المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الصيام
مدخل
...
كتاب الصيام
صوم شهر رمضان ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان1".
فصل: ويتحتم وجوب ذلك على كل مسلم بالغ عاقل طاهر قادر مقيم فأما الكافر
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 1، 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 19 -22. الترمذي في كتاب الإيمان باب 3. النسائي في كتاب الإيمان باب 13.

(1/324)


فإنه إن كان أصلياً لم يخاطب به في حال كفره لأنه لا يصح منه وإن أسلم لم يجب عليه القضاء لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] ولأن في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيراً عن الإسلام وإن كان مرتداً لم يخاطب به في حال الردة لا لأنه لا يصح منه وإن أسلم وجب عليه قضاء ما تركه في حال الكفر لأنه التزم ذلك فلم يسقط ذلك بالردة كحقوق الآدميين.
فصل: وأما الصبي فلا تجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق1" ويؤمر بفعله لسبع سنين إذا أطاق الصوم ويضرب على تركه لعشر قياساً عن الصلاة فإن بلغ لم يجب عليه قضاء ما تركه في حال الصغر لأنه لو وجب عليه ذلك لوجب عليه أداؤه في الصغر لأنه يقدر على فعله ولأن أيام الصغر تطول فلو أوجبنا عليه قضاء ما يفوت لشق.
ومن زال عقله بجنون لم يجب عليه الصوم لقوله صلى اله عليه وسلم "وعن المجنون حتى يفيق" فإن أفاق لم يجب عليه قضاء ما فاته في حال الجنون لأنه صوم فات في حال يسقط فيه التكليف لنقص فلم يجب قضاؤه كما لو فات في حال الصغر وإن زال عقله بالإغماء لم يجب عليه في الحال لأنه لا يصح منه فإن أفاق وجب عليه القضاء لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] والإغماء مرض ويخالف الجنون فإن نقص ولهذا لا يجوز الجنون على الأنبياء ويجوز عليهم الإغماء فإن أسلم الكافر أو أفاق المجنون في أثناء يوم من رمضان استحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يلزمهم ذلك لأن المجنون أفطر لعذر والكافر وإن أفطر بغير عذر إلا أنه لما أسلم جعل كالمعذور فيما فعل في حال الكفر ولهذا لا يؤاخذ بقضاء ما تركه ولا بضمان بما أتلفه ولهذا قال الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] ولا يأكل عند من لا يعرف عذره لأنه إذا تظاهر بالأكل عرض نفسه للتهمة
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 17. أحمد في مسنده "1/116".

(1/325)


وعقوبة السلطان وهل يجب عليه قضاء ذلك اليوم أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما يجب لأنه أدرك جزءاً من وقت الفرض ولا يمكن فعل ذلك الجزء من الصوم إلا بيوم فوجب أن يقضيه بيوم كامل كما نقول في المحرم إذا وجب عليه في كفارة نصف مد فإنه يجب بقسطه صوم نصف يوم ولكن لما لم يمكن فعل ذلك إلا بيوم وجب عليه صوم يوم والثاني لا يجب ـ وهو المنصوص في البويطي ـ لأنه لم يدرك من الوقت ما يمكن الصوم فيه لأن الليل يدركه قبل التمام فلم يلزمه كمن أدرك من أول وقت الصلاة قدر الركعة ثم جن فإن بلغ الصبي في أثناء يوم من رمضان نظرت فإن كان مفطراً فهو كالكافر إذا أسلم والمجنون إذا أفاق في جميع ما ذكرناه وإن كان صائماً ففيه وجهان: أحدهما يستحب له إتمامه لأنه صوم نقل فاستجب إتمامه ويجب قضاؤه لأنه لم ينو به الفرض من أوله فوجب قضاؤه والثاني أنه يلزمه إتمامه ويستحب قضاؤه لأنه صار من أهل الوجوب في أثناء العبادة فلزمه إتمامها كما لو دخل في صوم التطوع ثم نذر إتمامه.
فصل: وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما الصوم لأنه لا يصح منهما فإذا طهرتا وجب عليهما القضاء لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت في الحيض كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة فوجب القضاء على الحائض بالخبر وقسنا النفساء عليها لأنها في معناها فإن طهرت في أثناء النهار استحب لها أن تمسك بقية النهار ولا يجب لما ذكرنه في الصبي إذا بلغ والمجنون إذا أفاق.
فصل: ومن لا يقدر على الصوم بحال وهو الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم والمريض الذي لا يرجى برؤه فإنه لا يجب عليهما الصوم لقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وفي الفدية قولان: أحدهما لا تجب لأنه أسقط عنهما فرض الصوم فلم تجب عليهما الفدية كالصبي والمجنون والثاني يجب عن كل يوم مد طعام وهو الصحيح لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: الشيخ الكبير يطعم عن كل يوم مسكيناً وعن أبي هريرة أنه قال: من أدركه الكبر فلم يستطع صوم رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا ضعفت عن الصوم أطعم عن كل يوم مداً وروي أن أنساً ضعف عن الصوم عاماً قبل وفاته فأفطر وأطعم وإن لم يقدر على الصوم لمرض يخاف زيادته ويرجو البرء لم يجب عليه الصوم للآية فإن برئ وجب عليه القضاء لقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ

(1/326)


فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وإن أصبح صائماً وهو صحيح ثم مرض أفطر لأنه أبيح له الفطر للضرورة والضرورة موجودة فجاز له الفطر.
فصل: فأما المسافر إن كان سفره دون أربعة برد لم يجز له أن يفطر لأنه إسقاط فرض للسفر فلا يجوز فيما دون أربعة برد كالقصر وإن كان سفره في معصية لم يجز له أن يفطر لأن ذلك إعانة على المعصية وإن كان سفره أربع برد في غير معصية فله أن يصوم وله أن يفطر لما روت عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو والأسلمي قال يا رسول الله أصوم في السفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" فإن كان ممن لا يجهده الصوم في السفر فالأفضل أن يصوم لما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال للصائم في السفر إن أفطرت فرخصة وإن صمت فهو أفضل وعن عثمان بن أبي العاص أنه قال: الصوم أحب إلي ولأنه إذا أفطر عرض الصوم للنسيان وحوادث الزمان فكان الصوم أفضل وإن كان يجهده الصوم فالأفضل أن يفطر لما روى جابر رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل تحت شجرة يرش عليه الماء فقال: ما بال هذا قالوا: صائم يا رسول الله فقال: "ليس من البر الصيام في السفر1" فإن صام المسافر ثم أراد أن يفطر فله أن يفطر لأن العذر قائم فجاز له أن يفطر كما لو صام المريض ثم أراد أن يفطر ويحتمل عندي أنه لا يجوز له أن يفطر في ذلك اليوم لأنه دخل في فرض المقيم فلا يجوز له أن يترخص برخص المسافر كما لو دخل في الصلاة بنية الإتمام ثم أراد أن يقصر ومن أصبح في الحضر صائماً ثم سافر لم يجز له أن يفطر في ذلك اليوم وقال المزني: له أن يفطر كما لو أصبح الصبح صائماً ثم مرض فله أن يفطر والمذهب الأول والدليل عليه أنه عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا بدأ بها في الحضر ثم سافر لم يثبت له رخصة السفر كما لو دخل في الصلاة في الحضر ثم سافر في أثنائها ويخالف المريض فإن ذلك مضطر إلى الإفطار والمسافر مختار وإن قدم المسافر وهو مفطر أو برء المريض وهو مفطر استحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يجب ذلك لأنهما أفطرا لعذر ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما لخوف التهمة والعقوبة وإن قدم
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصيام باب 36. مسلم في كتاب الصيام حديث 93. أبو داود في كتاب الصيام باب 43. النسائي في كتاب الصيام باب 46. الدارمي في كتاب الصوم باب 15. أحمد في مسنده "4/299، 319".

(1/327)


المسافر وهو صائم أو بريء المريض وهو صائم فهل لهما أن يفطرا؟ فيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة: يجوز لهما الإفطار لأنه أبيح لهما الفطر من أول النهار ظاهراً وباطناً فجاز لهما الإفطار في بقية النهار كما لو دام السفر والمرض وقال أبو إسحاق: لا يجوز لهما الإفطار لأنه زال سبب الرخصة قبل الترخص فلم يجز الترخص كما لو قدم المسافر وهو في الصلاة فإنه لا يجوز له القصر.
فصل: وإن خافت الحامل أو المرضع على أنفسهما من الصوم أفطرتا وعليهما القضاء دون الكفارة لأنهما أفطرتا للخوف على أنفسهما فوجب عليهما القضاء دون الكفارة كالمريض وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء بدلاً عن الصوم وفي الكفارة ثلاثة أقوال: قال في الأم: يجب عن كل يوم مد من طعام وهو الصحيح لقوله عز وجل {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} "البقرة: 184" قال ابن عباس رضي الله عنه: نسخت هذه الآية وبقيت الرخصة للشيخ الكبير والعجوز والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم مسكيناً والثاني أن الكفارة مستحبة غير واجبة - وهو قول المزني - لأنه إفطار لعذر فلم تجب به الكفارة كإفطار المريض والثالث أنه يجب على المريض دون الحامل لأن الحامل أفطرت لمعنى فيها كالمريض والمرضع أفطرت لمنفصل عنها فوجبت عليها الكفارة.
فصل: ولا يجب صوم رمضان إلا برؤية الهلال فإن غم عليهم وجب عليهم استكمال شعبان ثلاثين يوماً ثم يصومون لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً1" فإن أصبحوا في يوم الثلاثين وهم يظنون أنه من شعبان فقامت البينة أنه من رمضان لزمهم قضاؤه لأنه بان أنه من رمضان وهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه قولان: أحدهما لا يلزمهم لأنهم أفطروا لعذر فلم يلزمهم إمساك بقية النهار كالحائض إذا طهرت والمسافر إذا قدم والثاني يلزمهم لأنه أبيح لهم الفطر بشرط أنه من شعبان وقد بان أنه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 5،11. مسلم في كتاب الصوم حديث 6- 9 الترمذي في كتاب الصوم باب 2. النسائي في كتاب الصوم باب 17 الموطأ في كتاب الصيام حديث 1-3. أحمد في مسنده "2/5،13" "3/229".

(1/328)


من رمضان فلزمهم الإمساك فإن رأوا الهلال بالنهار فهو لليلة المستقبلة لما روى سفيان بن سلمة قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بخانقين أن الأهلة بعضهما أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس وإن رأوا الهلال في بلد ولم يروه في بلد آخر فإن كانا بلدين متقاربين وجب على أهل البلدين الصوم وإن كانا بلدين متباعدين وجب على من رأى ولا يجب على من لم ير لما روى كريب قال: قدمت الشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة فقال عبد الله بن عباس: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة فقال: أنت رأيت؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا أو صام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة أو نراه قلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية؟ قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل: وفي الشهادة التي يثبت بها رؤية هلال شهر رمضان قولان: قال في البويطي: لا تقبل إلا من عدلين لما روى الحسين بن حريث الجدلي جديلة قيس قال: خطبنا أمير مكة الحرث بن خاطب فقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرأيته فإن لم نره فهذان شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما وقال في القديم والجديد: يقبل من عدل واحد وهو الصحيح لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالصيام ولأنه إيجاب عبادة فقبل من واحد احتياطاً للفرض فإن قلنا يقبل من واحد فهل من العبد والمرأة؟ فيه وجهان: أحدهما يقبل لأن ما قبل فيه قول الواحد قبل من العبد والمرأة كأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1/329)


والثاني لا يقبل وهو الصحيح لأن طريقها طريق الشهادة بدليل أنه لا تقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل فلم يقبل من العبد والمرأة كسائر الشهادات ولا يقبل في هلال الفطر إلا شاهدان لأنه إسقاط فرض فاعتبر فيه العدد احتياطاً للفرض فإن شهد واحد على رؤية هلال رمضان فقبل قوله وصاموا ثلاثين يوماً وتغيمت السماء ففيه وجهان: أحدهما أنهم لا يفطرون لأنه إفطار بشاهد واحد والثاني أنهم يفطرون وهو المنصوص في الأم لأنه بينة ثبت بها الصوم فجاز الإفطار باستكمال العدد منها كالشاهدين وقوله إن هذا إفطار بشاهد لا يصح لأنه الذي ثبت بالشاهد هو الصوم والفطر ثبت على سبيل التبع وذلك يجوز كما تقول إن النسب لا يثبت بقول أربع نسوة ثم لو شهد أربع نسوة بالولادة ثبتت الولادة وثبت النسب على سبيل التبع للولادة وإن شهد اثنان على رؤية هلال رمضان فصاموا ثلاثين يوماً والسماء مصحية فلم يروا الهلال ففيه وجهان: قال أبو بكر بن الحداد: لا يفطرون لأن عدم الهلال مع الصحو يقين والحكم بالشاهدين ظن واليقين يقدم على الظن وقال أكثر أصحابنا: يفطرون لأن شهادة اثنين يثبت بها الصوم والفطر فوجب أن يثبت بها الفطر وإن غم عليهم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من شهر رمضان ففيه وجهان: قال أبو العباس: يلزمه الصوم لأنه عرف الشهر بدليل فأشبه إذا عرف بالبينة والثاني أنه لا يصوم لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية ومن رأى هلال رمضان وحده صام وإن رأى هلال شوال وحده أفطر وحده لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" ويفطر لرؤية هلال شوال سراً لأنه إذا أظهر الفطر عرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان.
فصل: وإن اشتبهت الشهور على أسير لزمه أن يتحرى ويصوم كما يلزمه أن يتحرى في وقت الصلاة وفي القبلة فإن تحرى وصام فوافق الشهر أو ما بعده أجزأه فإن وافق شهراً بالهلال ناقصاً وشهر رمضان الذي صامه الناس كان تاماً ففيه وجهان: أحدهما يجزئه وهو اختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله - لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين ولهذا لو نذر صوم شهر فصام شهراً ناقصاً بالأهلة أجزأه والثاني أنه يجب عليه

(1/330)


صوم يوم - وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله - وهو الصحيح عندي لأنه فاته صوم ثلاثين يوماً وقد صام تسعة وعشرين يوماً فلزمه صوم يوم وإن وافق صومه شهر أقبل رمضان قال الشافعي رحمه الله: لا يجزئه ولو قال قائل يجزئه كان مذهباً قال أبو إسحاق المروزي لا يجزئه قولاً واحداً وقال سائر أصحابنا: فيه قولان: أحدهما يجزئه لأنه عبادة تفعل في السنة مرة فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ كالوقوف بعرفة إذا أخطأ الناس ووقفوا قبل يوم عرفة والثاني لا يجزئه وهو الصحيح لأنه تعين له تيقن الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء فلم يعتد بما فعله كما لو تحرى في وقت الصلاة فصلى قبل الوقت.
فصل: ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" ولأنه عبادة محضة فلم يصح من غير نية كالصلاة وتجب النية لكل يوم لأن صوم كل يوم عبادة منفردة يدخل وقتها بطلوع الفجر ويخرج وقتها بغروب الشمس ولا يفسد بفساد ما قبله ولا بفساد ما بعده فلم تكفه نية واحدة كالصلاة ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصوم الواجب إلا بنية من الليل لما روت حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له1" وهل تجوز نية مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان: من أصحابنا من قال يجوز لأنه عبادة فجاز بنية تقارن ابتداءها كسائر العبادات وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز إلا بنية من الليل لحديث حفصة رضي الله عنها ولأن أول وقت الصوم يخفى فوجب تقديم النية عليه بخلاف سائر العبادات فإذا قلنا بهذا فهل تجوز النية في جميع الليل؟ فيه وجهان: من أصحابنا من قال لا يجوز إلا في النصف الثاني قياساً على أذان الصبح والدفع من المزدلفة وقال أكثر أصحابنا تجوز في جميع الليل لحديث حفصة ولأنا لو أوجبنا النية في النصف الثاني ضاق ذلك على الناس وشق فإن نوى بالليل ثم أكل أو جامع لم تبطل نيته وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: تبطل لأن الأكل ينافي الصوم فأبطل النية والمذهب الأول وقيل إن أبا إسحاق رجع عن ذلك والدليل عليه أن الله تعالى أحل
__________
1 رواه النسائي في كتاب الصيام باب 68. الدارمي في كتاب الصوم باب 10.

(1/331)


الأكل إلى طلوع الفجر فلو كان الأكل يبطل النية لما جاز أن يأكل إلى الفجر لأنه يبطل النية.
فصل: وأما صوم التطوع فإنه يجوز بنية قبل الزوال وقال المزني: لا يجوز إلا بنية من الليل كالفرض والدليل على جوازه ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أصبح عندكم اليوم شيء تطعموناه يا عائشة فقالت: لا فقال: إني إذاً صائم" ويخالف الفرض لأن النفل أخف من الفرض والدليل عليه أنه يجوز ترك القيام واستقبال القبلة في النفل مع القدرة ولا يجوز في الفرض وهل تجوز نيته بعد الزوال؟ فيه قولان: روى حرملة أنه يجوز لأنه جزء من النهار فجازت نية النفل فيه كالنصف الول وقال في القديم والجديد لا تجوز لأن النية لم تصحب معظم العبادة فأشبه إذا نوى مع غروب الشمس ويخالف النصف الأول لأن النية هناك صحبت معظم العبادة ومعظم الشيء يجوز أن يقوم مقام الجميع ولهذا لو أدرك معظم الركعة مع الإمام جعل مدركاً للركعة ولو أدرك دون المعظم لم يجعل مدركاً لها فإن صام التطوع بنية من النهار فهل يكون صائماً من أول النهار أو من وقت النية؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق يكون صائماً من وقت النية لأن ما قبل النية لم توجد فيه قصد القربة فلم يجعل صائماً فيه وقال أكثر أصحابنا إنه صائم من أول النهار لأنه لو كان صائماً من وقت النية لم يضره الأكل قبله.
فصل: ولا يصح صوم رمضان إلا بتعيين النية وهو أن ينوي أنه صائم من رمضان لأنه فريضة وهو قربة مضافة إلى وقتها فوجب تعيين الوقت في نيتها كصلاة الظهر والعصر وهل يفتقر إلى نية الفرض؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق يلزمه أن ينوي صوم فرض رمضان لأن صوم رمضان قد يكون نفلاً في حق الصبي فيفتقر إلى نية الفرض لتميزه من صوم الصبي وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يفتقر إلى ذلك لأن رمضان في حق البالغ لا يكون إلا فرضاً فلا يفتقر إلى تعيين الفرض فإن نوى في ليلة الثلاثين من شعبان فقال: إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان أو عن تطوع وكان من رمضان لم يصح لعلتين: إحداهما أنه لم يخلص النية لرمضان والثاني أن الأصل أنه من شعبان فلم تصح نية رمضان ولأنه شك في دخول وقت العبادة فلم تصح نيته كما لو شك في دخول وقت الصلاة وإن قال إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان وإن لم يكن من رمضان فأنا صائم عن تطوع لم يصح لعلة واحدة وهو أن الأصل أنه من شعبان فلا يصح

(1/332)


بنية الفرض فإن قال ليلة الثلاثين من رمضان إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان أو مفطر وكان من رمضان لم يصح صومه لأنه لم يخلص النية للصوم فإن قال إن كان غد من رمضان وإن لم يكن فأنا مفطر وكان من رمضان صح صومه لأنه أخلص النية للفرض وبنى عن الأصل لأن الأصل أنه من رمضان ومن دخل في الصوم ونوى الخروج منه بطل الصوم لأن النية شرط في جميعه فإذا قطعها في أثنائه بقي الباقي بغير نية فبطل وإذا بطل البعض بطل الجميع لأنه لا ينفرد بعضه عن بعض ومن أصحابنا من قال لا تبطل لأنه عبادة تتعلق الكفارة بجنسها فلم تبطل بنية الخروج كالحج والأول أظهر لأن الحج لا يخرج منه بما يفسده والصوم يخرج منه بما يفسده فكان كالصلاة.
فصل: ويدخل في الصوم بطلوع الفجر ويخرج بغروب الشمس لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقبل الليل من هنا وأدبر النهار من هنا وغابت الشمس من ههنا فقد أفطر الصائم" ويجوز أن يأكل ويشرب ويباشر إلى طلوع الفجر لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} "البقرة187" فإن جامع قبل طلوع الفجر وأصبح وهو جنب وجاز صومه لأنه لما أذن في المباشرة إلى طلوع الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يجوز أن يصبح صائماً وهو جنب وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم فإن طلع الفجر وفيه طعام فأكله أو كان مجامعاً فاستدام بطل صومه وإن لفظ الطعام أو أخرج مع طلوع الفجر لم يصح صومه لأن الجماع إيلاج وإخراج وإن بطل بالإيلاج بطل بالإخراج والدليل على أنه يصح صومه هو أن الإخراج ترك الجماع وما علق على فعل شيء لا يتعلق بتركه كما لو حلف أن لا يلبس هذا الثوب وهو عليه فبدأ بنزعه لم يحنث وإن أكل وهو يشك في طلوع الفجر صح صومه لأن الأصل بقاء الليل وإن أكل وهو يشك في غروب الشمس لم يصح صومه لأن الأصل بقاء النهار.
فصل: ويحرم على الصائم الأكل والشرب لقوله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} "البقرة 187" وإن أكل أو شرب وهو ذاكر للصوم عالم بالتحيم مختار بطل صومه لأنه فعل ما

(1/333)


ينافي الصوم من غير عذر فبطل فإذا استعط أو صب الماء في أذنه فوصل إلى دماغه بطل صومه لما روى لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استنشقت فبالغ في الوضوء إلى أن تكون صائماًً1" فدل على أنه إذا وصل إلى الدماغ شيء بطل صومه ولأن الدماغ أحد الجوفين فبطل الصوم بالواصل إليه كالبطن وإن احتقن بطل صومه لأنه إذا بطل بما يصل إلى الدماغ لسعوط فلأن يبطل بما يصل إلى الجوف بالحقنة أولى وإن كانت به جائفة أو آمة فداواها فوصل الدواء إلى الجوف أو الدماغ أو طعن نفسه أوطعنه غيره بإذنه فوصلت الطعنة إلى جوفه بطل صومه لما ذكرناه في السعوط أو الحقنة وإن زرق في إحليله شيئاً أو دخل فيه ميلاً ففيه وجهان: أحدهما يبطل صومه لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه فتعلق بالواصل إليه كالفم والثاني أنه لا يبطل لأنه ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف فهو بمنزلة ما لو ترك في فيه شيئاً.
فصل: ولا فرق بين أن يأكل ما يؤكل أو ما لا يؤكل فان استف تراباً وابتلع حصاة أو درهماً أو ديناراً بطل صومه لأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف وهذا ما أمسك ولهذا يقال: فلان يأكل الطين ويأكل الحجر ولأنه إذا بطل الصوم بما يصل إلى الجوف مما ليس يؤكل كالسعوط والحقنة وجب أيضاً أن يبطل بما يصل مما ليس بمأكول وإن قلع ما بقي بين أسنانه بلسانه وابتلعه بطل صومه وإن جمع في فيه ريقاً كثيراً فابتلعه ففيه وجهان: أحدهما أنه يبطل صومه لأنه ابتلع ما يمكنه الاحتراز منه مما لا حاجة به إليه فأشبه إذا قلع ما بين أسنانه وابتلعه والثاني لا يبطل لأنه
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 68. أبو داود في كتاب الطهارة باب 56. النسائي في كتاب الطهارة باب 70. أحمد في مسنده "4/33.

(1/334)


وصل إلى جوفه من معدنه فأشبه ما يبتلعه من ريقه على عادته فإن أخرج البلغم من صدره ثم ابتلعه أو جذبه من رأسه ثم ابتلعه بطل صومه وإن استقاء بطل صومه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه1" ولأن القيء إذا صعد ثم تردد فرجع بعضه إلى الجوف فيصير كطعام ابتلعه.
فصل: ويحرم عليه المباشرة في الفرج لقوله عز وجل {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] إلى قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فإن باشرها في الفرج بطل صومه لأنه أحد ما ينافي الصوم فهو كالأكل وإن باشرها فيما دون الفرج فأنزل أو قبل فأنزل بطل صومه وإن لم ينزل لم يبطل صومه لما روى جابر قال: قبلت وأنا صائم ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قبلت وأنا الصائم؟ فقال: "أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم"؟ فشبه القبلة بالمضمضة وقد ثبت إذا تمضمض فوصل الماء إلى جوفه أفطر وإن لم يصل لم يفطر فدل على أن القبلة مثلها وإن جامع قبل طلوع الفجر فأخرج مع الطلوع وأنزل لم يبطل صومه لأن الإنزال تولد من مباشرة وهو مضطر إليها فلم يبطل الصوم وإن نظر وتلذذ فأنزل لم يبطل صومه لأنه إنزال من غير مباشرة فلم يبطل الصوم كما لو نام فاحتلم وإن استمنى فأنزل بطل صومه لأنه إنزال عن مباشرة فهو كالإنزال عن القبلة ولأن الاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية في الإثم والتعزير فكذلك في الإفطار.
فصل: وإن فعل ذلك كله ناسياً لم يبطل صومه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل ناسياً أو شرب ناسياً فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله تعالى2" فنص على الأكل والشرب وقسنا عليهما كل ما يبطل الصوم من الجماع وغيره فإن فعل ذلك وهو جاهل بتحريمه لم يبطل صومه لأنه يجهل تحريمه فهو كالناسي وإن فعل ذلك به بغير اختياره بأن أوجر الطعام في حلقه مكرهاً لم يبطل صومه وإن شد امرأته ووطئها وهي مكرهة لم يبطل صومها وإن استدخلت المرأة ذكر رجل وهو نائم لم يبطل صومه لحديت أبي هريرة رضي الله عنه ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه فدل على أن كل ما حصل بغير اختياره لم يجب به القضاء ولأن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 33. الترمذي في كتاب الصوم باب 24. الدارمي في كتاب الصيام باب 25. الموطأ في كتاب الصيام حديث 47. أحمد في مسنده "2/ 498".
2 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 15. الترمذي في كتاب الصوم باب 26. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 15 أحمد في مسنده "2/489، 491".

(1/335)


أضاف أكل الناسي إلى الله تعالى فأسقط به القضاء فدل على أن كل ما حصل بغير فعله لا يوجب القضاء وإن أكره حتى أكل بنفسه أو أكرهت المرأة حتى مكنت من الوطء فوطئها ففيه قولان: أحدهما يبطل الصوم لأنه فعل ما ينافي الصوم لدفع الضرر وهو ذاكر للصوم فبطل صومه كما لو أكل لخوف المرض أو شرب لدفع العطش والثاني لا يبطل لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره فأشبه إذا أوجر في حلقه وإن تمضمض أو استنشق فوصل الماء إلى جوفه أو دماغه فقد نص فيه على قولين: فمن أصحابنا من قال القولان إذا لم يبالغ فأما إذا بالغ بطل صومه قولاً واحداً وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة "إذا استنشقت فبالغ في الوضوء إلا أن تكون صائماً" فنهاه عن المبالغة فلو لم يكن وصول الماء في المبالغة يبطل الصوم لم يكن للنهي عن المبالغة معنى ولأن المبالغة منهي عنها في الصوم وما تولد من سبب منهي عنه فهو كالمباشرة والدليل عليه أنه إذا جرح إنساناً فمات جعل كأنه باشر قتله ومن أصحابنا من قال: هي على قولين بالغ أو يبالغ أحدهما أنه يبطل صومه لقوله صلى الله عليه وسلم لمن قبل وهو صائم: "أرأيت لو تمضمضت" فشبه القبلة بالمضمضة وإذا قبل وأنزل بطل صومه فكذلك إذا تمضمض فنزل الماء إلى جوفه وجب أن يبطل صومه والثاني لا يبطل لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره فلم يبطل صومه كغبار الطريق وغربلة الدقيق وإن أكل أو جامع وهو يظن أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع أو يظن أن الشمس قد غربت ولم تكن غربت لزمه القضاء لما روى حنظلة قال: كنا في المدينة في شهر رمضان وفي السماء شيء من السحاب فظننا أن الشمس قد غربت فأفطر بعض الناس فأمر عمر رضي الله عنه من كان أفطر أن يصوم يوماً مكانه ولأنه مفرط لأنه كان يمكنه أن يمسك إلى أن يعلم فلم يعذر.
فصل: ومن أفطر في رمضان بغير جماع من غير عذر وجب عليه القضاء لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استقاء فعليه القضاء1" ولأن الله تعالى أوجب القضاء على المريض والمسافر مع وجود العذر فلأن يجب مع عدم العذر أولى ويجب عليه إمساك بقية النهار لأنه أفطر بغير عذر فلزمه إمساك بقية النهار ولا تجب عليه الكفارة لأن الأصل
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 32. الترمذي في كتاب الصوم باب 25. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 16. الدارمي في كتاب الصيام باب 25. أحمد في مسنده "2/498".

(1/336)


عدم الكفارة إلا فيما ورد به الشرع وقد ورد الشرع بإيجاب الكفارة في الجماع وما سواه ليس في معناه لأن الجماع أغلظ ولهذا يجب به الحد في ملك الغير ولا يجب فيما سواه فبقي على الأصل وإن بلغ ذلك السلطان عذره لأنه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فثبت فيه التعزيز كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية.
فصل: وإن أفطر بالجماع من غير عذر وجب عليه القضاء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي واقع أهله في رمضان بقضائه ولأنه إذا وجب فالقضاء على المريض والمسافر وهما معذوران فعلى المجامع أولى ويجب عليه إمساك بقية النهار لأنه أفطر بغير عذر وفي الكفارة ثلاثة أقوال: أحدها يجب على الرجل دون المرأة لأنه حق مال يختص بالجماع فاختص به الرجل دون المرأة كالمهر والثاني يجب على كل واحد منهما كفارة لأنه عقوبة تتعلق بالجماع فاستوى فيها الرجل والمرأة كحد الزنا والثالث يجب عليه عنه وعنها كفارة لأن الأعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل مشترك بينه وبينها فأوجب عتق رقبة فدل على أن ذلك عنه وعنها.
فصل: والكفارة عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي وقع على امرأته في يوم من شهر رمضان أن يعتق رقبة قال لا أجد قال: صم شهرين متتابعين قال: لا أستطيع قال: اطعم ستين مسكيناً قال: لا أجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعاً قال: خذه وتصدق به قال: على أفقر من أهلي؟ والله ما بين لابتي المدينة أحوج من أهلي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال: خذه واستغفر الله تعالى وأطعم أهلك1" فإن قلنا يجب على كل واحد منهما كفارة اعتبر حال كل واحد منهما بنفسه فمن كان من أهل العتق أعتق ومن كان من أهل الصوم صام ومن كان من أهل الإطعام أطعم كرجلين أفطرا بالجماع فإن قلنا يجب عليه كفارة عنه وعنها اعتبر حالهما فإن كانا من أهل العتق أعتق وإن كانا من أهل الإطعام أطعم وإن كانا من أهل الصيام وجب على كل واحد منهما صوم شهرين متتابعين لأن الصوم لا يتحمل وإن اختلف حالهما نظرت فإن كان الرجل من أهل العتق وهي من أهل الصوم
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 30، 31. مسلم في كتاب الصيام حديث 81. أبو داود في كتاب الصوم باب 37. الترمذي في كتاب الصوم باب 28. أحمد في مسنده "2/208".

(1/337)


أعتق رقبة ويجزئ عنهما لأن من فرضه الصوم إذا أعتق أجزأه وكان ذلك أفضل من الصوم وإن كان من أهل الصوم وهي من أهل الإطعام لزمه أن يصوم شهرين ويطعم عنها ستين مسكيناً لأن النيابة تصح في الإطعام وإنما أوجبنا كفارتين لأن الكفارة لا تتبعض فوجب تكميل نصف كل واحدة منهما وإن كان الرجل من أهل الصوم وهي من أهل العتق صام عن نفسه شهرين وأعتق عنها رقبة وإن كان من أهل الإطعام وهي من أهل الصوم أطعم عن نفسه ولم يصم عنها لأن الصوم لا تدخله النيابة وإن كانت المرأة أمة وقلنا إن الأمة لا تملك المال فهي من أهل الصوم ولا يجزئ عنها عتق فإن قلنا إنها تملك المال أجزأ عنها العتق كالحرة والمعسرة وإن قدم الرجل من السفر وهو مفطر وهي صائمة فقالت أنا مفطرة فوطئها فإن قلنا إن الكفارة عليه لم يلزمه ولم يلزمها وإن قلنا إن الكفارة عنه وعنها وجب عليها الكفارة في مالها لأنها غرته بقولها إني مفطرة وإن أخبرته بصومها فوطئها وهي مطاوعة فإن قلنا إن الكفارة عنه دونها لم يجب عليه شيء وإن قلنا إن الكفارة عنه وعنها لزمه أن يكفر عنها إن كانت من أهل العتق أو الإطعام وإن كانت من أهل الصيام لزمها أن تصوم وإن وطئ المجنون زوجته وهي صائمة مختارة فإن قلنا إن الكفارة عنه دونها لم تجب وإن قلنا تجب عنه وعنها فهل يتحمل الزوج؟ فيه وجهان: قال أبو العباس لا يتحمل لا فعل له وقال أبو إسحاق يتحمل لأنها وجبت بوطئه والوطء كالجناية وجناية المجنون مضمونة في ماله وإن كان الزوج نائماً فاستدخلت المرأة ذكره فإن قلنا الكفارة عنه دونها فلا شيء عليه وإن قلنا عنهما لم يلزمه كفارة لأنه لم يفطر ويجب عليها أن تكفر ولا يتحمل الزوج لأنه لم يكن من جهته فعل وإن زنى بها في رمضان فإن قلنا إن الكفارة عنه دونها وجبت عليه كفارة وإن قلنا عنه وعنها وجب عليهما كفارتان ولا يتحمل الرجل كفارتهما لأن الكفارة إنما تتحمل بالملك ولا ملك ههنا.
فصل: وإن جامع في يومين أو في أيام لكل يوم كفارة لأن صوم كل يوم عبادة منفردة فلم تتداخل كفاراتها كالعمرتين وإن جامع في يوم مرتين لم يلزمه للثاني كفارة لأن الجماع الثاني لم يصادف صوماً وإن رأى هلال رمضان ورد الحاكم شهادته

(1/338)


فصام وجامع وجبت عليه الكفارة لأنه أفطر في شهر رمضان بالجماع من غير عذر فأشبه إذا قبل الحاكم شهادته وإن طلع الفجر وهو مجامع فاستدام مع العلم بالفجر وجبت عليه الكفارة لأنه منع صحة يوم من رمضان بجماع من غير عذر فوجبت عليه الكفارة كما لو وطئ في أثناء النهار وإن جامع وعنده أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع أو أن الشمس قد غربت ولم تكن غربت لم تجب الكفارة لأنه جامع وهو معتقد أنه يحل له ذلك وكفارة الصوم عقوبة تجب مع المأثم فلا تجب مع اعتقاد الإباحة كالحد وإن أكل ناسياً فظن أنه أفطر بذلك ثم جامع عامداً فالمنصوص في الصيام أنه لا تجب الكفارة لأنه وطئ وهو معتقد أنه غير صائم فأشبه إذا وطئ وعنده أنه ليل ثم بان أنه كان نهاراً وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري: يحتمل عندي أن تجب الكفارة لأن الذي ظنه لا يبيح الوطء بخلاف ما لو جامع وهو يظن أن الشمس قد غربت لأن الذي ظن هناك يبيح له الوطء وإن أفطر بالجماع وهو مريض أو مسافر لم تجب الكفارة لأنه يحل له الفطر فلا تجب الكفارة مع إباحة الفطر وإن أصبح المقيم صائماً ثم سافر وجامع وجبت عليه الكفارة لأن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم فكان وجوده كعدمه وإن أصبح صائماً ثم مرض وجامع لم تجب الكفارة لأن المرض يبيح له الفطر في هذا اليوم وإن جامع ثم سافر لم تسقط عنه الكفارة لأن السفر لا يبيح له الفطر في يومه فلا يسقط ما وجب فيه من الكفارة وإن جامع ثم مرض أو جن ففيه قولان: أحدهما أنه لا تسقط عنه الكفارة لأنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلا يسقط الكفارة السفر والثاني يسقط لأن اليوم يرتبط بعضه ببعض فإذا خرج جزؤه عن أن يكون صائماً فيه أو عن أن يكون الصوم فيه مستحقاً خرج أوله عن أن يكون صوماً أو مستحقاً فيكون جماعه في يوم فطر أو في يوم صوم غير مستحق فلا تجب به الكفارة.
فصل: ووطء المرأة في الدبر واللواط كالوطء في الفرج في جميع ما ذكرناه من إفساد الصوم ووجوب الكفارة والقضاء لأن الجميع وطء ولأن الجميع في إيجاب الحد واحد فكذلك في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة كالجماع في الفرج وإن قلنا يجب فيه التعزير لم يفسد الصوم ولم تجب به الكفارة لأنه كالوطء فيما دون الفرج في التعزير فكان مثله في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة ومن أصحابنا من قال يفسد الصوم ويوجب الكفارة قولاً واحداً لأنه وطء يوجب الغسل فجاز أن يتعلق به إفساد الصوم وإيجاب الكفارة كوطء المرأة.
فصل: ومن وطئ وطأ يوجب الكفارة ولم يقدر على الكفارة فيه قولان: أحدهما

(1/339)


لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "خذه واستغفر الله وأطعم أهلك" ولنه حق مالي يجب لله تعالى لا على وجه البدل فلم يجب مع العجز كزكاة الفطر والثاني أنها تثبت في الذمة فإذا قدر لزمه أداؤها وهو الصحيح لأنه حق لله تعالى يجب بسبب من جهته فلم يسقط بالعجز كجزاء الصيد.
فصل: إذا نوى الصوم من الليل ثم أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه وعليه القضاء وقال المزني: يصح صومه كما لو نوى الصوم ثم نام جميع النهار والدليل على أن الصوم لا يصح أن الصوم نية وترك ثم لو انفرد الترك عن النية لم يصح فإذا انفردت النية عن الترك لم يصح وأما النوم فإن أبا سعيد الاصطخري قال: إذا نام جميع النهار لم يصح صومه كما لا يصح إذا أغمي عليه جميع النهار والمذهب أنه يصح صومه إذا نام والفرق بينه وبين الإغماء أن النائم ثابت العقل لأنه إذا نبه انتبه والمغمى عليه بخلافه ولأن النائم كالمستيقظ ولهذا ولايته ثابتة على ماله بخلاف المغمى عليه وإن نوى الصوم ثم أغمي عليه في بعض النهار فقد قال في كتاب الظهار ومختصر البويطي: إذا كان في أوله مفيقاً صح صومه وقال في كتاب الصوم: إذا أفاق في بعضه أجزأه وقال في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: إذا كانت صائمة فأغمي عليها أو حاضت بطل صومها وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه إن كان مفيقاً في طرفي النهار صح صومه فمن أصحابنا من قال المسألة على قول واحد أنه يعتبر أن يكون مفيقاً في أول النهار وتأول ما سواه من الأقوال على هذا ومن أصحابنا من قال فيه أربعة أقوال: أحدها إنه يعتبر الإفاقة في أوله كالنية تعتبر في أوله والثاني تعتبر الإفاقة في طرفيه كما أن في الصلاة يعتبر القصد في الطرفين في الدخول والخروج ولا يعتبر فيما بينهما والثالث أنه تعتبر الإفاقة في جميعه فإذا أغمي عليه في بعضه لم يصح صومه لأنه معنى إذا طرأ أسقط فرض الصلاة فأبطل الصوم كالحيض والرابع أنه تعتبر الإفاقة في جزء منه ولا أعرف له وجهاً وإن نوى الصوم ثم جن ففيه قولان: قال في الجديد يبطل الصوم لأنه عارض يسقط فرض الصلاة فأبطل الصوم كالحيض وقال في القديم هو كالإغماء لأنه يزيل العقل والولاية فهو كالإغماء.
فصل: ويجوز للصائم أن ينزل إلى الماء ويغطس فيه لما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: حدثني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صائف يصب الماء على رأسه من شدة الحر والعطش وهو صائم ويجوز أن يكتحل لما روي عن أنس

(1/340)


رضي الله عنه أنه كان يكتحل وهو صائم ولأن العين ليس بمنفذ فلم يبطل الصوم بما وصل إليها ويجوز أن يحتجب لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم قال في الأم: ولو ترك كان أحب إلي لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والوصال في الصوم إيقاء على أصحابه قال: وأكره له العلك لأنه يجفف الفم ويعطش ولا يفطر لأنه يدور في الفم ولا ينزل إلى الجوف منه شيء وإن تفرك وتفتت فوصل إلى الجوف منه شيء بطل الصوم ويكره له أن يمضغ الخبز فإن كان له ولد صغير ولم يكن له من يمضغ له غيره لم يكره له ذلك ومن حركت القبلة شهوته كره له أن يقبل وهو صائم والكراهة كراهية تحريم وإن لم تكن تحرك القبلة شهوته قال الشافعي رحمه الله: فلا بأس به وتركها أولى والأصل في ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها: قالت: كان رسول صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه أرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب ولأن في حق أحدهما لا يؤمن أن ينزل فيفسد الصوم وفي الآخر يؤمن ففرق بينهما.
فصل: وينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم فإن شوتم فليقل إني صائم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم1".
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 2. مسلم في كتاب حديث 120. أبو داود في كتاب الصوم باب 29. الموطأ في كتاب الصيام حديث 57. أحمد في مسنده "2/245، 465".

(1/341)


فصل: ويكره الوصال في الصوم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والوصال إياكم والوصال" قالوا: إنك تواصل يا رسول الله قال: "إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني1" وهل هو كراهية تنزيه أو تحريم؟ فيه وجهان: أحدهما أنه كراهة تحريم لأن النهي يقتضي التحريم والثاني أنه كراهية تنزيه لأنه إنما نهي عنه حتى لا يضعف عن الصوم وذلك أمر غير متحقق فلم يتعلق به إثم فإن واصل لم يبطل صومه لأن النهي لا يرجع إلى الصوم فلا يوجب بطلانه.
فصل: والمستحب أن يتسحر للصوم لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تسحروا فإن بالسحور بركة2" ولأن فيه معونة على الصوم ويستحب تأخير السحور لما روي أنه قيل لعائشة رضي الله عنها أن عبد الله يعجل الفطر وتؤخر السحور فقالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ولأن السحور يراد ليتقوى به على الصوم فكان التأخير أبلغ في ذلك وأولى ويستحب أن يعجل الفطر إذا يتحقق غروب الشمس لحديث عائشة رضي الله عنها الله عنها ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر3" لأن اليهود والنصارى يؤخرون والمستحب أن يفطر على تمر فإن لم يجد فعلى الماء روى سلمان بن عامر قال: قال
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصيام باب 49. مسلم في كتاب الصيام حديث 58. الدارمي في كتاب الصيام باب 14. الموطأ في كتاب الصيام حديث 38. أحمد في مسنده "2/231".
2 رواه النسائي في كتاب الصيام باب 18. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 22. الدارمي في كتاب الصوم باب 9. أحمد في مسنده "2/377" "3/32".
3 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 20. أحمد في مسنده "2/450".

(1/342)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور1" والمستحب أن يقول عند إفطاره: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صام أو أفطر قال: "أللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت2" ويستحب أن يفطر الصائم لما روى زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فطر صائماً فله مثل أجره ولا ينقص من أجر الصائم شيء3".
فصل: إذا كان عليه قضاء أيام من رمضان ولم يكن له عذر لم يجز له أن يؤخر إلى أن يدخل رمضان آخر فإن أخره حتى أدركه رمضان آخر وجب عليه لكل يوم مد من طعام لما روي عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا فيمن عليه صوم فلم يصمه حتى أدركه رمضان يطعم عن الأول فإن أخر سنين ففيه وجهان: أحدهما يجب لكل سنة مد لأنه تأخير سنة فأشبه السنة الأولى والثاني لا يجب للثانية شيء لأن القضاء القضاء مؤقت فيما بين رمضانين فإذا أخر عن السنة الأولى فقد أخره عن وقته فوجبت الكفارة وهذا المعنى لا يوجد فيما بعد السنة الأولى فلم يجب للتأخير كفارة والمستحب أن يقضي ما عليه متتابعاً لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه" ولأن فيه مبادرة إلى أداء الفرض ولأن هذا أشبه بالأداء فإن قضاه متفرقاً جاز لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ولم يفرق ولأنه تتابع وجب لأجل الوقت فسقط بفوات الوقت فإن كان عليه قضاء اليوم الأول فصام ونوى به اليوم الثاني فإنه محتمل أن يجزئه لأن تعيين اليوم غير واجب ويحتمل أن لا يجزئه لأنه نوى غير ما عليه فلم يجزه كما لو كان عليه عتق عن اليمين فنوى العتق عن الظهار.
فصل: إذا كان عليه قضاء شيء من رمضان فلم يصم حتى مات نظرت فإما أخره لعذر اتصل حتى مات لم يجب عليه شيء لأنه فرض لم يتمكن منه إلى الموت فسقط حكمه كالحج وإن زال العذر وتمكن فلم يصم شيء حتى مات أطعم عنه لكل مسكين مد من طعام ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر أنه يصام عنه لما روت عائشة رضي الله عنها
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 21. الترمذي في كتاب الزكاة باب 26. النسائي في كتاب الصيام باب 28. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 25. أحمد في مسنده "4/17، 18".
2 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 22.
3 رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 82. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 45. الدارمي في كتاب الصوم باب 13. أحمد في مسنده "4/114، 116".

(1/343)


أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صوم رمضان صام عنه وليه1" ولأنها عبادة لا يدخلها النيابة في حال الحياة فلا يدخلها النيابة بعد الموت كالصلاة فإن قلنا إنه يصام عنه فصام عنه وليه أجزأه وإن أمر أجنبياً فصام عنه بأجرة أو بغير أجرة أجزأه كالحج وإن قلنا يطعم عنه نظرت فإن مات قبل أن يدركه رمضان آخر أطعم عنه عن كل يوم مسكين وإن مات بعد أن أدركه رمضان آخر ففيه وجهان: أحدهما يلزمه مدان مد للصوم ومد للتأخير والثاني أنه يكفيه مد واحد للتأخير لأنه إذا أخرج مداً للتأخير زال التفريط بالمد فيصير كما لو أخره من غير تفريط فلا تلزمه كفارة.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 42. مسلم في كتاب الصيام حديث 153. أبو داود في كتاب الصوم باب 41. أحمد في مسنده "6/69".

(1/344)


باب صوم التطوع والأيام التي نهى عن الصيام فيها
يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام من رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله2" ويستحب لغير الحاج يوم عرفة لما روى أبو عقادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوم يوم عاشوراء كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين سنة قبلها ماضية وسنة بعدها مستقبلة3" ولا يستحب ذلك للحاج لما روت أم الفضل بنت الحارث أن ناساً اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشرب منه ولأن الدعاء في هذا اليوم يعظم ثوابه والصوم يضعفه فكان الإفطار أفضل ويستحب صوم يوم عاشوراء لحديث أبي قتادة ويستحب أن يصوم تاسوعاء لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل - يعني يوم عاشوراء - لأصومن اليوم التاسع4" ويستحب صيام أيام البيض وهي ثلاثة أيام: لما روى أبو هريرة
__________
2 رواه مسلم في كتاب الصيام حديث 204. الترمذي في كتاب الصوم باب 52. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 33. الدارمي في كتاب الصوم باب 44. أحمد في مسنده "5/417".
3 رواه أحمد في مسنده "5/296، 304" "6/128".
4 رواه مسلم في كتاب الصيام حديث 134. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 41. أحمد في مسنده "1/225".

(1/344)


رضي الله عنه قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ويستحب صوم يوم الاثنين ويوم الخميس لما روى أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس.
فصل: ولا يكره صوم الدهر إذا أفطر في أيام النهي ولم يترك فيه حقاً ولم يخف ضرراً لما روت أم كلثوم رضي الله عنها مولاة أسماء قالت: قيل لعائشة رضي الله عنها تصومين الدهر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر قالت: نعم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن صيام الدهر ولكن من أفطر يوم النحر ويوم الفطر فلم يصم الدهر وسئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن صيام الدهر فقال: أولئك فينا من السابقين يعني من صام الدهر وإن خاف ضرراً أو تضييع حق كره لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء فجاء سلمان يزور أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال: ما شأنك؟ فقالت: إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا فقال سلمان: يا أباالدرداء إن لربك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً فصم وأفطر وقم ونم وائت أهلك وأعط كل ذي حق حقه فذكر أبو الدرداء لرسول الله ما قال سلمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال سلمان ولا يجوز للمرأة أن تصوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصومن المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه1" ولأن حق الزوج فرض فلا يجوز تركه لنفل.
فصل: ومن دخل في صوم تطوع أو صلاة تطوع استحب له إتمامها فإن خرج
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 84، 86. مسلم في كتاب الزكاة حديث 84. أبو داود في كتاب الصوم باب 73. الترمذي في كتاب الصوم باب 64 أحمد في مسنده "2/179، 184".

(1/345)


منها جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل عندك شيء فقلت لا فقال: إني اذاً أصوم ثم دخل علي يوماً آخر فقال: هل عندك شيء؟ فقلت: نعم فقال: إذاً أفطر وإن كنت قد فرضت الصوم".
فصل: ولا يجوز صوم يوم الشك لما روى عمار رضي الله عنه أنه قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فإن صام يوم الشك عن رمضان لم يصح لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً" ولأنه يدخل في العبادة وهو يشك في وقتها فلم يصح كما لو دخل في الظهر وهو يشك في وقتها وإن صام فيه عن فرض عليه كره وأجزأه كما لو صلى في دار مغصوبة وإن صام عن تطوع نظرت فإن لم يصله بما قبله ولا وافق عادة له لم يصح لأن التطوع مجرد قربة فلا يحصل بفعل معصية وإن وافق عادة له جاز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق صوماً كان يصومه أحدكم1" فإن وصله بما قبل النصف جاز وإن وصله بما بعده لم يجز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان2".
فصل: ويكره أن يصوم يوم الجمعة وحده فإن وصله بيوم قبله أو بيوم بعده لم يكره لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده " 3.
فصل: ولا يجوز صوم يوم الفطر ويوم النحر فإن صام فيه لم يصح لما روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الأضحى فتأكلون فيه من لحم نسككم وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم.
فصل: ولا يجوز أن يصوم في أيام التشريق صوماً غير صوم التمتع فإن صام لم
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 1. مسلم في كتاب الصيام حديث 120. النسائي في كتاب الصيام باب 32. الدارمي في كتاب الصوم باب 46. أحمد في مسنده "2/438".
2 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 12.
3 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 63. مسلم في كتاب الصيام حديث 146. أبو داود في كتاب الصوم باب 50 أحمد في مسنده "2/422".

(1/346)


يصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام ستة أيام يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق واليوم الذي يشك فيه من رمضان وهل يجوز فيها صوم التمتع؟ فيه قولان: قال في القديم يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما: أنهما قالا: لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا لمتمتع لم يجد الهدي وقال في الجديد لا يجوز لأن كل يوم لا يجوز فيه صوم غير التمتع لا يجوز فيه صوم التمتع كيوم العيد.
فصل: ولا يجوز أن يصوم في رمضان عن غير رمضان حاضراً كان أو مسافراً فإن صام عن غيره لم يصح صومه عن رمضان لأنه لم ينوه ولا يصح عما نواه لأن الزمان مستحق لصوم رمضان فلا يصح فيه غيره.
فصل: ويستحب طلب ليلة القدر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه1" ويطلب ذلك في ليالي الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان في كل وتر"2 وقال الشافعي رحمه الله: والذي يشبه أن تكون ليلة إحدى وعشرين أو ليلة ثلاث وعشرين والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت
__________
1رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 25. مسلم في كتاب المسافرين حديث 173- 176. الترمذي في كتاب الصوم باب 1. الموطأ في كتاب رمضان حديث 2. أحمد في مسنده "1/191، 195" "5/318".
2 رواه البخاري في كتاب ليلة القدر باب 4. الموطأ في كتاب الاعتكاف حديث 13. أحمد في مسنده "3/10".

(1/347)


هذه الليلة ثم أنسيتها ورأيتني في صبيحتها في ماء وطين1" قال أبو سعيد: وانصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين في صبيحة يوم إحدى وعشرين وروى عبد الله بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أريت ليلة القدر ثم أنسيتها ورأيتني أسجد في ماء وطين" فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين" فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أثر الماء والطين على جبهته قال الشافعي رحمه الله: ولا أحب ترك طلبها فيها كلها قال أصحابنا: إذا قال لامرأته أنت طالق ليلة القدر فإن كان ذلك في رمضان قبل مضي ليلة من ليالي العشر حكم بالطلاق في الليلة الأخيرة من الشهر وإن كان قد مضت ليلة وقع الطلاق في السنة الثانية في مثل تلك الليلة التي قال فيها ذلك والمستحب أن يقول فيها: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني لما روت عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: "تقولين اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني2"
__________
1 رواه البخاري في كتاب الاعتكاف باب 1. مسلم في كتاب الصيام حديث 215. أبو داود في كتاب رمضان باب 3.
2 رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 84. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 5. أحمد في مسنده "1/419".

(1/348)