة أمن وهو سنة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمن وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فإن كان إماماً أمن وأمن المأموم معه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن بتأمينه فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه1" فإن كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة جهر الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام فأمنوا" ولو لم يجهر به لما علق تأمين
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 111، 113. مسلم في كتاب الصلاة حديث 72، أبو داود في كتاب الصلاة باب 168. الترمذي في كتاب الصلاة باب 70 – 71 الموطأ في كتاب النداء حديث 44.

(1/139)


المأموم عليه ولأنه تابع للفاتحة فكان حكمه حكمها في الجهر كالسورة وأما المأموم فقد قال في الجديد: لا يجهر وقال في القديم: يجهر فمن أصحابنا من قال على قولين: أحدهما يجهر لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون وراءه حتى أن للمسجد للجة والثاني لا يجهر لأنه ذكر مسنون في الصلاة فلم يجهر به المأموم كالتكبيرات ومنهم من قال: إن كان المسجد صغيراً يبلغهم تأمين الإمام لم يجهر به لأنه لا يحتاج إلى الجهر به وإن كان كبيراً جهر لأنه يحتاج إلى الجهر للإبلاغ وحمل القولين على هذين الحالين فإن نسي الإمام التامين أمن المأموم وجهر به ليسمع الإمام فيأتي به.
فصل: فإن لم يحسن الفاتحة وأحسن غيرها قرأ سبع آيات وهل يعتبر أن يكون فيها بقدر حروف الفاتحة؟ فيه قولان: أحدهما لا يعتبر كما إذا فاته صوم يوم طويل لم يعتبر أن يكون القضاء في يوم بقدر ساعات الداء والثاني يعتبر وهو الأصح لأنه لما اعتبر عدد آي الفاتحة اعتبر قدر حروفها ويخالف الصوم فإنه لا يمكن اعتبار المقدار في الساعات إلا بمشقة فإن لم يحسن شيئاً من القرآن لزمه أن يأتي بذكر لما روى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن أحفظ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزيني في الصلاة؟ فقال: "قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" ولأنه ركن من أركان الصلاة فجاز أن ينتقل فيه عند العجز إلى بدل كالقيام وفي الذكر وجهان: قال أبو إسحاق رضي الله عنه: يأتي من الذكر بقدر حروف الفاتحة لأنه أقيم مقامها فاعتبر قدرها وقال أبو علي الطبري رضي الله عنه: يجب ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير زيادة كالتيمم لا تجب الزيادة فيه على ما ورد به النص والمذهب الأول وإن أحسن آية من الفاتحة وأحسن غيرها ففيه وجهان: أصحهما أنه يقرأ الآية ثم يقرأ ست آيات من غيرها لأنه إذا لم يحسن شيئاً منها انتقل إلى غيرها فإذا كان يحسن بعضها وجب أن ينتقل فيما لم يحسن إلى غيرها كما لو عدم بعض الماء والثاني يلزمه تكرار الآية لأنها أقرب إليها فإن لم يحسن شيئاً من القرآن ولا من الذكر قام بقدر سبع آيات وعليه أن يتعلم فإن اتسع الوقت ولم يفعل وصلى لزمه أن يعيد لأنه ترك القراءة مع القدرة فأشبه إذا تركها وهو يحسن فإن قرأ القرآن بالفارسية لم يجزه لأن القصد من القرآن اللفظ والنظم وذلك لا يوجد في غيره.

(1/140)


فصل: ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة وذلك سنة والمستحب أن يقرأ في الصبح بطول المفصل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بالواقعة فإن كان في يوم الجمعة استحب له أن يقرأ فيها ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ذلك ويقرأ في الأوليين من الظهر بنحو ما يقرأ في الصبح لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر بقدر ثلاثين آية قدر ألم تنزيل السجدة وحزرنا قيامه في الركعتين الأخيرتين على النصف من ذلك وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الأخيرتين من الظهر وحزرنا قيامه في الأخيرتين من العصر على النصف من ذلك" ويقرأ في الأوليين من العصر بأوساط المفصل لما رويناه من حديث أبي سعيد الخدري ويقرأ في الأوليين من العشاء الأخيرة بنحو ما يقرأ في العصر لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في العشاء الأخيرة بسورة الجمعة والمنافقين ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل فإن خالف وقرأ غير ما ذكرناه جاز لما روى رجل من جهينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة:1] فإن كان مأموماً نظرت فإن كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة لم يزد على الفاتحة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم خلفي فلا تقرأوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" وإن كان في صلاة يسر فيها بالقراءة أو في صلاة يجهر فيها إلا أنه في موضع لا

(1/141)


يسمع القراءة قرأ لأنه غير مأمور بالإنصات إلى غيره فهو كالإمام والمنفرد فإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين فهل يقرأ السورة فيما زاد على الركعتين؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يستحب لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة وكان يسمعنا الآية أحياناً وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية وكان يقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب في كل ركعة وقال في الأم: يستحب لما رويناه من حديث أبي سعيد الخدري رحمه الله ولأنها ركعة شرع فيها الفاتحة فشرع فيها السورة كالأوليين ولا يفضل الركعة الأولى على الثانية في القراءة وقال أبو الحسن الماسرجسي: يستحب أن تكون قراءته في الأولى من كل صلاة أطول لما رويناه من حديث أبي قتادة وظاهر قوله في الأم أنه لا يفضل لما رويناه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وحديث أبي قتادة يحتمل أن يكون أطال لأنه أحس بداخل.
فصل: ويستحب للإمام أن يجهر بالقراءة في الصبح والأوليين من المغرب والأوليين من العشاء والدليل عليه نقل الخلف عن السلف ويستحب للمأموم أن يسر لأنه إذا جهر نازع الإمام في القراءة ولأنه مأمور بالإنصات إلى الإمام وإذا جهر لم يمكنه الإنصات ويستحب للمنفرد أن يجهر فيما يجهر فيه الإمام لأنه لا ينازع غيره ولا هو مأمور بالإنصات إلى غيره فهو كالإمام وإن كانت امرأة لم تجهر في موضع فيه رجال أجانب لأنه لا يؤمن أن يفتتن بها ويستحب الإسرار في الظهر والعصر والثالثة في المغرب والأخريين من العشاء الأخيرة لأنه نقل الخلف عن السلف وإن فاتته صلاة بالنهار فقضاها في الليل أسر لأنها صلاة نهار وإن فاتته بالليل فقضاها في النهار أسر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارموه بالبعر" ويقال عن صلاة النهار عجماء ويحتمل عندي أن يجهر كما يسر فيما فاته من صلاة النهار فقضاها بالليل.
فصل: ثم يركع وهو فرض من فروض الصلاة لقوله عز وجل {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] والمستحب أن يكبر للركوع لما "روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1/142)


كان إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم وحين يركع" ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ولأن الهوي إلى الركوع فعل فلا يخلو من ذكر كسائر الأفعال ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في التكبير لما ذكرناه من حديث ابن عمر في تكبيرة الإحرام ويجب أن ينحني إلى حد يبلغ راحتاه ركبتيه لأنه لا يسمى دونه راكعاً ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه ويفرق أصابعه لما "روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك راحتيه على ركبتيه كالقابض عليهما وفرج بين أصابعه" ولا يطبق لما روي عن مصعب بن سعد رضي الله عنه قال: صليت إلى جنب سعد بن مالك فجعلت يدي بين ركبتي وبين فخذي وطبقتهما فضرب بيدي وقال اضرب بكفيك على ركبتيك وقال: يا بني إنا قد كنا نفعل هذا فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب والمستحب أن يمد ظهره وعنقه ولا يقنع رأسه ولا يصوبه لما روي أن أبا حميد الساعدي رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فركع واعتدل ولم يصوب رأسه ولم يقنعه والمستحب أن يجافي مرفقيه عن جنبيه لما روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فإن كانت امرأة لم تجاف بل تضم المرفقين إلى الجنبين لأن ذلك أستر لها ويجب أن يطمئن في الركوع لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته "ثم اركع حتى تطمئن راكعاً" والمستحب أن يقول سبحان ربي العظيم ثلاثاً وذلك أدنى الكمال لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "إذا ركع أحدكم فقال سبحان ربي العظيم ثلاثاً فقد تم ركوعه" وذلك أدناه والأفضل أن يضيف إليه "اللهم لك ركعت ولك خشعت وبك آمنت

(1/143)


ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعصبي" لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال ذلك فإن ترك التسبيح لم تبطل صلاته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ولم يذكر التسبيح.
فصل: ثم يرفع رأسه ويستحب أن يقول سمع الله لمن حمده لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في الرفع لما ذكرناه من حديث ابن عمر رضي الله عنه في تكبيرة الإحرام فإن قال من حمد الله سمع الله له أجزأه لأنه أتى باللفظ والمعنى فإذا استوى قائماً استحب أن يقول "ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد حق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ذلك ويجب أن يطمئن قائماً لما روى رفاعة بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله عز وجل إلى أن قال ثم يركع حتى يطمئن راكعاً ثم ليقم حتى يطمئن قائماً ثم ليسجد حتى يطمئن ساجدا1".
فصل: ثم يسجد وهو فرض لقوله عز وجل: {اركعوا واسجدوا} "الحج: 77" ويستحب أن يبتدئ عند الهوي إلى السجود بالتكبير لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع والمستحب أن يضع ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 95. في كتاب الصلاة حديث 45. أبو داود في كتاب الصلاة باب 144. النسائي في كتاب الافتتاح باب 7. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 72. أحمد في مسنده "2/437".

(1/144)


نهض رفع يديه قبل ركبتيه فإن وضع قبل ركبتيه أجزاه لأنه ترك هيئة ويسجد على الجبهة والأنف واليدين والقدمين فأما السجود على الجبهة فهو واجب لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض ولا تنقر نقرا" قال في الأم: فإن وضع بعض الجبهة كرهت له وأجزأه لأنه سجد على الجبهة فإن سجد على حائل متصل به دون الجبهة لم يجزه لما روى خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا وأما السجود على الأنف فهو سنة لما روى أبو حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد ومكن جبهته وأنفه من الأرض وإن تركه أجزأه لما روى جابر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر وإذا سجد بأعلى الجبهة لم يسجد على الأنف وأما السجود على اليدين والركبتين والقدمين ففيه قولان: أشهرهما أنه لا يجب ولو وجب ذلك لوجب الإيماء بها إذا عجز كالجبهة والثاني يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يسجد على سبعة أعضاء: يديه وركبتيه وأطراف أصابعه وجبهته فإذا قلنا بهذا لم يجب كشف القدمين والركبتين لأن كشف الركبة يفضي إلى كشف العورة فتبطل صلاته والقدم قد يكون في الخف فكشفهما يبطل المسح والصلاة وأما اليد ففيها قولان المنصوص في الكتب أنه لا يجب كشفها لأنها لا تكشف إلا لحاجة فهي كالقدم وقال في السبق والرمي: قد قيل فيه قول آخر إنه يجب لحديث خباب بن الأرت رضي الله عنه ويستحب أن يجافي مرفقيه عن جنبيه لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه ويستحب أن يقل بطنه عن فخذيه لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان

(1/145)


إذا سجد جخ ويروى جخاً والجخ الخاوي وإن كانت امرأة ضمت بعضها إلى بعض لأن ذلك أستر لها ويفرج بين رجليه لما روي أن أبا حميد رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان إذا سجد فرج بين رجليه ويوجه أصابعه تجاه القبلة وروى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتخ أصابع رجليه والفتخ تعويج الأصابع ويضم أصابع يديه ويضعها حذو منكبيه لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ضم أصابعه وجعل يديه حذو منكبيه ويرفع مرفقيه ويعتمد على راحتيه لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سجدت فضم كفيك وارفع مرفقيك ويجب أن يطمئن في السجود لحديث رفاعة بن مالك "ثم يسجد حتى يطمئن ساجداً" والمستحب أن يقول سبحان ربي الأعلى ثلاثاً وذلك أدنى الكمال لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجد أحدكم فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثاً فقد تم سجوده" وذلك أدناه والأفضل أن يضيف إليه "اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وأحسن صورته وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين" لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد قال ذلك فإن قال في سجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح

(1/146)


فهو حسن لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك في سجوده قال الشافعي رحمة الله عليه ويجتهد في الدعاء رجاء الإجابة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء" ويكره أن يقرأ في الركوع والسجود لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما إني نهيت ان أقرأ راكعاً أو ساجداً أما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل وأما السجود فأكثروا فيه الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" فإن أراد أن يسجد فوقع على الأرض ثم انقلب فأصاب جبهته الأرض فإن نوى السجود حال الإنقلاب أجزأه كما لو غسل للتبرد والتنظيف ونوى رفع الحدث وإن لم ينو لم يجزه كما لو توضأ للتبرد ولم ينو رفع الحدث.
فصل: ثم يرفع رأسه ويكبر لما رويناه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع ثم يجلس مفترشاً فيفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى لما روي أن أبا حميد الساعدي رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها واعتدل حتى رجع كل عضو إلى موضعه ويكره الإقعاء في الجلوس وهو أن يضع أليته على عقبيه كأنه قاعد عليهما وقيل هو أن يجعل يديه في الأرض ويقعد على أطراف أصابعه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعى إقعاء القرد" ويجب أن يطمئن في جلوسه لقوله صل الله عليه وسلم للمسيء صلاته ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ويستحب أن يقول في جلوسه اللهم اغفر لي واجبرني وعافني وارزقني واهدني لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك بين السجدتين.
فصل: ثم يسجد سجدة أخرى ثم يرفع رأسه مكبراً لما رويناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع قال الشافعي رحمه الله: فإذا استوى قاعداً نهض وقال في الأم: يقوم من السجود فمن أصحابنا من قال المسألة على قولين: أحدهما لا يجلس لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجدة استوى قائماً بتكبيرة والثاني يجلس لما روى مالك بن الحويرث رضي الله

(1/147)


عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في الركعة الأولى والثالثة لم ينهض حتى يستوي قاعداً وقال أبو إسحاق: إن كان ضعيفاً جلس لأنه يحتاج إلى الاستراحة وإن كان قوياً لم يجلس لأنه لا يحتاج إلى الاستراحة وحمل القولين على هذين الحالين فإذا قلنا يجلس جلس مفترشاً لما روى أبو حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم ثنى رجله فقعد عليها حتى رجع كل عضو إلى موضعه ثم نهض ويستحب أن يعتمد على يديه في القيام لما روى مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استوى قاعداً ثم قام واعتمد على الأرض بيديه قال الشافعي رحمه الله ولأن هذا أشبه بالتواضع وأعون للمصلي ويمد التكبير إلى أن يقوم حتى لا يخلو فعل من ذكر ولا يرفع اليد إلا في تكبيرة الإحرام والركوع والرفع منه لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع ولا يرفع اليدين بين السجدتين وقال أبو علي الطبري وأبو بكر ابن المنذر رحمهما الله تعالى: يستحب كلما قام إلى الصلاة من السجود ومن التشهد لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع اليدين في القيام من السجود وروى أبو حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الركعتين يرفع يديه والمذهب الأول.
فصل: ثم يصلي الركعة الثانية مثل الأولى إلا في النية ودعاء الاستفتاح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته "ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها" وأما النية ودعاء الاستفتاح فإن ذلك يراد للدخول في الصلاة والاستفتاح وذلك لا يوجد في غير الركعة الأولى.
فصل: وإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين جلس في الركعتين ليتشهد لنقل الخلف عن السلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سنة لما روى عبد الله بن بحينة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقام من اثنتين ولم يجلس فلما قضى صلاته سجد سجدتين بعد ذلك ثم سلم ولو كان واجباً لفعله ولم يقتصر على السجود والسنة أن يجلس في هذا التشهد مفترشاً لما روى أبو حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الأوليين جلس على قدمه اليسرى ونصب قدمه اليمنى والمستحب أن يبسط أصابع يده اليسرى على فخذه اليسرى وفي اليد اليمنى ثلاثة أقوال: أحدها يضعها على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع إلا المسبحة وهو المشهور لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة وروى ابن الزبير رضي الله عنه قال:

(1/148)


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس افترش اليسرى ونصب اليمنى ووضع إبهامه عند الوسطى وأشار بالسبابة ووضع اليسرى على فخذه اليسرى وكيف يضع الإبهام؟ فيه وجهان: أحدهما يضعها تحت المسبحة على حرف راحته أسفل من المسبحة كأنه عاقد ثلاثاً وخمسين لحديث ابن عمر رضي الله عنه والثاني يضعها على حرف إصبعه الوسطى لحديث ابن الزبير رضي الله عنه والقول الثاني قاله في الإملاء يقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويبسط المسبحة والإبهام لما روى أبو حميد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم والقول الثالث أنه يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم عقد من أصابعه الخنصر والتي تليها ثم حلق حلقة بأصبعه الوسطى على الإبهام ورفع السبابة ورأيته يشير إليها.
فصل: ويتشهد وأفضل التشهد أن يقول: التحيات المباركات الصوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة فيقول: "قولوا التحيات المباركات الصلوات الطيبات" وذكر نحو ما قلنا وحكى أبو علي الطبري رحمه الله تعالى عن بعض أصحابنا أن الأفضل أن يقول بسم الله وبالله التحيات لله لما روى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خلاف المذهب وذكر التسمية غير صحيح عند أصحاب الحديث وأقل ما يجزئ من ذلك خمس كلمات وهي التحيات لله سلام عليك أيها النبي صلى الله عليه وسلم ورحمة الله سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله لأن هذا يأتي على معنى الجميع قال في الأم: فإن ترك الترتيب لم يضر لأن المقصود يحصل مع ترك الترتيب ويستحب إذا بلغ الشهادة أن يشير بالمسبحة لما رويناه من حديث ابن عمر وابن الزبير ووائل بن حجر رضي الله عنهم وهل يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشهد؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يصلي لأنه لو شرع الصلاة عليه لشرع الصلاة على آله كالتشهد الخير وقال في الأم: يصلي عليه لأنه قعود شرع فيه التشهد فشرع فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كالقعود في آخر الصلاة.
فصل: ثم يقوم إلى الركعة الثالثة معتمداً على الأرض بيديه لما رويناه من حديث

(1/149)


مالك بن الحويرث رضي الله عنه في الركعة الأولى ثم يصلي ما بقي من صلاته مثل الركعة الثانية إلا فيما قلناه من الجهر وقراءة السورة فإذا بلغ إلى آخر صلاته جلس للتشهد ويتشهد وهو فرض لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن قولوا التحيات لله1" والسنة في هذا القعود أن يكون متوركاً فيخرج رجله من جانب وركه الأيمن ويضع أليتيه على الأرض لما روى أبو حميد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على أليتيه وجعل بطن قدمه اليسرى تحت مأبض اليمنى ونصب قدمه اليمنى ولأن الجلوس في هذا التشهد يطول فكان التورك فيه أمكن والجلوس في التشهد الأول يقصر فكان الافتراش فيه أشبه ويتشهد على ما ذكرناه.
فصل: فإذا فرغ من التشهد صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وهو فرض في هذا الجلوس لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة إلا بطهور وبالصلاة علي والأفضل أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" روى كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك والواجب من ذلك أن يقول: اللهم صل على محمد وفي الصلاة على آله وجهان: أحدهما تجب لما روى أبو حميد رضي الله عنه قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 148. مسلم في كتاب الصلاة حديث 56 أبو داود في كتاب الصلاة باب 178. النسائي في كتاب التطبيق باب 100 أحمد ففي مسنده "1/413".

(1/150)


على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" والمذهب أنها لا تجب للإجماع.
فصل: ثم يدعو بما أحب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تشهد أحدكم فليتعوذ من أربع من عذاب النار وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال ثم يدعو لنفسه بما أحب1" فإن كان إماماً لم يطل الدعاء والأفضل أن يدعو بما روى علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بين التشهد والتسليم اللهم "اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت به مني أعلم أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت".
فصل: فإن كانت الصلاة ركعة أو ركعتين جلس في آخرها متوركاً ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويدعو على ما وصفناه ويكره أن يقرأ في التشهد لأنه حالة من أحوال الصلاة لم تشرع فيها القراءة فكرهت فيها كالركوع والسجود.
فصل: ثم يسلم وهو فرض في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم2" ولأنه أحد طرفي الصلاة فوجب فيه النطق كالطرف الأول والسنة أن يسلم تسليمتين إحداهما عن يمينه والأخرى عن يساره والسلام أن يقول السلام عليكم ورحمة الله لما روى عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن
__________
1 رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 130. أبو داود في كتاب الصلاة باب 179. النسائي في كتاب السهو باب 64. الدارمي في كتاب الصلاة باب 86. أحمد في مسنده "2/237".
2 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 31. الترمذي في كتاب الطهارة باب 3. الدارمي في كتاب الوضوء باب 22. أحمد في مسنده "1/123، 129".

(1/151)


يمينه السلام عليكم ورخمة الله وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده من ههنا ومن ههنا وقال في القديم: إن اتسع المسجد وكثر الناس سلم تسليمتين وإن صغر المسجد وقل الناس تسليمة واحدة لما روت عائشة رضي الله عنها الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولأن السلام للإعلام بالخروج من الصلاة وإذا كثر الناس كثر اللغط فيسلم اثنتين ليبلغ وإذا قل الناس كفاهم الإعلام بتسليمة واحدة والأول أصح لأن الحديث في تسليمه غير ثابت عند أهل النقل والواجب من ذلك تسليمة لأن الخروج يحصل بتسليمة فإن قال عليكم السلام أجزأه على المنصوص كما يجزئه في التشهد وإن قدم بعضه على بعض ومن أصحابنا من قال لا يجزئه حتى يأتي به مرتباً كما يقول في القراءة والمذهب الأول وينوي الإمام بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والسلام على من عن يمينه وعلى الحفظة وينوي بالثانية السلام على من على يساره وعلى الحفظة وينوي المأموم بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والتسليم على الإمام وعلى الحفظة وعلى المأمومين من ناحيته في صفه وورائه وقدامه وينوي بالثانية السلام على الحفظة وعلى المأمومين من ناحيته فإن كان الإمام قدامه نواه في أي التسليمتين شاء وينوي المنفرد بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والسلام على الحفظة وبالثانية السلام على الحفظة والأصل فيه ما روى سمرة رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أنفسنا وأن يسلم بعضنا على بعض وروى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين ويصلي قبل العصر أربعاً يفصل كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن معه من المؤمنين وإن نوى الخروج من الصلاة ولم ينو ما سواه جاز لأن التسليم على الحاضرين سنة وإن لم ينو الخروج من الصلاة ففيه وجهان: قال أبو العباس بن سريج وأبو العباس بن القاص: لا يجزئه وهو ظاهر النص في البويطي لأنه نطق في أحد طرفي الصلاة فلم يصح من غير نية كتكبيرة الإحرام وقال أبو حفص ابن الختن الوكيل وأبو عبد الله الجرجاني رحمهم الله: يجزيه لأن نية الصلاة قد أتت على جميع الأفعال والسلام من جملتها أو لأنه لو وجبت النية في السلام لوجب تعيينها كما قلنا في كبيرة الإحرام.
فصل: ويستحب لمن فرغ من الصلاة أن يذكر الله تعالى لما روي عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان يهلل في أثر كل صلاة يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعبد إلا إياه

(1/152)


وله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ثم يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهذا في دبر كل صلاة وكتب المغيرة إلى معاوية رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد1".
فصل: وإذا أراد أن ينصرف فإن كان خلفه نساء استحب أن يلبث حتى ينصرف النساء ولا يختلطن بالرجال لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قام النساء حين يقضي سلامه فيمكث يسيراً قبل أن يقوم قال الزهري رحمه الله: فيرى - والله أعلم - أن مكثه لينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال وإذا أراد أن ينصرف توجه في جهة حاجته لما روى الحسن رحمه الله قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون في المسجد الجامع فمن كان بيته من قبل بني تميم انصرف عن يساره ومن كان بيته مما يلي بني سليم انصرف عن يمينه - يعني بالبصرة - وإن لم يكن له حاجة فالأولى أن ينصرف عن يمينه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء.
فصل: والسنة في صلاة الصبح أن يقنت في الركعة الثانية لما روى أنس بن مالك
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 155. مسلم في كتاب الصلاة حديث 194. أبو داود في كتاب الصلاة باب 140. الدارمي في كتاب الصلاة باب 71. الموطأ في كتاب القدر حديث 8.

(1/153)


رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو عليهم ثم تركه وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ومحل القنوت بعد الرفع من الركوع لما روي أنه سئل أنس هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ قال: نعم قيل: قبل الركوع أو بعد الركوع؟ قال: بعد الركوع والسنة أن يقول "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت وتعاليت" لما روى الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات في الوتر فقال: "قل اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره" وإن قنت بما روى عن عمر رضي الله عنه كان حسناً وهو ما روى أبو رافع قال: قنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد الركوع في الصبح فسمعته يقول: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك بالكفار ملحق اللهم عذب كفار أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وأصلح ذات

(1/154)


بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وثبتهم على ملة رسولك وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق واجعلنا منهم ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الدعاء لما روي من حديث الحسن رضي الله عنه في الوتر أنه قال تباركت وتعاليت وصلى الله على النبي وسلم ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يؤمن من خلفه ويستحب له أن يشاركه في الثناء لأنه لا يصلح التأمين على ذلك فكانت المشاركة أولى وأما رفع اليدين في القنوت فليس فيه نص والذي يقتضيه المذهب أنه لا يرفع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع اليد إلا في ثلاثة مواطن: في الاستسقاء والاستنصار وعشية عرفة ولأنه دعاء في الصلاة فلم يستحب له رفع اليد كالدعاء في التشهد وذكر القاضي أبو الطيب الطبري في بعض كتبه أنه لا يرفع اليد وحكى في التعليق أنه يرفع اليد والأول عندي أصح وأما غير الصبح من الفرائض فلا يقنت فيه غير حاجة فإن نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا في جمع الفرائض لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد كان إذا قال سمع الله لمن حمد قال ربنا لك الحمد وذكر الدعاء.
فصل: والفرض مما ذكرناه أربعة عشر: النية وتكبيرة الإحرام والقيام وقراءة الفاتحة الركوع حتى تتطمئن فيه والرفع من الركوع حتى تعتدل والسجود حتى تتطمئن فيه والجلوس بين السجدتين حتى تتطمئن والجلوس في آخر الصلاة والتشهد فيه والصلاة على رسول صلى الله عليه وسلم والتسليمة الأولى ونية الخروج وترتيب أفعالها على ما ذكرناه والسنن خمس وثلاثون: رفع اليدين في تكبير الإحرام والركوع والرفع من الركوع ووضع اليمين على الشمال والنظر إلى موضع السجود ودعاء الاستفتاح والتعوذ والتأمين وقراءة السورة بعد الفاتحة والجهر والإسرار والتكبيرات سوى تكبيرة

(1/155)


الإحرام والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع والتسبيح في الركوع والتسبيح في السجود ووضع اليد على الركبة في الركوع ومد الظهر والعنق فيه والبداية بالركبة ثم باليد في السجود ووضع الأنف في السجود ومجافاة المرفق عن الجنب في الركوع والسجود وإقلال البطن عن الفخذ في السجدتين والدعاء في الجلوس بين السجدتين وجلسة الاستراحة ووضع اليد على الأرض عند القيام والتورك في آخر الصلاة والإفتراش في آخر الجلسات ووضع اليد اليمنى على الفخذ مقبوضة والإشارة بالمسبحة ووضع اليد اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة والتشهد الأول والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه والصلاة على آله في التشهد الأخير والدعاء في آخر الصلاة والقنوت في الصبح والتسليمة الثانية ونية السلام على الحاضرين.

(1/156)


باب صلاة التطوع
أفضل عبادات البدن الصلاة لما روى عبد الله بن عمرو بن عبد العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استقيوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة1" ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ولأنه تجمع من القرب ما لا تجمع غيرها من الطهارة واستقبال القبلة والقراءة وذكر الله عز وجل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمنع فيها من كل ما يمنع منه في سائر العبادات وتزيد عليها بالامتناع من الكلام والمشي وسائر الأفعال وتطوعها
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 4. الدارمي في كتاب الوضوء باب 2. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 36. أحمد في مسنده "5/277".

(1/156)


أفضل التطوع وتطوعها ضربان: ضرب تسن له الجماعة وضرب لا تسن له الجماعة فما سن له الجماعة فصلاة العيد والكسوف والاستسقاء وهذا الضرب أفضل مما لا تسن له الجماعة لأنها تشبه الفرائض في سنة الجماعة وأوكد ذلك صلاة العيد لأنها راتبة بوقت كالفرائض ثم صلاة الكسوف لأن القرآن دل عليها قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت 37] وليس ههنا صلاة تتعلق بالشمس والقمر إلا صلاة الكسوف ثم صلاة الإستسقاء ولهذه الصلواة أبواب نذكر فيها أحكامها إن شاء الله تعالى وبه الثقة وما لا تسن له الجماعة فضربان: راتبة بوقت وغير راتبة فأما الراتبة فمنها السنن الراتبة مع الفرائض وأدنى الكمال منها عشر ركعات غير الوتر وهي: ركعتان قبل الظهر وركعتان بعده وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان بعد الصبح والأصل فيه ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب سجدتين وبعد العشاء سجدتين وحدثتني حفصة بنت عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين إذا طلع الفجر والأكمل أن يصلي ثمانية عشر ركعة غير الوتر ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء لما ذكرناه من حديث ابن عمر رضي الله عنه وأربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها لما روت أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرم على النار1" وأربعاً قبل العصر لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر أربعاً يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن معهم من المؤمنين والسنة فيها وفي الأربع قبل الظهر وبعده أن يسلم من كل ركعتين لما رويناه من حديث علي كرم الله وجهه أنه كان يفصل بين كل ركعتين بالتسليم وما يفعل قبل هذه الفرائض من هذه السنن يدخل وقتها بدخول وقت الفرض ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض وما يفعل بعد الفرض يدخل وقتها بالفراغ من الفرض ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض لأنها تابعة للفرض فذهب وقتها بذهاب وقت الفرض ومن أصحابنا من قال يبقى وقت سنة الفجر إلى الزوال وهو ظاهر النص والأول أظهر.
فصل: وأما الوتر فهي سنة لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 رواه أبو داود في كتاب التطوع باب 7. الترمذي في كتاب القيامة باب 45. النسائي في كتاب الجهاد باب 10. أحمد في مسنده "1/63" "3/114".

(1/157)


قال "الوتر حق وليس بواجب فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل1" وأكثره إحدى عشر ركعة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشر ركعة يوتر منها بواحدة وأقله ركعة لما ذكرناه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه وأدنى الكمال ثلاث ركعات يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] والمعوذتين لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ذلك والسنة لمن أوتر بما زاد على ركعة أن يسلم من كل ركعتين لما روى ابن عمر رضي اله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين الشفع والوتر ولأنه يجهر في الثالثة ولو كانت موصولة بالركعتين لما جهر بها كالثالثة من المغرب ويجوز أن يجمعها بتسليمه لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسلم في ركعتي الوتر والسنة أن يقنت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: السنة إذا انتصف الشهر من رمضان أن تعلن الكفرة في الوتر بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول: أللهم قاتل الكفرة وقال أبو عبد الله الزبيري: يقنت في جميع السنة لما روى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات ويقنت قبل الركوع والمذهب الأول وحديث أبي بن كعب غير ثابت عند أهل النقل ومحل القنوت في الوتر بعد الرفع من الركوع ومن أصحابنا من قال محله في الوتر قبل الركوع لحديث أبي بن كعب والصحيح هو الأول لما ذكرت من حديث عمر رضي الله عنه ولأنه في الصبح يقنت بعد الركوع فكذلك في الوتر ووقت الوتر ما بين أن يصلي العشاء إلى طلوع الفجر الثاني لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله تعالى زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" فإن كان ممن لم تهجد فالأولى أن يؤخره حتى يصليه بعد التهجد وإن لم يكن له تهجد فالأولى أن يصليه بعد سنة العشاء لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من خاف أن لا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أول الليل ثم ليرقد ومن طمع منكم أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخر الليل2"
__________
1رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 123.
2 رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 162، 163. الترمذي في كتاب الوتر باب 3. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 121. أحمد في مسنده "3/300، 315".

(1/158)


وأوكد هذه السنن الراتبة مع الفرائض سنة الفجر والوتر لأنه ورد فيهما ما لم يرد في غيرهما وأيهما أفضل؟ فيه قولان: في الجديد الوتر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم هي الوتر1" وقال عليه السلام "من لم يوتر فليس منا2" ولأنه مختلف في وجوبه وسنة الفجر مجمع على كونها سنة فكان الوتر أوكده وقال في القديم: سنة الفجر آكده لقوله صلى الله عليه وسلم "صلوها ولو طردتكم الخيل" ولأنها محصورة لا تحتمل الزيادة والنقصان فهي بالفرائض أشبه من الوتر.
فصل: ومن السنن الراتبة قيام رمضان وهو عشرون ركعة بعشر تسليمات والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة فيقول "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه3" والأفضل أن يصليها في جماعة نص عليه في البويطي لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه جمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه فصلى بهم التراويح ومن أصحابنا من قال فعلها منفرداً أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليالي فصلوها معه ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر والمذهب الأول وإنما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لئلا تفرض عليهم وقد روي أنه قال "خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها".
فصل: ومن السنن الراتبة صلاة الضحى وأفضلها ثماني ركعات لما روت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ثماني ركعات وأقلها ركعتان لما
__________
1رواه أبو داود في كتاب الوتر باب 2. أحمد في مسنده "2/443" "5/243".
2 رواه أبو داود في كتاب الوتر باب 2. أحمد في مسنده "2/433" "5/753".
3 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 25، 27. كتاب الصوم باب 6. مسلم في كتاب المسافرين حديث 173 – 176 – أبو داود في كتاب رمضان باب 1. الموطأ في كتاب رمضان حديث 2. أحمد في مسنده "1/ 191، 195" "2/ 232".

(1/159)


روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على كل سلامي من أحدكم صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يصليها من الضحى1" ووقتها إذا أشرقت الشمس إلى الزوال ومن فاته من هذه السنن الراتبة شيء في وقتها ففيه قولان: أحدهما لا يقضي لأنها صلاة نفل فلم تقض كصلاة الكسوف والاستسقاء والثاني يقضي لقوله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو سها فليصلها إذا ذكرها2" ولأنها صلاة راتبة في وقت فلم تسقط بفوات الوقت إلى غير بدل كالفرائض بخلاف الكسوف والاستسقاء لأنها غير راتبة وإنما تفعل لعارض وقد زال العارض.
فصل: وأما غير الراتبة وهي الصلوات التي يتطوع بها الإنسان في الليل والنهار وأفضلها التهجد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلوات بعد المفروضة صلاة الليل" ولأنها تفعل في وقت غفلة وتركهم للطاعات فكان أفضل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "ذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء بين أشجار يابسة" وآخر الليل أفضل من أوله لقوله عز وجل {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذريات:18-17] ولأن الصلاة بعد النوم أشق ولأن المصلين فيه أقل فكان أفضل وإن جزأ الليل ثلاثة أجزاء فالثلث الأوسط أفضل لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الصلاة إلى الله عز وجل صلاة داود عليه السلام كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه3" ولأن الطاعات في هذا الوقت أقل فكانت الصلاة فيه أفضل ويكره أن يقوم الليل كله لما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتصوم النهار؟ فقلت نعم قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم قال: لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وأفضل تطوع النهار ما كان في البيت لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة4" والسنة أن يسلم من كل
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصلح باب 11. مسلم في كتاب المسافرين حديث 84 أبو داود في كتاب التطوع باب 12. أحمد في مسنده "2/316، 328".
2 رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 37. مسلم في كتاب المساجد حديث 309 الترمذي في كتاب الصلاة باب 16، 17 ابن ماجه في كتاب الصلاة 10- 11. الموطأ في كتاب الوقوت حديث 35 أحمد في مسنده "3/31، 44".
3 رواه ابن ماجه في كتاب الصيام باب 31.
4 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 81. مسلم في كتاب المسافرين حديث 213. أبو داود في كتاب الصلاة باب 199. الموطأ في كتاب الجماعة حديث 4. أحمد في مسنده "5/182".

(1/160)


ركعتين لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صلاة الليل مثنى مثنى1" فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة فإن جمع ركعات بتسليمة واحدة جاز لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ويوتر من ذلك بخمس يجلس في الركعة الأخيرة ويسلم وأنه أوتر بسبع وخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام وإن تطوع بركعة واحدة جاز لما روي أن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد فصلى ركعة فتبعه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة فقال: إنما هي تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص.
فصل: ويستحب لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين تحية المسجد لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم المسجد فليصل سجدتين من قبل أن يجلس2" فإن دخل وقد حضرت الجماعة لم يصل التحية لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة3" ولأنه يحصل به التحية كما يحصل حق الدخول إلى الحرم بحجة الفرض.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب التطوع باب 13، 24. الترمذي في كتاب الصلاة باب 166. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 166. الموطأ في كتاب الصلاة الليل حديث 7.
2 رواه البخاري في كتاب النجد باب 29. أبو داود في كتاب التطوع باب 10. الترمذي في كتاب الصلاة باب 192. أحمد في مسنده "2/17" "3/128".
3 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 38. مسلم في كتاب المسافرين حديث 63. أبو داود في كتاب التطوع باب 5. النسائي في كتاب الإمامة باب 60. الدارمي في كتاب الصلاة باب 149.

(1/161)


باب سجود التلاوة
سجود التلاوة مشروع للقارئ لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كان

(1/161)


رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بسجدة كبر وسجد وسجدنا معه فإن ترك القارئ سجد المستمع لأنه توجه عليهما فلا يتركه أحدهما بترك الآخر وأما من سمع القارئ وهو غير مستمع إليه قال الشافعي رحمه الله: لا أؤكد كما أؤكد على المستمع لما روى عن عمر وعمار بن الحصين رضي الله عنهما أنهما قالا: السجدة على من استمع وعن ابن عباس رضي الله عنهما: السجدة لمن جلس لها وهو سنة غير واجبة لما روي عن زيد بن ثابت قال: عرضت سورة النجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسجد منا أحد.
فصل: وسجدات التلاوة أربع عشرة سجدة في قوله الجديد: سجدة في آخر الأعراف عند قوله {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] وسجدة في الرعد عند قوله تعالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد:15] وسجدة في النحل عند قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] وسجدة في بني إسرائيل عند قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الاسراء:109] وسجدة في مريم عند قوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58] وسجدتان في الحج إحداهما عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] والثانية عند قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] وسجدة في الفرقان عند قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60] وسجدة في النمل عند قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] وسجدة في آلم تنزيل عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49] وسجدة في حم السجدة عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] وثلاث سجدات في المفصل إحداها في آخر النجم {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [لنجم:62] والثانية في إذا السماء انشقت عند قوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] والثالثة في آخر إقرأ {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] والدليل عليه ما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أقراني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتين وقال في القديم: سجود التلاوة إحدى عشرة سجدة فأسقط ثلاث سجدات المفصل لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة.
فصل: وأما سجدة ص فهي عند قوله عز وجل: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [صّ: 24] وليست من سجدات التلاوة وإنما هي سجدة شكر لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال:

(1/162)


خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقرأ ص فلما مر بالسجود نشزنا للسجود فلما رآنا قال إنما هي توبة نبي ولكن قد استعددتم للسجود فنزل وسجد وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "سجدها نبي الله داود توبة وسجدناها شكراً" فإن قرأها في الصلاة فسجد ففيه وجهان: أحدهما تبطل صلاته لأنها سجدة شكر فتبطل بها الصلاة كالسجود عند تجدد نعمة والثاني لا تبطل لأنها تتعلق بالتلاوة فهي كسائر سجدات التلاوة.
فصل: وحكم سجود التلاوة حكم صلاة النفل يفتقر إلى الطهارة والستارة واستقبال القبلة لأنها صلاة في الحقيقة فإن كان في الصلاة سجد بتكبير ورفع بتكبير ولا يرفع يديه وإن كان السجود في آخر السورة فالمستحب أن يقوم ويقرأ من السورة بعدها شيئاً ثم يركع فإن قال ولم يقرأ شيئاً وركع جاز وإن قام من السجود إلى الركوع ولم يقم لم يجز لأنه لم يبتدئ الركوع من قيام وإن كان في غير الصلاة كبر لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالسجدة كبر وسجد ويستحب أن يرفع يديه لأنها تكبيرة افتتاح فهي كتكبيرة الإحرام ثم يكبر تكبيرة أخرى للسجدة ولا يرفع اليد والمستحب أن يقول في سجوده ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته" وإن "قال اللهم اكتب لي عندك بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً وضع عني بها وزراً واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود عليه السلام" فهو حسن لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت هذه الليلة فيما يرى النائم كاني أصلي خلف شجرة وكأني قرأت سجدة فسجدت فرأيت الشجرة كأنها سجدت لسجودي فسمعتها وهي ساجدة تقول اللهم اكتب لي عندك بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً وضع عني بها وزراً واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل عن الشجرة فإن قال فيه مثل ما يقول في سجود الصلاة

(1/163)


جاز وهل يفتقر إلى السلام؟ فيه قولان: قال في البويطي: لا يسلم كما لا يسلم منه في الصلاة وروى المزني عنه أنه قال: يسلم لأنها صلاة تفتقر إلى الإحرام فافتقرت إلى السلام كسائر الصلوات وهل يفتقر إلى التشهد؟ المذهب أنه لا يتشهد لأنه لا قيام فيه فلم يكن فيه تشهد ومن أصحابنا من قال يتشهد لأنه سجود يفتقر إلى الإحرام والسلام فافتقر إلى التشهد كسجود الصلاة.
فصل: ويستحب لمن مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى ولمن مر بآية عذاب أن يستعيذ منه لما روى حذيفة رضي الله عنه قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ البقرة فما مر بآية رحمة إلا سأل ولا بآية عذاب إلا استعاذ ويستحب للمأموم أن يتابع الإمام في سؤال الرحمة والاستعاذة من العذاب لأنه دعاء فساوى المأموم الإمام فيه كالتأمين ويستحب لمن تجددت عنده نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة أن يسجد شكراًً لله عز وجل لما روى أبو بكرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الشيء يسر به خر ساجداً شكراً لله تعالى وحكم سجود الشكر في الشروط والصفات حكم سجود التلاوة خارج الصلاة.

(1/164)


باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها
إذا قطع شرطاً من شروطها كالطهارة والستارة وغيرهما بطلت صلاته فإن سبقه الحدث ففيه قولان: قال في الجديد: تبطل صلاته لأنه حدث يبطل الطهارة فأبطل الصلاة كحدث العمد وقال في القديم: لا تبطل صلاته بل ينصرف ويتوضأ ويبني على صلاته لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى ما لم يتكلم" ولأنه حدث حصل بغير اختياره فأشبه سلس البول فإن أخرج على هذا القول بقية الحدث لم تبطل صلاته لأن حكم البقية حكم الأول فإذا لم تبطل بالأول لم تبطل بالبقية ولأن به حاجة إلى إخراج البقية

(1/164)


ليكمل طهارته فإن وقعت عليه نجاسة يابسة فنحاها لم تبطل صلاته لأنها ملاقاة نجاسة هو معذور فيها فلم تقطع الصلاة كسلس البول وإن كشفت الريح الثوب عن العورة ثم رده لم تبطل صلاته لأنه معذور فيه فلم يقطع الصلاة كما لو غصب منه الثوب في الصلاة فإن ترك فرضاً من فروضها كالركوع والسجود وغيرهما بطلت صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته أعد صلاتك فإنك لم تصل وإن ترك القراءة ناسياً ففيه قولان وقد مضى في القراءة.
فصل: وإن تكلم في صلاته أو قهقه فيها أو شهق بالبكاء وهو ذاكر للصلاة عالم بالتحريم بطلت صلاته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء" وروي الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء فإن فعل ذلك وهو ناس أنه في الصلاة ولم يطل لم تبطل صلاته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أصدق ذو اليدين"؟ فقالوا: نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم وإن فعل ذلك وهو جاهل بالتحريم ولم يطل لم تبطل صلاته لما روى عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله فحدقني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أماه ما لكم تنظرون إلي فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمي وما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه والله ما ضربني صلى الله عليه وسلم ولا كهرني ثم قال "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" وإن سبق لسانه من غير قصد إلى الكلام أو غلبه الضحك ولم يطل لم تبطل صلاته لأنه غير مفرط فهو كالناسي والجاهل وإن طال الكلام وهو ناس أو جاهل بالتحريم أو مغلوب ففيه وجهان: المنصوص في البويطي أن صلاته تبطل لأن كلام الناسي والجاهل والمسبوق كالعمل القليل ثم العمل القليل إذا كثر أبطل الصلاة وكذلك الكلام ومن

(1/165)


أصحابنا من قال: لا تبطل كأكل الناسي لا يبطل الصوم قل أو كثر فإن تنحنح أو تنفس أو نفخ أو بكى أو تبسم عامداً ولم يبن منه حرفان لم تبطل صلاته لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سجد جعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية فلما قضى صلاته قال: فوالذي نفسي بيده لقد عرض على النار حتى إني لأطفئها خشية أن تغشاكم ولأن ما لم يتبين منه حرفان ليس بكلام فلا يبطل الصلاة فإن كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه لم تبطل صلاته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على أبي بن كعب رضي الله عنه وهو يصلي فلم يجبه فخفف الصلاة وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما منعك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله: كنت أصلي قال: أفلم تجد فيما أوحي إلي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم قال: بلى يا رسول الله لا أعود فإن رأى المصلي ضريراً يقع في بئر فأنذره بالقول ففيه وجهان: قال أبو إسحاق المروزي رحمه الله: لا تبطل صلاته لأنه واجب عليه فهو كإجابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابنا من قال: تبطل صلاته لأنه لا يجب عليه لأنه قد لا يقع في البئر وليس بشيء فإن كلمه إنسان وهو في الصلاة وأراد أن يعلمه أنه في الصلاة أو سها الإمام فأراد أن يعلمه بالسهو استحب له إن كان رجلاً أن يسبح وتصفق إن كانت امرأة فتضرب ظهر كفها الأيمن على بطن كفها الأيسر لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال ولتصفق النساء" فإذا فعل ذلك للإعلام لم تبطل صلاته لأنه مأمور به فإن صفق الرجل وسبحت المرأة لم تبطل الصلاة لأنه ترك سنة فإن أراد الإذن لرجل في الدخول فقال {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] فإن قصد التلاوة والإعلام لم تبطل صلاته لأن قراءة القرآن لا تبطل الصلاة وإن لم يقصد القرآن بطلت صلاته لأنه من كلام الآدميين وإن شمت عاطساً بطلت صلاته لحديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه ولأنه كلام وضع لمخاطبة الآدمي فهو كرد السلام وروى يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: لا تبطل الصلاة لأنه دعاء بالرحمة فهو كالدعاء لأبويه بالرحمة.

(1/166)


فصل: وإن كان أكل عامداً بطلت صلاته لأنه أبطل الصوم الذي لا يبطل بالأفعال فلأن يبطل الصلاة أولى وإن كان أكل ناسياً لم تبطل كما لا يبطل الصوم.
فصل: وإن عمل في الصلاة عملاً ليس منها نظرت فإن كان من جنس أفعالها بأن ركع أو سجد في غير موضعها فإن كان عامداً بطلت صلاته لأنه متلاعب بالصلاة وإن كان ناسياً لم تبطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً فسبحوا له وبنى على صلاته وإن قرأ فاتحة الكتاب مرتين عامداً فالمنصوص أنه لا تبطل صلاته لأنه تكرار ذكر فهو كما لو قرأ السورة بعد الفاتحة مرتين ومن أصحابنا من قال تبطل لأنه ركن زاده في الصلاة فهو كالركوع والسجود وإن عمل عملاً ليس من جنسها فإن كان قليلاً مثل أن دفع ماراً بين يديه أو ضرب حية أو عقرباً أو خلع نعليه أو أصلح رداءه أو حمل شيئاً أو سلم عليه رجل فرد عليه بالإشارة وما أشبه ذلك لم تبطل صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفع المار بين يديه وأمر بقتل الأسودين الحية والعقرب في الصلاة وخلع نعليه وحمل أمامه بنت أبي العاص في الصلاة فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها وسلم عليه الأنصار فرد عليهم بالإشارة في الصلاة ولأن المصلي لا يخلوا من عمل قليل فلم تبطل صلاته بذلك وإن عمل عملاً كثيراً بأن مشى خطوات متتابعات أو ضرب ضربات متواليات بطلت صلاته لأن ذلك لا تدعو الحاجة إليه في الغالب وإن مشى خطوتين أو ضرب ضربتين ففيه وجهان: أحدهما لا تبطل صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه ووضعهما إلى جانبه وهذان فعلان متواليان والثاني تبطل لأنه عمل متكرر فهو كالثلاث وإن عمل عملاً كثيراً متفرقاً لم تبطل صلاته لحديث أمامة ابنة أبي العاص رضي الله عنها فإنه تكرر منه الحمل والوضع ولكنه لما تفرق لم يقطع الصلاة ولا فرق في العمل بين السهو والعمد لأنه فعل بخلاف الكلام فإنه قول والفعل أقوى من القول ولهذا ينفذ إحبال المجنون لكونه فعلاً ولا ينفذ إعتاقه لأنه قول.
فصل: ويكره أن يترك شيئاً من سنن الصلاة ويكره أن يلتفت في صلاته من غير حاجة لما روى أبو ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الله تعالى مقبلاً على عبده في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت صرف الله عنه وجهه1" وإن كان لحاجة لم
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 161. النسائي في كتاب السهو باب 10. الدارمي في كتاب الصلاة باب 134. أحمد في مسنده "5/172".

(1/167)


يكره لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتفت في صلاته يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه خلف ظهره ويكره أن يرفع بصره إلى السماء لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة حتى اشتد قوله في ذلك لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم1" ويكره أن ينظر إلى ما يلهيه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه خميصة ذات أعلام فلما فرغ قال "ألهتني أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي الجهم وأتوني بأنبجانيته" ويكره أن يصلي ويده على خاصرته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل مختصراً ويكره أن يكف شعره وثوبه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يسجد على سبعة أعضاء ونهى أن يكف شعره وثوبه ويكره أن يمسح الحصا في الصلاة لما روى معيقيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تمسح الحصا وأنت تصلي فإن كنت لابد فاعلاً فواحدة تسوية الحصا" ويكره أن يعد الآي في الصلاة
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 92.مسلم في كتاب الصلاة حديث 118. أبو داود في كتاب الصلاة باب 163. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 68. أحمد في مسنده "2/ 333، 367" "3/109، 112"

(1/168)


لأنه يشتغل عن الخشوع فكان تركه أولى ويكره التثاؤب فيها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تثاءب أحدكم وهو في الصلاة فليرد ما استطاع فإن أحدكم إذا قال هاها ضحك الشيطان منه" فإن بدره البصاق فإن كان في المسجد لم يبصق فيه بل يبصق في ثوبه ويحك بعضه ببعض وإن كان في غير المسجد لم يبصق تلقاء وجهه ولا عن يمينه بل يبصق تحت قدمه اليسرى فإن بدره بصق في ثوبه وحك بعضه ببعض لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مسجداً يوماً فرأى في قبلة المسجد نخامة فحتها بعرجون معه ثم قال: يحب أحدكم أن يبصق رجل في وجهه إذا صلى أحدكم فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه فإن الله تعالى تلقاء وجهه والملك عن يمينه وليبصق تحت قدمه اليسرى أو عن يساره فإن أصابته بادرة بصاق فليبصق في ثوبه ثم يقول به هكذا فعلمهم أن يفركوا بعضه ببعض فإن خالف وبصق في المسجد دفنه لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "البصاق في المسجد خطيئة وكفارته دفنه1" وبالله التوفيق.
__________
1رواه النسائي في كتاب المساجد باب 30. أحمد في مسنده "3/173".

(1/169)


باب سجود السهو
إذا ترك ركعة من الصلاة ساهياً فذكرها وهو فيها لزمه أن يأتي بها فإن شك في تركها بأن شك هل صلى ركعة أو ركعتين أو صلى ثلاثاً أو أربعاً لزمه أن يأخذ بالأقل ويأتي بما بقي لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين2" فإن استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة له والسجدتان وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماماً لصلاته والسجدتان ترغمان أنف الشيطان وإن ترك ركعة ناسياً وذكرها بعد التسليم
__________
2 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 31 مسلم في كتاب المساجد حديث 88. أبو داود في كتاب الصلاة باب 190. النسائي في كتاب السهو باب 24. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 132. الموطأ في كتاب النداء حديث 61، 62. أحمد في مسنده "1/190".

(1/169)


نظرت فإن لم يتطاول الفصل أتى بها وإن تطاول استأنف واختلف أصحابنا في التطاول فقال أبو إسحاق: هو أن يمضي قدر ركعة وعليه نص في البويطي وقال غيره: يرجع فيه إلى العادة فإن كان قد مضى ما يعد تطاولاً استأنف الصلاة وإن مضى ما لا يعد تطاولاً بنى لأنه ليس له حد في الشرع فرجع فيه إلى العادة وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن مضى مقدار الصلاة التي نسي فيها استأنف وإن كان دون ذلك بنى لأن آخر الصلاة يبنى على أولها وما زاد على ذلك لا يبنى عليه فجعل ذلك حداً وإن شك بعد السلام في تركها لم يلزمه شيء لأن الظاهر أنه أداها على التمام فلا يضره الشك الطارئ بعده ولأنا لو اعتبرنا حكم الشك الطارئ بعدها شق ذلك وضاق فلم يعتب
فصل: وإن ترك فرضاً ساهياً أو شك في تركه وهو في الصلاة لم يعتد بما فعله بعد المتروك حتى يأتي بما تركه ثم يأتي بما بعده لأن الترتيب مستحق في أفعال الصلاة فلا يعتد بما فعل حتى يأتي بما تركه فإن ترك سجدة من الركعة الأولى وذكرها وهو قائم في الثانية نظرت فإن كان قد جلس عقيب السجدة الأولى خر ساجداً وقال أبو إسحاق: يلزمه أن يجلس ثم يسجد ليكون السجود عقيب الجلوس والمذهب الأول لأن المتروك هو السجدة وحدها فلا يعيد ما قبلها كما لو قام من الرابعة إلى الخامسة ساهياً ثم ذكر فإنه يجلس ثم يتشهد ولا يعيد السجود قبله وإن لم يكن قد جلس عقيب السجدة الأولى حتى قام ثم ذكر جلس ثم سجد ومن أصحابنا من قال يخر ساجداً لأن الجلوس يراد للفصل بين السجدتين وقد حصل الفصل بالقيام إلى الثانية والمذهب الأول لأن الجلوس فرض مأمور به فلم يجز تركه وإن كان قد جلس عقيب السجدة الأولى وهو يظن أنها جلسة الاستراحة ففيه وجهان: قال أبو العباس: لا يجزئه بل يلزمه أن يجلس ثم يسجد لأن جلسة الاستراحة نفل فلا يجزئه عن الفرض كسجود التلاوة لا يجزئه عن سجدة الفرض ومن أصحابنا من قال يجزئه كما لو جلس في الرابعة وهو يظن أنه جلس للتشهد الأول وتعليل أبي العباس يبطل بهذه المسألة وأما سجود التلاوة فلا يسلم فإن من أصحابنا من قال يجزئه عن الفرض ومنهم من قال لا يجزئه لأنه ليس من الصلاة وإنما هو عارض فيها وجلسة الاستراحة من الصلاة وإن ذكر ذلك بعد السجود في الثانية تمت له ركعة لأن عمله بعد المتروك كلا عمل حتى يأتي بما ترك فإذا سجد في الثانية ضممنا سجدة

(1/170)


من الثانية إلى الأولى فتمت له الركعة وإن ترك سجدة من أربع ركعات ونسي موضعها لزمه ركعة لأنه يجوز أن يكون قد ترك من الأخيرة فيكفيه سجدة ويحتمل أن يكون قد ترك من غير الأخيرة فتبطل عليه الركعة التي بعدها وفي الصلاة يجب أم يحمل الأمر على الأشد ليسقط الفرض بيقين ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من شك في عدد الركعات أن يأخذ بالأقل ليسقط الفرض بيقين وإن ترك سجدتين جعل إحداهما من الأولى والأخرى من الثالثة فيتم الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة فيحصل له ركعتان وتلزمه ركعتان وإن ترك ثلاث سجدات جعل من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدة ومن الرابعة سجدة وتلزمه ركعتان وإن ترك أربع سجدات جعل من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدتين ومن الرابعة سجدة فيلزمه سجدة وركعتان وإن ترك خمس سجدات جعل من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدتين ومن الرابعة سجدتين فيلزمه سجدتان وركعتان وإن نسي ست سجدات فقد أتى بسجدتين فجعل إحداهما من الأولى والأخرى من الرابعة وتلزمه ثلاث ركعات وإن نسي سبع سجدات حصل له ركعة إلا سجدة وإن نسي ثماني سجدات حصل له ركعة القيام والركوع ويلزمه أن يأتي بما بقي فإن ذكر ذلك بعد السلام أو شك في تركه بعد السلام فالحكم فيه على ما ذكره في الركعة.
فصل: وإن نسي سنة نظرت فإن ذكر ذلك وقد تلبس بغيرها مثل أن يترك دعاء الاستفتاح فذكر وهو في التعوذ أو ترك التشهد الأول فذكر وقد انتصب قائماً لم يعد إليه والدليل عليه ما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا قام أحدكم من الركعتين ولم يستتم قائماً فليجلس وإذا استتم قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتين" ففرق بين أن ينتصب وبين أن لا ينتصب لأنه إذا انتصب حصل في غيره وإذا لم ينتصب لم يحصل في غيره فدل على ما ذكرناه وإن نسي تكبيرات العيد حتى افتتح القراءة ففيه قولان: قال في القديم: يأتي بها لأن محلها القيام والقيام باق في الجديد لا يأتي بها لأنه ذكر مسنون قبل القراءة فسقط بالدخول في القراءة كدعاء الاستفتاح.
فصل: الذي يقتضي سجود السهو أمران: زيادة ونقصان فأما الزيادة فضربان: قول وفعل فالقول أن يسلم في غير موضع السلام ناسياً أو يتكلم ناسياً فيسجد للسهو والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين وكلم ذا اليدين وأتم صلاته وسجد سجدتين وإن قرأ في غير موضع القراءة سجد لأنه قول في غير موضعه فصار كالسلام وأما الفعل فضربان: ضرب لا يبطل عمده الصلاة وضرب يبطل فما لا يبطل عمده الصلاة كالالتفات والخطوة والخطوتين فلا يسجد له لأن عمده لا يؤثر فسهوه لا يقتضي

(1/171)


السجود وأما ما يبطل عمده فضربان: متحقق ومتوهم فالمتحقق أن يسهو فيزيد في صلاته ركعة أو ركوعاً أو سجوداً أو قياماً أو قعوداً أو يطيل القيام بنية القنوت في غير موضع القنوت أو يقعد للتشهد في غير موضع القعود على وجه السهو فيسجد للسهو والدليل عليه ما روى عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً فقيل له صليت خمساً فسجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم وأما المتوهم فهو أن يشك هل صلى ركعة أو ركعتين فيلزمه أن يصلي ركعة أخرى ثم يسجد للسهو لحديث أبي سعيد الخدري الذي ذكرناه في أول الباب فإن قام من الركعتين فرجع إلى القعود قبل أن ينتصب قائماً ففيه قولان: أحدهما يسجد للسهو لأنه زاد في صلاته فعلاً تبطل الصلاة بعمده فيسجد كما لو زاد قياماً أو ركوعاً والثاني لا يسجد وهو الأصح لأنه عمل قليل فهو كالالتفات والخطوة.
فصل: وأما النقصان فهو أن يترك سنة مقصودة وذلك شيئان: أحدهما أن يترك التشهد الأول ناسياً فيسجد للسهو لما روى ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين فلما جلس من أربع انتظر الناس تسليمه فسجد قبل أن يسلم والثاني أن يترك القنوت ساهياً فيسجد للسهو لأنه سنة مقصودة في محلها فتعلق السجود بتركها كالتشهد الأول وإن ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول فإن قلنا ليست بسنة فلا يسجد وإن قلنا إنها سنة سجد لأنه ذكر مقصود في موضعه فهو كالتشهد الأول فإن ترك التشهد الأول أو القنوت عامداً سجد للسهو ومن أصحابنا من قال لا يسجد لأنه مضاف إلى السهو فلا يفعل مع العمد والمذهب الأول لأنه إذا سجد لتركه ساهياً فلأن يسجد لتركه عامداً أولى وإن ترك سنة غير مقصودة كالتكبيرات والتسبيحات والجهر والإسرار والتورك والافتراش وما أشبهها لم يسجد لأنه ليس بمقصود في موضعه فلم يتعلق بتركه الجبران وإن شك هل سها نظرت فإن كان في زيادة هل زاد أم لا لم يسجد لأن الأصل أنه لم يزد وإن كان في نقصان هل ترك التشهد أو القنوت أم لا سجد لأن الأصل أنه لم يفعل فسجد لتركه.
فصل: وإن اجتمع سهوان أو أكثر كفاه الجميع سجدتان لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين وكلم ذا اليدين واقتصر على سجدتين ولأنه لو لم يتداخل لسجد عقيب السهو فلما أخر إلى آخر الصلاة دل على أنه إنما أخر ليجمع كل سهو في الصلاة وإن سجد للسهو ثم سها فيه ففيه وجهان: قال أبو العباس بن القاص: بعيد لأن السجود لا يجبر ما بعده وقال أبو عبد الله الختن: لا يعيد لأنه لو لم يجبر كل سهو لم يؤخر.

(1/172)


فصل: إذا سها خلف الإمام لم يسجد لأن معاوية بن الحكم شمت العاطس في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس1" ولم يأمره بالسجود وإن سها الإمام لزم المأموم حكم السهو لأنه لما تحمل عنه الإمام سهوة لزم المأموم أيضاً سهوه فإن لم يسجد الإمام لسهوه سجد المأموم وقال المزني وأبو حفص البابشامي: لا يسجد لأنه إنما يسجد تبعاً للإمام وقد ترك الإمام فلم يسجد المأموم والمذهب الأول لأنه لما سها الإمام دخل النقص على صلاة المأموم لسهوه فإذا لم يجبر الإمام صلاته جبر المأموم صلاته وإن سبقه الإمام ببعض الصلاة وسها فيما أدركه معه وسجد معه ففيه قولان: قال في الأم: يعيد لأن الأول فعله متابعة لإمامه ولم يكن موضع سجوده وقال في الإملاء والقديم: لا يعيد لأن الجبران حصل بسجوده فلم يعد وإن سها الإمام فيما أدركه وسجد سجد معه ثم سها المأموم فيما انفرد فإن قلنا لا يعيد السجود سجد لسهوه وإن لم يسجد الإمام أو سجد وقلنا يعيد فالمنصوص أنه تكفيه سجدتان لأن السجدتين يجبران كل سهو ومن أصحابنا من قال يسجد أربع سجدات لأن إحداهما من جهة الإمام والأخرى من جهته وإن سها الإمام ثم أدركه المأموم فالمنصوص في صلاة الخوف أنه يلزم المأموم وحكم سهوه لأنه دخل في صلاة ناقصة فنقصت بها صلاته ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لأنه لو سها المأموم فيما انفرد به بعد مفارقة الإمام لم يتحمل عنه الإمام فإذا سها الإمام فيما انفرد به لم يلزم المأموم وإن صلى ركعة منفرداً في صلاة رباعية فسها فيها ثم نوى متابعة إمام مسافر فسها الإمام ثم قال ثم قام إلى رابعته فسها فيها ففيه ثلاثة أوجه أصحها أنه يكفيه سجدتان والثاني يسجد أربع سجدات لأنه سها سهواً في جماعة وسهواً في جماعة وسهواً في الانفراد والثالث يسجد ست سجدات لأنه سها في ثلاثة أحوال.
فصل: وسجود السهو سنة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري كانت الركعة نافلة له والسجدتان ولأنه يفعل لما لا يجب فلا يجب.
فصل: ومحله قبل التسليم لحديث أبي سعيد ولحديث ابن بحينة ولأنه يفعل لإصلاح الصلاة فكان قبل التسليم كما لو نسي سجدة من الصلاة ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر إنه إن كان السهو زيادة كان محله بعد السلام والمشهور هو الأول لأن بالزيادة يدخل النقص في الصلاة كما يدخل بالنقصان فإن لم يسجد حتى سلم ولم يتطاول الفصل سجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمساً وسلم ثم سجد وإن تطاول الفصل ففيه
__________
1 رواه النسائي في كتاب السهو باب 20. أحمد في مسنده "5/447".

(1/173)


قولان: أحدهما يسجد لأنه جبران فلم يسقط بالتطاول كجبران الحج وقال في الجديد: لا يسجد وهو الأصح لأنه يفعل لتكميل الصلاة فلم يفعل بعد تطاول الفصل كما لو نسي سجدة من الصلاة فذكرها بعد التسليم وبعد تطاول الفصل وكيف يسجد بعد التسليم فيه وجهان: قال أبو العباس بن القاص: يسجد ثم يتشهد لأن السجود في الصلاة بعده تشهد وكذلك هذا وقال أبو إسحاق: لا يتشهد وهو الأصح لأن الذي ترك هو السجود فلا يعيد معه غيره والنفل والفرض في سجود السهو واحد ومن أصحابنا من حكى قولاً في القديم أنه لا يسجد للسهو في النفل وهذا لا وجه له لأن النفل كالفرض في النقصان فكان كالفرض في الجبران.

(1/174)


باب الساعات التي نهى الله عن الصلاة فيها
وهي خمس: اثنتان نهى عنهما لأجل الفعل وهي بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: حدثني أناس أعجبهم إلي عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس وثلاثة نهى عنها لأجل الوقت وهي عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند الاستواء حتى تزول وعند الاصفرار حتى تغرب والدليل ما روى عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن نصلي فيها أو أن نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة وحتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة وحين تضيف الشمس للغروب وهل يكره التنفل لمن

(1/174)


صلى ركعتي الفجر؟ فيه وجهان: أحدهما يكره لما روى ابن عمر رضي اله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليبلغ الشاهد منكم الغائب أن لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين" والثاني لا يكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا بعد الصبح حتى تطلع الشمس.
فصل: ولا يكره في هذه الأوقات ما لها سبب كقضاء الفائتة والصلاة المنذورة وسجود التلاوة وصلاة الجنازة وما أشبهها لما روي عن قيس بن فهر قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح فقال: ما هاتان الركعتان قلت: لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان الركعتان ولم ينكر عليه فدل على جوازه فإن دخل إلى المسجد في هذه الأوقات ليصلي التحية لا لحاجة له غيرها ففيه وجهان: أحدهما يصلي لأنه وجد سبب الصلاة وهو الدخول والثاني لا يصلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتحرى أحدكم بصلاته طلوع الشمس وغروبها1" وهذا يتحرى بصلاته طلوع الشمس وغروبها.
فصل: ولا تكره يوم الجمعة يوم الاستواء حتى لو حضر الصلاة لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة ولأنه يشق عليه مع كثرة الخلق أن يخرج لمراعاة الشمس ويغلبه النوم إن قعد فعفى عن الصلاة وإن لم يحضر الصلاة ففيه وجهان: أحدهما يجوز للخبر والثاني لا يجوز لأنه لا مشقة عليه في مراعاة الشمس.
فصل: ولا تكره الصلاة في هذه الأوقات بمكة لما روى أبو ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة إلا بمكة2" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة3" ولا خلاف أن الطواف يجوز فكذلك الصلاة
__________
1رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 30. مسلم في كتاب المسافرين حديث 289 النسائي في كتاب المواقيت باب 33. الموطأ في كتاب القرآن حديث 47. أحمد في مسنده "6/255".
2 رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 30، 31. مسلم في كتاب المسافرين حديث 285 الترمذي في كتاب المواقيت باب 18. الموطأ في كتاب القرآن الحديث 48. أحمد في مسنده "1/18، 21".
3 رواه النسائي في كتاب المناسك باب 136. الدارمي في كتاب المناسك باب 32. أحمد في مسنده "3/414".

(1/175)


باب صلاة الجماعة
إختلف أصحابنا في الجماعة فقال أبو عباس وأبو إسحاق: هي فرض على الكفاية يجب إظهارها في الناس فإن امتنعوا من إظهارها قوتلوا عليها وهو المنصوص في الإمامة والدليل عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحذوا عليهم الشيطان عليك بالجماعة فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم1" ومن أصحابنا من قال هي سنة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة2".
فصل: وأقل الجماعة اثنان إمام ومأموم لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة3" وفعلها للرجال في المسجد أفضل لأنهم أكثر جمعاً وفي المساجد التي يكثر الناس فيها أفضل لما روى أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى4"
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 46. النسائي في كتاب الإمامة باب 48. أحمد في مسنده "5/96".
2 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 87. الترمذي في كتاب الصلاة باب 47. أحمد في مسنده "2/14، 15".
3 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 35. النسائي في كتاب الإمامة باب 45. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 44.
4 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 47. النسائي في كتاب الإمامة باب 45 أحمد في مسنده "5/145".

(1/176)


فإن كان في جواره مسجد تختل فيه الجماعة ففعلها في مسجد الجوار أفضل من فعلها في المسجد الذي يكثر فيه الناس لأنه صلى في مسجد الجوار حصلت الجماعة في موضعين وأما النساء فجماعتهن في البيوت أفضل لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن1" فإن أرادت المرأة حضور المسجد مع الرجال فإن كانت شابة أو كبيرة يشتهى مثلها كره لها الحضور وإن كانت عجوزاً لا تشتهى لم يكره لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء عن الخروج إلا عجوزاً في منقلها.
فصل: ولا تصح الجماعة حتى ينوي المأموم الجماعة لأنه يريد أن يتبع غيره فلا بد من نية الإتباع فإن رأى رجلين يصليان على الانفراد فنوى الائتمام بهما لم تصح صلاته لأنه لا يمكنه أن يقتدي بهما في وقت واحد وإن نوى الاقتداء بأحدهما بغير عينه لم تصح صلاته لأنه إذا لم يعين لم يمكنه الاقتداء به وإن كان أحدهما يصلي بالآخر فنوى الاقتداء بالمأموم منهما لم تصح صلاته لأنه تابع لغيره فلا يجوز أن يتبعه غيره فإن صلى رجلان فنوى كل واحد منهما أنه هو الإمام لم تبطل صلاته لأنه كل واحد منهما يصلي لنفسه وإن نوى كل واحد منهما أنه مؤتم بالآخر لم تصح صلاتهما لأن كل واحد منهما ائتم بمن ليس بإمام.
فصل: وتسقط الجماعة بالعذر وهو أشياء فمنها المطر والوحل والريح الشديدة في الليلة المظلمة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكانت ليلة مظلمة أو مطيرة نادى مناديه أن صلوا في رحالكم ومنها أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه أو يدافع الخبثين لما روت عائشة رضي الله عنها
__________
1 رواه أحمد في مسنده "2/76، 77".

(1/177)


قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام ولا هو يدافع الأخبثين1" ومنها أن يخاف ضرراً في نفسه أو ماله أو مرضاً يشق معه القصد والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر" قالوا يا رسول الله وما العذر؟ قال: "خوف أو مرض" ومنها أن يكون قيماً بمريض يخاف ضياعه لأنه حفظ الآدمي أفضل من حفظ الجماعة ومنها أن يكون له قريب مريض يخاف موته لأنه يتألم عليه بذلك أكثر مما يتألم بذهاب المال.
فصل: ويستحب لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها وعليه السكينة والوقار وقال أبو إسحاق: إن خاف فوت التكبيرة الأولى أسرع لما روي أن عبد الله بن مسعود اشتد إلى الصلاة وقال: بادروا حد الصلاة يعني التكبيرة الأولى والأول أصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا2" وإن حضر والإمام لم يحضر فإن كان للمسجد إمام راتب قريب فالمستحب أن ينفذ إليه ليحضر لأن في تفويت الجماعة افتياتاً عليه وإفساداً للقلوب وإن خشي فوات أول الوقت لم ينتظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف فقدم الناس أبا بكر رضي الله عنه وحضر النبي صلى الله عليه وسلم وهم في الصلاة فلم ينكر عليهم وإن دخل في صلاة نافلة ثم أقيمت الجماعة فإن لم يخش فوات الجماعة أتم النافلة ثم دخل في الجماعة وإن خشي فوات الجماعة قطع النافلة لأن الجماعة أفضل وإن دخل في فرض الوقت ثم أقيمت الجماعة فالأفضل أن يقطع ويدخل في الجماعة فإن نوى الدخول في الجماعة
__________
1رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 67. أبو داود في كتاب الطهارة باب 43. الدارمي في كتاب الصلاة باب 137. أحمد في مسنده " "6/43/ 45".
2 رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 18. مسلم في كتاب المساجد باب 14 الموطأ في كتاب النداء حديث 04. أحمد في مسنده "2/237".

(1/178)


من غير أن يقطع ففيه قولان: قال في الإملاء: لا يجوز وتبطل صلاته لأن تحريمته سبقت تحريمة الأمام فلم يجز كما لو حضر معه في أول الصلاة فكبر قبله وقال في القديم والجديد: يجوز وهو الأصح لأنه لما جاز أن يصلي بعض صلاته منفرداً ثم يصير إماماً بأن يجئ من يلأتم به جاز أن يصلي بعض صلاته منفرداً ثم يصير مأموماً ومن أصحابنا من قال: إن كان قد ركع في حال الانفراد لم يجز قولاً واحداً لأنه يغير ترتيب صلاته بالمتابعة والصحيح أنه لا فرق لأن الشافعي رحمه الله لم يفرق ويجوز أن يغير ترتيب صلاته بالمتابعة كالمسبوق بركعة وإن حضر وقد أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بنافلة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة1" فإن أدركه في القيام وخشي أن تفوته القراءة ترك دعاء الاستفتاح واشتغل بالقراءة لأنها فرض فلا يشتغل عنها بالنفل فإن قرأ بعض الفاتحة فركع الإمام ففيه وجهان: أحدهما يركع ويترك القراءة لأن متابعة الإمام آكد ولهذا لو أدركه راكعاً سقط عنه فرض القراءة والثاني يلزمه أن يتم القراءة لأنه لزمه بعض القراءة فلزمه إتمامها وإن أدركه وهو راكع كبر للإحرام وهو قائم ثم كبر للركوع ويركع فإن كبر تكبيرة واحدة نوى بها الإحرام وتكبيرة الركوع لم تجزئه عن الفرض لأنه أشرك في النية بين الفرض والنفل وهل تنعقد له صلاة نفل؟ فيه وجهان: أحدهما تنعقد كما لو أخرج خمسة دراهم ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع والثاني لا تنعقد لأنه أشرك في النية بين تكبيرة هي شرط وتكبيرة ليست بشرط وإن أدرك معه مقدار الركوع الجائز فقد أدرك الركعة إن لم يدرك ذلك لم يدرك الركعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى ومن لم يدرك الركوع فليصل الظهر أربعاً" وإن كان الإمام قد ركع ونسي تسبيح الركوع فرجع إلى الركوع ليسبح فأدركه في هذا الركوع فقد قال أبو علي الطبري: يحتمل أن يكون مدركاً كما لو قام إلى الخامسة فأدركه المأموم فيها والمنصوص في الأم أنه لا يكون مدركاً لأن ذلك غير محتسب للإمام ويخالف الخامسة لأن هناك قد أتى بها المأموم وههنا لم يأت بما فاته مع الإمام وإن أدركه ساجدا كبر للإحرام ثم سجد من غير تكبير ومن أصحابنا من قال: يكبر كما يكبر للركوع والمذهب الأول لأنه لم يدرك محل التكبير في السجود ويخالف إذا أدركه راكعا فإن
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 38. مسلم في كتاب المسافرين حديث 63.الترمذي في كتاب الصلاة باب 195. الدارمي في كتاب الصلاة باب 149. أحمد في مسنده "2/331، 455".

(1/179)


هذا موضع ركوعه ألا ترى يجزئه عن فرضه فصار كالمنفرد وإن أدركه في آخر الصلاة كبر للإحرام وقعد وحصل له فضيلة الجماعة فإن أدرك معه الركعة الأخيرة كان ذلك أول صلاته لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما أدركت فهو أول صلاتك وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: يكبر فإذا سلم الإمام قام إلى ما بقي من صلاته فإن كان ذلك في صلاة فيها قنوت فقنت مع الإمام أعاد القنوت في آخر صلاته لأن ما فعله مع الإمام فعله للمتابعة فإذا بلغ إلى موضعه أعاد كما لو تشهد مع الإمام ثم قام إلى ما بقي فإنه يعيد التشهد وإن حضر وقد فرغ الإمام من الصلاة فإن كان المسجد له إمام راتب كره أن يستأنف فيه جماعة لأنه ربما اعتقد أنه قصد الكياد والإفساد وإن كان المسجد في سوق أو ممر الناس لم يكره أن يستأنف الجماعة لأنه لا يحمل الأمر فيه على الكياد وإن حضر ولم يجد إلا من صلى استحب لبعض من حضر أن يصلي معه ليحصل له الجماعة والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يتصدق على هذا؟ فقام رجل فصلى معه.
فصل: ومن صلى منفرداً ثم أدرك جماعة يصلون استحب له أن يصلي معهم وحكى أبو إسحاق عن بعض أصحابنا أنه قال: إن كان صبحاً أو عصراً لم يستحب لأنه منهي عن الصلاة في ذلك الوقت والمذهب الأول لما روى يزيد بن الأسود العامري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغداة في مسجد الخيف فرأى في آخر القوم رجلين لم يصليا معه فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا فقال "لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم نافلة" فإن صلى في جماعة ثم أدرك جماعة أخرى ففيه وجهان: احدهما يعيد للخبر والثاني لا يعيد لأنه قد حاز فضيلة الجماعة وإذا صلى وأعاد مع الجماعة فالفرض هو الأول في قوله الجديد للخبر ولأنه أسقط الفرض بالأولى فوجب أن تكون الثانية نفلاً وقال في القديم: يحتسب الله له بأيتهما شاء وليس بشيء.
فصل: ويستحب للإمام أن يأمر من خلفه بتسوية الصفوف لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اعتدلوا في صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء

(1/180)


ظهري1" قال أنس: فلقد رأيت أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه والمستحب أن يخفف في القراءة والأذكار لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير وإذاصلى لنفسه فليطول ما شاء2" فإن صلى بقوم يعلم أنهم يؤثرون التطويل لم يكره التطويل لأن المنع لأجلهم وقد رضوا وإن أحس بداخل وهو راكع ففيه قولان: أحدهما يكره أن ينتظر لأن فيه تشريكاً بين الله عز وجل وبين الخلق في العبادة وقد قال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] والثاني يستحب أن ينتظر وهو الأصح لأنه انتظار ليدرك به الغير ركعة فلم يكره كالانتظار في صلاة الخوف وتعليل الأول يبطل بإعادة الصلاة لمن فاتته الجماعة برفع الصوت بالتكبير ليسمع من وراءه فإن فيه تشريكاً ثم يستحب وإن أحس به وهو قائم لم ينتظره لأن الإدراك يحصل له بالركوع وهو يتشهد ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يستحب لما فيه من التشريك والثاني يستحب الإدراك يحصل له بالركوع فإن أدركه وهو يتشهد ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يستحب لما فيه من التشريك والثاني يستحب لأنه يدرك به الجماعة.
فصل: وينبغي للمأموم أن يتبع الإيمام ولا يتقدمه في شيء من الأفعال لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإن كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ولا تختلفوا عليه فإذا قال سمع الله لمن حمد فقولوا ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا ولا ترفعوا قبله3" فإن كبر قبله أوكبر معه للإحرام لم تنعقد صلاته لأنه علق صلاته بصلاته قبل أن تنعقد فلم تصح وإن سبقه بركن بأن ركع قبله أو سجد قبله لم يجز ذلك لقوله: "أما يخشى أحدكم أن يرفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله تعالى رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار4" ويلزمه أن يعود إلى متابعته لأن ذلك
__________
1رواه البخاري في كتاب الأذان باب 76 النسائي في كتاب الإمامة باب 28. أحمد في مسنده "2/98".
2 رواه البخاري في كتاب العلم باب 38. مسلم في كتاب الصلاة حديث 183 – 186. الترمذي في كتاب الصلاة باتب 61. النسائي في كتاب الإمامة باب 35. الموطأ في كتاب الجماعة حديث 13. أحمد في مسنده "2/ 256". "3/ 75، 255".
3 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 18. مسلم في كتاب الصلاة حديث 77. الترمذي في الصلاة باب 150. الموطأ في كتاب النداء حديث 57. أحمد في مسنده "2/230" "3/110، 145".
4 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 75. الترمذي في كتاب الجمعة باب 56. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 41. أحمد في مسنده "2/260".

(1/181)


فرض فإن لم يفعل لحقه فيه لم تبطل لأن ذلك مفارقة قليلة وإن ركع قبل الإمام فلما أراد الإمام أن يركع رفع فلما أراد الإمام أن يرفع سجد فإن كان عالماً بتحريمه بطلت صلاته لأن ذلك مفارقة كثيرة وإن كان جاهلاً بذلك لم تبطل صلاته ولا يعتد له بهذه الركعة لأنه لم يتابع الإمام في معظمها وإن ركع قبله فلما ركع الإمام رفع ووقف حتى رفع الإمام واجتمع معه في القيام لم تبطل صلاته لأنه تقدم بركن واحد وذلك قدر يسير وإن سجد الإمام سجدتين وهو قائم ففيه وجهان: أحدهما تبطل صلاته لأنه تأخر عنه بسجدتين وجلسة بينهما وقال أبو إسحاق: لا تبطل لأنه تأخر بركن واحد وهو السجود وإن سها الإمام في صلاته فإن كان في قراءة فتح عليه المأموم لما روى أنس رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضاً في الصلاة وإن كان في ذكر غيره جهر به المأموم ليسمعه الإمام فتقوله وإن سها في فعل سبح له ليعلمه لم يقع للإمام أنه سها لم يعمل بقول المأموم لأن من شك في فعل نفسه لم يرجع فيه إلى قوله غيره كالحاكم إذا نسي حكماً حكم به فشهد شاهدان عليه أنه حكم به وهو لا يذكر وأما المأموم فإنه ينظر فيه فإن كان سهو الإمام في ترك فرض مثل أن يقعد وفرضه أن يقوم أو يقوم وفرضه أن يقعد لم يتابعه لأنه إنما تلزمه متابعته في أفعال الصلاة وما يأتي به ليس من أفعال الصلاة وإن كان سهوه في ترك سنة لزمه متابعته لأن المتابعة فرض فلا يجوز أن يشتغل عنها بسنة فإن نسي الإمام التسليمة الثانية أو سجود السهو لم يتركه المأموم لأنه يأتي به وقد سقط عنه المتابعة فإن نسيا جميعاً التشهد الأول ونهضا للقيام وذكر الإمام قبل أن يستتم القيام والمأموم قد استتم القيام ففيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه قد حصل في فرض والثاني يرجع وهو الأصح لأن متابعة الإمام آكد ألا ترى أنه إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام لزمه العود إلى متابعته وإن كان قد حصل في فرض.
فصل: وإن أحدث الإمام واستحلف ففيه قولان: قال في القديم: لا يجوز لأن المستحلف كان لا يجهر ولا يقرأ السورة ولا يسجد للسهو فصار يجهر ويقرأ السورة ويسجد للسهو وذلك لا يجوز في صلاة واحدة وقال في الأم: يجوز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت: يا رسول الله إنه رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فمر عمر فليصل بالناس فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فمر علياً فليصل بالناس قال إنكن

(1/182)


لأنتن صويحبات يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس" فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج فلما رآه أبو بر فذهب ليستأخر فأومأ إليه بيده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنبه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير فإن استخلف من لم يكن معه في الصلاة فإن كان في الركعة الأولى أو الثالثة جاز على قوله في الأم وإن كان في الركعة الثانية أو الرابعة لم يجز لأنه لا يوافق ترتيب الأول فيشوش وإن سلم الإمام وبقي على بعض المأمومين بعض الصلاة فقدموا من يتم بهم ففيه وجهان أحدهما يجوز كما يجوز في الصلاة والثاني لا يجوز لأن الجماعة الأولى قد تمت فلا حاجة إلى الاستخلاف.
فصل: وإن نوى المأموم مفارقة الإمام وأتم لنفسه فإن كان لعذر لم تبطل صلاته لأن معاذاً رضي الله عنه أطال القراءة فانفرد عنه أعرابي فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه وإن كان لغير عذر ففيه قولان: أحدهما تبطل لأنهما صلاتان مختلفتان في الحكم فلا يجوز أن ينتقل من إحداهما إلى الأخرى من غير عذر كالظهر والعصر والثاني يجوز وهو الأصح لأن الجماعة فضيلة فكان له تركها كما لو صلى بعض صلاة النفل قائماً ثم قعد.

(1/183)


باب صفة الأئمة
إذا بلغ الصبي حداً يعقل وهو من أهل الصلاة صحت إمامته لما روي عن عمر بن سلمة قال: أممت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام بن سبع سنين وفي الجمعة قولان: قال في الأم: لا يجوز إمامته لأن صلاته نافلة وقال في الإملاء: يجوز لأنه يجوز أن يكون إماماً في غير الجمعة كالبالغ ولا تصح إمامة الكافر لأنه ليس من أهل الصلاة فلا يجوز أن يعلق صلاته على صلاته فإن تقدم وصلى بقوم لم يكن ذلك

(1/183)


إسلاماً منه لأنها من فروع الإيمان فلا يصير بفعلها مسلماً كما لوصام رمضان أو زكى المال وأما من صلى خلفه فإنه إن علم بحالة لم تصح صلاته لأنه علق صلاته بصلاة باطلة وإن لم يعلم ثم علم نظرت فإن كان كافراً متظاهراً بكفره لزمته الإعادة لأنه مفرط في صلاته خلفه لأن على كفره أمارة من الغيار وإن كان مستتراً ففيه وجهان: أحدهما لا تصح صلاته لأنه ليس من أهل الصلاة فلا تصح الصلاة خلفه كما لو كان متظاهراً بكفره والثاني تصح لأنه غير مفرط في الائتمام به وتجوز الصلاة خلف الفاسق لقوله صلى الله عليه وسلم "صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله" ولأن ابن عمر رضي الله عنه صلى خلف الحجاج مع فسقه ولا يجوز للرجل أن يصلي خلف المرأة لما روى جابر رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تؤم امرأة رجلاً1" فإن صلى خلفها ولم يعلم ثم علم لزمه الإعادة لأن عليها أمارة تدل على أنها امرأة فلم يعذر في صلاته خلفها ولا تجوز صلاة الرجل خلف الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة ولا صلاة خلف الخنثى لجواز أن يكون المأموم رجلاً والإمام امرأة.
فصل: ولا تجوز خلف المحدث لأنه ليس من أهل الصلاة فإن صلى خلفه غير الجمعة ولم يعلم ثم علم فإن كان ذلك في أثناء الصلاة نوى مفارقته وأتم وإن كان بعد الفراغ لم تلزمه الإعادة لأنه ليس على حدثه أمارة فعذر في صلاته خلفه فإن كان في الجمعة فقد قال الشافعي رحمه الله في الأم: إن تم العدد به لم تصح الجمعة لأنه فقد شرط الجمعة وإن تم العدد دونه صحت لأن العدد وجد وحدثه لا يمنع صحة الجمعة كما لا يمنع في سائر الصلوات ويجوز للمتوضئ أن يصلي خلف المتيمم لأنه أتى عن طهارته ببدل فهو كغاسل الرجل إذا صلى خلف الماسح على الخف وفي صلاة الطاهرة خلف المستحاضة وجهان: أحدهما يجوز للمتوضئ خلف المتيمم والثاني لا يجوز لأنها لم تأت بطهارة على النجس ولأنها تقوم مقامها فهو كالمتوضئ خلف المحدث ويجوز للقائم أن يصلي خلف القاعد لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا والناس خلفه قيام
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 78.

(1/184)


ويجوز للراكع والساجد أن يصلي خلف المومي إلى الركوع والسجود لأنه ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام وفي صلاة القارئ خلف الأمي وهو من لا يحسن الفاتحة وخلف الأرت والألثغ قولان: أحدهما يجوز لأنه ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام والثاني لا يجوز لأنه يحتاج أن يتحمل قراءته وهو يعجز عن ذلك فلا يجوز أن ينتصب للتحمل كالإمام الأعظم إذا عجز عن تحمل أعباء الأمة وتجوز أن يأتم المفترض بالمتنفل والمفترض بالمفترض في صلاة أخرى لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذاً كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الأخيرة ثم يأتي قومه في بني سلمة يصلي بهم هي له تطوع ولهم فريضة العشاء ولأن الاقتداء يقع بالأفعال الظاهرة وذلك يمكن مع اختلاف النية فأما إذا صلى صلاة الكسوف خلف من يصلي الصبح أو الصبح خلف من يصلي الكسوف لم يجز لأنه لا يمكن الإئتمام مع اختلاف الأفعال ولا يجوز أن يصلي الجمعة خلف من يصلي الظهر لأن الإمام شرط في الجمعة والإمام ليس معهم في الجمعة فيصير كالجمعة بغير إمام ومن أصحابنا من قال: تجوز كما يجوز أن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر وفي فعلها خلف المتنفل قولان: أحدهما يجوز لأنهما متفقان في الأفعال الظاهرة والثاني لا يجوز لأن من شرط الجمعة الإمام والإمام ليس معهم في الجمعة ويكره أن يصلي الرجل بقوم وأكثرهم له كارهون لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1/185)


"ثلاثة لا يرفع الله صلاتهم فوق رؤوسهم فذكر فيهم رجلا أمَّ قوماً وهم له كارهون1" فإن كان الذي يكرهه الأقل لم يكره أن يؤمهم لأن أحداً لا يخلو ممن يكرهه ويكره أن يصلي الرجل بامرأة أجنبية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان2" ويكره أن يصلي خلف التمتام والفأفاء لما يزيدان في الحروف فإن صلى خلفهما صحت صلاته لأنها زيادة هو مغلوب عليها.
فصل: والسنة أن يؤم القوم أقرؤهم وأفقههم لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى وأكثرهم قراءة فإن كانت قراءتهم سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً3" وكان أكثر الصحابة قراءة أكثرهم فقهاً لأنهم كانوا يقرأون ويتعلمون أحكامها ولأن الصلاة تفتقر صحتها إلى القراءة والفقه فقدم أهلهما على غيرهما فإن زاد أحدهما في القراءة والفقه قدم على الآخر وإن زاد أحدهما في الفقه وزاد الآخر في القراءة فالأفقه أولى لأنه ربما حدثت في الصلاة حادثة تحتاج إلى الاجتهاد فإن استويا في الفقه ففيه قولان: قال في القديم يقدم الأشرف ثم الأقدم هجرة ثم الأسن وهو الأصح لأنه قدم الهجرة على السن في حديث أبي مسعود البدري ولا خلاف أن الشرف مقدم على الهجرة فإذا قدمت الهجرة على السن فلأن يقدم عليه الشرف أولى وقال في الجديد: يقدم الأسن ثم الأشرف ثم الأقدم هجرة لما روى مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صلوا كما رأيتموني أصلي وليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم4" ولأن الأكبر أخشع في الصلاة فكان أولى والسن الذي يستحق به التقديم السن في الإسلام فأما إذا شاخ في الكفر ثم
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 149. أبو داود في كتاب الصلاة باب62.ابن ماجه في كتاب الإقامة 43.
2 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 111، 112. مسلم في كتاب الحج حديث 424. الترمذي في كتاب الفتن باب 7. أحمد في مسنده "1/222".
3 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 54. الترمذي في كتاب الصلاة باب 60. النسائي في كتاب الإقامة باب 3، 5. أحمد في مسنده "3/48، 51".
4 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 17، 18. مسلم في كتاب المساجد حديث 192. الدارمي في كتاب الصلاة باب 42. أحمد في مسنده "3/436".

(1/186)


أسلم لم يقدم على شاب في الإسلام والشرف الذي يستحق به التقديم أن يكون من قريش والهجرة أن يكون ممن هاجر من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أولادهم فإن استويا في ذلك فقد قال بعض المتقدمين: يقدم أحسنهم فمن أصحابنا من قال أحسنهم صورة ومنهم من قال أراد أحسنهم ذكراً.
فصل: فإن اجتمع هؤلاء مع صاحب البيت فصاحب البيت أولى منهم لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يؤم الرجل في أهله ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذن1" فإن حضر مالك الدار والمستأجر فالمستأجر أولى لأنه أحق بالتصرف في المنافع وإن حضر مالك العبد والعبد في دار جعلها السيد لسكنى العبد فالسيد أولى لأنه هو المالك في الحقيقة دون العبد وإن اجتمع غير السيد مع العبد في الدار فالعبد أولى لأنه أحق بالتصرف فإن اجتمع هؤلاء مع إمام المسجد فإمام المسجد أولى لما روي أن ابن عمر كان له مولى يصلي في مسجد فحضر فقدمه مولاه فقال له ابن عمر رضي الله عنه: أنت أحق بافمامة في مسجدك وإن اجتمع إمام المسلمين مع صاحب البيت أو مع إمام المسجد فالإمام أولى لأن ولايته عامة ولأنه راع وهم رعيته فكان تقديم الراعي أولى وإن اجتمع مسافر ومقيم فالمقيم أولى لأنه إذا تقدم المقيم أتموا كلهم فلا يختلفون وإذا تقدم المسافر اختلفوا في الصلاة وإن اجتمع حر وعبد فالحر أولى لأنه موضع كمال والحر أكمل وإن اجتمع عدل وفاسق فالعدل أولى لأنه أفضل وإن اجتمع ولد الزنا مع غيره فغيره أولى لأنه كرهه عمر بن عبد العزيز ومجاهد فكان غيره أولى منه وإن اجتمع بصير وأعمى فالمنصوص في الإمامة أنهما سواء لأن في الأعمى فضيلة وهو أن لا يرى ما يلهيه وفي البصير فضيلة وهو أن يتجنب النجاسة قال أبو إسحاق المروزي الأعمى أولى وعندي أن البصير أولى لأنه يتجنب النجاسة التي تفسد الصلاة والأعمى يترك النظر إلى ما يلهيه وذلك لا يفسد الصلاة.
__________
1 رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 290، 291. الترمذي في كتاب الصلاة باب 60. النسائي في كتاب الإمامة باب 3، 6.

(1/187)


باب موقف الإمام والمأموم
السنة أن يقف الرجل الواحد عن يمين الإمام لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه فإن وقف على يساره رجع إلى يمينه فإن لم يحسن علمه الإمام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن عباس رضي الله عنه فإن جاء آخر أحرم عن يساره ثم يتقدم الإمام أو يتأخر الملموم لما روى جابر رضي الله عنه قال: قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي وأدارني حتى أقامني عن يمينه وجاء جابر بن صخر حتى قام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا بيديه جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفه لأنه قبل أن يحرم الثاني لم يتغير موقف الأول فلا يزال عن موضعه فإن حضر رجلان اصطفا خلفه لحديث جابر وإن حضر رجل وصبي اصطفا خلفه لما روى أنس رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين فإن حضر رجال وصبيان تقدم الرجال لقوله صلى الله عليه وسلم "ليليني منكم أولو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم1" وإن كانت معهم امرأة وقفت خلفهم لحديث أنس رضي الله عنه فإن كان معهم خنثى وقف خلف الرجل والمرأة خلف الخنثى لأنه يجوز أن يكون امرأة فلا تقف مع الرجال والسنة أن لا يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأموم لما روي أن حذيفة رضي الله عنه صلى على دكن والناس أسفل منه فجذبه سلمان رضي الله عنه حتى أنزله فلما انصرف قال له "أما علمت أن أصحابك يكرهون أن يصلي الإمام على شيء وهم أسفل منه؟ قال حذيفة: بلى قد ذكرت حين جذبتني وكذلك لا يكون موضع المأموم أعلى من موضع الإمام لأنه إذا كره أن يعلو الإمام فلأن يكره أن يعلو المأموم أولى فإن أراد الإمام تعليم
__________
1 رواه مسلم في كتاب الصلاة حدث 122، 123. أبو داود في كتاب الصلاة باب 95. النسائي في كتاب الصلاة باب 54. الدارمي في كتاب الصلاة باب 51. أحمد في مسنده "1/457".

(1/188)


المأمومين أفعال الصلاة فالسنة أن يقف الإمام على موضع عال لما روى سهل بن سعد الساعدي قال صلى الله عليه وسلم على المنبر والناس وراءه فجعل يصلي عليه ويركع ثم يرفع ثم يرجع القهقرى ويسجد على الأرض ثم يرفع فيرقى عليه فقال "أيها الناس إنما صنعت هكذا كيما تروني فأتموا بي" ولأن الارتفاع في هذه الحالة أبلغ في الإعلام فكان أولى.
فصل: والسنة أن تقف إمامة النساء وسطهن لما روي أن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أمتا نساء فقامتا وسطهن وكذلك إذا اجتمع الرجال وهم عراة فالسنة أن يقف الإمام وسطهم لأنه أستر.
فصل: فإن خافوا فيما ذكرناه فوقف الرجل عن يسار الإمام أو خلفه وحده أو وقفت المرأة مع الرجل أو أمامه لم تبطل الصلاة لما روي أن ابن عباس رضي الله عنه وقف على يسار النبي صلى الله عليه وسلم فلم تبطل صلاته وأحرم أبو بكرة خلف الصف وركع ثم مشى إلى الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "زادك الله حرصاً ولا تعد" ولأن هذه المواضع كلها مواقف لبعض المأمومين فلا تبطل الصلاة بالانتقال إليها وإن تقدم المأموم على الإمام ففيه قولان: قال في القديم: لا تبطل الصلاة كما لو وقف خلف الإمام وحده وقال في الجديد: تبطل لأنه وقف في موضع ليس بموقف مؤتم بحال فأشبه إذا وقف في موضع نجس.
فصل: والمستحب أن يتقدم الناس في الصف الأول لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لو تعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة1" وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول2" والمستحب أن يعتمد يمين الإمام لما روى البراء قال: كان يعجبنا عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يبدأ بمن عن يمينه ويسلم عليه فإن وجد في الصف الأول فرجة فالمستحب أن يسدها لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتموا الصف الأول فإن كان نقص
__________
1رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 51.
2 رواه الدارمي في كتاب الصلاة باب 49. أبو داود في كتاب الصلاة باب 93 ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 50، 51. أحمد في مسنده "4/269، 284".

(1/189)


ففي المؤخرة1" فإن تباعدت الصفوف أو تباعد الصف الأول عن الإمام نظرت فإن كان لا حائل بينهما وكانت الصلاة في المسجد وهو عالم بصلاة الإمام صحت الصلاة لأن كل موضع من المسجد موضع الجماعة وإن كان في غير المسجد فإن كان بينه وبين الإمام أو بينه وبين آخر صف مع الإمام مسافة بعيدة لم تصح صلاته فإن كانت مسافة قريبة صحت صلاته وقدر الشافعي رحمه الله القريب بثلثمائة ذراع والبعيد ما زاد على ذلك لأن ذلك قريب في العادة وما زاد بعيد وهل هو تقريب أو تحديد؟ فيه وجهان: أحدهما أنه تحديد فلو زاد على ذلك ذراع لم يجزه والثاني أنه تقريب فإن زاد ثلاثة أذرع جاز وإن كان بينهما حائل نظرت فإن كانت الصلاة في المسجد بأن كان أحدهما في المسجد والآخر على سطحه أو في بيت لم يضر وإن كان في غير المسجد نظرت فإن كان الحائل يمنع الاستطراق والمشاهدة لم تصح صلاته لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن نسوة كن يصلين في حجرتها بصلاة الإمام فقالت: لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب وإن كان بينهما حائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة كالشباك ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن بينهما حائلاً يمنع الاستطراق فأشبه الحائط والثاني يجوز لأنه يشاهدهم فهو كما لو كان معهم وإن كان بين الإمام والمأموم نهر ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري: لا يجوز لأن الماء يمنع الاستطراق فهو كالحائط والمذهب أنه يجوز لأن الماء لم يخلق للحائل وإنما خلق للمنفعة فلا يمنع الإئتمام كالنار.
__________
1رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 93. النسائي في كتاب الإمامة باب 30. أحمد في مسنده "3/ 132، 215".

(1/190)


باب صلاة المريض
إذا عجز عن القيام صلى قاعداً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن الحصين "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب2" وكيف يقعد؟ فيه قولان: أحدهما يقعد متربعاً لأنه بدل عن القيام والقيام يخالف قعود الصلاة فيجب أن يكون بدله
__________
2 رواه البخاري في كتاب تقصير الصلاة باب 19. الترمذي في كتاب الصلاة باب 157. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 139. أحمد في مسنده "4/426".

(1/190)


مخالفاً له والثاني يقعد مفترشاً لأن التربع قعود العادة والافتراش جلوس قعود العبادة فكان الافتراش أولى فإن لم يمكنه ان يركع أو يسجد أومأ إليهما وقرب وجهه إلى الأرض على قدر طاقته فإن سجد على مخدة أجزأه لأن أم سلمة رضي الله عنها سجدت على مخدة لرمد بها قال في الأم: عن قدر أن يصلي منفرداً قائماً ويخفف القراءة وإذا صلى مع الجماعة صلى بعضها من قعود فالأفضل أن يصلي منفرداً لأن القيام فرض والجماعة نفل فكان الانفراد أولى وإن صلى مع الإمام وقعد في بعضها صحت صلاته فإن كان في ظهره علة لا تمنع من القيام وتمنعه من الركوع والسجود لزمه القيام ويركع ويسجد على قدر طاقته فإن لم يمكنه أن يحني ظهره حتى رقبته فإن أراد أن يتكئ على عصا كان له ذلك وإن تقوس ظهره حتى صار كأنه راكع رفع رأسه في موضع القيام على قدر طاقته ويحني ظهره في الركوع على قدر طاقته وإن كان بعينه وجع وهو قادر على القيام فقيل له إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز له ترك القيام لما روي أن ابن عباس رضي الله عنه لما وقع في عينيه الماء حمل إليه عبد الملك أطباء على البرد فقيل له إنك تمكث سبعة أيام لا تصلي إلا مستلقياً فسأل عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما فنهتاه والثاني يجزيه لأنه يخاف الضرر من القيام فأشبه المريض.
فصل: وإن عجز عن القيام والقعود صلى على جنبه ويستقبل القبلة بوجهه ومن أصحابنا من قال يستلقي على ظهره ويستقبل القبلة برجليه والمنصوص في البويطي هو الأول والدليل عليه ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يصلي المريض قائماً فإن لم يستطع صلى جالساً فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة فإن لم يستطع صلى مستلقياً على قفاه ورجلاه إلى القبلة وأومأ بطرفه1" ولأنه إذا اضطجع على جنبه استقبل القبلة بجميع بدنه وإذا استلقى لم يستقبل القبلة إلا برجليه ويومئ إلى الركوع والسجود فإن عجز عن ذلك أومأ بطرفه لحديث علي رضي الله عنه.
__________
1 المصدر السابق.

(1/191)


فصل: وإن افتتح الصلاة قائماً ثم عجز قعد وأتم صلاته وإن افتتحها قاعداً ثم قدر على القيام وأتم صلاته لأنه يجوز أن يؤدي جميع صلاته قاعداً عند العجز وجميعها قائماً عند القدرة فجاز أن يؤدي بعضها قاعداً عند العجز وبعضها قائماً عند القدرة وإن افتتح الصلاة قاعداً ثم عجز اضطجع وإن افتتحها مضطجعاً ثم قدر على القيام أو القعود قام أو قعد والتعليل ما ذكرناه.

(1/192)


باب صلاة المسافر
يجوز القصر في السفر لقوله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] قال ثعلبة بن أمية: قلت لعمر رضي الله عنه قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء:101] وقد أمن النساء قال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" ولا يجوز القصر إلا في الظهر والعصر والعشاء لإجماع الأمة ويجوز ذلك في سفر الماء كما يجوز للراكب في البر.
فصل: ولا يجوز ذلك إلا في مسيرة يومين وهو أربعة برد كل بريد أربعة فرسخ فذلك ستة عشر فرسخاً لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك وسأل عطاء بن عباس أأقصر إلى عرفات؟ فقال: لا فقال: إلى منى؟ فقال: لا لكن إلى جدة وعسفان والطائف قال مالك رحمه الله:

(1/192)


بين الطائف ومكة وجدة وعسفان أربعة برد ولأن في هذا القدر تتكرر مشقة الشد والترحال وفيما دونه لا تتكرر قال الشافعي رحمه الله: وأحب أن لا يقصر في أقل من ثلاثة أيام وإنما استحب ذلك ليخرج من الخلاف فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يبيح القصر إلا في مسيرة ثلاثة أيام فإن كان للبلد الذي يقصده طريقان يقصر في أحدهما وفي الآخر لا يقصر فسلك الأبعد لغرض يقصد في العادة قصر وإن سلكه ليقصر ففيه قولان: قال في الإملاء: له أن يقصر لأنها مسافة يقصر في مثلها الصلاة فجاز له القصر فيها كما لو لم يكن له طريق سواه وقال في الأم: ليس له أن يقصر لأنه طول الطريق للقصر فلا يقصر كما لو مشى في مسافة قريبة طولاً وعرضاً حتى طال وإن سافر إلى بلد يقصر إليه الصلاة ونوى أنه إن لقي عبده أو صديقه في بعض الطريق رجع لم يقصر لأنه لم يقطع على سفر تقصر فيه الصلاة وإن نوى السفر إلى بلد ثم منه إلى بلد آخر فهما سفران فلا يقصر حتى يكون كل واحد منهما مما تقصر فيه الصلاة.
فصل: إذا كان السفر مسيرة ثلاثة أيام فالقصر أفضل من الإتمام لما روى عمران بن الحصين قال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين وسافرت مع أبي بكر رضي الله عنه فكان يصلي ركعتين حتى ذهب وسافرت مع عمر رضي الله عنه فكان يصلي ركعتين حتى ذهب وسافرت مع عثمان رضي الله عنه فصلى ركعتين ست سنين ثم أتم بمنى فكان الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل فإن ترك القصر وأتم جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطرت وصمت وقصرت وأتممت؟ فقال "أحسنت يا عائشة" ولأنه تخفيف أبيح السفر فجاز تركه كالمسح على الخفين ثلاثاً.
فصل: ولا يجوز القصر إلا في سفر ليس بمعصية فأما إذا سافر لمعصية كالسفر لقطع الطريق وقتال المسلمين فلا يجوز القصر ولا الترخيص بشيء من رخص المسافر لأن الرخص لا يجوز أن تتعلق بالمعاصي ولأن في جواز الرخص في سفر المعصية إعانة على المعصية وهذا لا يجوز.
فصل: ولا يجوز القصر إلا أن يفارق الإقامة لقوله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ

(1/193)


فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] فعلق القصر على الضرب في الأرض وإن كان من أهل بلد لم يقصر حتى يفارق بنيان البلد فإن اتصل بحيطان البساتين حيطان البلد وفارق بنيان البلد جاز له القصر لأن البساتين ليست من البلد وإن كان في قرية وبقربها قرية ففارق قريته جاز له القصر وقال أبو العباس إن كانت القريتان متقاربتين فهما كالقرية الواحدة فلا يقصر حتى يفارقهما والمذهب الأول لأن إحدى القريتين منفردة عن الأخرى فإن كان من أهل الخيام فإن كانت خياماً مجتمعة لم يقصر حتى يفارق جميعها وإن كانت خياماً متفرقة قصر إذا فارق ما يقرب من خيمته قال في البويطي: فإن خرجوا من البلد فأقاموا في موضع حتى يجتمعوا ويخرجوا لم يجز لهم القصر لأنهم لم يقطعوا الطريق بالسفر وإن قالوا ننتظر يومين أو ثلاثة فإن لم يجتمعوا سرنا جاز لهم القصر لأنهم قطعوا بالسفر.
فصل: ولا يجوز القصر حتى تكون جميع الصلاة في السفر فأما إذا أحرم بالصلاة في سفينة في البلد ثم سارت السفينة وحصلت في السفر لم يجز له القصر وكذلك إن أحرم بها في سفينة في السفر ثم اتصلت السفينة بموضع الإقامة أو نوى الإقامة لزمه الاتمام لأنه اجتمع في صلاته ما يقتضي القصر والإتمام فغلب الإتمام.
فصل: ولا يجوز القصر حتى ينوي القصر عند الإحرام لأن الأصل التمام فإذا لم ينو القصر انعقد احرامه على التمام فلم يجز له القصر كالمقيم.
فصل: ولا يجوز القصر لمن ائتم بمقيم فإن ائتم به في جزء من صلاته لزمه التمام لأنه اجتمع ما يقتضي القصر والتمام فغلب التمام كما لو أحرم بها في السفر ثم أقام وإن أراد أن يقصر الظهر خلف من يصلي الجمعة لم يجز لأنه مؤتم بمقيم ولأن الجمعة صلاة تامة فهو كما لو ائتم بمن يصلي الظهر تامة فإن لم ينو القصر أو نوى الإتمام او ائتم بمقيم ثم أفسد صلاته لزمه الإتمام لأنه فرض لزمه فلا يسقط عنه بالإفساد كحج التطوع وإن شك هل أحرم بالصلاة في السفر أو في الحضر أو نوى القصر أم لا وهل إمامه مسافر أو مقيم لزمه الإتمام كحج التطوع وإن شك هل أحرم بالصلاة في السفر أو في الحضر أو نوى القصر أم لا أو هل إمامه مسافر أو مقيم لزمه الإتمام لأن الأصل هو التمام والقصر أجيز بشروط فإذا لم تتحقق الشروط رجع إلى الأصل فإن ائتم بمسافر أو بمقيم الظاهر منه أنه مسافر جاز أن ينوي القصر خلفه لأن الظاهر أن الإمام مسافر فإن

(1/194)


أتم الإمام تبعه في الإتمام لأنه بان أنه ائتم بمقيم أو بمن نوى الإتمام وإن أفسد الإمام صلاته وانصرف ولم يعلم المأموم أنه نوى القصر أو الاتمام لزمه أن يتم المنصوص وهو قول أبي إسحاق لأنه شك في عدد الصلاة ومن شك في عدد الصلاة لزمه البناء على اليقين لا على غلبة الظن والدليل عليه أنه إذا شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً بنى على اليقين وهو الثلاث وإن غلب على ظنه أنه صلى أربعاً وحكي عن ابن عباس أنه قال: له أن يقصر لأنه ائتم بمن الظاهر منه أن يقصر.
فصل: قال الشافعي رحمه الله: وإن صلى مسافر بمقيمين فرعف واستخلف مقيماً أتم الراعف فمن أصحابنا من قال هذا على القول القديم أن صلاة الراعف لا تبطل فيكون في حكم المؤتم بمقيم ومن أصحابنا من قال تلزمه على القول الجديد أيضاً لأن المستخلف فرع للراعف فلا يجوز ولا يلزم الأصل وليس بشيء.
فصل: وإن نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج صار مقيماً وانقطعت عنه رخص السفر لأن بالثلاثة لا يصير مقيماً لأن المهاجرين حرم عليهم الإقامة بمكة ثم رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا ثلاثة أيام فقال: يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً وأجلى عمر رضي الله عنه اليهود من الحجاز ثم أذن لمن قدم منهم تاجراً أن يقيم ثلاثاً وأما اليوم الذي يدخل فيه ويخرج فلا يحتسب به لأنه مسافر فيه فإقامته في بعضه لا تمنعه من كونه مسافراً لأنه ما من مسافر إلا ويقيم بعض اليوم ولأن مشقة السفر لا تزول إلا بإقامة يوم فإن نوى إقامة أربعة أيام على حرب ففيه قولان: أحدهما يقصر لما روى أنس رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برام هرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة والثاني لا يقصر لأنه نوى إقامة أربعة أيام لا سفر فيها فلا يقصر كما لو نوى الإقامة في غير حرب وأما إذا أقام في بلد على حاجة إذا تنجزت رحل ولم ينو مدة ففيه قولان: أحدهما يقتصر سبعة عشر يوماً لأن الأصل التمام إلا فيما وردت فيه الرخصة وقد روى ابن عباس رضي الله عنه قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام سبعة عشر يوما يقصر الصلاة وبقي فيما زاد على حكم الأصل والثاني يقصر أبداً لأنها إقامة على تنجز حاجة يرحل بعدها فلم يمنع القصر كالإقامة في سبعة عشر يوماً وخرج أبو إسحاق قولاً ثالثاً إنه يقصر إلى أربعة أيام لأن الإقامة أبلغ من نية الإقامة لأن الإقامة لا يلحقها الفسخ والنية يلحقها الفسخ ثم ثبت أنه لو نوى إقامة أربعة أيام لم يقصر فلأن لا يقصر إذا أقام أولى.

(1/195)


فصل: إذا فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر ففيه قولان: قال في القديم: له أن يقصر لأنها صلاة سفر فكان قضاؤها كأدائها في العدد كما لو فاتته في الحضر فقضاها في السفر وقال في الجديد: لا يجوز له القصر وهو الأصح لأنه تخفيف تعلق في عذر فزال بزوال العذر كالقعود في صلاة المريض وإن فاتته في السفر فقضاها في السفر ففيه قولان: أحدهما لا يقصر لأنه صلاة ردت من أربع إلى ركعتين فكان من شرطها الوقت كصلاة الجمعة والثاني له أن يقصر وهو الأصح لأنه تخفيف يعلق بعذر والعذر باق فكان التخفيف باقياً كالقعود في صلاة المريض وإن فاتته في الحضر صلاة فأراد قضاءها في السفر لم يجز له القصر لأنه ثبت في ذمته صلاة تامة فلم يجز له القصر كما لو نذر أن يصلي أربع ركعات وقال المزني: له أن يقصر كما لو فاته قصر يوم في الحضر فذكره في السفر فإن له أن يفطر وهذا لا يصح لأن الصوم تركه في حال الأداء وقد كان له تركه وههنا في حال الأداء لم يكن له أن يقصر فوازنه من الصوم أن يتركه من غير عذر فلا يجوز له تركه في السفر فأما إذا دخل عليه وقت الصلاة وتمكن من فعلها ثم سافر فإن له أن يقصر وقال المزني: لا يجوز له أن يقصر ووافقه عليه أبو العباس لأن السفر يؤثر في الصلاة كما يؤثر في الحيض ثم لو طرأ الحيض بعد الوجوب والقدرة على فعلها لم يؤثر ذلك كذلك السفر والمذهب الأول لأن الاعتبار في صفة الصلاة بحال الأداء لا يحال الوجوب والدليل عليه أنه لو دخل عليه وقت الظهر وهو عبد فلم يصل حتى عتق صار فرضه الجمعة وهذا في حال الأداء مسافر فوجب أن يقصر ويفارق الحيض لأنه يؤثر في إسقاط الفرض فلو أثر ما طرأ منه بعد القدرة على الأداء أفضى إسقاط الفرض بعد الوجوب والقدرة والسفر يؤثر في العدد فلا يفضي إلى إسقاط الفرض بعد الوجوب ولأن الحائض تفعل القضاء والقضاء يتعلق بالوجوب والقدرة عليه والمسافر يفعل الأداء وكيفية الأداء تعتبر بحال الأداء والأداء في حال السفر وإن سافر بعد ما ضاق الوقت كان له أن يقصر وقال أبو الطيب بن سلمة: لا يقصر لأنه تعينت عليه صلاة حضر فلا يجوز له القصر والمذهب الأول لما زكرناه مع المزني ووأبي عباس وقوله تعينت عليه صلاة حضر يبطل بالعبد إذا عتق في وقت الظهر وإن سافر وقد بقي من الوقت أقل من قدر الصلاة فإن قلنا إنه مؤد لجميع الصلاة جاز القصر وإن قلنا إنه مؤد لما فعل في الوقت قاض لما فعل بعد الوقت لم يجز له القصر.

(1/196)


فصل: يجوز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في السفر الذي تقصر فيه الصلاة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر في السفر وفي السفر الذي لا تقصر فيه صلاة قولان: أحدهما يجوز لأنه سفر يجوز فيه التنفل على الراحلة فجاز فيه الجمع كالسفر الطويل والثاني لا يجوز وهو الأصح لأنه إخراج عبادة عن وقتها فلم يجز في السفر القصير كالفطر في الصوم.
فصل: ويجوز الجمع بينهما في وقت الأولى منهما وفي وقت الثانية غير أنه إن كان نازلاً في وقت الأولى فالأفضل أن يقدم الثانية وإن كان سائراً فالأفضل أن يؤخر الأولى إلى وقت الثانية لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس في المنزل قدم العصر إلى وقت الظهر وجمع بينهما في الزوال وإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر إلى وقت العصر ثم جمع بينهما في وقت العصر ولأن هذا أرفق بالمسافر فكان أفضل وإن أراد الجمع في وقت الأولى لم يجز إلا بثلاثة شروط: أحدهما أن ينوي الجمع وقال المزني يجوز الجمع من غير نية الجمع وهذا خطأ لأنه جمع فلا يجوز من غير نية كالجمع في وقت الثانية ولأن العصر قد يفعل في وقت الظهر على وجه الخطأ فلا بد من نية الجمع ليتميز التقديم المشروع من غيره وفي وقت النية قولان: أحدهما يلزمه أن ينوي عند ابتداء الأولى لأنها نية واجبة للصلاة فلا يجوز تأخيرها عن الإحرام كنية الصلاة ونية القصر والثاني يجوز أن ينوي قبل الفراغ من الأولى وهو الأصح لأن النية تقدمت على حال الجمع فأشبه إذا نوى عند الإحرام والشرط الثاني الترتيب وهو أن يقدم الأولى ثم يصلي الثانية لأن الوقت للأولى وإنما يفعل الثانية تبعاً للأولى فلا بد من تقديم المتبوع والشرط الثالث التتابع وهو أن لا يفرق بينهما والدليل عليه أنهما كالصلاة الواحدة فلا يجوز أن يفرط بينهما كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة فإن فصل بينهما بفصل طويل بطل الجمع وإن فصل بينهما بفصل يسير لم يضر وإن أخر الأولى إلى الثانية لم يصح إلا بالنية لأنه قد يؤخر للجمع وقد يؤخر لغيره فلا بد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره ويجب أن ينوي في وقت الأولى وأما الترتيب فليس بواجب لأن وقت الثانية وقت الأولى فجاز البداية بما شاء منهما وأما التتابع فلا يجب لأن الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة فجاز التفريق بينهما.

(1/197)


فصل: ويجوز الجمع بين الصلاتين في المطر في وقت الأولى منهما لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء جمعاً من غير خوف ولا سفر قال مالك رحمه الله: أرى ذلك في وقت المطر وهل يجوز أن يجمع بينهما في وقت الثانية؟ فيه قولان: قال في الإملاء: يجوز لأنه عذر يجوز الجمع به في وقت الأولى فجاز الجمع في وقت الثانية كالسفر وقال في الأم: لا يجوز لأنه إذا أخر ربما انقطع المطر فجمع من غير عذر.
فصل: فإذا دخل في الظهر من غير مطر ثم جاء المطر لم يجز له الجمع لأن سبب الرخصة حدث بعد الدخول فلم يتعلق به كما لو دخل في صلاة ثم سافر فإن أحرم بالأولى مع المطر ثم انقطع في أثنائها ثم عاد قبل أن يسلم وأدام حتى أحرم بالثانية جاز الجمع لأن العذر موجود في حال الجمع وإن عدم فيما سواها من الأحوال لم يضر لأنه ليس بحال الدخول ولا بحال الجمع.
فصل: ولا يجوز الجمع إلا في مطر يبل الثياب وأما المطر الذي لا يبل الثياب فلا يجوز الجمع لأجله لأنه لا يتأذى به وأما الثلج فإن كان يبل الثياب فهو كالمطر وإن لم يبل الثياب لم يجز الجمع لأجله فأما الوحل والريح والمرض فلا يجوز الجمع لأجلها فإنها قد كانت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه جمع لأجلها وإن كان يصلي في بيته أو في مسجد ليس في طريقه إليه مطر ففيه قولان: قال في القديم: لا يجوز لأنه مشقة عليه في فعل الصلاة في وقتها وقال في الإملاء: يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع في المسجد وبيوت أزواجه إلى المسجد وبجنب المسجد.

(1/198)


باب صلاة الخوف
تجوز صلاة الخوف في قتال الكفار لقوله عز وجل {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:102] وكذلك يجوز في كل قتال مباح كقتال أهل البغي وقتال قطاع الطريق لأنه قتال جائز فهو كقتال الكفار وأما في القتال المحظور كقتال أهل العدل وقتال

(1/198)


أصحاب الأموال لأخذ أموالهم فلا يجوز فيه صلاة الخوف لأن ذلك رحمة وتخفيف فلا يجوز أن يتعلق بالمعاصي وفيه إعانة على المعصية وهذا لا يجوز.
فصل: وإذا أراد الصلاة لم يخل إما أن يكون العدو في جهة القبلة أو في غيرها فإن كان في غير جهة القبلة ولم يأمنوا وفي المسلمين كثرة جعل الإمام الناس طائفتين طائفة في وجه العدو وطائفة تصلي معه ويجوز أن يصلي بالطائفة التي معه جميع الصلاة ثم تخرج إلى وجه العدو ثم تجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم فيكون متنفلاً بالثانية وهم مفترضون والدليل عليه ما روى أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بالذين خلفه ركعتين وبالذين جاؤوا ركعتين فكانت للنبي أربعاً ولهؤلاء ركعتين ويجوز أن يصلي بإحدى الطائفتين بعض الصلاة وبالأخرى البعض وهو أفضل من أن يصلي بكل واحدة منهم جميع الصلاة لأنه أخف فإن كانت الصلاة ركعتين صلى بالطائفة التي معه ركعة ويثبت قائماً وأتمت الطائفة لأنفسهم وتنصرف إلى وجه العدو وتجيء الطائفة الأخرى ويصلي معهم الركعة التي بقيت من صلاته وثبت جالساً وأتمت الطائفة الأخرى ثم يسلم بهم والدليل عليه ما روى صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف فذكر مثل ما قلنا.
فصل: وتفارق الطائفة الأولى الإمام حكماً وفعلاً فإن لحقها سهو بعد المفارقة لم يتحمل عنهم الإمام وإن سها الإمام لم يلزمهم سهوه وهل يقرأ الإمام في انتظاره؟ قال في موضع: إذا جاءت الطائفة الثانية قرأ وقال في موضع: يطيل القراءة حتى تدركه الطائفة الثانية فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما لا يقرأ حتى تجيء الطائفة الثانية فيقرأ معها لأنه قرأ مع الطائفة الأولى قراءة تامة فيجب أن يقرأ مع الثانية أيضاً قراءة تامة والقول الثاني أنه يقرأ وهو الأصح لأن أفعال الصلاة لا تخلو من ذكر والقيام لا يصلح لذكر غير القراءة فوجب أن يقرأ ومن أصحابنا من قال: إذا أراد أن يقرأ سورة قصيرة لم يقرأ حتى لا يفوت القراءة على الطائفة الثانية وإن أراد أن يقرأ سورة طويلة قرأ لأنه لا يفوت عليهم القراءة وحمل القولين على هذين الحالين وأما الطائفة الثانية فإنهم يفارقون الإمام فعلاً ولا يفارقونه حكماً فإن سهوا تحمل عنهم الإمام وإن سها الإمام لزمهم سهوه ومتى يفارقونه؟ قال الشافعي رحمه الله: في سجود السهو يفارقونه بعد

(1/199)


التشهد لأن المسبوق لا يفارق الإمام إلا بعد التشهد وقال في الأم: يفارقونه عقيب السجود في الثانية وهو الأصح لأن ذلك أخف ويفارقون المسبوق لأن المسبوق لا يفارق حتى يسلم الإمام وهذا يفارق قبل التسليم فإذا قلنا بهذا فهل يتشهد الإمام في حال الانتظار؟ فيه طريقان: من جهة أصحابنا من قال فيه قولان كالقراءة ومنم من قال يتشهد قولاً واحداً ويخالف القراءة فإن في القراءة قد قرأ مع الطائفة الأولى فلم يقرأ حتى تدركه الطائفة الثانية فيقرأ معها والتشهد لم يفعله مع الطائفة الأولى فلا ينتظر.
فصل: وإن كانت الصلاة مغرباً صلى بإحدى الطائفتين ركعة وبالأخرى ركعتين وفي الأفضل قولان: قال في الإملاء: الأفضل أن يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين لما روي أن علياً رضي الله عنه صلى ليلة الهرير هكذا وقال في الأم: الأفضل أن يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة وهو الأصح لأن ذلك أخف لأنه تتشهد كل طائفة تشهدين وعلى القول الآخر تتشهد الطائفة الثانية ثلاث تشهدات فإن قلنا بقوله في الإملاء فارقته الطائفة الأولى في القيام في الركعة الثانية لأن ذلك موضع قيامها وإذا قلنا بقوله في الأم فارقته بعد التشهد لأنه موضع تشهدها وكيف ينتظر الإمام الطائفة الثانية؟ فيه قولان: قال في المختصر: ينتظرهم جالساً حتى يدركوا معه القيام من أول الركعة لأنه إذا انتظرهم قائماً فاتهم معه بعض القيام وقال في الأم: إن انتظرهم قائماً فحسن وإن انتظرهم جالساً فجائز فجعل الانتظار قائماً أفضل وهو الأصح لأن القيام أفضل من القعود ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم1".
فصل: وإن كانت الصلاة ظهراً أو عصراً أو عشاء وكان في الحضر صلى بكل طائفة ركعتين وإن جعلهم أربع فرق وصلى بكل طائفة ركعة ففي صلاة الإمام قولان: أحدهما أنها تبطل لأن الرخصة وردت بانتظارين فلا تجوز الزيادة عليهما والثاني أنها لا تبطل
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 157. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 141. النسائي في كتاب الليل باب 20. الموطأ في كتاب الجماعة حديث 20. أحمد في مسنده "2/162، 193".

(1/200)


وهو الأصح لأنه قد يحتاج إلى أربع انتظارات بأن يكون المسلمون أربعمائة والعدو ستمائة فيحتاج أن يقف بإزاء العدو ثلثمائة ويصلي بمائة ولأن الانتظار الثالث والرابع بالقيام والقراءة والجلوس والذكر وذلك لا يبطل الصلاة فإن قلنا إن صلاة الإمام لا تبطل صحت صلاة الطائفة الأخيرة لأنهم لم يفارقوا الإمام والطائفة الأولى والثانية والثالثة فارقوه بغير عذر ومن فارق الإمام بغير عذر ففي بطلان صلاته قولان فإن قلنا إن صلاة الإمام تبطل ففي وقت بطلانها وجهان: قال أبو العباس: تبطل بالانتظار الثالث فتصح صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة وأما الرابعة فإن علموا ببطلان صلاته بطلت صلاتهم وإن لم يعلموا لم تبطل وقال أبو إسحاق: المنصوص أنه تبطل صلاة الإمام بالانتظار الثاني لأن النبي صلى الله عليه وسلم انتظر الطائفة الأولى حتى فرغت ورجعت إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الخرى وانتظر بقدر ما أتمت صلاتها وهذا قد زاد على ذلك لأنه انتظر الطائفة الأولى حتى أتمت صلاتها ومضت إلى وجه العدو وانتظر الثانية حتى أتمت صلاتها ومضت إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الثالثة وهذا زائد على انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا إن علمت الطائفة الثالثة بطلت صلاتهم وإن لم يعلموا لم تبطل.
فصل: وإن كان العدو من ناحية القبلة لا يسترهم عنهم شيء - وفي المسلمين كثرة - صلى بهم صلاة رسول الله بعسفان فيحرم بالطائفتين ويسجد معه الصف الذي يليه فإذا رفعوا سجد الصف الآخر فإذا سجد في الثانية حرس الصف الذي سجد في الأولى وسجد الصف الآخر فإذا رفعوا سجد الصف الآخر لما روى جابر وابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هكذا.
فصل: ولا يحمل في الصلاة سلاحاً نجساً ولا ما يتأذى به الناس من الرمح في وسط الناس وهل يجب حمل ما سواه؟ قال في الأم: يستحب وقال بعده يجب قال أبو إسحاق المروزي فيه قولان: أحدهما يجب لقوله عز وجل {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء:102] فدل على أن عليهم جناحاً إذا وضعوا من غير أذى ولا مرض والثاني لا يجب لأن السلاح إنما يجب حمله للقتال

(1/201)


وهو غير مقاتل في حال الصلاة فلم يجب حمله ومن أصحابنا من قال: إن كان السلاح يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين وجب حمله وإن كان يدفع به عن نفسه وعن غيره كالرمح والسنان لم يجب وحمل القولين على هذين الحالين والصحيح ما قال أبو إسحاق.
فصل: وإن اشتد الخوف ولم يتمكن من تفريق الجيش صلوا رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها لقوله عز وجل {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] قال ابن عمر: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه إذا كان الخوف أكثر من ذلك صلى راكباً وقائماً يومئ إيماء قال الشافعي رحمه الله: ولا بأس أن يضرب الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع أو عمل ما يطول بطلت صلاته وحكى الشيخ أبو حامد الإسفرايني عن أبي العباس رحمهما الله أنه قال: إن لم يكن مضطراً إليه بطلت صلاته وإن كان مضطراً إليه لم تبطل كالمشي وحكى عن بعض أصحابنا أنه قال: إن اضطر إليه فعل ولكن تلزمه الإعادة كما نقول فيمن لم يجد ماء ولا تراباً أنه يصلى ويعيد فإن استفتح الصلاة راكباً ثم أمن فنزل فإن استدبر القبلة في النزول بطلت صلاته لأنه ترك القبلة من غير خوف وإن لم يستدبر قال الشافعي رحمه الله: بنى على صلاته لأنه عمل قليل فلم يمنع البناء وإن استفتحها راجلاً فخاف فركب قال الشافعي: ابتدأ الصلاة وقال أبو العباس: إن لم يكن مضطراً إليه ابتدأ لأنه عمل كثير لا ضرورة به إليه وإن كان مضطراً لم تبطل لأنه مضطر إليه فلم تبطل كالمشي وقول أبي العباس أقيس والأولى أشبه بظاهر النص.
فصل: إذا رأوا سواداً فظنوه عدواً فصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان أنه لم يكن عدواً ففيه قولان: أحدهما تجب الإعادة لأنه فرض فلم يسقط بالخطأ كما لو ظن أنه أتى بفرض ثم علم أنه لم يأت به والثاني لا إعادة عليه وهو الأصح لأن العلة في جواز الصلاة شدة الخوف والعلة موجودة في حال الصلاة فوجب أن يجزئه كما لو رأى عدواً فظن أنهم على قصده فصلى بالإيماء ثم علم أنهم لم يكونوا على قصده فأما إذا رأى العدو فخافهم فصلى صلاة شدة الخوف ثم بان أنه كان بينهم حاجز من خندق أو ماء

(1/202)


ففيه طريقان ومن أصحابنا من قال على قولين كالتي قبلها ومنهم من قال تجب الإعادة ههنا قولاً واحداً لأنه فرط في ترك تأمل المانع فلزمه الإعادة فأما إذا غشيه سيل أو طلبه سبع جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف فإذا أمن لم تلزمه الإعادة قال المزني: قياس قول الشافعي رحمه الله أن الإعادة عليه لأنه عذر نادر والمذهب الأول لأن جنس الخوف معتاد فسقط الفرض بجميعه.

(1/203)


باب ما يكره لبسه وما لا يكره
يحرم على الرجل استعمال الديباج والحرير في اللبس والجلوس وغيرهما لما روى حذيفة قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه وقال: هو لهم في الدنيا ولكم في الآخرة فإن كان بعض الثوب إبريسم وبعضه قطناً فإن كان الإبريسم أكثر لم يحل وإن كان أقل كالخز لحمته صوف وسداه إبريسم حل لما روي عن ابن عباس قال: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير فأما العلم وسدا الثوب فليس به بأس ولأن السرف يظهر بالأكثر دون الأقل وإن كان نصفين ففيه وجهان:
أحدهما أنه يحرم لأنه ليس الغالب الحلال والثاني أنه يحل وهو الأصح لأن التحريم يثبت بغلبة المحرم والمحرم ليس بغالب وإن كان في الثوب قليل من الحرير والديباج كالجبة المكفوفة بالحرير والمجيب بالديباج وما أشبههما لم يحرم ذلك لما روى علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا في موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع وروي أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج فإن كان له جبة محشوة بالإبريسم لم يحرم لبسها لأن السرف فيها غير ظاهر.

(1/203)


فصل: قال في الأم: وإن توقى المحارب لبس الديباج كان أحب إلي فإن لبسه فلا بأس والدليل عليه أنه يحصنه ويمنع من وصول السلاح إليه وإن احتاج إلى لبس الحرير للحكة جاز لنا روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهما في لبس الحرير من الحكة.
فصل: فأما الذهب فلا يحل للرجال استعماله لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحرير والذهب "الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثها1" ولا فرق في الذهب بين القليل والكثير لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التختم بالذهب هذين الخاتم مع قتله ولأن السرف في الجميع ظاهر وإن كان في الثوب ذهب قد صدىء بحيث لا يبين لم يحرم لم يحرم لبسه لأنه ليس فيه سرف ظاهر وإن كان له درع منسوج بالذهب أو بيضة مطلية بالذهب وأراد لبسها في الحرب فإن وجد ما يقوم مقامه لم يجز وإن لم يجد وفاجأته الحرب جاز لأنه موضع ضرورة فإن اضطر إلى استعمال الذهب لما روى أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب ويحل للنساء لبس الحرير ولبس الحلي من الذهب لحديث علي كرم الله وجهه.
فصل: ويجوز أن يلبس دابته وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير لأنه إن كان مدبوغاً فهو طاهر وإن كان غير مدبوغ فالمنع من استعماله للنجاسة ولا تعبد على الدابة والأداة وأما جلد الكلب والخنزير فلا يجوز استعماله في شيء من ذلك لأن الخنزير لا يحل الانتفاغ به والكلب لا يحل إلا لحاجة وهي الصيد وحفظ الماشية والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان2" ولا حاجة إلى الانتفاع بجلده بعد الدباغ فلم يحل وبالله التوفيق.
__________
1رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 10. الترمذي في كتاب اللباس 1. النسائي في كتاب الزينة باب 40. ابن ماجه في كتاب اللباس باب 19.
2 رواه البخاري في كتاب الحدث باب 3. مسلم في كتاب المساقاة حديث 50. الترمذي في كتاب الصيد باب 17. النسائي في كتاب الصيد باب 12. الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 12، 13. أحمد في مسنده "2/4، 8، 37".

(1/204)


باب صلاة الجمعة
صلاة الجمعة واجبة لما روى جابر رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد موتي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً أو جحوداً فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره1"
فصل: ولا تجب الجمعة على صبي ولا مجنون لأنه لا تجب عليهما سائر الصلوات فالجمعة أولى ولا تجب على المرأة لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فعليه الجمعة إلا على امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض" ولأنها تختلط بالرجال وذلك لا يجوز ولا تجب على المسافر للخبر ولأنه مشغول بالسفر وأسبابه فلو أوجبنا عليه انقطع عنه ولا تجب على العبد للخبر ولأنه ينقطع عن خدمة مولاه ولا تجب على المريض للخبر ولأنه يشق عليه القصد وأما الأعمى فإنه إن كان له قائد لزمه وإن لم يكن له قائد لم تلزمه لأنه يخاف الضرر مع عدم القائد ولا تجب على المقيم في موضع لا يسمح النداء من البلد الذي تقام فيه الجمعة أو القرية التي تقام فيها الجمعة لما روى عبد الله ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة على من سمع النداء2" والاعتبار في سماع النداء أن يقف المؤذن في طرف البلد والأصوات هادئة والريح ساكنة وهو مستمع فإذا سمع لزمه وإن لم يسمع لم يلزمه ولا تجب على خائف على نفسه أو ماله لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر قالوا: يا رسول الله وما العذر؟ قال: خوف أو مرض3" ولا تجب على من في طريقه إلى المسجد مطر يبل ثيابه لأنه يتأذى بالقصد ولا تجب على من له مريض يخاف ضياعه لأن حق المسلم آكد من فرض الجمعة ولا تجب على من له قريب أو صهر أو ذو ود يخاف موته لما روي أنه استصرخ على سعيد بن زيد وابن عمر
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 78. الترمذي في كتاب القيامة باب 30.
2 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 206.
3 رواه ابن ماجه في كتاب المساجد باب 17.

(1/205)


يسعى إلى الجمعة فترك الجمعة ومضى إليه وذلك لما بينهما من القرابة فإنه ابن عمه ولأنه يلحقه بفوات ذلك من الألم أكثر مما يلحقه من مرض أو أخذ مال.
فصل: ومن لا جمعة عليه لا تجب عليه وإن حضر الجامع إلا المريض ومن في طريقه مطر لأنه إنما لم تجب عليهم للمشقة وقد زالت بالحضور وإن اتفق يوم عيد ويوم جمعة فحضر أهل السواد فصلوا العيد فجاز أن ينصرفوا ويتركوا الجمعة لما روي أن عثمان رضي الله عنه قال في خطبته: أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم هذا فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليصل ومن أراد أن ينصرف فلينصرف ولم ينكر عليه أحد ولأنهم إذا قعدوا في البلد لم يتهيأوا بالعيد فإن خرجوا ثم رجعوا للجمعة كان عليهم في ذلك مشقة والجمعة تسقط بالمشقة ومن أصحابنا من قال: تجب عليهم الجمعة لأن من لزمته الجمعة في غير يوم عيد وجبت عليه في يوم العيد كأهل البلد والمنصوص في الأم هو الأول.
فصل: ومن لا جمعة عليه مخير بين الظهر والجمعة فإن صلى الجمعة أجزأه عن الظهر لأن الجمعة إنما سقطت عنه لعذر فإن حمل على نفسه وفعل أجزأه كالمريض إذا حمل على نفسه فصلى من قيام وإذا أراد أن يصلي الظهر جاز لأنه فرضه غير أن المستحب أن لا يصلي حتى يعلم ان الجمعة قد فاتت لأنه ربما زال العذر فيصلي الجمعة فإن صلى في أول الوقت ثم زال عذره والوقت باق لم تجب عليه الجمعة وقال أبو بكر بن الحداد المصري: إذا صلى الصبي الظهر ثم بلغ والوقت باق لزمه الجمعة وإن صلى غيره من المعذورين لم تلزمه الجمعة لأن ما صلى الصبي ليس بفرض وما صلى غيره فرض والمذهب الأول لأن الشافعي نص على أن الصبي إذا صلى في غير يوم الجمعة الظهر ثم بلغ والوقت باق لم تجب عليه إعادة الظهر فكذلك الجمعة وإن صلى المعذور الظهر ثم صلى الجمعة سقط الفرض بالظهر وكانت الجمعة نافلة وحكى أبو إسحاق المروزي أنه قال في القديم: يحتسب الله له بأيتهما شاء والصحيح هو الأول وإن أخر المعذور الصلاة حتى فاتت الجمعة صلى الظهر في الجماعة قال الشافعي رحمه الله: وأحب إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين قال أصحابنا: فإن كان عذرهم ظاهراً

(1/206)


لم يكره إظهار الجماعة لأنهم لا يتهمون مع ظهور العذر وأما من تجب عليه الجمعة فلا يجوز أن يصلي الظهر قبل فوات الجمعة فإنه مخاطب بالسعي إلى الجمعة فإن صلى الظهر قبل صلاة الإمام ففيه قولان: قال في القديم: يجزئه لأن الفرض هو الظهر لأنه لو كان الفرض هو الجمعة لوجب قضاؤها كسائر الصلوات وقال في الجديد: لا يجزئه ويلزمه إعادتها وهو الصحيح لأن الفرض هو الجمعة لأنه لو كان الفرض هو الظهر والجمعة بدل عنه لما أثم بترك الجمعة إلى الظهر كما لا يأثم بترك الصوم إلى العتق في الكفارة وقال أبو إسحاق: إن اتفق أهل بلد على فعل الظهر أتموا بترك الجمعة إلا أنه يجزئهم لأن كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة والصحيح أنه لا يجزئهم على قوله الجديد لأنهم صلوا فرض الظهر وفرض الجمعة متوجه عليهم.
فصل: ومن لزمته الجمعة وهو يريد السفر فإن كان يخاف فوت السفر جاز له ترك الجمعة لأنه ينقطع عن الصحبة فينتظر وإن لم يخف الفوت لم يجز أن يسافر بعد الزوال لأن الفرض توجه عليه فلا يجوز تفويته بالسفر وهل يجوز قبل الزوال؟ فيه قولان: أحدهما يجوز لأنه لم تجب عليه فلم يحرم التفويت كبيع المال قبل الحول والثاني لا يجوز وهو الأصح لأنه وقت لوجوب التسبب بدليل أنه من كان داره على بعد لزمه القصد قبل الزوال ووجوب التسبب كوجوب الفعل فإذا لم يجز السفر بعد وجوب الفعل لم يجز بعد وجوب التسبب.
فصل: وأما البيع فينظر فيه فإن كان قبل الزوال لم يكره له وإن كان بعد الزوال وقبل ظهور الإمام كره فإن ظهر الإمام وأذن المؤذن حرم لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] إن تبايع رجلان أحدهما من أهل فرض الجمعة والآخر ليس من أهل الفرض أثما جميعاً لأن أحدهما توجه عليه الفرض وقد اشتغل عنه والآخر شغله عن الفرض ولا يبطل البيع لأن النهي لا يختص بالعقد فلم يمنع الصحة كالصلاة في أرض مغصوبة.
فصل: ولا تصح الجمعة إلا في أبنية مجتمعة يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة في بلد أو قرية لأنه لم تقم الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في أيام الخلفاء إلا في بلد أو قرية ولم ينقل أنها أقيمت في بدو فإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد فصلوا الجمعة لم يجز لأنه ليس بوطن فلم تصح فيه الجمعة كالبدو وإن انهدم البلد فأقام أهله على عمارته فحضرت الجمعة لزمهم إقامتها لأنهم في موضع الاستيطان.
فصل: ولا تصح إلا بأربعين نفساً لما روى جابر رضي الله عنه قال: مضت السنة

(1/207)


أن في كل ثلاثة إماماً وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطراً ومن شرط العدد أن يكونوا رجالاً أحراراً عقلاء مقيمين في الموضع فأما النساء والعبيد والمسافرون فلا تنعقد بهم الجمعة لأنه لا تجب عليهم الجمعة فلا تنعقد بهم كالصبيان وهل تنعقد بمقيمين غير مستوطنين؟ فيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة تنعقد بهم لأنه تلزمهم الجمعة فانعقدت بهم كالمستوطنين وقال أبو إسحاق: لا تنعقد لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى عرفات وكان معه أهل مكة وهم في ذلك الموضع مقيمون غير مستوطنين فلو انعقد بهم الجمعة لأقامها فإن أحرم بالعدد ثم انفضوا عنه ففيه ثلاثة أقوال: أحدها إن نقص العدد عن أربعين لم تصح الجمعة لأنه شرط في الجمعة فشرط في جميعها كالوقت والثاني إن بقي معه اثنان أتم الجمعة لأنهم يصيرون ثلاثة وذلك جمع مطلق فأشبه الأربعين والثالث إن بقي معه واحد أتم الجمعة لأن الاثنين جماعة وخرج المزني رحمه الله قولين آخرين أحدهما: إن بقي وحده جاز أن يتم الجمعة كما قال الشافعي رحمه الله في إمام أحرم بالجمعة ثم أحدث أنهم يتمون صلاتهم وحداناً ركعتين والثاني إن كان قد صلى ركعة ثم انفضوا أتم الجمعة وإن انفضوا قبل الركعة لم يتم الجمعة كما قال في المسبوق: إذا أدرك مع الإمام ركعة أتم الجمعة وإن لم يدرك ركعة أتم الظهر فمن أصحابنا من أثبت القولين وجعل في المسألة خمسة أقوال ومنهم من لم يثبت فقال إذا أحدث الإمام يبنون على صلاتهم لأن الاستخلاف لا يجوز على هذا القول فيبنون على صلاتهم على حكم الجماعة مع الإمام وههنا الإمام لا تتعلق صلاة بصلاة من خلفه وأما المسبوق فإنه يبني على جمعة تمت شروطها وهذه لم تتم جمعة فيبني الإمام عليها.
فصل: ولا تصح الجمعة إلا في وقت الظهر لأنهما فرضا وقت واحد فلم يختلف وقتهما كصلاة السفر وصلاة الحضر فإن خطب قبل دخول الوقت لم تصح لأن الجمعة ردت إلى ركعتين بالخطبة فإذا لم تجز الصلاة قبل الوقت لم تجز الخطبة فإن دخل فيها في وقتها ثم خرج الوقت لم يجز فعل الجمعة لأنه لا يجوز ابتداؤها بعد خروج الوقت فلا يجوز إتمامها كالحج ويتم الظهر لأنه فرض رد من أربع إلى ركعتين بشرط يختص به

(1/208)


فإذا زال الشرط أتم كالمسافر إذا دخل في الصلاة ثم قدم قبل أن يتم وإن أحرم بها في الوقت ثم شك هل خرج الوقت أتم الجمعة لأن الأصل بقاء الوقت وصحة الفرض فلا يبطل الشك وإن ضاق وقت الصلاة ورأى أنه إن خطب خطبتين خفيفتين وصلى ركعتين لم يذهب الوقت لزمهم الجمعة وإذا رأى أنه لا يمكن ذلك صلى الظهر.
فصل: ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولم يصل الجمعة إلا بخطبتين وروى ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما ولأن السلف قالوا: إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة فإذا لم يخطب رجع إلى الأصل ومن شرط الخطبة العدد الذي تنعقد به الجمعة لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] والذكر الذي يفعل بعد النداء هو الخطبة ولأنه ذكر شرط في صحة الجمعة فشرط فيه العدد كتكبيرة الإحرام فإن خطب بالعدد ثم انفضوا وعادوا قبل الإحرام فإن لم يطل الفصل صلى الجمعة لأنه ليس بأكثر من الصلاتين المجموعتين ثم الفصل اليسير لا يمنع الجمع فكذلك لا يمنع الجمع بين الخطبة والصلاة وإن طال الفصل قال الشافعي رحمه الله: أحببت أن يبتديء الخطبة ثم يصلي بعدها الجمعة فإن لم يفعل صلى الظهر واختلف فيه أصحابنا فقال فيه أبو العباس: تجب إعادة الخطبة ثم يصلي بعدها الجمعة لأن الخطبة مع الصلاة كالصلاتين المجموعتين فكما لا يجوز الفصل الطويل بين الصلاتين لم يجز بين الخطبة والصلاة وما نقله المزني لا يعرف وقال أبو إسحاق: يستحب أن يعيد الخطبة لأنه لا يأمن أن ينفضوا مرة أخرى فجعل ذلك عذراً في جواز البناء وأما الصلاة فإنها واجبة لأنه يقدر على فعلها فإن صلى بهم الظهر جاز بناء على أصله إذا اجتمع أهل بلد على ترك الجمعة ثم صلوا الظهر أجزأهم وقال بعض أصحابنا: يستحب إعادة الخطبة والصلاة على ظاهر النص لأنهم انفضوا عنه مرة فلا يأمن أن ينفضوا عنه ثانياً فصار ذلك عذراً في ترك الجمعة ومن شرطهما القيام مع القدرة والفصل بينهما بالجلسة لما روى جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم فيقرأ آيات ويذكر الله عز وجل ولأنه إحدى فرضي الجمعة فوجب فيه القيام والقعود كالصلاة وهل تشترط فيه الطهارة فيه قولان: قال في القديم: تصح من غير طهارة لأنه لو افتقر إلى الطهارة لافتقر إلى استقبال القبلة كالصلاة وقال في الجديد: لا تصح من غير طهارة لأنه ذكر شرط في الجمعة فشرط فيه الطهارة كتكبيرة الإحرام وفرضها أربعة أشياء: أحدها أن يحمد الله تعالى لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1/209)


خطب يوم الجمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه واحمرت وجنتاه كأنه منذر جيش ثم يقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم يقول: "إن أفضل الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي" والثاني أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله عز وجل افتقرت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالأذان والصلاة والثالث الوصية بتقوى الله عز وجل لحديث جابر ولأن القصد من الخطبة الموعظة فلا يجوز الإخلال بها والرابع أن يقرأ آية من القرآن لحديث جابر بن سمرة ولأنه أحد فرضي الجمعة فوجب فيه القراءة كالصلاة ويجب ذكر الله تعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم والوصية في الخطبتين وفي قراءة القرآن وجهان أحدهما أنها تجب في الخطبتين لأن ما وجب في أحد الخطبتين وجب في الأخرى كذكر الله تعالى وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والوصية والثانية لا تجب إلا في إحدى الخطبتين وهو المنصوص لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أنه قرأ في الخطبة وهذا لا يقتضي أكثر من مرة ويستحب أن يقرأ سورة "ق" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في الخطبة فإن قرأ آية وفيها سجدة فنزل وسجد جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثم فعل عمر رضي الله عنه بعده فإن فعل هذا وأطال الفصل ففيه قولان: قال في القديم: يبني وقال في الجديد يستأنف وهل يجب الدعاء؟ فيه وجهان: أحدهما يجب رواه المزني في أقل ما يقع عليه اسم الخطبة ومن أصحابنا من قال يستحب وأما الدعاء للسلطان فلا يستحب لما روي أنه سئل عطاء عن ذلك فقال: إنه محدث وإنما كانت الخطبة تذكيراً.
فصل: وسننها أن تكون على منبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على المنبر ولأنه أبلغ في الإعلام ومن سننها أنه إذا صعد على المنبر ثم أقبل على الناس أن يسلم عليهم لما

(1/210)


روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر يوم الجمعة واستقبل الناس قال السلام عليكم ولأنه استدبر الناس في صعوده فإذا أقبل عليهم يسلم ومن سننها أن يجلس إذا سلم حتى يؤذن المؤذن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم الجمعة جلس يعني على المنبر حتى يسكت المؤذن ثم قام فخطب ويقف على الدرجة التي تلي المستراح لأن ذلك أمكن ويستحب أن يعتمد على قوس أو عصاً لما روى الحكم بن حرب قال: وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه الجمعة فقام متوكئاً على قوس أو عصاً فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ولأن ذلك أمكن له فإن لم يكن معه شيء سكن يديه ومن سننها أن يقبل على الناس ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً لما روى سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطبنا استقبلناه بوجوهنا واستقبلنا بوجهه ويستحب أن يرفع صوته لحديث جابر علا صوته واشتد غضبه ولأنه أبلغ في الإعلام قال الشافعي رحمه الله ويكون كلامه مترسلاً مبيناً معرباً من غير تغن ولا تمطيط لأن ذلك أحسن وأبلغ ويستحب أن يقصر الخطبة لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه خطب وأوجز فقيل له: لو كنت تنفست فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة1".
__________
1 رواه مسلم في كتاب الجمعة حديث 37. الدارمي في كتاب الصلاة باب 199. أحمد في مسنده "4/263".

(1/211)


فصل: والجمعة ركعتان لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى ولأنه نقل الخلف عن السلف والسنة أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الجمعة وفي الثانية المنافقين لما روى عبد الله بن أبي رافع قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة فصلى بالناس الجمعة فقرأ بالجمعة والمنافقين فقلت: يا أبا هريرة قرأت سورتين سمعت علياً قرأهما قال: سمعت حبيبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قرأهما والسنة أن تجهر فيهما بالقراءة لأنه نقل الخلف عن السلف.

(1/212)


باب هيئة الجمعة والتكبير
السنة لمن أراد الجمعة أن يغتسل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل" ووقته ما بعد طلوع الفجر إلى أن يدخل في الصلاة فإن اغتسل قبل طلوع الفجر لم يجزه لقوله صلى الله عليه وسلم: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم1" فعلقه على اليوم والأفضل أن يغتسل عند الرواح لحديث ابن عمر رضي الله عنه ولأنه إنما يراد لقطع الروائح فإذا فعله عند الرواح كان أبلغ في المقصود فإن ترك الغسل جاز لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل2" فإن كان جنباً فنوى بالغسل الجنابة والجمعة أجزأه عنهما كما لو
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 12. كتاب الغسل باب 28. مسلم في كتاب الحيض حديث 87، 88. أبو داود في كتاب الطهارة باب 83. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 111. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 71 – 73. أحمد في مسنده "2/178" "5/115".
2 رواه الترمذي في كتاب الجمعة باب 5. أبو داود في كتاب الطهارة باب 128. النسائي في كتاب الجمعة باب 9. الدارمي في كتاب الصلاة باب 190. أحمد في مسنده "5/8، 11".

(1/212)


اغتسلت المرأة فنوت الجنابة والحيض وإن نوى الجنابة ولم ينوي الجمعة أجزأه عن الجنابة وفي الجمعة قولان: أحدهما يجزئه لأنه يراد للتنظيف وقد حصل ذلك والثاني لا يجزئه لأنه لم ينوه فأشبه إذا اغتسل من غير نية وإن نوى الجمعة ولم ينو الجنابة لم يجزئه عن الجنابة وفي الجمعة وجهان: أحدهما وهو المذهب أنه يجزئه عنها لأنه نواها والثاني لا يجزئه لأن غسل الجمعة يراد للتنظيف والتنظيف لا يحصل مع بقاء الجنابة ويستحب أن يتنظف بسواك وأخذ الظفر والشعر وقطع الروائح ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه لما روى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس من طيب إن كان عنده ولبس أحسن ثيابه وخرج حتى يأتي المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينهما وبين الجمعة1" وأفضل الثياب البياض لما روى سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا الثياب البيض فإنها أطهر وأطيب2" ويستحب للإمام من الزينة أكثر مما يستحب لغيره لأنه يقتدي به والأفضل أن يعتم ويرتدي ببرد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
فصل: ويستحب أن يبكر إلى الجمعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة
__________
1رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 19. مسلم في كتاب الجمعة حديث 7،8. الترمذي في كتاب الجمعة باب 29. أبو داود في كتاب الجمعة باب 127. أحمد في مسنده "1/317".
2 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 13. الترمذي في كتاب الجنائز باب 18. النسائي في كتاب الجنائز 38. أحمد في مسنده "5/10،13".

(1/213)


ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر وطويت الصحف1" وتعتبر الساعات من حين طلوع الفجر لأنه أول اليوم وبه يتعلق جواز الغسل ومن أصحابنا من قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا2" ويستحب أن لا يركب من غير عذر لما روى أوس بن أوس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها3" ولا يشبك
__________
1رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 4. مسلم في كتاب الجمعة حديث 10. أبو داود في كتاب الطهارة باب 127. الترمذي في كتاب الجمعة باب 6. الموطأ في كتاب الجمعة حديث 1.
2 رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 18. مسلم في كتاب المساجد حديث 151 أبو داود في كتاب الصلاة باب 54. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 14. الموطأ في كتاب النداء حديث 4. أحمد في مسنده "2/ 237، 270".
3 رواه النسائي في كتاب الجمعة باب 10، 12. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 80. الدارمي في كتاب الصلاة باب 195. أحمد في مسنده "2/209".

(1/214)


بين أصابعه لقوله صلى الله عليه وسلم "إن أحدكم في الصلاة ما دام يعمد إلى الصلاة1" ويستحب أن يدنو من الإمام لحديث أوس ولا يتخطى رقاب الناس لحديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قال الشافعي رحمه الله: وإذا لم يكن للإمام طريق لم يكره له أن يتخطى رقاب الناس فإن دخل رجل وليس له موضع وبين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بأن يتخطى رجل أو رجلين لم يكره له لأنه يسير وإن كان بين يديه خلق كثير فإذا رجا إذا قاموا إلى الصلاة أن يتقدموا جلس حتى يقوموا وإن لم يرج أن يتقدموا جاز أن يتخطى ليصل إلى الفرجة ولا يجوز أن يقوم رجلاً من موضعه ليجلس فيه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن يقول تفسحوا أو توسعوا2" فإن قام رجل وأجلسه مكانه باختياره جاز له أن يجلس وأما صاحب الموضع فإنه إن كان الموضع الذي ينتقل إليه دون الموضع الذي كان فيه في القرب من الإمام كره له ذلك لأنه آثر غيره في القربة وإن فرش لرجل ثوب فجاء آخر لم يجلس عليه فإن أراد أن ينحيه ويجلس مكانه جاز وإن قام رجل من موضعه لحاجة فجلس رجل مكانه ثم عاد فالمستحب أن يرد الموضع إليه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع فهو أحق3" قال الشافعي رحمه الله: وأحب إذا نعس ووجد موضعاً لا يتخطى فيه غيره أن يتحول لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره "4.
__________
1رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 152. الموطأ في كتاب النداء حديث 4. أحمد في مسنده "2/460، 529".
2 رواه الدارمي في كتاب الاستئذان باب 24. أحمد في مسنده "2/17، 22".
3 رواه مسلم في كتاب السلام حديث 31. أبو داود في كتاب الأدب باب 28. الترمذي في كتاب الأدب باب 10. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 22. أحمد في مسنده "2/ 263".
4 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 233. الترمذي في كتاب الجمعة باب 27. أحمد في مسنده "2/22".

(1/215)


فصل: وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بذكر الله والصلاة ويستحب أن يقرأ يوم الجمعة سورة الكهف لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة" ويكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة لما روى أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي1" ويكثر من الدعاء لأن فيه ساعة يستجاب فيها الدعوة فلعله يصادف ذلك وإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل لما روي عن ثعلبة بن أبي مالك قال: قعود الإمام يقطع السبحة وكلامه يقطع الكلام وأنهم كانوا لا يزالون يتحدثون يوم الجمعة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين فإذا أقيمت الصلاة ونزل عمر تكلموا ولأن النفل في هذه الحالة يمنع الاستماع إلى ابتداء الخطبة فكره فإن دخل رجل والإمام على المنبر صلى تحية المسجد لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين2" فإن دخل والإمام في آخر الخطبة لم يصل لأنه يفوته أول الصلاة مع الإمام وهو فرض فلا يجوز أن يشتغل عنها بالنفل.
فصل: ويجوز الكلام قبل أن يبتدئ الخطبة لما رويناه من حديث ثعلبة بن أبي مالك ويجوز إذا جلس الإمام بين الخطبتين وإذا نزل من المنبر قبل أن يدخل في الصلاة لما روى أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر يوم الجمعة فيقوم معه الرجل فيكلمه في الحاجة ثم ينتهي إلى مصلاه فيصلي ولأنه ليس بحال صلاة ولا حال إسماع فلم يمنع من الكلام وإذا بدأ بالخطبة أنصت لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أنصت لإمام يوم الجمعة حتى يفرغ من صلاته كفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" وهل يجب الإنصات؟ فيه قولان: أحدهما يجب لما روى جابر قال: دخل ابن مسعود والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس إلى أبي فسأله عن شيء فلم يرد عليه فسكت حتى صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن ترد علي؟ فقال: إنك لم تشهد معنا الجمعة قال: ولم؟ قال: لأنك تكلمت والنبي صلى الله عليه وسلم
__________
1أبو داود في كتاب الصلاة 201. النسائي في كتاب الجمعة باب 5. الدارمي في كتاب الصلاة باب 206. أحمد في مسنده "4/8".
2 رواه البخاري في كتاب التهجد باب 25.

(1/216)


يخطب فقام ابن مسعود فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له فقال: "صدق أبي وأطع أبياً" والثاني يستحب وهو الأصح لما روى أنس رضي الله عنه قال: دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يوم الجمعة فقال متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أن اسكت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الثالثة: "ما أعددت لها قال حب الله ورسوله قال: إنك مع من أحببت" فإن رأى رجلاً ضريراً يقع في بئر أو رأى عقرباً تدب إليه لم يحرم عليه كلامه قولاً واحداً لأن الإنذار يجب لحق الآدمي والإنصات لحق الله تعالى ومبناه على المسامحة وإن سلم عليه رجل أو عطس فإن قلنا يستحب الإنصات رد السلام وشمت العاطس وإن قلنا يجب الإنصات لم يرد السلام ولم يشمت العاطس لأن المسلم سلم في غير موضعه فلم يرد عليه وتشميت العاطس سنة فلا يترك له الإنصات الواجب ومن أصحابنا من قال لا يرد السلام لأن المسلم مفرط ويشمت العاطس لأن العاطس غير مفرط في العطس وليس بشيء.
فصل: ومن دخل والإمام في الصلاة أحرم بها فإن أدرك معه الركوع من الثانية فقد أدرك الجمعة فإذا سلم الإمام أضاف إليها أخرى وإن لم يدرك الركوع فقد فاتت الجمعة فإذا سلم الإمام أتم الظهر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى"1.
فصل: فإن زوحم المأموم عن السجود في الجمعة نظرت فإن قدر أن يسجد على ظهر إنسان لزمه أن يسجد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه وقال بعض أصحابنا: فيه قول آخر قاله في القديم أنه بالخيار إن شاء سجد على ظهر إنسان وإن شاء ترك حتى يزول الزحام لأنه إذا سجد حصلت له فضيلة المتابعة وإذا انتظر زوال الزحمة حصلت له فضيلة السجود على الأرض فخير بين الفضيلتين والأول أصح لأن ذلك يبطل بالمريض إذا عجز عن السجود على الأرض فإنه يسجد على حسب حاله ولا يؤخر وإن كان في التأخير فضيلة السجود على الأرض وإن لم يقدر على السجود بحال انتظر حتى يزول الزحام فإن زال الزحام لم يخل إما أن يدرك الإمام قائماً أو راكعاً أو رافعاً من الركوع أو ساجداً فإن أدركه قائماً سجد ثم تبعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك بعسفان للعذر والعذر ههنا موجود
__________
1 رواه مسلم في كتاب الجمعة حديث 26. أبو داود في كتاب الطهارة باب 127. أحمد في مسنده "3/81".

(1/217)


فوجب أن يجوز فإن فرغ من السجود فأدرك الإمام راكعاً في الثانية ففيه وجهان: أحدهما يتبعه في الركوع ولا يقرأ كمن حضر والإمام راكع والثاني يشتغل بما عليه من القراءة لأنه أدرك مع الإمام محل القراءة بخلاف من حضر والإمام راكع.
فصل: فإن زال الزحام فأدرك الإمام رافعاً من الركوع أو ساجداً معه لأن هذا موضع سجوده وحصلت له ركعة ملفقة وهل يدرك بها الجمعة؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يدرك لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى1" وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يدرك لأن الجمعة صلاة كاملة فلا تدرك إلا بركعة كاملة وهذه ركعة ملفقة.
فصل: وإن زال الزحام وأدرك الإمام راكعاً ففيه قولان: أحدهما يشتغل بقضاء ما فاته ثم يركع لأنه شارك الإمام في جزء من الركوع فوجب أن يسجد كما لو زالت الزحمة فأدركه قائماً والثاني يتبع الإمام في الركوع لأنه أدرك الإمام راكعاً فلزمه متابعته كمن دخل في صلاة والإمام فيها راكع فإن قلنا إنه يركع معه نظرت فإن فعل ما قلناه وركع حصل له ركوعان وبأيهما يحتسب؟ فيه قولان: أحدهما يحتسب بالثاني كالمسبوق إذا أدرك الإمام راكعاً فركع معه والثاني يحتسب بالأول لأنه قد صح الأول فلم يبطل بترك ما بعده كما لو ركع ونسي السجود فقام وقرأ وركع ثم سجد فإن قلنا أنه يحتسب بالثاني حصل له مع الإمام ركعة فإذا سلم أضاف إليها أخرى وسلم وإذا قلنا يحتسب بالأول حصل له ركعة ملفقة لأن القيام والقراءة والركوع حصل له من الركعة الأولى وحصل له السجود من الثانية وهل يصير مدركاً للجمعة؟ فيه وجهان قال أبو إسحاق: يكون مدركاً: وقال ابن أبي هريرة: لا يكون مدركاً فإذا قلنا بقول أبي إسحاق أضاف إليها أخرى وسلم وإذا قلنا بقول ابن أبي هريرة قام وصلى ثلاث ركعات وجعلها ظهراً ومن أصحابنا من قال: يجب أن يكون فيه وجهان بناءً على القولين فيمن صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة وهذا قد صلى ركعة من الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة فلزمه أن يستأنف الظهر بعد فراغه وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري الصحيح هو الأول والبناء على القولين لا يصح لأن القولين فيمن صلى الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة من
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الجمعة باب 25. النسائي في كتاب الجمعة باب 25. الموطأ في كتاب الجمعة حديث 13.

(1/218)


غير عذر والمزحوم معذور فلم تجب عليه إعادة الركعة التي صلاها قبل فراغ الإمام ولأن القولين فيمن ترك الجمعة وصلى الظهر منفرداً وهذا قد دخل مع الإمام في الجمعة فلم تجب عليه إعادة ما فعل كما لو أدرك الإمام ساجداً في الركعة الأخيرة فإنه يتابعه ثم يبني الظهر على ذلك الإحرام ولا يلزمه الاستئناف وإن خالف ما قلناه واشتغل بقضاء ما فاته فإن اعتقد أن السجود فرضه لم يعد سجوده لأنه سجد في موضع الركوع ولا تبطل صلاته لأنه زاد فيها زيادة من جنسها جاهلاً فهو كمن زاد في صلاته من جنسها ساهياً وإن اعتقد أن فرضه المتابعة فإن لم ينو مفارقته بطلت صلاته لأنه سجد في موضع الركوع عامداً وإن نوى مفارقة الإمام ففيه قولان: أحدهما تبطل صلاته والثاني لا تبطل ويكون فرضه الظهر وهل يبني أو يستأنف الإحرام بعد فراغ الإمام على القولين في غير المعذور إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام وأما إذا قلنا إن فرضه الاشتغال بما فاته نظرت فإن فعل ما قلناه وأدرك الإمام راكعاً تبعه فيه ويكون مدركاً للركعتين وإن أدركه ساجداً فهو يشتغل بقضاء ما فاته أو يتبعه في السجود فيه وجهان: أحدهما يشتغل بقضاء ما فاته لأن على هذا القول الاشتغال بالقضاء أولى من المتابعة ومنهم من قال يتبعه في السجود وهو الأصح لأن هذه الركعة لم يدرك منها شيئاً يحتسب له به فهو كالمسبوق إن أدرك الإمام ساجداً بخلاف الركعة الأولى فإن هناك أدرك الركوع وما قبله فلزمه أن يفعل ما بعده من السجود فإذا قلنا يسجد كان مدركاً للركعة الأولى إلا أن بعضها أدركه فعلاً وبعضه أدركه حكماً لأنه تابعه إلى السجود ثم انفرد بفعل السجدتين وهل يدرك بهذه الركعة الجمعة؟ على وجهين لأنه إدراك ناقص فهو كالتلفيق في الركعة وإن سلم الإمام قبل أن يسجد المأموم السجدتين لم يكن مدركاً لجمعة قولاً واحداً وهل يستأنف الإحرام أو يبني على ما ذكرناه من الطريقين فإن خالف ما قلناه وتبعه في الركوع فإن كان معتقداً أن فرضه الاشتغال بالسجود بطلت صلاته لأنه ركع في موضع السجود عامداً وإن اعتقد أن فرضه المتابعة لم تبطل صلاته لأنه زاد في الصلاة من جنسها جاهلاً ويحتسب بهذا السجود ويحصل له ركعة ملفقة وهل يصير مدركاً للجمعة على الوجهين وإن زحم عن السجود وزالت الزحمة والإمام قائم في الثانية وقضى ما عليه وأدركه قائماً أو راكعاً فتابعه فلما سجد في الثانية زحم عن السجود فزال الزحام وسجد ورفع رأسه وأدرك الإمام في التشهد فقد أدرك الركعتين بعضهما فعلاً وبعضهما حكماً وهل يكون مدركاً للجمعة على الوجهين وإن ركع مع الإمام الركعة الأولى ثم سها حتى صلى الإمام هذه الركعة وحصل في الركوع في الثانية قال القاضي أبو حامد: يجب أن يكون على قولين

(1/219)


كالزحام ومن أصحابنا من قال يتبعه قولاً واحداً لأنه مفرط في السهو فلم يعذر في الانفراد عن الانفراد عن الإمام وفي الزحام غير مفرط فعذر في الانفراد عن الإمام
فصل: إذا أحدث الإمام في الصلاة ففيه قولان: قال في القديم: لا يستخلف وقال في الجديد: يستخلف وقد بينا وجه القولين في باب صلاة الجماعة فإن قلنا لا يستخلف نظرت فإن أحدث بعد الخطبة وقبل الإحرام لم يجز أن يستخلف لأن الخطبتين مع الركعتين كالصلاة الواحدة فلما لم يجز أن يستخلف في الظهر بعد الركعتين لم يجز أن يستحلف في الجمعة بعد الخطبتين وإن أحدث بعد الإحرام ففيه قولان: أحدهما يتمون الجمعة فرادى لأنه لما لم يجز الاستخلاف بقوا على حكم الجماعة فجاز لهم أن يصلوا فرادى والثاني أنه إذا كان الحدث قبل أن يصلي بهم ركعة صلوا الظهر وإن كان بعد الركعة صلوا ركعة أخرى فرادى كالمسبوق إذا لم يدرك ركعة أتم الظهر وإن أدرك ركعة أتم الجمعة وإن قلنا بقوله الجديد فإن كان الحدث بعد الخطبتين وقبل الإحرام فاستخلف من حضر الخطبة جاز وإن استخلف من لم يحضر الخطبة لم يجز لأن من حضر كمل بالسماع فانعقدت به الجمعة ومن لم يحضر لم يكمل فلم تنعقد به الجمعة ولهذا لو خطب بأربعين فقاموا وصلوا الجمعة جاز ولو حضر أربعون لم يحضروا الخطبة فصلوا الجمعة لم يجز وإن كان الحدث بعد الإحرام فإن كان في الركعة الأولى فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز له لأنه من أهل الجمعة وإن استخلف من لم يكن معه قبل الحدث لم يجز لأنه ليس من أهل الجمعة ولهذا لو صلى بانفراده الجمعة لم تصح وإن كان الحدث في الركعة الثانية فإن كان قبل الركوع فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز وإن استخلف من لم يكن معه قبل الحدث ولم يكن معه قبل الركوع فإن فرضه الظهر وفي جواز الجمعة خلف من يصلي الظهر وجهان: فإن قلنا يجوز جاز أن يستخلفه وإن قلنا لا يجوز لم يجز أن يستخلفه.
فصل: والسنة أن لا تقام الجمعة بغير إذن السلطان فإن فيه افتياتاً عليه فإن أقيمت الجمعة من غير إذنه جاز لما روي أن علياً رضي الله عنه صلى العيد وعثمان رضي الله عنه محصور ولأنه فرض لله تعالى لا يختص بفعل الإمام فلم يفتقر إلى إذنه كسائر العبادات.
فصل: قال الشافعي رحمه الله: ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد والدليل عليه أنه لم يقمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء من بعده في أكثر

(1/220)


من موضع واختلف أصحابنا في بغداد فقال أبو العباس: يجوز في مواضع لأنه بلد عظيم ويشق الاجتماع في موضع واحد وقال أبو الطيب بن سلمة: يجوز في كل جانب جمعة لأنه كالبلدين ولا يجوز أكثر من ذلك وقال بعضهم: كانت قرى متفرقة في كل موضع منها جمعة ثم اتصلت العمارة فبقيت على حكم الأصل.
فصل: وإن عقدت جمعتان في بلد إحداهما قبل الأخرى وعرفت الأولى منها نظرت فإن لم يكن مع واحدة منها إمام أو كان الإمام مع الأولى فالجمعة هي الأولى والثانية باطلة وبأي شيء يعتبر السبق؟ فيه قولان: أحدهما بالفراغ لأنه لا يحكم بصحتها إلا بعد الفراغ منها فوجب أن يعتبر السبق بالفراغ والثاني يعتبر بالإحرام لأنها بالإحرام تنعقد فلا يجوز أن تنعقد بعدها جمعة فإن كان الإمام مع الثانية ففيه قولان: أحدهما أن الجمعة هي الأولى لأنها جمعة أقيمت شروطها فكانت هي الجمعة والثاني أن الجمعة هي الثانية لأن في تصحيح الأولى افتياتاً على الإمام وتفويتاً للجمعة على عامة الناس وإن كانت الجمعتان في وقت واحد من غير إمام بطلتا لأنه ليس إحداهما أولى من الأخرى فوجب إبطالهما كما نقول فيمن جمع بين أختين في عقد واحد وإن لم يعلم هل كانتا في وقت واحد أو في وقتين بطلتا لأنه ليس كونهما في وقت واحد بأولى من تقدم إحداهما على الأخرى فحكم ببطلانهما وإن علم أن إحداهما قبل الأخرى ولم تتعين حكم ببطلانهما لأن كل واجدة من الطائفتين شك في إسقاط الفرض والفرض لا يسقط بالشك وفيما يجب عليهم قولان: أحدهما تلزمهم الجمعة إن كان الوقت باقياً لأن التي تقدمت لما لم تتعين لم يثبت حكمها فصارت كأن لم تكن والثاني يصلون الظهر لأنا تيقنا أن المتقدمة منهما جمعة صحيحة فوجب أن يصلوا الظهر احتياطاً وإن علمت السابقة منهما ثم أشكلت حكم ببطلانهما لأنه لا يمكن التوقف إلى أن تعرف لأنه يؤدي إلى فوات الوقت أو فواتهما بالموت فوجب الحكم ببطلانهما وبالله التوفيق.

(1/221)


باب صلاة العيدين
صلاة العيدين سنة وقال أبو سعيد الاصطخري: هي فرض على الكفاية والمذهب

(1/221)


الأول لما روى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده فقال: هل علي غيرها؟ قال لا إلا أن تطوع1" ولأنها صلاة مؤقتة لا تشرع لها الإقامة فلم تجب بالشرع كصلاة الضحى وإن اتفق أهل بلد على تركها وجب قتالهم على قول الاصطخري وهل يقاتلن على المذهب؟ فيه وجهان: أحدهما لا يقاتلون لأنه تطوع فلا يقاتلون على تركها كسائر التطوع والثاني يقاتلون لأنه من شعائر الإسلام ولأن في تركها تهاوناً بالشرع بخلاف سائر التطوع لأنها تفعل فرادى فلا يظهر تركها كما يظهر في صلاة العيد.
فصل: وقتها ما بين طلوع الشمس إلى أن تزول والأفضل أن يؤخرها حتى ترتفع الشمس قيد رمح والسنة أن يؤخر صلاة الفطر ويعجل الأضحى لما روى عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب أن يقدم الأضحى ويؤخر الفطر ولأن الأفضل أن يخرج صدقة الفطر قبل الصلاة فإذا أخر الصلاة اتبع الوقت لإخراج صدقة الفطر والسنة أن يضحي بعد صلاة الإمام فإذا عجل بادر إلى الأضحية.
فصل: والسنة أن تصلي صلاة العيد في المصلى إذا كان مسجد البلد ضيقاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ولأن الناس يكثرون في صلاة العيد فإذا كان المسجد ضيقاً تأذى الناس فإن كان في الناس ضعفاء استخلف في مسجد البلد من يصلي بهم لما روي أن علياً رضي الله عنه استخلف أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه ليصلي بضعفة الناس في المسجد وإن كان يوم مطر صلى في المسجد لما روي أبو هريرة رضي الله عنه قال: أصابنا مطر في يوم عيد فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وروي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما صليا في المسجد في المطر وإن كان المسجد واسعا فالمسجد أفضل
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 34. مسلم في كتاب الإيمان حديث 8. أبو داود في كتاب الصلاة باب 1. الترمذي في كتاب الزكاة باب 2. الموطأ في كتاب السفر حديث 94. أحمد في مسنده "5/142".

(1/222)


من المصلى لأن الأئمة لم يزالوا يصلون صلاة العيد بمكة في المسجد ولأن المسجد أشرف وأنظف قال الشافعي رحمه الله: فإن كان المسجد واسعاً فصلى في الصحراء فلا بأس وإن كان ضيقاً فصلى فيه ولم يخرج إلى المصلى كرهت لأنه إذا ترك المسجد وصلى في الصحراء لم يكن عليهم ضرر وإذا ترك الصحراء وصلى في المسجد الضيق تأذوا بالزحام وربما فات بعضهم الصلاة فكره.
فصل: والسنة أن يأكل في يوم الفطر قبل الصلاة ويمسك في يوم النحر حتى يفرغ من الصلاة لما روى بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ويوم النحر لا يأكل حتى يرجع فيأكل من لحم نسيكته والسنة أن يأكل التمر ويكون وتراً لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً.
فصل: والسنة أن يغتسل للعيدين لما روي أن علياً وابن عمر رضي الله عنهما كانا يغتسلان ولأنه يوم عيد يجمع فيه الكافة للصلاة فسن فيه الغسل لحضورها كالجمعة وفي وقت الغسل قولان: أحدهما بعد الفجر كغسل الجمعة وروى البويطي أنه يجوز أن يغتسل قبل الفجر لأن الصلاة تقام في أول النهار وتقصدها الناس من البعد فيجوز تقديم الغسل حتى لا يفوتهم فجوز على هذا القول أن يغتسل بعد نصف الليل كما يقول في أذان الصبح ويستحب ذلك لمن يحضر الصلاة ولمن لا يحضر لأن القصد إظهار الزينة والجمال والسنة أن يتنظف بحلق الشعر ويقلم الأظافر وقطع الرائحة لأنه يوم عيد فسن فيه ما ذكرناه كيوم الجمعة والسنة أن يتطيب لما روى الحسن بن علي عليه السلام قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتطيب بأجود ما نجد في العيد.
فصل: والسنة أن يلبس أحسن ثيابه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس في العيدين برد حبرة.
فصل: ويستحب أن يحضر النساء غير ذوات الهيآت لما روت أم عطية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض في العيد فأما الحيض فكن

(1/223)


يعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين وإذا أردنا الحضور تنظفن بالماء ولا يتطيبن ولا يلبسن الشهرة من الثياب لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وليخرجن "تفلات" أي غير عطرات ولأنها إذا تطيبت ولبست الشهرة من الثياب دعا ذلك إلى الفساد قال الشافعي رحمه الله: ويزين الصبيان بالمصبغ والحلي ذكوراً أو إناثاً لأنه يوم زينة وليست على الصبيان تعبد فلا يمنعون من لبس الذهب.
فصل: والسنة أن يبكر إلى الصلاة ليأخذ موضعه كما قلنا في الجمعة والمستحب أن يمشي ولا يركب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة ولا بأس أن يركب في العود لأنه غير قاصد إلى قربة.
فصل: وإذا حضر جاز أن يتنفل إلى أن يخرج الإمام لما روي عن أبي بردة وأنس والحسن وجابر بن زيد أنهم كانوا يصلون يوم العيد قبل خروج الإمام لأنه ليس بوقت منهي عن الصلاة فيه ولا هناك ما هو أهم من الصلاة فلم يمتنع من الصلاة كما بعد العيد والسنة أن لا يخرج الإمام إلا في الوقت الذي يوافي فيه الصلاة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة والسنة أن يمضي إليهما في طريق ويرجع في أخرى لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر الأضحى فيخرج من طريق ويرجع في أخرى.
فصل: ولا يؤذن لها ولا يقام لما روى ابن عباس رضي الله عنه شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم صلوا قبل الخطبة بلا أذان

(1/224)


ولا إقامة والسنة أن ينادي لها الصلاة جامعة لما روي عن الزهري أنه كان ينادي به.
فصل: وصلاة العيد ركعتان لقول عمر رضي الله عنه صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى والسنة أن تصلى جماعة لنقل الخلف عن السلف والسنة أن يكبر في الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام والركوع لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة الصلاة والتكبيرات قبل القراءة لما روى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في الركعة الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً قبل القراءة فإن حضر وقد سبقه الإمام بالتكبيرات أو ببعضها لم يقض لأنه ذكر مسنون فات محله فلم يقضه كدعاء الاستفتاح وقال في القديم: يقضي لأن محله القيام وقد أدركه وليس بشيء والسنة أن يرفع يديه مع كل تكبيرة لما روي أن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في العيد ويستحب أن يقف بين كل تكبيرتين بقدر أن يذكر الله تعالى لما روي أن الوليد بن عقبة خرج يوماً على عبد الله وحذيفة الأشعري وقال: إن هذا العيد غداً فكيف التكبير؟ فقال عبد الله بن مسعود: تكبر وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتكبر وتفعل مثل ذلك فقال الأشعري وحذيفة: صدق والسنة أن يقرأ بعد الفاتحة بقاف واقتربت لما روى أبو واقد الليثي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى ب "ق" "واقتربت الساعة" والسنة أن يجهر فيهما بالقراءة لنقل الخلف عن السلف.
فصل: والسنة إذا فرغ من الصلاة أن يخطب لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبا بكر ثم عمر رضي الله عنهما كانوا يصلون العيد قبل الخطبة والمستحب أن يخطب على المنبر لما روى جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم الأضحى فلما قضى خطبته نزل عن منبره وسلم على الناس إذا أقبل عليهم كما قلنا في الجمعة وهل يجلس قبل الخطبة؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجلس لأن في الجمعة إنما يجلس لفراغ المؤذن من الأذان وليس في العيد أذان والثاني يجلس وهو المنصوص في الأم لأنه يستريح بها ويخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة ويجوز أن يخطب من قعود لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد على راحلته لأن صلاة العيد تجوز قاعداً فكذلك خطبتها بخلاف الجمعة والمستحب أن يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع لما روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه قال:

(1/225)


هو من السنة ويأتي ببقية الخطبة على ما ذكرناه في الجمعة من ذكر الله تعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم والوصية بتقوى الله وقراءة القرآن فإن كان في عيد الفطر علمهم صدقة الفطر وإن كان في الأضحى علمهم الأضحية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته "لا يذبحن أحدكم حتى يصلي1" ويستحب للناس استماع الخطبة لما روي عن ابن مسعود البدري أنه قال: يوم عيد من شهد الصلاة معنا فلا يبرح حتى يشهد الخطبة فإن دخل رجل والإمام يخطب فإن كان في المصلى استمع الخطبة ولا يشتغل بصلاة العيد لأن الخطبة من سنن العيد ويخشى فوتها فكان الاشتغال بالخطبة أولى وإن كان في المسجد ففيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة يصلي تحية المسجد ولا يصلي صلاة العيد لأن الإمام لم يفرغ من سنة العيد فلا يشتغل بالقضاء وقال أبو إسحاق المروزي: يصلي العيد لأنها أهم من تحية المسجد وآكد وإذا صلاها سقط بها التحية فكان الاشتغال بها أولى كما لو حضر وعليه مكتوبة.
فصل: روى المزني أنه تجوز صلاة العيد للمنفرد والمسافر والعبد والمرأة وقال في الإملاء والقديم والصيد والذبائح: لا يصلي العبد حيث لا تصلى الجمعة فمن أصحابنا من قال فيها قولان: أحدهما أنهم لا يصلون لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمنى مسافراً يوم النحر فلم يصل ولأنها صلاة تشرع لها الخطبة واجتماع الكافة لم يفعلها المسافر كالجمعة والثاني أنهم يصلون وهو الصحيح لأنها صلاة نفل فجاز لهم فعلها كصلاة الكسوف ومن أصحابنا من قال: يجوز لهم فعلها قولاً واحداً وتأول ما قال في الإملاء والقديم على أنه أراد أن لا يصلي بالاجتماع والخطبة حيث لا تصلي الجمعة لأن في ذلك افتياتاً على السلطان.
فصل:إذا شهد شاهدان يوم الثلاثين بعد الزوال برؤية الهلال ففيه قولان: أحدهما لا يقضي والثاني يقضي وهو الصحيح فإن أمكن جمع الناس صلى بهم في يومهم فإن لم يمكن صلى بهم من الغد لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومته قالوا: قامت بينة عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد الظهر أنهم رأوا الهلال هلال شوال فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا من الغد إلى المصلى وإن شهد ليلة الحادي والثلاثين صلوا قولاً واحداً ولا يكون ذلك قضاء لأن فطرهم غداً لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
1 رواه البخاري في كتاب العيدين باب 5، 10. مسلم في كتاب الأضاحي حديث 1-4. ابن ماجه في كتاب الأضاحي باب 12. أحمد في مسنده "3/113، 117".

(1/226)


"فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون وعرفتكم يوم تعرفون 1".
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 11. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 9.

(1/227)


باب التكبير
التكبير سنة في العيدين لما روى نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن العباس وعبد الله بن العباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن رضي الله عنهم رافعاً صوته بالتكبير فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى وأول وقت تكبير الفطر إذا غابت الشمس من ليلة الفطر لقوله عز وجل: {ولِتُكْمِلوا العِدّة ولِتُكبِّروا الله على مَا هَدَاكم} "البقرة: 185" إكمال العدة بغروب الشمس من ليلة الفطر وأما آخره ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال: أحدها ما روى المزني أنه يكبر إلى أن يخرج الإمام إلى الصلاة لأنه إذا حضر فالسنة أن يشتغل بالصلاة فلا معنى للتكبير والثاني ما رواه البويطي أنه يكبر حتى تفتتح الصلاة لأن الكلام مباح قبل أن تفتتح الصلاة فكن التكبير مستحباً والثالث قاله في القديم حتى ينصرف الإمام لأن الإمام والمأمومين مشغولون بالذكر إلى أن يفرغوا من الصلاة فسن لمن لم يكن في الصلاة أن يكبر ومن أصحابنا من قال هو على قول واحد أنه يكبر إلى أن تفتتح الصلاة وتأول رواية المزني على ذلك لأنه إذا خرج إلى المصلى افتتح الصلاة وقوله في القديم حتى ينصرف الإمام لأنه ما لم ينصرف مشغول بالتكبير في الصلاة ويسن التكبير المطلق في عيد الفطر وهل يسن التكبير المقيد في أدبار الصلوات؟ فيه وجهان: أحدهما لا يسن لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني أنه يسن لأنه عيد يسن له التكبير المطلق فيسن له التكبير المقيد كالأضحى والسنة في التكبير أن يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً لما روى ابن عباس أنه قال: الله أكبر ثلاثا وعن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: رأيت الأئمة رضي الله عنهم يكبرون أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثاً وعن الحسن مثله قال في الأم: وإن زاد زيادة فليقل بعد الثلاث الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله والله أكبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك على الصفا ويستحب رفع الصوت بالتكبير لما روي أن

(1/227)


النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين رافعاً صوته بالتهليل والتكبير لأنه إذا رفع صوته سمع من لم يكبر فيكبر
فصل: وأما التكبير الأضحى ففي وقته ثلاثة أقوال: أحدهما يبتدأ بعد الظهر من يوم النحر إلى أن يصلي الصبح من آخر أيام التشريق والدليل على أنه يبتدأ بعد الظهر قوله عز وجل {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:200] المناسك تقضى يوم النحر ضحوة وأول صلاة تلقاهم الظهر والدليل على أنه يقطعه بعد الصبح أن الناس تبع للحاج وآخر صلاة يصليها الحاج بمنى صلاة الصبح ثم يخرج والثاني يبتدأ بعد غروب الشمس من ليلة العيد قياساً على عيد الفطر وبقطعه إذا صلى الصبح من آخر أيام التشريق لما ذكرناه والثالث أنه يبتدأ بعد صلاة الصبح من يوم عرفة ويقطعه بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق لما روى عمر وعلي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في دبر كل صلاة بعد صلاة الصبح يوم عرفة إلى بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق.
فصل: السنة أن يكبر في هذه الأيام خلف الفرائض لنقل الخلف عن السلف وهل يكبر خلف النوافل؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال يكبر قولاً واحداً لأنها صلاة راتبة فأشبهت الفرائض ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يكبر لما قلناه والثاني لا يكبر لأن النفل تابع للفرض والتابع لا يكون له تبع ومن فاتته صلاة في هذه الأيام فأراد قضاءها في غيرها لم يكبر خلفها لأن التكبير يختص بهذه الأيام فلا يفعل في غيرها وإن قضاها في هذه الأيام ففيه وجهان: أحدهما يكبر لأن وقت التكبير باق والثاني لا يكبر لأن التكبير خلف هذه الصلوات يختص بوقتها وقد فات الوقت فلم يقض.

(1/228)


باب صلاة الكسوف
وصلاة الكسوف سنة لقوله صلى الله عليه وسلم "إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا

(1/228)


لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل فإذا رأيتموها فقوموا وصلوا1" والسنة أن يغتسل لها لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فيسن لها الغسل كصلاة الجمعة والسنة أن تصلي حيث تصلى الجمعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ولأنه يتفق في وقت لا يمكن قصد المصلي فيه وربما يجلى قبل أن يبلغ المصلي فيفوت فكان الجامع أولى والسنة أن يدعي لها الصلاة جامعة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رجلا أن ينادي الصلاة جامعة.
فصل: وهي ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وسجودان والسنة أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة البقرة أو بقدرها ثم يركع ويسبح بقدر مائة آية ثم يرفع ويقرأ فاتحة الكتاب ويقرأ بقدر مائتي آية ثم يركع ويسبح بقدر تسعين آية ثم يسجد كما يسجد في غيرها وقال أبو العباس: يطيل السجود كما يطيل الركوع وليس بشيء لأن الشافعي رحمه الله لم يذكر ذلك ولا نقل في خبر ولو كان قد أطال لنقل كما نقل في القراءة والركوع ثم يصلي الركعة الثانية فيقرأ بعد الفاتحة قدر مائة آية وخمسين آية ثم يركع بقدر سبعين آية ثم يرفع ويقرأ بعد الفاتحة بقدر مائة آية ثم يركع بقدر خمسين آية ثم يسجد والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال (كسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة ثم ركع ركوعاً طويلاً ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم سجد وانصرف وقد انجلت الشمس) والسنة أن يسر بالقراءة في كسوف الشمس لما روى ابن عباس قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فصلى فقمت إلى جنبه فلم أسمع له قراءة ولأنها صلاة نهار لها نظير بالليل فلم يجهر فيها بالقراءة كالظهر ويجهر في كسوف القمر لأنها صلاة ليل لها نظير بالنهار فيسن لها الجهر كالعشاء.
فصل: والسنة أن يخطب لها بعد الصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم فرغ من صلاته فقام فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: "الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا وتصدقوا2".
__________
1 رواه البخاري في كتاب الكسوف باب 1،6. مسلم في كتاب الكسوف حديث 6، 10. النسائي في كتاب الكسوف باب 1، 4 الدارمي في كتاب الصلاة باب 187.
2 المصدر السابق.

(1/229)


فصل: فإن لم يصل حتى تجلت لم يصل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوا حتى تنجلي" فإن تجلت وهو في الصلاة أتمها لأنها صلاة أصل فلا يخرج منها بخروج وقتها كسائر الصلوات وإن تجللتها غمامة وهي كاسفة صلى لأن الأصل بقاء الكسوف وإن غربت الشمس كاسفة لم يصل لأنه لا سلطان لها بالليل وإن غاب القمر وهو كاسف فإن كان قبل طلوع الفجر صلى لأنه سلطان باق وإن غاب بعد طلوع الفجر ففيه قولان: قال في القديم: لا يصلي لأنه سلطانه بالليل وقد ذهب الليل وقال في الجديد: يصلي لأن سلطانه باق ما لم تطلع الشمس لأنه ينتفع بضوئه وإن صلى ولم تنجل مرة أخرى لأنه لم ينقل ذلك عن أحد ولا تسن صلاة الجماعة لآية غير الكسوف كالزلازل وغيرها لأن هذه الآيات قد كانت ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لها جماعة غير الكسوف.
فصل: وإن اجتمعت صلاة الكسوف مع غيرها قدم أخوفهما فوتاً فإن استويا في الفوت قدم آكدهما فإن اجتمعت مع صلاة الجنازة قدمت صلاة الجنازة لأنها يخشى عليها التغير والانفجار وإن اجتمعت مع المكتوبة في أول الوقت بدأ بصلاة الكسوف لأنه يخاف فوتها بالتجلي وإذا فرغ بدأ بالمكتوبة قبل الخطبة للكسوف لأن المكتوبة يخاف فوتها والخطبة لا يخاف فوتها وإن اجتمعت معها في آخر الوقت بدأ بالمكتوبة لأنهما استويا في خوف الفوت والمكتوبة آكد فكان تقديمها أولى وإن اجتمعت مع الوتر في آخر وقتها قدمت صلاة الكسوف لأنهما استويا في الوقت وصلاة الكسوف آكد فكانت بالتقديم أولى.

(1/230)


باب صلاة الاستسقاء
وصلاة الاستسقاء سنة لما روى عباد بن تميم عن عمه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فصلى ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه واستسقى والسنة أن

(1/230)


يكون في المصلى لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ولأن الجمع يكثر فكان في المصلى أرفق بهم.
فصل: إذا أراد الإمام الخروج إلى الاستسقاء وعظ الناس وأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من المعاصي قبل أن يخرج لأن المظالم والمعاصي تمنع المطر والدليل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله أنه قال: "إذا بخس المكيال حبس القطر" وقال مجاهد في قوله عز وجل {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] قال دواب الأرض تلعنهم تقول تمنع القطر خطاياهم ويأمرهم بصوم ثلاثة أيام قبل الخروج ويخرجون في اليوم الرابع وهم صيام لقوله صلى الله عليه وسلم "دعوة الصائم لا ترد" ويأمرهم بالصدقة لأنه أرجى للإجابة ويستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا فاسقنا فسقوا ويستسقى بأهل الصلاح لما روي أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود فقال: اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا اللهم إنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود يا يزيد إرفع يديك إلى الله عز وجل فرفع يديه ورفع الناس أيديهم فثارت سحابة من المغرب كأنها ترش وهبت لها ريح فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم ويستسقى بالشيوخ والصبيان لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا صبيان رضع وبهائم رتع وعباد لله ركع لصب عليهم العذاب صبا" قال في الأم: ولا آمر بإخراج البهائم وقال أبو إسحاق: استحب إخراج البهائم لعل الله يرحمهما لما روي أن سليمان عليه السلام خرج يستسقي فرأى نملة تستسقي فقال ارجعوا فإن الله تعالى سقاكم بغيركم ويكره إخرج الكفار للاستسقاء لأنهم أعداء الله فلا يجوز أن يتوسل بهم إليه فإن حضروا وتميزوا لم يمنعوا لأنهم جاؤوا في طلب الرزق والمستحب أن يتنظف للاستسقاء بغسل وسواك لأنها صلاة يسن لها الاجتماع

(1/231)


والخطبة فيشرع لها الغسل كصلاة الجمعة ولا يستحب أن يتطيب لها لأن الطيب للزينة وليس هذا وقت زينة ويخرج متواضعاً متبذلاً لما روى ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً متضرعاً ولا يؤذن لها ولا يقام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا والمستحب أن ينادي لها الصلاة جامعة لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة ولا يسن لها الأذان والإقامة فيسن لها الصلاة جامعة كصلاة الكسوف.
فصل: وصلاته ركعتان كصلاة العيد ومن أصحابنا من قال: يقرأ في الأولى بقاف وفي الثانية سورة نوح لأنها فيها ذكر الاستسقاء والمذهب أنه يقرأ فيها ما يقرأ في العيد لما روي أن مروان أرسل إلى ابن عباس سأله عن سنة الاستسقاء فقال: سنة الاستسقاء الصلاة في العيدين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب رداءه فجعل يمينه يساره ويساره يمينه وصلى ركعتين فكبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ سبح اسم ربك وقرأ في الثانية هل أتاك حديث الغاشية وكبر خمس تكبيرات والسنة أن يخطب لها بعد الصلاة لحديث أبي هريرة والمستحب أن يدعو في الخطبة الأولى فيقول: أللهم اسقنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً غدقاً مجللاً طبقاً سحاً عاماً دائماً أللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين أللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكو إلا إليك أللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا

(1/232)


من بركات السماء وأنبت لنا من بركات الأرض أللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك أللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل الماء علينا مدراراً والمستحب أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويحول ما على الأيمن إلى الأيسر وما على الأيسر إلى الأيمن لما روى عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة ودعا وحول رداءه فجعل الأيمن على اليسر والأيسر على الأيمن فإن كان الرداء مربعاً نكسه فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وإن كان مدوراً اقتصر على التحويل لما روى عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه ويستحب للناس أن يفعلوا مثل ذلك لما روي في حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول رداءه وقلب ظهر البطن وحول الناس معه قال الشافعي رحمه الله: وإذا حولوا أرديتهم تركوها محولة لينزعوها مع الثياب لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم غيرها بعد التحويل ويستحب أن يدعو في الخطبة الثانية سراً ليجمع في الدعاء بين الجهر والإسرار ليكون أبلغ ولهذا قال الله تعالى {إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:9] ويستحب أن يرفع اليد في الدعاء لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ويستحب أن يكثر من الاستغفار ومن قوله تعالى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [هود:52] لما روى الشعبي أن عمر رضي الله عنه خرج يستسقي فصعد المنبر فقال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ

(1/233)


غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:12] {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} ثم نزل فقيل له يا أمير المؤمنين لو استسقيت فقال: لقد طلبت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر.
فصل: قال في الأم: فإن صلوا ولم يسقوا عادوا من الغد وصلوا واستسقوا فإن سقوا قبل أن يصلوا صلوا شكراً لله وطلباً للزيادة ويجوز الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة لحديث عمر رضي الله عنه ويستحب لأهل الخصب أن يدعوا لأهل الجدب ويستحب إذا جاء المطر أن يقول أللهم صيباً هنيئاً لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال ذلك ويستحب أن يتمطر لأول مطر لما روى أنس قال: أصابنا مطر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابه المطر فقلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم صنعت هذا؟ قال "إنه حديث عهد بربه" ويستحب إذا سال الوادي أن يغتسل فيه ويتوضأ لما روي أنه جرى الوادي فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اخرجوا بنا إلى هذا الذي سماه الله طهوراً حتى نتوضأ منه ونحمد الله عليه" ويستحب لمن سمع الرعد أن يسبح لما روى ابن عباس قال: كنا مع عمر رضي الله عنه في سفر فأصابنا رعد وبرق وبرد فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثاً عوفي من ذلك الرعد فقلنا فعوفينا.

(1/234)