المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب إحياء الموات
مدخل
...
كتاب إحياء الموات
يستحب إحياء الموات لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر وما أكله العوافي منها فهو له صدقة1" وتملك به الأرض لما روى سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" ويجوز ذلك من غير إذن الإمام للخبر ولأنه تملك مباح فلم يفتقر إلى إذن الإمام كالاصطياد.
فصل: وأما الموات الذي جرى عليه الملك وباد أهله ولم يعرف مالكه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يملك بالإحياء لما روى طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عادي الأرض لله ورسوله ثم هي لكم بعد" ولأنه إن كان في دار الإسلام فهو كاللقطة التي لا يعرف مالكها وإن كان في دار الحرب فهو كالركاز والثاني لا يملك لأنه إن كان في دار الإسلام فهو لمسلم ولذمي أو لبيت المال فلا يجوز إحياؤه وإن كان في دار الحرب جاز أن يكون لكافر لا يحل ماله أو لكافر لم تبلغه الدعوة فلا يحل ماله ولا يجوز تملكه والثالث أنه إن كان في دار الإسلام لم يملك وإن كان في دار الحرب ملك لأن ما كان في دار الإسلام فهو في الظاهر لمن له حرمة وما كان في دار الحرب فهو في الظاهر لمن لا حرمة له ولهذا ما يوجد في دار الحرب يخمس وما يوجد في دار الإسلام يجب تعريفه وإن قاتل الكفار عن أرض ولم يحيوها ثم ظهر المسلمون عليها ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز أن تملك بالإحياء بل هي غنيمة بين الغانمين لأنهم لما منعوا عنها صاروا فيها كالمتحجرين فلم تملك بالإحياء والثاني أنه يجوز أن تملك بالإحياء لأنهم لم يحدثوا فيها عمارة فجاز أن تملك بالإحياء كسائر الموات.
فصل: وما يحتاج إليه لمصلحة العامر من المرافق كحريم البئر وفناء الدار والطريق
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحرث باب 15. أبو داود في كتاب الإمارة باب 37. الترمذي في كتاب الأحكام باب 38. الموطأ في كتاب 26، 27. أحمد في مسنده "3/303،304".

(2/293)


ومسيل الماء لا يجوز إحياؤه لأنه تابع للعامر فلا يملك بالإحياء ولأنا لو جوزنا إحياءها أبطلنا الملك في العامر على أهله وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالإحياء لأن الشرع قد ورد بإحياء الموات وهذا من جملة العامر لنا لو جوزنا ذلك ضيقنا على الناس في أملاكهم وطرقهم وهذا لا يجوز.
فصل: ويجوز إحياء كل من يملك المال لأنه فعل يملك به فجاز من كل من يملك المال كالاصطياد ولا يجوز للكافر أن يملك بالإحياء في دار الإسلام ولا للإمام أن يؤذن له في ذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني" فجمع الموتان وجعلها للمسلمين فانتفى أن يكون لغيرهم ولأن موات الدار من حقوق الدار والدار للمسلمين فكان الموات لهم كمرافق المملوك لا يجوز لغير المالك إحياؤه ولا يجوز للمسلم أن يحيي الموات في بلد صولح الكفار على المقام فيه لأن الموات تابع للبلد فإن لم يجز تملك البلد عليهم لم يجز تملك مواته.
فصل: والإحياء الذي يملك به أن يعمر الأرض لما يريده ويرجع في ذلك إلى العرف لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإحياء ولم يبين فحمل على المتعارف فإن كان يريده للسكنى فأن يبني سور الدار من اللبن والآجر والطين والجص إن كانت عادتهم ذلك أو القصب أو الخشب إن كانت عادتهم ذلك ويسقف وينصب عليه الباب لأنه لا يصلح للسكنى بما دون ذلك فإن أراد مراحاً للغنم أو حظيرة للشوك والحطب بنى الحائط ونصب عليه الباب لأنه لا يصير مراحاً وحظيرة بما دون ذلك وإن أراد للزراعة فأن يعمل لها مسناة ويسوق الماء إليها من نهر أو بئر فإن كانت الأرض من البطائح فأن يحبس

(2/294)


عنها الماء لأن إحياء البطائح أن يحبس عناه الماء كما أن إحياء اليابس بسوق الماء إليه ويحرثها وهو أن يصلح ترابها وهل يشترط غير ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يشترط غير ذلك وهو المنصوص في الأم وهو قول أبي إسحاق لأن الإحياء قد تم وما بقي إلا الزراعة ذلك انتفاع بالمحيا فلم يشترط كسكنى الدار والثاني وهو ظاهر وما نقله المزني أنه لا يملك إلا بالزراعة لأنها من تمام العمارة ويخالف السكنى فإنه ليس من تمام العمارة وإنما هو كالحصاد في الزرع والثالث وهو قول أبي العباس أنه لايتم إلا بالزراعة والسقي لأن العمارة لا تكمل إلا بذلك وإن أراد حفر بئر فإحياؤها أن يحفر إلى أن يصل إلى الماء لأنه لا يحصل البئر إلا بذلك فإن كانت الأرض صلبة تم الإحياء وإن كانت رخوة لم يتم الإحياء حتى تطوق البئر لأنها لا تكمل إلا به.
فصل: وإذا أحيا الأرض ملك الأرض وما فيها من المعادن كالبلور والفيروزج والحديد والرصاص لأنها من أجزاء الأرض فملك بملكها وبملك ما يتبع فيها من الماء والقار وغير ذلك وقال أبو إسحاق لا يملك الماء وما ينبع فيها وقد بينا ذلك في البيوع ويملك ما ينبت فيها من الشجر والكلأ وقال أبو القاسم الصيمري لا يملك الكلأ لما روي أن أبيض بن حمال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حمى الأراك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حمى في الأراك1" ولأنه لو فرخ في الأرض طائر لم يملك فكذلك إذا نبت فيه الكلأ وقال أكثر أصحابنا يملك لأنه نماء الملك فملكه بملكه كشعر الغنم.
فصل: ويملك بالإحياء ما يحتاج إليه من المرافق كفناء الدار والطريق ومسيل الماء وحريم البئر وهو بقدر ما يقف فيه المستقي إن كانت البئر للشرب وقدر ما يمر فيه الثور إن كانت للسقي وحريم النهر وهو ملقى الطين وما يخرج منه من التقن ويرجع في ذلك إلى أهل العرف في الموضع والدليل عليه ماروى عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من احتفر بئراً فله أربعون ذراعاً حولها عطن لماشيته" وروى ابن شهاب
__________
1 رواه الدارمي في كتاب البيوع باب 68.

(2/295)


عن سعيد بن المسيب قال: من السنة أن حريم القليب العادية خمسون ذراعاً وحريم البدئ خمسة وعشرون ذراعاً وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع فإن أحيا أرضاً إلى جنب غيره فجعل أحدهما داره مدبغة أو مقصرة لم يكن للآخر معه من ذلك لنه تصرف مباح في ملكه فلم يمنع منه وإن ألصق حائطه بحائطه منع من ذلك وإن طرح في أصل حائط سرجيناً منع منه لنه تصرف باشر ملك الغير بما يضر به فمنع منه فإن حفر حشاً في أصل حائطه لم يمنع منه لأنه تصرف في ملكه ومن أصحابنا من قال: يمنع لأنه يضر بالحاجز الذي بينهما في الأرض وإن ملك بئراً بالإحياء فجاء رجل وتباعد عن حريمه وحفر بئراً فنقص ماء الأول لم يمنع منه لأنه تصرف في موات لا حق لغيره فيه.
فصل: وإن تحجر رجل مواتاً وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم صار أحق به من غيره قوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به" وإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به لأنه آثره صاحب الحق به وإن مات انتقل ذلك إلى وارثه لأنه حق تملك ثبت له فانتقل إلى وارثه كالشفعة وإن باعه ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يصح لأنه صار به فملك بيعه والثاني أنه لا يصح وهو المذهب لأنه لم يملكه بعد فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الأخذ وإن بادر غيره إلى إحيائه نظرت فإن كان ذلك قبل أن تطول المدة ففيه وجهان: أحدهما لا يملك لأن يد المتحجر أسبق والثاني يملك لأن الإحياء يملك به والتحجر لا يملك به فقدم ما يملك به على ما لا يملك به وإن طالت المدة ولم يتمم قال له السلطان: إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن منه كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء ومنع غيره وإن سأل أن يمهل أمهل مدة قريبة فإن انقضت المدة ولم يحي فبادر غيره فأحيا ملك لأنه لا حق له بعد انقضاء المدة.
فصل: ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة كالماء والنفط والمومياء والياقوت والبرام والملح والكحل كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به" فإن أطال المقام ففيه وجهان: أحدهما لا يمنع

(2/296)


لأنه سبق إليه والثاني يمنع لأنه يصير كالمتحجر فإن سبق اثنان وضاق المكان وتشاحا فإن كانا يأخذان للتجارة هايأ الإمام بينهما فإن تشاحا في السبق أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فقدم بالقرعة وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر والثاني يقسم بينهما لأنه يمكن لهما القسمة فلا يؤخر حقه والثالث يقدم الإمام أحدهما لأن للإمام نظراً في ذلك فقدم من رأى تقديمه وإن كان من ذلك ما يلزم عليه مؤنة بأن يكون بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه الماء حصل فيه ملح جاز أن يملك بالإحياء لأنه يوصل إليه بالعمل والمؤنة فملك بالإحياء كالموات.
فصل: وإن سبق إلى معدن باطن وهو الذي لا يوصل إليه إلا بالعمل والمؤنة كمعدن الذهب والفضة والحديد والرصاص والياقوت والفيروزج فوصل إلى نيله ملك ما أخذه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به1" وهل يملك المعدن فيه قولان: أحدهما يملكه لأنه موات لا يوصل إلى ما فيه إلا بالعمل والإنفاق فملكه بالإحياء كموات الأرض والثاني لا يملك وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الملك في الموت على الإحياء وهو العمارة والعمل في المعدن حفر وتخريب فلا يملك به ولأنه يحتاج في كل جزء يأخذه إلى عمل فلا يملك منه إلا ما أخذ ويخالف موات الأرض لأنه إذا عمر انتفع به على الدوام من غير عمل مستأنف فملك به فإن قلنا إنه يملك بالإحياء ملكه إلى القرار وملك مرافقه فإن تباعد إنسان عن حريمه وحفر معدناً فوصل إلى العرق لم يمنع من أخذ ما فيه لأنه إحياء في موات لاحق فيه لغيره فإن حفر ولم يصل إلى النيل صار أحق به كما قلنا فيمن تحجر في موات الأرض فإن قلنا لا يملك كان كالمعدن الظاهر في إزالة يده إذا طال مقامه وفي القسمة والتقديم بالقرعة وتقديم من يرى الإمام تقديمه.
فصل: ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب الواسعة بالقعود للبيع
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الإمارة باب 36.

(2/297)


والشراء لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار فلم يمنع منه كالاجتياز فإن سبق إليه كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "مني مناخ من سبق" وله أن يظلل بما لا ضرر به على المارة من بارية وثوب لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وإن أراد أن يبني دكة منع لأنه يضيق به الطريق ويعثر به الضرير وبالليل البصير فلم يجز وإن قام وترك المتاع لم يجز لغيره أن يقعد فيه لأن يد الأول لم تزل وإن نقل متاعه كان لغيره أن يقعد فيه لأنه زالت يده وإن قعد وأطال ففيه وجهان: أحدهما يمنع لأنه يصير كالمتملك وتملكه لا يجوز والثاني يجوز لأنه قد ثبت له اليد بالسبق إليه وإن سبق إليه اثنان ففيه وجهان: أحدهما يقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر والثاني يقدم الإمام أحدهما لأن للأمام النظر والاجتهاد ولا تجيء القسمة لأنها لا تملك فلم تقسم.

(2/298)


باب الإقطاع والحمى
يجوز للأمام أن يقطع موات الأرض لمن يملكه بالإحياء لما روى علقمة بن وائل عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً فأرسل معه معاوياً أن أعطه إياها أو قال أعطها إياه وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه فقال: أعطوه من حيث وقع السوط وروي أن أبو بكر أقطع الزبير وأقطع عمر علياً وأقطع عثمان رضي الله عنهم خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وسعداً وابن مسعود وخباباً وأسامة بن زيد رضي الله عنهم ومن أقطعه الإمام شيئاً من ذلك صار أحق به ويصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه لأن بإقطاع الإمام صار أحق به كالمتحجر فكان حكمه حكم المتحجر ولا يقطع من ذلك إلا ما يقدر على إحيائه لأنه إذا أعطاه أكثر من ذلك دخل الضرر على المسلمين من غير فائدة.
فصل: وأما المعادن فإن كانت من المعادن الظاهرة لم يجز إقطاعها لما روى ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده أبيض بن حمال أنه استقطع النبي صلى الله عليه وسلم ملح المأرب

(2/298)


فأقطعه إياه ثم إن الأقرع بن حابس قال يا رسول الله إني قد وردت الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس بها ملح ومن ورده أخذه وهو مثل الماء العد بأرض فاستقال أبيض بن حمال فقال أبيض قد أقلتك فيه على أن تجعله مني صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو منك صدقة" وهو مثل الماء العد ومن ورده أخذه وإن كانت من المعادن الباطنة فإن قلنا إنها تملك بالإحياء جاز قطاعه لأنه موات يجوز أن يملك بالإحياء فجاز قطاعه كموات الأرض وإن قلنا لا تملك بالإحياء فهل يجوز إقطاعه فيه قولان: أحدهما يجوز إقطاعه لأنه يفتقر الانتفاع به إلى المؤن فجاز إقطاعه كموات الأرض والثاني لا يجوز لأنه معدن لا يملك بالإحياء فلم يجز إقطاعه كالمعادن الظاهرة فإذا قلنا يجوز إقطاعه لم يجز إلا ما يقوم به لما ذكرنا في إقطاع الموات.
فصل: ويجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب ومقاعد الأسواق للارتفاق فمن أقطع شيئاً من ذلك صار أحق بالموضع نقل متاعه أولم ينقل لأن للإمام النظر والاجتهاد فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالإقطاع فلم يكن لغيره أن يقعد فيه.
فصل: ولا يجوز لأحد أن يحمي مواتاً ليمنع الإحياء ورعى ما فيه من الكلأ لما روى الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حمى إلا لله ولرسوله" فأما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه كان يجوز له أن يحمي لنفسه وللمسلمين فإما لنفسه فإنه ما حمى ولكنه حمى المسلمين والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين وأما غيره من الأئمة فلا يجوز أن يحمي لنفسه للخبر وهل يجوز أن يحمي لخيل المجاهدين ونعم الجزية وإبل الصدقة وماشية من يضعف عن الإبعاد في طلب النجعة؟ فيه قولان أحدهما: لا يجوز للخبر والثاني يجوز لما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضي الله عنه وجعل ينفخ ويفتح شاربه وكان إذا كره أمراً فتل شاربه ونفخ فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك فقال عمر المال مال الله والعباد عباد الله فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر قال مالك: نبئت أنه كان يحمل في

(2/299)


كل عام أربعين ألفاً من الظهر وقال مرة من الخيل وروى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنياً على الحمى وقال له يا هني اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة والغنيمة وإياك ونعم ابن عوف وإياك ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما فيأتياني فيقولا يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك إن الماء والكلأ أيسر عندي من الذهب والورق والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً فإن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً لحاجة والحاجة باقية لم يجز إحياؤها وإن زالت الحاجة ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه زال السبب والثاني لا يجوز لأن ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم نص فلا يجوز نقضه بالاجتهاد وإن حماه إمام غيره وقلنا إنه يصح حماه فأحياه رجل ففيه قولان: أحدهما لا يملكه كما لا يملك ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني يملك لأن حمى الإمام اجتهاد وملك الأرض بالإحياء نص والنص لا ينقض بالاجتهاد.

(2/300)


باب حكم المياه
الماء اثنان: مباح وغير مباح فأما غير المباح فهو ما ينبع في أرض مملوكة فصاحب الأرض أحق به من غيره لأنه على المنصوص يملكه وعلى قول أبي إسحاق لا يملكه إلا أنه لا يجوز لغيره أن يدخل إلى ملكه بغير إذنه فكان أحق به وإن فضل عن حاجته واحتاج إليه الماشية لكلأ لزمه بدله من غير عوض وقال أبو عبيد بن حرب لا يلزمه بذله كما لا يلزمه بذل الكلأ للماشية ولا بذل الدلو والحبل ليستقي به الماء للماشية والمذهب الأول لما روى إياس بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء

(2/300)


وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته1" ويخالف الكلأ فإنه لا يستخلف عقيب أخذه وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف فتهلك ماشيته والماء يستخلف عقيب أخذه وما ينقص من الدلو والحبل لا يستخلف فيستضر والضرر لا يزال بالضرر ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع لأن الزرع لا حرمة له في نفسه والماشية لها حرمة في نفسها ولهذا لو كان الزرع له لم يلزمه سقيه ولو كانت الماشية لزمه سقيها وإن لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الوعيد على من منع الفضل ولأن ما لا يفضل عن حاجته يستضر ببذله والضرر لا يزال بالضرر.
فصل: وأما المباح فهو الماء الذي ينبع في الموات فهو مشترك بين الناس لقوله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاثة الماء والنار والكلأ2" فمن سبق منهم إلى شيء منه كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق3" فإن أراد أن يسقي منه أرضاً فإن كان نهراً عظيماً كالنيل والفرات وما أشبههما من الأودية العظيمة جاز أن يسقي منه ما شاء ومتى شاء لأنه لا ضرر فيه على أحد وإن كان نهراً صغيراً لا يمكن سقي الأرض منه إلا أن يحبسه فإن كانت الأرض متساوية بدأ من في أول النهر فيحبس الماء حتى يسقي أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الكعب ثم يرسله إلى من يليه وعلى هذا إلى أن تنتهي الأراضي لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب نهر من سيل أن للأعلى أن يشرب قبل الأسفل ويجعل الماء فيه إلى الكعب ثم يرسله إلى الأسفل الذي يليه كذلك حتى تنتهي الأرضون وروى عبد الله بن الزبير أن الزبير ورجلاً من الأنصار تنازعا في شراج الحرة التي يسقى بها النخل، فقال الأنصاري
__________
1 رواه أحمد في مسنده "2/179،183،221".
2 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 60. ابن ماجة في كتاب الرهون باب 16. أحمد في مسنده "5/364".
3 رواه أبو داود في كتاب الإمارة باب 36.

(2/301)


للزبير سرح الماء فأبى الزبير فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك" فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا زبير اسق أرضك واحبس الماء إلى أن يبلغ الجدر" وإن كانت الأرض بعضها أعلى من بعض ولا يقف الماء في الأرض العالية إلى الكعب حتى يقف في الأرض المستفلة إلى الوسط فيسقي المستفلة حتى يبلغ الماء إلى الكعب ثم يسدها ويسقي العالية حتى يبلغ الكعب فإن أحيا جماعة أرضاً على هذا النهر وسقوا منه ثم جاء رجل فأحيا أرضاً في أعلاه إذا سقى أرضه استضر أهل النهر منع من ذلك لأن من ملك أرضاً ملكها بمرافقها والنهر من مرافق أرضهم فلا يجوز مضايقتهم فيه.
فصل: وإن اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها فإن دخلوا على أن يتساووا وتساووا في الإنفاق وإن دخلوا على أن يتفاضلوا تفاضلوا في الإنفاق ويكون الماء بينهم على قدر النفقة لأنهم استفادوا ذلك بالإنفاق فكان حقهم على قدره فإن أرادوا سقي أراضيهم بالمهأياة يوماً يوماً جاز وإن أرادوا قسمة الماء نصبوا خشبة مستوية قبل الأراضي وتفتح فيها كوى على قدر حقوقهم فتخرج حصة كل واحد منهم إلى أرضه فإن أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل المقسم في ساقية يحفرها إلى أرضه منع من ذلك لأن حريم النهر مشترك بينهم فلا يجوز لواحد منهم أن يحفر فيه فإن أراد أن ينصب رحاً قبل المقسم ويديرها بالماء منع من ذلك لأنه يتصرف في حريم مشترك فإن أراد أن يأخذ الماء ويسقي به أرضاً أخرى ليس لها رسم بشرب من هذا النهر منع منه لأنه يجعل لنفسه شرباً لم يكن له كما لا يجوز لمن له داران متلاصقان في دربين أن يفتح من أحدهما باباً إلى الأخرى فيجعل لنفسه طريقاً لم يكن له والله أعلم.

(2/302)