المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الحج
مدخل
...
كتاب الحج
الحج ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان" وفي العمرة قولان: قال في الجديد: هي فرض لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أعلى النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة وقال في القديم: ليست بفرض لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أهي واجبة قال: لا وأن تعتمر خير لك والصحيح هو الأول لأن هذا الحديث يرفعه ابن لهيعة وهو ضعيف ففيما ينفرد به ولا يجب في العمر أكثر من حجة وعمرة بالشرع لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن الأقرع بن حابس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحج كل عام قال: "لا بل حجة واحدة" وروى سراقة بن مالك قال: قلت يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ قال: بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ومن حج واعتمر حجة الإسلام وغمرته ثم أراد دخول مكة لحاجة نظرت فإن كان لقتال أو دخلها خائفاً من ظالم يطلبه ولا يمكنه أن يظهر لأداء النسك جاز أن يدخل بغير إحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بغير إحرام لأنه كان لا يأمن أن يقاتل ويمنع النسك وإن كان دخوله لتجارة أو زيارة ففيه قولان: أشهرهما أنه لا يجوز أن يدخل إلا بحج أو عمرة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يدخل أحدكم مكة إلا محرماً ورخص للحطابين والثاني أنه يجوز لحديث الأقرع بن حابس وسراقة بن مالك وإن كان دخوله لحاجة تتكرر كالحطابين والصيادين

(1/358)


جاز بغير نسك لحديث ابن عباس ولأن في إيجاب الإحرام على هؤلاء مشقة فإن دخل بتجارة وقلنا إنه يجب عليه الإحرام فدخل بغير إحرام لم يلزمه القضاء لأنا لو ألزمناه القضاء لزمه لدخوله للقضاء قضاء ولا يتناهى قال أبو العباس بن القاص: فإن دخل بغير إحرام ثم صار حطاباً أو صياداً لزمه القضاء لأنه لا يلزمه للقضاء قضاء.
فصل: ولا يجب الحج والعمرة إلا على مسلم عاقل بالغ حر مستطيع فأما الكافر فإن كان أصلياً لم يصح منه لأن ذلك من فروع الإيمان فلم يصح من الكافر ولا يخاطب به في حال الكفر لأنه لا يصح منه وإن أسلم لم يخاطب بما فاته في حال الكفر لقوله صلى الله عليه وسلم "الإسلام يجب ما قبله1" ولأنه لم يلتزم وجوبه فلم يلزمه ضمائنه كحقوق الآدميين وإن كان مرتداً لم يصح منه لما ذكرناه ويجب عليه لأنه التزم وجوبه فلم يسقط عنه بالردة كحقوق الآدميين وأما المجنون فلا يصح منه لأنه ليس من أهل العبادات فلم يصح حجه ولا يجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" وأما الصبي فلا يجب عليه للخبر ويصح منه لما روى ابن عباس أن امرأة رفعت صبياً لها من محفتها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر فإن كان مميزاً فأحرم بإذن الولي صح إحرامه وإن أحرم بغير إذنه ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يصح كما يصح إحرامه في الصلاة وقال أكثر أصحابنا لا يصح لأنه يفتقر في أدائه إلى المال فلا يصح من غير إذن الولي بخلاف الصلاة وإن كان غير مميز جاز لأمه أن تحرم عنه لحديث ابن عباس ويجوز لأبيه قياساً على الأم ولا يجوز للأخ والعم أن يحرما عنه لأنه لا ولاية لهما على الصغير فإن عقد له الإحرام فعل بنفسه ما يقدر عليه ويفعل عنه وليه ما لا يقدر عليه لما روى جابر قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نحج بصبياننا فمن استطاع منهم رمى ومن لم يستطع رمي عنه وفي نفقة الحج وما يلزمه من الكفارة قولان: أحدهما يجب في مال الولي لأنه هو الذي أدخله فيه والثاني يجب في مال الصبي لأنه وجب لمصلحته فكان
__________
1 رواه أحمد في مسنده "4/199، 204".

(1/359)


في ماله كأجرة المعلم وأما العبد فلا يجب عليه الحج لأن منافعه مستحقة لمولاه وفي إيجاب الحج عليه إضرار بالمولى ويصح منه لأنه من أهل العبادة فصح منه الحج كالحر فإن أحرم بإذن السيد وفعل ما يوجب الكفارة فإن ملكه السيد مالاً وقلنا إنه يملك لزمه الهدي وإن قلنا لا يملك أو لم يملكه السيد وجب عليه الصوم ويجوز للسيد أن يمنعه من الصوم لأنه لم يأذن في سببه وإن أذن في التمتع أو القران وقلنا أنه لا يملك المال صام وليس للمولى منعه من الصوم لأنه وجب بإذنه فإن قلنا إنه يملك ففي الهدى قولان: أحدهما يجب في مال السيدة لأنه أذن في سببه والثاني لا يجب لأن أذنه رضا بوجوبه على عبده لا في ماله ولأن بوجوب التمتع في حق العبد هو الصوم لأنه لا يقدر على الهدي فلا يجب عليه الهدى فإن حج الصبي ثم بلغ أو حج العبد ثم أعتق لم يجزه ذلك عن حجة الإسلام لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى" وإن بلغ الصبي أو أعتق العبد في الإحرام نظرت فإن كان قبل الوقوف بعرفة أو في حال الوقوف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام لأنه أتى بأفعال النسك في حال الكمال فأجزأه وإن كان ذلك بعد فوات الوقوف لم يجزه وإن كان بعد الوقوف وقبل فوات وقته ولم يرجع إلى الموقف فقد قال أبو عباس: يجزئه لأن إدراك وقت العبادة في حال الكمال كفعلها في حال الكمال والدليل عليه أنه لو أحرم كمل جعل كأنه بدأ بالإحرام حال الكمال ولو صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخر الوقت جعل كأنه صلى في حال بلوغه والمذهب أنه لا يجزيه لأنه لم يدرك الوقوف في حال الكمال فأشبهه إذا كمل في يوم النحر ويخالف الإحرام لأن هناك أدرك الكمال والإحرام

(1/360)


قائم فوازنه من مسألتنا أن يدرك الكمال وهو واقف بعرفة فيجزئه وههنا أدرك الكمال وقد انقضى الوقوف فلم يجزه كما لو أدرك الكمال بعد التحلل عن الإحرام ويخالف الصلاة فإن الصلاة تجزئه بإدراك الكمال بعد الفراغ منها ولو فرغ من الحج ثم أدرك الكمال لم يجزه.
فصل: فأما غير المستطيع فلا يجب عليه لقوله عز وجل {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] فدل على أنه لا يجب على غير المستطيع والمستطيع اثنان: مستطيع بنفسه ومستطيع بغيره والمستطيع بنفسه ينظر فيه فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة فهو أن يكون صحيحاً واجداً للزاد والماء بثمن المثل في المواضع التي جرت العادة أن يكون فيها في ذهابه ورجوعه واجداً لراحلة تصلح لمثله بثمن المثل أو بأجرة المثل وأن يكون الطريق آمنا من غير خفارة وأن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء فأما إذا كان مريضاً تلحقه مشقة غير معتادة لم يلزمه لما روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يمنعه من الحج مرض حابس أو سلطان جائر فمات فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً1".
فصل: فإن لم يجد الزاد لم يلزمه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج فقال: الزاد والراحلة فإن لم يجد الماء لم يلزمه لأن الحاجة إلى الماء أشد من الحاجة إلى الزاد فإذا لم يجب على من لم يجد الزاد فلأن لا يجد على من لم يجد الماء أولى وإن وجد الزاد والماء بأكثر من ثمن المثل لم يلزمه لأنه لو لزم ذلك لم يأمن أنه لا يباع منه ذلك إلا بما يذهب به جميع ماله في إيجاب ذلك إضرار فلم يلزمه وإن لم يجد راحلة لم يلزمه لحديث ابن عمر وإن وجد راحلة لا تصلح لمثله بأن يكون ممن لا يمكنه الثبوت على القتب والزاملة لم يلزمه
__________
1 رواه النسائي في كتاب المناسكبباب 8، 11. الدارمي في كتاب المناسك باب 2.

(1/361)


حتى يجد عمارية أو هودجاً وإن بذل له رجل راحلة من غير عرض لم يلزمه قبولها لأن عليه في قبول ذلك منة وفي تحمل المنة مشقة فلا يلزمه وإن وجد بأكثر من ثمن المثل ولو بأكثر من أجرة المثل لم يلزمه لما ذكرناه في الزاد وإن وجد الزاد والراحلة لذهابه ولم يجد لرجوعه نظرت فإن كان له أهل في بلده لم يلزمه وإن لم يكن له أهل ففيه وجهان: أحدهما يلزمه لأن البلاد كلها في حقه واحدة والثاني لا يلزمه لأنه يستوحش بالانقطاع عن الوطن والمقام في الغربة لم يلزمه وإن وجد ما يشتري به الزاد والراحلة وهو محتاج إليه لدين عليه لم يلزمه حالاً كان الدين أو مؤجلاً لأن الدين الحال على الفور والحج على التراخي فقدم عليه والمؤجل يحل عليه فإذا صرف ما معه في الحج لم يجد ما يقضي به الدين وإن كان محتاجاً إليه لنفقة من تلزمه نفقة لم يلزمه الحج لأن النفقة على الفور والحج على التراخي وإن احتاج إليه لمسكن لا بد له من مثله أو خادم يحتاج إلى خدمته لم يلزمه وإن احتاج إلى النكاح وهو يخاف العنت قدم النكاح لأن الحاجة إلى ذلك الفور والحج ليس على الفور وإن احتاج إليه في بضاعة يتجر فيهل ليحصل منها على ما يحتاج إليه للنفقة ففيه وجهان: قال أبو العباس بن سريج لا يلزمه الحج أنه محتاج إليه فهو كالمسكن والخادم ومن أصحابنا من قال يلزمه لأنه واجد للزاد والراحلة وإن لم يجد الزاد والراحلة وهو قادر على المشي وله صنعة يكتسب بها ما يكفيه لنفقته استحب له أن يحج لأنه يقدر على إسقاط الفرض بمشقة لا يكره تحملها فاستحب له إسقاط الفرض كالمسافر إذا قدر على الصوم في السفر وإن لم يكن له صنعة ويحتاج إلى مسألة الناس كره له أن يحج لأن المسألة مكروهة ولأن في المسألة تحمل مشقة شديدة فكره وإن كان الطريق غير آمن لم يلزمه لحديث أبي أمامة ولأن في إيجاب الحج مع الخوف تغريراً بالنفس والمال وإن كان الطريق آمناً إلا أنه يحتاج فيه إلى خفارة لم يلزمه لأن ما يؤخذ في الخفارة بمنزلة ما زاد على ثمن المثل وأجرة المثل

(1/362)


في الزاد والراحلة فلا يلزمه ولأنه رشوة على واجب فلا يلزمه وإن لم يكن له طريق إلا في البحر فقد قال في الأم: لا يجب عليه وقال في الإملاء: إن كان أكثر معاشه في البحر لزمه فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يجب لأنه طريق مسلوك فأشبه البر والثاني لا يجب لأن فيه تغريراً بالنفس والمال فلا يجب كالطريق المخوف ومنهم من قال إن كان الغالب منه السلامة لزمه وإن كان الغالب منه الهلاك لم يلزمه كطريق البر ومنهم من قال إن كان عادة بركوبه لزمه وإن لم يكن له عادة بركوبه لم يلزمه لأن من له عادة لا يشق عليه ومن لا عادة له يشق عليه وإن كان أعمى لم يجب عليه إلا أن يكون معه قائد فإن الأعمى من غير قائد كالزمن ومع القائد كالبصير وإن كانت امرأة لم يلزمها إلا أن تأمن على نفسها بزوج أو محرم أو نساء ثقات قال في الإملاء أو امرأة واحدة وروى الكرابيسي عنه إذا كان الطريق آمناً جاز من غير نساء وهو الصحيح لما روى عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حتى لتوشك الظعينة أن تخرج منها بغير جوار حتى تطوف بالكعبة قال عدي: فلقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالكعبة بغير جوار ولأنها تصير مستطيعة بما ذكرناه ولا تصير مستطيعة بغيره فإن لم يبق من الوقت ما يتمكن فيه من السير لأداء الحج لم يلزمه لأنه إذا ضاق الوقت لم يقدر على الحج فلا يلزمه فرضه.
فصل: وإن كان من مكة على مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يجد راحلة نظرت فإن كان قادراً على المشي وجب عليه لأنه يمكنه الحج من غير مشقة شديدة وإن كان زمناً على المشي ويقدر على الحبو لم يلزمه لأن المشقة في الحبو في المسافة القريبة أكثر من المشقة في المسافة البعيدة في السير.

(1/363)


فصل: وإن كان من أهل لمكة وقدر على المشي إلى مواضع النسك من غير خوف وجب عليه لأنه بصير مستطيعاً بذلك.
فصل: ومن قدر على الحج راكباً أو ماشياً فالأفضل أن يحج راكباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكباً ولأن الركوب أعون على المناسك.
فصل: والمستطيع بغيره اثنان: أحدهما من لا يقدر على الحج بنفسه لزمانه أو كبر وله مال يدفع إلى من يحج عنه فيجب عليه فرض الحج لأنه يقدر على أداء الحج بغيره كما يقدر على أدائه بنفسه فيلزمه فرض الحج والثاني من لا يقدر على الحج بنفسه وليس له مال ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج فينظر فيه فإن كان الولد مستطيعاً بالزاد والراحلة وجب على الأب الحج ويلزمه أن يأمر الولد بأدائه عنه لأنه قادر على أداء الحج بولده كما يقدر على أدائه بنفسه وإن لم يكن للولد مال ففيه وجهان: أحدهما يلزمه لأنه قادر على تحصيل الحج بطاعته والثاني لا يلزمه لأن الصحيح لا يلزمه فرض الحج من غير زاد ولا راحلة فالمغصوب أولى أن لا يلزمه وإن كان الذي يطيعه غير الولد ففيه وجهان: أحدهما أن الحاكم ينوب عنه في الإذان كما ينوب عنه إذا امتنع من إخراج الزكاة والثاني لا ينوب عنه كما إذا كان له مال ولم يجهز من يحج عنه ينب الحاكم عنه في تجهيز من يحج عنه وإن بذل له الطاعة ثم رجع الباذل ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجوز لأنه لما لم يجز للمبذول له أن يرد لم يجز للباذل أن يرجع والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لأنه متبرع بالبذل فلا يلزمه الوفاء بما بذل وأما إذا بذل له مالاً يدفعه إلى من يحج عنه ففيه وجهان: أحدهما أنه يلزمه قبوله كما يلزمه قبول الطاعة والثاني لا يلزمه وهو الصحيح لأنه إيجاب كسب لإيجاب الحج فلم يلزمه كالكسب بالتجارة.
فصل: والمستحب لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره أن يقدمه لقوله تعالى:

(1/364)


{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] ولأنه إذا أخره عرضه للفوات ولحوادث الزمان ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة لأن فريضة الحج نزلت سنة ست فأخر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر من غير عذر فلو لم يجز التأخير لما أخره.
فصل: ومن وجب عليه الحج فلم يحج حتى مات نظرت فإن مات قبل أن يتمكن من الأداء سقط فرضه ولم يجب القضاء وقال أبو يحيى البلخي: يجب القضاء وأخرج إليه أبو إسحاق نص الشافعي رحمه الله فرجع عنه والدليل على أنه يسقط أنه هلك ما تعلق به الفرض قبل التمكن من الأداء فسقط الفرض كما لو هلك النصاب قبل أن يتمكن من إخراج الزكاة وإن مات بعد التمكن من الأداء لم يسقط الفرض ويجب قضاؤه من تركته لما روى بريدة قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج قال: حجي عن أمك ولأنه حق تدخله النيابة لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كدين الآدمي ويجب قضاؤه عنه من الميقات لأن الحج يجب من الميقات ويجب من رأس المال لأنه دين واجب فكان من رأس المال كدين الآدمي وإن اجتمع الحج ودين الآدمي والتركة لا تتسع لهما ففيه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في آخر الزكاة.
فصل: وتجوز النيابة في حج الفرض في موضعين: أحدهما في حق الميت إذا مات وعليه حج والدليل عليه حديث بريدة والثاني في حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير معتادة كالزمن والشيخ الكبير والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم قالت: أينفعه ذلك؟ قال نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه ولأنه أيس من الحج بنفسه فتاب عنه غيره كالميت وفي حج التطوع قولان: أحدهما لا يجوز لأنه غير مضطر إلى الاستنابة فيه فلم تجز الاستنابة فيه كالصحيح والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لأن كل عبادة جازت النيابة في فرضها جازت النيابة في نفلها كالصدقة فإن استأجر من يتطوع عنه وقلنا لا يجوز فإن الحج للحاج وهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان: أحدهما أنه لا يستحق لأن الحج قد انعقد له فلا يستحق الأجرة كالصرورة والثاني أنه يستحق لأنه لم يحصل له بهذا الحج منفعة لأنه لم يسقط به عنه فرض ولا حصل له به ثواب بخلاف الصرورة فإن هناك قد سقط عنه الفرض فأما الصحيح الذي يقدر على الثبوت على الراحلة فلا يجوز النيابة عنه في الحج لأن الفرض عليه في بدنه فلا ينتقل الفرض إلى غيره إلا في الموضع الذي وردت فيه الرخصة وهو إذا أيس وبقي فيما سواه

(1/365)


على الأصل فلا تجوز النيابة عنه فيه وأما المريض فينظر فيه فإن كان غير مأيوس منه لم يجز أن يحج عنه غيره لأنه لم ييأس من فعله بنفسه فلا تجوز النيابة عنه فيه كالصحيح فإن خالف أو حج عن نفسه ثم مات فهل يجزئه عن حجة الإسلام؟ فيه قولان: أحدهما يجزئه لأنه مات تبينا أنه كان مأيوساً منه والثاني لا يجزئه لأنه حج وهو غير مأيوس منه في الحال فلم يجزه كما لو برأ منه وإن كان مريضاً مأيوساً منه جازت النيابة عنه في الحج لأنه مأيوس منه فأشبه الزمن والشيخ الكبير فإن حج عن نفسه ثم برأ من المرض ففيه طريقان: أحدهما أنه كالمسألة التي قبلها وفيها قولان والثاني أنه يلزمه الإعادة قولاً واحداً لأنا تبينا الخطا في الأياس ويخالف إذا كان غير مأيوس منه فمات لأنا لم نتبين الخطأ لأنه يجوز أنه لم يكن مأيوساً منه ثم زاد المرض فصار مأيوساً منه ولا يجوز أن يكون مأيوساً منه ثم يصير غير مأيوس منه.
فصل: ولا يحج عن الغير من لم يحج عن نفسه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول لبيك عن شبرمة فقال: "حججت عن نفسك قال: لا قال: فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياساً على الحج قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يسمي من لم يحج صرورة لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صرورة في الإسلام" ولا يجوز أن يتنفل بالحج والعمرة وعليه فرضهما ولا يحج ويعتمر عن النذر وعليه فرض حجة الإسلام لأن النفل والنذر أضعف من حجة الإسلام فلا يجوز تقديمهما عليها كحج غيره على حجة فإن أحرم من غيره وعليه فرضه انعقد إحرامه لنفسه لما روي في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أحججت عن نفسك؟ قال: لا قال: "فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة" فإن أحرم بالنفل وعليه فرضه انعقد إحرامه عن الفرض وإن أحرم عن النذر وعليه فرض الإسلام انعقد إحرامه عن فرض الإسلام قياساً على من أحرم عن غيره وعليه فرضه فإن أمر المعضوب من يحج عنه عن النذر وعليه حجة الإسلام فأحرم عنه انصرف إلى حجة الإسلام لأنه نائب عنه ولو أحرم هو عن النذر انصرف إلى حجة الإسلام فكذلك النائب عنه.

(1/366)


فصل: فإن كان عليه حجة الإسلام وحجة نذر فاستأجر رجلين يحجان عنه في سنة واحدة فقد نص في الأم أنه يجوز وكان أولى لأنه لم يقدم النذر على حجة الإسلام ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأنه يحج بنفسه حجتين في سنة وليس بشيء.
فصل: ولا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج والدليل عليه قوله عز وجل {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] والمراد به وقت إحرام الحج لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر فدل على أنه أراد به وقت الإحرام ولأن الإحرام نسك من مناسك الحج فكان مؤقتاً كالوقوف والطواف وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة وهو إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر لما روى عن ابن مسعود وجابر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم قالوا: أشهر الحج معلومات شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة فإن أحرم بالحج في غير أشهره انعقد إحرامه بالعمرة لأنها عبادة مؤقتة فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها كصلاة الظهر إذا أحرم بها قبل الزوال فإنه ينعقد إحرامه بالنفل ولا يصح في سنة واحدة أكثر من حجة لأن الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة فلا يمكن أداء الحجة الأخرى.
فصل: وأما العمرة فإنها تجوز في أشهر الحج وغيرها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفي شوال وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة1" ولا يكره فعل عمرتين وأكثر في سنة لما ذكرناه من حديث عائشة رضي الله عنها.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الحج باب 95. أبو داود في كتاب المناسك باب 79. النسائي في كتاب الصيام باب 6. أحمد في مسنده "1/ 352".

(1/367)


فصل: ويجوز إفراد الحج عن العمرة والتمتع بالعمرة إلى الحج والقران بينهما لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة.
فصل: والإفراد والتمتع من القران وقال المزني القران أفضل والدليل على ما قلناه أن المفرد والمتمتع يأتي بكل واحد من النسكين بكمال أفعاله والقارن يقتصر على عمل الحج وحده فكان الإفراد والتمتع أفضل.
فصل: وفي التمتع والإفراد قولان: أحدهما أن التمتع أفضل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج والثاني أن الإفراد أفضل لما روى جابر قال أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ليس معه عمرة ولأن التمتع يتعلق به وجوب دم فكان الإفراد أفضل منه كالقران وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه يحتمل أنه أمر بالتمتع كما روي أنه رجم ماعزاً وأراد أنه يرجمه والدليل عليه أن ابن عمر هو الراوي وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج.
فصل: والإفراد أن يحج ثم يعتمر والتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامه والقران أن يحرم بهما معاً فإن أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف جاز ويصير قارناً لما روي أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بالعمرة فحاضت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهلي بالحج واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي" وإن أدخل عليها الحج بعد الطواف لم يجز واختلف أصحابنا في علته فمنهم من قال لا يجوز لأنه قد أخذ في التحلل ومنهم قال لا يجوز لأنه قد أتى بمقصود العمرة وإن أحرم بالحج وأدخل عليه بالعمرة ففيه قولان: أحدهما يجوز لأنه أحد النسكين فجاز إدخاله على الآخر كالحج والثاني لا يجوز لأن أفعال العمرة استحقت بإحرام الحج فلا يعد إحرام العمرة شيئاً فإن قلنا إنه يجوز فهل

(1/368)


يجوز بعد الوقوف أن يبني على العلتين في إدخال الحج على العمرة بعد الطواف؟ فإن قلنا لا يجوز إدخال الحج على العمرة بعد الطواف لأنه أخذ في التحلل ههنا بعد الوقوف لأنه لم يأخذ في التحلل وإن قلنا لا يجوز لأنه أتى بالمقصود لم يجز ههنا لأنه قد أتى بمعظم المقصود وهو الوقوف فإن أحرم بالعمرة فأفسدها ثم أدخل عليها الحج ففيه وجهان: أحدهما ينعقد الحج ويكون فاسداً لأنه إدخال حج على عمرة فأشبه إذا كان صحيحاً والثاني لا ينعقد لأنه لا يجوز أن يصح لأنه إدخال حج على إحرام فاسد ولا يجوز أن يفسد لأن إحرامه لم يصادفه الوطء فلا يجوز إفساده.
فصل: ويجب على المتمتع الدم لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولا يجب عليه إلا بخمسة شروط: أحدها أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج لم يلزمه دم لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج فلم يلزمه دم كالمفرد وإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج وأتى بأفعالها في أشهر الحج ففيه قولان: قال في القديم والإملاء: يجب عليه دم لأن استدامة الإحرام بمنزلة الابتداء ولو ابتدأ الإحرام بالعمرة في أشهر الحج لزمه الدم فكذلك إذا استدام وقال في الأم: لا يجب عليه الدم لأن الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به أتى به في غير أشهر الحج فلم يلزمه دم التمتع كالطواف والثاني أن يحج من سنته فأما إذا حج في سنة اخرى لم يلزمه الدم لما روى سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا ولأن الدم إنما يجب بترك الإحرام بالحج من الميقات وهذا لم يترك الإحرام بالحج من الميقات فإنه إن أقام بمكة صارت مكة ميقاته وإن رجع إلى بلده وعاد فقد أحرم من الميقات والثالث أن لا يعود لإحرام إلى الميقات فأما إذا رجع لإحرام الحج إلى الميقات فأحرم لم يلزمه الدم لأن الدم توجب بترك الإحرام من الميقات وهذا لم يترك الميقات فإن أحرم بالحج من جوف مكة ثم رجع إلى الميقات قبل أن يقف ففيه وجهان: أحدهما لا دم عليه لأنه حصل محرماً من الميقات قبل التلبس بنسك فأشبه من جاوز الميقات غير محرم ثم أحرم وعاد إلى الميقات والثاني يلزمه لأنه وجب عليه الدم بالإحرام من مكة فلا يسقط بالعود إلى الميقات كما لو ترك الميقات وأحرم دونه ثم عاد بعد التلبس بالنسك والرابع أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام فأما إذا كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وحاضر المسجد الحرام أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة لأن الحاضر في اللغة هو

(1/369)


القريب ولا يكون قريباً إلا في مسافة لا تقصر فيها الصلاة وفي الخامس وهو نية التمتع وجهان: أحدهما أنه لا يحتاج إليها لأن الدم يتعلق بترك الإحرام بالحج من الميقات وذلك يوجد من غير نية والثاني أنه يحتاج إلى نية التمتع لأنه جمع بين العبادتين في وقت إحداهما فافتقر إلى نية الجمع كالجمع بين الصلاتين فإذا قلنا بهذا ففي وقت النية وجهان: أحدهما أنه يحتاج أن ينوي عند الإحرام بالعمرة والثاني يجوز أن ينوي ما لم يفرغ من العمرة بناء على القولين في وقت نية الجمع بين الصلاتين فإن في ذلك قولين: أحدهما ينوي في ابتداء الأولى منهما والثاني ما لم يفرغ من الأولى.
فصل: ويجب دم التمتع بالإحرام بالحج لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولأن شرائط الدم إنما توجد بوجود الإحرام فوجب أن يتعلق الوجوب به وفي وقت جوازه قولان: أحدهما لا يجوز قبل أن يحرم بالحج لأن الذبح قربة تتعلق بالبدن فلا يجوز قبل وجوبها كالصوم والصلاة والثاني يجوز بعد الفراغ من العمرة لأنه حق مال يجب بشيئين فجاز تقديمه على أحدهما كالزكاة بعد ملك النصاب.
فصل: فإن لم يكن واجداً للهدي في موضعه انتقل إلى الصوم وهو صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لقوله تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196] فأما صوم ثلاثة أيام في الحج فلا يجوز قبل الإحرام بالحج لأنه صوم واجب فلا يجوز قبل وجوبه كصوم رمضان ويجوز بعد الإحرام بالحج إلى يوم النحر والمستحب أن يفرغ منه قبل يوم عرفة فإنه يكره للحاج صوم عرفة وهل يجوز صيامها في أيام التشريق على قولين وقد ذكرناهما في كتاب الصيام وأما صوم السبعة ففيه قولان: قال في حرملة: لا يجوز حتى يرجع إلى أهله لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان معه هدي فليهد ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وقال في الإملاء: يصوم إذا أخذ في السير خارجاً من مكة لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] وابتداء الرجوع إذا ابتدأ بالسير من مكة فإذا قلنا بهذا ففي الأفضل قولان: أحدهما الأفضل أن يصوم بعد الابتداء بالسير لأن تقديم العبادة في أول وقتها أفضل والثاني الأفضل أن يؤخر إلى يرجع إلى الوطن ليخرج من الخلاف فإن لم يصم الثلاثة حتى رجع إلى أهله لزمه صوم عشرة أيام وهل يشترط التفريق بينهما: فيه وجهان: أحدهما أنه ليس بشرط لأن التفريق وجب بحكم الوقت وقد فات فسقط كالتفريق بين الصلوات والثاني أنه يشترط وهو المذهب لأن ترتيب أحدهما

(1/370)


على الآخر لا يتعلق بوقت فلم يسقط بالفوات كترتيب أفعال الصلاة فإن قلنا بالوجه الأول صام عشرة أيام كيف شاء وإن قلنا بالمذهب فرق بينهما بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء.
فصل: فإن دخل في الصوم ثم وجد الهدي فالأفضل أن يهدي ولا يلزمه وقال المزني: يلزمه كالمتيمم إذا رأى الماء فإن وجد الهدى بعد الإحرام بالحج وقبل الدخول في الصوم فهو مبني على الأقوال الثلاثة في الكفارات: أحدها أن الاعتبار بحال الوجوب ففرضه الصوم والثاني أن الاعتبار بحال الأداء ففرضه الهدي والثالث الاعتبار بأغلظ الحالين ففرضه الهدي.
فصل: ويجب على القارن دم لأنه روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ولأنه إذا وجب على المتمتع لأنه جمع بين النسكين في وقت أحدهما فلأن يجب على القارن وقد جمع بينهما في الإحرام أولى فإن لم يجد الهدي فعليه صوم التمتع ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع على ما بيناه وبالله التوفيق.

(1/371)


باب المواقيت
ميقات أهل المدينة ذو الحليفة وميقات أهل الشام الجحفة وميقات أهل نجد قرن وميقات أهل اليمن يلملم لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن" قال ابن عمر رضي الله عنهما: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهل أهل

(1/371)


اليمن من يلملم وأهل الشام من الجحفة وأما أهل العراق فميقاتهم ذات عرق1" وهل هو منصوص عليه أو مجتهد فيه؟ قال الشافعي رحمه الله في الأم: هو غير منصوص عليه ووجهه ما روي عن ابن عمر قال: لما فتح المصران أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً وإنا إذ أردنا أن نأتي قرناً شق علينا فقال: فانظروا حذوها من طريقكم قال: فحد لهم ذات عرق ومن أصحابنا من قال هو منصوص عليه ومذهبه ما ثبتت به السنة والدليل عليه ما روى جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يهل أهل المشرق من ذات عرق" وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق وقال الشافعي رحمه الله: ولو أهل أهل المشرق من العقيق كان أحب إلي لأنه روي عن ابن عباس قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق ولأنه أبعد من ذات عرق فكان أفضل وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر بها من غير أهلها لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرناً ولأهل اليمن يلملم وقال: "هذه المواقيت لأهلها ولكل من أتى عليها من غير أهلها ممن أراد الحج والعمرة" ومن كان داره دون ذلك فمن حيث ينشيء ثم كذلك أهل مكة يهلون من مكة ومن سلك طريقاً لا ميقات فيه من بر أو بحر فميقاته إذا حاذى أقرب المواقيت إليه لأن عمر رضي الله عنه لما اجتهد في ميقات أهل العراق اعتبر ما ذكرناه.
فصل: ومن كانت داره فوق الميقات فله أن يحرم من الميقات وله أن يحرم من فوق الميقات لما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وفي الأفضل قولان: أحدهما أن الأفضل أن يحرم من الميقات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة ولم يحرم من المدينة ولأنه إذا أحرم من بلده لم يأمن أن يرتكب محظورات الإحرام فإذا أحرم من الميقات أمن من ذلك فكان الإحرام من الميقات أفضل والثاني أن الأفضل أن يحرم من داره لما روت أم سلمة رضي الله
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحج باب 8. الترمذي في كتاب الحج باب 17. النسائي في كتاب المناسك باب 17، 18. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 13. الموطأ في كتاب الحج حديث 22.

(1/372)


عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة1" ومن كانت داره دون الميقات فيمقاته موضعه ومن جاوز الميقات قاصداً إلى موضع قبل مكة ثم أراد النسك أحرم من موضعه كما إذا دخل مكة لحاجة ثم أراد الإحرام كان ميقاته من مكة ومن كان من أهل مكة وأراد أن يحج فميقاته من مكة وإن أراد العمرة فميقاته من أدنى الحل والأفضل أن يحرم من الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها فإن أخطأها فمن التنعيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم ومن بلغ الميقات مريداً للنسك لم يجز أن يجاوزه حتى يحرم لما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما فإن جاوزه وأحرم دونه نظرت فإن كان له عذر بأن يخشى أن يفوته الحج أو الطريق مخوف لم يعد وعليه دم وإن لم يخش شيئاً لزمه أن يعود لأنه نسك واجب مقدور عليه فلزمه الاتيان به فإن لم يرجع لزمه الدم وإن رجع نظرت فإن كان قبل أن يتلبس بنسك سقط عنه الدم لأنه قطع المسافة بالإحرام وزاد عليه فلم يلزمه دم وإن عاد بعد ما وقف أو بعد ما طاف لم يسقط عنه الدم لأنه عاد بعد فوات الوقت فلم يسقط عنه الدم كما لو دفع من الموقف قبل الغروب ثم عاد في غير وقته وإن نذر الإحرام من موضع فوق الميقات لزمه الإحرام منه فإن جاوزه وأحرم دونه كان كمن جاوز الميقات وأحرم دونه في وجوب العود والدم لأنه وجب الإحرام منه كما وجب الإحرام من الميقات فكان حكمه حكم الميقات وإن مر كافر بالميقات مريداً للحج فأسلم دونه وأحرم ولم يعد إلى الميقات لزمه الدم وقال المزني رحمه الله: لا يلزمه لأنه مر بالميقات وليس هو من أهل النسك فأشبه إذا مر به غير مريد للنسك ثم أسلم دونه وأحرم وهذا لا يصح لأنه ترك الإحرام من الميقات وهو مريد للنسك فلزمه الدم كالمسلم وإن مر بالميقات صبي وهو محرم أو عبد وهو محرم فبلغ الصبي أو عتق العبد ففيه قولان: أحدهما أنه يجب عليه دم لأنه ترك الإحرام بحجة الإسلام من الميقات والثاني لا يلزمه لأنه جاوز الميقات وهو محرم فلم
__________
1 رواه أحمد في مسنده "6/299".

(1/373)


يلزمه دم كالحر البالغ فإن كان من أهل مكة فخرج لإحرام الحج إلى أدنى الحل وأحرم فإن رجع إلى مكة قبل أن يقف بعرفة لم يلزمه دم وإن لم يرجع حتى وقف وجب عليه دم لأنه ترك الإحرام من الميقات فأشبه غير المكي إذا أحرم من دون الميقات وإن خرج من مكة إلى خارج البلد وأحرم من موضع من الحرم ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه الدم لأن مكة والحرم في الحرمة سواء والثاني يلزمه وهو الصحيح لأن الميقات هو البلد وقد تركه فلزمه الدم وإن أراد العمرة وأحرم من جوف مكة نظرت فإن خرج إلى أدنى الحل قبل أن يطوف لم يلزمه دم لأنه دخل الحرم محرماً فأشبه إذا أحرم من الحل وإن طاف وسعى ولم يخرج إلى الحل ففيه قولان: أحدهما لا يعتد بالطواف والسعي عن العمرة لأنه لم يقصد الحرم بإحرام فلا يعتد بالطواف والسعي والثاني أنه يعتد بالطواف وعليه دم لترك الميقات كغير المكي إذا جاوز ميقات بلده غير محرم ثم أحرم ودخل مكة وطاف وسعى والله أعلم.

(1/374)


باب الإحرام وما يحرم فيه
إذا أراد أن يحرم فالمستحب أن يغتسل لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه وإن كانت امرأة حائضاً أو نفساء اغتسلت للإحرام لما روى القاسم بن محمد أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما بالبيداء فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مروها فلتغتسل ثم لتهل" ولأنه غسل يراد للنسك فاستوى فيه الحائض والطاهر ومن لم يجد الماء تيمم لأنه غسل مشروع فانتقل منه إلى التيمم عند عدم الماء كغسل الجنابة قال في الأم: ويغتسل لسبعة مواطن: للإحرام ولدخول مكة والوقوف بعرفة والوقوف بمزدلفة ولرمي الجمار الثلاث لأن هذه المواطن تجتمع لها الناس فاستحب لها الاغتسال ولا يغتسل لرمي جمرة العقبة لأن وقته من نصف الليل إلى آخر النهار فلا يجتمع لها الناس في وقت واحد وأضاف إليها في القديم الغسل لطواف الزيارة وطواف الوداع لأن الناس يجتمعون لهما ولم يستحبه في الجديد لأن وقتهما متسع فلا يتفق اجتماع الناس فيهما.

(1/374)


فصل: ثم يتجرد عن المخيط في إزار ورداء أبيضين ونعلين لما روى بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين والمستحب أن يكون ذلك بياضاً لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خيار ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم1" والمستحب أن يتطيب في بدنه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ولا يطيب ثوبه لأنه ربما نزعه للغسل فيطرحه على بدنه فتجب به الفدية والمستحب أن يصلي ركعتين لما روى ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ذي الحليفة ركعتين ثم أحرم وفي الأفضل قولان: قال في القديم: الأفضل أن يحرم عقيب الركعتين لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة وقال في الأم: الأفضل أن يحرم إذا انبعث به راحلته إن كان راكباً وإذا ابتدأ بالسير إن كان راجلاً لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رحتم إلى منى متوجهين فأهلوا بالحج" ولأنه إذا لبى مع السير وافق قوله فعله وإذا لبى في مصلاه لم يوافق فعله فكان ما قلناه أولى وينوي الإحرام ولا يصح الإحرام إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" ولأنه عبادة محضة فلم تصح من غير نية كالصوم ويلبي لنقل الخلف عن السلف فإن اقتصر على النية ولم يلب أجزأه وقال أبو إسحاق وأبو عبد الله الزبيري: لا ينعقد إلا بالنية والتلبية كما لا تنعقد الصلاة إلا بالنية والتكبيرة والمذهب الأول لأنها عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب النطق في أولها كالصوم وله أن يعين ما يحرم به من الحج والعمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج فإن لبى بنسك ونوى غيره انعقد ما نواه لأن النية في القلب وله أن يحرم إحراماً مبهماً لما روى أبو موسى قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أهللت قال: قلت لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت وفي الأفضل قولان: قال في
__________
1 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 13. الترمذي في كتاب الجنائز باب 18. النسائي في كتاب الجنائز باب 38. أحمد في مسنده "5/10 , 13".

(1/375)


الأم: التعيين أفضل لأنه إذا عين عرف ما دخل فيه والثاني أن الإبهام أفضل لأنه أحوط فإنه ربما عرض مرض أو إحضار فيصرفه إلى ما هو أسهل عليه فإن عين انعقد بما عينه والأفضل أن يذكر ما أحرم به في تلبيته على المنصوص لما روى نافع قال: سئل ابن عمر أيسمى أحدنا حجاً أو عمرة فقال: أتنبئون الله بما في قلوبكم إنما هي نية أحدكم ومن أصحابنا من قال الأفضل أن ينطق به لما روى أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك بحجة وعمرة ولأنه إذا نطق به كان أبعد من السهو فإن أبهم الإحرام جاز أن يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة لأنه يصلح لهما فصرف إلى ما شاء منهما فإن قال إهلالاً كإهلال فلان إنعقد إحرامه بما عقد به فلان إحرامه فإن مات الرجل الذي علق إهلاله بإهلاله أو جن ولم يعلم ما أهل به لزمه أن يقرن ليسقط ما لزمه بيقين فإن بان أن فلاناً لم يحرم انعقد إحراماً مطلقاً فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة لأنه عقد الإحرام وإن علق عين النسك على إحرام فلان فإذا سقط إحرام فلان بقي إحرامه مطلقاً فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة وإن أحرم بحجتين أو بعمرتين لم ينعقد الإحرام بهما لأنه لا يمكن المضي فيهما وينعقد بإحداهما لأنه يمكن المضي في إحداهما قال في الأم إذا استأجره رجلان للحج فأحرم بهما انعقد إحرامه عن نفسه لأنه لا يمكن الجمع بينهما ولا تقديم أحدهما على الآخر فتعارضا وسقطا وبقي إحرام مطلق فانعقد له قال: ولو استأجره رجل ليحج عنه فأحرم عنه وعن نفسه انعقد الإحرام عن نفسه لأنه تعارض التعيينان فسقطا وبقي مطلق الإحرام فانعقد له وإن أحرم بنسك معين ثم نسيه قبل أن يأتي بنسك ففيه قولان: قال في الأم: يلزمه أن يقرن لأنه شك لحقه بعد الدخول في العبادة فيبني فيه على اليقين كما لو شك في عدد ركعات الصلاة وقال في القديم: يتحرى لأنه يمكنه أن يدرك بالتحري فيتحرى فيه كالقبلة فإن قلنا يقرن لزمه أن ينوي القران فإذا قرن أجزأه ذلك عن الحج وهل يجزئه عن العمرة؟ إذ قلنا يجوز إدخال العمرة على الحج أجزأه عن العمرة أيضاً وإن قلنا لا يجوز ففيه وجهان: أحدهما لا يجزئه لأنه يجوز أن يكون أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة فلم يصح وإذا شك لم يسقط الفرض والثاني أنه يجزئه لأن العمرة إنما لا يجوز إدخالها على الحج من غير

(1/376)


حاجة وهاهنا به حاجة إلى إدخال العمرة على الحج والمذهب الأول وإن قلنا إنه يجزئه عن العمرة لزمه الدم لأنه قارن وإن قلنا لا يجزئه عن العمرة هل يلزمه دم ففيه وجهان: أحدهما لا دم عليه وهو المذهب لأنا لم نحكم له بالقران فلا يلزمه دم والثاني يلزمه دم لجواز أنه يكون قارناً فوجب عليه الدم احتياطاً وإن نسي بعد الوقوف وقبل طواف القدوم فإن نوى القران وعاد قبل طواف القدوم أجزأه الحج لأنه إن كان حاجاً أو قارناً فقد إنعقد إحرامه بالحج وإن كان معتمراً فقد أدخل الحج على العمرة قبل طواف العمرة فصح حجه ولا يجزئه عن العمرة لأن إدخال العمرة على الحج لا يصح في أحد القولين ويصح في الآخر ما لم يقف بعرفة فإذا وقف بعرفة لم يصح فلم يجزه وإن نسي بعد طواف القدوم وقبل الوقوف فإن قلنا إن إدخال العمرة على الحج لا يجوز لم يصح له الحج ولا العمرة لأنه يحتمل أنه كان معتمراً فلا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف فلم يسقط فرض الحج مع الشك ولا تصح العمرة لأنه يحتمل أن لا يكون أحرم بها أو أحرم بها على حج فلا يصح وإن قلنا إنه يجوز إدخال العمرة على الحج لم يصح له الحج لجواز أن يكون أحرم بالعمرة وطاف لها فلا يجوز أن يدخل الحج عليها وتصح له العمرة لأنه أدخلها على الحج قبل الوقوف فإن أراد أن يجزئه الحج طاف وسعى لعمرته ويحلق ثم يحرم بالحج ويجزئه لأنه إن كان معتمراً فقد حل من العمرة وأحرم بالحج وإن كان حاجاً أو قارناً فلا يضره تجديد الإحرام بالحج ويجب عليه دم واحد لأنه إن كان معتمراً فقد حلق في وقته وصار متمتعاً فعليه دم التمتع دون الدم الحلاق وإن كان حاجاً فقد حلق في غير وقته فعليه دم الحلاق دون دم التمتع وإن كان قارناً فعليه دم الحلاق ودم القران فلا يجب عليه دمان بالشك ومن أصحابنا من قال: يجب عليه دمان احتياطاً وليس بشيء.
فصل: ويستحب أن يكثر من التلبية ويلبي عند اجتماع الرفاق وفي كل صعود وهبوط وفي أدبار الصلوات وإقبال الليل والنهار لما روى جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/377)


يلبي إذا رأى ركباً أو صعد وهبط وادياً وفي أدبار المكتوبة وآخر الليل ولأن في هذه المواضع ترفع الأصوات ويكثر الضجيج وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الحج العج والثج1" ويستحب في مسجد مكة ومنى وعرفات وفيما عداها من المساجد قولان: قال في القديم لا يلبي وقال في الجديد يلبي لأنه مسجد بني للصلاة فاستحب فيه التلبية كالمساجد الثلاثة وفي حال الطواف قولان: قال في القديم يلبي ويخفض صوته وقال في الأم لا يلبي لأن للطواف ذكراً يختص به فكان الاشتغال به أولى ويستحب أن يرفع صوته بالتلبية لما روى زيد بن خالد الجهني أن رسول الله قال: "جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحاج" وإن كانت امرأة لم ترفع الصوت بالتلبية لأنه يخاف عليها الافتتان.
فصل: والتلبية أن يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الحج باب 14، ابن ماجه في كتاب المناسق باب 6، 16. الدارمي في كتاب المناسك باب 8.

(1/378)


والملك لا شريك لك قال الشافعي رحمه الله: فإن زاد على هذا فلا بأس لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يزيد فيها لبيك وسعديك والخير كله بيديك والرغبة إليك وإذا رأى شيئاً يعجبه قال لبيك إن العيش عيش الآخرة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنهم أعجبه ما هم فيه فقال: لبيك إن العيش عيش الآخرة والمستحب إذا فرغ من التلبية أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم كالأذان ثم يسأل الله تعالى رضوانه والجنة ويستعيذ برحمته من النار لما روى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار ثم يدعو بما أحب.
فصل: وإذا أحرم الرجل حرم عليه حرم الرأس لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ويحرم عليه حلق شعر سائر البدن لأنه حلق يتنظف به ويترفه به فلم يجز كحلق الرأس ويجب به الفدية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]

(1/379)


ولما روى كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعلك آذاك هوام رأسك فقلت: نعم يا رسول الله فقال: أحلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة" ويجوز له أن يحلق شعر الحلال لأن نفعه يعود إلى الحلال فلم يمنع منه كما لو أراد أن يعممه أو يطيبه.
فصل: ويحرم عليه أن يقلم أظفاره لأنه جزء ينمى وفي قطعة ترفيه وتنظيف فمنع الإحرام منه كحلق الشعر ويجب به الفدية قياساً على الحلق.
فصل: ويحرم عليه أن يستر رأسه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره "لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً1" وتجب به الفدية لأنه فعل محرم في الإحرام فتعلقت به الفدية كالحلق ويجوز أن يحمل على رأسه مكتلاً لأنه لا يقصد به الستر فلم يمنع منه كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في عيبة المتاع حين لم يقصد المصحف ويجوز أن يترك يده على رأسه لأنه يحتاج إلى وضع اليد على الرأس في المسح فعفى عنه ويحرم عليه لبس القميص لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم: "لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا العمامة ولا الخف إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران" وتجب به الفدية لأنه فعل محظور في الإحرام فتعلقت به الفدية كالحلق ولا فرق بين أن يكون ما يلبسه من الخرق أو الجلود أو اللبود أو الورق ولا فرق بين أن يكون مخيطاً بالإبرة أو ملصقاً بعضه إلى بعض لأنه في معنى المخيط والعباءة والدراعة كالقميص فيما ذكرناه لأنه في معنى القميص ويحرم عليه لبس السراويل لحديث ابن عمر رضي الله عنه وتجب به الفدية لما ذكرناه من المعنى والتبان والران كالسراويل فيما ذكرناه لأنه في معنى السراويل وإن
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 19 – 21. مسلم في كتاب الحج حديث 93. الترمذي في كتاب الحج باب 103. الدارمي في كتاب المناسك باب 35. أحمد في مسنده "1/215، 328".

(1/380)


شق الإزار وجعل له ذيلين وشدهما على ساقيه لم يجز لأنهما كالسراويل وما على الساقين كالبابكين ويجوز أن يعقد عليه إزاره لأن فيه مصلحة له وهو أن يثبت عيه ولا يعقد الرداء عليه لأنه لا حاجة به إليه وله أن يغرز طرفيه في إزاره وإن جعل لإزاره حجزة وأدخل فيها التكة واتزر به جاز وإن اتزر وشد فوقه تكة جاز قال في الإملاء وإن زره أو خاطه أو شوكه لم يجز لأنه يصير كالمخيط وإن لم يجد إزاراً جاز أن يلبس السراويل ولا فدية عليه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين1" فإن لم يجد رداء لم يلبس القميص لأنه يمكنه أن يرتدي به ولا يمكنه أن يتزر بالسراويل فإن لبس السراويل ثم وجد الإزار لزمه خلعه ويحرم عليه لبس الخفين للخبر وتجب الفدية لما ذكرناه من القياس على الحلق فإن لم يجد نعلين لبس الخفين بعد أن يقطعهما من أسفل الكعبين للخبر فإن لبس الخف مقطوعاً من أسفل الكعب مع وجود النعل لم يجز على المنصوص وتجب عليه الفدية ومن أصحابنا من قال يجوز ولا فدية عليه لأنه قد صار كالنعل بدليل أنه لا يجوز المسح عليه وهذا خلاف المنصوص وخلاف السنة وما ذكره من المسح لا يصح لأنه وإن لم يجز المسح إلا أنه يترفه به في دفع الحر والبرد والأذى ولأنه يبطل بالخف المخرق فإنه لا يجوز المسح عليه ثم يمنع من لبسه ويحرم عليه لبس القفازين وتجب به الفدية لأنه ملبوس على قدر العضو فأشبه الخف ولا يحرم عليه ستر الوجه لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي خر من بعيره: "ولا تخمروا رأسه" فخص الرأس بالنهي ويحرم على المرأة ستر الوجه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحج باب 21. مسلم في كتاب الحج حديث 1-5. الترمذي في كتاب الحج باب 19. النسائي في كتاب الحج باب 52، 53. الموطأ في كتاب الحج حديث 8، 9. أحمد في مسنده "1/ 215، 221" "3/ 323".

(1/381)


القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب وليلبس بعد ذلك ما اختير من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلى أو سراويل أو قميص أو خف وتجب به الفدية قياساً على الحلق ويجوز أن تستر من وجهها ما لا يمكن ستر الرأس إلا بستره لأنه لا يمكن ستر الرأس إلا بستره فعفى عن ستره فإن أرادت ستر وجهها عن الناس سدلت على وجهها شيئاً لا يباشر الوجه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا وكشفنا ولأن الوجه من المرأة كالرأس من الرجل ثم يجوز للرجل ستر الرأس من الشمس بما لا يقع عليه فكذلك المرأة في الوجه ولا يحرم عليها لبس القميص والسراويل والخف لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ولأن جميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين فجاز لها ستره لما ذكرناه وهل يجوز لها لبس القفازين فيه قولان: أحدهما أنه يجوز لأنه عضو يجوز لها ستره بغير المخيط فجاز لها ستره بالمخيط كالرجل والثاني لا يجوز للخبر ولأنه عضو ليس بعورة فتعلق به حرمة الإحرام في اللبس كالوجه.
فصل: ويحرم عليه استعمال الطيب في ثيابه وبدنه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا تلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران1" وتجب به الفدية قياساً على الحلق ولا يلبس ثوباً مبخراً بالطيب ولا ثوباً مصبوغاً بالطيب ويجب به الفدية قياساً على ما مسه الورس والزعفران وإن علق بخفه طيب وجبت به الفدية لأنه ملبوس فهو كالثوب ويحرم عليه استعمال الطيب في بدنه ولا يجوز أن يأكله ولا أن يكتحل به ولا يستعط به ولا يحتقن به فإن استعمله في شيء من ذلك لزمته الفدية لأنه إذا وجب ذلك فيما يستعمله بالثياب فلأن يجب فيما يستعمله ببدنه أولى وإن كان الطيب في طعام نظرت فإن ظهر ذلك في طعمه أو رائحته لم يجزأ كله وتجب به الفدية
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصيد باب 13. مسلم في كتاب الحج حديث 1، 2. أبو داود في كتاب المناسك باب 31 الموطأ في كتاب الحج حديث 8. أحمد في مسنده "2/4، 8".

(1/382)


وإن ظهر ذلك في لونه وصبغ به اللسان من غير طعم ولا رائحة فقد قال في المختصر الأوسط من الحج لا يجوز وقال في الأم والإملاء يجوز قال أبو إسحاق: يجوز قولاً واحداً وتأول قوله في الأوسط على ما إذا كانت له رائحة ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا يجوز لأن اللون إحدى صفات الطيب فمنع من استعماله كالطعم والرائحة والثاني يجوز وهو الصحيح لأن الطيب بالطعم والرائحة.
فصل: والطيب كل ما يتطيب به ويتخذ منه الطيب كالمسك والكافور والعنبر والصندل والورد والياسمين والورس والزعفران وفي الريحان الفارسي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس قولان: أحدهما أنه يجوز شمها لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه سئل عن المحرم يدخل البستان قال: نعم ويشم الريحان ولأن هذه الأشياء لها رائحة إذا كانت رطبة فإذا جفت لم يكن لها رائحة والثاني لا يجوز لأنه يراد للرائحة فهو كالورد والزعفران وأما البنفسج فقد قال الشافعي رحمه الله: ليس بطيب فمن أصحابنا من قال

(1/383)


هو طيب قولاً واحد لأنه يشم رائحته ويتخذ منه الدهن فهو كالورد وتأول قول الشافعي على المربب بالسكر ومنهم من قال ليس بطيب قولاً واحداً لأنه يراد للتداوي ولا يتخذ من يابسه طيب ومنهم من قال هو كالنرجس والريحان وفيه قولان: لأنه يشم رطبه ولا يتخذ من يابسه طيب وأما الأترج فإنه ليس بطيب لأنه يراد للأكل فهو كالتفاح والسفرجل وأما العصفر فليس بطيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "وليلبسن ما أحببن من المعصفر" ولأنه يراد للون فهو كالنيل والحناء ليس بطيب لما روي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يختضبن بالحناء وهن محرمات ولأنه يراد للون فهو كالعصفر ولا يجوز أن يستعمل الأدهان المطيبة كدهن الورد والزنبق وهدن البان المنشوش وتجب به الفدية لأنه يراد للرائحة وأما غير المطيب كالزيت والشيرج والبان غير المنشوش فإنه يجوز استعماله في غير الرأس واللحية لأنه ليس فيه طيب ولا تزيين ويحرم استعماله في شعر الرأس واللحية لأنه يرجل الشعر ويربيه وتجب به الفدية فإن استعمله في رأسه وهو أصلع جاز له لأنه ليس فيه تزيين وإن استعمله في رأسه وهو محلوق لم يجز لأنه يحسن الشعر إذا نبت ويجوز أن يجلس عند العطار وفي موضع يبخر لأن في المنع من ذلك مشقة ولأن ذلك ليس بطيب مقصود والمستحب أن يتوقى ذلك إلا أن يكون في موضع قربة كالجلوس عند الكعبة وهي تجمر فلا يكره ذلك لأن الجلوس عندها قربة فلا يستحب تركها لأمر مباح وله أن يحمل الطيب في خرقة أو قارورة والمسك في نافجة ولا فدية عليه لأن دونه حائلاً وإن مس طيباً فعبقت به رائحته ففيه قولان: أحدهما لا فدية عليه لأنه رائحة عن مجاوره فلم يكن لها حكم كالماء إذا تغيرت بجيفة بقربه والثاني يجب لأن المقصود من الطيب هو الرائحة وقد حصل ذلك وإن كان عليه طيب فأراد غسله فالمستحب أن يولي غيره غسله حتى لا يباشره بيده فإن غسله بنفسه جاز لأن غسله ترك له فلا يتعلق به تحريم كما لو دخل دار غيره بغير إذنه فأراد أن يخرج فإن حصل عليه طيب ولا يقدر على إزالته بغير الماء وهو محدث ومعه من الماء ما لا يكفي الطيب والوضوء غسل به الطيب لأن الوضوء له بدل وغسل الطيب لا بدل له وإن كان عليه

(1/384)


نجاسة استعمل الماء في إزالة النجاسة لأن النجاسة تمنع صحة الصلاة والطيب لا يمنع صحة الحج.
فصل: ويحرم عليه أن يتزوج وأن يزوج غيره بالوكالة والولاية الخاصة فإن تزوج أو زوج فالنكاح باطل لما روى عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم ولا يخطب ولا ينكح1" ولأنه عبادة تحرم الطيب فحرمت النكاح كالعدة وهل يجوز للإمام أو الحاكم أن يزوج بولاية الحكم؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز أن يزوج بالولاية الخاصة والثاني يجوز لأن الولاية العامة آكد والدليل عليه أنه يملك بالولاية العامة أن يزوج المسلمة والكافرة ولا يملك ذلك بالولاية الخاصة ويجوز أن يشهد في النكاح وقال أبو سعيد الأصطخري لا يجوز لأنه ركن في العقد فلم يجز أن يكون محرما كالولي والمذهب أنه يجوز لأن العقد هو الإيجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك ويكره له الخطبة لأن النكاح لا يجوز فكرهت الخطبة له ويجوز أن يراجع الزوجة في الإحرام لأن الرجعة كاستدامة النكاح بدليل أنه يصح من غير ولي ولا شهود ويصح من العبد بغير إذن المولى فلم يمنع الإحرام منه كالبقاء على العقد.
فصل: ويحرم عليه الوطء في الفرج لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] قال ابن عباس: الرفث الجماع وتجب به الكفارة لما روي عن علي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أنهم أوجبوا فيه الكفارة ولأنه إذا وجبت الكفارة في الحلق فلأن تجب في الجماع أولى.
فصل: ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج لأنه إذا حرم عليه النكاح فلأن تحرم المباشرة وهي أدعى للوطء أولى وتجب فيه الكفارة لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: من قبل امرأة وهو محرم فليهرق دماً ولأنه فعل محرم في الإحرام فوجبت به الكفارة كالجماع.
فصل: ويحرم عليه الصيد المأكول من الوحش والطير ولا يجوز له أخذه لقوله
__________
1 رواه مسلم في كتاب النكاح حديث 14 -45. الترمذي في كتاب الحج باب 23. النسائي في كتاب المناسك باب 91. الدارمي في كتاب النكاح باب 17. أحمد في مسنده "1/ 75".

(1/385)


تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] فإن أخذه لم يملكه بالأخذ لأن ما منع أخذه لحق الغير لم يملكه بالأخذ من غير إذنه كما لو غضب مال غيره وإن كان الصيد لآدمي وجب رده إلى مالكه وإن كان من المباح وجب إرساله في موضع يمتنع على من يأخذه لأن ما حرم أخذه لحق الغير إذا أخذه وجب رده إلى مالكه كالمغصوب فإن هلك عنده وجب عليه الجزاء لأنه مال حرام أخذه لحق الغير فضمنه بالبدل كمال الآدمي فإن خلص صيداً من فم سبع فداواه فمات في يده لم يضمنه لأنه قصد الصلاح قال الشافعي رحمه الله: ولو قيل يضمن لأنه تلف في يده كان محتملاً ويحرم عليه قتله فإن قتله عمداً وجب عليه الجزاء لقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فإن قتله خطأ وجب عليه الجزاء لأن ما ضمن عمده بالمال ضمن خطؤه كمال الآدمي ولأنه كفارة تجب بالقتل فاستوى فيها الخطأ والعمد ككفارة القتل فإن كان الصيد مملوكاً لآدمي وجب عليه الجزاء والقيمة وقال المزني: لا يجب الجزاء في الصيد المملوك لأنه يؤدي إلى إيجاب بدلين عن متلف واحد والدليل على أنه يجب أنه كفارة تجب بالقتل فوجبت بقتل المملوك ككفارة القتل ويحرم عليه جرحه لأن ما منع من إتلافه لحق الغير منع من إتلاف أجزائه كالآدمي وإن أتلف جزءاً منه ضمنه بالجزاء لأن ما ضمن جميعه بالبدل ضمن أجزاؤه كالآدمي ويحرم عليه تنفير الصيد لقوله صلى الله عليه وسلم في مكة: "لا ينفر صيدها" وإذا حرم ذلك في صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام فإن نفره فوقع في بئر فهلك أو نهشته حية أو أكله سبع وجب عليه الضمان لما روي أن عمر رضي الله عنه دخل دار الندوة فعلق رداءه فوقع عليه طير فخاف أن ينجسه فطيره فنهشته حية فقال طير طردته حتى نهشته

(1/386)


الحية فسأل من كان معه أن يحكموا عليه فحكموا عليه بشاة ولأنه هلك بسبب من جهته فأشبه إذا حفر له بئراً ونصب له أحبولة فهلك بها ويحرم عليه أن يعين على قتله بدلالة أو إعارة آلة لأن ما حرم قتله حرمت الإعانة على قتله كالآدمي وإن أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة فقتل لم يلزمه الجزاء لأن ما لا يلزمه حفظه لا يضمنه بالدلالة على إتلافه كمال الغير ويحرم عليه أكل ما صيد له لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيد حلال لكم ما لم تصيدوا أو يصد لكم1" ويحرم عليه أكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة لما روى عبد الله بن أبي قتادة قال: كان أبو قتادة في قوم محرمين وهو حلال فأبصر حمار وحش فاختلس من بعضهم سوطاً فضربه حتى صرعه ثم ذبحه وأكل هو وأصحابه فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل أشار إليه أحد منكم"؟ قالوا: لا قال: فلم ير بأكله بأساً فإن أكل ما صيد له أو أعان على قتله فهل يجب عليه الجزاء؟ فيه قولان: أحدها يجب لأنه فعل محرم يحكم الإحرام فوجبت فيه الكفارة كقتل الصيد والثاني لا يجب لأنه ليس بنام ولا بآيل إلى النماء فلا يضمن بالجزاء كالشجر اليابس والبيض المذر فإن ذبح صيداً حرم عليه أكله لأنه إذا حرم عليه ما صيد له أو دل عليه فلأن يحرم ما ذبحه أولى وهل يحرم على غيره؟ فيه قولان: قال في الجديد يحرم لأن ما حرم على الذابح أكله حرم على غيره كذبيحة المجوسي وقال في القديم لا يحرم لأن من حل بذكاته غير الصيد حل بذكاته الصيد كالحلال فإن أكل ما ذبحه لم يضمن بالأكل لأن ما ضمنه بالقتل لم يضمنه بالأكل كشاة الغير ويحرم عليه أن يشتري الصيد أو يهبه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" ولأنه سبب يتملك به الصيد فلم يتملك به مع الإحرام كالاصطياد فإن مات من يرثه وله صيد ففيه وجهان: أحدهما لا يرثه لأنه سبب للملك فلا يملك به الصيد كالبيع والهبة والثاني أنه يرثه لأنه يدخل في ملكه بغير قصده ويملك به الصبي والمجنون فجاز أن يملك به المحرم الصيد وإن كان في ملكه
__________
1 رواه أبو داود في كتاب المناسك باب 40. الترمذي في كتاب الحج باب 25. النسائي في كتاب المناسك باب 81. أحمد في مسنده "3/362".

(1/387)


صيد فأحرم ففيه قولان: أحدهما لا يزول ملكه عنه لأنه ملك فلا يزول بالاحرام كملك البضع والثاني يزول عنه لأنه معنى لا يراد للبقاء يحرم على المحرم ابتداؤه فحرمت استدامته كلبس المخيط فإن قلنا إنه لا يزول ملكه جاز له بيعه وهبته ولا يجوز له قتله فإن قتله وجب عليه الجزاء لأن الجزاء كفارة تجب لله تعالى فجاز أن تجب على مالكه ككفارة القتل وإن قلنا يزول ملكه وجب عليه إرساله فإن لم يرسله حتى مات ضمنه بالجزاء وإن لم يرسله حتى تحلل ففيه وجهان: أحدهما يعود إلى ملكه ويسقط عنه فرض الإرسال لأن علة زوال الملك هو الإحرام وقد زال فعاد الملك كالعصير إذا صار خمراً ثم صار خلاً والثاني أنه لا يعود إلى ملكه ويلزمه إرساله لأن يده متعدية فوجب أن يزيلها.
فصل: وإن كان الصيد غير مأكول نظرت فإن كان متولداً مما يؤكل ومما لا يؤكل كالسبع المتولد بين الذئب والضبع والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل فحكمه حكم ما يؤكل في تحريم صيده ووجوب الجزاء لأنه اجتمع فيه جهة التحليل والتحريم فغلب التحريم كما غلب جهة التحريم في أكله وإن كان حيواناً لا يؤكل ولا هو متولد مما يؤكل فالحلال والحرام فيه واحد لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] فحرم من الصيد ما يحرم بالإحرام وهذا لا يكون إلا فيما يؤكل وهل يكره قتله أو لا يكره ينظر فيه فإن كان مما يضر ولا ينفع كالذئب والأسد والحية والعقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور والبق والبرغوث والقمل والجرجس والزنبور فالمستحب أن يقتله لأنه يدفع ضرره عن نفسه وعن غيره وإن كان مما ينتفع به ويستضر به كالفهد والبازي فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة ولا يكره لما فيه من المضرة وإن كان مما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان وبنات وردان فإنه يكره قتله ولا يحرم.
فصل: وإن كان الصيد وما حرم على المحرم من الصيد حرم عليه بيضه وإذا كسره وجب عليه الجزاء وقال المزني: لا جزاء عليه لأنه لا روح فيه والدليل عليه ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه ولأنه خارج من الصيد يخلق منه مثله فضمن بالجزاء كالفرخ وإن كسر بيضاً لم يحل له أكله وهل يحل لغيره؟ فيه قولان كالصيد وقال شيخنا القاضي أبو الطيب: في تحريمه على غيره نظر لأنه لا روح فيه فلا يحتاج إلى ذكاة وإن كسر بيضاً مذراً لم يضمنه من غير النعامة لأنه لا قيمة له ويضمنه من النعامة لأن لقشر بيض النعامة قيمة.

(1/388)


فصل: وإن احتاج المحرم إلى اللبس لحر شديد أو برد شديد أو احتاج إلى الطيب لمرض أو إلى حلق الرأس للأذى أو إلى شد رأسه بعصابة لجراحة عليه أو إلى ذبح الصيد للمجاعة لم يحرم عليه وتجب عليه الكفارة لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] ولحديث كعب بن عجرة فثبت الحلق بالنص وقسنا ما سواه عليه لأنه في معناه وإن نبت في عينه شعرة فقلعها أو نزل شعر الرأس إلى عينه فغطاها فقطع ما غطى العين أو انكسر شيء من ظفره فقطع ما انكسر منه أو صال عليه صيد فقتله دفعاً عن نفسه جاز ولا كفارة عليه لأن الذي تعلق به المنع ألجأه إلى إتلافه ويخالف إذا آذاه القمل في رأسه فحلق الشعر لأن الأذى لم يكن من جهة الشعر الذي تعلق به المنع وإنما كان من غيره وإن افترش الجراد في طريقه فقتله ففيه قولان: أحدهما يجب عليه الجزاء لأنه قتله لمنفعة نفسه فأشبه إذا قتله للمجاعة والثاني لا يجب لأن الجراد ألجأه إلى قتله فأشبه إذا صال عليه الصيد فقتله للدفع وإن باض صيد على فراشه فنقله فلم يحضنه الصيد فقد حكى الشافعي رحمه الله عن عطاء أنه لا يلزمه ضمانه لأنه مضطر إلى ذلك قال: ويحتمل عندي أن يضمن لأنه أتلفه باختياره فحصل فيه قولان كالجراد وإن كشط من بدنه جلداً وعليه شعر وقطع كفه وفيه أظافر لم تلزمه فدية لأنه تابع لمحله فسقط حكمه تبعاً لمحله كالأطراف مع النفس في قتل الآدمي.
فصل: وإن لبس أو تطيب أو دهن رأسه أو لحيته جهلاً بالتحريم أو ناسياً للإحرام لم تلزمه الفدية لما روى أبو يعلى بن أمية قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل بالجعرانة وعليه جبة وهو مصفر لحيته ورأسه فقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة وأنا كما ترى فقال: اغسل عنك الصفرة وانزع عنك الجبة وما كنت صانعاً في حجتك فاصنع في عمرتك

(1/389)


ولم يأمره بالفدية فدل على أن الجاهل لا فدية عليه فإذا ثبت هذا في الجاهل ثبت في الناسي لأن الناسي يفعل وهو يجهل تحريمه عليه فإن ذكر ما فعله ناسياً أو علم ما فعله جاهلاً نزع اللباس وأزال الطيب لحديث يعلى بن أمية فإن لم يقدر على إزالة الطيب لم تلزمه الفدية لأنه مضطر إلى تركه فلم تلزمه فدية كما لو أكره على التطيب وإن قدر على إزالته واستدام لزمته الفدية لأنه تطيب من غير عذر فأشبه إذا ابتدأ به وهو عالم بالتحريم وإن مس طيباً وهو يظن أنه يابس وكان رطباً ففيه قولان: أحدهما تلزمه الفدية لأنه قصد مس الطيب والثاني لا تلزمه لأنه جهل تحريمه فأشبه إذا جهل تحريم الطيب في الإحرام فإن حلق الشعر أو قلم الظفر ناسياً أو جاهلاً بالتحريم فالمنصوص أنه تجب عليه الفدية لأنه إتلاف فاستوى في ضمانه العمد والسهو كإتلاف مال الآدمي وفيه قول آخر مخرج إنه لا تجب لأنه ترفه وزينة فاختلف في فديته السهو والعمد كالطيب وإن قتل صيداً ناسياً أو جاهلاً بالتحريم وجب عليه الجزاء لأن ضمانه ضمان مال فاستوى فيه السهو والعمد والعلم والجهل كضمان مال الآدميين وإن أحرم ثم جن وقتل صيداً ففيه قولان: أحدهما يجب عليه الجزاء لما ذكرناه والثاني لا يجب لأن المنع من قتل الصيد تعبد والجنون ليس من أهل التعبد فلا يلزمه ضمان ومن أصحابنا من نقل هذين القولين إلى الناسي وليس بشيء وإن جامع ناسياً أو جاهلاً بالتحريم ففيه قولان: قال في الجديد لا يفسد حجه ولا يلزمه شيء لأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة فاختلف في الوطء فيها العمد والسهو كالصوم وقال في القديم يفسد حجه وتلزمه الكفارة لأنه معنى يتعلق به قضاء الحج فاستوى فيه العمد والسهو كالفوات وإن حلق رجل رأسه فإن كان بإذنه وجبت عليه الفدية لأنه أزال شعره بسبب لا عذر له فيه فأشبه إذا حلقه بنفسه وإن حلقه وهو نائم أو مكره وجبت الفدية وعلى من تجب؟ فيه قولان: أحدهما تجب على الحالق لأنه أمانة عنده فإذا أتلفه غيره وجب الضمان على من أتلفه كالوديعة إذا أتلفها غاصب والثاني تجب على المحلوق لأنه هو الذي ترفه بالحلق فكانت الفدية عليه فإذا قلنا تجب الفدية على الحالق فالمحلوق مطالبته بإخراجها لأنها تجب بسببه فإن مات الحالق أو أعسر بالفدية لم تجب على المحلوق الفدية وإن قلنا تجب على المحلوق أخذها من الحالق وأخرج وإن افتدى المحلوق نظرت فإن افتدى بالمال رجع بأقل الأمرين من الشاة أو ثلاثة آصع فإن أداها بالصوم لم يرجع عليه لأنه لا يمكن الرجوع به ومن أصحابنا من قال يرجع بثلاثة أمداد لأن صوم كل يوم مقدر بمد وإن حلق رأسه وهو ساكت ففيه طريقان: أحدهما أنه كالنائم والمكره لأن السكوت لا يجري مجرى الإذن والدليل عليه هو أنه لو أتلف رجل ماله وسكت لم يكن سكوته إذناً في إتلافه والثاني أنه

(1/390)


بمنزلة ما لو أذن فيه لأنه يلزمه حفظه والمنع من حلقه فإذا لم يفعل جعل سكوته كالإذن فيه كالمودع إذا سكت عن إتلاف الوديعة.
فصل: ويكره للمحرم أن يحك شعره بأظافره حتى لا ينتثر شعره فإن انتثر منه شعره لزمته الفدية ويكره أن يفلي رأسه ولحيته فإن فلى وقتل قملة استحب له أن يفديها قال الشافعي رحمه الله: وأي شيء فداها به فهو خير منها فإن ظهر القمل على بدنه وثيابه لم يكره أن ينحيه لأنه ألجأه إليه ويكره أن يكتحل بما لا طيب فيه لأنه زينة والحاج أشعث أغبر فإن احتاج إليه لم يكره لأنه إذا لم يكره ما يحرم من الحلق والطيب للحاجة فلأن لا يكره ما لا حرم أولى ويجوز أن يدخل الحمام ويغتسل بالماء لما روى أبو أيوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم ويجوز أن يغسل شعره بالماء والسدر لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره: "اغسلوا بماء وسدر" ويجوز أن يحتجم ما لم يقطع شعرا لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ويجوز أن يفتصد أيضاً كما يجوز أن يحتجم ويجوز أن يستظل سائراً ونازلاً لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فإذا ثبت جواز ذلك بالحرم نازلاً وجب أن يجوز سائراً قياساً عليه ويكره أن يلبس الثياب المصبغة لما روي أن عمر رضي الله عنه رأى على طلحة رضي الله عنه ثوبين مصبوغين وهو حرام فقال: أيها الرهط أنتم أئمة يقتدى بكم ولو أن جاهلاً رأى عليك ثوبيك لقال قد كان طلحة يلبس الثياب المصبغة وهو محرم فلا يلبس أحدكم من هذه الثياب المصبغة في الإحرام شيئاً ويكره أن يحمل بازاً أو كلباً معلماً لأنه ينفر به الصيد وربما انفلت فقتل صيداً وينبغي أن ينزه إحرامه عن الخصومة والشتم والكلام القبيح لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] قال ابن عباس: الفسوق المنابزة بالألقاب وتقول لأخيك يا ظالم يا فاسق والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حج لله عز وجل فلم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أمه1" وبالله التوفيق.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحج باب4. مسلم في كتاب الحج حديث 438. الترمذي في كتاب الحج باب 2. الدارمي في كتاب المناسك باب 7. أحمد في مسنده "2/229، 248".

(1/391)


باب ما يجب بمحظورات الإحرام من الكفارة وغيرها
إذا حلق المحرم رأسه فكفارته أن يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع أو يصوم ثلاثة أيام وهو مخير بين الثلاثة لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] ولحديث كعب بن عجرة وإن حلق ثلاثة شعرات كانت كفارته ما ذكرناه في حلق الرأس لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق فصار كما لو حلق جميع رأسه وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه لزمه ما ذكرناه وقال أبو القاسم الأنماطي يجب عليه فديتان لأن شعر الرأس مخالف لشعر البدن ألا ترى أنه يتعلق النسك بحلق الرأس ولا يتعلق بشعر البدن والمذهب الأول لأنهما وإن اختلفا في النسك إلا أن الجمع جنس واحد فأجزأه لهما فدية واحدة كما لو غطى رأسه ولبس القميص والسراويل وإن حلق شعره أو شعرتين ففيه ثلاثة أقوال أحدها يجب لكل شعر ثلث دم لأنه إذا وجب فيه ثلاثة شعرات دم وجب في كل شعرة ثلثه والثاني يجب لكل شعرة درهم لأن إخراج ثلث الدم يشق فعدل إلى قيمته وكانت قيمة الشاة ثلاثة دراهم فوجب ثلثها والثالث مد لأن الله تعالى عدل في جزاء الصيد من الحيوان إلى الطعام فيجب أن يكون ههنا مثله وأقل ما يجب من الطعام مد فوجب ذلك فإن قلم أظفاره أو ثلاثة أظفار وجب عليه ما وجب في الحلق وإن قلم ظفراً أو ظفرين وجب فيهما ما يجب في الشعرة أو الشعرتين لأن في معناهما.
فصل: وإن تطيب ولبس المخيط في شيء من بدنه أو غطى رأسه أو شيئاً منه أو دهن على رأسه أو لحيته وجب عليه ما يجب في حلق الشعر لأنه ترفه وزينة فهو كالحلق وإن تطيب ولبس وجب لكل واحد منهما كفارة لأنهما جنسان مختلفان وإن لبس ثوباً مطيباً وجبت كفارة واحدة لأن الطيب تابع للثوب فدخل في ضمانه وإن لبس ثم لبس أو تطيب في أوقات متفرقة ففيه قولان: أحدهما تتداخل لأنها جنس واحد فأشبه إذا كانت في وقت واحد والثاني لا تتداخل لأنها في أوقات مختلفة فكان لكل وقت من ذلك حكم نفسه وإن حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات فهي على القولين إن قلنا يتداخل لزمه دم وإن قلنا لا يتداخل وجب لكل شعرة مد وإن حلق

(1/392)


تسع شعرات في ثلاثة أوقات فعلى لقولين إن قلنا لا يتداخل وجب ثلاثة دماء وإن قلنا تتداخل لزمه دم واحد.
فصل: وإن وطئ في العمرة أو في الحج قبل التحلل الأول فقد فسد نسكه ويجب عليه أن يمضي في فاسده ثم يقضي لما روي عن عمرو وعلي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا ذلك وهل يجب القضاء على الفور أو لا؟ فيه وجهان أحدهما أنه على الفور وهو ظاهر النص لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا يقضي من قابل والثاني أنه على التراخي لأن الأداء على التراخي فكذلك القضاء وهذا لا يصح لأن القضاء بدل عما أفسده من الأداء وذلك واجب على الفور فوجب أن يكون القضاء مثله ويجب الإحرام في القضاء من حيث أحرم في الأداء لأنه قد تعين ذلك بالدخول فيه فإذا أفسده وجب قضاؤه كحج التطوع فإن سلك طريقاً آخر لزمه أن يحرم من مقدار مسافة الإحرام في الأداء وإن كان قارناً فقضاه بالإفراد جاز لأن الإفراد أفضل من القران ولا يسقط عنه دم القران لأن ذلك دم وجب عليه فلا يسقط عنه بالإفساد كدم الطيب وفي نفقة المرأة في القضاء وجهان: أحدهما في مالها كنفقة الأداء والثاني تجب على الزوج لأنها غرامة تتعلق بالوطء فكانت على الزوج كالكفارة وفي ثمن الماء الذي تغتسل به وجهان: أحدهما يجب على الزوج لما ذكرناه والثاني يجب عليها لأن الغسل يجب للصلاة فكان ثمن الماء عليها وهل يجب عليهما أن يفترقا في موضع الوطء؟ فيه وجهان: أحدهما يجب لما روي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا يفترقان ولأن اجتماعهما في ذلك الوقت يدعو إلى الوطء فمنع منه والثاني أنه لا يجب وهو الظاهر النص كما لا يجب في سائر الطريق ويجب عليه بدنة روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: على كل واحد منهما بدنة فإن لم يجد فبقرة لأن البقرة كالبدنة لأنها تجزئ في الأضحية عن سبعة فإن لم يجد لزمه سبع من الغنم فإن لم يجد قوم البدنة دراهم والدراهم طعاماً فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوماً وقال أبو إسحاق: فيه قول آخر أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة قياساً على فدية الأذى.
فصل: وإن كان المحرم صبياً فوطئ عامداً بنيت على القولين فإن قلنا إن عمده خطأ فهو كالناسي وقد بيناه وإن قلنا إن عمده عمد فسد نسكه ووجبت الكفارة وعلى

(1/393)


من تجب فيه قولان: أحدهما في ماله والثاني على الولي وقد بيناه في أول الحج وهل يجب عليه القضاء فيه قولان: أحدهما لا يجب لأنها عبادة تتعلق بالبدن فلا تجب على الصبي كالصوم والصلاة والثاني يجب لأن من فسد الحج بوطئه وجب عليه القضاء كالبالغ فإن قلنا يجب فهل يصح منه في حال الصغر؟ فيه قولان: أحدهما لا يصح لأنه حج واجب فلا يصح من الصبي كحجة الإسلام والثاني يصح لأنه يصح منه أداؤه فصح منه قضاؤه كالبالغ وإن وطئ العبد في إحرامه عامداً فسد حجه ويجب عليه القضاء ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه لأنه ليس من أهل فرض الحج وهذا خطأ لأنه يلزمه الحج بالنذر فلزمه القضاء بالإفساد كالحر وهل يصح منه القضاء في حال الرق؟ على القولين على ما ذكرناه في الصبي فإن قلنا إنه يصح منه القضاء فهل للسيد منعه؟ منه يبنى على الوجهين في أن القضاء على الفور أم لا فإن قلنا إن القضاء على التراخي فله منعه لأن حق السيد على الفور فقدم على الحج وإن قلنا على الفور ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يملك منعه لأن موجب ما أذن فيه وهو الحج فصار كما لو أذن فيه والثاني أنه يملك منعه لأن المأذون فيه حجة صحيحية فإن أعتق بعد التحلل من الفاسد وقبل القضاء لم يجز أن يقضي حتى يحج الإسلام ثم يقضي وإن أعتق قبل التحلل من الفاسد نظرت فإن كان بعد الوقوف مضى في فاسده ثم يحج حجة الإسلام في السنة الثانية ثم يحج عن القضاء في السنة الثالثة وإن أعتق قبل الوقوف مضى في فاسده ثم يقضي ويجزئه ذلك عن القضاء وعن حجة الإسلام لأنه لو لم يفسد لكان أداؤه يجزئه عن حجة الإسلام فإذا فسد وجب أن يجزئه قضاؤه عن حجة الإسلام.
فصل: وإن وطئ وهو قارن وجب مع البدنة دم القران لأنه دم وجب بغير الوطء فلا يسقط بالوطء كدم الطيب.
فصل: وإن وطئ ثم وطئ ولم يكفر عن الأول ففيه قولان: قال في القديم يجب عليه بدنة واحدة كما لو زنى ثم زنى كفاه لهما حد واحد وقال في الجديد يجب عليه للثاني كفارة أخرى وفي الكفارة الثانية قولان: أحدهما شاة لأنها مباشرة لا توجب الفساد فوجبت فيها شاة كالقبلة بشهوة والثاني يلزمه بدنة لأنه وطء في إحرام منعقد فأشبه الوطء في إحرام صحيح وإن وطئ بعد التحلل الأول لم يفسد حجه لأنه قد زال الإحرام فلا يلحقه فساد وعليه كفارة وفي كفارته قولان: أحدهما بدنة لأنه وطيء في حال يحرم فيه الوطء فأشبه ما قبل التحلل والثاني أنها شاة لأنها مباشرة لا توجب الفساد فكانت كفارته شاة كالمباشرة فيما دون الفرج وإن جامع في قضاء الحج لزمته بدنة ولا يلزمه إلا قضاء حجة واحدة لأن المقضى واحد فلا يلزمه أكثر منه.

(1/394)


فصل: والوطء في الدبر واللواط وإتيان البهيمة كالوطء في القبل في جميع ما ذكرناه لأن الجميع وطء.
فصل: وإن قبلها بشهوة أو باشرها فيما دون الفرج بشهوة لم يفسد حجه لأنها مباشرة لا توجب الحد فلم تفسد الحج كالمباشرة بغير شهوة ويجب عليه فدية الأذى لأنه استمتاع لا يفسد الحج فكانت كفارته ككفارة فدية الأذى والطيب والاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج لأنه بمنزلتها في التحريم والتعزير فكان بمنزلتها في الكفارة.
فصل: وإن قتل صيد نظرت فإن كان له مثل من النعم وجب عليه مثله من النعم والنعم هي الإبل والبقر والغنم والدليل عليه قوله عز وجل {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فيجب في النعامة بدنة وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة وفي الضبع كبش وفي الغزال عنز وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة لما روي عن عثمان وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وابن الزبير ومعاوية رضي الله عنهم أنهم قضوا في النعامة ببدنة وعن عمر رضي الله عنه أنه جعل في حمار الوحش بقرة وحكم في الضبع بكبش وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة وعن عثمان رضي الله عنه أنه حكم في أم حبين بحلان وهو الحمل فما حكم في الصحابة فلا يحتاج إلى اجتهاد وما لم تحكم في الصحابة يرجع في معرفة المماثلة بينه وبين النعم إلى عدلين من أهل المعرفة لقوله تعالى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً} [المائدة:95] وروى قبيصة بن جابر الأسدي قال: أصبت ظبياً وأنا محرم فأتيت عمر رضي الله عنه ومعي صاحب لي فذكرت له فأقبل على رجل إلى جنبه فشاوره فقال لي: اذبح شاة فلما انصرفنا قلت لصاحبي إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول فسمعني فأقبل علي ضرباً بالدرة وقال: أتقتل صيداً وأنت محرم وتغمص الفتيا أي تحتقرها وتطعن فيها قال الله عز

(1/395)


وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] ها أنا ذا عمر وهذا ابن عوف والمستحب أن يكونا فقيهين وهل يجوز أن يكون القاتل أحدهما؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز أن يكون المتلف للمال أحد المقومين والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لأنه يجب عليه لحق الله تعالى فجاز أن يجعل من يجب عليه أميناً فيه كرب المال في الزكاة ويجوز أن يفدى الصغير بالصغير والكبير بالكبير فإن فدى الذكر بالأنثى جاز لأنها أفضل وإن فدى الأعور من اليمين بالأعور من اليسار جاز لأن المقصود فيهما واحد.
فصل: وإذا وجب عليه المثل فهو بالخيار بين أن يذبح المثل ويفرقه وبين أن يقومه بالدراهم والدراهم طعاماً ويتصدق به وبين أن يصوم عن كل مد يوماً لقوله تعالى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة:95] .
فصل: وإن جرح صيداً له مثل فنقص قيمته فالمنصوص أنه يجب عليه عشر ثمن المثل وقال بعض أصحابنا يجب عليه عشر المثل وتأول النص عليه إذا لم يجد عشر المثل لأن ما ضمن كله بالمثل ضمن بعضه بالمثل كالطعام والدليل على المنصوص أن إيجاب بعض المثل يشق فوجب العدول إلى القيمة كما عدل في خمس من الإبل إلى الشاة حين شق إيجاب جزء من البعير وإن ضرب صيداً حاملاً فأسقطت ولداً حياً ثم ماتا ضمن الأم بمثلها وضمن الولد بمثله وإن ضربها فأسقطت جنيناً ميتاً والأم حية ضمن ما بين قيمتها حاملاً وحائلاً ولا يضمن الجنين.
فصل: وإن كان الصيد لا مثل له من النعم وجب عليه قيمته في الموضع الذي أتلفه فيه لما روي أن مروان سأل ابن عباس رضي الله عنه عن الصيد يصيده المحرم ولا مثل له من النعم قال ابن عباس: ثمنه يهدى إلى مكة ولأنه تعذر إيجاب المثل فيه فضمن بالقيمة كمال الآدمي فإذا أراد أن يؤدي فهو الخيار بين أن يشتري بثمنه طعاماً ويفرقه وبين أن يقوم ثمنه طعاماً ويصوم عن كل مد يوماً وإن كان الصيد طائراً نظرت فإن كان حماماً وهو الذي يعب ويهدر كالذي يقتنيه الناس في البيوت كالدبسي والقمري والفاختة فإنه يجب فيه شاة لأنه روي ذلك عن عمر وعثمان ونافع بن عبد الحارث وابن

(1/396)


عباس رضي الله عنهم ولأن الحمام يشبه الغنم لأنه يعب ويهدر كالغنم فضمن به وإن كان أصغر من الحمام كالعصفور والبلبل والجراد ضمنه بالقيمة لأنه لا مثل له فضمن بالقيمة وإن كان أكبر من الحمام كالقطا واليعقوب والبط والأوز فيه قولان: أحدهما يجب فيه شاة لأنها إذا وجبت في الحمام فلأن تجب في هذا وهو أكبر أولى والثاني أنه يجب فيها قيمتها لأنه لا مثل لها من النعم فضمن بالقيمة وإن كسر بيض صيد ضمنه بالقيمة وإن نتف ريش طائر ثم نبت ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن والثاني يضمن بناء على القولين فيمن قلع شيئاً ثم نبت.
فصل: وإن قتل صيداً بعد صيد لكل واحد منهما جزاء لأنه ضمان متلف فيتكرر بتكرر الإتلاف وإن اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد وجب عليهم جزاء واحد لأنه بدل متلف يتجزأ فإذا اشترك الجماعة في إتلافه قسم البدل بينهم كقيم المتلفات وإذا اشترك حلال وحرام في قتل صيد وجب على المحرم نصف الجزاء ولم يجب على الحلال شيء كما لو اشترك رجل وسبع في قتل آدمي وإن أمسك محرم صيداً فقتله حلال ضمنه المحرم بالجزاء ثم يرجع به على القاتل لأن القاتل أدخله في الضمان فرجع عليه كما لو غصب مالاً من رجل فأتلفه آخر في يده.
فصل: وإن جنى على صيد فأزال امتناعه نظرت فإن قتله غيره ففيه طريقان: قال أبو العباس: عليه ضمان ما نقص وعلى القاتل جزاؤه مجروحاً إن كان محرماً ولا شيء عليه إن كان حلالاً وقال غيره فيه قولان: أحدهما عليه ضمان ما نقص لأنه جرح ولم يقتل فلا يلزمه جزاء كامل كما لو بقي ممتنعاً ولأنا لو أوجبنا عليه جزاء كاملاً وعلى القاتل وإن كان محرماً - جزاء كاملاً سوينا بين القاتل والجارح ولأنه يؤدي إلى أن نوجب

(1/397)


على الجارح أكثر مما يجب على القاتل لأنه يجب على الجارح جزاؤه صحيحاً وعلى القاتل جزاؤه مجروحاً وهذا خلاف الأصول والقول الثاني أنه يجب عليه جزاؤه كاملاً لأنه جعله غير ممتنع فأشبه الهالك فأما إذا كسره ثم أخذه وأطعمه وسقاه حتى بريء نظرت فإن عاد ممتنعاً ففيه وجهان كما قلنا فيمن نتف ريش طائر فعاد ونبت فإن لم يعد ممتنعاً فهو على القولين أحدهما يلزمه ضمان ما نقص والثاني يلزمه جزاء كامل.
فصل: والمفرد والقارن في كفارات الإحرام واحد لأن القارن كالمفرد في الأفعال فكان كالمفرد في الكفارات.
فصل: ويحرم صيد الحرم على الحلال والمحرم لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى حرم مكة لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها1" فقال العباس رضي الله عنه: إلا الإذخر لصاغتنا فقال: إلا الإذخر وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء فإن قتل محرم صيداً في الحرم لزمه جزاء واحد لأن المقتول واحد فكان الجزاء واحدا كما لو
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصيد باب 9، 10. مسلم في كتاب الحج حديث 445. أبو داود في كتاب المناسك باب 89. النسائي في كتاب الحج باب 110. الدارمي في كتاب البيوع باب 60. أحمد في مسنده "1/119، 253".

(1/398)


قتله في الحل وإن اصطاد الحلال صيداً في الحل وأدخله إلى الحرم جاز له التصرف فيه بالإمساك والذبح وغير ذلك مما كان يملكه قبل أن يدخله إلى الحرم لأنه من صيد الحل فلم يمنع من التصرف فيه وإن ذبح الحلال صيداً من صيود الحرم لم يحل له أكله وهل يحرم على غيره فيه طريقان من أصحابنا من قال: هو على قولين كالمحرم إذا ذبح صيداً ومنهم من قال: يحرم ههنا قولاً واحداً لأن الصيد في الحرم محرم على كل أحد فهو كالحيوان الذي لا يؤكل فإن رمى من الحل إلى صيد في الحرم فأصابه لزمه الضمان لأن الصيد في موضع أمنه وإن رمى من المحرم إلى صيد في الحل فأصابه لزمه ضمانه لأن كونه في الحرم يوجب عليه تحريم الصيد فإن رمى من الحل إلى صيد في الحل ومر السهم في موضع من الحرم فأصابه فيه وجهان: أحدهما يضمنه لأن السهم مر من الحرم إلى الصيد والثاني لا يضمنه لأن الصيد في الحل والرمي في الحل وإن كان في الحرم شجرة وأغصانها في الحل فوقعت حمامة على غصن في الحل فرماه من الحل فأصابه لم يضمنه لأن الحمام غير تابع للشجر فهو كطير في هواء الحل وإن رمى صيداً في الحل فعدل السهم فأصاب صيداً في الحرم فقتله لزمه الجزاء لأن العمد والخطأ في ضمان الصيد واحد وإن أرسل كلباً في الحل على صيد في الحل فدخل الصيد الحرم وتبعه الكلب فقتله لم يلزمه الجزاء لأن الكلب اختياراً وقد دخل إلى الحرم باختياره بخلاف السهم قال في الإملاء: إذا أمسك الحلال صيداً في الحل وله فرخ في الحرم فمات الصيد في يده ومات الفرخ لأنه مات في الحرم بسبب من جهته ولا يضمن الأم لأنه صيد في الحل مات في يد الحلال.
فصل: وإن دخل كافر إلى الحرم فقتل فيه صيداً فقد قال بعض أصحابنا: يجب عليه الضمان لأنه ضمان يتعلق بالإتلاف فاستوى فيه المسلم والكافر كضمان الأموال ويحتمل عندي أنه لا ضمان عليه لأنه غير ملتزم لحرمة الحرم فلم يضمن صيده.
فصل: ويحرم عليه قطع شجر الحرم ومن أصحابنا من قال: ما أنبته الآدميون يجوز قلعه والمذهب الأول لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ولأن ما حرم لحرمة الحرام استوى فيه المباح والمملوك كالصيد ويجب فيه الجزاء فإن كانت شجرة كبيرة ضمنها ببقرة وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه

(1/399)


قال: في الدوحة بقرة وفي الشجرة الجزلة شاة فإن قطع غصناً منها ضمن ما نقص فإن نبت مكانه فهل يسقط عنه الضمان؟ على قولين بناء على القولين في السن إذا قلع ثم نبت ويجوز أخذ الورق ولا يضمنه لأنه لا يضربها وإن قلع شجرة من الحرم لزمه ردها إلى موضعها كما إذا أخذ صيداً منه لزمه تخليته فإن أعادها إلى موضعها فنبتت لم يلزمه شيء وإن لم تبت وجب عليه ضمانها.
فصل: ويحرم قطع حشيش الحرم لقوله صلى الله عليه وسلم "ولا يختلى خلاها" ويضمنه لأنه ممنوع من قطعه لحرمة الحرم فضمنه كالشجر وإن قطع الحشيش فنبت مكانه لم يلزمه الضمان قولاً واحداً لأن ذلك يستخلف في العادة فهو كسن الصبي إذا قلعه فنبت مكانه بخلاف الأغصان ويجوز قطع الإذخر لحديث ابن عباس رضي الله عنه ولأن الحاجة تدعو إليه ويجوز رعي الحشيش لأن الحاجة تدعو إلى ذلك فجاز كقطع الإذخر ويجوز قطع العوسج والشوك لأنه مؤذ فلم يمنع من إتلافه كالسبع والذئب.
فصل: ولا يجوز إخراج تراب الحرم وأحجاره لما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يكرهان أن يخرج من تراب الحرم إلى الحل أو يدخل من تراب الحل إلى الحرم وروى عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر قال: قدمت مع أمي أو مع جدتي مكة فأتينا صفية بنت شيبة فأرسلت إلى الصفا فقطعت حجراً من جنابه فخرجنا به فنزلنا أول منزل فذكر من علتهم جميعاً فقالت أمي أو جدتي: ما أرانا أتينا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم قال: وكنت أنا أمثلهم فقالت لي: انطلق بهذه القطعة إلى صفية فردها وقل لها: إن الله عز وجل وضع في حرمه شيئاً لا ينبغي أن يخرج منه قال عبد الأعلى: فما هو إلا ان نحينا ذلك فكأنما أنشطنا من عقال ويجوز إخراج ماء زمزم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استهدى راوية من ماء زمزم فبعث إليه براوية من ماء ولأن الماء يستخلف بخلاف التراب والأحجار.

(1/400)


فصل: ويحرم صيد المدينة وقطع شجرها لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرم إبراهيم مكة وإني حرمت المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد1" فإن قتل فيها صيداً ففيه قولان: قال في القديم يسلب القاتل لما روي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أخذ سلب رجل قتل صيداً في المدينة وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من وجدتموه يقتل صيداً في حرم المدينة فأسلبوه2" وقال في الجديد: لا يسلب لأنه وضع يجوز دخوله بغير إحرام فلا يضمن كصيدوج فإن قلنا يسلب دفع سلبه إلى مساكين المدينة كما يدفع جزاء صيد مكة إلى مساكين مكة وقال شيخنا القاضي أبو الطيب: يكون سلبه لمن أخذه لأن سعد بن أبي وقاص أخذ سلب القاتل وقال طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل: ويحرم قتل صيدوج وهو واد بالطائف لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل صيدوج فإن قتل صيداً لم يضمنه بالجزاء ولم يسلب القاتل لأن الجزاء وجب بالشرع والشرع لم يرد إلا في الإحرام والحرم وصيدوج لا يبلغ الحرم في الحرمة فلم يلحق به في الجزاء.
فصل: وإذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام كدم التمتع والقران ودم الطيب وجزاء الصيد وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم لقوله تعالى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] فإن ذبحه في الحل وأدخله إلى الحرم نظرت فإن تغير وأنتن لم يجز لأن
__________
1 رواه البخاري في كتاب العلم باب 39. مسلم في كتاب الحج حديث 447، 448. أبو داود في كتاب المناسك باب 89. النسائي في كتاب المناسك باب 120. أحمد في مسنده "1/318، 348".
2 رواه أحمد في مسنده "1/170".

(1/401)


المستحق لحم كامل غير متغير فلم يجزه المنتن المتغير وإن لم يتغير ففيه وجهان: أحدهما لا يجزئه لأن الذبح أحد مقصودي الهدي فاختص بالحرم كالتفرقة والثاني يجزئه لأن المقصود هو اللحم وقد أوصل ذلك إليهم وإن وجب عليه طعام وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم قياساً على الهدي وإن وجب عليه صوم جاز أن يصوم في كل مكان لأنه لا منفعة لأهل الحرم في صيامه فإن وجب عليه هدي وأحصر عن المحرم جاز أن يذبح ويفرق حيث أحصر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحالت كفار قرش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وبين الحديبية وبين الحرم ثلاثة أميال ولأنه إذا جاز أن يتحلل في غير موضع التحلل لأجل الإحصار جاز أن ينحر الهدي في غير موضع النحر والله أعلم.

(1/402)


باب صفة الحج والعمرة
...
باب صفة الحج العمرة
إذا أراد دخول مكة وهو محرم بالحج اغتسل بذي طوى لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء وادي طوى بات حتى صلى الصبح فاغتسل ثم دخل من ثنية كداء ويدخل من ثنية كداء من أعلى مكة ويخرج من السفل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى وإذا رأى البيت دعا لما روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تفتح أبواب السماء وتستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة" ويستحب أن يرفع اليد في دعاء لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترفع الأيدي في الدعاء لاستقبال البيت" ويستحب أن يقول: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة وزد من شرفه وكرمه ممن

(1/402)


حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً لما روى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال ذلك ويضيف إليه: "اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام" لما روى أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال ذلك.
فصل: ويبتدئ بطواف القدوم لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت فإن خاف فوت مكتوبة أو سنة مؤكدة أتى بها قبل الطواف لأنها تفوت والطواف لا يفوت وهذا الطواف سنة لأنه تحية فلم يجب كتحية المسجد ومن شرط الطواف الطهارة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام" ومن شرطه ستر العورة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر رضي الله عنه إلى مكة فنادى ألا لا يطوفن بالبيت مشرك ولا عريان وهل يفتقر إلى النية فيه وجهان: أحدهما يفتقر إلى النية لأنها عبادة تفتقر إلى الستر فافتقرت إلى النية كركعتي المقام والثاني لا يفتقر لأن نية الحج تأتي عليه كما تأتي على الوقوف والسنة أن يضطبع فيجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر ويكشف الأيمن لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فاضطبعوا فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم وقذفوها على عواتقهم يرملون.

(1/403)


ويطوف سبعاً لما روى جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعاً ثم صلى وإن ترك السبعة لم يجزه لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً وقال: "خذوا عني مناسككم1" ولا يجزئه حتى يطوف حول جميع البيت فإن طاف على جدار الحجر لم يجزه لأن الحجر من البيت والدليل عليه ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجر من البيت" فإن طاف على شاذروان الكعبة لم يجزه لأن ذلك كله من البيت والأفضل أن يطوف بالبيت راجلاً لأنه إذا طاف راكباً زاحم الناس وآذاهم فإن كان به مرض يشق معه الطواف راجلاً لم يكره الطواف راكباً لما روت أم سلمة رضي الله عنها أنها قدمت مريضة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "طوفي وراء الناس وأنت راكبة" فإن طاف راكباً من غير عذر جاز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً ليراه الناس ويسألوه فإن حمل محرم محرماً به ونويا جميعاً لم يجز عنهما جميعاً لأنه طواف واحد فلا يسقط به طوفان ولمن يكون الطواف فيه قولان: أحدهما للمحمول لأن الحامل كالراحلة والثاني أنه للحامل لأن المحمول لم يوجد منه فعل وإنما الفعل للحامل فكان الطواف له ويبتدئ الطواف من الحجر الأسود والمستحب أن يستقبل الحجر الأسود
__________
1 رواه النسائي في كتاب المناسك باب 220. أحمد في مسنده "3/318، 366".

(1/404)


لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبله ووضع شفتيه عليه فإن لم يستقبله جاز لأنه جزء من البيت فلا يجب استقباله كسائر أجزاء البيت ويحاذيه ببدنه لا يجزئه غيره وهل تجزئه المحاذاة ببعض البدن فيه قولان قال في القديم: تجزئه محاذاته ببعضه لأنه لما جاز محاذاة بعض الحجر جاز محاذاته ببعض البدن وقال في الجديد يجب أن يحاذيه بجميع البدن لأن ما وجب فيه محاذاة البيت وجبت محاذاته بجميع البدن كالاستقبال في الصلاة ويستحب أن يستلم الحجر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة يستلم الركن الأسود أول ما يطوف ويستحب أن يستفتح الاستلام بالتكبير لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على راحلته كلما أتى على الركن أشار بشيء في يده وكبر وقبله ويستحب أن يقبله لما روى ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قبل الحجر ثم قال: والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك وإن لم يمكنه أن يستلم أو يقبل من الزحام أشار إليه بيده لما روى أبو مالك سعد بن طارق عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف حول البيت فإذا ازدحم الناس على الطواف استلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحجن بيده ولا يشير إلى القبلة بالفم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ويستحب أن يقول عند الاستلام وابتداء الطواف: بسم الله والله أكبر اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن الذي فيه الحجر وكبر وقال: "اللهم وفاء بعهدك وتصديقاً بكتابك" وعن علي كرم الله وجهه أنه كان يقول إذا استلم: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر رضي الله عنهما مثله ثم يطوف فيجعل البيت على يساره

(1/405)


ويطوف على يمينه لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ في الطواف أخذ عن يمينه فإن طاف على يساره لم يجزه لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على يمينه وقال: "خذوا عني مناسككم" ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فاستحق فيها الترتيب كالصلاة والمستحب أن يدنو من البيت لأنه هو المقصود فكان القرب منه أفضل فإذا بلغ الركن اليماني فالمستحب أن يستلمه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركن اليماني والأسود ولا يستلم الآخرين ولأنه ركن بنى على قواعد إبراهيم عليه السلام فيسن فيه الاستلام كالركن الأسود ويستحب أن يستلم الركنين في كل طوفة لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركنين في كل طوفة ويستحب كلما حاذى الحجر الأسود أن يكبر ويقبله لأنه مشروع في محل فتكرر بتكرره كالاستلام ويستحب إذا استلم أن يقبل يده لما روى نافع قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده وقبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ويستحب أن يدعو بين الركن اليماني والركن الأسود لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: عند الركن اليماني ملك قائم يقول آمين آمين فإذا مررتم به فقولوا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
فصل: والسنة أن يرمل في الثلاثة الأولى ويمشي في الأربعة لما روى ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً ومشى أربعاً فإن كان راكباً حرك دابته في موضع الرمل وإن كان محمولاً رمل به الحامل ويستحب أن يقول في رمله اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً ويدعو بما أحب من أمر

(1/406)


الدين والدنيا قال في الأم: يستحب أن يقرأ القرآن لأنه موضع ذكر والقرآن من أعظم الذكر فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقض في الأربعة لأنه هيئة في محل فلا يقضي في غيره كالجهر بالقراءة في الأوليين ولأن السنة في الأربع المشي فإذا قضى الرمل في الأربعة أخل بالسنة في جميع الطواف وإذا اضطبع ورمل في طواف القدوم نظرت فإن سعى بعده لم يعد الرمل والاضطباع في طواف الزيارة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثاً ومشى أربعاً فدل على أنه لم يعد في غيره وإن لم يسع بعده وأخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة اضطبع ورمل في طواف الزيارة لأنه يحتاج إلى الاضطباع للمسعى فكره أن يفعل ذلك في السعي ولا يفعله في الطواف وإن طاف للقدوم وسعى بعده ونسي الرمل والاضطباع في الطواف فهل يقضي في طواف الزيارة؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يقضي لأنه لم يقض فإنه سنة الرمل والاضطباع ومن أصحابنا من قال لا يقضي وهو المذهب لأنه لو جاز أن يقضي الرمل لقضاه في الأشواط الأربعة فإن ترك الرمل والاضطباع والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف جاز ولم يلزمه شيء لأن الرمل والاضطباع هيئة فلم يتعلق بتركها جبران كالجهر والاسرار في القراءة والتورك والافتراش في التشهد والاستلام والتقبيل والدعاء كمال فلا يتعلق به جبران كالتسبيح في الركوع والسجود ولا ترمل المرأة ولا تضطبع لأن في الرمل تلين أعضاؤها وفي الاضطباع ينكشف ما هو عورة منها ويجوز الكلام في الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام" والأفضل أن لا يتكلم لما روى أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من طاف بالبيت سبعاً لم يتكلم فيه إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات" وإن أقيمت الصلاة وهو في الطواف أو عرضت له حاجة لا بد منها قطع الطواف فإذا فرغ بنى لما

(1/407)


روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يطوف بالبيت فلما أقيمت الصلاة صلى مع الإمام ثم بنى على طوافه وإن أحدث وهو في الطواف توضأ وبنى لأنه يجوز إفراد بعضه عن بعض فإذا بطل ما صادفه الحدث منه لم يبطل الباقي فجاز له البناء عليه.
فصل: وإذا فرغ من الطواف صلى ركعتي الطواف وهل يجب ذلك أم لا فيه قولان: أحدهما أنها واجبة لقوله عز وجل {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] الأمر يقتضي الوجوب والثاني لا يجب لأنها صلاة زائدة على الصلوات الخمس فلم تجب بالشرع على الأعيان كسائر النوافل والمستحب أن يصليهما عند المقام لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين فإن صلاهما في مكان آخر جاز لما روي أن عمر رضي الله عنه طاف بعد الصبح ولم ير أن الشمس قد طلعت فركب فلما أتى ذا طوى أناخ راحلته وصلى ركعتين وكان ابن عمر رضي الله عنهما يطوف بالبيت ويصلي ركعتين في البيت والمستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف {قُلْ هُوَ اللَّهُ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم يعود إلى الركن فيستلمه ويخرج من باب الصفا لما روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً وصلى ركعتين ثم رجع إلى الحجر فاستلمه ثم خرج من باب الصفا.
فصل: ثم يسعى وهو ركن من أركان الحج لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم" فلا يصح السعي إلا بعد طواف فإن سعى ثم طاف لم يعتد بالسعي لما روى ابن عمر قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين ثم طاف بين الصفا والمروة سبعاً قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فنحن نصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسعي أن

(1/408)


يمر سبع مرات بين الصفا والمروة لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نبدأ بالذي بدأ الله به" وبدأ بالصفا حتى فرغ من آخر سعيه على المروة فإن مر من الصفا إلى المروة حسب ذلك مرة وإذا رجع من المروة إلى الصفا حسب ذلك مرة أخرى وقال أبو بكر الصيرفي: لا يحتسب رجوعه من المروة إلى الصفا مرة وهذا خطأ لأنه استوفى ما بينهما بالسعي فحسب مرة كما لو بدأ من الصفا وجاء إلى المروة فإن بدأ بالمروة وسعى إلى الصفا فلم يجزه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابدءوا بما بدأ الله به" ويرقى على الصفا حتى يرى البيت فيستقبله ويقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لما روى جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى إذا رأى البيت توجه إليه وكبر ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا ثم قال مثل هذا ثلاثاً ثم نزل ثم يدعو لنفسه بما أحب من أمر الدين والدنيا لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يدعو بعد التهليل والتكبير لنفسه فإذا فرغ من الدعاء نزل من الصفا ويمشي حتى

(1/409)


يكون بينه وبين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد نحو من ستة أذرع فيسعى سعياً شديداً حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يمشي حتى يصعد المروة لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه فإذا صعد مشى حتى يأتي المروة والمستحب أن يقول بين الصفا والمروة: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم لما روت صفية بنت شيبة عن امرأة من بني نوفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فإن ترك السعي ومشى في الجميع جاز لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه كان يمشي بين الصفا والمروة وقال: إن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا شيخ كبير وإن سعى راكباً جاز لما روى جابر قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في طواف حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس ويسألوه والمستحب إذا صعد المروة أن يفعل مثل ما فعل على الصفا لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل على المروة مثل ما فعل على الصفا قال في الأم: فإن سعى بين الصفا والمروة ولم يرق عليهما أجزأه وقال أبو حفص بن الوكيل: لا يجزئه حتى يرقى عليهما ليتيقن أنه استوفى السعي بينهما وهذا لا يصح لأن المستحق هو السعي بينهما وقد فعل ذلك وإن كانت امرأة ذات جمال فالمستحب أن تطوف وتسعى ليلاً فإن فعلت ذلك نهاراً مشت في موضع السعي وإن اقيمت الصلاة أو عرض عارض قطع السعي فإذا فرغ بنى لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يطوف بين الصفا والمروة فأعجله البول فتنحى ودعا بماء فتوضأ ثم قام فأتم على ما مضى.
فصل: ويخطب الإمام اليوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر بمكة ويأمر الناس بالغدو من الغد إلى منى وهي إحدى الخطب الأربع المسنونة في الحج والدليل عليه ما روى ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم ويخرج إلى منى في اليوم الثامن ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويثبت بها إلى أن يصلي الصبح لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم التروية بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة فإذا طلعت الشمس سار إلى الموقف لما روى جابر رضي الله عنه قال: ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ثم ركب فأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها فإذا زالت الشمس

(1/410)


خطب الإمام وهي الخطبة الثانية من الخطب الأربع فيخطب خطبة خفيفة ويجلس ثم يقوم إلى الثانية ويبتدئ المؤذن بالأذان حتى يكون فراغ الإمام مع فراغ المؤذن لما روي أن سالم بن عبد الله قال للحجاج: إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف فقال ابن عمر رضي الله عنهما: صدق ثم يصلي الظهر والعصر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل: ثم يروح إلى عرفة ويقف والوقوف ركن من أركان الحج لما روى عبد الرحمن الديلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج1" والمستحب أن يغتسل لما روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل إذا راح إلى عرفة ولأنه قربة يجتمع بها الخلق في موضع واحد فشرع لها الغسل كصلاة الجمعة والعيد ويصح الوقوف في جميع عرفة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرفة كلها موقف2" والأفضل أن يقف عند الصخرات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات وجعل بطن ناقته إلى الصخرات ويستحب أن يستقبل القبلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة ولأنه إذا لم يكن بد من جهة فجهة القبلة أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير المجالس ما استقبل به القبلة" ويستحب الإكثار من الدعاء وأفضله لا إله إلا الله وحده لا شريك له لما روى طلحة بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الدعاء يوم عرفة وافضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله
__________
1 رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 28. مسلم في كتاب الحج باب 57. الموطأ في كتاب الوقوت حديث 15، 17.
2 رواه مسلم في كتاب الحج حديث 149. أبو داود في كتاب الصوم باب 5. الترمذي في كتاب الحج باب 54. الموطأ في كتاب الحج حديث 166، 167.

(1/411)


وحده لا شريك له1" ويستحب أن يرفع يديه لما روى ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ترفع الأيدي عند الموقفين" يعني عرفة والمشعر الحرام وهل الأفضل أن يكون راكباً أم لا؟ فيه قولان: قال في الأم: النازل والراكب سواء وقال في القديم والإملاء: الوقوف راكباً أفضل وهو الصحيح لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف راكباً ولأن الراكب أقوى على الدعاء فكان الركوب أولى ولهذا كان الإفطار بعرفة أفضل لأن المفطر أقوى على الوقوف والدعاء وأول وقته إذا زالت الشمس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعد الزوال وقد قال صلى الله عليه وسلم خذوا عني مناسككم وآخر وقته إلى أن يطلع الفجر الثاني لحديث عبد الرحمن الديلي فإن حصل بعرفة في وقت الوقوف قائماً أو قاعداً أو مجتازاً فقد أدرك الحج لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى هذه الصلاة معنا وقد قام قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه" وإن وقف وهو مغمى عليه لم يدرك الحج وإن وقف وهو نائم فقد أدرك الحج لأن المغمى عليه ليس من أهل العبادات والنائم من أهل العبادات ولهذا لو أغمي عليه في جميع نهار الصوم لم يصح صومه وإن نام في جميع النهار صح صومه وإن وقف وهو لا يعلم أنه عرفة فقد أدرك لأنه وقف بها وهو مكلف فأشبه إذا علم أنها عرفة والسنة أن يقف بعد الزوال إلى أن تغرب الشمس لما روى علي كرم الله وجهه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ثم أفاض حين غابت الشمس فإن دفع منها قبل الغروب نظرت فإن رجع إليها قبل طلوع الفجر لم يلزمه شيء لأنه جمع في الوقوف بين الليل والنهار فأشبه إذا أقام بها إلى أن غربت الشمس فإن لم يرجع قبل طلوع الفجر أراق دماً وهل يجب ذلك أو يستحب؟ فيه قولان: أحدهما يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك نسكاً فعليه دم" لأنه نسك يختص بمكان فجاز أن يجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات والثاني أنه يستحب لأنه وقف في إحدى زماني الوقوف فلا يلزمه دم للزمان الآخر كما لو وقف في الليل دون النهار.
فصل: وإذا غربت الشمس دفع إلى المزدلفة لحديث علي كرم الله وجهه ويمشي
__________
1 رواه الموطأ في كتاب القرآن حديث 32. كتاب الحج حديث 246.

(1/412)


وعليه السكينة لما روى الفضل ابن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس عشية عرفة وغداة جمع حين دفعوا "عليكم بالسكينة" فإذا وجد فرجة أسرع لما روى أسامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ويجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة على ما بيناه في كتاب الصلاة فإن صلى كل واحدة منهما في وقتها جاز لأن الجمع رخصة لأجل السفر فجاز له تركه ويثبت بها إلى أن يطلع الفجر الثاني لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء واضجع حتى إذا طلع الفجر صلى الفجر وفي أي موضع من المزدلفة بات أجزأه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر1" وهل يجب المبيت بمزدلفة أم لا؟ فيه قولان: أحدهما يجب لأنه نسك مقصود في موضع فكان واجباً كالرمي والثاني أنه سنة لأنه مبيت فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة فإن قلنا إنه يجب وجب تركه الدم وإن قلنا أنه سنة لم يجب بتركه الدم ويستحب أن يؤخذ منها
__________
1 رواه أبو داود في كتاب المناسك باب 56. النسائي في كتاب المناسك باب 211. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 55. الموطأ في كتاب الحج حديث 166. أحمد في مسنده "1/72".

(1/413)


حصى جمرة العقبة لما روى الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال غداة يوم النحر القط لي حصى فلقطت له حصيات مثل حصى الحذف ولأن السنة إذا أتى منى لا يعرج على غير الرمي فاستحب أن يأخذ الحصى حتى لا يشغل عن الرمي وإن أخذ الحصى من غيرها جاز لأن الاسم يقع عليه ويصلي الصبح بالمزدلفة في أول الوقت وتقديمها أفضل لما روى عبد الله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا المغرب والعشاء بجمع وصلاة الفجر يومئذ قبل ميقاتها ولأنه يستحب الدعاء بعدها فاستحب تقديمها ليكثر الدعاء فإن صلى وقف على قزح وهو المشعر الحرام ويستقبل القبلة ويدعو الله تعالى لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب القصواء حتى رقى على المشعر الحرام واستقبل القبلة فدعا الله عز وجل وكبر وهلل ووحد ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن تطلع الشمس والمستحب أن يدفع قبل طلوع الشمس لحديث جابر فإن أخر الدفع حتى طلعت الشمس كره لما روى المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس على رؤوس الجبال كأنهم عمائم الرجال في وجوههم وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ليخالف هدينا هدي أهل الأوثان والشرك" فإن قدم الدفع بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة ثبطة فاستأذنت سول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل

(1/414)


الإفاضة ليلاً في ليلة المزدلفة فإذن لها والمستحب إذا دفع من المزدلفة أن يمشي وعليه السكينة لما ذكرناه من حديث الفضل بن العباس وإذا وجد فرجة أسرع كما يفعل في الدفع من عرفة والمستحب إذا بلغ وادي محسر أن يسرع إن كان ماشياً ويحرك دابته إذا كان راكباً بقدر رمية حجر لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك قليلاً في وادي محسر.
فصل: وإذا أتى منى بدأ برمي مرة العقبة وهو من واجبات الحج لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى وقال خذوا عني مناسككم والمستحب أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بضعفة أهله فأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس وإن رمى بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر أجزأه لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها يوم النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها والمستحب أن يرمي من بطن الوادي وأن يكون راكباً وأن يكبر مع كل حصاة لما روت أم سليم رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب وهو يكبر مع كل حصاة والمستحب أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه لأن ذلك أعون على الرمي ويقطع التلبية مع أول حصاة لما روى الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلبي حتى رمى حتى رمى جمرة العقبة ولأن التلبية للإحرام فإذا رمى فقد شرع في التحلل فلا معنى للتلبية ولا يجوز الرمي إلا بالحجر فإن رمى بغيره من مدر أو حذف لم يجزه لأنه لا يقع عليه اسم الحجر والمستحب أن يرمي بمثل حصى الخذف وهو بقدر الباقلا لما روى الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: عليكم بمثل حصى الخذف فإن رمى بحجر كبير أجزأه لأنه يقع عليه اسم الحجر ولا يرمي بحجر قد رمى به لأن ما قبل منها يرفع ومالا يقبل منها يترك والدليل عليه ما روى أبو سعيد قال: قلنا يا رسول الله: إن هذه الجمار ترمى كل عام فنحسب أنها تنقص قال: أما إنه ما يقبل منها يرفع ولولا ذلك لرأيتها مثل الجبال فإن رمى بما رمى به أجزأه لأنه يقع عليه الاسم ويجب أن يرمي فإن أخذ الحصاة وتركها في المرمى لم يجزه لأنه لم يرم ويجب أن يرميها واحدة واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى واحدة واحدة وقال: {خذوا عني

(1/415)


مناسككم} ويجب أن يقصد بالرمي إلى المرمى فإن رمى حصاة في الهواء فوقع في المرمى لم يجزه لأنه لم يقصد الرمي إلى المرمى وإن رمى حصاة فوقعت على الأخرى ووقعت الثانية في المرمى لم يجزه لأنه لم يقصد رمي الثانية وإن رمى حصاة فوقعت على محمل أو أرض فازدلفت ووقعت على المرمى أجزأه لأنه حصل في المرمى بفعله وإن رمى فوق المرمى فتدحرج لتصويب المكان الذي أصابه فوقع في المرمى ففيه وجهان: أحدهما أنه يجزئه لأنه لم يوجد في حصوله في المرمى فعل غيره والثاني لا يجزئه لأنه لم يقع في المرمى بفعله وإنما أعان عليه تصويب المكان فصار كما لو وقع في ثوب رجل فنفضه حتى وقع في المرمى.
فصل: وإذا فرغ من الرمي ذبح هدياً إذا كان معه لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ويجوز النحر في جميع منى لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مى كلها منحر.
فصل: ثم يحلق لما روى أنس قال: لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة وفرغ من نسكه ناول الحالق شكه الأيمن فحلقه ثم أعطاه شقه الأيسر فحلقه فإن لم يحلق وقصر جاز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحلقوا أو يقصروا والحلق افضل لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله المحلقين" قالوا: يا رسول الله والمقصرين قال: "رحم الله المحلقين" قالوا يا رسول الله والمقصرين قال في الرابعة "والمقصرين" وأقل ما يحلق ثلاث شعرات لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق فأشبهه الجميع والأفضل أن يحلق الجميع لحديث أنس وإن كان أصلع فالمستحب أن يمر الموسى على رأسه لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال في الأصلع يمر الموسى على رأسه ولا يجب ذلك لأنه قربة تتعلق بمحل فسقطت بفواته كغسل اليد إذا قطعت وإن كانت امرأة قصرت ولم تحلق لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس على النساء حلق إنما على النساء تقصير ولأن الحلق في النساء مثلة فلم يفعل وهل الحلاق نسك أو استباحة محظور؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ليس بنسك لأنه محرم في الإحرام فلم يكن نسكاً كالطيب والثاني أنه نسك وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين" فإن حلق قبل الذبح جاز لما روى عبد الله بن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى

(1/416)


فجاءه رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت رأسي قبل أن أذبح فقال اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال: "إرم ولا حرج" فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال إفعل ولا حرج فإن حلق قبل الرمي فإن قلنا إن الحلق نسك جاز لما روى ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل حلق قبل أن يذبح أو قبل أن يرمي يقول: "لا حرج لا حرج" وإن قلنا إنه استباحة محظور لم يجز لأنه فعل محظور فلم يجز قبل الرمي من غير عذر كالطيب.
فصل: والسنة أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى وهي أحد الخطب الأربع ويعلم الناس الإفاضة والرمي وغيرهما من المناسك لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر بعد رميه الجمرة فكان في خطبته: "إن هذا يوم الحج الأكبر" ولأن في هذا اليوم وما بعده مناسك تحتاج إلى العلم بها فسن فيه الخطبة لذلك.
فصل: ثم يفيض إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ثم ركب فأفاض إلى البيت وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به والأصل فيه قوله عز وجل {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] وروت عائشة أن صفية رضي الله عنهما حاضت فقال صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي"؟ فقلت يا رسول الله إنها قد أفاضت فقال: "فلا إذاً" فدل على أنه لابد من فعله وأول وقته إذا انتصفت ليلة النحر لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها يوم النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت والمستحب أن يطوف يوم النحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر فإن أخره إلى بعده وطاف جاز لأنه أتى به بعد دخول الوقت.
فصل: وإذا رمى وحلق وطاف حصل له التحلل الأول والثاني وبأي شيء حصل التحلل؟ إن قلنا إن الحلق نسك حصل له التحلل الأول باثنتين من ثلاثة وهي الرمي والحلق والطواف وحصل له الخلل الثاني بالثالث وإن قلنا إن الحلق ليس بنسك حصل

(1/417)


له التحلل الأول بواحد من اثنين الرمي والطواف وحصل له التحلل الثاني بالثاني وقال أبو سعيد الاصطخري: إذا دخل وقت الرمي حصل له التحلل الأول وإن لم يرم كما إذا فات وقت الرمي حصل له التحلل الأول وإن لم يرم والمذهب الأول لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء" فعلق التحلل بفعل الرمي ولأن ما تعلق به التحلل لم يتعلق بدخول وقته كالطواف ويخالف إذا فات فإن بفوات الوقت يسقط فرض الرمي كما يسقط بفعله وبدخول الوقت لا يسقط الفرض فلم يحصل به التحلل وفيما يحل بالتحلل الأول والثاني قولان: أحدهما وهو الصحيح أنه يحل بالأول جميع المحظورات إلا الوطء وبالثاني يحل الوطء لحديث عائشة رضي الله عنها والقول الثاني أنه يحل بالأول كل شيء إلا الطيب والنكاح والاستمتاع بالنساء وقتل الصيد لما روى مكحول عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا رميتم الجمرة فقد أحل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء والصيد والصحيح هو الأول لأن حديث عمر مرسل ولأن السنة مقدمة عليه هذا إذا كان قد سعى عقيب طواف القدوم فأما إذا لم يسع وقف التحلل على الطواف والسعي لأن السعي ركن كالطواف.
فصل: وإذا فرغ من الطواف رجع إلى منى وأقام بها أيام التشريق يرمي في كل يوم الجمرات الثلاث كل جمرة بسبع حصيات فيرمي الجمرة الأولى وهي التي مسجد الخيف ويقف قدر سورة البقرة يدعو الله عز وجل ثم يرمي الجمرة الوسطى ويقف ويدعو كما ذكرناه ثم يرمي الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة ولا يقف عندها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة حتى صلى الظهر ثم رجع إلى منى فأقام بها أيام التشريق الثلاث يرمي الجمار فيرمي الجمرة الأولى إذا زالت الشمس بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يقف ويدعو ثم يأتي الجمرة الثانية فيقول مثل ذلك ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها ولا يقف عندها ولا يجوز أن يرمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة إلا مرتباً بالأولى ثم بالوسطى ثم بجمرة العقبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى هكذا وقال: {خذوا

(1/418)


عني منسككم} فإن نسي حصاة ولم يعلم من أي الجمار تركها جعلها من الجمرة الأولى ليسقط الفرض بيقين ولا يجوز الرمي في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال لأن عائشة رضي الله عنها قالت: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق الثلاثة يرمي الجمار الثلاث حين تزول الشمس فإن ترك الرمي في اليوم الثالث سقط الرمي لأنه فات أيام الرمي ويجب عليه دم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك نسكاً فعليه دم" فإن ترك الرمي في اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو ترك الرمي في اليوم الثاني إلى الثالث فالمشهور من المذهب أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد فما ترك في الأول يرميه في اليوم الثاني وما تركه في اليوم الثاني يرميه في اليوم الثالث والدليل عليه أنه يجوز لرعاة الإبل أن يؤخروا رمي يوم إلى يوم بعده فلو لم يكن اليوم الثاني وقتاً لرمي اليوم الأول لما جاز الرمي فيه وقال في الإملاء: رمي كل يوم مؤقت بيومه والدليل عليه أنه رمي مشروع في يوم ففات بفواته كرمي اليوم الثالث فإن تدارك عليه رمي يومين أو ثلاثة أيام فإن قلنا بالمشهور بدأ ورمي عن اليوم الأول ثم عن اليوم الثاني ثم عن اليوم الثالث فإن نوى بالرمي الأول عن اليوم الثاني ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجزئه لأنه ترك الترتيب والثاني أنه يجزئه عن الأول لأن الرمي مستحق عن اليوم الأول فانصرف إليه كما لو طاف بنية الوداع وعليه طواف الفرض وإن قلنا بقوله في الإملاء إن رمي كل يوم موقت بيومه وفات اليوم ولم يرم ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أن الرمي يسقط وينتقل إلى الدم كاليوم الخير والثاني أنه يرمي ويريق دماً للتأخير كما لو أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يصوم ويفدي والثالث أنه يرمي ولا شيء عليه كما لو ترك الوقوف بالنهار فإنه يقف بالليل ولا دم عليه فعلى هذا إذا رمى عن اليوم الثاني قبل اليوم الأول جاز لأنه قضاء فلا يجب فيه الترتيب كصلوات الفائتة وأما إذا نسي رمي يوم النحر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو كرمي أيام التشريق فيرمي رمى يوم النحر في أيام التشريق وتكون أيام التشريق وقتاً له وعلى قوله في الإملاء يكون على الأقوال الثلاثة ومن أصحابنا من قال يسقط رمي يوم النحر قولاً واحداً لأنه خالف رمي أيام التشريق في المقدار والمحل خالفه في الوقت ومن ترك

(1/419)


رمي الجمار الثلاث في يوم لزمه دم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك نسكاً فعليه دم" فإن ترك ثلاث حصيات فعليه دم لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق فصار كما لو ترك الجميع وإن ترك حصاة ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يجب عليه ثلث دم والثاني مد والثالث درهم وإن ترك حصاتين لزمه في أحد الأقوال ثلثاً دم وفي الثاني مدان وفي الثالث درهمان وإن ترك الرمي في أيام التشريق وقلنا بالقول المشهور إن الأيام كاليوم الواحد لزمه دم كاليوم الواحد فإن قلنا بقوله في الإملاء إن رمي كل يوم موقت لزمه ثلاثة دماء وإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق فإن قلنا إن رمي يوم النحر كرمي أيام التشريق لزمه على القول المشهور دم واحد وإن قلنا إنه ينفرد عن رمي أيام التشريق فإن قلنا إن رمي أيام التشريق كرمي اليوم الواحد لزمه دمان وإن قلنا إن رمي كل يوم موقت بيومه لزمه أربعة دماء.
فصل: ومن عجز عن الرمي بنفسه لمرض مأيوس منه أو غير مأيوس جاز أن يستنيب من يرمي عنه لأن وقته ضيق وربما فات قبل أن يرمي بخلاف الحج فإنه على التراخي فلا يجوز لغير المأيوس أن يستنيب لأنه قد يبرأ فيؤديه بنفسه والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر ويرمي النائب فإن رمى عنه النائب ثم بريء من المرض فالمستحب أن يعيد بنفسه وإن أغمي عليه فرمى عنه غيره فإن كان بغير إذنه لم يجزه وإن كان قد أذن له فيه قبل أن يغمى عليه جاز.
فصل: ويبيت بمنى ليال الرمي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وهل يجب ذلك أو يستحب؟ فيه قولان: أحدهما أنه مستحب لأنه مبيت فلم يجب كالمبيت ليلة عرفة والثاني أنه يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس في ترك المبيت لأجل السقاية فدل على أنه لا يجوز لغيره تركه فإن قلنا إنه يستحب لم يجب بتركه الدم وإن قلنا يجب وجب بتركه الدم فعلى هذا إذا ترك المبيت في الليالي الثلاث وجب عليه دم وإن ترك ليلة ففيه ثلاثة أقوال على ما ذكرناه في الحصاة.
فصل: ويجوز لرعاة الإبل وأهل سقاية العباس رضي الله عنه أن يدعو المبيت ليالي

(1/420)


منى ويرموا يوماً ويدعوا يوماً ثم يرموا ما فاتهم والدليل عليه ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة ليلة منى من أجل سقايته وروى عاصم بن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الإبل في ترك البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون يوم النفر فإن أقام الرعاة إلى أن تغرب الشمس لم يجز لهم ترك المبيت وإن أقام أهل السقاية إلى أن تغرب الشمس جاز لهم ترك المبيت لأن حاجة أهل السقاية بالليل موجودة وحاجة الرعاة لا تكون بالليل لأن الراعي لا يكون بالليل ومن أبق له عبد ومضى في طلبه أو خاف أمراً يفوته ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجوز له ما يجوز للرعاة وأهل سقاية العباس لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعي وأهل السقاية والثاني أنه يجوز لأنه صاحب عذر فأشبه الرعاة وأهل السقاية.
فصل: والسنة أن يخطب الإمام يوم النفر الأول وهو اليوم الأوسط من أيام التشريق وهي إحدى الخطب الأربع ويودع الحاج ويعلمهم جواز النفر ولأنه يحتاج فيه إلى بيان من يجوز له النفر ومن لا يجوز ومن أراد أن ينفر مع النفر الأول فنفر في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل غروب الشمس سقط عنه الرمي في اليوم الثالث ومن لم ينفر

(1/421)


حتى غربت الشمس لزمه أن يقيم حتى يرمي في اليوم الثالث لقوله عز وجل: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] وإن نفر قبل الغروب ثم عاد زائراً أو ليأخذ شيئاً نسيه لم يلزمه المبيت لأنه حصلت له الرخصة بالغفر فإن بات لم يلزمه أن يرمي لأنه لم يلزمه المبيت فلا يلزمه الرمي ويستحب إذا خرج من منى أن ينزل بالمحصب لما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به فإن ترك النزول بالمحصب لم يؤثر ذلك في نسكه لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المحصب ليس بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة رضي الله عنها: نزول المحصب ليس من النسك إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل: إذا فرغ من الحج فأراد المقام لم يكلف طواف الوداع فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف للوداع وهل يجب طواف الوداع أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أنه يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت1" والثاني لا يجب لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه فإن قلنا إنه واجب وجب بتركه الدم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك نسكاً فعليه دم" وإن قلنا لا يجب لم يجب بتركه دم لأنه سنة فلا يجب بتركه دم كسائر سنن الحج وإن طاف الوداع ثم أقام لم يعتد بعد طوافه عن الوداع لأنه لا توديع مع المقام فإذا أراد أن يخرج أعاد طواف الوداع وإن طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زاداً لم يعد الطواف لأنه لا يصير بذلك مقيماً وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكر فإن قلنا إنه واجب نظرت فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة استقر عليه دم فإن عاد وطاف لم يسقط الدم لأن الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزئه عن الخروج الأول فإن ذكر وهو على مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم لأنه في حكم المقيم ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض فإن نفرت الحائض ثم طهرت فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف فإذا
__________
1 رواه مسلم في كتاب الحج حديث 379. أبو داود في كتاب المناسك باب 83. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 82. الدارمي في كتاب المناسك باب 85. أحمد في مسنده "1/222".

(1/422)


فرغ من طواف الوداع فالمستحب أن يقف في الملتزم وهو ما بين الركن والباب فيدعو ويقول: اللهم إن البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى سيرتني في بلادك وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى وإلا فمن الآن قبل أن ينأى عن بيتك داري هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم أصحبني العافية في بدني والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني فإنه قد روي ذلك عن بعض السلف ولأنه دعاء يليق بالحال ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.
فصل: وإن كان محرماً بالعمرة وحدها وأراد دخول مكة فعلى ما ذكرناه في الدخول للحج فإذا دخل مكة طاف وسعى وحلق وذلك جميع أفعال العمرة والدليل عليه ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة وأما من أهل بالحج والعمرة فلم يحلوا إلا يوم النحر فإن كان قارناً بين الحج والعمرة فعل ما يفعله المفرد بالحج فيقتصر على طواف واحد وسعي واحد والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد ولأنه يدخل فيهما بتلبية واحدة ويخرج منهما بحلاق واحد فوجب أن يطوف لهما طوافاً واحداً ويسعى لهما سعياً واحداً كالمفرد بالحج.
فصل: وأركان الحج أربعة: الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة والسعي

(1/423)


بين الصفا والمروة وواجباته الإحرام من الميقات والرمي والوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى في ليالي الرمي وفي طواف الوداع قولان: أحدهما أنه واجب والثاني أنه ليس بواجب وسنته الغسل وطواف القدوم والرمل والاضطباع في الطواف والسعي واستلام الركن وتقبيله والسعي في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية وأفعال العمرة كلها أركان إلا الحلق فمن ترك ركناً لم يتم نسكه ولم يتحلل حتى يأتي به ومن ترك واجباً لزمه الدم ومن ترك سنة لم يلزمه شيء.
فصل: ويستحب دخول البيت لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفوراً له" ويستحب أن يصلي فيه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإنه أفضل بمائة صلاة1" ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ماء زمزم لما شرب له2".
فصل: ويستحب إذا خرج من مكة أن يخرج من أسفلها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة من أعلاها وخرج من أسفلها قال أبو عبد الله الزبيري: ويخرج وبصره إلى البيت حتى يكون آخر عهده بالبيت.
فصل: ويستحب زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" ويستحب أن يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد" وبالله التوفيق.
__________
1 رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 1. مسلم في كتاب الحج حديث 505 – 510. النسائي في كتاب المناسك باب 124. الترمذي في كتاب المواقيت باب 126. الموطأ في كتاب القبلة حديث 9.
2 رواه ابن ماجه في كتاب المناسك باب 78.

(1/424)


باب الفوات والإحصار
من أحرم بالحج ولم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج وعليه أن يتحلل بعمل عمرة وهي الطواف والسعي والحلق ويسقط عنه المبيت والرمي

(1/424)


وقال المزني: لا يسقط المبيت والرمي كما لا يسقط الطواف والسعي وهذا خطأ لما روى الأسود عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن فاته الحج: تحلل بعمل عمرة وعليك الحج من قابل وهدي ولأن المبيت والرمي من توابع الوقوف ولهذا لا يجب على المعتمر حين لم يجب عليه الوقوف وقد سقط الوقوف ههنا فسقطت توابعه بخلاف الطواف والسعي فإنهما غير تابعين للوقوف فبقي فرضهما ويجب عليه القضاء لحديث عمر رضي الله عنه ولأن الوقوف معظم الحج والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" وقد فاته ذلك فوجب قضاؤه وهل يجب القضاء على الفور أم لا؟ فيه وجهان كما ذكرناه فيمن أفسد الحج ويجب هدي لقول عمر رضي الله عنه ولأنه تحلل من الإحرام قبل التمام فلزمه الهدي كالمحصر ومتى يجب الهدي فيه وجهان: أحدهما يجب مع القضاء لقول عمر رضي الله عنه ولأنه كالمتمتع ودم التمتع لا يجب إلا إذا أحرم بالحج والثاني يجب في عامه كدم الإحصار فإن أخطأ الناس فوقفوا في اليوم الثامن أو في اليوم العاشر لم يجب عليهم القضاء لأن الخطأ في ذلك إنما يكون بأن يشهد اثنان برؤية الهلال قبل الشهر بيوم فوقفوا يوم الثامن بشهادتهما ثم بان كذبهما أو غم عليهم الهلال فوقفوا يوم العاشر ومثل هذا لا يؤمن في القضاء فسقط.
فصل: ومن أحرم فأحصره عدو نظرت فإن كان العدو من المسلمين فالأولى أن يتحلل ولا يقاتله لأن التحلل أولى من قتال المسلمين وإن كان من المشركين لم يجب عليه القتال لأن قتال الكفار لا يجب إلا إذا بدءوا بالحرب وإن كان بالمسلمين ضعف وفي العدو قوة فالأولى أن لا يقابلهم لأنه ربما انهزم المسلمون فيلحقهم وهن وإن كان في المسلمين قوة وفي المشركين ضعف فالأفضل أن يقاتلهم ليجمع بين نصرة الإسلام وإتمام الحج فإن طلبوا مالاً لم يجب إعطاء المال لأن ذلك ظلم ولا يجب الحج مع احتمال الظلم فإن كانوا مشركين كره أن يدفع إليهم لأن في ذلك صغاراً على الإسلام

(1/425)


فلا يجب احتماله من غير ضرورة وإن كانوا مسلمين لم يكره
فصل: وإن أحصره العدو عن الوقوف أو الطواف أو السعي فإن كان له طريق آخر يمكنه الوصول منه إلى مكة لم يجز له التحلل قرب أو بعد لأنه قادر على أداء النسك فلا يجوز له التحلل بل يمضي ويتم النسك وإن سلك الطريق الآخر ففاته الحج تحلل بعد عمرة وفي القضاء قولان: أحدهما يجب عليه لأنه فاته الحج فأشبه إذا أخطأ العدد والثاني لا يجب عليه لأنه تحلل من غير تفريط فلم يلزمه القضاء كما لو تحلل بالإحصار فإن أحصر ولم يكن له طريق آخر جاز له أن يتحلل لقوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أحصره المشركون في الحديبية فتحلل ولأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام ربما طال الحصر سنين فتلحقه المشقة العظيمة في البقاء على الإحرام وقد قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فإن كان الوقت واسعاً فالأفضل أن لا يتحلل لأنه ربما زال الحصر وأتم النسك وإن كان الوقت ضيقاً فالأفضل أن يتحلل حتى لا يفوته الحج فإن اختار التحلل نظرت فإن كان واجداً للهدي لم يجز له أن يتحلل حتى يهدي لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فإن كان في الحرم ذبح الهدي فيه وإن كان في غير الحرم ولم يقدر على الوصول إلى الحرم ذبح الهدي حيث أحصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية وهي خارج الحرم وإن قدر على الوصول إلى الحرم ففيه وجهان: أحدهما إنه يجوز أن يذبح في موضعه لأنه موضع تحلله فجاز فيه الذبح كما لو أحصر في الحرم والثاني لا يجوز أن يذبح إلا في الحرم لأنه قادر على الذبح في الحرم فلا يجوز أن يذبح في غيره كما لو أحصر فيه ويجب أن ينوي بالهدي التحلل لأن الهدي قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره فوجب أن ينوي ليميز بينهما ثم يحل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية فإن قلنا إن الحلق نسك حصل له التحلل بالهدي والنية والحلق وإن قلنا إنه ليس بنسك حصل له التحلل بالنية والهدي وإن كان عادماً للهدي ففيه قولان: أحدهما لا بدل للهدي لقوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فذكر الهدي ولم يذكر له بدلاً ولو كان بدل لذكره كما ذكره في جزاء الصيد والقول الثاني له بدل لأنه دم يتعلق وجوبه بالإحرام فكان له بدل كدم التمتع فإن قلنا لا بدل للهدي فهل يتحلل فيه قولان: أحدهما لا يتحلل حتى يجد الهدي لأن الهدي شرط في التحلل فلا يجوز التحلل قبله والثاني أنه يتحلل لأنا لو ألزمناه البقاء على

(1/426)


الإحرام إلى أن يجد الهدي أدى ذلك إلى المشقة فإن قلنا له بدل ففي بدله ثلاثة أقوال: أحدها الإطعام والثاني الصيام والثالث أنه مخير بين الصيام والإطعام وإن قلنا إن بدله الإطعام ففي الإطعام وجهان: أحدهما إطعام التعديل كالإطعام في جزاء الصيد لأنه أقرب إلى الهدي ولأنه يستوفي قيمة الهدي والثاني إطعام فدية الأذى لأنه وجب للترفه فهو كفدية الأذى وإن قلنا إن بدله الصوم ففي صومه ثلاثة أوجه أحدها صوم التمتع لأنه وجب للتحلل كما وجب صوم التمتع للتحلل بين الحج والعمرة في أشهر الحج والثاني صوم التعديل لأن ذلك أقرب إلى الهدي لأنه يستوفي قيمة الهدي ثم يصوم عن كل مد يوماً والثالث صوم فدية الأذى لأنه وجب للترفه فهو كصوم فدية الأذى فإن قلنا أنه مخير فهو بالخيار بين صوم فدية الأذى وبين إطعامها لأنا بينا أنه في معنى فدية الأذى فإن أوجبنا عليه الإطعام - وهو واجد - أطعم وتحلل وإن كان عادماً له فهل يتحلل أم لا يتحلل حتى يجد الطعام على القولين كما قلنا في الهدي وإن أوجبنا الصيام فهل يتحلل قبل أن يصوم؟ فيه وجهان: أحدهما لا يتحلل كما لا يتحلل بالهدي حتى يهدي والثاني يتحلل لأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام إلى أن يفرغ من الصيام أدى إلى المشقة لأن الصوم يطول فإذا تحلل نظرت فإن كان في حج تقدم وجوبه بقي الوجوب في ذمته وإن كان في تطوع لم يجب القضاء لأنه تطوع أبيح له الخروج منه فإذا خرج لم يلزمه القضاء كصوم التطوع وإن كان الحصر خاصاً بأن منعه غريمه ففيه قولان: أحدهما لا يلزمه القضاء كما لا يلزمه في الحصر العام والثاني يلزمه لأنه تحلل قبل الإتمام بسبب يختص به فلزمه القضاء كما لو ضل الطريق ففاته الحج وإن أحصر فلم يتحلل حتى فاته الوقوف نظرت فإن زال العذر وقدر على الوصول تحلل بعمل عمرة ولزمه القضاء وهدي للفوات وإن فاته والعذر لم يزل تحلل ولزمه القضاء وهدي للفوات وهدي للإحصار فإن أفسد الحج ثم أحصر تحلل لأنه إذا تحلل من الحج الصحيح فلأن يتحلل من الفاسد أولى فإن لم يتحلل حتى فاته الوقوف لزمه ثلاثة دماء: دم الفساد ودم الفوات ودم الإحصار ويلزمه قضاء واحد لأن الحج واحد.
فصل: ومن أحرم فأحصره غريمه وحبسه ولم يجد ما يقضي دينه فله أن يتحلل لأنه يشق البقاء على الإحرام كما يشق بحبس العدو وإن أحرم وأحصره المرض لم يجز له أن يتحلل لأنه لا يتخلص بالتحلل من الأذى الذي هو فيه فلا يتحلل كمن ضل الطريق.
فصل: وإن أحرم العبد بغير إذن المولى جاز للمولى أن يحلله لأن منفعته مستحقة

(1/427)


له فلا يملك إبطالها عليه بغير رضاه فإن ملكه السيد مالاً وقلنا إنه يملك تحلل بالهدي وإن لم يملكه أو ملكه وقلنا إنه لا يملك فهو كالحر المعسر وهل يتحلل قبل الهدي أو الصوم على ما ذكرناه من القولين في الحر ومن أصحابنا من قال يجوز للعبد أن يتحلل قبل الهدي والصوم قولاً واحداً لأن على المولى ضرراً في بقائه على الإحرام لأنه ربما يحتاج أن يستخدمه في قتل صيد أو إصلاح طيب وإن أحرم بإذن المولى لم يجز له أن يحلله لأنه عقد لازم عقده بإذن المولى فلم يملك إخراجه منه كالنكاح وإن أحرم المكاتب بغير إذن المولى ففيه طريقان: أحدهما أنه على قولين بناء على القولين في سفره للتجارة ومن أصحابنا من قال له أن يمنعه قولاً واحداً لأن في سفر الحج ضرراً على المولى من غير منفعة وسفر التجارة فيه منفعة للمولى.
فصل: وإن أحرمت المرأة بغير إذن الزوج فإن كان في تطوع جاز له أن يحللها لأن حق الزوج واجب فلا يجوز إبطاله عليه بتطوع وإن كان في حجة الإسلام ففيه قولان: أحدهما أن له أن يحللها لأن حقه على الفور والحج على التراخي فقدم حقه والثاني أنه لا يملك لأنه فرض فلا يملك تحليلها منه كالصوم والصلاة وإن أحرم الولد بغير إذن الأبوين فإن كان في حج فرض لم يجز لهما تحليله لأنه حج فرض فلم يجز إخراجه منه كالصوم والصلاة وإن كان في حج تطوع ففيه قولان: أحدهما يجوز لهما تحليله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أراد أن يجاهد وله أبوان قال: "ففيهما فجاهد" فمنع من الجهاد لحقهما وهو فرض فدل على أن المنع من التطوع لحقهما أولى والثاني لا يجوز لأنها قربة لا مخافة عليه فيها فلا يجوز لهما تحليله منها كالصوم.
فصل: إذا أحرم وشرط التحلل لغرض صحيح مثل إن شرط أنه إذا مرض تحلل أو إذا ضاعت نفقته تحلل ففيه طريقان: أحدهما أنه لا يثبت الشرط لأنه عبادة لا يجوز الخروج منها بغير عذر فلم يجز التحلل منها بالشرط كالصلاة المفروضة والثاني أنه يثبت الشرط لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب قالت: يا رسول الله إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فكيف تأمرني أن أهل؟ قال أهلي واشترطي أن تحلي حيث حبستني فدل على جواز الشرط ومنهم من قال: يصح الشرط قولاً واحداً لأنه علق أحد القولين على صحة حديث ضباعة وقد صح حديث ضباعة فعلى هذا إذا شرط أنه إذا مرض تحلل لم يتحلل إلا بالهدي وإن شرط أنه إذا مرض صار حلالاً فمرض صار حلالاً ومن أصحابنا من قال لا يتحلل إلا بالهدي لأنه مطلق كلام الآدمي يحمل على ما تقرر في الشرع والذي تقرر بالشرع أنه لا يتحلل إلا بالهدي وأما إذا

(1/428)


شرط أنه يخرج منه إذا شاء أو يجامع فيه إذا شاء لم يجز لأنه خروج من غير عذر فلم يصح شرطه.
فصل: إذا أحرم ثم ارتد ففيه وجهان: أحدهما أنه يبطل إحرامه لأنه إذا بطل الإسلام الذي هو الأصل فلأن يبطل الإحرام الذي هو فرع أولى والثاني أنه لا يبطل كما لا يبطل بالجنون والموت فعلى هذا إذا رجع إلى الإسلام بنى عليه.

(1/429)


باب الهدي
يستحب لمن قصد مكة حاجاً أو معتمراً أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام وينحره ويفرقه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة والمستحب أن يكون ما يهديه سميناً حسناً لقوله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32] قال ابن عباس في تفسيرها: الاستسمان والاستحسان والاستعظام فإن نذر وجب عليه لأنه قربة فلزمه بالنذر فإن كان من الإبل والبقر فالمستحب أن يشعرها في صفحة سنامها الأيمن ويقلدها نعلين لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في ذي الحليفة ثم أتي ببدنة فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها ثم قلدها نعلين ولأنه ربما اختلط بغيره فإذا أشعر وقلد تميز وربما ند فيعرف بالأشعار والتقليد فيرد وإن كان غنماً قلدها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مرة غنماً مقلدة وتقلد الغنم خرب القرب لأن الغنم يثقل عليها حمل النعال ولا يشعرها لأن الإشعار لا يظهر في الغنم لكثرة شعرها وصوفها.
فصل: فإن كان تطوعاً فهو باق على ملكه وتصرفه إلى أن ينحر وإن كان نذراً زال ملكه عنه وصار للمساكين فلا يجوز له بيعه ولا إبداله بغيره لما روى ابن عمر رضي الله

(1/429)


عنهما أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أهديت نجيبة وأعطيت بها ثلثمائة دينار أفأبيعها وأبتاع بثمنها بدناً وأنحرها؟ قال: "لا ولكن انحرها إياها" فإن كل مما يركب جاز له أن يركبه بالمعروف إذا احتاج لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الحج:33] وسئل جابر رضي الله عنه عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها" فإن نقصت بالركوب ضمن النقصان وإن نتجت تبعها الولد وينحره معها سواء حدث بعد النذر أو قبله لما روي أن علياً رضي الله عنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها ولأنه معنى يزيل الملك فاستتبع الولد كالبيع والعتق فإن لم يمكنه أن يمشي حمله على ظهر الأم لما روي أن عمر كان يحمل ولد البدنة إلى أن يضحي عليها ولا يشرب من لبنها إلا ما لا يحتاج إليه الولد لقول علي كرم الله وجهه ولأن اللبن غذاء الولد والولد كالأم فإذا لم يجز أن يمنع الأم علفها لم يجز أن يمنع الولد غذاءه وإن فضل عن الولد شيء فله أن يشربه لقوله عز وجل: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الحج:33] ولقول علي رضي الله عنه والأولى أن يتصدق به وإن كان لها صوف نظرت فإن كان في تركه صلاح بأن يكون في الشتاء وتحتاج إليه للدفء لم يجزه لأنه ينتفع به الحيوان في دفع البرد عنه وينتفع به المساكين عند الذبح وإن كان الصلاح في جزه بأن يكون في وقت الصيف وقد بقي إلى وقت النحر مدة طويلة جزه لأنه يترفه به الهدي ويستمر فتنتفع به المساكين فإن أحصر نحره حيث أحصر كما قلنا في هدي المحصر وإن تلف من غير تفريط لم يضمنه لأنه أمانة عنده فإذا هلكت من غير تفريط لم تضمن كالوديعة وإن أصابه عيب ذبحه وأجزأه لأن ابن الزبير أتى في هداياه بناقة عوراء فقال: إن كان أصابها بعد ما اشتريتموها فامضوها وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فابدلوها ولأنه لو هلك جميعه لم يضمنه فإذا نقص بعضه لم يضمنه كالوديعة.
فصل: وإن عطب وخاف أن يهلك نحره وغمس نعله في دمه وضرب به صفحته لما روى أبو قبيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالهدي ثم يقول: "إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتاً فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من

(1/430)


رفقتك1" ولأنه هدي معكوف عن الحرم فوجب نحره مكانه كهدي المحصر وهل يجوز أن يفرقه على فقراء الرفقة؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لحديث أبي قميصة ولأن فقراء الرفقة يتهمون في سبب عطبها فلم يطعموا منها والثاني يجوز لأنهم من أهل الصدقة فجاز أن يطعموا كسائر الفقراء فإن أخر ذبحه حتى مات ضمنه لأنه مفرط في تركه فضمنه كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه حتى سرقها وإن أتلفها لزمه الضمان لأنه أتلف مال المساكين فلزمه ضمانه ويضمنه بأكثر المرين من قيمته أو هدي مثله لأنه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع فلزمه ضمانهما كما لو أتلف شيئين فإن كانت القيمة مثل ثمن مثله اشترى مثله وأهداه وإن كانت أقل لزمه أن يشتري مثله ويهديه وإن كانت أكثر من ذلك نظرت فإن كان يمكنه أن يشتري به هديين اشتراهما وإن لم يمكنه اشترى هدايا وفيما يفضل ثلاثة أوجه: أحدها يشتري به جزءاً من حيوان ويذبح لأن إراقة الدم مستحقة فإذا أمكن لم يترك والثاني أنه يشتري به اللحم لأن اللحم والإراقة مقصودان والإراقة تشق فسقطت والتفرقة لا تشق فلم تسقط والثالث أن يتصدق بالفاضل لأنه إذا سقطت الإراقة كان اللحم والقيمة واحداً وإن أتلفها أجنبي وجبت عليه القيمة فإن كانت القيمة مثل ثمن مثلها اشترى بها مثلها وإن كانت أكثر ولم تبلغ ثمن مثلين اشترى المثل وفي الفاضل الأوجه الثلاثة وإن كانت أقل من ثمن المثل ففيه الأوجه الثلاثة وإن كان الهدي الذي نذره اشتراه ووجد به عيباً بعد النذر لم يجز له الرد بالعيب لأنه قد أيس من الرد لحق الله عز وجل ويرجع بالأرض ويكون الأرش للمساكين لأنه بدل عن الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر فإن لم يمكنه أن يشتري به هدايا ففيه الأوجه الثلاثة.
فصل: وإن ذبحه أجنبي بغير إذنه أجزأه عن النذر لأن ذبحه لا يحتاج إلى قصده فإذا فعله بغير إذنه وقع الموقع كرد الوديعة وإزالة النجاسة ويجب على الذابح ضمان ما بين قيمته حياً ومذبوحاً ولأنه لو أتلفه ضمنه فإذا ذبحه ضمن نقصانه كشاة اللحم وفيما يؤخذ منه الأوجه الثلاثة.
فصل: وإن كان في ذمته هدي فعينه بالنذر في هدي تعين لأن ما وجب معيناً جاز أن يتعين به ما في الذمة كالبيع ويزول ملكه عنه فلا يملك بيعه ولا إبداله كما قلنا فيما أوجبه بالنذر فإن هلك بتفريط أو بغير تفريط رجع الواجب إلى ما في الذمة كما لو كان عليه دين فباع به عيناً ثم هلكت العين قبل التسليم فإن الدين يرجع إلى الذمة وإن حدث
__________
1 رواه أحمد في مسنده "4/225".

(1/431)


به عيب يمنع الإجزاء لم يجزه عما في الذمة لأن الذي في الذمة سليم فلم يجزه عنه معيب وإن عطب فنحره عاد الواجب إلى ما في الذمة وهل يعود ما نحره إلى ملكه فيه وجهان: أحدهما يعود إلى ملكه لأنه إنما نحره ليكون عما في ذمته فإذا لم يقع عما في ذمته عاد إلى ملكه والثاني أنه لا يعود لأنه صار للمساكين فلا يعود إليه فإن قلنا إنه يعود إلى ملكه جاز له أن يأكله ويطعم من شاء ثم ينظر فيه فإن كان الذي في ذمته مثل الذي عاد إلى ملكه نحر مثله في الحرم وإن كان أعلى مما ذمته ففيه وجهان: أحدهما يهدي مثل ما نحر لأنه قد تعين عليه فصار ما في ذمته زائداً فلزمه نحر مثله والثاني أنه يهدي مثل الذي كان في ذمته لأن الزيادة فيما عينه وقد هلك من غير تفريط فسقط وإن نتجت فهل يتبعها ولدها أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يتبعها وهو الصحيح لأنه تعين بالنذر فصار كما لو وجب في النذر والثاني لا يتبعها لأنه غير مستقر لأنه يجوز أن يرجع إلى ملكه بعيب يحدث به بخلاف ما وجب بنذره لأن ذلك لا يجوز أن يعود إلى ملكه بنذره والله أعلم.

(1/432)


باب الأضحية
الأضحية سنة لما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين قال أنس: وأنا أضحي بهما وليست بواجبة لما روي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يرى ذلك واجباً.
فصل: ويدخل وقتها إذا مضى بعد دخول وقت صلاة الأضحى قدر ركعتين وخطبتين فإن ذبح قبل ذلك لم يجزه لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال: "من صلى صلاتنا هذه ونسك نسكنا فقد أصاب سنتنا ومن نسك قبل صلاتنا فذلك شاة لحم فليذبح مكانها1" واختلف أصحابنا في مقدار الصلاة فمنهم من اعتبر قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ركعتان يقرأ فيهما (ق - واقتربت الساعة) وقدر خطبتيه ومنهم من اعتبر قدر ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين ويبقى
__________
1 رواه البخاري في كتاب العيدين باب 23. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 5. النسائي في كتاب العيدين باب 23.

(1/432)


وقتها إلى آخر أيام التشريق لما روى جيبر بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أيام التشريق أيام ذبح" فإن لم يضح حتى مضت أيام التشريق نظرت فإن كان ما يضحي تطوعاً لم يصح لأنه ليس بوقت لسنة الأضحية وإن كان نذر لزمه أن يضحي لأنه وجب عليه ذبحه فلم يسقط بفوات الوقت.
فصل: ومن دخلت عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي فالمستحب أن لا يحلق شعره ولا يقلم أظفاره حتى يضحي لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عنده ذبح يريد أن يذبحه فرأى هلال ذي الحجة فلا يمس من شعره ولا من أظافره شيء حتى يضحي" ولا يجب عليه ذلك لأنه ليس بمحرم فلا يحرم عليه حلق الشعر ولا تقليم الظفر.
فصل: ولا يجزئ في الأضحية إلا الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم لقوله عز وجل: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:34] ولا يجزئ فيها إلا الجذعة من الضأن والثنية من المعز والإبل والبقر لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعاً من الضأن1" وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يجوز في الضحايا إلا الثني من المعز والجذع من الضأن وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يجوز في الضحايا إلا الثني من المعز والجذع من الضأن وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا تضحوا بالجذع من المعز والإبل والبقر ويجوز فيها الذكر والأنثى لما روت أم كرز عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة لا يضركم ذكراناً كن أو إناثاً2" وإذا جاز ذلك في العقيقة بالخبر دل على جوازه في الأضحية ولأن لحم الذكر أطيب ولحم الأنثى أرطب.
فصل: والبدنة أفضل من البقرة لأنها أعظم والبقرة أفضل من الشاة لأنها بسبع من الغنم والشاة أفضل من مشاركة سبعة في بدنة أو بقرة لأنه يتفرد بإراقة دم والضأن
__________
1 رواه مسلم في كتاب الأضاحي حديث 4. النسائي في كتاب الضحيا باب 13. ابن ماجه في كتاب الأضاحي باب 7 أحمد في مسنده "3/312، 327".
2 رواه النسائي في كتاب العقيقة باب 1.

(1/433)


أفضل من المعز لما روى عبادة ابن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير الأضحية الكبش الأقرن1" وقالت أم سلمة رضي الله عنها: لأن أضحي بالجذع من الضأن أحب إلي من أن أضحي بالمسنة من المعز ولأن لحم الضان أطيب والسمينة أفضل من غير السمينة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32] قال: تعظيمها استسمانها واستحسانها وخطب علي رضي الله عنه قال ثنياً فصاعداً واستسمن فإن أكلت أكلت طيباً وإن أطعمت أطعمت طيباً والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين والأملح الأبيض وقال أبو هريرة: دم البيضاء في الأضحية أفضل من دم سوداوين وقال ابن عباس: تعظيمها استحسانها والبيض أحسن.
فصل: ولا يجزئ ما فيه عيب ينقص اللحم كالعوراء والعمياء والجرباء والعرجاء التي تعجز عن المشي في المرعى لما روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجزئ في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكسيرة التي لا تنقى2" فنص على هذه الأربعة لأنها تنقص اللحم فدل على أن كل ما ينقص اللحم لا يجوز ويكره أن يضحي بالجلحاء وهي التي لم يخلق لها قرن وبالقصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها وبالعضباء وهي التي انكسر قرنها وبالشرقاء
__________
1رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 31. الترمذي في كتاب الأضاحي باب 17. ابن ماجه في كتاب الأضاحي باب 4.
2 رواه أبو داود في كتاب الضحايا باب 5.

(1/434)


وهي التي انتقيت من الكي أذنها وبالخرقاء وهي التي تشق أذنها بالطول لأن ذلك كله يشينها وقد روينا عن ابن عباس رضي الله أن تعظيمها استحسانها فإن ضحى بما ذكرناه أجزأه لأن ما بها لا ينقص من لحمها فإن نذر أن يضحي بحيوان فيه عيب يمنع الأجزاء كالجرب وجب عليه ذبحه ولا يجزئه عن الأضحية فإن زال العيب قبل أن يذبح لم يجزه عن الأضحية لأنه أزال الملك فيها بالنذر وهي لا تجزئ فلم يتغير حكمها بما يحدث فيها كما لو أعتق في الكفارة عبداً أعمى ثم صار بعد العتق بصيراً.
فصل: والمستحب أن يضحي بنفسه لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين ووضع رجله على صفاحهما وسمى وكبر ويجوز أن يستنيب غيره لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بدنة ثم أعطى علياً رضي الله عنه فنحر ما غبر منها والمستحب أن لا يستنيب إلا مسلماً لأنه قربة فكان الأفضل أن لا يتولاها كافر ولأنه يخرج بذلك من الخلاف لأن عند مالك رحمه الله لا يجزئه ذبحه فإن استناب يهودياً أو نصرانياً جاز لأنه من أهل الذكاة ويستحب أن يكون عالماً لأنه أعرف بسنة الذبح والمستحب أنه إذا استناب غيره أن يشهد الذبح لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: "قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك" ويستحب أن يوجه الذبيحة إلى القبلة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضحوا وطيبوا أنفسكم فإنه ما من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وفرتها وصوفها حسنات في ميزانه يوم القيامة" ولأنها قربة لابد فيها من جهة فكانت القبلة فيها أولى ويستحب أن يسمي الله تعالى لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى وكبر والمستحب أن يقول اللهم تقبل مني لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليجعل أحدكم ذبيحته بينه وبين القبلة ثم يقول: من الله وإلى الله والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا ضحى قال: من الله والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل مني.
فصل: وإذا نحر الهدي أو الأضحية نظرت فإن كان تطوعاً فالمستحب أن يأكل منه لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بدنة ثم أعطى علياً رضي الله عنه فنحر ما غبر وأشركه في هديه وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلها في قدر فطبخت فأكل من

(1/435)


لحمها وشرب من مرقها ولا يجب ذلك لقوله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] فجعلها لنا وما هو للإنسان فهو مخير بين أكله وبين تركه وفي القدر الذي يستحب أكله قولان: قال في القديم: يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] فجعلها بين اثنين فدل على أنها بينهما نصفين وقال في الجديد: يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث لقوله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] وقال الحسن: القانع الذي يسألك والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك وقال مجاهد: القانع الجالس في بيته والمعتر الذي يسألك فجعلها بين ثلاثة فدل على أنها بينهم أثلاثاً وأما القدر الذي يجوز أن يؤكل ففيه وجهان: قال أبو العباس بن سريج وأبو العباس بن القاص: يجوز أن يأكل الجميع لأنها ذبيحة يجوز أن يأكل منها فجاز أن يأكل جميعها كسائر الذبائح وقال عامة أصحابنا: يجب أن يبقى منها قدر ما يقع عليه اسم الصدقة لأن القصد منها القربة فإذا أكل الجميع لم تحصل القربة له فإن أكل الجميع لم يضمن على قول أبي العباس وابن القاص ويضمن على قول سائر أصحابنا وفي القدر الذي يضمن وجهان: أحدهما يضمن أقل ما يجزئ في الصدقة والثاني يضمن القدر المستحب وهو الثلث في أحد القولين والنصف في الآخر بناء على القولين فيمن فرق سهم الفقراء على اثنين وإن كان نذراً نظرت فإن كان قد عينه عما في ذمته لم تجز أن يأكل منه لأنه بدل عن واجب فلم يجز أن يأكل منه كالدم الذي يجب بترك الإحرام من الميقات وإن كان نذر مجازاة

(1/436)


كالنذر لشفاء المريض وقدوم الغائب لم يجز أن يأكل منه لأنه جزاء فلم يجز أن يأكل منه كجزاء الصيد فإن أكل شيئاً منه ضمنه وفي ضمانه ثلاثة أوجه: أحدها يلزمه قيمة ما أكل كما لو أكل منه أجنبي والثاني يلزمه مثله من اللحم لأنه لو أكل جميعه ضمنه بمثله فإذا أكل بعضه ضمنه بمثله والثالث يلزمه أن يشتري جزءاً من حيوان مثله ويشارك في ذبحه وإن كان نذراً مطلقاً ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يجوز أن يأكل منه لأنه إراقة دم واجب فلا يجوز أن يأكل منه كدم الطيب واللباس والثاني يجوز لأن مطلق النذر يحمل على ما تقرر في المشرع والهدي والأضحية المعهودة في الشرع يجوز الأكل منها فحمل النذر عليه والثالث أنه إن كان أضحية جاز أن يأكل منها لأن الأضحية المعهودة في الشرع يجوز الأكل منها وإن كان هدياً لم يجز أن يأكل منه لأن أكثر الهدايا في الشرع لا يجوز الأكل منها فحمل النذر عليها.
فصل: ولا يجوز بيع شيء من الهدي والأضحية نذراً كان أو تطوعاً لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنة فأقسم جلالها وجلودها وأمرني أن لا أعطي الجازر منها شيئاً وقال: نحن نعطيه من عندنا ولو جاز أخذ العوض منه لجاز أن يعطي الجازر منها في أجرته ولأنه إنما أخرج ذلك قربة فلا يجوز أن يرجع إليه ما رخص فيه وهو الأكل.
فصل: ويجوز أن ينتفع بجلدها فيضع منه النعال والخفاف والفراء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: دفت دافة من أهل البادية حضرة الأضحى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادخروا الثلث وتصدقوا بما بقي" فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله: يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟ " قالوا: يا رسول الله نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وتصدقوا وادخروا" فدل على أنه يجوز اتخاذ الأسقية منها.
فصل: ويجوز أن يشترك سبعة في بدنة وفي البقرة لما روى جابر رضي الله عنه

(1/437)


قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وإن اشترك جماعة في بدنة أو بقرة وبعضهم يريد اللحم وبعضهم يريد القربة جاز لأن كل سبع منها قائم مقام الشاة فإن أرادوا القسمة وقلنا إن القسمة فرز النصيبين قسم بينهم وإن قلنا إن القسمة بيع لم تجز القسمة فيملك من يريد القربة نصيبه لثلاثة من الفقراء فيصيرون شركاء لمن يريد اللحم فإن شاءوا باعوا نصيبهم ممن يريد اللحم وإن شاءوا باعوا من أجنبي وقسموا الثمن وقال أبو العباس بن القاص: تجوز قولاً واحداً لأنه موضع ضرورة لأن بيعه لا يمكن وهذا خطأ لأنا بينا أنه يمكن البيع فلا ضرورة بهم إلى القسمة.
فصل: إذ نذر أضحية بعينها فالحكم فيها كالحكم في الهدي المنذور في ركوبها وولدها ولبنها وجز صوفها وتلفها وإتلافها وذبحها ونقصانها بالعيب وقد بينا ذلك في الهدي فأغنى عن الإعادة والله أعلم.

(1/438)


باب العقيقة
العقيقة سنة وهو ما يذبح عن المولود لما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين عليهما السلام ولا يجب ذلك لما روى عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: "لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك له فليفعل1" فعلق على المحبة فدل على أنها لا تجب ولأنه إراقة دم من غير جناية ولا نذر فلم يجب كالأضحية والسنة أن يذبح عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة لما روت أم كرز قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: "للغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة" ولأنه إنما شرع للسرور بالمولود والسرور بالغلام أكثر فكان الذبح عنه أكثر وإن ذبح عن كل واحد منهما شاة جاز لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين عليهما السلام كبشاً كبشاً ولا يجزئ فيه ما دون الجذعة من الضأن ودون الثنية من المعز ولا يجزئ فيه إلا السليم من العيوب لأنه إراقة دم بالشرع فاعتبر فيه ما ذكرناه كالأضحية والمستحب أن يسمي الله تعالى ويقول اللهم
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأضاحي باب 20. النسائي في كتاب العقيقة باب 1. الموطأ في كتاب العقيقة حديث 1. أحمد في مسنده "2/ 182، 194".

(1/438)


لك وإليك عقيقة فلان لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين وقال: "قولوا بسم الله اللهم لك وإليك عقيقة فلان" والمستحب أن يفصل أعضاءها ولا يكسر عظمها لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: السنة شاتان مكافئتان عن الغلام وعن الجارية شاة تطبخ جدولاً ولا يكسر عظم ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك يوم السابع ولأنه أول ذبيحة فاستحب أن لا يكسر عظم تفاؤلاً بسلامة أعضائه ويستحب أن يطبخ من لحمها طبيخاً حلواً تفاؤلاً بحلاوة أخلاقه.
فصل: ويستحب أن يأكل منها ويهدي ويتصدق لحديث عائشة ولأنه إراقة دم مستحب فكان حكمها ما ذكرناه كالأضحية.
فصل: والسنة أن يكون ذلك في اليوم السابع لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين عليهما السلام يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى فإن قدمه على اليوم السابع أو أخره أجزأه لأنه فعل ذلك بعد وجود السبب والمستحب أن يحلق شعره بعد الذبح لحديث عائشة ويكره أن يترك على بعض رأسه الشعر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع في الرأس والمستحب أن يلطخ رأسه بالزعفران ويكره أن يلطخ بدم العقيقة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كانوا في الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونها على رأس المولود فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقاً.

(1/439)


فصل: ويستحب لمن ولد له ولد أن يسميه بعبد الله أو عبد الرحمن لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن1" ويكره أن يسمى نافعاً وبشاراً ونجيحاً ورباحاً أو أفلح وبركة لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسمين غلامك أفلح ولا نجيحاً ولا بشاراً ولا رباحاً فإنك إذا قلت أثم هو قالوا لا2" ويكره أن يسمي باسم قبيح فإن سمي باسم قبيح غيره لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال أنت جميلة ويستحب لمن ولد له ولد أن يؤذن في أذنه لما روى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة عليهما السلام بالصلاة ويستحب أن يحنك المولود بالتمر لما روى أنس قال: ذهبت بعبد الله ابن أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد فقال: هل معك تمر؟ قلت: نعم فناولته تمرات فلاكهن ثم فغر فاه ثم مجه فيه فجعل يتلمظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حب الأنصار التمر" وسماه عبد الله.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الأدب حديث 2. البخاري في كتاب الأدب باب 5. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 30. أحمد في مسنده "2/24".
2 رواه مسلم في كتاب الأدب حديث 11، 12. الترمذي في كتاب الأدب باب 65. أحمد في مسنده "3/ 385".

(1/440)


باب النذر
ويصح النذر من كل مسلم بالغ عاقل فأما الكافر فلا يصح نذره ومن أصحابنا من قال يصح نذره لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فقال له صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" والمذهب الأول لأنه سبب وضع

(1/440)


لإيجاب القربة فلم يصح من الكافر كالإحرام وأما الصبي والمجنون فلا يصح نذرهما لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" ولأنه إيجاب حق بالقول فلا يصح من الصبي والمجنون كضمان المال.
فصل: ولا يصح النذر إلا بالقول وهو أن يقول لله علي كذا فإن قال علي كذا ولم يقل لله صح لأن القربة لا تكون إلا لله تعالى فحمل الإطلاق عليه وقال في القديم: إذا أشعر بدنة أو قلدها ونوى أنها هدي أو أضحية صارت هدياً أو أضحية لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر بدنة وقلدها ولم ينقل أنه قال: إنها هدي وصارت هدياً وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه يصير هدياً أو أضحية بمجرد النية ومن أصحابنا من قال: إن ذبح ونوى صار هدياً أو أضحية والصحيح هو الأول لأنه إزالة ملك يصح بالقول فلم يصح بغير القول مع القدرة عليه كالوقف والعتق ولأنه لو كتب على دار أنها وقف أو على فرس أنها في سبيل الله لم تصر وقفاً فكذلك ههنا.
فصل: ويجب بالنذر جميع الطاعات المستحبة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه1" وأما المعاصي كالقتل والزنا وصوم يوم العيد وأيام الحيض والتصدق بما لا يملكه فلا يصح نذرها لما روى عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم" ولا يلزمه بنذره كفارة وقال الربيع: إذا نذرت المرأة صوم أيام الحيض وجبت عليها كفارة يمين ولعله خرج ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة يمين2" والمذهب الأول والحديث متأول فأما المباحات كالأكل والشرب فلا تلزم بالنذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل قائم في الشمس لا يستظل فسأل عنه فقيل هذا ابن اسرائيل نذر أن يقف ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال: "مروه فليقعد وليستظل وليتكلم وليتم صومه".
فصل: فإن نذر طاعة نظرت فإن علق ذلك على إصابة خير أو دفع سوء فأصاب
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 28، 31. أبو داود في كتاب الأيمان 19. الترمذي في كتاب النذور باب 2. النسائي في كتاب الأيمان باب 27، 28.
2 رواه مسلم في كتاب النذر حديث 12. أبو داود في كتاب الأيمان باب 25 الترمذي في كتاب النذور باب 4. أحمد في مسنده "4/144".

(1/441)


الخير أو دفع السوء عنه لزمه الوفاء بالنذر لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ركبت في البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهراً فماتت قبل أن تصوم فأتت أختها أو أمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصوم عنها فإن لم يعلقه على شيء بأن قال لله علي أن أصوم أو أصلي ففيه وجهان: أحدهما أنه يلزمه وهو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه1" والثاني لا يلزمه وهو قول أبي إسحاق وأبي بكر الصيرفي لأنه التزام من غير عوض فلم يلزمه بالقول كالوصية والهبة وإن نذر طاعة في لجاج وغضب بأن قال إن كلمت فلاناً فعلي كذا فكلمه فهو بالخيار بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين لما روى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفارة النذر كفارة يمين2" ولأنه يشبه من حيث إنه قصد المنع والتصديق ويشبه النذر من حيث إنه التزم قربة في ذمته فخير بين موجبهما ومن أصحابنا من قال: إن كانت القربة حجاً أو عمرة لزمه الوفاء به لأن ذلك يلزم بالدخول فيه بخلاف غيره والمذهب الأول لأن العتق أيضاً يلزم إتمامه بالتقويم ثم لا يلزمه.
فصل: إذا نذر أن يصدق بماله لزمه أن يتصدق بالجميع لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر نذراً أن يطيع الله فليطعه" فإن نذر أن يعتق رقبة ففيه وجهان: أحدهما يجزئه ما يقع عليه من الاسم اعتباراً بلفظه والثاني لا يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة لأن الرقبة التي يجب عتقها بالشرع ما تجب في الكفارة فحمل النذر عليه فإن نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه أن يعتقها ولا يزول ملكه عنها حتى يعتقها فإن أراد بيعها أو إبدالها بغيرها لم يجز لأنه تعين للقربة فلا يملك بيعه كالوقف وإن تلف أو أتلفه لم يلزمه بدله لأن الحق للعبد فسقط بموته فإن أتلفه أجنبي وجبت عليه القيمة للمولى ولا يلزمه صرفها في عبد آخر لما ذكرناه.
فصل: وإن نذر هدياً نظرت فإن سماه كالثوب والعبد والدار لزمه ما سماه وإن أطلق الهدي ففيه قولان: قال في الإملاء والقديم: يهدي ما شاء لأن اسم الهدي يقع عليه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 28، 31. أبو داود في كتاب الأيمان باب 19. الترمذي في كتاب النذور باب 2. النسائي في كتاب الأيمان باب 27، 28.
2 رواه مسلم في كتاب النذر حديث 12. أبو داود في كتاب الأيمان باب 25 الترمذي في كتاب النذور باب 4. أحمد في مسنده "4/144".

(1/442)


ولهذا يقال أهديت له داراً وأهدى لي ثوباً وأن الجميع يسمى قرباناً ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الجمعة: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة" فإذا سمي قرباناً وجب أن يسمى هدياً وقال في الجديد: لا يجزئه إلا الجذعة من الضأن والثنية من المعز والإبل والبقر لأن الهدي المعهود في الشرع ما ذكرناه فحمل مطلق النذر عليه وإن نذر بدنة أو بقرة أو شاة فإن قلنا بالقول الأول أجزأه من ذلك ما يقع عليه الاسم وإن قلنا بالقول الثاني لم يجزه إلا ما يجزئ في الأضحية وإن نذر شاة فأهدى بدنة أجزأه لأن البدنة بسبع من الغنم وهل يجب الجميع؟ فيه وجهان: أحدهما أن الجميع واجب لأنه مخير بين الشاة والبدنة فأيهما فعل كان واجباً كما تقول في العتق والإطعام في كفارة اليمين والثاني أن الواجب هو السبع لأن كل سبع منها بشاة فكان الواجب هو السبع وإن نذر بدنة وهو واجد للبدنة ففيه وجهان: أحدهما أنه مخير بين البدنة والبقرة والسبع من الغنم لأن كل واحد من الثلاثة قائم مقام الآخر والثاني أنه لا يجزئه غير البدنة لأنه عينها بالنذر وإن كان عادماً للبدنة انتقل إلى البقر فإن لم يجد بقرة انتقل إلى سبع من الغنم ومن أصحابنا من قال لا يجزئه غير البدنة فإن لم يجد ثبتت في ذمته إلى أن يجد لأنه التزم ذلك بالنذر والمذهب الأول لأنه فرض له بدل فانتقل عند العجز إلى بدله كالوضوء.
فصل: فإن نذر الهدي للحرم لزمه في الحرم وإن نذر لبلد آخر لزمه في البلد الذي سماه لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا المكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال: لصنم قالت لا قال: لوثن قالت: لا قال: أوفي بنذرك" فإن نذر لأفضل بلد لزمه بمكة لأنها أفضل البلاد والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته: "أي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: بلدنا هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا1" ولأن مسجدها أفضل المساجد فدل على أنها أفضل البلاد وإن أطلق النذر ففيه وجهان: أحدهما يجوز حيث
__________
1 رواه البخاري في كتاب العلم باب 9، 37. مسلم في كتاب القيامة حديث 29. الترمذي في كتاب تفسير سورة 9 باب 1. الدارمي في كتاب المناسك باب 34. أحمد في مسنده "1/230".

(1/443)


شاء لأن الاسم يقع عليه والثاني لا يجوز إلا في الحرم لأن الهدي المعهود في الشرع هو الهدي في الحرم والدليل عليه قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وقال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] فحمل مطلق النذر عليه فإن كان قد نذر الهدي لرتاج الكعبة أو عمارة مسجد لزمه صرفه فيما نذر فإن أطلق ففيه وجهان: أحدهما أن له أن يصرفه فيما شاء من وجوه القرب في ذلك البلد الذي نذر الهدي فيه لأن الاسم يقع عليه والثاني أنه يفرقه على مساكين البلد الذي نذر أن يهدي إليه لأن الهدي المعهود في الشرع ما يفرق على المساكين فحمل مطلق النذر عليه وإن كان ما نذره مما لا يمكن نقله كالدار باعه ونقل ثمنه إلى حيث نذر.
فصل: وإن نذر النحر في الحرم ففيه وجهان: أحدهما يلزمه النحر دون التفرقة لأنه نذر أحد مقصودي الهدي فلم يلزمه الآخر كما لو نذر التفرقة والثاني يلزمه النحر والتفرقة وهو الصحيح لأنه نحر الهدي في الحرم في عرف الشرع ما يتبعه التفرقة فحمل مطلق النذر عليه وإن نذر النحر في بلد غير الحرم ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن النحر في غير الحرم ليس بقربة يلزمه بالنذر والثاني يلزمه النحر والتفرقة لأن النحر على وجه القربة لا يكون إلا للتفرقة فإذا نذر النحر تضمن التفرقة.
فصل: وإن نذر صلاة لزمه ركعتان في أظهر القولين لأن أقل صلاة واجبة في الشرع ركعتان فحمل النذر عليه وتلزمه ركعة في القول الآخر لأن الركعة صلاة في الشرع وهي الوتر فلزمه ذلك وإن نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى جاز له أن يصلي في غيره لأن ما سوى المساجد الثلاثة في الحرمة والفضيلة واحدة فلم يتعين بالنذر وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لزمه فعلها فيه لأنه يختص بالنسك والصلاة فيه أفضل من الصلاة في غيره والدليل عليه ما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا" فلا يجوز أن يسقط ما نذره

(1/444)


بالصلاة في غيره وإن نذر الصلاة في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى ففيه قولان: أحدهما يلزمه لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فأشبه المسجد الحرام والثاني لا يلزمه لأنه لا يجب قصده بالنسك فلا تتعين الصلاة فيه بالنذر كسائر المساجد فإن قلنا يلزمه فصلى في المسجد الحرام أجزأه عن النذر لأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل فسقط به فرض النذر وإن نذر أن يصلي في المسجد الأقصى فصلى في مسجد المدينة أجزأه لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلاً قال: "يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال: صل ههنا فأعاد عليه فقال: صل ههنا ثم أعاد عليه فقال: شأنك" ولأن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في بيت المقدس فسقط به فرض النذر.
فصل: وإن نذر الصوم لزمه صوم يوم لأن أقل الصوم يوم وإن نذر صوم سنة بعينها لزمه صومها متتابعاً كما يلزمه صوم رمضان متتابعاً فإذا جاء رمضان صام عن رمضان لأنه مستحق بالشرع ولا يجوز أن يصوم فيه عن النذر ولا يلزمه قضاؤه عن النذر لأنه لم يدخل في النذر ويفطر في العيدين وأيام التشريق لأنه مستحق للفطر ولا يلزمه قضاؤها لأنه لم يتناولها النذر وإن كانت امرأة فحاضت فهل يلزمها القضاء؟ فيه قولان: أحدهما لا يلزمها لأنه مستحق للفطر فلا يلزمها قضاؤه كأيام العيد والثاني يلزمها لأن الزمان محل للصوم وإنما تفطر هي وحدها فإن أفطر فيه لغير عذر نظرت فإن لم يشترط فيه التتابع أثم ما بقي لأن التتابع فيه يجب على الصائم في رمضان وإن شرط التتابع لزمه أن يستأنف لأن التتابع لزمه بالشرط فبطل بالفطر كصوم الظهار وإن أفطر لمرض وقد شرط التتابع ففيه قولان أحدهما: ينقطع التتابع لأنه أفطر باختياره والثاني لا ينقطع لأنه أفطر بعذر فأشبه الفطر بالحيض فإن قلنا لا ينقطع التتابع فهل يجب القضاء فيه وجهان بناء على القولين في الحائض وقد بيناه وإن أفطر بالسفر فإن قلنا إنه ينقطع التتابع بالمرض فالسفر أولى وإن قلنا لا ينقطع بالمرض ففي السفر وجهان: أحدهما لا ينقطع لأنه أفطر بعذر فهو كالفطر بالمرض والثاني ينقطع لأن سببه باختياره بخلاف

(1/445)


المرض وإن نذر سنة غير معينة فإن لم يشترط التتابع جاز متتابعاً ومتفرقاً لأن الاسم يتناول الجميع فإن صام شهوراً بالأهلة وهي ناقصة أجزأه لأن الشهور في الشرع بالأهلة وإن صام سنة متتابعة لزمه قضاء رمضان وأيام العيد لأن الفرض في الذمة فانتقل فيما لم يسلم منه إلى البدل كالمسلم فيه إذا رد بالعيب ويخالف السنة المعينة فإن الفرض فيها يتعلق بمعين فلم ينتقل فيما لم يسلم إلى البدل كالسلعة المعينة إذا ردها العيب وأما إذا شرط فيها التتابع فإنه يلزمه صومها متتابعاً على ما ذكرناه.
فصل: وإن نذر أن يصوم في كل اثنين لم يلزمه قضاء أثانين رمضان لأنه يعلم أن رمضان لا بد فيه من الأثانين فلا يدخل في النذر فلم يجب قضاؤها وفيما يوافق منها أيام العيد قولان: أحدهما لا يجب وهو قول المزني قياساً على ما يوافق رمضان والثاني يجب لأنه نذر ما يجوز أن لا يوافق أيام العيد فإذا وافق لزمه القضاء وإن لزمه صوم الأثانين بالنذر ثم لزمه صوم شهرين متتابعين في كفارة بدأ بصوم الشهرين ثم يقضي صوم الأثانين لأنه إذا بدأ بصوم الشهرين يمكنه بعد الفراغ من الشهرين أن يقضي صوم الأثانين وإذا بدأ بصوم الأثانين لم يمكنه أن يقضي صوم الشهرين فكان الجمع بينهما أولى فإذا فرغ من صوم الشهرين لزمه قضاء صوم الأثانين لأنه لم يمكنه صيامها وإنما تركه لعارض فلزمه القضاء كما لو تركه لمرض وإن وجب عليه صوم الشهرين ثم نذر صوم الأثانين بدأ بصوم الشهرين ثم يقضي صوم الأثانين كما قلنا فيما تقدم ومن أصحابنا من قال لا يجب القضاء لأنه استحق صيامه عن الكفارة فلا يدخل في النذر والمذهب الأول أنه يلزمه لأنه كان يمكنه صومه عن النذر فإذا صامه عن غيره لزمه القضاء.
فصل: وإن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ففيه قولان: أحدهما نذره لأنه يمكنه أن يتحرى اليوم الذي يقدم فيه فينوي صيامه من الليل فإذا قدم صار ما صامه قبل القدوم تطوعاً وما بعده فرضاً وذلك يجوز كما لو دخل في صوم تطوع ثم نذر إتمامه والثاني لا يصح نذره لأنه لا يمكنه الوفاء بنذره لأنه إن قدم بالنهار فقد مضى جزء منه وهو فيه غير صائم وإن تحرى اليوم الذي يقدم فيه فنوى من الليل فقدم في أثناء النهار كان ما قبل القدوم تطوعاً وقد أوجب صوم جميعه بالنذر فإن قلنا إنه يصح نذره فقدم ليلاً لم يلزمه لأن الشرط أن يقدم نهاراً وذلك لم يوجد فإن قدم نهاراً وهو مفطر لزمه قضاؤه وإن قدم نهاراً وهو صائم عن تطوع لم يجزه عن النذر لأنه لم ينو من أوله وعليه أن يقضيه وإن عرف أنه يقدم غداً فنوى الصوم من الليل عن النذر صح عن النذر

(1/446)


ويكون أوله تطوعاً والباقي فرضاً فإن اجتمع في يوم نذران بأن قال إن قدم زيد فلله علي أن أصوم اليوم الذي يلي يوم مقدمه وإن قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول خميس بعده فقدم زيد وعمرو يوم الأربعاء لزمه صوم يوم الخميس عن أول نذر نذره ثم يقضي عن الآخر.
فصل: وإن نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان صح النذر فإن قدم ليلاً لم يلزمه شيء لأن الشرط لم يوجد وإن قدم نهاراً لزمه اعتكاف بقية النهار وفي قضاء ما فات وجهان: أحدهما يلزمه وهو اختيار المزني والثاني لا يلزمه وهو المذهب لأن ما مضى قبل القدوم لم يدخل في النذر فلا يلزمه قضاؤه وإن قدم وهو محبوس أو مريض فالمنصوص أنه يلزمه القضاء لأنه فرض وجد شرطه في حال المرض فبقي في الذمة كصوم رمضان وقال القاضي أبو حامد وأبو علي الطبري: لا يلزمه لأن ما لا يقدر عليه لا يدخل في النذر كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه فحاضت فيه.
فصل: وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي إليه بحج أو عمرة لأنه لا قربة في المشي إليه إلا بنسك فحمل مطلق النذر عليه ومن أي موضع يلزمه المشي والإحرام؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يلزمه أن يحرم ويمشي من دويرة أهله لأن الأصل في الإحرام أن يكون من دويرة أهله وإنما أجيز تأخيره إلى الميقات رخصة فإذا أطلق النذر حمل الأصل وقال عامة أصحابنا: يلزمه الإحرام والمشي من الميقات لأن مطلق كلام الآدمي يحمل على المعهود في الشرع والمعهود هو من الميقات فحمل النذر عليه فإن كان معتمراً لزمه المشي إلى أن يفرغ وإن كان حاجاً لزمه المشي إلى أن يتحلل التحلل الثاني لأن بالتحلل الثاني يخرج من الإحرام فإن فاته لزمه القضاء ماشياً لأن فرض النذر يسقط بالقضاء فلزمه المشي فيه كالأداء وهل يلزمه أن يمشي في فائتة؟ فيه قولان: أحدهما يلزمه لأنه لزمه بحكم النذر فلزمه المشي فيه كما لو لم يفته والثاني لا يلزمه لأن فرض النذر لا يسقط به وإن نذر المشي فركب وهو قادر على المشي لزمه دم لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: "إن الله لغني عن نذر أختك لتركب ولتهد بدنة" ولأنه صار بالنذر نسكاً واجباً فوجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات وإن لم يقدر على المشي فله أن يركب لأنه إذا جاز أن يترك القيام الواجب في الصلاة للعجز جاز أن يترك المشي فإن ركب فهل يلزمه دم؟ فيه قولان: أحدهما لا يلزمه لأن حال

(1/447)


العجز لم يدخل في النذر والثاني يلزمه لأن ما وجب به الدم لم يسقط الدم فيه بالمرض كالطيب واللباس وإن نذر أن يركب إلى بيت الله الحرام فمشى لزمه دم لأنه ترفه بترك مؤنة الركوب وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لا حاجاً ولا معتمراً ففيه وجهان: أحدهما لا ينعقد نذره لأن المشي في غير نسك ليس بقربة فلم ينعقد كالمشي إلى غير البيت والثاني ينعقد نذره ويلزمه المشي بحج أو عمرة لأنه لما نذر المشي لزمه المشي بنسك ثم رام إسقاطه فلم يسقط وإن نذر المشي إلى بيت الله ولم يقل الحرام ولا نواه فالمذهب أنه يلزمه لأن البيت المطلق بيت الله الحرام فحمل مطلق النذر عليه ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لأن البيت يقع على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد فلا يجوز حمله على البيت الحرام فإن نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه المشي بحج أو عمرة لأن قصده لا يجوز من غير إحرام فكان إيجابه إيجاباً للإحرام وإن نذر المشي إلى عرفات لم يلزمه لأنه يجوز قصده من غير إحرام فلم يكن في نذره المشي إليه أكثر من إيجاب مشي وذلك ليس بقربة فلم يلزمه وإن نذر المشي إلى مسجد غير المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى لم يلزمه لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا1" وإن نذر المشي إلى المسجد الأقصى ومسجد المدينة ففيه قولان: قال في البويطي يلزمه لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فلزمه المشي إليه بالنذر كالمسجد الحرام وقال في الأم لا يلزمه لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك فلم يجب المشي إليه بالنذر كسائر المساجد.
فصل: وإن نذر أن يحج في هذه السنة نظرت فإن تمكن من أدائه فلم يحج صار ذلك ديناً في ذمته كما قلنا في حجة الإسلام وإن لم يتمكن من أدائه في هذه السنة سقط عنه فإن قدر بعد ذلك لم يجب لأن النذر اختص بتلك السنة فلم يجب في سنة أخرى إلى بنذر آخر.
__________
1 رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 1،6. مسلم في كتاب الحج حديث 415. الترمذي في كتاب الصلاة باب 126. الدارمي في كتاب الصلاة باب 132.. أحمد في مسنده "2/234".

(1/448)


باب الأطعمة
ما يؤكل شيأن: حيوان وغير حيوان فأما الحيوان فضربان: حيوان البر وحيوان

(1/448)


البحر فأما حيوان البر فضربان: طاهر ونجس فأما النجس فلا يحل أكله وهو الكلب والخنزير والدليل عليه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] وقوله عز وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف:157] والكلب من الخبائث والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الكلب خبيث خبيث ثمنه" وأما الطاهر فضربنا طائر ودواب فأما الدواب فضربان دواب الإنس ودواب الوحش فأما دواب الإنس فإنه يحل منها الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة:1] وقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف:157] والأنعام من الطيبات لم يزل الناس يأكلونها ويبيعون لحومها في الجاهلية والإسلام ويحل أكل الخيل لما روى جابر رضي الله عنه قال: ذبحنا يوم حنين الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل ولا تحل البغال والحمير لحديث جابر رضي الله عنه ولا يحل السنور لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الهرة سبع" ولأنه يصطاد بالناب ويأكل الجيف فهو كالأسد.
فصل:
وأما الوحش فإنه يحل منه الظباء والبقر لقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف:157] والظباء والبقر من الطيبات يصطاد ويؤكل ويحل الحمار الوحش للآية ولما روي أن أبا قتادة كان مع قوم محرمين وهو حلال فسنح لهم حمر وحش فحمل عليها أو قتادة فعقر منها أتاناً فأكلوا منها وقالوا نأكل من لحم صيد ونحن محرمون فحملوا ما بقي من لحمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا ما بقي من لحمها" ويحل أكل الضبع لقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} قال الشافقي رحمه الله: ما زال

(1/449)


الناس يأكلون الضبف ويبيعونه بين الصفا والمروة وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الضبع صيد يؤكل وفيه كبش إذا أصابه المحرم.
فصل: ويحل أكل الأرنب لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} والأرنب من الطيبات ولما روى جابر أن غلاماً من قومه أصاب أرنباً فذبحها بمروة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أكلها فأمره أن يأكلها ويحل اليربوع لقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} واليربوع من الطيبات تصطاده العرب وتأكله وأوجب فيه عمر رضي الله عنه على المحرم إذا أصابه جفرة فدل على أنه صيد مأكول ويحل أكل الثعلب لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} والثعلب من الطيبات مستطاب يصطاد ولأنه لا يتقوى بنابه فأشبه الأرنب ويحل أكل ابن عرس والوبر لما ذكرناه في الثعلب ويحل أكل القنفذ لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن القنفذ فتلا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام:145] الآية ولأنه مستطاب لا يتقوى بنابه فحل أكله كالأرنب ويحل أكل الضب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخبره خالد بن الوليد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم: بيت ميمونة رضي الله عنها فوجد عندها ضباً محنوذاً فقدمت الضب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يده فقال خالد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: "لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم: ينظر فلم ينهه ولا يحل ما يتقوى بنابه ويعدو على

(1/450)


الناس وعلى البهائم كالأسد والفهد والذئب والنمر والدب لقوله عز وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وهذه السباع من الخبائث لأنها تأكل الجيف ولا تستطيبها العرب ولما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وأكل ذي مخلب من الطير وفي ابن آوى وجهان: أحدهما يحل لأنه لا يتقوى بنابه فهو كالأرنب والثاني لا يحل لأنه مستخبث كريه الرائحة ولأنه من جنس الكلاب فلم يحل أكله وفي نسور الوحش وجهان: أحدهما لا يحل لأنه يصطاد بنابه فلم يحل كالأسد والفهد والثاني يحل لأنه حيوان يتنوع إلى حيوان وحشي وأهلي يحرم الأهلي منه ويحل الوحشي منه كالحمار الوحشي ولا يحل أكل حشرات الأرض كالحيات والعقارب والفأر والخنافس والعظاء والصراصر والعناكب والوزغ وسام أبرص والجعلان والديدان وبنات وردان وحمار قبان لقوله عز وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .
فصل:
وأما الطائر فأنه يحل منه النعامة لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف:157] توقضت الصحابة فيها ببدنة فدل على أنها صيد مأكول ويحل الديك والدجاج والحمام والدراج والقبج والقطا والبط والكراكي والعصفور والقنابر لقوله تعالى:

(1/451)


{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} وهذه كلها مستطابة وروى أبو موسى الأشعري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم: يأكل لحم الدجاج وروى سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حباري. ويحل أكل الجراد لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبع غزوات يأكل الجراد ونأكله ويحرم أكل الهدهد

(1/452)


والخطاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن قتلهما وما يؤكل لا ينهى عن قتله ويحرم ما يصطاد ويتقوى بالمخلب كالصقر والبازي لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ويحرم أكل الحدأة والغراب الأبقع لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والحدأة والكلب العقور1" وما أمر بقتله لا يحل أكله قالت عائشة رضي الله عنها: إني لأعجب ممن يأكل الغراب قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قتله ويحرم الغراب الأسود الكبير لأنه مستخبث يأكل الجيف فهو كالأبقع وفي الغداف وغراب الزرع وجهان: أحدهما لا يحل للخبر والثاني يحل لأنه مستطاب يلقط الحب فهو كالحمام والدجاج ويحرم حشرات الطير كالنحل والزنبور والذباب لقوله عز وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وهذه من الخبائث.
فصل: وما سوى ذلك من الدواب والطير ينظر فيه فإن كان مما يستطيبه العرب حل أكله وإن كان مما لا يستطيبه العرب لم يحل أكله لقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ويرجع في ذلك إلى العرب من أهل الريف والقرى
__________
1 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 16. مسلم في كتاب الحج حديث 72، 73. أبو داود في كتاب المناسك باب 39. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 91. أحمد في مسنده "2/ 8، 48".

(1/453)


وذوي اليسار والغنى دون الأجلاف من أهل البادية والفقراء وأهل الضرورة فإن استطاب قوم شيئاً واستخبثه قوم رجع إلى ما عليه الأكثر وإن اتفق في بلد العجم ما لا يعرفه العرب نظرت إلى ما يشبهه فإن كان حلالاً حل وإن كان حراماً حرم وإن لم يكن له شبيه فيما يحل ولا فيما يحرم ففيه وجهان: قال أبو إسحاق وأبو علي الطبري: يحل لقوله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام:145] وهذا ليس بواحد منها وقال ابن عباس رضي الله عنه: ما سكت عنه فهو عفو ومن أصحابنا من قال: لا يحل أكله لأن الأصل في الحيوان التحريم فإذا أشكل بقي على الأصل.
فصل: ولا يحل ما تولد بين مأكول وغير مأكول كالسبع المتولد بين الذئب والضبع والحمار المتولد بين حمار الوحوش وحمار الأهل لأنه مخلوق مما يؤكل ومما لا يؤكل فغلب فيه الحظر كالبغل.
فصل: ويكره أكل الجلالة وهي التي أكلها العذرة من ناقة أو شاة أن بقرة أو ديك أو دجاجة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ألبان الجلالة ولا يحرم أكلها لأنه ليس فيها أكثر من تغيير لحمها وهذا لا يوجب التحريم فإن أطعم الجلالة طعاماً طاهراً فطاب لحمها لم يكره لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: تعلف الجلالة علفاً طاهراً إن كانت ناقة أربعين يوماً وإن كانت شاة سبعة أيام وإن كانت دجاجة ثلاثة أيام.
فصل: وأما حيوان البحر فإنه يحل منه السمك لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال1" ولا يحل أكل الضفدع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع ولو حل أكله لم ينه عن قتله وفيما سوى ذلك وجهان: أحدهما يحل لما روى أبو هريرة
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الصيد باب 9. أحمد في مسنده "2/97".

(1/454)


أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: "اغتسلوا منه وتوضئوا به فإنه الطهور ماؤه الحل ميتته1" ولأنه حيوان لا يعيش إلا في الماء فحل أكله كالسمك والثاني أن ما أكل مثله في البر يحل أكله وما لا يؤكل مثله في البر لم يحل أكله اعتباراً بمثله.
فصل: وأما غير الحيوان فضربان: طاهر ونجس فأما النجس فلا يؤكل لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} والنجس خبيث وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تقع في السمن: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فأريقوه2" فلو حل أكله لم يأمر بإراقته وأما الطاهر فضربان: ضرب يضر وضرب لا يضر فما يضر لا يحل أكله كالسم والزجاج والتراب والحجر والدليل عليه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وأكل هذه الأشياء تهلكه فوجب أن لا يحل وما لا يضر يحل أكله كالفواكه والحبوب والدليل عليه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .
فصل: ومن اضطر إلى أكل الميتة أو لحم الخنزير فله أن يأكل منه ما يسد به الرمق لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] وهل يجب أكله في وجهان: أحدهما يجب لقوله تعالى: {لا تقتلوا أنفسكم} والثاني لا يجب وهو قول أبي إسحاق لأن له غرضاً في تركه وهو أن يجتنب ما حرم عليه وهل يجوز أن يشبع منه؟ فيه قولان: أحدهما لا يجوز وهو اختيار المزني لأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلا يجوز له أكل الميتة كما لو أراد أن يبتديء بالأكل وهو غير مضطر والثاني يحل لأن كل طعام جاز أن يأكل منه قدر سد الرمق جاز له أن يشبع منه كالطعام الحلال وإن اضطر إلى طعام غيره وصاحبه غير مضطر إليه وجب عليه بذله لأن الامتناع من بذله إعانة على قتله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 41. الترمذي في كتاب الطهارة باب 52. النسائي في كتاب الطهارة باب 46. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 38. الدارمي في كتاب الوضوء باب 53.
2 رواه أبو داود في كتاب الأطعمة باب 47. البخاري في كتاب الذبائح باب 34. الترمذي في كتاب الأطعمة باب 8. أحمد في مسنده "2/233" "6/230".

(1/455)


مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله1" وإن طلب منه ثمن المثل لزمه أن يشتريه منه ولا يجوز أن يأكل الميتة لأنه غير مضطر فإن طلب أكثر من ثمن المثل أو امتنع من بذله فله أن يقاتله عليه فإن لم يقدر على مقاتلته فاشترى منه بأكثر من ثمن المثل ففيه وجهان: أحدهما يلزمه لأنه ثمن في بيع صحيح والثاني لا يلزمه إلا ثمن المثل كالمكره على شرائه فلم يلزمه أكثر من ثمن المثل وإن وجد الميتة وطاعم الغير وصاحبه غائب ففيه وجهان: أحدهما أنه يأكل الطعام لأنه طاهر فكان أولى والثاني يأكل الميتة لأن أكل الميتة ثبت بالنص وطعام الغير ثبت بالاجتهاد فقدم أكل الميتة عليه ولأن المنع من أكل الميتة لحق الله سبحانه وتعالى والمنع من طعام الغير لحق الآدمي وحقوق الله تعالى مبنية على التسهيل وحقوق الآدمي مبنية على التشديد وإن وجد ميتة وصيداً وهو محرم ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: إذا قلنا إنه إذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة أكل الميتة وترك الصيد لأنه إذا ذكاه صار ميتة ولزمه الجزاء وإن قلنا إنه لا يصير ميتة أكل الصيد لأنه طاهر ولأن تحريمه أخف لأنه يحرم عليه وحده والميتة محرمة عليه وعلى غيره ومن أصحابنا من قال: إن قلنا إنه يصير ميتة أكل الميتة وإن قلنا إنه لا يكون ميتة ففيه قولان: أحدهما يذبح الصيد ويأكله لأنه طاهر ولأن تحريمه أخف على ما ذكرناه والثاني أنه يأكل الميتة لأنه منصوص عليها والصيد مجتهد فيه وإن اضطر ووجد آدمياً ميتاً جاز له أكله لأن حرمة الحي آكد من حرمة الميت وإن وجد مرتداً أو من وجب قتله في الزنا جاز له أن يأكله لأن قتله مستحق وإن اضطر ولم يجد شيئاً فهل يجوز له أن يقطع شيئاً من بدنه ويأكله؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجوز لأنه إحياء نفس بعضو فجاز كما يجوز أن يقطع عضواً إذا وقعت فيه الأكلة لإحياء نفسه ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأنه إذا قطع عضواً منه كان المخافة عليه أكثر وإن اضطر إلى شرب الخمر أو البول شرب البول لأن تحريم الخمر أغلظ ولهذا يتعلق به الحد فكان البول أولى وإن اضطر إلى شرب الخمر وحدها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يجوز أن يشرب لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سبحانه وتعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم2" والثاني يجوز لأنه يدفع به الضرر عن نفسه فصار كما لو أكره على شربها والثالث أنه إن اضطر إلى شربها للعطش لم يجز لأنها تزيد في الإلهاب
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب 1.
2 رواه البخاري في كتاب الأشربة باب 15.

(1/456)


والعطش وإن اضطر إليها للتداوي جاز.
فصل: وإن مر ببستان لغيره وهو غير مضطر لم يجز أن يأخذ منه شيئاً بغير إذن صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه".
فصل: ولا يحرم كسب الحجام لما روى أبو العالية أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن كسب الحجام فقال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه أجره ولو كان حراماً ما أعطاه ويكره للحر أن يكتسب بالحجامة وغيرها من الصنع الدنيئة كالكنس والذبح والدبغ لأنها مكاسب دنيئة فينزع الحر منها ولا يكره للعبد لأن العبد أدنى فلا يكره له وبالله التوفيق.

(1/457)


باب الصيد والذبائح
لا يحل شيء من الحيوان المأكول سوى السمك والجراد إلا بذكاة لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3] ويحل السمك والجراد من غير ذكاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان السمك والجراد" لأن ذكاتهما لا تمكن في العادة فسقط اعتبارها.
فصل: والأفضل أن يكون المزكي مسلماً فإن ذبح مشرك نظرت فإن كان مرتداً أو وثنياً أو مجوسياً لم يحل لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5] وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وإن كان يهودياً أو نصرانياً من العجم حل للآية وإن كان من نصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب لم يحل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما نصارى العرب بأهل كتاب لا تحل لنا ذبائحهم وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا تحل ذبائح نصارى بني تغلب ولأنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدل منهم فصاروا كالمجوس لما أشكل أمرهم في الكتاب لم تحل ذبائحهم.

(1/457)


والمستحب أن يكون المذكي رجلاً لأنه أقوى على الذبح من المرأة فإن كان امرأة جاز لما روى كعب بن مالك أن جارية له كسرت حجراً فذبحت به شاة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بأكلها ويستحب أن يكون بالغاً لأنه أقدر على الذبح فإن ذبح صبي حل لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من ذبح من ذكر أو أنثى أو صغير أو كبير وذكر اسم الله عليه حل ويكره ذكاة الأعمى لأنه ربما أخطأ المذبح فإن ذبح خل لأنه لم يفقد فيه إلا النظر وذلك لا يوجب التحريم ويكره ذكاة السكران والمجنون لأنه لا يأمن أن يخطئ المذبح فيقتل الحيوان فإن ذبح حل لأنه لم يفقد في ذبحهما إلا القصد والعلم وذلك لا يوجب التحريم كما لو ذبح شاة وهو يظن أنه يقطع حشيشاً.
فصل: والمستحب أن يذبح بسكين حادة لما روى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته1" فإن ذبح بحجر محدد أو ليطة حل لما ذكرناه من حديث كعب بن مالك في المرأة التي كسرت حجراً فذبحت بها شاة ولما روي أن رافع بن خديج قال: يا رسول الله إنا نرجو أن نلقى العدو غداً وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأخبركم ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدي الحبشة2" وإن ذبح بسن أو ظفر لم يحل لحديث رافع بن خديج والمستحب أن تنحر الإبل معقولة من قيام لما روي
__________
1 رواه مسلم في كتاب الصيد حديث 57. الترمذي في كتاب الديات باب 14. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 3.
2 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 15. مسلم في كتاب الأضاحي حديث 20. الترمذي في كتاب الصيد باب 18. أحمد في مسنده "3/ 463" "4/140".

(1/458)


أن ابن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً أضجع بدنة فقال قياماً سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم وتذبح البقر والغنم مضجعة لما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ووضع رجليه على صفاحهما وسمى وكبر والبقر كالغنم في الذبح فكان مثله في الاضجاع والمستحب أن توجه الذبيحة إلى القبلة لأنه لا بد لها من جهة فكانت جهة القبلة أولى والمستحب أن يسمي الله تعالى على الذبح لما روى عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: "إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه1".
فإن ترك التسمية لم يحرم لما روت عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا: يا رسول الله إن قوماً من الأعراب يأتونا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله تعالى عليه أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذكر اسم الله تعالى عليه وكل" والمستحب أن يقطع الحلقوم والمرئ والودجين لأنه أوحى وأروح للذبيحة فإن اقتصر على قطع الحلقوم والمرئ أجزأه لأن الحلقوم مجرى النفس والمرئ مجرى الطعام والروح لا تبقى مع قطعهما والمستحب أن ينحر الإبل ويذبح البقر والشاء فإن خالف ونحر البقر والشاء وذبح الإبل أجزأه لأن الجميع موح من غير تعذيب ويكره أن يبين الرأس وأن يبالغ في الذبح إلى أن يبلغ النخاع وهو عرق يمتد من الدماغ ويستبطن الفقار إلى عجب الذنب لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن النخع ولأن فيه زيادة تعذيب فإن فعل ذلك لم يحرم لأن ذلك يوجد بعد حصول الذكاة وإن ذبحه من قفاه فإن بلغ السكين الحلقوم والمرئ وقد
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأضاحي باب 21. الترمذي في كتاب الصيد باب 4، 7. النسائي في كتاب الصيد باب 18، 21.

(1/459)


بقيت فيه حياة مستقرة حل لأن الذكاة صادفته وهو حي وإن لم يبق فيه حياة مستقرة إلا حركة مذبوح لم يحل لأنه صار ميتاً قبل الذكاة فإن جرح السبع شاة فذبحها صاحبها وفيها حياة مستقرة حل وإن لم يبق فيها حياة مستقرة لم تحل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة الخشني: "فإن رد عليك كلبك غنمك وذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذلك وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكله" والمستحب إذا ذبح أن لا يكسر عنقها ولا يسلخ جلدها قبل أن تبرد لما روي أن الفرافصة قال لعمر رضي الله عنه إنكم تأكلون طعاماً لا نأكله قال: وما ذاك يا أبا حسان؟ فقال: تعجلون الأنفس قبل أن تزهق فأمر عمر رضي الله عنه منادياً ينادي الذكاة في الحلق واللبة لمن قدر ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق.
فصل: ويجوز الصيد بالجوارح المعلمة كالكلب والفهد والبازي والصقر لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] قال ابن عباس رضي الله عنه: هي الكلاب المعلمة والبازي وكل طائر يعلم الصيد.
فصل: والمعلم هو الذي إذا أرسله على الصيد طلبه فإذا أشره استشلى فإذا أخذ الصيد أمسكه وخلى بينه وبينه فإذا تكرر منه ذلك كان معلماً وحل له ما قتله.
فصل: وإن أرسل من تحل ذكاته جارحة معلمة على الصيد فقتله بظفره أو نابه أو بمنقاره حل أكله لما روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنت في أرض صيد فأرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله تعالى وكل" وأما إذا أرسله من لا تحل ذكاته فقتله لم يحل لأن الكلب آلى كالسكين والمذكي هو المرسل فإذا لم يكن من أهل

(1/460)


الذكاة لم يحل صيده فإن أرسل جارحة غير معلمة فقتل الصيد لم يحل لما روى أبو ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك الذي ليس بمعلم فما أدركت ذكاته فكل" وإن استرسل المعلم بنفسه فقتل الصيد لم يحل لما روى عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أرسلت كلابك المعلمة فأمسكن عليك فكل1" قلت: وإن قتلن؟ قال "وإن قتلن" فشرط أن يرسل وإن أرسل فقتل الصيد بثقله ففيه قولان: أحدهما لا يحل لأنه آلة للصيد فإذا قتل بثقله لم يحل كالسلاح والثاني يحل لحديث عدي ولأنه لا يمكن تعليم الكلب الجرح وإنهار الدم فسقط اعتباره كالعقر في محل الذكاة وإن شارك كلبه في قتل الصيد كلب مجوسي أو كلب استرسل بنفسه لم يحل لأنه اجتمع في ذبحه ما يقتضي الحظر والإباحة فغلب الحظر كالمتولد بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل وإن وجد مع كلبه كلباً آخر لا يعرف حاله ولا يعلم القاتل منهما لم يحل لما روى عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أرسلت كلبي ووجدت مع كلبي كلباً آخر لا أدري أيهما أخذه فقال: لا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره ولأن الأصل فيه الحظر فإذا أشكل بقي على أصله وإن قتل الكلب الصيد وأكل منه ففيه قولان: أحدهما يحل لما روى أو ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك وإن أكل منه" والثاني لا يحل لما روى عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن إلا أن يأكل الكلب منه فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه2" وإن شرب من دمه لم يحرم قولاً واحداً لأن الدم لا منفعة له فيه ولا يمنع الكلب منه فلم يحرم وإن كانت الجارحة سن الطير فأكل من الصيد فهو كالكلب وفيه قولان وقال المزني أكل الطير لا يحرم وأكل الكلب يحرم لأن الطير لا يضرب على الأكل والكلب يضرب وهذا لا يصح لأنه يمكن أن يعلم الطير ترك الأكل كما يعلم الكلب وإن اختلفا في الضرب.
فصل: إذا أدخل الكلب نابه أو ظفره في الصيد نجس وهل يجب غسله؟ فيه وجهان: أحدهما يجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب قياساً على غير الصيد والثاني لا يجب لأنا لو أوجبنا ذلك ألزمناه أن يغسل جميعه لأن الناب إذا لاقى جزءا من الدم نجس ذلك الجزء ونجس كل ما لاقاه إلى أن ينجس جميع بدنه وغسل جميعه يشق فسقط كدم البراغيث.
فصل: ويجوز الصيد بالرمي لما روى أبو ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله إنا
__________
1 رواه النسائي في كتاب الصيد باب 5.
2 رواه النسائي في كتاب الصيد باب 5.

(1/461)


نكون في أرض صيد فيصيب أحدنا بقوسه الصيد ويبعث كلبه المعلم فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما لا ندرك ذكاته فقال صلى الله عليه وسلم: "ما ردت عليك قوسك فكل وما أمسك كلبك المعلم فكل1" وإن رماه بمحدد كالسيف والنشاب والمروة المحددة وأصابه بحده فقتله لم يحل وإن رمي بما لا حد له كالبندق والدبوس أو بما له حد فأصابه بغير حده فقلته لم يحل لما روى عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض قال: "إذا أصبد بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" وإن رماه بسهم لا يبلغ الصيد وأعانه الريح حتى بلغه فقتله حل أكله لأنه لا يمكن حفظ الرمي من الريح فعفى عنه وإن رمى بسهم فأصاب الأرض ثم ازدلف فأصاب الصيد فقتله ففيه وجهان بناء على القولين فيمن رمى إلى الغرض في المسابقة فوقع السهم دون الغرض ثم ازدلف وبلغ الغرض وإن رمى طائراً فوقع على الأرض فمات حل أكله لأنه لا يمكن حفظه من الوقوع على الأرض وإن وقع في ماء فمات أو على حائط أو جبل فتردى منه ومات لم يحل لما روى عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله فإن وجدته ميتاً فكل إلا أن تجده قد وقع في الماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك2".
فصل: وإن رمى صيداً أو أرسل عليه كلباً فعقره ولم يقتله نظرت فإن أدركه ولم يبق فيه حياة مستقرة بأن شق جوفه وخرجت الحشوة أو أصاب العقر مقتلاً فالمستحب أن يمر السكين على الحلق ليريحه وإن لم يفعل حتى مات حل لأن العقر قد ذبحه وإنما بقيت فيه حركة المذبوح وإن كانت فيه حياة مستقرة ولكن لم يبق من الزمان ما يتمكن فيه من ذبحه حل وإن بقي من الزمان ما يتمكن فيه من ذبحه فلم يذبحه أو لم يكن معه ما يذبح به فمات لم يحل لما روى أبو ثعلبة الخشني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما رد عليك كلبك المكلب وذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذكه وكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل وإن رد عليك كلب غنمك فذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذكه وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل وما ردت عليك يدك وذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذكه
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأضاحي باب 22. الترمذي في كتاب الصيد باب 1. النسائي في كتاب الصيد باب 16. أحمد في مسنده "4/156" "5/388".
2 رواه مسلم في كتاب الصيد حديث 7. النسائي في كتاب الصيد باب 18.

(1/462)


وإن لم تدرك ذكاته فكله1" وإن عقره الكلب أو السهم وغاب عنه ثم وجده ميتاً والعقر مما يجوز أن يموت منه ويجوز أن لا يموت منه فقد قال الشافعي رحمه الله: لا يحل إلا أن يكون خبر فلا رأى فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يحل لما روى عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إني أرمي الصيد فأطلبه فلا أجده إلا بعد ليلة قال: "إذا رأيت سهمك فيه ولم يأكل منه سبع فكل2" ولأن الظاهر أنه مات منه لأنه لم يعرف سبب سواه والثاني أنه لا يحل لما روى زياد بن أبي مريم قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رميت صيداً ثم تغيب فوجدته ميتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هوام الأرض كثيرة" ولم يأمره بأكله ومنهم من قال يؤكل قولاً واحداً لأنه قال: لا يؤكل إذا لم يكن خبر وقد ثبت الخبر أنه أمر بأكله.
فصل: وإن نصب أحبولة وفيها حديدة فوقع فيها صيد فقتلته الحديدة لم يحل لأنه مات بغير فعل من جهة أحد فلم يحل.
فصل: وإن أرسل سهماً على صيد فأصاب غيره فقتله حل أكله لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة ما رد عليك قوسك فكل ولأننه مات بفعله ولم يفقد إلا القصد وذلك لا يعتبر في الذكاة والدليل عليه أنه تصح ذكاة المجنون وإن لم يكن له قصد فإن أرسل كلباً على صيد فأصاب غيره فقتله نظرت فإن أصابه في الجهة التي أرسله فيها حل لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رد عليك كلبك ولم درك ذكاته فكل3" وإن عدل إلى جهة أخرى فأصاب صيداً غيره ففيه وجهان: أحدهما لا يحل - وهو قول أبي إسحاق - لأن للكلب اختياراً فإذا عدل كان صيده باختياره فلم يحل كما لو استرسل بنفسه فأخذ الصيد ومن أصحابنا من قال يحل لأن الكلب لا يمكن منعه من العدول في طلب الصيد.
فصل: وإن أرسل كلباً وهو لا يرى صيداً فأصاب صيداً لم يحل لأنه أرله على غير صيد فلم يحل ما اصطاده كما لو حل باطله فاسترسل بنفسه واصطاد وإن أرسل
__________
1 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 4، 10. مسلم في كتاب الصيد حديث 8. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 22. النسائي في كتاب الصيد باب 4. أحمد في مسنده "4/194".
2 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 8. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 22. أحمد في مسنده "4/377".
3

(1/463)


سهماً في الهواء وهو لا يرى صيداً سهماً في الهواء وهو لا يرى صيداً فأصاب صيداً ففيه وجهان: قال أبو إسحاق يحل لأنه قتله بفعله ولم يفقد إلا القصد إلى الذبح وذلك لا يعتبر كما لو قطع شيئاً وهو يظن أنه خشبة فكان حلق شاة ومن أصحابنا من قال لا يحل وهو الصحيح لأنه لم يقصد صيداً بعينه فأشبه إذا نصب أحبولة فيها حديدة فوقع فيها صيد فقتله وإن كان في يده سكين فوقعت على حلق شاة فقتلتها حل في قول أبي إسحاق لأنه حصل الذبح بفعله وعلى القول الآخر لا تحل لأنه لم يقصد.
فصل: وإن رأى صيداً فظنه حجراً أو حيواناً غير الصيد فرماه فقتله حل أكله لأنه قتله بفعل قصده وإنما جهل حقيقته والجهل بذلك لا يؤثر كما لو قطع شيئاً فظنه غير الحيوان فكان حلق شاة وإن أرسل على ذلك كلباً فقتله ففيه وجهان: أحدهما يحل كما يحل إذا رماه بسهم والثاني لا يحل لأنه أرسله على غير صيد فأشبه إذا أرسله على غير شيء.
فصل: وإن توحش أهلي أو ند بعير أو تردى في بر فلم يقدر على ذكاته في حلقه فذكاته حيث يصاب من بدنه لما روى رافع ابن خديج قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة وقد أصاب القوم غنماً وإبلاً فند منها بعير فرمى بسهم فحبسه الله به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا1" وقال ابن عباس رضي الله عنه: ما أعجزك من البائم فهو بمنزلة الصيد ولأنه تعذر ذكاته في الحلق فصار كالصيد وإن تأنس الصيد فذكاته ذكاة الأهلي كما أن الأهلي إذا توحش فذكاته ذكاة الوحشي وإن ذكى ما يؤكل لحمه ووجد في جوفه جنيناً ميتاً حل أكله لما روى أبو سعيد قال: قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين
__________
1 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 15، 18. مسلم في كتاب الأضاحي حديث 20. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 14. الترمذي في كتاب الصيد باب 19. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 15.

(1/464)


أنلقيه أم نأكله؟ فقال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه1" ولأن الجنين لا يمكن ذبحه فجعل ذكاة الأم ذكاة له وإن خرج الجنين حياً وتمكن من ذبحه لم يحل من غير ذبح وإن مات قبل أن يتمكن من ذكاته حل.
فصل: إذا أثبت صيداً بالرمي أو بالكلب فأزال امتناعه ملكه لأنه حبسه بفعله فملكه كما لو أمسكه بيده فإن رماه اثنان واحد بعد واحد فهو لمن أثبته منهما فإن ادعى كل واحد منهما أنه هو الذي سبقه وأزال امتناعه وأن الآخر رماه فقتله فعليه الضمان لم يحل أكله لأنهما اتفقا على أنه قتل بعد إمكان ذبحه فلم يحل ويتحالفان فإذا حلفا بريء كل واحد منهما مما يدعي الآخر وإن اتفقا على أن أحدهما هو السابق غير أن السابق ادعى أنه هو الذي أثته بسهمه وادعى الآخر أنه بقي على الامتناع إلى أن رماه هو فالقول قول الثاني لأن الأصل بقاؤه على الامتناع وإن كان الصيد مما يمتنع بالرجل والجناح كالقبج والقطا فرماه أحدهما فأصاب الرجل ثم رماه الآخر فأصاب الجناح ففيه وجهان: أحدهما أنه يكون بينهما لأنه زال الامتناع بفعلهما فتساويا والثاني أنه للثاني وهو الصحيح لأن الامتناع لم يزل إلا بفعل الثاني فوجب أن يكون له.
فصل: وإن رمى الصيد اثنان أحدهما بعد الآخر ولم يعلم بإصابه من منهما صار غير ممتنع فقد قال في المختصر: إنه يؤكل ويكون بينهما فحمل أبو إسحاق هذا على ظاهره فقال: يحل أكله لأن الأصل أنه بقي بعد عقر الأول على الامتناع إلى أن قتله الآخر فيحل ويكون بينهما لأن الظاهر أنهما مشتركان فيه بحكم اليد ومن أصحابنا من قال: إن بقي على الامتناع حتى رماه الآخر فقتله حل وكان للثاني وإن زال امتناعه بالأول فهو للأول ولا يحل بقتل الثاني لأنه صار مقدوراً عليه فيجب أن يتأول عليه إذا لم يمتنع الصيد حتى أدركه وذكاه فيحل واختلفا في السابق منهما فيكون بينهما.
فصل: فإن رمى رجل صيداً فأزال امتناعه ثم رماه الآخر نظرت فإن أصاب الحلقوم والمريء فقتله حل أكله لأنه قد صار ذكاته في الحلق واللبة وقد ذكاه في الحلق واللبة ويلزمه للأول ما بين قيمته مجروحاً ومذبوحاً كما لو ذبح له شاة مجروحة وإن
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الصيد باب 10. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 17. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 15. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 17. أحمد في مسنده "3/31".

(1/465)


أصاب غير الحلق واللبة نظرت فإن وحاه لم يحل أكله لأنه قد صار ذكاته في الحلق واللبة فقتله بغير ذكاة فلم يحل ويجب عليه قيمته لصاحبه مجروحاً كما لو قتل له شاة مجروحة فإن لم يوجه وبقي مجروحاً ثم مات نظرت فإن مات قبل أن يدركه صاحبه أو بعد ما أدركه وقبل أن يتمكن من ذبحه وجب عليه قيمته مجروحاً لأنه مات من جنايته وإن أدركه وتمكن من ذبحه فلم يذبحه حتى مات لم يحل أكله لأنه ترك ذكاته في الحلق مع القدرة واختلف أصحابنا في ضمانه فقال أبو سعيد الإصطخري: تجب عليه قيمته مجروحاً لأنه لم يوجد من الأول أكثر من الرمي الذي ملك به وهو فعل مباح وترك ذبحه إلى أن مات وهذا لا يسقط الضمان كما لو جرح رجل شاة لرجل فترك صاحبها ذبحها حتى ماتت والمذهب أنه لا يجب عليه كمال القيمة لأنه مات بسببين محظورين: جناية الثاني وسراية جرح الأول فالسراية كالجناية في إيجاب الضمان فيصير كأنه مات من جناية اثنين وما هلك بجناية اثنين لا يجب علي أحدهما كمال القيمة وإذا قلنا بهذا قسم الضمان على الجانبين فما يخص الأول يسقط عن الثاني ويجب عليه الباقي ونبين ذلك في جنايتين مضمونتين ليعرف ما يجب على كل واحد منهما فما وجب على الأول منهما من قيمته أسقطناه عن الثاني فنقول: إذا كان لرجل صيد قيمته عشرة فجرحه رجل جراحة نقص من قيمته درهم ثم جرحه آخر فنقص درهم ثم مات ففيه لأصحابنا ستة طرق: أحدها - وهو قول المزني - إنه يجب على كل واحد منهما أرش جنايته ثم تجب قيمته بعد الجنايتين بينهما نصفان فيجب على الأول درهم وعلى الثاني درهم ثم تجب قيمته بعد الجنايتين - وهو ثمانية - بينهما نصفان على كل واحد منهما أربعة فيحصل على كل واحد منهما خمسة لأن كل واحد منهما انفرد بجنايته فوجب عليه أرشها ثم هلك الصيد بجنايتهما فوجب عليهما قيمته والثاني - وهو قول أبي إسحاق إنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم الجناية ونصف أرش جنايته فيجب على الأول خمسة دراهم ونصف وسقط عنه النصف لأن أرش الجناية يدخل في النفس وقد ضمن نصف النفس والجناية كانت على النصف الذي ضمنه وعلى النصف الذي ضمنه الآخر فما حصل على النصف الذي ضمنه يدخل في الضمان فيسقط وما حصل على النصف الذي ضمنه الآخر يلزم فيحصل عليه خمسة دراهم ونصف الآخر جنى وقيمته تسعة فيلزمه نصف قيمته أربعة ونصف وأرش جنايته درهم فيدخل نصفه في النصف الذي ضمنه ويبقى النصف لأجل النصف الذي ضمنه الأول فيجب عليه خمسة دراهم ثم يرجع الأول على الثاني بنصف الأرض الذي ضمنه وهو نصف درهم لأن هذا الأرش وجب بالجناية على

(1/466)


النصف الذي ضمنه الأول وقد ضمن الأول كمال قيمة النصف فرجع بأرش الجناية عليه كرجل غصب من رجل ثوباً فخرقه رجل ثم هلك الثوب وجاء صاحبه وضمن الغاصب كمال قيمة الثوب فإنه يرجع على الجاني بأرش الحرق فيحصل على الأول خمسة دراهم وعلى الثاني خمسة دراهم فهذا يوافق قول المزني في الحكم وإن خالفه في الطريق والثالث - وهو قول أبي الطيب بن سلمة - إنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته حال الجناية ونصف أرض جناية ويدخل النصف فيما ضمنه صاحبه كما قال أبو إسحاق إلا أنه قال لا يعود من الثاني إلى الأول شيء ثم ينظر لما حصل على كل واحد منهما ويضم بعضه إلى بعض وتقسم عليه العشرة فيجب على الأول خمسة دراهم ونصف وعلى الثاني خمسة دراهم فذلك عشرة ونصف فتقسم العشرة على عشرة ونصف فما يخص خمسة ونصفاً يجب على الأول وما يخص خمساً يجب على الثاني والرابع ما قال بعض أصحابنا إنه يجب على الأول أرش جنايته ثم تجب قيمته بعد ذلك بينهما نصفين ولا يجب على الثاني أرش جنايته فيجب على الأول درهم ثم تجب التسعة بينهما نصفان على كل واحد منهما أربعة دراهم ونصف فيحصل على الأول خمسة دراهم ونصف وعلى الثاني أربعة دراهم ونصف لأن الأول انفراد بالجناية فلزمه أرشها ثم اجتمع جناية الثاني وسراية الأول فحصل الموت منهما فكانت القيمة بينهما والخامس ما قال بعض أصحابنا إن الأرش في قيمة الصيد فيجب على الأول نصف قيمته حال الجناية وهو خمسة وعلى الثاني نصف قيمته حال الجناية وهو أربعة ونصف ويسقط نصف درهم قال: لأني لم أجد محلاً أوجبه فيه والسادس وهو قول أبي علي بن خيران وهو أن أرش جناية كل واحد منهما يدخل في القيمة فتضم قيمة الصيد عند جناية الأول إلى قيمة الصيد عند جناية الثاني فتكون تسعة عشر ثم تقسم العشرة على ذلك فيما يخص الطرق الأربعة لا يدخلون الأرش في بدل النفس وهذا لا يجوز لأن الأرش يدخل في بدل النفس وصاحب الطريق الخامس يوجب في صيد قيمته عشرة تسعة ونصفاً ويسقط من قيمته نصف درهم وهذا لا يجوز.
فصل: ومن ملك صيداً ثم خلاه ففيه وجهان: أحدهما يزول ملكه كما لو ملك عبداً ثم أعتقه والثاني لا يزول ملكه كما لو ملك بهيمة ثم سيبها وبالله التوفيق.

(1/467)