المهذب في فقة الإمام الشافعي

المجلد الثاني
كتاب البيوع
مدخل
...
كتاب البيوع
البيع جائز وأصله قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ} [النساء: 29] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [البقرة: 275] ويصح البيع من كل بالغ عاقل مختار فأما الصبي والمجنون فلا يصح بيعهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" ولأنه تصرف في المال فلم يفوض إلى الصبي والمجنون كحفظ المال فأما المكره فإنه إن كان بغير حق لم يصح بيعه لقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فدل على أنه إذا لم يكن عن تراض لم يحل الأكل وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما البيع عن تراض" فدل على أنه لا بيع عن غير تراض ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح ككلمة الكفر إذا أكره عليها المسلم وإن كان بحق صح لأنه قول حمل عليه بحق فصح ككلمة الإسلام إذا أكره عليها الحربي.
فصل: ولا ينعقد البيع إلا بالإيجاب والقبول فأما المعاطاة فلا ينعقد فيها البيع لأن اسم البيع لا يقع عليه والإيجاب أن يقول بعتك أو ملكتك أو ما أشبههما والقبول أن يقول قبلت أو ابتعت أو ما أشبههما فإن قال المشتري بعني فقال البائع: بعتك انعقد البيع لأن ذلك يتضمن الإيجاب والقبول وإن كتب رجل إلى رجل ببيع سلعة فيه وجهان: أحدهما ينعقد

(2/3)


البيع لأنه موضع ضرورة والثاني لا ينعقد وهو الصحيح لأنه قادر على النطق فلا ينعقد البيع بغيره وقول القائل الأول إنه موضع ضرورة لا يصح لأنه يمكنه أن يوكل من يبيعه بالقول.
فصل: وإذا انعقد البيع ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء إلى أن يتفرقا أو يتخايرا لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر1" والتفرق أن يتفرقا بأبدانهما بحيث إذا كلمه عن العادة لم يسمع كلامه لما روى نافع أن ابن عمر كان إذا اشترى شيئاً مشى أذرعاً ليجب البيع ثم يرجع ولأن التفرق في الشرع مطلق فوجب أن يحمل على التفرق المعهود وذلك يحصل بما ذكرناه وإن لم يتفرقا ولكن جعل بينهما حاجز من ستر أو غيره لم يسقط الخيار لأن ذلك لا يسمى تفرقاً وأما التخاير فهو أن يقول أحدهما للآخر اختر إمضاء البيع أو فسخه فيقول الآخر اخترت إمضاءه أو فسخه فينقطع الخيار لقوله عليه الصلاة والسلام "أو يقول أحدهما للآخر اختر" فإن خير أحدهما صاحبه فسكت لم ينقطع خيار المسؤول وهل ينقطع خيار السائل؟ فيه وجهان: أحدهما لا ينقطع خياره كما لو قال لزوجته اختاري فسكتت فإن خيار الزوج في طلاقها لا يسقط والثاني أنه ينقطع لقوله عليه الصلاة والسلام: "أو يقول أحدهما للآخر اختر" فدل على أنه إذا قال يسقط خياره ويخالف تخيير المرأة فإن المرأة لم تكن مالكة للخيار وإذا خيرها فقد ملكها ما لم تكن تملكه فإذا سكتت بقي على حقه وههنا المشتري يملك الفسخ فلا يفيد تخييره إسقاط حقه من الخيار فإن أكرها على التفرق ففيه وجهان: أحدهما يبطل الخيار لأنه كان يمكنه أن يفسخ بالتخاير فإذا لم يفعل فقد رضي بإسقاط الخيار والثاني أنه لا يبطل لأنه لم يوجد منه أكثر من السكوت والسكوت لا يسقط الخيار.
فصل: فإن باعه على أن لا خيار له ففيه وجهان: من أصحابنا من قال يصح لأن الخيار جعل رفقاً بهما فجاز لهما تركه ولأن الخيار غرر فجاز إسقاطه وقال أبو إسحاق لا يصح وهو الصحيح لأنه خيار يثبت بعد تمام البيع فلم يجز إسقاطه قبل تمامه كخيار الشفيع فإن قلنا بهذا فهل يبطل العقد بتمام الشرط؟ فيه وجهان أحدهما لا يبطل لأن هذا الشرط لا يؤدي إلى الجهل بالعوض المعوض والثاني يبطل لأنه
__________
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 19، 22.ومسلم في كتاب البيوع حديث رقم 4، 46.وأبو داود في كتاب البيوع باب 51.والترمذي في البيوع باب 26.النسائي في كتاب البيوع باب 4، 8.ابن ماجة في كتاب التجارات باب 17. الموطأ في كتاب البيوع باب حديث رقم 79. أحمد في مسنده "2/4، 9" "3/403".

(2/4)


يسقط موجب العقد كما لو شرط ألا يسلم المبيع.
فصل: ويجوز شرط خيار ثلاثة أيام في البيوع التي لاربا فيها لما روى محمد بن يحيى بن حبان قال: كان جدي قد بلغ ثلاثين ومائة سنة لا يترك البيع والشراء ولا يزال يخدع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بايعته فقل لاخلابة وأنت بالخيار ثلاثاً1" فأما في البيوع التي فيها الربا وهي الصرف وبيع الطعام بالطعام فلا يجوز فيها شرط الخيار لأنه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمام المبيع ولهذا لا يجوز أن يتفرقا إلا عن قبض العوضين فلو جوزنا شرط الخيار لتفرقا ولم يتم البيع بينهما وجاز شرط الخيار في ثلاثة أيام وفيما دونهما لأنه لو جاز شرط الثلاث فما دونها أولى بذلك ولا يجوز أكثر من ثلاثة أيام لأنه غرر وإنما جوز في الثلاث لأنه رخصة فلا يجوز فيما زاد ويجوز أن يشترط لهما ولأحدهما دون الآخر ويجوز أن يشترط لأحدهما ثلاثة أيام وللآخر يوم أو يومان لأن ذلك جعل إلى شرطهما فكان على حسب الشرط فإن شرطا ثلاثة أيام ثم تخايرا سقط قياساً على خيار المجلس وإن شرط الخيار لأجنبي ففيه قولان: أحدهما لا يصح لأنه حكم من أحكام العقد فلا يثبت لغير المتعاقدين كسائر الأحكام والثاني يصح لأنه جعل إلى شرطهما للحاجة وربما دعت الحاجة إلى شرطه للأجنبي بأن يكون أعرف بالمتاع منهما فإن شرطه للأجنبي وقلنا إنه يصح فهل يثبت له؟ فيه وجهان: أحدهما يثبت له لأنه إذا ثبت للأجنبي من جهته فلأن يثبت له أولى والثاني لا يثبت لأن ثبوته بالشرط فلا يثبت إلا لمن شرط له قال في الصرف: إذا اشترى بشرط الخيار على أن لا يفسخ حتى يستأمر فلاناً لم يكن له أن يفسخ حتى يقول استأمرته فأمرني بالفسخ فمن أصحابنا من قال له أن يفسخ من غير إذنه لأن له أن يفسخ من غير شرط الاستثمار فلا يسقط حقه بذكر الاستثمار وتأول ما قاله على أنه أراد به أنه لا يقول استأمرته إلا بعد أن يستأمره لئلا يكون كاذباً ومنهم من حمله على ظاهره أنه لا يجوز أن يفسخ لأنه ثبت بالشرط فكان على ما شرط وإذا شرط الخيار في البيع ففي ابتداء مدته وجهان: أحدهما من حين العقد لأنها مدة ملحقة بالعقد فاعتبر ابتداؤها من حين العقد كالأجل ولأنه اعتبر من
__________
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 48.مسلم في كتاب البيوع حديث 48. أبو داود في كتاب البيوع باب 66. الترمذي في كتاب البيوع باب 28. الموطأ في كتاب البيوع حديث رقم 98. أحمد في مسنده"2/80".

(2/5)


حين التفرق صار أول مدة الخيار مجهولاً لأنه لا يعلم متى يفترقان والثاني أنه يعتبر من حين التفرق لأن ما قبل التفرق الخيار ثابت فيه بالشرع فلا يثبت فيه بشرط الخيار فإن قلنا إن ابتداءه من حين العقد فشرط أن يكون من حين التفرق بطل لأن وقت الخيار مجهول ولأنه يزيد الخيار على ثلاثة أيام ولو قلنا أن ابتداءه من حين التفرق فشرط أن يكون من حين العقد ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن ابتداء الوقت معلوم والثاني لا يصح لأنه شرط ينافي موجب العقد فأبطله ومن ثبت له الخيار فله أن يفسخ في محضر من صاحبه وفي غيبته لأنه رفع عقد جعل إلى اختياره فجاز في حضوره وغيبته كالطلاق فإن تصرف في المبيع تصرفاً يفتقر إلى الملك كالعتق والوطء والهبة والبيع وما أشبهها نظرت فإن كان ذلك من البائع كان اختياراً للفسخ لأنه تصرف يفتقر إلى الملك فجعل اختياراً للفسخ والرد إلى الملك وإن كان ذلك من المشتري ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: إن كان ذلك عتقاً كان اختياراً للإمضاء وإن كان غيره لم يكن اختياراً لأن العتق لو وجد قبل العلم بالعيب منع الرد فأسقط خيار المجلس وخيار الشرط وما سواه لو وجد قبل العلم بالعيب لم يمنع الرد فلم يسقط خيار المجلس وخيار الشرط وقال أبو سعيد الإصطخري: الجميع اختيار للإممضاء وهو الصحيح لأن الجميع يفتقر إلى الملك فكان الجميع اختياراً للملك ولأن في حق البائع الجميع واحد فكذلك في حق المشتري فإن وطئها المشتري بحضرة البائع وهو ساكت فهل ينقطع خيار البائع بذلك؟ فيه وجهان أحدهما ينقطع لأنه أمكنه أن يمنعه فإذا سكت كان ذلك رضا بالبيع والثاني لا ينقطع لأنه سكوت عن التصرف في ملكه فلا يسقط عليه حكم التصرف كما لو رأى رجلاً يخرق ثوبه فسكت عنه فإن جن من له الخيار أو أغمي عليه انتقل الخيار إلى الناظر في ماله وإن مات فإن كان في خيار الشرط انتقل الخيار إلى من ينتقل إليه المال لأنه حق ثابت لإصلاح المال كالرهن وحبس المبيع على الثمن فإن لم يعلم والوارث حتى انقضت المدة ففيه وجهان: أحدهما يثبت له الخيار في القدر الذي بقي من المدة لأنه لما انتقل الخيار إلى غير من شرط له بالموت وجب أن ينتقل إلى غير الزمان الذي شرط فيه والثاني أن تسقط المدة ويثبت الخيار للوارث على الفور لأن المدة فاتت وبقي الخيار فكان على الفور كخيار الرد بالعيب وإن كان في خيار المجلس فقد روى المزني أن الخيار للوارث وقال في المكاتب إذا مات وجب البيع فمن أصحابنا من قال لا يسقط الخيار بالموت في المكاتب وغيره وقوله في المكاتب وجب

(2/6)


البيع أراد به أن ينفسخ بالموت كما تنفسخ الكتابة ومنهم من قال يسقط الخيار في بيع المكاتب ولا يسقط في بيع غيره لأن السيد يملك بحق الملك فإذا لم يملك في حياة المكاتب لم يملك بعد موته والوارث يملك بحق الإرث فانتقل إليه بموته ومنهم من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وخرجهما على قولين: أحدهما أنه يسقط الخيار لأنه إذا سقط الخيار بالتفرق فلأن يسقط بالموت والتفرق فيه أعظم أولى والثاني لا يسقط وهو الصحيح لأنه خيار ثابت لفسخ البيع فلم يبطل بالموت كخيار الشرط فعلى هذا إن كان الذي ينتقل إليه الخيار حاضراً ثبت له الخيار إلى أن يتفرقا أو يتخايرا وإن كان غائباً ثبت له الخيار إلى أن يفارق الموضع الذي بلغه فيه.
فصل: وفي الوقت الذي ينتقل الملك في البيع الذي فيه خيار المجلس أو خيار الشرط ثلاثة أقوال: أحدها ينتقل بنفس العقد لأنه عقد معاوضة يوجب الملك فانتقل الملك فيه بنفس العقد كالنكاح والثاني أنه يملك بالعقد وانقضاء الخيار لأنه لا يملك التصرف إلا بالعقد وانقضاء الخيار فدل على أنه لا يملك إلا بهما والثالث أنه موقوف مراعى فإن لم ينفسخ العقد تبينا أنه ملك بالعقد وإن فسخ تبينا أنه لم يملك لأنه لا يجوز أنه يملك بالعقد لأنه لو ملك بالعقد لملك التصرف ولا يجوز أن يملك بانقضاء الخيار لأن انقضاء الخيار لا يوجب الملك فثبت أنه موقوف مراعى فإن كان المبيع عبداً فأعتقه البائع نفذ عتقه لأنه إن كان باقياً على ملكه فقد صادف العتق ملكه وإن كان قد زال ملكه عنه إلا أن يملك الفسخ فجعل العتق فسخاً وإن أعتقه المشتري لم يخل إما أن يفسخ البائع البيع أو لا يفسخ فإن لم يفسخ وقلنا إنه يملكه بنفس العقد أو قلنا إنه موقوف نفذ عتقه لأنه صادف ملكه وإن قلنا إنه لا يملك بالعقد م يعتق لأنه لم يصادف ملكه وإن فسخ البائع وقلنا إنه لا يملك بالعقد أو موقوف لم يعتق لأنه لم يصادف ملكه وإن قلنا إنه يملك بالعقد ففيه وجهان: قال أبو العباس إن كان موسراً عتق وإن كان معسراً لم يعتق لأن العتق صادف ملكه وقد تعلق به حق الغير فأشبه عتق المرهون ومن أصحابنا من قال لا يعتق وهو المنصوص لأن البائع اختار الفسخ والمشتري اختار الإجازة بالعتق والفسخ والإجازة إذا اجتمعا قدم الفسخ ولهذا لو قال المشتري أجزت وقال البائع بعده فسخت قدم الفسخ وبطلت الإجازة وإن كانت سابقة للفسخ فإن قلنا لا يعتق عاد العبد إلى ملك البائع وإن قلنا يعتق فهل يرجع البائع بالثمن أو بالقيمة؟ قال أبو العباس يحتمل وجهين: أحدهما يرجع بالثمن ويكون العتق مقرراً للعقد ومبطلاً للفسخ. والثاني

(2/7)


أنه يرجع بالقيمة لأن البيع انفسخ وتعذر الرجوع إلى العين فرجع إلى قيمته كما لو اشترى عبداً بثوب واعتق العبد ووجد البائع بالثوب عيباً فرده فإنه يرجع بقيمة العبد فإن باع البائع المبيع أو وهبه صح لأنه إما أن يكون على ملكه فيملك العقد عليه وإما أن يكون للمشتري إلا أنه يملك الفسخ فجعل البيع والهبة فسخاً وإن باع المشتري المبيع أو وهبه نظرت فإن كان بغير رضى البائع فإن قلنا إنه في ملك البائع لم يصح تصرفه وإن قلنا إنه في ملكه ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري: يصح وللبائع أن يختار الفسخ فإذا فسخ بطل تصرف المشتري ووجهه أن التصرف صادف ملكه الذي ثبت للغير فيه حق الانتزاع فأشبه إذا اشترى شقصاً فيه شفعة فباعه ومن أصحابنا من قال لا يصح لأنه باع عيناً تعلق بها حق الغير من غير رضاه فلم يصح كما لو باع الراهن المرهون فأما إذا تصرف فيه برضى البائع نظرت فإن كان عتقاً نفذ لأنهما رضيا بإمضاء البيع وإن كان بيعاً أو هبة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه ابتدأ بالتصرف قبل أن يتم ملكه والثاني يصح لأن المنع من التصرف لحق البائع وقد رضي البائع.
فصل: وإن كان المبيع جارية لم يمنع البائع من وطئها لأنها باقية على ملكه في بعض الأقوال ويمكن ردها إلى ملكه في بعض الأقوال فإذا وطئها انفسخ البيع ولا يجوز للمشتري وطؤها لأن في أحد الأقوال لا يملكها وفي الثاني مراعي فلا يعلم هل يملكها أم لا وفي الثالث يملكها ملكاً غير مستقر فإن وطئها لم يجب الحد وإن أحبلها ثبت نسب الولد وانعقد الولد حراً لأنه إما أن يكون في ملك أو في شبهة ملك وأما المهر وقيمة الولد وكون الجارية أم ولد فإنه يبنى على الأقوال فإن أجاز البائع البيع بعد وطء المشتري وقلنا إن الملك للمشتري أو موقوف لم يلزمه المهر ولا قيمة الولد وتصير الجارية أم ولد لأنها مملوكته وإن قلنا إن الملك للبائع فعليه المهر وقال أبو إسحاق: لا يلزمه كما لا تلزمه أجرة الخدمة والمذهب الأول لأنه وطء في ملك البائع ويخالف الخدمة فإن الخدمة تستباح بالإباحة والوطء لا يستباح وفي قيمة الولد وجهان: أحدهما لا تلزمه لأنها وضعته في ملكه والاعتبار بحال الوضع ألا ترى أن قيمة الولد تعتبر حال الوضع والثاني تلزمه لأن العلوق حصل في غير ملكه والاعتبار بحال العلوق لأنها حالة الإتلاف وإنما تأخر التقويم إلى حال الوضع لأنه لا يمكن تقويمه في حال العلوق وهل تصير الجارية أم ولد؟ فيه قولان كما قلنا فيمن أحبل جارية غيره بشبهة فأما إذا فسخ البيع وعادت إلى ملكه فإن قلنا إن الملك للبائع أو موقوف وجب عليه المهر وقيمة الولد ولا تصير الجارية في الحال أم ولد وهل تصير أم ولد إذا ملكها؟ فيه قولان وإن قلنا إن

(2/8)


الملك للمشتري لم يجب عليه المهر لأن الوطء صادف ملكه ومن أصحابنا من قال: يجب لأن لم يتم ملكه عليها وهذا يبطل به إذا أجاز البائع البيع وعلى قول أبي العباس تصير أم ولد كما تعتق إذا أعتقها عنده وهل يرجع البائع بقيمتها أو بالثمن؟ فيه وجهان: وقد بينا ذلك في العتق وعلى المنصوص أنها لا تصير أم ولد له لأن حق البائع سابق فلا يسقط بإحبال المشتري فإن ملكها المشتري بعد ذلك صارت أم ولد لأنها لم تصر أم ولد له في الحال لحق البائع فإذا ملكها صارت أم ولد.
فصل: وإن اشترى جارية فولدت في مدة الخيار بنينا على أن الحمل هل له حكم في البيع وفيه قولان: أحدهما له حكم ويقابله قسط من الثمن وهو الصحيح لأن ما أخذ قسطاً من الثمن بعد الانفصال أخذ قسطاً من الثمن قبل الانفصال كاللبن والثاني لا حكم له ولا قسط له من الثمن لأنه يتبعها في العتق فلم يأخذ قسطاً من الثمن كالأعضاء فإن قلنا إن له حكماً فهو مع الأم بمنزلة العينين المبيعتين فإن أمضى العقد كانا للمشتري وإن فسخ العقد كانا للبائع كالعينين المبيعتين وإن قلنا لا حكم له نظرت فإن أمضى العقد وقلنا إن الملك ينتفل بالعقد أو موقوف فهما للمشتري وإن قلنا إنه يملك بالعقد وانقضاء الخيار فالولد للبائع وإن قلنا يملك بالعقد فهو للمشتري وقال أبو اسحاق الولد للبائع لأن على هذا القول لا ينفذ عتق المشتري وهذا خطأ لأن العتق يفتقر إلى ملك تام والنماء لا يفتقر إلى ملك تام.
فصل: وإن تلف المبيع في يد المشتري في مدة الخيار فلمن له الخيار الفسخ والإمضاء لأن الحاجة التي دعت إلى الخيار باقية بعد تلف المبيع فإن فسخ وجبت القيمة على المشتري لأنه تعذر رد العين فوجب رد القيمة وإن أمضى العقد فإن قلنا إنه يملك بنفس العقد أو موقوف فقد هلك من ملكه وإن قلنا يملك بالعقد وانقضاء الخيار وجب على المشتري قيمته والله أعلم.

(2/9)


باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز
الأعيان ضربان: نجس وطاهر فأما النجس فعلى ضربين: نجس في نفسه ونجس بملاقاة نجاسة فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه وذلك مثل الكلب والخنزير والخمر والسرجين وما أشبه ذلك من النجاسات والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام1" وروى
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب التجارات باب 11.

(2/9)


ابن مسعود وأبو هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب" فنص على الكلب والخنزير والخمر والميتة وقسنا عليها سائر الأعيان النجسة فأما اقتناؤها فينظر فيه فإن لم يكن فيها منفعة مباحة كالخمر والخنزير والميتة العذرة لم يجز اقتناؤها لما روى أنس قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر تصنع خلاً فكرهه وقال: "اهرقها" ولأن اقتناء ما لا منفعة فيه سفه فلم يجز فإن كان فيه منفعة مباحة كالكلب جاز اقتناؤه للصيد والماشية والزرع لما روى سالم عن أبيه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان1" وفي حديث أبو هريرة: "إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع" ولأن الحاجة تدعو إلى الكلب في هذه المواضع فجاز اقتناؤه وهل يجوز اقتناؤه لحفظ الدروب؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز للخبر والثاني يجوز لأنه حفظ مال فأشبه الزرع والماشية وهل يجوز لمن لا يصطاد أن يقتنيه ليصطاد به إذا أراد؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز للخبر والثاني لا يجوز لأنه لا حاجة به إليه وهل يجوز اقتناء الجرو للصيد والزرع والماشية فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه ليس فيه منفعة يحتاج إليها والثاني يجوز لأنه إذا جاز اقتناه للصيد جاز اقتناؤه لتعليم ذلك وأما السرجين فإنه يكره اقتناؤه وتربية الزرع به لما فيه من مباشرة النجاسة وأما النجس بملاقاة النجاسة فهو الأعيان الطاهرة إذا أصابتها نجاسة فينظر فيها فإن كان جامداً كالثوب وغيره جاز بيعه لأن البيع يتناول الثوب وهو طاهر وإنما جاورته نجاسة وإن كان مائعاً نظرت فإن كان مما لا يطهر كالخل والدبس لم يجز بيعه لأنه نجس لا يمكن تطهيره من النجاسة فلم يجز بيعه كالأعيان النجسة وإن كان ماء ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز بيعه لأنه نجس لا يطهر بالغسل فلم يجز بيعه كالخمر والثاني يجوز بيعه لأنه يطهر بالماء فأشبه الثوب فإن كان دهناً فهل يطهر بالغسل؟ فيه وجهان: أحدهما لا يطهر لأن لا يمكن عصره من النجاسة فلم يطهر كالخل والثاني يطهر لأنه يمكن غسله بالماء فهو كالثوب فإن قلنا لا يطهر لم يجز بيعه كالخل وإن قلنا يطهر ففي بيعه وجهان كالماء النجس ويجوز استعماله في السراج والأولى أن لا يفعل لما فيه من مباشرة النجاسة.
فصل: وأما الأعيان الطاهرة فضربان: ضرب لا منفعة فيه وضرب فيه منفعة فأما
__________
1 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 6.مسلم في كتاب المساقاة حديث 51- 60. الترمذي في كتاب الصيد باب 17. النسائي في كتاب الصيد باب 12،13. الموطأ في كتاب الإستئذان حديث 13. أحمد في مسنده "2/4، 8".

(2/10)


ما لا منفعة فيه فهو كالحشرات والسباع التي لا تصلح للاصطياد والطيور التي لا تؤكل ولا تصطاد كالرخمة والحدأة وما يؤكل من الغراب فلا يجوز بيعه لأن ما لا منفعة فيه لا قيمة له فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل وبذل العوض فيه من السفه واختلف أصحابنا في بيع دار لا طريق لها أو بيع بيت من دار لا طريق إليه فمنهم من قال لا يصح لأنه لا يمكن الانتفاع به فلم يصح بيعه ومنهم من قال يصح لأنه يمكن أن يحصل له طريق فينتفع به فيصح بيعه وأما مافيه منفعة فلايجوز بيع الحر منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره" ولايجوز بيع أم الولد لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع أمهات الأولاد ولأنه استقر لها حق الحرية وفي بيعها إبطال ذلك فلم يجز ويجوز بيع المدبر لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلاً دبر غلاماً له ليس له مال غيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتريه منه فاشتراه نعيم" ويجوز بيع المعتق بصفة لأنه ثبت له العتق بقول السيد وحده فجاز بيعه كالمدبر وفي المكاتب قولان: قال في القديم يجوز بيعه لأن عتقه غير مستقر فلا يمنع من البيع وقال في الجديد لايجوز لأنه كالخارج من ملكه ولهذا لا يرجع أرش الجناية عليه إليه فلم يملك بيعه كما لو باعه ولايجوز بيع الوقف لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال أصاب عمر رضي الله عنه أرضا بخيبر فأتى البني صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: "إن شئت حبست أصله وتصدقت بها" قال: فتصدق بها عمر صدقة لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث.
فصل: ويجوز بيع ما سوى ذلك من الأعيان المنتفع بها من المأكول والمشروب والملبوس والمشموم وما ينتفع به من الحيوان بالركوب والأكل والدر والنسل والصيد والصوف وما يقتنيه الناس من العبيد والجواري والأراضي والعقار لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على بيعها من غير إنكار ولا فرق بين ما كان في الحرم من الدور

(2/11)


وغيره لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر نافع بن عبد الحارث أن يشتري داراً بمكة للسجن من صفوان بن أمية فاشتراها بأربعة آلاف درهم ولأنه أرض حية لم يرد عليها صدقة مؤبدة فجاز بيعها كغير الحرم ويجوز بيع المصاحف وكتب الأدب لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن بيع المصاحف فقال: لا بأس يأخذون أجور أيديهم ولأنه طاهر منتفع به فهو كسائر الأموال واختلف أصحابنا في بيع بيض دود القز وبيض ما لا يؤكل لحمه من الطيور التي يجوز بيعها كالصقر والبازي فمنهم من قال هو طاهر ومنهم من قال هو نجس بناءً على الوجهين في طهارة من ما لا يؤكل لحمه ونجاسته فإن قلنا إن ذلك طاهر جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به فهو كبيض الدجاج وإن قلنا إنه نجس لم يجز بيعه لأنه عين نجسة فلم يجز بيعه كالكلب والخنزير.

(2/12)


باب ما نهى عنه من بيع الغرر وغيره
ولا يجوز بيع المعدوم كالثمرة التي لم تخلق لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر والغرر ما انطوى عليه أمره وخفيت عليه عاقبته ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في وصف أبو بكر رضي الله عنه: فرد نشر الإسلام على غره أي على طيه والمعدوم قد انطوى عنه أمره وخفي عليه عاقبته فلم يجز بيعه وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعاومة وفي بعضها بيع السنين.

(2/12)


فصل: ولايجوز بيع مالا يملكه من غير إذن مالكه لما روى حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبع ماليس عندكسيئ1" ولأن مالا يملكه لا يقدر على تسليمه فهو كالطير في الهواء أو السمك في الماء.
فصل: ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجازة والصداق وماأشبهها من المعاوضات قبل القبض لما روي أن حكيم بن حزام قال يا رسول الله إني أبيع بيوعاً كثيرة فما يحل لي منها مما يحرم قال: "لاتبع ما لم تقبضه2" ولأن ملكه عليه غير مستقر لأنه بما هلك فانفسخ العقد وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز وهل يجوز عتقه؟ فيه وجهان: أحدهما أنه لايجوز لما ذكرناه والثاني يجوز لأن العتق له سراية فصح لقوته فأما ماملكه بغير معاوضة كالميراث والوصية أو عاد إليه بفسخ عقد فإنه يجوز بيعه وعتقه قبل القبض لأن ملكه مستقر فجاز التصرف فيه كالمبيع بعد القبض وأما الديون فينظر فيها فإن كان الملك مستقراً كغرامة المتلف وبدل القرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض لأن ملكه مستقر عليه فجاز بيعه كالمبيع وهل يجوز من غيره فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعه والثاني لا يجوز لأنه لا يقدر على تسليمه إليه لأنه ربما منعه أوجحده وذلك غرر لاحاجة به إليه فلم يجز والأول أظهر لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولاجحود وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلماً فلم يجز بيعه لما روي أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل فقال: آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل فكرهه ابن عباس وقال خذ برأس المال علفاً أو غنماً ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر لأنه ربما تعذر فانفسخ البيع فيه فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان: قال في الصرف يجوز بيعه قبل القبض لما روى ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لابأس ما لم تتفرقا وبينكما شيء" ولأنه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالمبيع بعد
__________
1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 68. الترمذي في كتاب البيوع باب 9. النسائي في كتاب البيوع باب 60. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 20.
2 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 55.

(2/13)


القبض وروى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز لأن ملكه غير مستقر عليه لأنه قد ينفسخ البيع فيه بتلف المبيع أو بالرد بالعيب فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض وفي بيع نجوم المكاتب قبل القبض طريقان: أحدهما أنه على قولين بناء على القولين في بيع رقبته والثاني انه لايصح ذلك قولاً واحداً وهو المنصوص في المختصر لأنه لايملكه ملكاً مستقراً فلم يصح بيعه كالمسلم فيه والقبض فيما بنقل النقل لما روى زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يجوزها التجار إلى رحالهم وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجداد التخلية لأن القبض ورد به الشرع وأطلقه فحمل على العرف والعرف فيما ينقل النقل وفيما لا ينقل التخلية.
فصل: ولا يجوز بيع مالا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء أو السمك في الماء والجمل الشارد والفرس العائر والعبد الآبق والمال المغصوب في يد الغاصب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وهذا غرر ولهذا قال ابن مسعود لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ولأن القصد بالبيع تمليك التصرف وذلك لايمكن فيما لايقدر على تسليمه فإن باع طيراً في برج مغلق الباب أو السمك في بركة لاتتصل بنهر نظرت فإن قدر على تناوله إذا أراد من غير تعب جاز بيعه وإن كان في برج عظيم أو بركة عظيمة لايقدر على أخذه إلا بتعب لم يجز بيعه لأنه غير مقدور عليه في الحال وإن باع العبد الآبق ممن يقدر عليه أو المغصوب من الغاصب أو ممن يقدر على أخذه منه جاز لأنه لاغرر في بيعه منه.
فصل: ولايجوز بيع عين مجهولة كبيع عبد من عبيد وثوب من أثواب لأن ذلك غرر من غير حاجة ويجوز أن يبيع قفيزاً من صبرة لأنه إذا عرف الصبرة عرف القفيز منها فزال الغرر.
فصل: ولا يجوز بيع العين الغائبة إذا جهل جنسها أو نوعها لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وفي بيع ما لايعرف جنسه أو نوعه غرر كبير فإن علم الجنس والنوع بأن قال بعتك الثوب المروي الذي في كمي أو العبد الزنجي الذي في داري أو الفرس الأدهم الذي في اصطبلي ففيه قولان: قال في القديم والصرف يصح ويثبت له الخيار إذا رآه لما روي ابن أبي مليكة أن عثمان رضي الله عنه ابتاع من طلحة

(2/14)


أرضاً بالمدينة ناقله بأرض له بالكوفة فقال عثمان بعتك ما لم أره فقال طلحة: إنما النظر لأني ابتعت مغيباً وأنت قد رأيت ما ابتعت فتحاكما إلى جبير بن مطعم فقضي على عثمان أن البيع جائز وأن النظر لطلحة لأنه ابتاع مغيباً ولأنه عقد على عين فجاز مع الجهل بصفته كالنكاح وقال في الجديد لايصح لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وفي هذا البيع غرر ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم فإذا قلنا بقوله القديم فهل تفتقر صحة البيع إلى ذكر الصفات أم لا فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لايصح حتى تذكر جميع الصفات المسلم فيه والثاني لا يصح حتى تذكر الصفات المقصودة والثالث أنه لايفتقر إلى ذكر شيء من الصفات وهو المنصوص في الصرف لأن الاعتماد على الرؤية ويثبت له الخيار إذا رآه فلا يحتاج إلى ذكر الصفات فإن وصفه ثم وجده على خلاف ما وصف ثبت له الخيار وإن وجده على ما وصف أو أعلى ففيه وجهان: أحدهما لاخيار له لأنه وجده على ما وصف فلم يكن له خيار كالمسلم فيه والثاني أن له الخيار لأنه يعرف ببيع خيار الرؤية فلا يجوز أن يخلو من الخيار وهل يكون له الخيار على الفور أم لا؟ فيه وجهان: قال ابن أبي هريرة هو على الفور لأنه خيار تعلق بالرؤية فكان على الفور كخيار الرد بالعيب وقال أبو إسحاق يتقدر الخيار بالمجلس لأن العقد إنما يتم بالرؤيا فيصير كأنه عقد عند الرؤية فيثبت له خيار كخيار المجلس وأما إذا رأى المبيع قبل العقد ثم غاب عنه ثم اشتراه فإن كان مما لايتغير كالعقار وغيره جاز بيعه وقال أبو القاسم الأنماطي: لايجوز في قوله الجديد لأن الرؤية شرط في العقد فاعتبر وجودها في حال العقد كالشهادة في النكاح والمذهب الأول لأن الرؤية تراد للعلم بالمبيع وقد حصل العلم بالرؤية المتقدمة فعلى هذا إذا اشتراه ثم وجده على الصفة الأولى أخذه وإن وجده ناقصاً فله الرد لأنه ماالتزم العقد فيه إلا على تلك الصفة وإن اختلفا فقال البائع لم يتغير وقال المشتري تغير فالقول قول المشتري لأنه يؤخذ منه الثمن فلا يجوز من غير رضاه وإن كان مما يجوز أن يتغير ويجوز أن لا يتغير أو يجوز أن يبني ويجوز أن لا يبقى ففيه وجهان: أحدهما أنه لايصح لأنه مشكوك في بقائه على صفته والثاني يصح وهو المذهب لأن الأصل بقاؤه على صفته فصح بيعه قياساً على ما لا يتغير.
فصل: وإن باع الأعمى أو اشترى شيئاً لم يره فإن قلنا أن بيع مالم يره البصير لا يصح لم يصح بيع الأعمى وشراؤه وإن قلنا يصح ففي بيع الأعمى وشرائه وجهان: أحدهما يصح كما يصح من البصير فيما لم يره ويستنيب في القبض والخيار كما يستنيب

(2/15)


في شرط الخيار والثاني لا يصح لأن بيع مالم يره يتم بالرؤية وذلك لا يوجد في حق الأعمى ولايمكنه أن يوكل في الخيار لأنه خيار ثبت بالشرع فلا يجوز الاستنابة به كخيار المجلس بخلاف خيار الشرط.
فصل: إذا رأى بعض المبيع دون بعض نظرت فإن كان مما لايختلف أجزاؤه كالصبرة من الطعام والجرة من الدبس جاز بيعه لأن برؤية البعض يزول غرر الجهالة لأن الظاهر أن الباطن كالظاهر وإن كان مما يختلف نظرت فإن كان مما يشق رؤية باقيه كالجوز في القشر الأسفل جاز بيعه لأن رؤية الباطن تشق فسقط اعتبارها كرؤية أساس الحيطان وإن لم تشق رؤية الباقي كالثوب المطوي ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كبيع مالم ير شيئاً منه ومنهم من قال يبطل البيع قولاً واحداً لأن ما رآه لا خيار فيه ومالم يره فيه الخيار وذلك لا يجوز في عين واحدة.
فصل: واختلف أصحابنا في بيع الباقلا في قشره فقال أبو سعيد الإصطخري يجوز لأنه يباع في جميع البلدان من غير إنكار ومنهم من قال لا يجوز وهو المنصوص في الأم لأن الحب قد يكون صغاراً وقد يكون كباراً وقد يكون في بيوته ما لا شيء فيه وقد يكون فيه حب متغير وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز واختلفوا أيضاً في بيع نافجة المسك فقال أبو العباس: يجوز بيعها لأن النافجة فيها صلاح للمسك لأن بقاءه فيها أكثر فجاز بيعه فيها كالجوز في القشر الأسفل ومن أصحابنا من قال لا يجوز وهو ظاهر النص لأنه مجهول القدر مجهول الصفة وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز واختلفوا في بيع الطلع في قشره فقال أبو اسحاق: لا يجوز بيعه لأن المقصود مستور بما لا يدخر فيه فلم يصح بيعه كالتمر في الجراب وقال أبو علي عن أبي هريرة يجوز لأنه مستور بما يؤكل معه من القشر فجاز بيعه فيه كالقثاء والخيار واختلف قوله في بيع الحنطة في سنبلها فقال في القديم: يجوز لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد" وقال في الجديد: لا يجوز لأن لا يعلم قدر ما فيه من الحب ولا صفة الحب وذلك غرر لاتدعو الحاجة إليه فلم يجز.

(2/16)


فصل: ولا يجوز بيع مجهول القدر فإن قال قد بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح البيع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وفي بيع البعض غرر لأنه يقع على القليل والكثير ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بقدر المبيع كالسلم وإن قال بعتك هذه الصبرة جاز وإن لم يعرف قفزانها وإن قال بعتك هذه الدار أو هذا الثوب جاز وإن لم يعرف ذرعانها لأن غرر الجهالة ينتفي عنهما بالمشاهدة قال الشافعي: وأكره بيع الصبرة جزافاً لأنه يجهل قدرها على الحقية وإن قال بعتك ثلثها أو ربعها أو بعتك إلا ثلثها أو ربعها جاز لأن من عرف الشيء عرف ثلثه وربعه وما يبقى بعدهما وإن قال بعتك هذه الصبرة إلا قفيزاً منها أو هذه الدار أو هذا الثوب إلا ذراعاً منه نظرت فإن علما مبلغ قفزان الصبرة وذرعان الدار والثوب جاز لأن المبيع معلوم إن لم يعلما ذلك لم يجز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا ولأن المبيع هو الباقي بعد القفيز والذراع وذلك مجهول وإن قال بعتك عشرة أقفزة من هذه الصبرة جاز لأنها معلومة القدر والصفة فإن اختلفا فقال البائع أعطيك من أسفلها وقال المشتري من أعلاها فالخيار إلى البائع فمن أي موضع أعطاه جاز لأنه أعطاه من الصبرة وإن قال بعتك عشرة أذرع من هذه الدار أو عشرة أذرع من هذا الثوب فإن كانا يعلمان مبلغ ذرعان الدار والثوب وأنها مئة ذراع صح البيع في عشرها لأن العشرة من المئة عشرها فلا فرق بين أن يقول بعتك عشرها وبين أن يقول بعتك عشرة من مئة ذراع منها وإن لم يعلما مبلغ ذرعان الدار والثوب لم يصح لأنه إن جعل البيع في عشر أذرع مشاعة لم يعرف قدر المبيع أنه عشرها أو ثلثها أو سدسها وإن جعل البيع في عشرة أذرع من موضع بعينه لم يعرف صفة المبيع فإن أجزاء الثوب والدار تختلف وقد يكون بعضها أجود من بعض وإن قال بعتك عشرة أذرع ابتداؤها من هذا المكان ولم يبين المنتهى ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن أجزاء المبيع مختلفة وقد ينتهي إلى موضع يخالف موضع

(2/17)


الابتداء والثاني أنه يصح لأنه يشاهد السمت وإن بين الابتداء والانتهاء صح في الدار وأما في الثوب فإنه إن كان مما لا ينقص قيمته بالقطع فهو كالدار وإن كان مما ينقص لم يصح لأنه شرط إدخال نقص عليه فيما لم يبع من الثوب ومن أصحابنا من قال يصح لأنه رضي بما يدخل عليه من الضرر وإن قال بعتك هذا السمن مع الظرف كل من بدرهم نظرت فإن لم يعلما مقدار السمن والظرف لم يجز لأن ذلك غرر لأن الظرف قد يكون خفيفاً وقد يكون ثقيلاً وإن علما وزنهما جاز لأنه لا غرر فيه واختلف أصحابنا في بيع النحل في الكندوج فقال أبو العباس يجوز بيعه لأنه يعرف مقداره حال دخوله وخروجه ومن أصحابنا من قال لايجوز وهو قول أبي حامد الإسفرايني لأنه قد يكون في الكندوج ما لا يخرج وإن اجتمع فرخه في موضع وشوهد جميعه جاز بيعه لأنه معلوم مقدور على تسليمه فجاز بيعه.
فصل: ولا يجوز بيع الحمل في البطن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي نهى عن المجر والمجر اشتراء ما في الأرحام ولأنه قد يكون حملاً وقد يكون ريحاً وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ولأنه إن كان حملاً فهو مجهول القدر مجهول الصفة وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز وإن باع حيواناً وشرط أنه حامل ففيه قولان: أحدهما أن البيع باطل لأنه مجهول الوجود مجهول الصفة والثاني أنه يجوز لأن الظاهر أنه موجود والجهل به لايؤثر لأنه لاتمكن رؤيته فعفى عن الجهل به كأساس الدار.
فصل: ولايجوز بيع اللبن في الضرع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "لاتبيعوا الصوف على ظهر الغنم ولاتبيعوا اللبن في الضرع" ولأنه مجهول القدر لأنه قد يرى امتلاء الضرع في السمن فيظن أنه من اللبن ولأنه مجهول الصفة لأنه قد يكون اللبن صافي وقد يكون كدراً وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز.
فصل: ولا يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم لقول ابن عباس ولأنه قد يموت الحيوان قبل الجز فيتنجس شعره وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ولأنه لا يمكن تسليمه إلا باستئصاله من أصله ولا يمكن ذلك إلا بإيلام الحيوان وهذا لايجوز.

(2/18)


فصل: ولا يجوز البيع إلابثمن معلوم الصفة فإن باع بثمن مطلق في موضع ليس فيه نقد متعارف لم يصح البيع لأنه عوض في البيع فلم يجز مع الجهل بصفته كالمسلم فيه فإن باع بثمن معين تعين لأنه عوض فتعين بالتعيين كالمبيع فإن لم يره المتعاقدان أو أحدهما فعلى ما ذكرناه من القولين في بيع العين التي لم يرها المتبايعان أو أحدهما.
فصل: ولا يجوز البيع إلا بثمن معلوم القدر فإن باع بثمن مجهول كبيع السلعة برقمها وبيع السلعة بما باع به فلان سلعته وهما لا يعلمان ذلك فالبيع باطل لأنه عوض في البيع فلم يجز مع الجهل بقدره كالمسلم فيه فإن باعه بثمن معين جزافاً فأجاز لأنه معلوم بالمشاهدة ويكره ذلك ما قلنا في بيع الصبرة جزافاً وإن قال بعتك هذا القطيع كل شاة بدرهم أو هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وهما لا يعلمان مبلغ قفزان الصبرة وعدد القطيع صح البيع لأن غرر الجهالة ينتفي بالعلم بالتفصيل كما ينتفي بالعلم بالجملة جاز بالعلم بالتفصيل وإن كان لرجل عبدان فباع أحدهما من رجل الآخر من رجل آخر في صفقة واحدة بثمن واحد فإن الشافعي رحمه الله قال فيمن كاتب عبدين بمال واحد أنه على قولين: أحدهما يبطل العقد لأن العقد الواحد مع اثنين عقدان فإذا لم يعلم قدر العوض في كل واحد منهما بطل كما لو باع كل واحد منهما في صفقة بثمن مجهول والثاني يصح ويقسم العوض عليهما على قدر قيمتهما فمن قال في البيع أيضاً قولان وهو قول أبي العباس وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو إسحاق يبطل البيع قولاً واحداً لأن البيع يفسد العوض والصحيح قول أبي العباس لأن الكتابة أيضاً تفسد بفساد العوض وقد نص فيها على قولين فإن قال بعتك بألف مثقال ذهباً وفضة فالبيع باطل لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما فكان باطلاً وإن قال بعتك بألف نقدا أو بألفين نسيئة فالبيع باطل لأنه لم يعقد على ثمن بعينه فهو كما لو قال بعتك أحد هذين العبدين.
فصل: وإن باع بثمن مؤجل لم يجز إلى أجل مجهول كالبيع إلى العطاء لأنه عوض في بيع فلم يجز إلى أجل مجهول كالمسلم فيه.
فصل: ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء الشهر وقدوم الحاج لأنه

(2/19)


بيع غرر من غير حاجة فلم يجز ولا يجوز بيع المنابذة وهو أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع ولابيع الملامسة وهو أن يمس بيده ولا ينشره وإذا مسه فقد وجب البيع لما روى أبو سعيد الخدري قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين المنابذة والملامسة" والمنابذة أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع والملامسة أن يمسه بيده ولا ينشره فإذا مسه فقد وجب البيع ولأنه إذا علق وجوب البيع على نبذ الثوب فقد علق البيع على شرط وذلك لا يجوز وإذا لم ينشر الثوب فقد باع مجهولاً وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ولايجوز بيع الحصى وهو أن يقول بعتك ما وقع عليه الحصى من ثوب أو أرض لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصى ولأنه بيع مجهول من غير حاجة فلم يجز ولا يجوز حبل الحبلة لما روي ابن عمر رضي الله عنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحبلة" واختلف في تأويله فقال الشافعي رحمه الله: هو بيع السلعة بثمن إلى أن تلد الناقة ويلد حملها وقال أبو عبيد: هو بيع ما يلد حمل الناقة فإن كان على ما قال الشافعي رحمه الله فهو بيع بثمن إلى أجل مجهول وقد بينا أن ذلك لايجوز وإن كان على ما قال أبو عبيد فهو بيع معدوم ومجهول وذلك لا يجوز ولا يجوز بيعان في بيعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال "نهى رسول الله عن بيعتين في بيعة" فيحتمل أن يكون المراد به أن يقول بعتك هذا بألف نقداً أو بألفين نسيئة فلا يجوز للخبر ولأنه لم يعقد على ثمن معلوم ويحتمل أن يكون المراد به أن يقول

(2/20)


بعتك هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف فلا يصح للخبر ولأنه شرط في عقد وذلك لايصح فإذا سقط وجب أن يضاف إلى ثمن السلعة بإزاء ما سقط من الشرط وذلك مجهول فإذا أضيف إلى الثمن صار مجهولاً فبطل.
فصل: ولا يجوز مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرام لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن حلوان الكاهن ومهر البغي وعن الزهري في امرأة زنت بمال عظيم قال لا يصلح لملاها أكله لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي فإن كان معه حلال وحرام كره مبايعته والأخذ منه لما روى النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات وسأضرب لكم في ذلك مثلاً إن الله تعالى حمى حمى وإن حمى الله حرام وأن من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى" وإن بايعه وأخذ منه جاز لأن الظاهر مما في يده أنه له فلا يحرم الأخذ منه ويكره بيع العنب ممن يعصر الخمر والتمر ممن يعمل النبيذ وبيع السلاح ممن يعصي الله تعالى به لأنه لا يأمن أن يكون ذلك معونة على المعصية فإن باع منه صح البيع لأنه قد لا يتخذ الخمر ولا يعصي الله تعالى بالسلاح ولا يجوز بيع المصحف ولا العبد المسلم من الكافر لأنه يعرض العبد للصغار والمصفح للابتذال فإن باعه منه ففيه قولان: أحدهما أن البيع باطل لأنه عقد منع منه لحرمة الإسلام فلم يصح كتزويج المسلمة من الكافر والثاني يصح لأنه سبب يملك به العبد الكافر فجاز أن يملك به العبد المسلم كالإرث فإذا قلنا بهذا أمرناه بإزالة ملكه لأن في تركه ملكه صغاراً على الإسلام فإن باعه أو أعتقه جاز وإن كاتبه ففيه قولان: أحدهما يقبل لأن بالكتابة يصير كالخارج من ملكه في التصرفات والثاني لايقبل لأنه عقدة لا يزيل الملك فلا يقبل منه كالتزويج والإجارة فإن ابتاع الكافر أباه المسلم ففيه طريقان: أحدهما أنه على

(2/21)


القولين والثاني أنه يصح قولاً واحداً لأنه يحصل له من الكمال بالحرية أكثر مما يحصل له من الصغار بالرق.
فصل: ولا يجوز بيع الجارية إلا حملها لأنه يتبعها في البيع والعتق فلا يجوز بيعها دونه كاليد والرجل ولا يجوز أن يفرق بين الجارية وولدها في البيع قبل سبع سنين لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاتوله والدة بولدها" وقال عليه السلام: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة1" وإن فرق بينهما بالبيع بطل البيع لأنه تفريق محرم فأفسد البيع كالتفريق بين الجارية وحملها وهل يجوز بعد سبع سنين إلى البلوغ؟ فيه قولان: أحدهما لا يجوز لعموم الأخبار ولأنه غير بالغ فلا يجوز التفريق بينه وبين أمه في البيع كما لو كان دون سبع سنين والثاني يجوز لأنه لأنه مستغن عن حضانتها فجاز التفريق بينهما كالبالغ.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب البيوع باب 52. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 46. الدارمي في كتاب السير باب 38. أحمد في مسنده "5/413".

(2/22)


باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده
إذا شرط في البيع شرطاً نظرت فإن كان شرطاً يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما لم يبطل العقد لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد فلم يبطله فإن شرط ما لا يقتضيه العقد ولكن فيه مصلحة كالخيار والأجل والرهن ولاضمين لم يبطل العقد لأن الشرع ورد بذلك على ما نبينه في مواضعه إن شاء الله وبه الثقة ولأن الحاجة تدعو إليه فلم يفسد العقد فإن شرط عتق العبد المبيع لم يفسد العقد لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة لتعتقها فأراد أهلها أن يشترطوا ولاءها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتريها وأعتقيها فإن الولاء لمن أعتق" وإن اشتراه بشرط العتق فامتنع من إعتاقه ففيه وجهان: أحدهما يجبر عليه لأنه عتق مستحق عليه فإذا امتنع أجبر عليه كما لو نذر عتق عبد ثم امتنع من إعتاقه والثاني لا يجبر بل يثبت الخيار في فسخ البيع لأنه ملكه بالعوض وإنما شرط للبائع حقاً فإذا لم يف ثبت للبائع الخيار كما لو اشترى شيئاً بشرط أن يرهن بالثمن رهناً فامتنع من الرهن فإن رضي البائع بإسقاط حقه من العتق ففيه وجهان: أحدهما لا يسقط لأنه عتق مستحق فلا يسقط بإسقاط الآدمي كالمنذور والثاني أنه يسقط لأنه حق شرطه البائع لنفسه فسقط بإسقاطه كالرهن والضمين وإن تلف العبد قبل العتق ففيه

(2/22)


ثلاثة أوجه: أحدها أنه ليس للبائع إلا الثمن لأنه لم يفقد أكثر من العتق والثاني يأخذ الثمن وما نقص من الثمن بشرط العتق فيقوم من غير شرط العتق ثم يقوم مع شرط العتق ويجب ما بينهما من الثمن والثالث أنه يفسخ العقد لأن البائع لم يرض بهذا الثمن وحده والمشتري لم يلتزم أكثر من هذا الثمن فوجب أن يفسخ العقد.
فصل: فإن شرط ما سوى ذلك من الشروط التي تنافي مقتضى البيع بأن باع عبداً بشرط أن لا يبيعه أو لا يعتقه أو باع داراً بشرط أن يسكنها مدة أو ثوباً بشرط أن يخيطه له أو فعلة بشرط أن يحذوها له بطل البيع لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن بيع وشرط" وروي أن عبد الله بن مسعود اشترى جارية من امرأته زينب الثقفية وشرطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن فاستفتى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: لا تقر بها وفيها شرط لأحد وروي أن عبد الله اشترى جارية واشترط خدمتها فقال له عمر رضي الله عنه: لا تقبر بها وفيها مثنوية ولأنه شرط لم يبن على التغليب ولا هو من مقتضى العقد ولا من مصلحته فأفسد العقد كما لو شرط أن لا يسلم إليه المبيع فإن قبض المبيع لم يملكه لأنه قبض في عقد فاسد فلا يوجب الملك كالوطء في النكاح الفاسد فإن كان باقياً وجب رده وإن هلك ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف ومن أصحابنا من قال: يضمن قيمته يوم التلف لأنه مأذون في إمساك فضمن قيمته يوم التلف كالعارية وليس بشيء لأنه قبض مضمون في عين يجب ردها فإذا هلكت ضمنها بأكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف كقبض الغاصب ويخالف العارية فإن العارية مأذون في إتلاف منافعها ولأن في العارية لو رد العين ناقصة بالاستعمال لم يضمن ولو رد المبيع ناقصاً ضمن النقصان وإن حدثت في عينها زيادة بأن سمنت ثم هزلت ضمن ما نقص لأن ما ضمن عينه ضمن نقصانه كالمغصوب ومن أصحابنا من قال: لا يضمن لأن البائع دخل في العقد ليأخذ بدل العين دون الزيادة والمنصوص هو الأول وماقاله هذا القائل يبطل بالمنافع فإنه لم يدخل في العقد ليأخذ بدلها ثم تستحق فإن كان لمثله أجرة لزمه الأجرة للمدة التي أقام في يده لأنه مضمون عليه غير مأذون في الانتفاع به فضمن أجرته كالمغصوب فإن كانت جارية فوطئها لم يلزمه الحد لأنه وطء بشبهة لأنه اعتقد أنها ملكه ويجب عليه المهر لأنه وطء بشبهة فوجب به المهر كالوطء في النكاح الفاسد وإن كانت بكراً وجب عليه أرش البكارة لأن البكارة جزء من أجزائها وأجزاؤها مضمونة عليه فكذلك البكارة وإن أتت منه بولد فهو حر لأنه اعتقد

(2/23)


أنها جاريته ويلزمه قيمة الولد لأنه أتلف عليه رقه باعتقاده ويقوم بعد الانفصال لأنه لا يمكن تقويمه قبل الانفصال ولأنه يضمن قيمة الولد للحيلولة وذلك لا يحصل إلا بعد الانفصال فإن ألقت الولد ميتاً لم يضمنه لأنه لا قيمة له قبل الانفصال ولا توجد الحيلولة إلا بعد الانفصال فإن ماتت الجارية من الولادة لزمه قيمتها لأنها هلكت بسبب من جهته ولا تصير الجارية أم ولد في الحال لأنها عقلت منه في غير ملكه وهل تصير أم ولد إذا ملكها فيه قولان.

(2/24)


باب تفريق الصفقة
إذا جمع في البيع بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه كالحر والعبد وعبده وعبد غيره ففيه قولان: أحدهما تفرق الصفقة فيبطل البيع فيما لا يجوز ويصح فيما يجوز لأنه ليس إبطاله فيهما لبطلانه في أحدهما بأولى من تصحيحه فيهما لصحته في أحدهما فبطل حمل أحدهما على الآخر وبقيا على حكمهما فصح فيما يجوز وبطل فيما لا يجوز والقول الثاني أن الصفقة لا تفرق فيبطل للعقد فيهما واختلف أصحابنا في علته فمنهم من قال يبطل لأن العقد جمع حلالاً وحراماً فغلب التحريم كما لو جمع بين أختين في النكاح أو باع درهماً بدرهمين ومنهم من قال يبطل لجهالة الثمن وذلك أنه إذا باع حراً وعبداً بألف سقط ما يخص الحر من الثمن فيصير العبد مبيعاً بما بقي وذلك مجهول في حال العقد فبطل كما لو قال بعتك هذا العبد بحصته من ألف درهم فإن قلنا بالتعليل الأول بطل البيع فيما ينقسم الثمن فيه على القيمة كالعبدين وفيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء كالعبد الواحد نصفه له ونصفه لغيره أو كرين من طعام أحدهما له والآخر لغيره وكذلك لو جمع بين ما يجوز وبين ما لا يجوز في الرهن أو الهبة أو النكاح بطل في الجميع لأنه جمع بين الحلال والحرام وإن قلنا إن العلة جهالة العوض لم يبطل البيع فيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء لأن العوض غير مجهول ولا يبطل الرهن والهبة لأنه لا عوض فيه ولا يبطل النكاح لأن الجهل بالعوض لا يبطله فإن قلنا أن العقد يبطل فيهما رد المبيع واسترجع الثمن وإن قلنا أنه يصح في أحدهما فله الخيار بين فسخ البيع وبين إمضائه لأنه يلحقه ضرر بتفريق الصفقة فثبت له الخيار فإن اختار الإمساك فبكم يمسك فيه قولان: أحدهما يمسك بجميع الثمن أو يرد لأن مالاً يقابل العقد لا ثمن له فيصير الثمن كله في مقابلة الآخر والثاني أنه يمسكه بقسطه لأنه لم يبذل جميع العوض إلا في مقابلتهما فلا يؤخذ منه جميعه في مقابلة أحدهما واختلف

(2/24)


أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان فيما يتقسط العوض عليه بالقيمة فأما ما يتقسط العوض عليه بالأجزاء فإنه يمسك الباقي بالقسط من الثمن قولاً واحداً لأن فيما يتقسط الثمن عليه بالقيمة ما يخص الجائز مجهول فدعت الضرورة إلى أن يجعل جميع الثمن في مقابلته ليصير معلوماً وفيما يتقسط الثمن عليه بالأجزاء ما يخص الجائز معلوم فلا حاجة بنا إلى أن نجعل جميع الثمن في مقابلته ومنهم من قال: القولان في الجميع وهو الصحيح لأنه نص على القولين في بيع الثمرة قبل أن تخرج الزكاة والثمار مما يتقسط الثمن عليها بالأجزاء فإن قلنا يمسك بجميع الثمن لم يكن للبائع الخيار لأنه لا ضرر عليه وإن قلنا يمسك بحصته فهل للبائع الخيار؟ فيه وجهان أحدهما أن له الخيار لأنه تبعضت عليه الصفقة فيثبت له الخيار كما يثبت للمشتري والثاني لاخيار له لأنه دخل على بصيرة لأن الحر لا يؤخذ منه بثمن وإن باع مجهولاً ومعلوماً فإن قلنا لاتفرق الصفقة بطل العقد فيهما وإن قلنا تفرق وقلنا إنه يمسك الجائز بحصته بطل البيع فيه لأن الذي يخصه مجهول وإن قلنا يمسكه بجميع الثمن صح العقد فيه وإن جمع بين حلالين ثم تلف أحدهما قبل القبض بطل البيع فيه وإن يبطل في الباقي فيه طريقان: أحدهما أنه على القولين في تفريق الصفقة لأن ما يحدث من الهلاك قبل القبض كالموجود في حال العقد في إبطال العقد فوجب أن يكون كالموجود في حال العقد فيما ذكرناه والثاني لايبطل إلا فيما تلف لأن في الجمع ما بين الحلال والحرام إنما بطل للجهل بالعوض أو للجمع بين الحلال والحرام في العقد ولا يوجد ههنا واحد منهما فعلى هذا يصح العقد في الباقي وللمشتري الخيار في فسخ العقد لأنه تفرقت عليه الصفقة فإن أمضاه أخذ البا قي بقسطه من الثمن قولاً واحداً لأن العوض ههنا قابل المبيعين فانقسم عليهما فلا يتغير بالهلاك.
فصل: وإن جمع بين بيع وإجارة أو بين بيع وصرف أو بين عبدين بشرط الخيار في أحدهما دون الآخر بعوض واحد ففيه قولان: أحدهما أنه يبطل العقدان لأن أحكام العقدين متضادة وليس أحدهما أولى من الآخر فبطل الجميع والثاني أنه يصح العقدان وينقسم العوض عليهما على قدر قيمتهما لأنه ليس فيه أكثر من اختلاف حكم

(2/25)


العقدين وهذا لا يمنع صحة العقد كما لو جمع في البيع بين ما فيه شفعة وبين ما لا شفعة فيه وإن جمع بين البيع والنكاح بعوض واحد فالنكاح لا يبطل لأنه لا يبطل بفساد العوض وفي البيع قولان ووجههما ما ذكرناه وإن جمع بين البيع والكتابة فإن قلنا في البيع والإجارة أنهما يبطلان بطل البيع والكتابة وإن قلنا إن البيع والإجارة يصحان بطل البيع ههنا لأنه لا يجوز أن يبيع السيد من عبده وهل تبطل الكتابة يبني على تفريق الصفقة فإن قلنا لا تفرق بطل وإن قلنا تفرق بطل البيع وصحت الكتابة.

(2/26)


باب الربا
الربا محرم والأصل فيه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} {البقرة: 275} وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] روي في التفسير حين يقوم من القبر وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه".
فصل: والأعيان التي نص على تحريم الربا فيها الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح والدليل عليه ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً فمن زاد أو استزاد فقد أربى فأما الذهب والفضة فإنه يحرم فيهما الربا لعلة واحدة وهو أنهما من جنس الأثمان فيحرم الربا فيهما ولا يحرم فيما سواهما من الموزونات والدليل عليه أن لا يجوز أن يكون تحريم الربا لمعنى يتعداهما إلى غيرهما من الأموال لأنه لو كان لمعنى يتعداهما إلى غيرهما لم يجز إسلامهما فيما سواهما من الأموال لأن شيئين جمعتها علة واحدة في الربا لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر كالذهب والفضة والحنطة والشعير فلما جاز إسلام الذهب والفضة في الموزونات والمكيلات وغيرهما من الأموال دل على أن العلة فيهما لمعنى لا يتعداهما وهو أنه من جنس الأثمان فأما الأعيان الأربعة ففيها قولان: قال في الجديد العلة فيها أنها مطعومة والدليل عليه ماروى معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" والطعام اسم لكل ما يتطعم والدليل عليه قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 45] أراد به الذبائح وقالت

(2/26)


عائشة رضي الله عنها: مكثنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم سنة ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر وقال لبيد:
لمعفر قهد ينازع شلوه ... غبش كواسب ما يمن طعامها
وأراد بع الفريسة والحكم إذا علق على اسم مشتق كان ذلك علة فيه كالقطع في السرقة والحد في الزنا ولأن الحب ما دام مطعوماً يحرم فيه الربا فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعوماً لم يحرم فيه الربا فإذا انعقد الحب وصار مطعوماً حرم فيه الربا فدل على أن العلة فيه كونه مطعوماً فعلى هذا يحرم الربا في كل ما يطعم من الأقوات والإدام والحلاوات والفواكه والأدوية وفي الماء وجهان: أحدهما يحرم فيه الربا لأنه مطعوم فهو كغيره والثاني لا يحرم فيه الربا لأنه مباح في الأصل غير متمول في العادة فلا يحرم فيه الربا وفي الأدهان المطيبة وجهان: أحدهما لا ربا فيها لأنها تعد للانتفاع برائحتها دون الأكل والثاني أنه يحرم فيها الربا وهو الصحيح لأنه مأكول وإنما لا يؤكل لأنه ينتفع به فيما هو أكثر من الأكل وفي البزر ودهن السمك وجهان: أحدهما لا ربا فيه لأنه يعد

(2/27)


للاستصباح والثاني أنه يحرم الربا فيه لأنه مأكول فأشبه الشيرج وقال في القديم العلة فيها أنها مطعومة مكيلة أو مطعومة موزونة والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" والمماثلة لا تكون إلا بالكيل أو الوزن فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن فعلى هذا لا يحرم الربا فيما لا يكال ولا يوزن من الأطعمة كالرمان والسفرجل والقثاء والبطيخ وما أشبهها.
فصل: وما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب لا يحرم فيها الربا فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً ونسيئة ويجوز فيها التفرق قبل التقابض لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أمرني رسول الله أن أجهز جيشاً فنقدت الإبل فأمرني أن آخذ على قلاص الصدقة فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة وعن علي كرم الله وجهه أنه باع جملاً إلى أجل بعشرين بعيراً وباع ابن عباس رضي الله عنه بعيراً بأربعة أبعرة واشترى ابن عمر رضي لله عنه راحلة بأربعة رواحل ورواحله بالربذة واشترى رافع بن خديج رضي الله عنه بعيراً ببعيرين فأعطاه أحدهما وقال آتيك بالآخر غداً ولا يجوز بيع نسيئة بنسيئة لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الكاليء بالكاليء " قال أبو عبيدة: هو النسيئة بالنسيئة.
فصل: فأما ما يحرم فيه الربا فينظر فيه فإن باعه بجنسه حرم فيه التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض لما روى عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد1" فإن باعه بغير جنسه نظرت فإن كان مما يحرم الربا فيهما لعلة واحدة كالذهب والفضة والشعير والحنطة جاز فيه التفاضل وحرم فيه النساء والتفرق قبل التقابض لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأصناف
__________
1 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث81. أبو داود في كتاب البيوع باب 12.

(2/28)


فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" فإن تبايعا وتخايرا في المجلس قبل التقابض بطل البيع لأن التخاير كالتفرق ولو تفرقا قبل التقابض بطل العقد فكذلك إذا تخايرا وإن تبايعا دراهم بدنانير في الذمة وتقابضا ثم وجد أحدهما بما قبض عيباً نظرت فإن لم يتفرقا جاز أن يرد ويطالب بالبلد لأن المعقود عليه ما في الذمة وقد قبض قبل التفرق وإن تفرقا ففيه قولان: أحدهما يجوز إبداله قبل التفرق جاز بعده كالمسلم فيه والثاني لا يجوز وهو قول المزني لأنه إذا أبدله صار القبض بعد التفرق وذلك لا يجوز وإن كان مما يحرم فيهما الربا بعلتين كبيع الحنطة بالذهب والشعير بالفضة حل فيه التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض لإجماع الأمة على جواز إسلام الذهب والفضة في المكيلات المطعومة.
فصل: وكل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة كالتمر البرني والتمر المعقلي فهما جنس واحد وكل شيئين اختلفا في الاسم من أصل الخلقة كالحنطة والشعير والتمر والزبيب فهما جنسان والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ستة أشياء وحرم التفاضل إذا باع كل شيء منها بما وافقه في الاسم وأباح فيه التفاضل إذا باعه بما خالفه في الاسم فدل على أن كل شيئين اتفقا في الاسم فهما جنس وإذا اختلفا في الاسم فهما جنسان وما اتخذ من أموال الربا كالدقيق والخبز والعصير والدهن تعتبر بأصولها فإن كانت الأصول أجناساً فهي أجناس وإن كانت الأصول جنساً واحداً فهي جنس واحد فعلى هذا دقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان وخبز الحنطة وخبز الشعير جنسان ودهن الجوز ودهن اللوز جنسان واختلف قوله في زيت الزيتون وزيت الفجل فقال في أحد القولين: هما جنس واحد لأنه جمعهما اسم الزيت والثاني أنهما جنسان وهو الصحيح

(2/29)


لأنهما يختلفان في الطعم واللون فكانا جنسين كالتمر الهندي والتمر البرني ولأنهما فرعان لجنسين مختلفين فكانا جنسين كدهن الجوز ودهن اللوز واختلف قوله في اللحمان فقال في أحد القولين هي أجناس وهو قول المزني هو الصحيح لأنها فروع لأصول هي أجناس فكانت أجناساً كالأدقة والأدهان والثاني أنها جنس واحد لأنها تشترك في الاسم الخاص في أول دخولها في تحريم الربا فكانت جنساً واحداً كالتمور وتخالف الأدقة والأدهان لأنه أصولها أجناس يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً فاعتبر فروعها بها واللحمان لا يحرم الربا في أصولها فاعتبرت بنفسها فإن قلنا إن اللحم جنس واحد لم يجز بيع لحم شيء من الحيوان بلحم غيره متفاضلاً وهل يدخل لحم السمك في ذلك فيه وجهان: قال أبو اسحاق يدخل فيها فلا يجوز بيعه بلحم شيء من الحيوان متفاضلاً لأن اسم اللحم يقع عليه والدليل قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [النحل: 14] ومن أصحابنا من قال لا يدخل فيه لحم السمك وهو المذهب لأنه لا يدخل في إطلاق اللحوم أجناس جاز بيع لحم كل جنس من الحيوان بلحم جنس آخر متفاضلاً فيجوز بيع لحم البقر بلحم الغنم متفاضلاً ولحم بقر الوحش بلحم بقر الأهل لأنهما جنسان ولا يجوز بيع لحم الضأن بلحم المعز ولا لحم البقر بلحم الجواميس متفاضلاً لأنهما نوعان من جنس واحد.
فصل: واللحم الأحمر واللحم الأبيض جنس واحد لأن الجميع لحم واللحم والشحم جنسان واللحم والألية جنسان والشحم والألية جنسان واللحم والكبد جنسان والكبد والطحال جنسان واللحم والكلية جنسان لأنه مختلفة الاسم والخلقة فأما الألبان ففيها طريقان: من أصحابنا من قال هي كاللحمان وفيها قولان ومنهم من قال الألبان أجناس قولاً واحداً لأنها تتولد من الحيوان والحيوان أجناس فكذلك الألبان واللحمان لا تتولد من الحيوان والصحيح أنها كاللحمان.
فصل: وما حرم فيه التفاضل لا يجوز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب تبره وعينه وزناً بوزن والفضة بالفضة تبرها وعينها وزناً بوزن والملح بالملح والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير كيلاً بكيل فمن زاد أو أزاد فقد أربى1" فإن باع
__________
1 رواه مسلم في كتاب المساقاة 80، 82. أبو داود في كتاب البيوع باب 12. الترمذي في كتاب البيوع باب 23. النسائي في كتاب البيوع باب 42، 43. أحمد في مسنده "2/232" "3/50".

(2/30)


صبرة طعام بصبرة طعام وهما لا يعلمان كيلهما لم يصح البيع لما روى جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاتباع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام1" وإن باع صبرة طعام بصبرة طعام صاعاً بصاع فخرجتا متساويتين صح البيع وإن خرجتا متفاضلتين ففيه قولان: أحدهما أنه باطل لأنه بيع طعام بطعام متفاضلاً والثاني أنه يصح فيما تساويا فيه لأنه شرط التساوي في الكيل ومن نقصت صبرته فهو بالخيار بين أن يفسخ البيع وبين أن يمضيه بمقدار صبرته لأنه دخل على أن يسلم له جميع الصبرة ولم يسلم له فثبت له الخيار وإن باع صبرة طعام بصبرة شعير كيلاً بكيل فخرجتا متساويتين جاز وإن خرجتا متفاضلتين فإن رضي صاحب الصبرة الزائد بتسليم الزيادة أقر العقد ووجب على الآخر قبوله لأنه ملك الجميع بالعقد إن رضي صاحب الصبرة الناقصة بقدر صبرته من الصبرة الزائدة أقر العقد وإن تشاحا فسخ البيع لأن كل واحد منهما باع صبرته بجميع صبرة صاحبه على التساوي في المقدار وقد تعذر ذلك ففسخ العقد.
فصل: ويعتبر التساوي فيما يكال ويوزن بكيل الحجاز ووزنه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة" وإن كان مما لا أصل له بالحجاز في الكيل والوزن نظرت فإن كان مما لا يمكن كيله اعتبر التساوي فيه بالوزن لأنه لا يمكن غيره وإن كان مما يمكن كيله ففيه وجهان: أحدهما أن يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز فإن كان مكيلاً لم يجز بيعه إلا كيلاً وإن كان موزوناً لم يجز بيعه إلا موزوناً لأن الأصل فيه الكيل والوزن بالحجاز فإذا لم يكن له في الحجاز أصل في الكيل والوزن اعتبر بأشبه الأشياء به والثاني أنه يعتبر بالبلد الذي فيه البيع لأنه أقرب إليه وإن كان مما لا يكال أو يوزن وقلنا بقوله الجديد إنه يحرم فيه الربا وجوزنا بيع بعضه ببعض نظرت فإن كان مما لا يمكن كيله كالبقل والقثاء والبطيخ وما أشبهها بيع وزناً وإن كان مما يمكن كيله ففيه وجهان: أحدهما لا يباع إلا كيلاً لأن الأصل هو الأعيان الأربعة المنصوص عليها وهي مكيلة فوجب رده إلى الأصل والثاني أنه لا يباع إلا وزنا لأن الوزن أحصر.
__________
1 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 38.

(2/31)


فصل: وما حرم فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض ومع أحد العوضين جنس آخر يخالفه في القيمة كبيع ثوب ودرهم بدرهمين، ومد عجوة ودرهم بدرهمين ولا يباع نوعان من جنس بنوع كدينار قاساني ودينار سابوري بقاسانين أو سابورين أو دينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين أو دينارين قراضة والدليل عليه ما روى فضالة بن عبيد قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها خرز مغلفة بذهب فابتاعها رجل بسبعة دنانير أو تسعة دنانير فقال عليه الصلاة والسلام: "لاحتى تميز بينه وبينه" قال: إنما أردت الحجارة فقال: لاحتى تميز بينهما ولأن الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن عليهما والدليل عليه أنه إذا باع سيفاً وشقصاً بألف قوم السيف والشقص وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما وأخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن على قدر قيمته وأمسك المشتري السيف بحصته من الثمن على قدر قيمته وإذا قسم الثمن على قدر القيمة أدى إلى الربا لأنه إذا باع ديناراً صحيحاً قيمته عشرون درهماً وديناراً قراضة قيمته عشرة بدينارين وقسم الثمن على قدر قيمتهما صارت القراضة مبيعة بثلث الدينارين والصحيح بالثلثين وذلك ربا.
فصل: ولا يباع خالصه بمشوبه كحنطة خالصة بحنطة فيها شعير أو زؤان وفضة خالصة لفضة مغشوشة وعسل مصفى بعسل فيه شمع لأن أحدهما يفضل على الآخر ولا يباع مشوبه بمشوبه كحنطة فيها شعير أو زؤان بحنطة فيها شعير أو زؤان وفضة مغشوشة بفضة مغشوشة أو عسل فيه شمع بعسل فيه شمع لأنه لا يعلم التماثل بين الحنطتين وبين الفضتين وبين العسلين ويجوز أن يباع طعام بطعام وفيه قليل تراب لأن التراب يحصل في سفوف الطعام ولا يظهر في الكيل فإن باع موزوناً بموزون من جنسه من أموال الربا وفيه قليل تراب لم يجز لأن ذلك يظهر في الوزن ويمنع من التماثل.

(2/32)


فصل: ولا يباع رطبه بيابسه على الأرض لما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس" فقيل له نعم قال: "فلا". فنهى عن بيع الرطب بالتمر وجعل العلة فيه أنه ينقص عن يابسه فدل على أن كل رطب لا يجوز بيعه بيابسه وأما بيع رطبه برطبه فينظر فيه فإن كان ذلك مما يدخر يابسه كالرطب والعنب ولم يجز بيع رطبه برطبه وقال المزني يجوز لأن معظم منافعه في حال رطوبته فجاز بيع بعضه ببعض كالبن والدليل على أنه لا يجوز أنه لا يعلم التماثل بينهما في حال الكمال والادخار فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالتمر بالتمر جزافاً ويخالف اللبن فإن كماله في حال رطوبته لأنه يصلح لكل ما يراد به الكمال في الرطب والعنب في حال يبوسته لأنه يعمل منه كل ما يراد منه ويصلح للبقاء والادخار وإن كان مما لا يدخر يابسه كسائر الفواكه ففيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه جنس فيه رباً فلم يجز بيع رطبه برطبه كالرطب والعنب والثاني أنه يجوز لأن معظم منافعه في حال رطوبته فجاز بيع رطبه برطبه كاللبن وفي الرطب الذي لا يجيء منه التمر والعنب الذي لا يجيء منه الزبيب طريقان: أحدهما أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض لأن الغالب منه أنه يدخر يابسه وما لا يدخر منه نادر فألحق بالغالب والثاني وهو قول أبي العباس إنه على قولين لأن معظم منفعته في حال رطوبته فكان على قولين كسائر الفواكه وفي بيع اللحم الطري باللحم الطري طريقان: أحدهما وهو المنصوص إنه لا يجوز لأنه يدخر يابسه فلم يجز بيع رطبه برطبه كالرطب والعنب والثاني وهو قول أبي العباس إنه على قولين لأن معظم منفعته في حال رطوبته فصار كالفواكه فإن باع منه ما فيه نداوة يسيرة بمثله كالتمر الحديث بعضه ببعض جاز بلا خلاف لأن ذلك لا يظهر في الكيل وإن كان مما يوزن كاللحم لم يجز لأنه يظهر في الوزن.
فصل: وأما العرايا وهو بيع الرطب على النخل بالتمر على الأرض خرصاً فإنه يجوز للفقراء فيخرص ما على النخل من الرطب وما يجيء منه من التمر إذا جف ثم يبيع ذلك بمثله تمراً ويسلمه إليه قبل التفرق والدليل عليه ماروى محمود بي لبيد قال:

(2/33)


قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه فسمى رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه مع الناس وعندهم فضول من قوتهم من التمر فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بيتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطباً وهل يجوز للأغنياء فيه قولان: أحدهما لا يجوز - وهو اختيار المزني - لأن الرخصة وردت في حق الفقراء والأغنياء لا يشاركونهم في الحاجة فبقي في حقهم على الحظر والثاني أنه يجوز لما روى سهل بن أبي حثمة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر إلا أنه رخص في العرايا أن تبتاع بخرصها تمراً يأكلها أهلها رطباً ولم يفرق ولأن كل بيع جاز للفقراء جاز للأغنياء كسائر البيوع وهل يجوز ذلك في الرطب بالرطب؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها يجوز - وهو قول أبي علي بن خيران لما روى زيد بن ثابت قال: رخص رسول الله في العرايا بالتمر والرطب ولم يرخص في غير ذلك والثاني لايجوز وهو قول أبي سعيد الإصطخري لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبايعوا ثمر النخل بثمر النخل" ولأن الخرص غرر وقد وردت الرخصة في جوازه في أحد العوضين فلو جوزناه في الرطب بالرطب لجوزناه في العوضين وذلك غرر كثير زائد على ما وردت فيه الرخصة فلم يجز كشرط الخيار فيما زاد على ثلاثة أيام والثالث وهو قول أبي إسحاق إنه إن كان نوعاً واحداً لم يجز لأنه لاحاجة به إليه لأن مثل ما يبتاعه عنده وإن كان نوعين جاز لأنه قد يشتهي كل واحد منهما النوع الذي عند صاحبه فيكون كمن عنده تمر ولارطب عنده ولا يجوز في العرايا فيما زاد على خمسة أوسق في عقد واحد لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة فالمحاقلة أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من حنطة والمزابنة أن يبيع الثمر على رؤوس النخل بمائة فرق والمخابرة كراء الأرض بالثلث والربع ويجوز ذلك فيما دون خمسة أوسق لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق وفي خمسة أوسق قولان: أحدهما لا يجوز وهو قول المزني لأن الأصل هو الحضر وقد ثبت جواز ذلك فيما دون خمسة أوسق

(2/34)


لحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي خمسة أوسق شك لأنه روي في حديث أبي هريرة فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق شك فيه داود بي الحصين فبقي على الأصل ولأن خمسة أوسق في حكم ما زاد بدليل أنه تجب الزكاة في الجميع فإذا لم تجز فيما زاد على خمسة أوسق لم تجز في خمسة أوسق والقول الثاني أنه يجوز لعموم حديث سهل بن أبي حثمة.
فصل: وما جاز في الرطب بالتمر جاز في العنب بالزبيب لأنه يدخر يابسه ويمكن خرصه فأشبه الرطب وفيما سوى ذلك من الثمار قولان: أحدهما يجوز لأنه ثمرة فجاز بيع رطبها بيابسها خرصاً كالرطب والثاني لا يجوز لما روى زيد بن ثابت قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا بالتمر والرطب ولم يرخص في ذلك ولأن سائر الثمار لايدخر يابسها ولا يمكن خرصها لتفرقها في الأغصان واستتارها في الأوراق فلم يجز بيعها خرصاً.
فصل: ولا يباع منه ما نزع نواه بما لم ينزع نواه لأن أحدهما على هيئة الادخار والآخر على غير هيئة الادخار ويتفاضلان حال الادخار فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالرطب بالتمر وهل يجوز بيع ما نزع نواعه بعضه ببعض؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا التمر بالتمر إلا سواء بسواء" والثاني لا يجوز لأنه يتجافى في المكيال

(2/35)


فلا يتحقق التساوي ولأنه يجهل تساويهما في حال الكمال والادخار فأشبه بيع التمر بالتمر جزافاً.
فصل: ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه لأن النار تعقد أجزاءه وتسخنه فإن بيع كيلاً لم يجز لأنهما لا يتساويان في الكيل في حال الادخار وإن بيع وزناً لم يزد لأن أصله الكيل فلا يجوز بيعه وزناً ولا يجوز بيع مطبوخه لأن النار قد تعقد من أجزاء أحدهما أكثر من الآخر فيجهل التساوي واختلف أصحابنا في بيع العسل المصفى بالنار بعضه ببعض فمنهم من قال لا يجوز لأن النار تعقد أجزاءه فلا يعلم تساويهما ومنهم من قال يجوز وهو المذهب لأن نار التصفية نار لينة لا تعقد الأجزاء وإنما تميزه من الشمع فصار كالعسل المصفى بالشمس واختلفوا في بيع السكر بعضه ببعض فمنهم من قال لا يجوز لأن النار قد عقدت أجزاءه ومنهم من قال يجوز لأن ناره لا تعقد الأجزاء وغنما تميزه من القصب.
فصل: ولا يجوز بيع الحب بدقيقه متفاضلاً لأن الدقيق هو الحب بعينه وإنما فرقت أجزاؤه فهو كالدنانير الصحاح بالقراضة فأما بيعه به متماثلاً فالمنصوص أنه لا يجوز وقال الكرابيسي: قال أبو عبد الله: تجوز فجعل أبو الطيب بن سلمة هذا قولاً آخر وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز قولاً واحداً ولعل الكرابيسي أراد أبا عبد الله مالكاً أو أحمد فإن عندهما يجوز ذلك والدليل على أنه لا يجوز أنه جنس فيه ربا بيع منه ما هو على هيئة الادخار بما ليس منه على هيئة الادخار على وجه يتفاضلان في حال الادخار فلم يصح كبيع الرطب بالتمر ولا يجوز بيع دقيقة بدقيقة وروى المزني عنه في المنثور أنه يجوز وإليه أومأ في البويطي لأنهما يتساويان في الحال ولا يتفاضلان في الثاني فجاز بيع أحدهما بالآخر كالحنطة بالحنطة والصحيح هو الأول لأنه جهل التساوي بينهما في حال الكمال والإدخار فأشبه بيع الصبرة بالصبرة جزافاً ولا يجوز بيع حبه بسويقه ولا سويقه بسويقه لما ذكرناه في الدقيق ولأن النار قد دخلت عليه وعقدت أجزاؤه فمنع التماثل ولا يجوز بيعه بخبزه لأنه دخله النار وخالطه الملح والماء وذلك يمنع التماثل ولأن الخبز موزون والحنطة مكيل فلا يمكن معرفة التساوي بينهما ولا يجوز بيع خبزه بخبزه لأن ما فيه من الماء والملح يمنع من لا علم بالتماثل فمنع جواز العقد وإن جفف الخبز وجعل فتيتاً وبيع بعضه ببعض كيلاً ففيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه لا يعلم تساويهما في حال التكامل فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالرطب بالرطب والثاني أنه يجوز لأنه مكيل مدخر فجاز بيع بعضه ببعض كالتمر.

(2/36)


فصل: ولا يجوز بيع أصله بعصيره كالسمسم بالشيرج والعنب بالعصير لأنه إذا عصر الأصل نقص عن العصير الذي بيع به ويجوز بيع العصير بالعصير إذا لم تنعقد أجزاؤه لأنه يدخر على صفته فجاز بيع بعضه ببعض كالزبيب بالزبيب ويجوز بيع الشيرج بالشيرج ومن أصحابنا من قال لا يجوز لأنه يخالطه الماء والملح وذلك يمنع التماثل فمنع العقد والمذهب الأول لأنه يدخر على جهته فجاز بيع بعضه ببعض كالعصير وأما الماء والملح فإنه يحصل في الكسب ولا ينعصر لأنه لو انعصر في الشيرج لبان عليه ويجوز بيع خل الخمر بخل الخمر لأنه يدخر على جهته فجاز بيع بعضه ببعض كالزبيب بالزبيب ولا يجوز بيع خل الخمر بخل الزبيب لأن في خل الزبيب ماء وذلك يمنع من تماثل الخلين ولا يجوز خل الزبيب بخل الزبيب ولا بيع خل التمر بخل التمر لأنا إن قلنا إن الماء فيه ربا لم يجز للجهل بتماثل الماءين والجهل بتماثل الخلين وإن باع خل الزبيب بخل التمر فإن قلنا إن في الماء ربا لم يجز للجهل بتماثل الماءين فيهما وإن قلنا لا ربا في الماء جاز لأنهما جنسان فجاز بيع أحدهما بالآخر مع الجهل بالمقدار كالتمر بالزبيب والله أعلم.
فصل: ولا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلب شاة لأن اللبن يدخل في البيع ويقابله قسط من الثمن والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في مقابلة لبن المصراة صاعاً من تمر ولأن اللبن في الضرع كاللبن في الإناء والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلبن أحدكم شاة غيره بغير إذنه أيحب أحدكم أن تؤتى خزانته فينتثل ما فيها1" فجعل اللبن كالمال في الخزانة فصار كما لو باع لبناً وشاة بلبن فإن باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن ففيه وجهان: قال أبو الطيب بن سلمى: يجوز كما يجوز بيع السمسم بالسمسم وإن كان في كل واحد منهما شيرج وكما يجوز بيع دار بدار وإن كان في كل واحدة منهما بئر ماء وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز لأنه جنس فيه ربا بيع بعضه ببعض ومع كل واحد منهما شيء مقصود فلم يجز كما لو باع نخلة مثمرة بنخلة مثمرة ويخالف السمسم لأن الشيرج في السمسم كالمعدوم لأنه لا يحصل إلا بطحن وعصر واللبن موجود في الضرع
__________
1 رواه مسلم في كتاب اللقطة حديث 13. أبو داود في كتاب الجهاد باب 85. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 68. أحمد في مسنده "2/6، 7".

(2/37)


من غير فعل ويمكن أخذه من غير مشقة وأما الدار فإن قلنا إن الماء يملك ويحرم فيه الربا فلا يجوز بيع إحدى الدارين بالأخرى ويجوز بيع اللبن الحليب بعضه ببعض لأن عامة منافعه في هذه الحال فجاز بيع بعضه ببعض كالتمر بالتمر ويجوز بيع اللبن الحليب بالرائب وهو الذي فيه حموضة لأنه لبن خالص وإنما تغير فهو كتمر طيب بتمر غير طيب ويجوز بيع الرائب بالرائب كما يجوز بيع تمر متغير بتمر متغير ولا يجوز بيع اللبن بما يتخذ منه من الزبد والسمن لأن ذلك مستخرج منه فلا يجوز بيعه به كالشيرج بالسمسم ولا يجوز بيعه بالمخيض لأن المخيض لبن نزع منه الزبد والحليب لم ينزع منه الزبد فإذا بيع أحدهما بالآخر تفاضل اللبنان ولا يجوز بيعه بالشيراز واللبأ والجبن لأن أجزاءها قد انعقدت فلا يجوز بيعها باللبن كيلاً لأنهما يتفاضلان ولا يجوز بيعها وزناً لأن اللبن مكيل فلا يباع بجنسه وزناً وأما بيع ما يتخذ منه بعضه ببعض فإنه إن باع السمن بالسمن جاز لأنه لا يخالطه غيره قال الشافعي رحمه الله والوزن فيه أحوط وقال أبو إسحاق: يباع كيلاً لأن أصله الكيل فإن باع الزبد بالزبد ففيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز بيع السمن بالسمن واللبن باللبن والثاني لا يجوز لأن الزبد فيه لبن فيكون بيع لبن وزبد بلبن وزبد وإن باع المخيض بالمخيض نظرت فإن لم يطرح فيه الماء جاز لأنه بيع لبن بلبن وإنما طرح فيه ماء للضرب لم يجز لتفاضل الماءين وتفاضل اللبنين وإن باع الجبن أو الأقط أو المصل أو اللبأ بعضه ببعض لم يجز لأن أجزاءها منعقدة ويختلف انعقادها ولأن فيها ما يخالطه الملح والأنفحة وذلك يمنع التماثل وأما بيع نوع منه بنوع آخر فإنه ينظر فيه فإن باع الزبد بالسمن لم يجز لأن السمن مستخرج من الزبد فلا يجوز بيعه بما استخرج منه كالشيرج بالسمسم وإن باع المخيض بالسمن فالمنصوص أنه يجوز لأن ليس في أحدهما شيء من الآخر قال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله: هما كالجنسين فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً بلا خلاف وإن باع الزبد بالمخيض فالمنصوص أنه يجوز وقال أبو إسحاق أنه لا يجوز لأن في الزبد شيئاً من المخيض فيكون بيع زبد ومخيض بمخيض وهذا لا يصح لأن الذي فيه من المخيض لا يظهر إلا بالتصفية

(2/38)


والنار فلم يكن له حكم وما سوى ذلك لا يجوز بيع نوع منه بنوع آخر لأنه يؤدي إلى التفاضل.
فصل: ولا يجوز بيع حيوان يؤكل لحمه بلحمه لما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يباع حي بميت" وروى ابن عباس رضي الله عنه أن جزوراً نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني بها لحماً فقال أبو بكر: لا يصلح هذا ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم وفي بيع اللحم بحيوان لا يؤكل قولان: أحدهما لا يجوز للخبر والثاني يجوز لأنه ليس فيه مثله فجاز بيعه به كاللحم بالثوب ويجوز بيع اللحم بجنسه إذا تناهى جفافه ونزع منه العظم لأنه يدخر على هذه الصفة فجاز بيع بعضه ببعض كالتمر وهل يجوز بيع بعضه ببعض قبل زرع العظم؟ فيه وجهان: قال أبو سعيد الإصطخري يجوز كما يجوز بيع التمر بالتمر وفيه النوى ومن أصحابنا من قال لا يجوز كما لا يجوز بيع العسل الذي فيه شمع بعضه ببعض ويخالف النوى في التمر فإن فيه مصلحة له وليس في ترك العظم في اللحم مصلحة له.
فصل: ولا يجوز بيع بيض الدجاج بدجاجة في جوفها بيض لأنه جنس فيه ربا بيع بما في مثله فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان.

(2/39)


باب بيع الأصول والثمار
إذا باع أرضاً وفيها بناء أو غراس نظرت فإن قال بعتك هذه الأرض بحقوقها دخل فيها البناء والغراس لأنه من حقوقها وإن لم يقل بحقوقها فقد قال في البيع يدخل وقال في الرهن لا يدخل واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق: فمنهم من قال لا يدخل في الجميع لأن الأرض ليست بعبارة عن الغراس والبناء وتأول قوله في البيع عليه إذا قال بحقوقها ومنهم من نقل جوابه في الرهن إلى البيع وجوابه في البيع إلى الرهن وجعلهما على قولين: أحدهما لا يدخل في الجميع لأن الأرض اسم للعرصة دون ما فيها من الغراس والبناء والثاني يدخل لأنه متصل بها فدخل فيها الغراس والبناء والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك فلم يدخل فيه الغراس والبناء فإن قال بعتك هذه القرية بحقوقها لم تدخل فيها المزارع لأن القرية اسم للأبنية دون المزارع وإن قال بعتك هذه الدار دخل بها ما اتصل بها من الرفوف المسمرة والجوابي والأجاجين المدفونة فيها للانتفاع بها

(2/39)


وإن كان فيها رحا مبينة دخل الحجر السفلاني في بيعها لأنه متصل بها وفي الفوقاني وجهان: أحدهما أنه يدخل وهو الصحيح لأنه ينصب هكذا فدخل فيه كالباب والثاني لا يدخل لأنه منفصل عن المبيع ويدخل الغلق المسمر في الباب وفي المفتاح وجهان أحدهما: يدخل فيه لأنه من مصلحته فلا ينفرد عنه والثاني لا يدخل لأنه منفصل فلم يدخل كالدلو والبكرة وإن كان في الدار شجرة فعلى الطرق الثلاثة التي ذكرناها في الأرض وأما الماء الذي في البئر فاختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: الماء غير مملوك لأنه لو كان مملوكاً لصاحب الدار لما جاز للمستأجرين شربه لأنه إتلاف عين فلا يستحق بالإجارة كثمرة النخل ولوجب أن لا يجوز للمشتري رد الدار بالعيب بعد شربه كما لا يجوز رد النخل بعد أكل ثمرته فعلى هذا لا يدخل في بيع الدار غير أن المشتري أحق به لثبوت يده على الدار وقال أبو علي بن أبي هريرة: هو مملوك لمالك الدار وهو المنصوص في القديم وفي كتاب حرملة لأنه من نماء الأرض فكان لمالك الأرض كالحشيش فإذا باع الدار فإن الماء الظاهر للبائع لايدخل في بيع الدار من غير شرط وما يظهر بعد العقد فهو للمشتري فعلى هذا لا يصح البيع حتى يشترط أن الظاهر من الماء للمشتري لأنه إذا لم يشترط اختلط ماء البائع بماء المشتري فينفسخ البيع وإن كان في الأرض معدن باطن كمعدن الذهب والفضة دخل في البيع لأنه من أجزاء الأرض وإن كان معدناً ظاهراً كالنفط والقار فهو كالماء المملوك في قول أبي علي بن أبي هريرة وغير مملوك في قول أبي إسحاق والحكم في دخوله في البيع على ما بيناه في الماء وإن باع أرضاً وفيها ركاز أو حجارة مدفونة لم تدخل في البيع لأنها ليست من أجزاء الأرض ولا هي متصلة بها فلم تدخل في بيعها.
فصل: وإن باع نخلاً وعليها طلع غير مؤبر دخل في بيع النخل وإن كان مؤبراً لم يدخل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع1" فجعلها للبائع بشرط أن تكون مؤبرة فدل على
__________
1 رواه البخاري في كتاب المساقاة باب 17. مسلم في كتاب البيوع حديث 80. الترمذي في كتاب البيوع 25. النسائي في كتاب البيوع باب 76.

(2/40)


أنها إذا لم تكن مؤبرة فهي للمبتاع ولأن ثمرة النخل كالحمل لأنه نماء كامن لظهوره غاية كالحمل ثم الحمل الكامن يتبع الأصل في البيع والحمل الظاهر لا يتبع فكذلك الثمرة قال الشافعي رحمه الله: وما شقق في معنى ما أبر لأنه نماء ظاهر فهو كالمؤبر وإن باع فحالاً وعليها طلع لم يتشقق ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يدخل في بيع الأصل لأن جميع الطلع مقصود مأكول وهو ظاهر فلم يتبع الأصل كالتين والثاني أنه يدخل في بيع الأصل وهو الصحيح لأنه طلع لم يتشقق فدخل في بيع الأصل كطلع الإناث وما قاله الأول لا يصح لأن المقصود ما فيه وهو الكش الذي تلقح به الإناث وهو غير ظاهر فدخل في بيع الأصل كطلع الإناث.
فصل: وإن باع حائطاً أبر بعضه دون بعض جعل الجميع كالمؤبر فيكون الجميع للبائع لأنا لو قلنا إن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري أدى إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي فجعل مالم يؤبر تبعاً للمؤبر لأن الباطن يتبع الظاهر ولم نجعل ما أبر تابعاً لما لم يؤبر لأن الظاهر لا يتبع الباطن ولهذا جعلنا أساس الدار تابعاً لظاهرها في تصحيح البيع ولم نجعل ظاهرها تابعاً للباطن في إفساد البيع وقال أبو على بن خيران: إن كان نوعاً واحداً جعل غير المؤبر تابعاً للمؤبر وإن كان نوعين لم يجعل مالم يؤبر من أحد النوعين تابعاً للمؤبر من نوع آخر لأن النوع الواحد يتقارب ظهوره والنوعان يختلف ظهورهما والمذهب الأول لما ذكرناه من سوء المشاركة واختلاف الأيدي وذلك يوجد في النوعين كما يوجد في النوع الواحد وأما إذا كان له حائطان فأبر أحدهما دون الآخر وباعهما فإن المؤبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري ولا يتبع أحدهما الآخر لأن انفراد كل واحدة منهما بثمرة حائط لا يؤدي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي فاعتبر كل واحد منهما بنفسه وإن كان له حائط أطلع بعضه دون بعض فأبر المطلع ثم باع الحائط ثم أطلع الباقي ففيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة: ما أطلع في ملك المشتري لا يتبع المؤبر بل يكون للمشتري لأنه حادث في ملكه فلا يصير للبائع والثاني أنه يتبع المؤبر فيكون للبائع لأنه من ثمرة عامه فجعل تابعاً له كالطلع الظاهر في حال العقد فإن أبر

(2/41)


بعض الحائط دون بعض ثم أفرد الذي لم يؤبر بالبيع ففي طلعه وجهان: أحدهما أنه للبائع لأنا جعلناه في الحكم كالمؤبر بدليل أنه لو باع الجميع كان للبائع فصار كما لو أفرد بعض المؤبر بالبيع والثاني أنه للمشتري لأنه إنما جعل كالمؤبر إذا بيع معه فيصير تابعاً له فأما إذا أفرده فليس بتابع للمؤبر فتبع أصله.
فصل: قال الشافعي رحمه الله والكرسف إذا بيع أصله كالنخل وأراد به كرسف الحجاز فإنه شجر يحمل في كل سنة وتخرج ثمرته في كمام وتتشقق عنه كالنخل فإن باع وقد تشقق جوزه فهو للبائع وإن لم يتشقق فهو للمشتري وإن تشقق بعضه دون بعض جعل الجميع للبائع كالنخل وأما ما لا يحمل إلا سنة وهو قطن العراق وخراسان فهو كالزرع ويجيء حكمه إن شاء الله تعالى.
فصل: وإن باع شجراً غير النخل والكرسف لم يخل إما أن يقصد منه الورد أو الورق أو الثمرة فإن كان يقصد منه الورد فإن كان ورده يخرج في كمام ثم ينفتح منه كالورد فهو كالنخيل فإن كان في الكمام تبع الأصل في البيع كالطلع الذي لم يؤبر وإن كان خارجاً من الكمام لم يتبع الأصل كالطلع المؤبر وإن كان لا كمام له كالياسمين كان ماظهر منه للبائع وما لم يظهر للمشتري وإن كان مما يقصد منه الورق كالتوت ففيه وجهان: أحدهما أنه إن لم ينفتح فهو للمشتري وإن تفتح فهو للبائع لأن الورق من هذا كالثمر من سائر الأشجار والثاني أنه للمشتري تفتح أو لم يتفتح لأنه بمنزلة الأغصان من سائر الأشجار وليس كالثمر لأن ثمرة التوت ما يؤكل منه وإن كان مما يقصد منه الثمرة فهو على أربعة أضرب: أحدها ما تخرج ثمرته ظاهرة من غير كمام كالتين والعنب فما ظهر منه فهو للبائع لا يدخل في البيع من غير شرط وما يظهر بعد العقد فهو للمشتري لأن الظاهر منه كالطلع المؤبر والباطن منه كالطلع الذي لم يؤبر والثاني ما يخرج في كمام لا يزال عنه إلا عند الأكل كالرمان والموز فهو للبائع لأن كمامه من مصلحته فهو كأجزاء الثمرة والثالث ما يخرج وعليه قشرتان كالجوز واللوز والرانج فالمنصوص أنه كالرمان لا يدخل في بيع الأصل لأن قشره لا يتشقق عنه كما لا يتشقق قشر الرمان ومن أصحابنا من قال: هو كثمرة النخل الذي لم يؤبر لأنه لا يترك في القشر الأعلى كما

(2/42)


لا تترك الثمرة في الطلع والرابع ما يكون في نور يتناثر عنه النور كالتفاح والكمثري فاختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق والقاضي أبو حامد: هو كثمرة النخل إن تناثر عنه النور فهو للبائع وإن لم يتناثر عنه فهو للمشتري وهو ظاهر كتشقق الطلع عن الثمرة فكان في الحكم مثلها وقال الشيخ أبو حامد الأسفرايني: هو للبائع وإن لم يتناثر النور عنها لأن الثمرة قد ظهرت بالخروج من الشجر واستتارها بالقشر الأبيض فكذلك هذه الثمرة للبائع مع استتارها بالنور.
فصل: وإن باع أرضاً وفيها نبات غير الشجر فإن كان مما له أصل يحمل مرة بعد أخرى كالرطبة والبنفسج والنرجس والنعنع والهندبا والبطيخ والقثاء دخل الأصل في البيع وما ظهر منه فهو للبائع وما لم يظهر فهو للمشتري كالأشجار وإن كان مالا يحمل إلا مرة كالحنطة والشعير لم يدخل في بيع لأصل لأنه لماء ظاهر لا يراد للبقاء فلم يدخل في بيع الأصل كالطلع المؤبر وفي بيع الأرض طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان لأنها في يد البائع إلى أن يحصد الزرع فكان في بيعها قولان كالأرض المستأجرة ومنهم من قال يصح بيع الأرض قولاً واحداً لأن المبيع في يد المشتري وإنما يدخل البائع للسقي أو الحصاد فجاز بيعه قولاً واحداً كالأمة المزوجة وإن باع أرضاً فيها بذر لم يدخل البذر لأنه مودع في الأرض فلم يدخل في بيعها كالركاز فإن باع الأرض مع البذر ففيه وجهان: أحدهما أنه يصح تبعاً للأرض والثاني لايصح وهو المذهب لأنه لا يجوز بيعه منفرداً فلم يجز بيعه مع الأرض.
فصل: إذا باع أصلاً وعليه ثمرة وعليه ثمرة للبائع لم يكلف قطع الثمرة إلى أوان الجداد فإن كان مما يقطع بسراً كالبسر الحيسواني والقرشي لم يكلف قطعه إلى أن يصير بسراً وإن كان مما لا يقطع إلا رطباً لم يكلف قطعه إلى أن يصير رطباً لأن نقل المبيع على حسب العادة ولهذا إذا اشترى بالليل متاعاً لم يكلف نقله حتى يصبح وإن اشتراه في المطر لم

(2/43)


يكلف نقله حتى يسكن المطر والعادة في قطع الثمار ما ذكرناه فلا يكلف القطع قبله.
فصل: فإن أصاب النخل عطش وخاف أن تشرب الثمرة الماء من أصل النخل فيهلك ففيه قولان: أحدهما لا يكلف البائع قطع الثمرة لأن المشتري دخل في العقد على أن يترك الثمار إلى الجداد فلزمه تركه والثاني أنه يكلف قطعه لأن المشتري إنما رضي بذلك إذا لم يضر به فإذا أضر به لم يلزمه تركه فإن احتاج أحدهما إلى سقي ماله ولم يكن على الآخر ضرر جاز له أن يسقيه لأنه إصلاح لما له من غير إضرار بأحد فجاز وإن كان على الآخر ضرر في السقي وتشاحا ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يفسخ العقد لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر في الأضرار فوجب أن يفسخ وقال أبو علي بن أبي هريرة يجبر الممتنع منهما لأنه حين دخل في العقد رضي بدخول الضرر عليه لأنه يعلم أنه لا بد من السقي ويجب أجرة السقي على من يسقي لأن منفعته تحصل له.
فصل: ولا يجوز بيع الثمار والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ثمرة النخل حتى تزهى والسنبل والزرع حتى يبيض ويأمن العاهة ولأن المبيع إنما ينقل على حسب العادة ولهذا لو اشترى بالليل متاعاً لم يكلف نقله حتى يصبح والعادة في الثمار تركها إلى أوان الجداد فإذا باعها قبل بدو الصلاح لم يأمن أن يصيبها عاهة فتتلف وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز وإن باعها بشرط القطع جاز لأنه يأخذه قبل أن يتلف فيأمن الغرر وإن باع الثمرة مع الأصل والزرع مع الأرض قبل بدو الصلاح جاز لأن حكم الغرر مع الأصل كالغرر في الحمل يسقط حكمه إذا بيع مع الأصل وإن باع الثمرة ممن يملك الأصل أو الزرع ممن يملك الأرض ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه يحصل لمالك الأصل فجاز كما لو باعها مع الشجر والأرض والثاني لا يصح لأن أفرده بالبيع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع فأشبه إذا باعها من غير مالك الأصل وإن بدا صلاحها جاز بيعها بشرط القطع لحديث ابن عمر رضي الله عنه ولأنه إذا جاز بيعه بشرط القطع قبل بدو الصلاح فلأن يجوز بعد بدو الصلاح أولى ويجوز بيعها مطلقاً للخبر ولأنه أمن من العاهة فجاز بيعها مطلقاً كسائر الأموال ويجوز بيعها بشرط التبقية إلى الجداد للخبر ولأن إطلاق البيع يقتضي التبقية إلى أوان الجداد فإذا شرط التبقية فقد شرط ما يقتضيه الإطلاق فجاز.

(2/44)


فصل: وبدو الصلاح في الثمار أن يطيب أكلها فإن كان رطباً أن يحمر أو يصفر وإن كان عنباً أسود بأن يتموه وإن كان أبيض بأن يرق ويحلو وإن كان زرعاً بأن يشتد وإن كان بطيخاً بأن يبدو فيه النضج وإن كان قثاء أن يكبر بحيث يؤخذ ويؤكل والدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تطعم فإن وجد بدو الصلاح في بعض الجنس من حائط جاز بيع ذلك الجنس كله في ذلك الحائط لأنا لو قلنا لا يجوز إلا فيما بدا صلاحه فيه أدى إلى المشقة والضرر بسوء المشاركة ولا يجوز أن يبيع ما لم يبد فيه الصلاح من جنس آخر ولا ما لم يبد فيه الصلاح من ذلك الجنس من حائط آخر لأن المنع من ذلك لا يؤدي إلى الضرر بسوء المشاركة فإن بدا الصلاح في بعض الجنس في حائط فباع منه ما لم يبد فيه الصلاح مفرداً من غير شرط القطع ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنا جعلناه في حكم ما بدا فيه الصلاح فجاز إفراده بالبيع والثاني لا يجوز لأنه جعل في حكم ما بدا فيه الصلاح بيعاً لما بدا فيه الصلاح وما أجيز بيعه تبعاً لغيره لم يجز إفراده بالبيع كالحمل.
فصل: إذا ابتاع زرعاً أو ثمرة بعد بدو الصلاح لم يكلف قطعه قبل أوان الحصاد والجداد لأن العادة فيها تركها إلى الحصاد والجداد فلم يكلف نقله قبله كما نقول فيمن اشترى متاعاً بالليل إنه لا يكلف نقله إلا بالنهار فإذا احتاجت الثمرة أو الزرع إلى السقي لزم البائع ذلك لأنه يجب عليه تسليمها في حال الجداد والحصاد وذلك لا يحصل إلا بالسقي فلزمه.
فصل: وإذا اشترى ثمرة على الشجر فلم يأخذ حتى حدث ثمرة أخرى واختلطت ولم تتميز أو اشترى حنطة فلم يقبض حتى انثالت عليها حنطة أخرى ففيه قولان: أحدهما ينفسخ البيع وهو الصحيح لأنه تعذر التسليم المستحق بالعقد فإن البائع لا يلزمه تسليم ما اختلط به من ماله فإن رضي البائع بتسليم ماله لم يلزم المشتري قبوله وإذا تعذر تسليم المعقود عليه بطل العقد كما لو تلف المبيع والثاني لا ينفسخ لأن المبيع باق وإنما انضاف إليه زيادة فصار كما لو باع عبداً فسمن أو شجرة فكبرت فإن قلنا لا ينفسخ

(2/45)


قلنا للبائع إن سمحت بحقك أقر العقد وإن لم تسمح فسخ العقد وإن اشترى شجرة عليها حمل للبائع فلم يأخذه حتى حدث حمل للمشتري واختلطت ولم تتميز ففيه طريقان: قال أبو علي بن خيران وأبو علي الطبري لا ينفسخ العقد قولاً واحداً بل يقال إن سمح أحد كما بترك حقه من الثمرة أقر العقد لأن المبيع هو الشجر ولم يختلط الشجر بغيره وإنما اختلط ما عليها من الثمرة والثمرة غير مبيعة فلم ينفسخ البيع كما لو اشترى داراً وفيها طعام للبائع وطعام للمشتري فاختلط أحد الطعامين بالآخر فإن البيع لا ينفسخ في الدار وقال المزني وأكثر أصحابنا: إنها على قولين كالمسئلة قبلها لأن المقصود بالشجر هو الثمرة فكان اختلاطها كاختلاط المبيع وإن اشترى رطبة بشرط القطع فلم يقطع حتى زادت وطالت ففيه طريقان: أحدها أنه لا يبطل البيع قولاً واحداً بل يقال للبائع إن سمحت بحقك أقر العقد وإن لم تسمح فسخ العقد لأنه لم يختلط المبيع بغيره وإنما زاد المبيع في نفسه فصار كما لو اشترى عبداً صغيراً فكبر أو هزيلاً فسمن والثاني هو الصحيح أنه على قولين: أحدهما لا ينفسخ البيع والثاني ينفسخ ويخالف السمن والكبر في العبد فإن تلك الزيادة لا حكم لها ولهذا يجبر البائع على تسليم العبد مع السمن والكبر ولهذه الزيادة حكم ولهذا لا يجبر البائع على تسليمها فدل على الفرق بينهما.
فصل: وإن كان له شجرة تحمل حملين فباع أحد الحملين بعد بدو الصلاح وهو يعلم أنه يحدث الحمل الآخر ويختلط به ولا يتميز فالبيع باطل وقال الربيع فيه قول آخر إن البيع يصح ولعله أخذه من أحد القولين فيمن باع جزة من الرطبة فلم يأخذ حتى حدث شيء آخر أن البيع يصح في أحد القولين والصحيح هو الأول لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه لأن العادة فيها الترك فإذا ترك اختلط به غيره فتعذر التسليم بخلاف الرطبة فإنه باعها بشرط القطع فلا يتعذر التسليم.

(2/46)


باب بيع المصراة والرد بالعيب
إذا اشترى ناقة أو شاة أو بقرة مصراة ولم يعلم أنها مصراة ثم علم أنها مصراة

(2/46)


فهو بالخيار بأن يمسك وبين أن يرد لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر1" وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً2" واختلف أصحابنا في وقت الرد فمنهم من قال يتقدر الخيار بثلاثة أيام فإن علم بالتصرية فيما دون الثلاث كان له الخيار في بقية الثلاث للسنة ومنهم من قال: إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار على الفور فإن لم يرد سقط خياره لأنه خيار ثبت لنقص فكان على الفور كخيار الرد بالعيب.
فصل: فإن اختار رد المصراة رد بدل اللبن الذي أخذه واختلفت الرواية فيه فروى أبو هريرة صاعاً من تمر وروى ابن عمر مثل أو مثلي لبنها قمحاً واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس بن سريج: يرد في كل بلد من غالب قوته وحمل حديث أبو هريرة على من قوت بلده التمر وحديث ابن عمر على من قوت بلده القمح كما قال في زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير وأراد التمر لمن قوته التمر والشعير لمن قوته الشعير وقال أبو إسحاق: الواجب صاع من تمر لحديث أبو هريرة وتأول حديث ابن عمر عليه إذا كان مثل لبنها من القمح أكثر قيمة من صاع من التمر فتطوع به وإن كان قيمة الصاع بقيمة الشاة أو أكثر ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجب عليه قيمة صاع بالحجاز لأنا لو أوجبنا صاعاً بقيمة الشاة حصل للبائع الشاة وبدلها فوجب قيمة الصاع بالحجاز لأنه هو الأصل ومن أصحابنا من يقول يلزمه الصاع وإن كان بقيمة الشاة أو أكثر ولا يؤدي إلى الجمع بين الشاة وبدلها لأن الصاع ليس ببدل عن الشاة وإنما هو بدل عن اللبن فجاز كما لو غصب عبداً فخصاه فإنه يرد العبد مع قيمته ولا يكون ذلك جمعاً بين العبد وقيمته لأن القيمة بدل عن العضو المتلف وإن كان ما حلب من اللبن باقياً فأراد رده ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يجبر البائع على أخذه لأنه أصبح بالحلب ناقصاً لأنه يسرع إليه التغير فلا يجبر على أخذه ومن أصحابنا من قال يجبر لأن نقصانه حصل
__________
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 64، 71.أبو داود في كتاب البيوع باب 46. النسائي في كتاب البيوع باب 14. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 42. أحمد في مسنده "1/430".
2 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 64، 65. أبو داود في كتاب البيوع باب 46.

(2/47)


لمعنى يستعلم به العيب فلم يمنع الرد ولأنه لو لم يجز رده لنقصانه بالحلب فلم يجز إفراد الشاة بالرد لأنه إفراد بعض المعقود عليه بالرد فلما جاز ذلك ههنا وإن لم يجز في سائر المواضع جاز رد اللبن ههنا مع نقصانه بالحلب وإن لم يجز في سائر المواضع.
فصل: وإن اشترى جارية مصراة ففيه أربعة أوجه: أحدها أنه يردها ويرد معها صاعاً لأنه يقصد لبنها فثبت بالتدليس له فيه الخيار والصاع كالشاة والثاني أنه يردها لأن لبنها يقصد لتربية الولد ولم يسلم له ذلك فثبت له الرد ولا يرد بدله لأنه لا يباع ولا يقصد بالعوض والثالث لا يردها لأن الجارية في العادة لا يقصد في العادة إلا عينها دون لبنها والرابع لا يردها ويرجع بالأرش لأنه لا يمكن ردها مع عوض اللبن لأنه ليس للبنها عوض مقصود ولا يمكن رده من غير عوض لأنه يؤدي إلى إسقاط حق البائع من لبنها من غير بدل ولا يمكن إجبار المبتاع على إمساكها بالثمن المسمى لأنه لم يبذل الثمن إلا ليسلم له ما دلس به من اللبن فوجب أن يرجع على البائع بالأرش كما لو وجد بالمبيع عيباً وحدث عنده عيب.
فصل: وإن اشترى أتاناً مصراة فإن قلنا بقول الإصطخري إن لبنها طاهر ردها ورد معها بدل اللبن كالشاة وإن قلنا بالمنصوص إنه نجس ففيه وجهان: أحدهما أنه يردها ولا يرد بدل اللبن لأنه لا قيمة له فلا يقابل ببدل والثاني يمسكها ويأخذ الأرض لأنه لا يمكن ردها مع البدل لأنه لا بدل له ولا ردها من غير بدل لما فيه من إسقاط حق البائع من لبنها ولا إمساكها بالثمن لأنه لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان مع اللبن ولم تسلم فوجب أن تمسك ويأخذ الأرش.
فصل: إذا ابتاع بشرط أن تحلب كل يوم خمسه أرطال ففيه وجهان بناء على القولين فيمن باع شاة شرط حملها: أحدهما لا يصح لأنه شرط مجهول فلم يصح والثاني أنه يصح لأنه يعلم بالعادة فصح شرطه فعلى هذا إذا لم تحلب المشروط فهو بالخيار بين الإمساك والرد.
فصل: إذا ابتاع جارية قد جعد شعرها ثم بان أنها سبطة الشعر أو سود شعرها ثم

(2/48)


بان بياض شعرها أو حمر وجهها ثم بان صفرة وجهها ثبت له الرد لأنه تدليس بما يختلف به الثمن فثبت به الخيار كالتصرية وإن سبط شعرها ثم بان أنها جعدة ففيه وجهان: أحدهما لا خيار له لأن الجعدة أكمل وأكثر ثمناً والثاني أنه يثبت له الخيار لأنه قد تكون السبطة أحب إليه وأحسن عنده وهذا لا يصح لأنه اعتبار به وإنما الاعتبار بما يزيد في الثمن والجعدة أكثر ثمناً من السبطة وإن ابتاع صبرة ثم بان أنها كانت على صخرة أو بان أن باطنها دون ظاهرها في الجودة ثبت له الرد لما ذكرناه من العلة في المسألة قبلها.
فصل: ومن ملك عيناً وعلم بها عيباً لم يجز أن يبيعها حتى يبين عيبها لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم فلا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً يعلم فيه عيباً إلا بينه له1" فإن علم غير المالك بالعيب لزمه أن يبين ذلك لمن يشتريه لما روى أبو سباع قال: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع فلما خرجت بها أدركنا عقبة بن عامر فقال هل بين لك ما فيها؟ قلت: وما فيها إنها لسمينة ظاهرة الصحة فقال: أردت بها سفراً أم أردت بها لحماً قلت: أردت عليها الحج قال: إن بخفها نقباً قال صاحبها: أصلحك الله ما تريد إلى هذا تفسد علي قال: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه" فإن باع ولم يبين العيب صح البيع لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح البيع في المصراة مع التدليس بالتصرية.
فصل: فإن لم يعلم بالعيب واشتراه ثم علم بالعيب فهو بالخيار بين أن يمسك وبين أن يرد لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له ذلك فثبت له الرجوع بالثمن كما قلنا في المصراة فإن ابتاع شيئاً ولا عيب به ثم حدث به عيب في ملكه نظرت فإن كان حدث قبل القبض ثبت له الرد لأن المبيع مضمون على البائع فثبت له الرد بما يحدث فيه من العيب كما قبل العقد وإن حدث العيب بعد القبض نظرت فإن لم يستند إلى سبب قبل القبض لم يثبت له الرد لأنه دخل المبيع في ضمانه فلم يرد بالعيب الحادث وإن استند إلى ما قبل القبض بأن كان عبداً فسرق أو قطع يداً قبل القبض فقطعت يده بعد القبض ففيه وجهان: أحدهما أنه يرد وهو على قول أبي أسحق لأنه قطع بسبب كان قبل
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب التجارات باب 45.

(2/49)


القبض فصار كما لو قطع قبل القبض والثاني أنه لا يرد وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأن القطع وجد في يد المشتري فلم يردكما لو لم يستند إلى سبب قبله.
فصل: إذا وجد المشتري بالمبيع عيباً لم يخل إما أن يكون المبيع باقياً على وجهه أو زاد أو نقص فإن كان باقياً على جهته وأراد الرد لم يؤخره فإن أخره من غير عذر سقط الخيار لأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فكان على الفور كخيار الشفعة فإن كان المبيع دابة فساقها ليردها فركبها في الطريق أو علفها أو سقاها لم يسقط حقه من الرد لأنه لم يرض بالعيب ولم يوجد منه أكثر من الركوب والعلف والسقي وذلك حق له إلى أن يرد فلم يمنع الرد وله أن يرد بغير رضى البائع ومن غير حضوره لأنه رفع عقد جعل إليه فلا يعتبر فيه رضى صاحبه ولا حضوره كالطلاق فإن اشترى ثوباً بجارية فوجد بالثوب عيباً فوطيء الجارية ففيه وجهان: أحدهما أنه ينفسخ البيع كما ينفسخ البيع في مدة خيار الشرط بالوطء والثاني لا ينفسخ لأن الملك قد استقر للمشتري فلا يجوز إلا بالقول فإن زال العيب قبل الرد ففيه وجهان: بناء على القولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد ثم أعتق العبد قبل أن تختار الأمة الفسخ: أحدهما يسقط الخيار لأن الخيار ثبت لدفع الضرر وقد زال الضرر والثاني لا يسقط لأن الخيار ثبت بوجود العيب فلا يسقط من غير رضاه وإن قال البائع أنا أزيل العيب مثل أن يبع أرضاً فيها حجارة مدفونة يضر تركها بالأرض فقال البائع: أنا أقلع ذلك في مدة لا أجرة لمثلها سقط حق المشتري من الرد لأن ضرر البيع يزول من غير إضرار وإن قال البائع أمسك المبيع أنا أعطيك أرش العيب لم يجبر المشتري على قبوله لأنه لم يرض إلا بمبيع سليم بجميع الثمن فلم يجبر على إمساك معيب ببعض الثمن وإن قال المشتري أعطني الأرش لأمسك المبيع لم يجبر البائع على دفع الأرش لأنه لم يبذل المبيع إلا بجميع الثمن فلم يجبر على تسليمه ببعض الثمن فإن تراضيا على دفع الأرش لأنه لم يبذل المبيع إلا بجميع الثمن فلم يجبر على تسليمه ببعض الثمن فإن تراضيا على دفع الأرش لإسقاط الخيار ففيه وجهان: أحدهما يجوز وهو قول أبي العباس لأن خيار الرد يجوز أن يسقط إلى المال وهو إذا حدث عند المشتري عيب فجاز إسقاطه إلى المال بالتراضي كالخيار في القصاص والثاني لا يجوز وهو المذهب لأنه خيار فسخ فلم يجز إسقاطه بمال كخيار الشرط وخيار الشفعة فإن تراضيا على ذلك وقلنا إنه لا يجوز فهل يسقط خياره؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يسقط لأنه رضي بإمساك العين مع العيب والثاني لا يسقط وهو المذهب ولأنه رضي بإمساك العين مع العيب والثاني لا يسقط وهو المذهب ولأنه رضي بإسقاط الخيار بعوض ولم يسلم له العوض فبقي الخيار وإن أراد أن يرد بعضه لم يجز لأن على البائع

(2/50)


ضرراً في تبعيض الصفقة عليه فلم يجز من غير رضاه وإن اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً فهل له أن يفرده بالرد؟ فيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه تبعيض صفقة على البائع فلم يجز من غير رضاه والثاني يجوز لأن العيب اختص بأحدهما فمجاز أن يفرده بالرد وإن ابتاع اثنان عبداً فأراد أحدهما أن يمسك حصته وأراد الآخر أن يرد حصته جاز لأن البائع فرق الملك في الإيجاب لهما فجاز أن يرد عليه أحدهما دون الآخر كما لو باع منهما في صفقتين فإن مات من له الخيار انتقل إلى وارثه لأنه حق لازم يختص بالمبيع فانتقل بالموت إلى الوارث كحبس المبيع إلى أن يحضر الثمن فإن كان له وارثان فاختار أحدهما أن يرد نصيبه دون الآخر لم يجز لأنه تبعيض صفقة في الرد فلم يجز من غير رضا البائع كما لو أراد المشتري أن يرد بعض المبيع.
فصل: وإن وجد العيب وقد زاد المبيع نظرت فإن كانت الزيادة لا تتميز كالسمن واختار الرد مع الزيادة لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلا يجوز أن ترد دونها وإن كانت زيادة منفصلة كأكساب العبد فله أن يرد ويمسك الكسب لما روت عائشة رضي الله عنها أن رجلاً ابتاع غلاماً فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه فقال الرجل يا رسول الله قد استغل غلامي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان1" وإن كان المبيع بهيمة فحملت عنده وولدت أو شجرة فأثمرت عنده رد الأصل وأمسك الولد والثمرة لأنه نماء منفصل حدث في ملكه فجاز أن يمسكه ويرد الأصل كغلة البعد وإن كان المبيع جارية فحملت عنده وولدت ثم علم بالعيب ردها وأمسك الولد لما ذكرناه ومن أصحابنا من قال: لا يرد الأم بل يرجع بالأرش لأن التفريق بين الأم والولد فيما دون سبع سنين لا يجوز وهذا لا يصح لأن التفريق بينهما يجوز عند الضرورة ولهذا قال الشافعي رحمه الله في الجارية المرهونة إنها تباع دون الولد فإن اشتراها وهي حامل فولدت عنده فإن قلنا إن الحمل له حكم رد الجميع وإن قلنا لا حكم للحمل رد الأم دون الولد وإن كان المبيع جارية ثيباً فوطئها ثم علم بالعيب فله أن يردها لأنه انتفاع لا يتضمن نقصاً فلم يمنع الرد كالاستخدام وإن وجد العيب وقد نقص المبيع نظرت فإن كان النقص بمعنى لا يقف استعلام العيب على جنسه كوطء البكر وقطع الثوب وتزويج الأم لم يجز له الرد بالعيب لأنه أخذه من البائع
__________
1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 71. الترمذي في كتاب البيوع باب 53. النسائي في كتاب البيوع باب 15. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 43. أحمد في مسنده "6/49".

(2/51)


وبه عيب فلا يجوز رده وبه عيبان من غير رضاه وينتقل حقه إلى الأرش لأنه فات جزء من المبيع وتعذر الفسخ بالرد فوجب أن يرجع إلى بدل الجزء الفائت وهو الأرش فإن قال البائع أنا آخذ المبيع مع العيب الحادث لم يلزمه دفع الأرش لأنه لم يكن له غير الرد وإن قال المشتري أرده وأعطي معه أرش العيب الحادث في يده فإذا رضي به صار كأنه لم يحدث عنده عيب فلم يكن له غير الرد وإن قال المشتري أرده وأعطي معه أرش العيب الحادث عندي لم يلزم البائع قبوله كما إذا حدث العيب به عند البائع فقال: خذه وأنا أعطيك معه أرش العيب لم يلزم المشتري قبوله.
فصل: فإذا أراد الرجوع بالأرش قوم المبيع بلا عيب فيقال قيمته مئة ثم يقوم مع العيب فيقال قيمته تسعون فيعلم أنه قد نقص العشر من بدله فيرجع على البائع بعشر الثمن ولايرجع بما نقص من قيمته لأن الرش بدل عن الجزء الفائت ولو فات المبيع كله رجع على البائع بجميع الثمن فإذا فات قدر العشر منهرجع بعشر الثمن كالجزء لما ضمن جميعه بالدية ضمن الجزء منه بجزء من الدية ولأنا لو قلنا إنه يرجع بما نقص من قيمته أدى إلى أن يجتمع الثمن والمثمن للمشتري فإنه قد يشتري ما يساوي مائة بعشرة فإذا رجع بالعشرة رجع جميع الثمن إليه فيجتمع له الثمن والمثمن وهذا لا يجوز وإن اختلفت قيمة المبيع من حال العقد إلى حال القبض قوم بأقل القيمتين لأنه إن كانت قيمته وقت العقد أكثر ثم نقص كان ما نقص في يده مضموناً عليه وماكان نقصانه من ضمانه فلا يجوز أن يقوم على البائع وإن كان قيمته وقت العقد أكثر ثم نقص كان ما نقص في يده مضموناً عليه وما كان نقصانه من ضمانه فلا يجوز أن يقوم على البائع وإن كانت قيمته وقت العقد أقل ثم زادت في يده فإنها زيادة حدثت في ملك المشتري لا حق للبائع فيها فلا يجوز إدخالها في التقويم فإن كان المبيع إناء من فضة وزنه ألف وقيمته ألفان فكسره ثم علم به عيباً لم يجز له الرجوع بأرش العيب لأن ذلك رجوع بجزء من الثمن فيصير الأف بدون الألف وذلك لا يجوز فيفسخ البيع ويسترجع الثمن ثم يغرم أرش الكسر وحكى أبو القاسم الداركي وجهاً آخر أنه يرجع بالأرش لأن ما ظهر من الفضل بالرجوع بالأرش لا اعتبار به والدليل عليه أنه يجوز الرجوع بالأرش في غير هذا ولا يقال إن هذا لا يجوز لأنه يصير الثمن مجهولاً.
فصل: وإن وجد العيب وقد نقص المبيع بمعنى يقف استعلام العيب على جنسه بأن كان جوزاً أو بيضاً أو غير ذلك مما لا يقف على عيبه إلا بكسره فينظر فيه فإن كسره فوجده لا قيمة للباقي كالبيض المذر والرمان العفن فالبيع باطل لأن مالا قيمة له لا يصح

(2/52)


بيعه فيجب رد الثمن فإن كان له قيمة كبيض النعامة والبطيخ الحامض وما دود بعضه من المأكول نظرت فإن كسر منه قدراً لا يوفق على العيب بما دونه ففيه قولان: أحدهما أنه لا يرد وهو قول المزني لأنه نقص حدث في يد المشتري فمنع الرد كقطيع الثوب والثاني لا يمنع الرد لأنه معنى لا يوقف على العيب إلا به فلم يمنع الرد كنشر الثوب فإن قلنا لا يرد رجع بأرش العيب على ما ذكرناه وإن قلنا يرد فهل يلزمه أن يدفع معه أرش الكسر؟ فيه قولان: أحدهما يلزمه كما يلزمه بدل لبن الشاة المصراة والثاني لا يلزمه لأن الكسر الذي يتوصل به إلى معرفة العيب مستحق له فلا يلزمه لأجله أرش فإنا قلنا يلزمه الأرش قوم معيباً صحيحاً ومعيباً مكسوراً ثم يرجع عليه بما بين القيمتين لأنه لما رد انفسخ العقد فصار فيه كالمقبوض بالسوم والمقبوض بالسوم مضمون بالقيمة فضمن نقصانه بما نقص من القيمة ويخالف الأرش مع بقاء العقد لأن المبيع مع بقاء العقد مضمون بالثمن فضمن نقصانه بجزء من الثمن وإن كسر منه قدراً يمكنه الوقوف على العيب بأقل منه ففيه طريقان أحدهما: لا يجوز الرد قولاً واحداً لأنه نقص حدث بمعنى لا يحتاج إليه لمعرفة العيب فمنع الرد كقلع الثوب والثاني أنه على القولين لأنه يشق التمييز بين القدر الذي يحتاج إليه في معرفة العيب وبين ما زاد عليه فسوي بين القليل والكثير.
فصل: وإن لم يعلم بالعيب حتى أبق العبد لم يطالب بالأرش لأنه لم ييأس من الرد فإن رجع رده بالعيب وإن هلك أخذ عنه الأرش فإن لم يعلم بالعيب حتى باعه لم يجز له المطالبة بالأرش قال أبو إسحاق: العلة فيه أنه استدرك الظلامة فغبن كما غبن فزال عنه ضرر العيب وقال أكثر أصحابنا العلة فيه أنه ييأس من الرد لأنه قد يرجع إليه فيرد عليه فإن رد المشتري الثاني بالعيب على المشتري الأول رده على البائع لأنه أمكنه الرد ولم يستدرك الظلامة وإن حدث عند الثاني عيب فرجع على الأول بالأرش رجع هو على بائعه لأنه أيس من الرد ولم يستدرك الظلامة وإن تلف في يد الثاني وقلنا بتعليل أبي إسحاق لم يرجع لأنه استدرك الظلامة وإن قلنا بتعليل غيره رجع بالأرش لأنه قد أيس من الرد وإن رجع المبيع إليه ببيع أو هبة أو إرث لم يرد على تعليل أبي إسحاق لأنه استدرك الظلامة وعلى تعليل غيره يرد لأنه أمكنه الرد فإن لم يعلم بالعيب حتى وهبه من غيره فإن كان بعوض كالبيع وقد بيناه وإن وهبه بغير عوض لم يرجع بالأرش لأنه لم ييأس من الرد فإن رجع إليه ببيع أو هبة أو إرث فله الرد بلا خلاف لأنه أمكنه الرد ولم يستدرك الظلامة.

(2/53)


فصل: والعيب الذي يرد به المبيع ما يعده الناس عيباً فإن خفي منه شيء رجع فيه إلى أهل الخبر بذلك الجنس فإن اشترى عبداً فوجده أعمى أو أعرج أو أصم أو أخرس أو مجذوماً أو أبرص أو مريضاً أو أبخر أو مقطوعاً أو أقرع أو زانياً أو سارقاً أو آبقاً ثبت له الرد لأن هذه عاهات يقتضي مطلق العقد السلامة منها فلا يلزمه العقد مع وجودها وإن وجده يبول في الفراش فإن كان صغيراً لم يرد لأن بول الصغير معتاد فلا يعد عيباً وإن كان كبيراً رد لأن ذلك عاهة ونقص وإن وجده خصياً ثبت له الرد لأن العقد يقتضي سلامة الأعضاء وهذا ناقص وإن وجده غير مختون فإن كان صغيراً لم يثبت له الرد لأنه لا يعد ذلك نقصاً في الصغير لأنه لا يخاف عليه منه وإن كان كبيراً ثبت له الرد لأنه يعد نقصاً لأنه يخاف عليه منه وإن كانت جارية لم ترد صغيرة أو كبيرة لأن ختانها سليم لا يخاف عليها منه وإن اشترى جارية فوجدها مغنية لم ترد لأنه لا تنقص به العين ولا القيمة فلم يعد ذلك عيباً وإن وجدها ثيباً أو مسنة لم يثبت له الرد لأن الثيوبة والكبر ليس بنقص وإنما هو عدم فضيلة فإن وجد المملوك مرتداً أو وثنياً ثبت له الرد لأنه لا يقر على دينه وإن وجده كتابياً لم يثبت له الرد لأن كفره لا ينقص من عينه ولا من ثمنه وإن اشترى أمة فوجدها مزوجة أو عبداً فوجده مستأجراً ثبت له الرد لأن إطلاق البيع يقتضي سلامة المنافع للمشتري ولم يسلم له ذلك فثبت له الرد وإن اشترى شيئاً فتبين أنه غبن في ثمنه لم يثبت له الرد لما روي أن حبان بن منقذ كان يخدع في البيع فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا بعت فلا خلابة ولك الخيار ثلاثاً" ولم يثبت له خيار الغبن ولأن المبيع سليم ولم يوجد من جهة البائع تدليس وإنما فرط المشتري في ترك الاستظهار فلم يجز له الرد.

(2/54)


فصل: وإن اشترى عبداً بشرط أنه كاتب فوجده غير كاتب أو على أنه يحسن صنعة فوجده لا يحسن ثبت له الرد لأنه أنقص مما شرط فجاز له الرد وإن اشتراه على أنه فحل فوجده خصياً ثبت له الرد لأنه الخصي أنقص من الفحل في الخلقة والبطش والقوة وإن شرط أنه خصي فوجده فحلاً ثبت له الرد لأن الفحل دون الخصي في الثمن والدخول إلى الحرم وإن اشتراه على أنه لا يثبت له الرد لأن المسلم أفضل من الكافر وهذا لا يصح لأن المسلم أفضل في الدين إلا أن الكافر أكثر ثمناً لأنه يرغب فيه المسلم والكافر والمسلم لا يشتريه الكافر وإذا اشترى جارية على أنها بكر فوجدها ثيباً ثبت له الرد لأن الثيب دون البكر وإن اشتراها على أنها ثيب فوجدها بكراً لم يثبت له الرد لأن البكر أفضل من الثيب ومن أصحابنا من قال: يثبت له الرد لأنه قد يكون ضعيفاً لا يطيق وطء البكر فكانت الثيب أحب إليه والمذهب الأول لأنه لا اعتبار بما عنده وإنما الاعتبار بما يزيد في الثمن والبكر أفضل من الثيب في الثمن وإن باعه حيواناً على أنه بغل فوجده حماراً أو على أنه حمار فوجده بغلاً ففيه وجهان: أحدهما أن البيع صحيح لأن العقد وقع على العين والعين موجودة فصح البيع وثبت له الرد لأنه لم يجده على ما شرط والثاني أن البيع باطل لأن العقد وقع على جنس فلا ينعقد في جنس آخر وإن اشترى ثوباً أو أرضاً على أنه عشرة أذرع فوجده تسعة فهو بالخيار بين أن يأخذه بجميع الثمن وبين أن يرده لأنه دخل في العقد على أن تسلم له العشرة ولم تسلم له فثبت له الخيار كما لو وجد بالمبيع عيباً وإن وجده أحد عشر ذراعاً ففيه وجهان: أحدهما أن البائع بالخيار بين أن يفسخ العقد وبين أن يسلمه بالثمن ويجبر المشتري على قوله كما أجبرنا البائع إذا كان دون العشرة والثاني أن البيع باطل لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم ما زاد على عشرة ولا إجبار للمشتري على الرضا بما دون الثوب والساحة من الأرض لأنه لم يرض بالشركة والتبعيض فوجب أن يبطل العقد فإن اشترى صبرة على أنها مائة قفيز فوجدها دون المائة فهو بالخيار بين أن يفسخ لأنه لم يسلم له ما شرط وبين أن يأخذ الموجود بحصته من الثمن لأنه يمكن قسمة الثمن على الأجزاء لتساويها في القيمة ويخالف الثوب والأرض لأن أجزاءها مختلفة فلا يمكن قسمة الثمن على أجزائه لأنا لا نعلم كم قيمة الذراع لو كانت موجودة لنسقطها من الثمن وإن وجد الصبرة أكثر من مائة قفيز أخذ المائة بالثمن وترك الزيادة لأنه يمكن أخذ ما عقد عليه من إضرار.
فصل: وإن باع عبداً جانياً ففيه قولان: أحدهما أن البيع صحيح وهو اختيار المزني لأنه إن كانت الجناية عمداً فهو عبد تعلق برقبته قتل فصح بيعه كالعبد المرتد أو يخشى

(2/55)


هلاكه وترجى سلامته فجاز بيعه كالمريض وإن كان خطأً فلأنه عبد تعلق برقبته حق بغير اختياره فلا يمنع من بيعه والقول الثاني أن البيع باطل لأنه عبد تعلق برقبته آدمي فلا يصح بيعه كالمرهون وفي موضع القولين ثلاث طرق: أحدها أن القولين في العمد والخطأ لأن القصاص حق آدمي فهو كالمال ولأنه يسقط إلى مال بالعفو فهو كالمال والثاني أن القولين في جناية لا توجب القصاص فأما فيما توجب القصاص فلا تمنع البيع قولاً واحداً لأنه كالمرتد والثالث أن القولين فيما وجب القصاص فأما فيما يوجب لا مال فلا يجوز قولاً واحداً لأنه كالمرهون فإذا قلنا إن البيع صحيح في قتل العمد فقتل العبد في يد المشتري ففيه وجهان: قال أبو العباس وأبو علي بن أبي هريرة: إن علم المشتري بالجناية في حال العقد لم يرجع عليه بالأرش وإن لم يعلم رجع بأرش العيب لأنه تعلق القتل برقبته كالعيب لأنه ترجى سلامته ويرجه هلاكه فهو كالمريض وإذا اشترى المريض ومات وكان قد علم بمرضه لم يرجع بالأرش وإن لم يعلم رجع فكذلك ههنا فعلى هذا إذا لم يعلم بحاله وقتل قوم وهو جان وقوم غير جان فيرجع بما بينهم من الثمن وقال أبو إسحاق وجود القتل بمنزلة الاستحقاق وهو المنصوص فإذا قتل انفسخ البيع ورجع بالثمن على البائع علم بالجناية حال العقد أو لم يعلم لأنه أزيلت يده عن الرقبة بسبب كان في يد البائع فأشبه إذا استحق ويخالف المريض فإنه لم يمت بالمريض الذي في يد البائع وإنما مات بزيادة مرض حدث في يد المشتري فلم يرجع بجميع الثمن وإن اشترى عبداً مرتداً فقتل في يده ففيه وجهان: في قول أبي إسحاق ينفسخ البيع ويرجع بالثمن وعلى قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة إن كان قد علم بالردة لم يرجع بالأرش وإن لم يعلم رجع بالأرش ووجههما ما ذكرناه في الجاني عمداً وإن قتل العبد في المحاربة وانحتم قتله فقد ذكر الشيخ أبو حامد الاسفرايني رحمه الله في التعليق أن البيع باطل لأنه لا منفعة فيه لأنه مستحق القتل فلا يصح بيعه كالحشرات وقال شيخنا القاضي أبو الطيب يصح بيعه لأن فيه منفعة وهو أن يعتقه فصح بيعه كالزمن فعلى هذا إذا قتل في يد المشتري فحكمه حكم القاتل عمداً في غير المحاربة وقد بيناه.
فصل: إذا باع بشرط البراءة من العيب ففيه طريقان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الأسطخري أن المسألة على ثلاثة أقوال: أحدهما أنه يبرأ من كل عيب لأنه عيب رضي به المشتري فبرئ منه البائع ما لو أوقفه عليه والثاني لا يبرأ من شيء من العيوب لأنه شرط يرتفق به أحد المبايعين فلم يصح مع الجهالة كالأجل المجهول والرهن المجهول والثالث أنه لا يبرأ إلا من عيب واحد وهو العيب الباطن في الحيوان الذي لا

(2/56)


يعلم به البائع لما روى سالم أن أباه باع غلاماً بثمانمائة بالبراءة من كل آفة فوجد الرجل به عيباً فخاصمه إلى عثمان رضي الله عنه فقال عثمان لابن عمر: احلف لقد بعته وما به من داء تعلمه فأبى ابن عمر أن يحلف وقبل الغلام فباعه بعد ذلك بألف وخمسمائة فدل على أنه يبرأ مما لا يعلم ولا يبرأ مما علمه قال الشافعي رحمه الله: ولأن الحيوان يفارق ما سواه لأنه يغتذي بالصحة والسقم وتحول طبائعه وقلما يبرأ من عيب يظهر أو يخفي فدعت الحاجة إلى التبرئ من العيب الباطن فيه لأنه لا سبيل إلى معرفته وتوقيف المشتري عليه وهذا المعنى لا يوجد في العيب الظاهر ولا في العيب الباطن في غير الحيوان فلم يجز التبري منه مع الجهالة والطريق الثاني أن المسألة على قول واحد وهو أنه يبرأ من عيب باطن في الحيوان لم يعلم به ولا يبرأ من غيره وتأول هذا القائل ما أشار إليه الشافعي من القولين الآخرين على أنه حكى ذلك عن غيره ولم يختره لنفسه فإن قلنا إن الشرط باطل فهل يبطل البيع فيه وجهان: أحدهما لا يبطل البيع ويرد المبيع لحديث عثمان رضي الله عنه فإنه أمضى البيع والثاني أنه يبطل البيع لأن هذا الشرط يقتضي جزءاً من الثمن تركه البائع لأجل الشرط فإذا سقط وجب أن يرد الجزء الذي تركه بسبب الشرط وذلك مجهول والمجهول إذا أضيف إلى معلوم صار الجميع مجهولاً فيصير الثمن مجهولاً ففسد العقد والله أعلم.

(2/57)


باب بيع المرابحة
من اشترى سلعة جاز له بيعها برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم" ويجوز أن يبيعها مرابحة وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح بأن يقول ثمنها مائة وقد بعتكها برأس مالها وربح درهم في كل عشرة لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لايرى بأساً بده يازده وده دواز ده ولأنه ثمن معلوم فجاز البيع به كما لو قال بعتك بمائة وعشرة ويجوز أن يبيعها مواضعة رأن يقول رأس مالها مائة وقد بعتك برأس مالها ووضع درهم من كل عشرة لأنه ثمن معلوم فجاز البيع به كما لو قال بعتك بمائة إلا عشرة ويجوز أن يبيع بعضه مرابحة فإن كان مما لا تختلف أجزاؤه كالطعام والعبد والواحد قسم الثمن على أجزائه وباع ما يريد بيعه منه بحصته وإن كان مما يختلف كالثوبين والعبدين قومهما وقسم الثمن عليهما على قدر

(2/57)


قيمتهما ثم باع ما شاء منهما بحصته من الثمن لأن الثمن ينقسم على المبيعين على قدر قيمتهما ولهذا لو اشترى سيفاً وشقصاً بألف قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما ثم أخذ الشفيع الشقص بما يخصه من الثمن على قدر قيمته.
فصل: ولا يخبر بالثمن إلا بالذي لزم به البيع فإن اشترى بثمن ثم حط البائع عنه بعضه أو ألحق به زيادة نظرت فإن كان بعد لزوم العقد لم يلحق ذلك بالعقد ولم يحط في بيع المرابحة ما حط عنه ولا يخبر بالزيادة فيما زاد لأن البيع استقر بالثمن الأول فالحط والزيادة تبرع لا يقابله عوض فلم يتغير به الثمن وإن كان ذلك في مدة الخيار لحق بالعقد وجعل الثمن ماتقرر بعد الحط والزيادة وقال أبو علي الطبري: إن قلنا أن المبيع ينتقل بنفس العقد لم يلحق به لأن المبيع قد ملكه بالثمن الأول فلم يتغير بما بعده والمذهب الأول لأنه وإن كان قد انتقل المبيع إلا أن البيع لم يستقر فجاز أن يتغير الثمن بما يلحق به وإن اشترى ثوباً بعشرة وقصره بدرهم ورفاه بدرهم وطرزه بدرهم قال هو علي بثلاثة عشر وما أشبه ذلك ولا يقول اشتريت بثلاثة عشر ولا يقول ثمنه ثلاثة عشر لأن ذلك كذب وإن قال رأس مالي ثلاثة عشر ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز أن يقول لأن رأس المال هو الثمن والثمن عشرة والثاني يجوز لأن رأس المال ما وزن فيه وقد وزن فيه ثلاثة عشر وإن عمل فيه ذلك بيده قال اشتريته بعشرة وعملت فيه ما يساوي ثلاثة ولا يقول هو علي بثلاثة عشر لأن عمله لنفسه لا أجرة له ولا يتقوم عليه وإن اشترى عيناً بمائة ووجد بها عيباً وحدث عنده عيب آخر فرجع بالأرش وهو عشرة دراهم قال هي علي بتسعين أو تقوم علي بتسعين ولا يجوز أن يقول الثمن مائة لأن الرجوع بالأرش استرجاع جزء من الثمن فخرج عن أن يكون الثمن مائة ولا يقول اشتريتها بتسعين لأنه كذب وإن كان المبيع عبداً فجنى ففداه بأرش الجناية لم يضف ما فداه إلى الثمن لأن الفداء جعل لاستبقاء الملك فلم يضف إلى الثمن كعلف البهيمة وإن جنى عليه فأخذ الأرش ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يحط من الثمن قدر الأرش لأنه كما لا يضيق ما فدى به الجناية إلى الثمن لا يحط ما أخذ عن أرش الجناية عن الثمن والثاني أنه يحط لأنه عوض عن جزء تناوله البيع فحط من الثمن كأرش العيب وإن حدثت من العين فوائد في ملكه كالولد واللبن والثمرة لم يحط ذلك من الثمن لأن العقد لم يتناوله وإن أخذ ثمرة كانت موجودة عند العقد أو لبناً كان موجوداً حال العقد حط من الثمن لأن العقد تناوله وقابله قسط من الثمن فأسقط ما قابله وإن أخذ ولداً كان موجوداً حال العقد فإن قلنا إن الحمل له حكم فهو كاللبن والثمرة

(2/58)


وإن قلنا لا حكم له لم يحط من الثمن شيئاً وإن ابتاع بثمن مؤجل لم يخبر بثمن مطلق لأن الأجل يأخذ جزءاً من الثمن فإن باعه مرابحة ولم يخبره بالأجل ثم علم المشتري بذلك ثبت له الخيار بذلك لأنه دلس عليه بما يأخذ جزءاً من الثمن فثبت له الخيار كما لو باعه شيئاً وبع عيب ولم يعلمه بعيبه وإن اشترى شيئاً بعشرة وباعه بخمسة ثم اشتراه بعشرة أخبر بعشرة ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن ففإن اشترى بعشرة وباعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة ثم أخبر بعشرة ولا يحط ما ربح من الثمن لأن الثمن ما ابتاع به في العقد الذي هو مالك به وذلك عشرة وإن اشترى بعشرة ثم واطأ غلامه فباع منه ثم اشتراه منه بعشرين ليخبر بما اشتراه من الغلام كره ما فعله لأنه لو صرح بذلك في العقد فسد العقد فإذا قصده كره فإن أخبر بالعشرين في بيع المرابحة جاز بيعه من الغلام كبيعه من الأجنبي في الصحة فجاز أن يخبر بما اشترى به منه فإن علم بذلك المشتري لم يثبت له الخيار لأن شراءه بعشرين صحيح.
فصل: إذا قال رأس المال مائة وقد بعتكه برأس المال وربح درهم في كل عشرة أو بربح ده يازده فالثمن مائة وعشرة وإن قال بعتك برأس المال ووضع ده يازده فالثمن أحد وتسعون درهماً إلا جزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم لأنه معناه بعتك بمائة على أن أضع درهماً من كل أحد عشر درهما فسقط تسعة وتسعين درهماً لأنها تسع مرات أحد عشر ويبقى من رأس المال درهم فيسقط منه جزء من أحد عشر جزءاً فيكون الباقي أحداً وتسعين درهماً إلا جزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم وإن قال: بعتك على وضع درهم من كل عشرة ففي الثمن وجهان: أحدهما أن الثمن أحد وتسعون درهماً إلا جزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله والثاني أن الثمن تسعون درهماً وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله وهو الصحيح لأن المائة عشرة مرات عشرة فإذا وضع من كل عشرة درهماً بقي تسعون.
فصل: إذا أخبر أن رأس المال مائة وباع على ربح درهم في كل عشرة ثم قال أخطأت أو قامت البينة أن الثمن كان تسعين فالبيع صحيح وحكى القاضي أبو حامد وجهاً آخر أن البيع باطل لأنه بان أن الثمن كان تسعين وأن ربحها تسعة هذا كان مجهولاً حال العقد فكان العقد باطلاً والمذهب الأول لأن البيع عقد على ثمن معلوم وإنما سقط بعضه بالتدليس وسقوط بعض الثمن لا يفسد البيع كسقوط بعض الثمن بالرجوع بأرش العيب وأما الثمن الذي يأخذه به ففيه قولان: أحدهما أنه مائة وعشرة لأن المسمى في

(2/59)


العقد مائة وعشرة فإذا بان تدليس من جهة البائع لم يسقط من الثمن شيء كما لو باعه شيئاً بثمن فوجد به عيباً والثاني أن الثمن تسعة وتسعون وهو الصحيح لأنه نقل ملك يعتبر فيه الثمن الأول فإذا أخبر بزيادة وجب حط الزيادة كالشفعة والتولية ويخالف العيب فإن هناك الثمن هو المسمى في العقد وههنا الثمن هو رأس المال وقدر الربح وقد بان أن رأس المال تسعون والربح تسعة فإن قلنا إن الثمن مائة وعشرة فهو بالخيار بين أن يمسك المبيع بالثمن وبين أن يفسخ لأنه دخل على أن يأخذ المبيع برأس المال وهذا أكثر من رأس المال فثبت له الخيار وإن قلنا إن الثمن تسعة وتسعون فهل يثبت له الخيار؟ اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما أن له الخيار لأنه إن كان قد أخطأ في الخبر الأول لم يأمن أنيكون قد أخطأ في الثاني وأن لا ثمن غيره وإن كان قد خان في الأول فلا يأمن أن يكون قد خان في الثاني فثبت له الخيار والقول الثاني وهو الصحيح أنه لاخيار له لأن الخيار إنما يثبت لنقص وضرر وهذا زيادة ونفع لأنه دخل على أن الثمن مائة وعشرة وقد رجع إلى تسعة وتسعين فلا وجه للخيار ومنهم من قال إن ثبتت الخيانة بإقرار البائع لزم المشتري تسعة وتسعون ولا خيار له وإن ثبتت بالبينة فهل له الخيار أم لا فيه قولان لأنه إذا ثبتت بالإقرار دل على أمانته فلم يتهم في خيانة أخرى وإذا ثبتت بالبينة كان متهماً في خيانة أخرى فثبت له الخيار قال أصحابنا: القولان إذا كانت العين باقية فأما إذا تلفت العين فإنه يلزم البيع بتسعة وتسعين قولاً واحداً لأنا لو جوزنا له فسخ البيع مع تلف العين رفعنا الضرر عنه وألحقناه بالبائع والضرر لا يزال بالضرر ولهذا لو هلك المبيع عنده ثم علم به عيباً لم يملك الفسخ فإن قلنا لاخيار له وإن قلنا له الخيار فاختار البيع فهل يثبت للبائع الخيار؟ فيه وجهان: أحدهما يثبت له الخيار لأنه لم يرض إلا بالثمن المسمى وهو مائة وعشرة ولم يسلم له ذلك والثاني لاخيار له لأنه رضي برأس المال وربحه وقد حصل له ذلك.
فصل: وإن أخبر أن الثمن مائة وربحه عشرة ثم قال أخطأت والثمن مائة وعشرة لم يقبل قوله لأنه رجوع عن إقرار متعلق به حق آدمي فلم يقبل كما لو أقر له بدين وإن قال لي بينة على ذلك لم تسمع لأنه كذب بالإقرار السابق بينته فلم تقبل فإن قال أحلفوا لي المشتري أنه لا يعلم أن الثمن مائة وعشرة ففيه طريقان: أحدهما أنه إن قال ابتعته بنفسي لم يحلف المشتري لأن إقراره بكذبه وإن قال إبتاعه وكيل لي فظننت أنه ابتاع بمائة وقد بان لي أنه ابتاع بمائة وعشرة حلف لأنه الآن لا يكذبه إقراره والثاني أنه يبني على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعي عليه فإن قلنا أنه كالبينة لم يعرض اليمين

(2/60)


لأنه إذا نكل حصلنا على بينة والبينة لا تسمع وإن قلنا أنه كالإقرار عرضنا اليمين لأنه إذا نكل حصلنا على الإقرار وإقراره مقبول.

(2/61)


باب النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والتسعير والاحتكار
ويحرم النجش وهو أن يزيد في الثمن ليغر غيره والدليل عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش ولأنه خديعة مكر فإن اغتر الرجل بمن ينجش فابتاع فالبيع صحيح لأن النهي لا يعود إلى البيع فلم يمنع صحته كالبيع في حال النداء فإن علم المبتاع بذلك نظرت فإن لم يكن للبائع فيه صنع لم يكن للمبتاع الخيار لأنه ليس من جهة البائع تدليس وإن كان النجش بمواطأة من البائع ففيه قولان: أحدهما أن له الخيار بين الإمساك والرد لأنه دلس عليه فثبت له الرد كما لو دلس عليع بعيب والثاني لا خيار له لأن المشتري فرط في ترك التأمل وترك التفويض إلى من يعرف ثمن المتاع.
فصل: ويحرم أن يبيع على بيع أخيه وهو أن يجيء إلى من اشترى شيئاً في مدة الخيار فيقول افسخ فإني أبيعك أجود منه بهذا الثمن أو أبيعك مثله بدون هذا الثمن لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبع الرجل على بيع أخيه1" ولأن في هذا إفساداً وإنجاشاً فلم يحل فإن قبل منه وفسخ البيع واشترى منه صح البيع لما ذكرناه في النجش.
فصل: ويحرم أن يدخل على سوم أخيه وهو أن يجيء إلى رجل أنعم لغيره في بيع سلعة بثمن فيزيده ليبيع منه أو يجيء إلى المشتري فيعرض عليه مثل السلعة بدون ثمنها أو أجود منها بذلك الثمن لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب
__________
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 58، 64. مسلم في كتاب البيوع حديث 7، 8. أبو داود في كتاب النكاح باب 17. الترمذي في كتاب البيوع باب 57 ابن ماجة في كتاب التجارات باب 13. الدارمي في كتاب البيوع 17، 33. الموطأ في كتاب البيوع حديث 95، 96.

(2/61)


الرجل على خطبة أخيه ولا يسم على سوم أخيه1" ولأن في هذا إفساداً وإنجاشاً فلم يحل فأما إذا جاء إليه فطلب منه متاعاً فلم ينعم له جاز لغيره أن يطلبه لأنه لم يدخل على سومه وإن طلبه منه فسكت ولم يظهر منه رد ولا إجابة ففيه قولان: أحدهما يحرم والثاني لا يحرم كالقولين في الخطبة على خطبة أخيه وأما إذا عرضت السلعة في النداء جاز لمن شاء أن يطلبها ويزيد في ثمنها لما روى أنس رضي الله عنه عن رجل من الأنصار أنه أصابه جهد شديد هو وأهل بيته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فقال: ما عندي شيء إذهب فأتني بما عندك فذهب فجاء بحلس وقدح فقال: يا رسول الله هذا الحلس والقدح فقال: "من يشتري هذا الحلس والقدح" فقال رجل أنا آخذهما بدرهم فقال: "من يزيد على درهم"؟ فسكت القوم قال: "من يزيد على درهم" فقال رجل أن آخذهما بدرهمين فقال: "هما لك" ثم قال بعد ثم قال: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي دم موجع أو فقر مدقع أو غرم مفظع2" ولأن في النداء لا يقصد رجلاً بعينه فلا يؤدي إلى النجش والإفساد.
فصل: ويحرم أن يبيع حاضر لباد وهو أن يقدم رجلاً ومعه متاع يريد بيعه ويحتاج الناس إليه في البلد فإذا باع اتسع وإذا لم يبع ضاق فيجيء إليه سمسار فيقول لا تبع
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 45. مسلم في كتاب النكاح باب 38. الترمذي في كتاب النكاح باب 38. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 10. الموطأ في كتاب النكاح حديث 1، 2.
2 رواه أبو داود في كتاب الزكاةباب 26. الترمذي في كتاب الزكاة باب 23. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 25. أحمد في مسنده "3/114، 127".

(2/62)


حتى أبيع لك قليلاً قليلاً وأزيد في ثمنها لما روى ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع حاضر لباد1" قلت ما لا يبع حاضر لباد قال لا يكون له سمساراً وروى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" فإن خالف وباع له صح البيع لما ذكرناه في النجش فإن كان البلد كبيراً لا يضيق على أهله بترك البيع ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز للخبر والثاني يجوز لأن المنع لخوف الإضرار بالناس ولا ضرر ههنا.
فصل: ويحرم تلقي الركبان وهو أن يتلقى القافلة ويخبرهم بكساد ما معهم من متاع ليغبنهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها الأسواق ولأن هذا تدليس وغرر فلم يحل فإن خالف واشترى صح البيع لما ذكرناه في النجش فإن دخلوا البلد فبان لهم الغبن كان لهم الخيار لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الجلب فمن تلقاها واشترى منهم فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق2" ولأنه غرهم ودلس عليهم فثبت لهم الخيار كما لو دلس عليهم بعيب وإن بان لهم أنه لم يغبنهم ففيه وجهان: أحدهما أن لهم الخيار للخبر والثاني لا خيار لهم لأنه ما غر ولا دلس وإن خرج إلى خارج البلد لحاجة غير التلقي فرأى القافلة فهل يجوز أن يبتاع منهم فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه لم يقصد التلقي والثاني لا يجوز لأن المنع من التلقي للبيع وهذا المعنى موجود وإن لم يقصد التلقي فلم يجز.
__________
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 58. مسلم في كتاب البيوع حديث 11. أبو داود في كتاب البيوع باب 45. النسائي في كتاب البيوع باب 16. الموطأ في كتاب البيوع حديث 96.
2 رواه ابن ماجة في كتاب التجارات باب 16.أحمد في مسنده "2/284".

(2/63)


فصل: ولا يحل للسلطان التسعير لما روى أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس: يا رسول الله سعر لنا فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله هو القابض والباسط والرازق والمسعر وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال1".
فصل: ويحرم الاحتكار في الأقوات وهو أن يبتاع في وقت الغلاء ويمسكه ليزداد في ثمنه ومن أصحابنا من قال: يكره ولا يحرم وليس بشيء لما روى عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" وروى معمر العدوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ2" فدل على أنه حرام فأما إذا ابتاع في وقت الرخص أو جاءه من ضيعته طعام فأمسكه ليبيعه إذا غلا فلا يحرم ذلك لأنه في معنى الجالب وقد روى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون3" وروى أبو الزناد قال: قلت لسعيد بن المسيب: بلغني عنك أنك قلت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحتكر بالمدينة إلا خاطئ وأنت تحتكر! قال: ليس هذا الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالي بها فإما أن يأتي الشيء وقد اتضع فيشتريه ثم يضعه فإن احتاج الناس إليه أخرجه فذلك خير وأما غير الأقوات فيجوز إحتكاره لما روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطعام فدل على أن غيره يجوز ولأنه لا ضرر في احتكار غير الأقوات فلم يمنع منه.
__________
1 أخرجه الترمذي في كتاب البيوع باب 73. أبو داود في كتاب البيوع باب 49. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 37. أحمد في مسنده "2/337".
2 رواه ابن ماجة كتاب التجارات باب 6.الدارمي في كتاب البيوع باب 13.
3 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 129‘ 130. أ [وجاود في كتاب البيوع باب 47. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 6. أحمد في مسنده "3/453".

(2/64)


باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع
إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن ولم تكن بينة تحالفا لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن الناس أعطوا بدعاويهم لادعى الناس من الناس دماء ناس وأموالهم لكن اليمين على المدعى عليه1" فجعل اليمين على المدعى عليه والبائع مدعى عليه بيع بألف والمشتري مدعى عليه بيع بألفين فوجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين لأن كل واحد منهما مدعى عليه ولا بينة فتحالفا كما لو ادعى رجل على رجل ديناراً وادعى الآخر على المدعى درهماً.
فصل: قال الشافعي رحمه الله في البيوع يبدأ بيمين البائع وقال في الصداق إذا اختلف الزوجان يبدأ بيمين الزوج كالمشتري وقال في الدعوى والبينات إن بدأ بالبائع خير المشتري وإن بدأ بالمشتري خير البائع وهذا يدل على أنه مخير بين أن يبدأ بالبائع وبين أن يبدأ بالمشتري فمن أصحابنا من قال فيها ثلاثة أقوال: أحدهما يبدأ بالمشتري لأن جنبته أقوى لأن المبيع على ملكه فكان بالبداية أولى والثاني يبدأ بمن شاء منهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر في الدعوى فتساويا كما لو تداعيا شيئاً في يديهما والثالث أن يبدأ بالبائع وهو الصحيح لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البائع والمبتاع بالخيار2" فبدأ بالبائع ثم خير المبتاع ولأن جنيته أقوى لأنه إذا تحالفا رجع المبيع إليه فكانت البداية به أولى ومن أصحابنا من قال هي على قول واحد أنه يبدأ بالبائع ويخالف الزوج في الصداق لأن جنبته أقوى من جنبة الزوجة لأن البضع بعد التحالف على ملك الزوج فكان بالتقديم أولى وها هنا جنبة البائع أقوى لأن المبيع بعد التحالف على ملك موضع اجتهاد فقال إن حلف الحاكم البائع باجتهاده خير المشتري وإن حلف المشتري خير البائع.
فصل: ويجب أن يجمع كل واحد منهما في اليمين بين النفي والإثبات لأنه يدعي عقداً وينكر عقداً فوجب أن يحلف عليهما ويجب أن يقدم النفي على الإثبات. وقال أبو
__________
1 رواه البخاري في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 3. مسلم في كتاب الأقضية حديث 1. النسائي في كتاب القضاة باب 36. ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 7.
2 رواه الترمذي في كتاب البيوع باب 43. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 19. الدارمي في كتاب البيوع باب 16. الموطأ في كتاب البيوع باب16. الموطأ في كتاب البيوع حديث 80.

(2/65)


سعيد الإصطخري: يقدم الإثبات على النفي كما قدمنا الإثبات على النفي في اللعان والمذهب الأول لأن الأصل في اليمين أن يبدأ بالنفي وهي يمين المدعي عليه فوجب أن يبدأ ههنا أيضاً بالنفي ويخالف اللعان فإنه لا أصل له في البداية بالنفي وهل تجمع بين النفي والإثبات بيمين واحدة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما يجمع بينهما بيمين واحدة وهو المنصوص في الأم لأنه أقرب إلى فصل القضاء فعلى هذا يحلف البائع إنه لم يبع بألف ولقد باع بألفين ويحلف المشتري ما إنه اشترى بألفين ولقد اشترى بألف فإن نكل المشتري قضى للبائع وإن حلف فقد تحالفا والثاني أن يفرد النفي بيمين والإثبات بيمين لأنه دعوى عقد وإنكار فافتقر إلى يمينين ولأنا إذا جمعنا بينهما بيمين واحدة حلفنا البائع على الإثبات قبل نكول المشتري عن يمين النفي وذلك لا يجوز فعلى هذا يحلف البائع أنه ما باع بألفين فإن نكل المشتري حلف البائع أنه باع بألفين وقضى له فإن حلف المشتري حلف البائع أنه باع بألفين ثم يحلف المشتري أنه ابتاع بألف فإن نكل قضى للبائع وإن حلف فقد تحالفا.
فصل: وإذا تحالفا وجب فسخ البيع لأنه لا يمكن إمضاء العقد مع التحالف وهل ينفسخ بنفس التحالف أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما أنه ينفسخ بنفس التحالف كما ينفسخ النكاح في اللعان بنفس التحالف ولأن بالتحالف صار الثمن مجهولاً والبيع لا يثبت مع جهالة العوض فوجب أن ينفسخ والثاني أنه لا ينفسخ إلا بالفسخ بعد التحالف وهو المنصوص لأن العقد في الباطن صحيح لأنه وقع على ثمن معلوم فلا ينفسخ بتحالفهما ولأن البينة أقوى من اليمين ثم لو أقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه لم ينفسخ البيع فلأن لا ينفسخ باليمين أولى وفي الذي يفسخه وجهان: أحدهما أنه يفسخه الحاكم لأنه مجتهد فيه فافتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعيب والثاني أنه ينفسخ بالمتعاقدين لأنه فسخ لاستدراك الظلامة فصح من المتبايعين كالرد بالعيب.
فصل: وإذا فسخ أو انفسخ فهل ينفسخ ظاهراً وباطناً أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما ينفسخ ظاهراً وباطناً لأنه فسخ بالتحالف فوقع ظاهراً وباطناً كفسخ النكاح باللعان ولأنه فسخ بيع لاستدراك الظلامة فصح ظاهراً أو باطناً كالرد بالعيب والثاني أنه ينفسخ في الظاهر دون الباطن لأن سبب الفسخ هو الجهل بالثمن والثمن معلوم في الباطن مجهول في الظاهر فلما اختصت الجهالة بالظاهر دون الباطن اختص البطلان بالظاهر دون الباطن والثالث أنه إن كان البائع هو الظالم وقع الفسخ في الظاهر دون الباطن لأنه يمكنه أن يصدق المشتري ويأخذ منه الثمن ويسلم إليه المبيع فإذا لم يفعل كان ممتنعاً من تسليم

(2/66)


المبيع بظلم فلم ينفسخ البيع وإن كان البائع مظلوماً انفسخ ظاهراً وباطناً لأنه تعذر عليه أخذ الثمن ووجد عين ماله فجاز له أن يفسخ ويأخذ عين ماله كما لو أفلس المشتري ووجد البائع عين ماله فإن قلنا إن الفسخ يقع في الظاهر والباطن عاد المبيع إلى ملك البائع وإلى تصرفه وإن قلنا إن الفسخ في الظاهر دون الباطن نظرت فإن كان البائع هو الظالم لم يجز له قبض المبيع والتصرف فيه بل يلزمه أن يأخذ ما أقر به المشتري من الثمن ويسلم المبيع إليه وإن كان مظلوماً لم يجز له التصرف في المبيع بالوطء والهبة لأنه على ملك المشتري ولكن يستحق البائع الثمن في ذمة المشتري ولا يقدر على أخذه منه فيبيع من المبيع بقدر حقه كما تقول فيمن له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه ووجد شيئاً من ماله.
فصل: وإن اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة في يد المشتري تحالفا وفسخ البيع بينهما لأن التحالف يثبت لرفع الضرر واستدراك الظلامة وهذا المعنى موجود بعد هلاك السلعة فوجب أن يثبت التحالف فإذا تحالفا رجع بقيمته ومتى تعتبر قيمته فيه وجهان: أحدهما تجب قيمته يوم التلف والثاني تجب قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف وقد ذكرنا دليل الوجهين في هلاك السلعة في البيع الفاسد فإن زادت القيمة على ما ادعاه البائع من الثمن وجب ذلك وحكي عن أبي علي بن خيران أنه قال: ما زاد على الثمن لا يجب لأن البائع لا يدعيه فلم يجب كما لو أقر لرجل بما لا يدعيه والمذهب الأول لأنه بالفسخ سقط اعتبار السلعة فالقول قول المشتري لأنه غارم فكان القول قوله كالغاصب فإن تقايلا أو وجد بالمبيع عيباً فرده واختلفا في الثمن فقال البائع الثمن ألف وقال المشتري الثمن ألفان فالقول قول البائع لأن البيع قد انفسخ والمشتري مدع والبائع منكر فكان القول قوله.
فصل: وإن مات المتبايعان فاختلف ورثتهما تحالفوا لأنه يمين في المال فقام الوارث فيها مقام الموروث كاليمين في دعوى المال وإن كان البيع بين وكيلين واختلفا في الثمن ففيه وجهان: أحدهما يتحالفان لأنهما عاقدان فتحالفا كالمالكين والثاني لا يتحالفان لأن اليمين تعرض حتى يخاف الظالم منهما فيرجع والوكيل إذا أقر ثم رجع لم يقبل رجوعه فلا تثبت اليمين في حقه.
فصل: وإن اختلف المتبايعان في قدر المبيع تحالفا لما ذكرنا في الثمن وإن اختلفا في عين المبيع يأن قال البائع بعتك هذا العبد بألف وقال المشتري بل اشتريت هذه الجارية بألف ففيه وجهان: أحدهما يتحالفان لأن كل واحد منهما يدعي عقداً ينكره الآخر

(2/67)


فأشبه إذا اختلفا في قدر المبيع والثاني أنهما لايتحالفا بل يحلف البائع أنه ما باعه الجارية ويحلف المشتري أنه ما اشترى العبد وهو اختيار الشيخ أبي حامد الأسفرايني رحمه الله لأنهما اختلفا في أصل العقد في العبد والجارية فكان القول فيه قول من ينكر كما لوادعى أحدهما على الآخر عبد والآخر جارية من غير عقد فإن أقام البائع بينة أنه باعه العبد وجب على المشتري الثمن فإن كان العبد في يده أقر في يده وإن كان في يد البائع ففيه وجهان: أحدهما يجبر المشتري على قبضه لأن البينة قد شهدت له بالملك والثاني لا يجبر لأن البينة شهدت له بما لا يدعيه فلم يسلم إليه فعلى هذا يسلم إلى الحاكم ليحفظه.
فصل: وإن اختلفا في شرط الخيار أو الأجل أو الرهن أو في قدرها تحالفا لما ذكرناه في الثمن فإن اختلفا في شرط يفسد البيع ففيه وجهان بناءً على القولين في شرط الخيار في الكفالة: أحدهما أن القول قول من يدعي الصحة لأن الأصل عدم ما يفسد والثاني أن القول من يدعي الفساد لأن الأصل عدم العقد فكان القول قول من يدعي ذلك فإن اختلفا في الصرف بعد التفرق فقال أحدهما تفرقنا قبل القبض وقال الآخر تفرقنا بعد القبض ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول من يدعي التفرق قبل القبض لأن الأصل عدم القبض والثاني أن القول قول من يدعي التفرق بعد القبض لأن الأصل صحة العقد وإن اختلفا بعد التفرق فقال أحدهما تفرقنا عن تراض وقال الآخر تفرقنا عن فسخ البيع ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول من يدعي التراضي لأن الأصل عدم الفسخ وبقاء العقد والثاني أن القول قول من يدعي الفسخ لأن الأصل عدم اللزوم ومنع المشتري من التصرف فأما إذا اختلفنا في عيب المبيع ومثله يجوز أن يحدث فقال البائع عندك حدث العيب وقال المشتري بل حدث عندك فالقول قول البائع لأن الأصل عدم العيب فإن اختلفا في المردود بالعيب فقال المشتري هو المبيع وقال البائع الذي بعتك غير هذا فالقول قول البائع لأن الأصل سلامة المبيع وبقاء العقد فكان القول قوله فإن اشترى عبدين فتلف أحدهما ووجد بالآخر عيباً فرده وقلنا إنه يجوز أن يرد أحدهما واختلفا في قيمة التآلف ففيه قولان: أحدهما وهو الصحيح أن القول قول البائع لأنه ملك جميع الثمن فلا يزال ملكه إلا عن القدر الذي يقربه كالمشتري والشفيع إذا اختلفا في الثمن فإن القول قول المشتري لأنه ملك الشقص فلايزال إلا بما يقربه والثاني أن القول قول المشتري لأنه كالغارم فكان القول قوله فإن باعه عشرة أقفزة من صبرة وسلمها بالكيل فادعى المشتري أنها دون حقه ففيه قولان: أحدهما أن القول قول المشتري لأن

(2/68)


الأصل أنه لم يقبض جميعه والثاني أن القول قول البائع لأن العادة فيمن يقبض حقه بالكيل أن يستوفي جميعه فجعل القول قول البائع.
فصل: إذا باعه سلعة بثمن في الذمة ثم اختلفا فقال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن وقال المشتري لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه ثلاثة أقوال: أحدهما يجبر البائع على إحضار المبيع والمشتري على إحضار الثمن ثم يسلم إلى كل واحد منهما ما له دفعة واحدة لأن التسليم واجب على كل واحد منهما فإذا امتنعا أجبرا كما لو كان لأحدهما على الآخر دراهم وللآخر عليه دنانير والثاني لا يجبر واحد منهما بل يقال من يسلم منكما ما عليه أجبر الآخر على تسليم ما عليه لأن على كل واحد منهما حقاً في مقابلة حق له فإذا تمانعا لم يجبر واحد منهما كما لو نكل المدعي عليه فردت اليمين على المدعي فنكل والثالث أنه يجبر البائع على تسليم المبيع ثم يجبر المشتري وهو الصحيح لأن حق المشتري متعلق بعين وحق البائع في الذمة فقدم ما تعلق بعين كأرش الجناية مع غيرها من الديون ولأن البائع يتصرف في الثمن في الذمة فوجب أن يجبر البائع على التسليم ليتصرف المشتري في المبيع ومن أصحابنا من قال المسألة على قول واحد وهو أن يجبر البائع على تسليم المبيع كما ذكرناه وما سواه من الأقوال ذكره الشافعي عن غيره ولم يختره فعلى هذا ينظر فيه فإن كان المشتري موسراً نظرت فإن كان ماله حاضراً أجبر على تسليمه في الحال وإن كان في داره أو دكانه حجر عليه في المبيع وفي سائر أمواله إلى أن يدفع الثمن لأنه إذا لم يحجر عليه لم نأمن أن يتصرف فيه فيضر بالبائع وإن كان غائباً منه على مسافة يقصر فيها الصلاة فللبائع أن يفسخ البيع ويرجع إلى عين ماله لأن عليه ضرراً في تأخير الثمن فجاز له الرجوع إلى عين ماله كما لو أفلس المشتري وإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ففيه وجهان: أحدهما ليس له أن يختار عين ماله لأنه في حكم الحاضر والثاني له أن يختار عين ماله لأنه يخاف عليه الهلاك فيما قرب كما يخاف عليه فيما بعد وإن كان المشتري معسراً ففيه وجهان: أحدهما تباع السلعة ويقضى دينه من ثمنها والمنصوص أنه يرجع إلى عين ماله لأنه تعذر الثمن بالإعسار فثبت له الرجوع إلى عين ماله كما لو أفلس بالثمن وإن كان الثمن معيناً ففيه قولان: أحدهما يجبران والثاني لا يجبر واحد

(2/69)


منهما ويقسط القول الثالث أنه يجبر البائع لأن الثمن المعين كالمبيع في تعلق الحق بالعين والمنع من التصرف فيه قبل القبض.
فصل: وإن باع من رجل عيناً فأحضر المشتري نصف الثمن ففيه وجهان: أحدهما لا يجبر البائع على تسليم شيء من المبيع لأنه محبوس بدين فلا يسلم شيء منه بحضور بعد الدين كالرهن والثاني أنه يجبر على تسليم نصف المبيع لأن كل واحد منهما عوض عن الآخر وكل جزء من المبيع في مقابلة جزء من الثمن فإذا سلم بعض الثمن وجب تسليم ما في مقابلته ويخالف الرهن في الدين فإن الرهن ليس بعوض من الدين وإنما هو وثيقة به فجاز له حبسه إلى أن يستوفي جميع الدين وإن باع من اثنين عبداً بثمن فأحضر أحدهما نصف الثمن وجب تسليم حصته إليه لأنه أحضر جميع ما عليه من الثمن فوجب تسليم ما في مقابلته من المبيع كما لو اشترى عيناً وأحضر ثمنها والله أعلم.
فصل: إذا تلف المبيع في يد البائع قبل التسليم لم يخل إما أن يكون ثمرة أو غيرها فإن كان غير الثمرة نطرت فإن كان تلفه بآفة سماوية انفسخ البيع لأنه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع كما لو اصطرفا وتفرقا قبل القبض فإن كان المبيع عبداً فذهبت يده بآكلة فالمبتاع بالخيار بين أن يرد وبين أن يمسك فإن اختار الرد رجع بجميع الثمن وإن اختار الإمساك أمسك بجميع الثمن لأن الثمن لا ينقسم على الأعضاء فلم يسقط بتلفها شيء من الثمن وإن أتلفه أجنبي ففيه قولان: أحدهما أنه ينفسخ البيع لأنه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع كما لو تلف بآفة سماوية والثاني أن المشتري بالخيار بين أن يفسخ العقد ويرجع بالثمن وبين أن يقر البيع ويرجع عن الأجنبي بالقيمة لأن القيمة عوض عن المبيع فقامت مقامه في القبض فإن كان عبداً فقطع الأجنبي يده فهو بالخيار بين أن يفسخ ويرجع بالثمن وبين أن يجيزه ويرجع على الجاني بنصف قيمته فإن أتلفه البائع ففيه طريقان: قال أبو العباس فيه قولان كالأجنبي وقال أكثر أصحابنا ينفسخ قولاً واحداً لأنه لا يمكن الرجوع على البائع بالقيمة لأن المبيع مضمون عليه بالثمن فلا يجوز أن يكون مضموناً عليه بالقيمة بخلاف الأجنبي فإن المبيع غير مضمون عليه بالثمن فجاز أن يضمنه بالقيمة فإن كان عبداً فقطع البائع يده ففيه وجهان: قال أبو العباس المبتاع بالخيار إن شاء فسخ البيع ورجع بالثمن وإن شاء أجازه ورجع على البائع بنصف القيمة وقال أكثر أصحابنا هو بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أجازه ولا شيء له لأنه جزء من المبيع فلا يضمنه البائع بالقيمة قبل القبض كما لو

(2/70)


ذهب بآكلة فإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن لأن الإتلاف كالقبض ولهذا لو أعتقه جعل إعتاقه كالقبض فكذلك إذا أتلفه فإن كان عبداً فقطع يده لم يجز له أن يفسخ لأنه نقص بفعله إن اندمل ثم تلف في يد البائع رجع البائع على المشتري بأرش النقص فيقوم مع اليد ويقوم بلا يد ثم يرجع بما نقص من الثمن ولا يرجع بما نقص من القيمة لأن المبيع مضمون على المشتري بالثمن فلا يجوز أن يرجع عليه بما نقص من القيمة وإن كان المبيع ثمرة فإن كان على الأرض فهو كغيره من الثمار وقد بيناه وإن كانت على الشجر نظرت فإن تلفت قبل التخلية فهي كغير الثمرة إذا هلك قبل أن يقبض وقد بيناه فإن تلفت بعد التخلية ففيه قولان: أحدهما أنها تتلف من ضمان المشتري لأن التخلية قبض يتعلق به جواز التصرف فدخل في ضمانه كالنقل فيما ينقل والثاني أنها تتلف من ضمان البائع لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق1" وروى جابر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح فإن قلنا بهذا فاختلفا في الهالك فقال البائع الثلث وقال المشتري النصف فالقول قول البائع لأن الأصل عدم الهلاك وإن بلغت الثمار وقت الجداد فلم ينقل حتى هلكت كان هلاكها من ضمان المشتري لأنه وجب عليه النقل فلم يلزم البائع ضمانها والله أعلم.
__________
1 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 14. ا [وداود في كتاب البيوع باب 58. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 33. أحمد في مسنده "3/477".

(2/71)


باب السلم
السلم جائز لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أجله الله في كتابه وأذن فيه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} .
فصل: ولا يصلح السلم إلا من مطلق التصرف في المال لأنه عقد على مال فلا يصح إلا من جاز له التصرف كالبيع قال الشافعي رحمه الله: ويصح السلم من الأعمى قال المزني رحمه الله: أعلم من نطقه أنه أراد الأعمى الذي عرف الصفات قبل أن يعمى

(2/71)


قال أبو العباس: هذا الذي قال المزني حسن فأما الأكمه الذي لا يعرف الصفات فلا يصح سلمه لأنه يعقد على مجهول وبيع المجهول لا يصح وقال أبو إسحاق: يصح السلم من الأعمى وإن كان أكمه لأنه يعرف الصفات بالسماع.
فصل: وينعقد بلفظ السلف والسلم وفي لفظ البيع وجهان: من أصحابنا من قال: لا ينعقد السلم بلفظ البيع فإذا عقد بلفظ البيع كان بيعاً ولا يشترط فيه قبض العوض في المجلس لأن السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه ومنهم من قال ينعقد لأنه نوع بيع يقتضي القبض في المجلس فانعقد بلفظ البيع كالصرف.
فصل: ويثبت فيه خيار المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا" ولا يثبت فيه خيار الشرط لأنه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمامه ولهذا لا يجوز أن يتفرقا قبل قبض العوض فلو أثبتنا فيه خيار الشرط أدى إلى أن يتفرقا قبل تمامه.
فصل: ويجوز مؤجلاً للآية ويجوز حالاً لأنه إذا جاز مؤجلاً فلأن يجوز حالاً وهو من الغرر أبعد أولى ويجوز في المعدوم إذا كان موجوداً عند المحل لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمرة السنتين والثلاث فقال: "أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم1" فلو لم يجز السلم في المعدوم لنهاهم عن السلم في الثمار السنتين والثلاث ويجوز السلم في الموجود لأنه إذا جاز السلم في المعدوم فلأن يجوز في الموجود أولى لأنه أبعد من الغرر.
فصل: ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه وتضبط صفاته كالأثمان والحبوب والثمار والثياب والدواب والعبيد والجواري والأصواف والأشعار والأخشاب والأحجار والطين والفخار والحديد والرصاص والبللور والزجاج وغير ذلك من الأموال التي تباع وتضبط بالصفات والدليل عليه حديث ابن عباس في الثمار وروى عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا نسلف ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا في الزيت والحنطة وروى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على
__________
1 رواه أحمد في مسنده "1/358".

(2/72)


قلاص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في السلم في الكرابيس إذا كان ذرعاً معلوماً إلى أجل معلوم فلا بأس وعن أبي النضر قال: سئل ابن عمر رضي الله عنه عن السلم في السرق قال: لا بأس والسرق الحرير فثبت جواز السلم فيما رويناه في الأخبار وثبت فيما سواه مما يباع ويضبط بالصفات بالقياس على ما ثبت بالأخبار لأنه في معناه.
فصل: وأما ما لا يضبط بالصفة فلا يجوز السلم فيه لأنه يقع البيع فيه على مجهول وبيع المجهول لا يجوز قال الشافعي رحمه الله: ولا يجوز السلم في النبل لأن دقته وغلظه مقصود وذلك لا يضبط ولا يجوز في الجواهر كاللؤلؤ والعقيق والياقوت والفيروزج والمرجان لأن صفاءها مقصود وعلى قدر صفائه يكون ثمنها وذلك لايضبط بالوصف ولا يجوز السلم في الجلود لأن جلد الأوراك غليظ وجلد البطن رقيق ولا يضبط قدر رقته وغلظه ولأنه مجهول المقدار لأنه لا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه ولا يجوز في الرق لأنه لا يضبط رقته وغلظه ويجوز في الورق لأنه معلوم القدر معلوم الصفة.
فصل: ولا يجوز فيما عملت فيه النار كالخبز والشواء لأن عمل النار فيه يختلف فلا يضبط واختلف أصحابنا في اللبأ المطبوخ فقال الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله: لا يجوز لأن النار تعقد أجزاءه فلا يضبط وقال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله يجوز لأن ناره لينة.
فصل: ولا يجوز فيما يجمع أجناساً مقصودة لا تتميز كالغالية والند والمعجون والقوس والخف والحنطة التي فيها الشعير لأنه لا يعرف قدر كل جنس منه ولا يجوز فيما خالطه ما ليس بمقصود من غير حاجة كاللبن المشوب بالماء والحنطة التي فيها الزوان لأن ذلك يمنع من العلم بمقدار المقصود وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد ويجوز

(2/73)


فيما خالطه غيره للحاجة كخل التمر وفيه الماء والجبن وفيه الأنفحة والسمك المملوح وفيه الملح لأن ذلك من مصلحته فلم يمنع جواز العقد ويجوز في الأدهان المطيبة لأن الطيب لا يخالطه وإنما تعبق به رائحته ولا يجوز في ثوب نسج ثم صبغ لأنه سلم في ثوب وصبغ مجهول ويجوز فيما صبغ غزله ثم نسج لأنه بمنزلة صبغ الأصل ولا يجوز في ثوب عمل فيه من غير غزله كالقرقوبي لأن ذلك لا يضبط واختلف أصحابنا في الثوب المعمول من غزلين فمنهم من قال: لا يجوز لأنهما جنسان مقصودان لا يتميز أحدهما عن الآخر فأشبه الغالية ومنهم من قال: يجوز لأنهما جنسان يعرف قدر كل واحد منهما وفي السلم في الرؤوس قولان: أحدهما يجوز لأنه لحم وعظم فهو كسائر اللحوم والثاني لا يجوز لأنه يجمع أجناساً مقصودة لا تضبط بالوصف ولأن معظمه العظم وهو غير مقصود.
فصل: ولا يجوز السلم في الطير لأنه لا يضبط بالسن ولا يعرف قدره بالذرع ولا يجوز السلم في جارية وولدها ولا في جارية وأختها لأنه يتعذر وجود جارية وولدها أو جارية وأخنها على على ماوصف وفي الجارية الحامل طريقان: أحدهما لا يجوز السلم فيها لأن الحمل مجهول والثاني يجوز لأن الجهل بالحمل لاحكم له مع الأم كما نقول في بيع الجارية الحامل وفي السلم في شاة لبون.
فصل: وفي السلم في الأواني المختلفة الأعلى والأسفل كالإبريق والمنارة والكراز وجهان: أحدهما لا يجوز لأنها مختلفة الأجزاء فلم يجز السلم فيها كالجلود والثاني يجوز لأنها يمكن وصفها فجاز السلم فيها كالأسطال المربعة والصحاف الواسعة واختلف أصحابنا في السلم في الدقيق فمنهم من قال لا يجوز وهو قول أبي القاسم الداركي رحمه الله لأنه لا يضبط والثاني يجوز لأنه يذكر النوع والنعومة والجودة فيصير

(2/74)


معلوماً ولا يجوز السلم في العقار لأن المكان فيه مقصود والثمن يختلف باختلافه فلا بد من تعيينه والعين لا تثبت في الذمة.
فصل: ولا يجوز السلم إلا في شيء عام الوجود مأمون الانقطاع في المحل فإن أسلم فيما لا يعم كالصيد في موضع لا يكثر فيه أو ثمرة ضيعة بعينها أو جعل المحل وقتالاً يأمن انقطاعه فيه لم يصح لما روى عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن زيد بن سعنة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً إلى أجل معلوم من حائط بني فلان فقال: "لا يا يهودي ولكن أبيعك تمراً معلوماً إلى كذا وكذا من الأجل" ولأنه لا يؤمن أن يتعذر المسلم فيه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد.
فصل: ولا يجوز السلم إلا فيقدر معلوم لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم1" فإن كان في مكيل ذكر كيلاً معروفاً وإن كان في موزون ذكر وزناً معروفاً وإن كان في مذروع ذكر ذرعاً معروفاً فإن علق العقد على كيل غير معروف كملء زبيل لا يعرف ما يسع أو ملء جرة لا يعرف ما تسع أو زنة صخرة لا يعرف وزنها أو ذراع رجل بعينه لم يجز لأن المعقود عليه غير معلوم في الحال لأنه لا يؤمن أن يهلك ما علق عليه العقد فلا يعرف قدر المسلم فيه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد كما لو علقه على ثمرة حائط بعينه وإن أسلم فيما يكال بالوزن وفيما يوزن بالكيل جاز لأن القصد أن يكون معلوماً والعلم يحصل بذلك وإن أسلم فيما لا يكال ولا يوزن كالجوز والبيض والقثاء والبطيخ والبقل والرؤوس إذا جوزنا السلم فيها أسلم بالوزن وقال أبو إسحاق: يجوز أن يسلم في الجوز كيلاً لأنه لا يتجافى في المكيال والمنصوص هو الأول.
فصل: ولا يجوز حتى يصف المسلم فيه بالصفات التي تختلف بها الأثمان كالصغر والكبر والطول والعرض والدور والسمك والنعومة والخشونة واللين والصلابة والرقة والصفاقة والذكورية والأنوثية والثيوبية والبكارة والبياض والحمرة والواد والسمرة والرطوبة واليبوسة والجودة والرداءة وغير ذلك من الصفات التي تختلف بها الأثمان
__________
1 رواه أحمد في مسنده "1/358".

(2/75)


ويرجع فيما لا يعلم من ذلك إلى نفسين من أهل الخبرة وإن شرط الأجود لم يصح العقد لأن ما من جيد إلا ويجوز أن يكون فوقه ما هو أجود منه فيطالب به فلا يقدر عليه وإن شرط الأردأ ففيه قولان: أحدهما لا يصح لأنه ما من رديء إلا ويجوز أن يكون دونه ما هو أردأ منه فيصير كالأجود والثاني أنه يصح لأنه إن كان ما يحضره هو الأردأ فهو الذي أسلم فيه وإن كان دونه أردأ منه فقد تبرع بما أحضره فوجب قبوله فلا يتعذر التسليم وإن أسلم في ثوب من الصفات التي يختلف بها الثمن وشرط أن يكون وزنه قدراً معلوماً ففيه وجهان: أحدهما لا يصح وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني لأنه لا يتفق ثوب على هذه الصفات مع الوزن المشروط إلا نادراً فيصير كالسلم في جارية وولدها وكالسلم فيما لا يعم وجوده والثاني أنه يجوز لأن الشافعي رحمه الله نص على أنه إذا أسلم في آنية وشرط وزناً معلوماً جاز فكذلك ههنا.
فصل: فإن أسلم في المؤجل وجب بين أجل لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" ولأن الثمن يختلف باختلافه فوجب بيانه كالكيل والوزن وسائر الصفات والأجل المعلوم ما يعرفه الناس كشهور العرب وشهور الفرس وشهور الروم وأعياد المسلمين والنيروز والمهرجان فإن أسلم إلى الحصاد أو إلى العطاء أو إلى عيد اليهود والنصارى لم يصح لأنه ذلك غير معلوم لأنه يتقدم ويتأخر وإن جعله إلى شهر ربيع أو جمادى صح وحمل على الأول منهما ومن أصحابنا من قال: لا يصح حتى يبين والمذهب الأول لأنه نص على أنه إذا جعل إلى النفر حمل على النفر الأول فإن قال إلى يوم كذا كان المحل إذا طلع الفجر فإن قال إلى شهر كذا كان المحل إذا غربت الشمس من الليلة التي يرى فيها الهلال فإن قال محله في يوم كذا أو سنة كذا ففيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة يجوز ويحمل على أوله كما لو قال لامرأته أنت طالق في يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا فإن الطلاق يقع في أولها والثاني لا يجوز وهو الصحيح لأن ذلك يقع على جميع أجزاء اليوم والشهر والسنة فإذا لم يبين كان مجهولاً ويخالف الطلاق فإنه يجوز إلى أجل

(2/76)


مجهول وإذا صح تعلق بأوله بخلاف السلم فإن ذكر شهوراً مطلقة حمل على شهور الأهلة لأن الشهور في عرف الشرع شهور الأهلة فجمل العقد عليها فإن كان العقد في الليلة التي رؤي فيها الهلال اعتبر الجميع بالأهلة وإن كان العقد في أثناء الشهر اعتبر شهراً بالعدد وجعل الباقي بالأهلة فإن أسلم في حال وشرط أنه حاال صح العقد وإن أطلق ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه أحد محلي السلم فوجب بينه كالمؤجل والثاني أنه يصح ويكون حالاً لأن ما جاز حالاً ومؤجلاً حمل إطلاقه على الحال كالثمن في البيع وإن عقد السلم حالاً وجعله مؤجلاً أو مؤجلاً فجعله حالاً أو زاد في أجله أو نقص نظرت فإن كان ذلك بعد التفرق لم يلحق بالعقد لأن العقد استقر فلا يتغير وإن كان قبل التفرق لحق بالعقد وقال أبو علي الطبري إن قلنا أن المبيع انتقل بنفس العقد لم يلحق به والصحيح هو الأول وقد ذكرناه في الزيادة في الثمن.
فصل: وإن أسلم في جنسين إلى أجل أو في جنس إلى أجلين ففيه قولان: أحدهما أنه لا يصح لأن ما يقابل أحد الجنسين أقل مما يقابل الآخر وذلك مجهول فلم يجز والثاني أنه يصح وهو الصحيح لأن كل بيع جاز في جنس واحد وأجل واحد جاز في جنسين وفي أجلين كبيع الأعيان ودليل القول الأول يبطل ببيع الأعيان فإنه يجوز إلى أجلين وفي جنسين مع الجهل بما يقابل كل واحد منهما.
فصل: وأما بيان موضع التسليم فإنه إن كان في العقد في موضع لا يصلح للتسليم كالصحراء وجب بيانه وإن كان موضع يصلح للتسليم ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يجب بيانه لأنه يختلف الغرض باختلافه فوجب بيانه كالصفات والثاني لا يجب بل يحمل على موضع العقد كما نقول في بيع الأعيان والثالث أنه إن كان لحمله مؤنة وجب بيانه لأنه يختلف الثمن باختلافه فوجب بيانه كالصفات التي يختلف الثمن باختلافها فإن لم يكن

(2/77)


لحمله مؤنة لميجب بيانه لأنه لا يختلف الثمن باختلافها فلم يجب بيانه كالصفات التي لا يختلف الثمن باختلافها.
فصل: ولا يجوز تأخير قبض رأس المال عن المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم: "أسلفوا في كيل معلوم" والإسلاف هو التقديم ولأنه إنما سمي سلماً لما فيه من تسليم رأس المال فإذا تأخر لم يكن سلماً فلم يصح ويجوز أن يكون رأس المال في الذمة ثم يعينه في المجلس ويسلمه ويجوز أن يكون معيناً فإن كان في الذمة نظرت فإن كان من الأثمان حمل على نقد البلد وإن كان في البلد نقود حمل على الغالب منها وإن لم يكن في البلد نقد غالب وجب بيان نقد معلوم وإن كان رأس المال عرضاً وجب بين الصفات التي تختلف بها الأثمان لأنه عوض في الذمة غير معلوم بالعرف فوجب بيان صفاته كالمسلم فيه وإن كان رأس المال معيناً ففيه قولان: أحدهما يجب ذكر صفاته ومقداره لأنه لا يؤمن أن ينفسخ السلم بانقطاع المسلم فيه فإذا لم يعرف مقداره وصفته لم يعرف ما يرده والثاني لا يجب ذكر صفاته ومقداره لأنه عوض في عقد لا يقتضي رد المثل فوجب أن تغني المشاهدة عن ذكر صفاته ومقداره كالمهر والثمن في البيع وإن كان رأس المال بما لا يضبط بالصفة كالجواهر وغيرها فعلى القولين إن قلنا يجب صفاته لم يجز أن يجعل ذلك رأس المال لأنه لا يمكن ذكر صفاته وإن قلنا لا يجب جاز أن يجعل ذلك رأس المال لأنه معلوم بالمشاهدة والله أعلم.

(2/78)


باب تسليم المسلم فيه
إذا حل دين السلم وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد فإن كان المسلم فيه تمراً لزمه ما يقع عليه اسم التمر على الإطلاق فإن أحضر حشفاً أو رطباً لم يقبل منه فإن كان رطباً لزمه ما يطلق عليه اسم الرطب على الإطلاق ولا يقبل منه بسر ولا منصف ولا مذنب ولا مشدخ وإن كان طعاماً لزمه ما نقى من التبن فإن كان فيه قليل تراب نظرت فإن كان أسلم فيه كيلاً قبل منه لأن القليل من التراب لا يظهر في الكيل وإن أيلم فيه وزناً لم يقبل منه لأنه يظهر في الوزن فيكون المأخوذ من الطعام دون حقه وإن كان عسلاً لزمه ما صفى من الشمع فإن أسلم إليه في ثوب فأحضر ثوباً

(2/78)


أجود منه لزمه قبوله لأنه أحضر المسلم فيه وفيه زيادة صفة لا تتميز فلزمه قبوله فإن جاءه بالأجود وطلب عن الزيادة عوضاً لم يجز لأنه بيع صفة والصفة لا تفرد بالبيع فإن أتاه بثوب رديء لم يجبر على قبوله لأنه دون حقه فإن قال خذه وأعطيك للجودة درهماً لم يجز لأنه بيع صفة ولأنه بيع جزء من المسلم فيه قبل قبضه فإن أسلم في نوع آخر من ذلك الجنس كالمعقلي عن البرني والهروي عن المروي ففيه وجهان: قال أبو إسحاق لا يجوز لأنه غير الصنف الذي أسلم فيه فلم يجز أخذه عنه كالزبيب عن التمر وقال أبو علي ابن أبي هريرة يجوز لأن النوعين من جنس واحد بمنزلة النوع الواحد ولهذا يحرم التفاضل في بيع أحدهما بالآخرة ويضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب في الزكاة فإن اتفق أن يكون رأس المال على صفة المسلم فيه فأحضره ففيه وجهان: أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب في الزكاة ففيه وجهان: أحدهما إن اتفق أن يكون رأس المال على صفة المسلم فيه فأحضره ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز قبوله لأنه يصير الثمن هو المثمن والعقد يقتضي أن يكون الثمن غير المثمن والثاني أنه يجوز لأن الثمن هو الذي سلم إليه والمثمن هو الموصوف وإن أسلم إلى محل فأحضر المسلم فيه قبله أو شرط أن يسلم إليه في مكان فأحضر المسلم فيه في غير ذلك المكان فامتنع المسلم من أخذه نظرت فإن كان له غرض صحيح في الامتناع لزمه أخذه فإن لم يأخذه رفع إلى الحاكم ليأخذه عنه والدليل عليه ماروي أن أنساً رضي الله عنه كاتب عبداً له على مال إلى أجل فجاءه بمال قبل الأجل فأبى أن يأخذه فأتى عمر رضي الله عنه فأخذه منه وقال له إذهب فقد عتقت ولأنه زاده بالتقديم خيراً فلزمه قبوله وإن سأله المسلم أن يقدمه قبل المحل فقال أنقصني من الدين حتى أقدمه ففعل لم يجز لأنه بيع أجل والأجل لا يفرد بالبيع ولأن هذا في معنى ربا الجاهلية فإن كان من في الجاهلية يقول من عليه الدين زدني في الأجل أزدك في الدين.
فصل: وإن أسلم إليه في طعام بالكيل أو اشترى منه طعاماً بالكيل فدفع إليه الطعام من غير كيل لم يصح القبض لأن المستحق قبض بالكيل فلا يصح قبض بغير الكيل فإن كان المقبوض باقياً رده على البائع ليكيله له وإن تلف في يده قبل الكيل تلف من ضمانه لأنه قبض حقه وإن ادعى أنه كان دون حقه فالقول قوله لأن الأصل أنه لم يقبض إلا ماثبت بإقراره فإن باع الجميع قبل الكيل لم يصح لأنه لا يتحقق أن الجميع له وإن باع منه القدر الذي يتحقق أنه له ففيه وجهان: أحدهما يصح وهو قول أبي إسحاق لأنه دخل في ضمانه فنفذ بيعه فيه كما لو قبضه بالكيل والثاني لا يصح وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وهو المنصوص في الصرف لأنه باعه قبل وجود القبض

(2/79)


المستحق بالعقد فلم يصح بيعه كما لو باعه قبل أن يقبضه فإن دفع إليه بالكيل ثم ادعى أنه دون حقه فإن كان ما يدعيه قليلاً قبل منه وإن كان كثيراً لم يقبل لأن القليل يبخس به والأصل عدم القبض والكثير لا يبخس به فكان دعواه مخالفاً للظاهر فلم يقبل.
فصل: فإن أحاله على رجل له عليه طعام لم يصح لأن الحوالة بيع وقد بينا في كتاب البيوع أنه لا يجوز بيع المسلم فيه قبل القبض وإن قال لي عند رجل طعام فأحضر معي حتى أكتاله لك فحضر واكتاله له لم يجز لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري وهذا لم يجر فيه الصاعان وهل ييصح قبض المسلم إليه لنفسه فيه وجهان بناء على القولين فيمن باع دين المكاتب فقبضمنه المشتري فإن قبض المشتري لنفسه لا يصح وهل يصح القبض للسيد فيه قولان: أحدهما يصح لأنه قبضه بإذنه فصار كما لو قبضه وكيله والثاني لا يصح لأنه لم يأذن له في قبضه له وإنما أذن له في قبضه لنفسه فلا يصير القبض له ويخالف الوكيل فإنه قبضه لموكله فإن قلنا إن قبضه لا يصح اكتال لنفسه مرة أخرى ثم يكيله للمسلم وإن قلنا إن قبضه يصح كاله للمسلم فإن قال أحضر معي حتى أكتاله لنفسي وتأخذه ففعل ذلك صح القبض للمسلم إليه لأنه قبضه لنفسه قبضاً صحيحاً ولا يصح للمسلم لأنه دفعه إليه من غير كيل وإن اكتاله لنفسه وسلم إلى المسلم وهو في المكيال ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان وهذا يقتضي كيلاً بعد كيل وذاك لم يوجد والثاني أنه يصح لأن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه ولو ابتدأ بكيله جاز فكذلك إذا استدامه.
فصل: وإن دفع المسلم إليه إلى المسلم دراهم وقال اشتر لي بها مثل مالك علي واقبضه لنفسك ففعل لم يصح قبضه لنفسه وهل يصح للمسلم إليه على الوجهين المبينين على القولين في دين المكاتب فإن قال اشتري لي واقبضه لي ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء والقبض للمسلم إليه ولا يصح قبضه لنفسه لأنه لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في قبض حق نفسه.
فصل: إذا قبض المسلم فيه وجد به عيباً فله أن يرده لأن إطلاق العقد يقتضي مبيعاً سليماً فلا يلزمه قبول المعيب فإن رد ثبت له المطالبة بالسليم لأنه أخذ المعيب عما في الذمة فإذا رده رجع إلى ماله في الذمة وإن حدث عنده عيب رجع بالأرش لأنه لا يمكنه رده ناقصاً عما أخذ ولا يمكن إجباره على أخذه مع العيب فوجب الأرش.

(2/80)


فصل: فإن أسلم في ثمرة فانقطعت في محلها أو غاب المسلم إليه فلم يظهر حتى نفدت الثمرة ففيه قولان: أحدهما أن العقد ينفسخ لأن المعقود عليه ثمرة هذا العام وقد هلكت فانفسخ العقد كما لو اشتري لي واقبضه لي ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء والقبض للمسلم إليه ولا يصح قبضه لنفسه لأنه لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في قبض حق نفسه.
فصل: إذا قبض المسلم فيه ووجد به عيباً فله أن يرده لأن إطلاق العقد يقتضي مبيعاً سليماً فلا يلزمه قبول المعيب فإن رد ثبت له المطالبة بالسليم لأنه أخذ المعيب عما في الذمة فإذا رده رجع إلى ماله في الذمة وإن حدث عنده عيب رجع بالأرش لأنه لا يمكنه رده ناقصاً عما أخذ ولا يمكن إجباره على أخذه مع العيب فوجب الأرش.
فصل: فإن أسلم في ثمرة فانقطعت في محلها أو غاب المسلم إليه فلم يظهر حتى نفدت الثمرة ففيه قولان: أحدهما أن العقد ينفسخ لأن المعقود عليه ثمرة هذا العام وقد هلك فانفسخ العقد كما لو اشترى قفيزاً من صبرة فهلكت الصبرة والثاني أنه لا ينفسخ لكنه بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر إلى أن توجد الثمرة فيأخذها لأن المعقود عليه ما في الذمة لا ثمرة هذا العام والدليل عليه أنه لو أسلم إليه في ثمرة عامين فقدم في العام الأول ما يجب له في العام الثاني جاز وما في الذمة لم يتلف وإنما تأخر فثبت له الخيار كما لو اشترى عبداً فأبق.
فصل: يجوز فسخ عقد السلم بالإقالة لأن الحق لهما فجاز لهما الرضا بإسقاطه فإذا فسخا وانفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال فإن كان باقياً وجب رده وإن كان تالفاً ثبت بدله في ذمة المسلم إليه فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين وإن أراد أن يشتري به عيناً نظرت فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عيناً بعين وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان: أحدهما يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عيناً بعين أن يتفرقا من غير قبض والثاني لا يجوز لأن المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه والله أعلم.

(2/81)


باب القرض
القرض قربة مندوب إليه لما روى أبوهريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من

(2/81)


كشف عن مسلم كربة كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه1" وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: لأن أقرض دينارين ثم يردا ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: قرض مرتين خير من صدقة مرة.
فصل: ولا يصح إلا من جائز التصرف لأنه عقد على المال فلا يصح إلا من جائز التصرف كالبيع ولا ينعقد إلا يالإيجاب والقبول لأنه تمليك آدمي فلا يصح من غير إيجاب وقبول كالبيع والهبة ويصح بلفظ القرض والسلف لأن الشرع ورد بهما ويصح بما يؤدي معناه وهو أن يقول ملكتك هذا على أن ترد علي بدله فإن قال ملكتك ولم يذكر البدل كان هبة فإن اختلفا فيه فالقول قول الموهوب له لأنه الظاهر معه فإن التمليك من غير ذكر عوض هبة في الظاهر وإن قال أقرضتك ألفاً وقبل وتفرقا ثم دفع إليه ألفاً فإن لم يطل الفصل جاز لأن الظاهر أنه قصد الإيجاب وإن طال الفصل لم يجز حتى يعيد لفظ القرض لأنه لا يمكن البناء على العقد مع طول الفصل.
فصل: وإن كتب إليه وهو غائب أقرضتك هذا أو كتب إليه بالبيع ففيه وجهان: أحدهما ينعقد لأن الحاجة مع الغيبة داعية للكتابة والثاني لا ينعقد لأنه قادر على النطق فلا ينعقد عقده بالكتابة كما لو كتب وهو حاضر وقول القائل الأول إن الحاجة داعية إلى الكتابة لا يصح لأنه يمكنه أن يوكل من يعقد العقد بالقول.
فصل: ولا يثبت فيه خيار المجلس وخيار الشرط لأن الخيار يراد للفسخ وفي القرض يجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء فلا معنى لخيار المجلس وخيار الشرط ولا يجوز شرط الأجل فيه لأن الأجل يقتضي جزءاً من العوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه فلا يجوز شرط الأجل فيه ويجوز شرط الرهن فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه على شعير أخذه لأهله ويجوز أخذ الضمين فيه لأنه وثيقة فجاز في القرض كالرهن.
فصل: وفي الوقت الذي يملك فيه وجهان: أحدهما أنه يملكه بالقبض لأنه عقد
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصائم باب 3. مسلم في كتاب البر حديث 59. أبو داود في كتاب الأدب باب 38، 60. الترمذي في كتاب الحدود باب 3. أحمد في مسنده "2/91، 252".

(2/82)


يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك فيه على القبض كالهبة فعلى هذا إذا كان القرض حيواناً فنفقته بعد القبض على المستقرض فإن اقترض أباه وقبضه عتق عليه والثاني أنه لا يملكه إلا بالتصرف بالبيع والهبة والإتلاف لأنه لو ملك قبل التصرف لما جاز للمقرض أن يرجع فيه بغير رضاه فعلى هذا تكون نفقته على المقرض فإن اقترض أباه لم يعتق عليه قبل أن يتصرف فيه واختلف أصحابنا فيمن قدم طعاماً إلى رجل ليأكله على أربعة أوجه: أحدهما أنه يملكه بالأخذ والثاني أنه يملكه بمركه في الفم والثالث أنه يملكه بالبلع والرابع أنه لا يملكه بل يأكله على ملك صاحب الطعام.
فصل: ويجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف لأنه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز أن يملك ويضبط بالوصف كالسلم فأما ما لا يضبط بالوصف كالجواهر وغيرها ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن القرض يقتضي رد المثل وما لا يضبط بالوصف لا مثل له والثاني يجوز لأن ما لا مثل له يضمنه المستقرض بالقيمة والجواهر كغيرها في القيمة ولا يجوز إلا في مال معلوم القدر فإن أقرضه دراهم لا يعرف وزنها أو طعاماً لا يعرف كيله لم يجز لأن القرض يقتضي رد المثل فإذا لم يعلم القدر لم يمكن القضاء.
فصل: ويجوز استقراض الجارية لمن لا يحل له وطؤها كالبيع والهبة والمنصوص هو الأول لأنه عقد إرفاق جائز من الطرفين فلا يستباح الوطء كالعارية ويخالف البيع والهبة فإن الملك فيهما تام لأنه لو أراد كل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ لم يملك والملك في القرض غير تام لأنه يجوز لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ فلو جوزنا فيمن يحل له وطؤها أدى إلى الوطء في ملك غير تام وذلك لا يجوز وإن أسلم جارية في جارية ففيه وجهان: قال أبو إسحاق لا يجوز لأنا لا نأمن أن يطأها ثم يردها عن التي تستحق عليه فيصير كمن اقترض جارية فوطئها ثم ردها ومن أصحابنا من قال: يجوز وهو المذهب لأن كل عقد صح في العبد بالعبد صح في الجارية بالجارية كالبيع.
فصل: ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه ألفاً على أن يبني داره أو على

(2/83)


أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له بها سفتجة يربح فيها خطر الطريق والدليل عليه ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع والسلف هو القرض في لغة أهل الحجاز وروي عن أبي كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولأنه عقد إرفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه فإن شرط أن يرد عليه دون ما أقرضه ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن مقتضى القرض رد المثل فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافي مقتضاه فلم يجز كما لو شرط الزيادة والثاني يجوز لأن القرض جعل رفقاً بالمستقرض وشرط الزيادة يخرج به عن موضوعه فلم يجز وشرط النقصان لا يخرج به عن موضوعه فجاز فإن بدأ المستقرض فزاده أو رد عليه ما هو أجود منه أو كتب سفتجة أو باع منه داره جاز لما روى أبو رافع رضي الله عنه قال: استسلف رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكراً فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكراً فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطه فإن خياركم أحسنكم قضاء1" وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فقضاني وزادني فإ عرف لرجل عادة أنه إذا استقرض زاد في العوض ففي إقراضه وجهان: أحدهما لا يجوز إقراضه إلا أن
__________
1 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 118, 120، 122.

(2/84)


يشترط رد المثل لأن المتعارف كالمشروط ولو شرط الزيادة لم يجز فكذلك إذا عرف بالعادة والثاني أنه يجوز وهو المذهب وإن الزيادة مندوب إليها فلا يجوز أن يمنع ذلك صحة العقد فإن شرط في العقد شرطاً فاسداً بطل الشرط وفي القرض وجهان: أحدهما أنه يبطل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل قرض جر منفعة فهو ربا" ولأنه إنما أقرضه بشرط ولم يسلم الشرط فوجب أن لا يسلم القرض والثاني أنه يصح لأن القصد منه الإرفاق فإذا زال الشرط بقي الإرفاق.
فصل: ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل ولهذا يقال الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل وفيما لا مثل له وجهان: أحدهما يجب عليه القيمة لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات والثاني يجب عليه مثله في الخلقة والصورة لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر ولأن ما ثبت في الذمة بعقد السلم ثبت بعقد القرض قياساً على ماله مثل ويخالف المتلفات فإن المتلف متعد فلم يقبل منه إلا القيمة لأنها أحصر وهذا عقد أجيز للحاجة فقبل فيه مثل ما قبض كما قبل في السلم مثل ما وصف فإن اقترض الخبز وقلنا يجوز إقراض ما لا يضبط بالوصف ففي الذي يرد وجهان: أحدهما مثل الخبز والثاني ترد القيمة فعلى هذا إذا أقرضه الخبز وشرط أن يرد عليه الخبز ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن مبناه على الرفق فلو منعناه من رد الخبز شق وضاق والثاني لا يجوز لأنه إذا شرط صار بيع خبز بخبز وذلك لا يجوز.
فصل: إذا أقرضه دراهم بمصر ثم لقيم بمكة فطالبه بها لزمه دفعها إليه فإن طالبه المستقرض بأن يأخذها وجب عليه أخذها لأنه لا ضرر عليه في أخذها فوجب أخذها فإن أقرضه طعاماً بمصر فلقيه بمكة فطالبه به لم يجبر على دفعه إليه لأن الطعام بمكة أغلى فإن طالبه المستقرض بالأخذ لم يجبر على أخذه لأن عليه مؤنة في حمله فإن تراضيا جاز لأن المنع لحقهما وقد رضيا جميعاً فإن طالبه بقيمة الطعام بمكة أجبر على دفعها لأنه بمكة كالمعدوم وماله مثل إذا عدم وجبت قيمته ويجب قيمته بمصر لأنه يستحقه بمصر فإن أراد أن يأخذ عن بدل القرض عوضاً جاز لأن ملكه عليه مستقر فجاز أخذ العوض عنه كالأعيان المستقرة وحكمه في اعتبار القبض في المجلس حكم ما يأخذه بدلاً عن رأس مال السلم بعد الفسخ وقد بيناه والله أعلم.

(2/85)