المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب السبق والرمي
مدخل
...
كتاب السبق والرمي
تجوز المسابقة والمناضلة لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل والمضمرة منها من الحفيا إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له ناقة يقال لها العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول الله سبقت العضباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه حق على الله أن لا يرتفع من هذه القدرة شيء إلا وضعه1" وروى سلمة بن الأكوع قال: أتي علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نترامى فقال: "حسن هذا لعباً ارموا يا بني اسماعيل فإن أباكم كان رامياً ارموا وأنا مع ابن الأدرع" فكف القوم أيديهم وقسيهم وقال غلب يا رسول الله من كنت معه قال: "ارموا وأنا معكم جميعاً" فإن كان ذلك للجهاد فهو مندوب إليه لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة هي الرمي قالها ثلاثاً2" وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ارموا واركبوا ولأن ترموا أحب إلي
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 59. أبو داود في كتاب الأدب باب 8. النسائي في كتاب الخيل باب 14، 16.
2 رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 167. أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14. أحمد في مسنده "4/157".

(2/274)


من أن تركبوا1" و "ليس من اللهو إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله وتأديبه فرسه رميه بقوسه2" و "من علمه الله الرمي فتركه رغبة عنه فنعمة كفرها وإن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاث الجنة: صانعه المحتسب في الخير والرامي ومنبله3".
فصل: ويجوز ذلك بعوض لما روى أنه سأل عثمان رضي الله عنه أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس فجاءت سابقة فهش لذلك وأعجبه والرهن لا يكون إلا على عوض ولأن في بذل العوض فيه تحريضاً على التعلم والاستعداد للجهاد.
فصل: ويجوز أن يكون العوض منهما ويجوز أن يكون من أحدهما ويجوز أن يبذله السلطان من بيت المال ويجوز أن يكون من رجل من الرعية لأنه إخراج مال لمصلحة الدين فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله ولا يجوز إلا على عوض معلوم إما معيناً أو موصوفاً في الذمة لأنه عقد معاوضة فلم يجز إلا على عوض معلوم كالبيع ويجوز على عوض حال ومؤجل لأنه عوض يجوز أن يكون عيناً وديناً فجاز أن يكون حالاً ومؤجلاً كالثمن في البيع.
فصل: فإن كان العوض من أحدهما أو من السلطان أو من رجل من الرعية فهو كالجعالة وإن كان منهما ففيه قولان: أحدهما أنه يلزم كالإجارة وهو الصحيح لأنه عقد من شرط صحته أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازماً كالإجارة والثاني أنه لا يلزم كالجعالة لأنه عقد يبذل العوض فيه على ما لا يوثق به فلم يلزم كالجعالة فإن قلنا إنه كالإجارة كان حكمهما في الرهن والضمين حكم الإجارة وحكمهما في خيار
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. النسائي في كتاب الخيل باب 8. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14.
2 رواه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 11. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14. أحمد في مسنده "4/144، 148".
3 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. الترمذي في كتاب الجهاد باب 11 النسائي في كتاب الجهاد باب 26. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. أحمد في مسنده "4/144، 146، 148".

(2/275)


المجلس وخيار الشرط حكم الإجارة ولا يجوز لواحد منهما فسخه بعد تمامه ولا الزيادة ولا النقصان بعد لزومه كما لا يجوز ذلك في الإجارة وإن قلنا إنه كالجعالة كان حكماً في الرهن والضمان حكم الجعالة وقد مضى ذلك في كتاب الرهن والضمان فأما الفسخ والزيادة والنقصان فإن كان قبل الشروع فيه أو بعد الشروع فيه وهما متكافئان فلكل واحد منهما أن يفسخ ويزيد وينقص لأنه عقد جائز لا ضرر على أحد في فسخه والزيادة والنقصان فيه وإن كانا غير متكافئين نظرت فإن كان الذي له الفضل هو الذي يطلب الفسخ أو الزيادة جاز لأنه عقد جائز لا ضرر على صاحبه في الفسخ والزيادة فيه فملك الفسخ والزيادة فيه وإن كان الذي عليه الفضل هو الذي يطلب الفسخ أو الزيادة ففيه وجهان: أحدهما له ذلك لأنه عقد جائز فملك فسخه والزيادة فيه والثاني ليس له لأنا لو جوزنا ذلك لم يسبق أحد أحداً لأنه متى لاح له أن صاحبه يغلب فسخ أو طلب الزيادة فيبطل المقصود.
فصل: وتجوز المسابقة على الخيل والإبل بعوض لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر1" ولأن الخيل تقاتل عليها العرب والعجم والإبل تقاتل عليها العرب فجازت المسابقة عليها بالعوض واختلف قوله في البغل والحمار فقال في أحد القولين تجوز المسابقة عليهما بعوض لحديث أبي هريرة ولأنه ذو حافر أهلي فجازت المسابقة عليهما بعوض كالخيل والثاني لا تجوز لأنه لا يصلح للكر والفر فأشبه البقر واختلف أصحابنا في المسابقة على الفيل بعوض فمنهم من قال لا تجوز لأنه لا يصلح للكر والفر ومنهم من قال تجوز لحديث أبي هريرة ولأنه ذو خف يقاتل عليه فأشبه الإبل واختلفوا في المسابقة على الحمام فمنهم من قال لا تجوز المسابقة عليها بعوض وهو المنصوص لحديث أبي هريرة ولأنه ليس من آلات الحرب فلم تجز المسابقة عليه بعوض ومنهم من قال تجوز لأنه يستعان به على الحرب في حمل الأخبار فجازت المسابقة عليه بعوض كالخيل واختلفوا في سفن الحرب كالزبازب والشذوات فمنهم من قال تجوز وهو قول أبي العباس لأنها في قتال
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 60. النرمذي في كتاب الجهاد باب 22. النسائي في كتاب الخيل باب 14. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 44.

(2/276)


الماء كالخيل في قتال الأرض ومنهم من قال لا تجوز لأن سبقها بالملاح لا بمن يقاتل فيها واختلفوا في المسابقة على الإقدام بعوض فمنهم من قال تجوز لأن الإقدام في قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان ومنهم من قال لا تجوز وهو المنصوص لحديث أبي هريرة ولأن المسابقة بعوض أجيزت ليتعلم بها ما يستعان به في الجهاد والمشي بالأقدام لا يحتاج إلى التعلم واختلفوا في السراع فمنهم من قال يجوز بعوض لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صارع يزيد بن ركانة على شاء فصرعه ثم عاد فصرعه فأسلم ورد عليه الغنم ومنهم من قال لا يجوز وهو المنصوص لحديث أبي هريرة ولأنه ليس من آلات القتال وحديث يزيد بن ركانة محمول على أنه فعل ذلك ليسلم ولأنه لما أسلم رد عليه ما أخذه منه.
فصل: وتجوز المسابقة بعوض على الرمي بالنشاب والنبل وكل ما له نصل يرمي به كالحراب والرانات لحديث أبي هريرة ولأنه لا يحتاج إلى تعلمه في الحر فجاز أخذ العوض عليه ويجوز على رمي الأحجار عن المقلاع لأنه سلاح يرمي به فهو كالنشاب وأما الرمح والسيف والعمود ففيه وجهان: أحدهما تجوز المسابقة عليها بعوض لأنه سلاح يقاتل به فأشبه النشاب والثاني لا يجوز لأن القصد بالمسابقة التحريض على تعلم ما يعد للحرب والمسابقة بهذه الآلات محاربة لا مسابقة فلم تجز كالسبق على أن يرمي بعضهم بعضاً بالسهم.
فصل: وأما كرة الصولجان ومداحاة الأحجار ورفعها من الأرض والمشابكة والسباحة واللعب بالخاتم والوقوف على رجل واحدة وغير ذلك من اللعب الذي لا يستعان به على الحرب فلا تجوز المسابقة عليها بعوض لأنه لا يعد للحرب فكان أخذ العوض فيه من أكل المال بالباطل.
فصل: وإن كانت المسابقة على مركوبين فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال لا تجوز إلا على مركوبين من جنس واحد كالفرسين والبعيرين فإن سابق بين فرس وبعير أو فرس وبغل لم يجز لأن تفاضل الجنسين معلوم ولأنه لا يجري البغل في شوط الفرس كما قال الشاعر:

(2/277)


إن المذرع لا تغنى خؤلته ... كالبغل يعجز عن شوط المحاضير
ويجوز أن يسابق بين العتيق والهجين لأن العتيق في أول شوطه أحد وفي آخره ألين والهجين في أول شوطه أليه وفي آخره أحد فربما صارا عند الغاية متكافئين ومنهم من قال وهو قول أبي إسحاق إنه يعتبر التكافؤ بالتقارب في السبق فإن تقارب جنسان كالبغل والحمار جاز لأنه يجوز أن يكون لكل واحد منهما سابقاً والآخر مسبوقاً وإن تباعد نوعان من جنس كالهجين والعتيق والبختي والنجيب لم يجز لأنه يعلم أن أحدهما لا يجري في شوط الآخر قال الشاعر:
إن البراذين إذا أجريتها ... مع العتاق ساعة أعنيتها
فلا معنى للعقد عليه.
فصل: ولا تجوز إلا على مركوبين معينين لأن القصد معرفة جوهرهما ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين
فصل: ولا تجوز إلا على مسافة معلومة الإبتداء والإنتهاء لحديث ابن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ولأنهما إذا تسابقا على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر إلى غير غاية لم يؤمن أن يسبق أحدهما الآخر إلى أن يعطبا ولا يجوز أن يكون إجراؤه إلا بتدبير الراكب لأنهما إذا جريا لأنفسهما تنافرا ولم يقفا على الغاية وإن تسابقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام فأكثر كان السبق له فقد قال أبو علي الطبري في الإفصاح يجوز ذلك عندي لأنهما يتحاطان ما تساويا فيه وينفرد أحدهما بالقدر الذي شرطه فجاز كما يجوز في الرمي أن يتناضلا على أن يتحاطا ما تساويا فيه ويفضل لأحدهما عدد قال أبو علي الطبري: ورأيت من أصحابنا من منع ذلك وأبطله ولا أعرف له وجهاً.

(2/278)


فصل: وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية لم يخل إلا أن يجعله للسابق منهم أو لبعضهم أو لجميعهم فإن جعله للسابق بأن قال من سبق منكم فله عشرة جاز لأن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق ليأخذ السبق فيحصل المقصود فإن سبق واحد منهم استحق العشرة لأنه سبق وإن سبق اثنان أو ثلاثة وجاؤوا مكاناً واحداً اشتركوا في العشرة لأنهم اشتركوا في السبق فإن جاؤوا كلهم مكاناً واحداً لم يستحق واحد منهم لأنه لم يسبق منهم أحد وإن جعله بعضهم بأن جعله للمجلى والمصلى ولم يجعل الباقي جاز لأن كل واحد منهم يجتهد أن يكون هو المجلى أو المصلي ليأخذ السبق فيحصل المقصود وإن جعله لجميعهم نظرت فإن سوى بينهم بأن قال من جاء منكم إلى الغاية فله عشرة لم يصح لأن القصد من بذل العوض هو التحريض على المسابقة وتعلم الفروسية فإذا سوى بين الجميع علم كل واحد منهم أنه يستحق السبق تقدم أو تأخر فلا يجتهد في المسابقة فيبطل المقصود وإن شرط للجميع وفاضل بينهم بأن قال للمجلى وهو الأول مائة وللمصلي وهو الثاني خمسون وللتالي وهو الثالث أربعون وللبارع وهو الرابع ثلاثون وللمرتاح وهو الخامس عشرون وللحظى وهو السادس خمسة عشر وللعاطف وهو السابع عشرة وللمرمل وهو الثامن ثمانية وللطيم وهو التاسع خمسة وللسكيت وهو العاشر درهم وللفكسل وهو الذي يجيء بعد الكل نصف درهم ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن كل واحد منهم يجتهد ليأخذ الأكثر والثاني لا يجوز لأن كل واحد منهم يعلم أنه لا يخلوا من شيء تقدم أو تأخر فلا يجتهد في المسابقة فإن جعل للأول عشرة وللثالث خمسة وللرابع أربعة ولم يجعل للثاني شيئاً ففيه وجهان: أحدهما يصح ويقوم الثالث مقام الثاني والرابع مقام الثالث لأن الثاني بخروجه من السبق يجعل كأن لم يكن والثاني أنه يبطل لأنه فضل الثالث والرابع على من سبقهما.
فصل: فإن كان المخرج للسبق هما المتسابقان نظرت فإن كان معهما محلل وهو الثالث على فرس كفء لفرسيهما صح العقد وإن لم يكن معهما محلل فالعقد باطل لما

(2/279)


روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار1" ولأن مع المحلل لا يكون قماراً لأن فيهم من يأخذ إذا سبق ولا يعطي إذا سبق وهو المحلل ومع عدم المحلل ليس فيهم إلا من يأخذ إذا سبق ويعطي إذا سبق وذلك قمار وإذا كان المحلل اثنان أو أكثر جاز لأن ذلك أبعد من القمار وإن كان المسابقة بين حزبين كان حكمهما في المحلل حكم الرجلين لأن القصد من دخول المحلل الخروج من القمار وذلك يحصل بالمحلل الواحد مع قلة العدد وكثرته واختلف أصحابنا في دخول المحلل فذهب أكثرهم إلى أن دخول المحلل لتحليل السبق لكل من سبق منهم وذهب أبو علي بن خيران إلى أن دخوله لتحليل السبق لنفسه وإن يأخذ إذا سبق ولا يأخذان إذا سبقا لأنا لو قلنا إنهما إذا سبقا أخذاً حصل فيهم من يأخذ مرة ويعطي مرة وهذا قمار والمذهب الأول لأنا بينا أن بدخول المحلل خرجا من القمار لأن في القمار ليس فيهم إلا من يعطي مرة ويأخذ مرة وبدخول المحلل قد حصل فيهم من يأخذ ولا يعطي فلم يكن قماراً فإن تسابقوا نظرت فإن انتهوا إلى الغاية معاً أحرز كل واحد منهما سبقه لأنه لم يسبقه أحد ولم يكن للمحلل شيء لأنه لم يسبق واحداً منهما وإن سبق المخرجان أحرز كل واحد منهما سبقه لأنهما تساويا في السبق ولا شيء للمحلل لأنه مسبوق وإن سبقهما المحلل أخذ سبقهما لأنه سبقهما وإن سبق أحد المخرجين وتأخر المحلل والمخرج الآخر أحرز السابق سبق نفسه وفي سبق المسبوق وجهان: المذهب أنه للسابق المخرج لأنه انفرد بالسبق وعلى مذهب ابن خيران يكون سبق المسبوق لنفسه لأنه لا يستحقه السابق المخرج على قوله ولا يستحقه المحلل لأنه لم يسبق وإن سبق المحلل وأحد المخرجين أحرز السابق سبق نفسه وفي سبق المسبوق وجهان: المذهب أنه بين المخرج السابق والمحلل وعلى مذهب ابن خيران يكون سبقه للمحلل. وإن سبق أحد المخرجين ثم جاء المحلل ثم جاء المخرج الآخر ففيه وجهان: المذهب إن سبق المسبوق للمخرج السابق بسبقه وعلى مذهب ابن خيران للمحلل دون السابق وإن سبق
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 44. أحمد في مسنده "2/505".

(2/280)


أحد المخرجين ثم جاء المخرج الثاني ثم جاء المحلل ففيه وجهان: المذهب أن سبق المسبوق للسابق وعلى مذهب ابن خيران يكون للمسبوق لأن المخرج السابق لا يستحقه والمحلل له يسبق فبقي على ملك صاحبه.
فصل: وإن كان المخرج للسبق أحدهما جاز من غير محلل لأن فيهم من يأخذ ولا يعطي وهو الذي لم يخرج فصار كما لو كان السبق منهما وبينهما المحلل فإن تسابقا فسبق المخرج أحرز السبق وإن سبق الآخر أخذ سبقه وإن جاءا معاً أحرز المخرج السبق لأنه لم يسبقه الآخر.
فصل: ويطلق الفرسان من مكان واحد في وقت واحد لما روى الحسن أو خلاس عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس" فخرج علي كرم الله وجهه فدعا بسراقة بن مالك فقال يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك فإذا أتيت الميطان فصف الخيل ثم ناد ثلاثاً هل مصلح للجام أو حام لغلام أو طارح لجل فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثاً ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من يشاء من خلقه فإن كان بينهما محلل وتنازعا في مكانه جعل بينهما لأنه أعدل وأقطع للتنافر وإن اختلف المتسابقان في اليمين واليسار أقرع بينهما لأنها مزية لأحدهما على الآخر ولا يجلب وراءه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا" قال مالك الجلب أن يجلب وراء الفرس حين يدنو أو يحرك وراءه الشن ليستحث به السبق.
فصل: وأما ما يسبق به فينظر فيه فإن شرط في السبق أقداماً معلومة لم يستحق

(2/281)


السبق بما دونها لأنه شرط صحيح فتعلق الاستحقاق به وإن أطلق نظرت إن تساوى المركوبان في طول العنق اعتبر السبق بالعنق أو بالكتد فإن سبق أحدهما بالعنق أو ببعضه أو بالكتد أو ببعضه فقد سبق وإن اختلفا في العنق اعتبر السبق بالكتد لأنه لا يختلف وإن سبق أطولهما عنقاً بقدر زيادة الخلقة لم يحكم له بالسبق لأنه يسبق بزيادة الخلقة لا بجودة الجري.
فصل: وإن عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الأر ض أو وقف لعلة أصابته فسبقه الآخر لم يحكم للسابق بالسبق لأنه لم يسبق بجودة الجري ولا تأخر المسبوق لسوء جريه.
فصل: وإن مات المركوب قبل الفراغ بطل العقد لأنه العقد تعلق بعينه وقد فات بالموت فبطل كالمبيع إذا هلك قبل القبض وإن مات الراكب فإن قلنا إنه كالجعالة بطل العقد بموته وإن قلنا إنه كالإجارة لم يبطل وقام الوارث فيه مقامه.
فصل: وإن كان العقد على الرمي لم يجز بأقل من نفسين لأن المقصود معرفة الحذق ولم يبين ذلك بأقل من اثنين فإن قال رجل لآخر ارم عشراً وناضل فيها خطأك بصوابك فإن كان صوابك أكثر فلك دينار لم يجز لأنه بذل العوض على أن يناضل نفسه وقد بينا أن ذلك لا يجوز وإن قال ارم عشراً فإن كان صوابك أكثر فلك دينار ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه بذل له العوض على عمل معلوم لا يناضل فيه نفسه فجاز والثاني لا يجوز لأنه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب والخطأ لا يستحق به بدل
فصل: ولا يجوز إخراج السبق إلا على ما ذكرناه في المسابقة من إخراج العوض منهما أو من غيرهما وفي دخول المحلل بينهما.
فصل: ولا يصح حتى يتعين المتراميان لأن المقصود معرفة حذفهما ولا يعلم ذلك إلا بالتعيين فإن كان أحدهما كثير الإصابة والآخر كثير الخطأ ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن نضل أحدهما معلوم فيكون الناضل منهما كالآخذ للمال من غير نضال وذلك من أكل المال بالباطل والثاني لا يجوز لأن أخذ المال منه يبعثه على معاطاة الرمي والحذق فيه.
فصل: ولا يصح إلا على آلتين متجانستين فإن عقد على جنسين بأن يرمي أحدهما بالنشاب والآخر بالحراب لم يجز لأنه لا يعلم فضل أحدهما على الآخر في واحد من

(2/282)


الجنسين وإن عقد على نوعين من جنس بأن يرمي أحدهما بالنبل والآخر بالنشاب أو يرمي أحدهما على قوس عربي والآخر على قوس فارسي جاز لأن النوعين من جنس واحد يتقاربان فيعرف به حذقهما فإن أطلق العقد في موضع العرف فيه نوع واحد حمل العقد عليه وإن لم يكن فيه عرف لم يصح حتى يبين لأن الأغراض تختلف باختلاف النوعين فوجب بيانه وإن عقد على نوع فأراد أن ينتقل إلى نوع آخر لم تلزم الإجابة إليه لأن الأغراض تختلف باختلاف الأنواع فإن من الناس من يرمي بأحد النوعين أجود من رميه بالنوع الآخر وإن عقد على قوس بعينها فأراد أن ينتقل إلى غيرها من نوعها جاز لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الأعيان فإن شرط على أنه لا يبدل فهو على الأوجه الثلاثة فيمن استأجر ظهراً ليركبه على أنه لا يركبه مثله وقد بيناها في كتاب الإجارة.
فصل: ولا يجوز إلا على رشق معلوم وهو العدد الذي يرمي به لأنه إذا لم يعرف منتهى العدد لم يبن الفضل ولم يظهر السبق.
فصل: ولا يجوز إلا على إصابة عدد معلوم لأنه لا يبين الفضل إلا بذلك فإن شرط إصابة عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه قد يصيب ذلك فصح العقد كما لو شارط إصابة ثمانية من عشرة والثاني لا يصح لأن إصابة ذلك تندر وتتعذر فبطل المقصود بالعقد.
فصل: ولا يجوز إلا أن يكون مدى الغرض معلوماً لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد فوجب العلم به فإن كان في الموضع غرض معلوم المدى فأطلق العقد جاز وحمل عليه كما يجوز أن يطلق الثمن في البيع في موضع فيه نقد واحد وإن لم يكن فيه غرض معلوم المدى لم يجز العقد حتى يبين فإن أطلق العقد بطل كما يبطل البيع بثمن مطلق في موضع لا نقد فيه ويجوز أن يكون مدى الغرض قدراً يصيب مثلهما في مثله في العادة ولا يجوز أن يكون قدراً لا يصيب مثلهما في مثله وفيما يصيب مثلهما في مثله نادراً وجهان: أحدهما يجوز لأنه قد يصيب مثلهما في مثله فإذا عقدا عليه بعثهما العقد على الاجتهاد في الإصابة والثاني لا يجوز لأن إصابتهما في مثله تندر فلا يحصل

(2/283)


المقصود وقدر أصحابنا ما يصاب منه بمائتين وخمسين ذراعاً وما لا يصاب بما زاد على ثلاثمائة وخمسين ذراعاً وفيما بينهما وجهان: فإن تراميا على غير غرض على أن يكون السبق لأبعدهما رمياً ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يمتحن به قوة الساعد ويستعان به على قتال من بعد من العدو والثاني لا يجوز لأن الذي يقصد بالرمي هو الإصابة فأما الأبعاد فليس بمقصود فلم يجز أخذ العوض عليه.
فصل: ويجب أن يكون الغرض معلوماً في نفسه فيعلم طوله وعرضه وقدر انخفاضه وارتفاعه من الأرض لأن الإصابة تختلف باختلافه فإن كان العقد في موضع فيه غرض معروف فأطلق العقد حمل عليه كما يحمل البيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد متعارف على نقد البلد وإن لم يكن فيه غرض وجب بيانه والمستحب أن يكون الرمي بين غرضين لما روى عبد الدائم بن دينار قال: بلغني أن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة وعن عقبة بن عامر أنه كان يرمي بين غرضين بينهما أربعمائة وعن ابن عمر أنه كان يختفي بين الغرضين وعن أنس أنه كان يرمي بين الهدفين ولأن ذلك أقطع للتنافر وأقل للتعب.
فصل: ويجب أن يكون موضع الإصابة معلوماً وأن الرمي إلى الهدف وهو التراب الذي يجمع أو الحائط الذي يبني أو إلى الغرض وهو الذي ينصب في الهدف أو الشن الذي في الغرض أو الدارة التي في الشن أو الخاتم الذي في الدارة لأن الغرض يختلف باختلافها فإن أطلق العقد حمل على الغرض لأن العرف في الرمي إصابة الغرض فحمل العقد عليه ويجب أن تكون صفة الرمي معلومة من القرع وهو إصابة الغرض أو الخزق وهو أن يثقب الشن أو الخسق وهو الذي يثقبه ويثبت فيه أو المرق وهو الذي ينفذ منه أو الخرم وهو أن يقع طرف الشن ويكون بعض السهم في الشن وبعضه خارجاً منه لأن الخزق لا يبين إلا بذلك فإن أطلق العقد حمل على القرع لأنه هو المتعارف فحمل مطلق العقد عليه فإن شرط قرع عشرة من عشرين وأن يحسب خاسق كل واحد منهما بقارعين جاز لأنهما يتساويان فيه وإن أصاب أحدهما تسعة قرعاً وأصاب الآخر قارعين وأربعة خواسق فقد نضله لأنه استكمل العشرة بالخواسق.
فصل: واختلف أصحابنا في بيان حكم الإصابة إنه مبادرة أو محاطة أو حوابي فمنهم من قال يجب بيانه فإن أطلق العقد لم يصح لأن حكمها يختلف وأغراض الناس فيها لا تتفق فوجب بيانه ومنهم من قال يصح ويحمل على المبادرة لأن المتعارف في الرمي وهو المبادرة واختلفوا في بيان من يبتدئ بالرمي فمنهم من قال يجب فإن أطلق

(2/284)


العقد بطل وهو المنصوص لأن ذلك موضوع على نشاط القلب وقوة النفس ومتى قدم أحدهما انكسر قلب الآخر وساء رميه فلا يحصل مقصود العقد ومنهم من قال يصح لأن ذلك من توابع العقد ويمكن تلافيه بما تزول به التهمة من العرف أو القرعة فإذا قلنا إنه يصح في البادئ وجهان: أحدهما إن كان السبق من أحدهما قدم لأن له مزية بالسبق وإن كان السبق منهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لحدهما على الآخر والثاني لا يبدأ أحدهما بالقرعة لأن أمر المسابقة موضوع على أن لا يفضل أحدهما على الآخر بالسبق فإن كان الرمي بين غرضين فبدأ أحدهما من أحد الغرضين بدأ الآخر من الغرض الآخر لأنه أعدل وأسهل فإن كانت البداية لأحدهما فبدأ الآخر ورمى لم يحسب له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ لأنه رمي بغير عقد فلم يعتد به وإن اختلفا في موضع الوقوف كان الأمر إلى من له البداية لأنه لما ثبت له السبق ثبتت له اختيار المكان فإذا صار الثاني إلى الغرض الثاني صار الخيار في موضع الوقوف إليه ليستويا وإن طلب أحدهما استقبال الشمس والآخر استدبارها أجيب من طلب الاستدبار لأنه أوفق بالرمي.
فصل: ويجوز أن يرميا سهماً وخمساً خمساً وأن يرمي كل واحد منهما جميع الرشق فإن شرطا شيئاً من ذلك حملا عليه وإن أطلق العقد تراسلا سهماً سهماً لأن العرف على ما ذكرناه وإن رمى أحدهما أكثر مما لم يحسب له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ لأنه رمى من غير عقد فلم يعتد به.
فصل: ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق ولا في عدد الإصابة ولا في صفة الإصابة ولا في محل الإصابة ولا أن يحسب قرع أحدهما خسقاً ولا أن يكون في يد أحدهما السهام أكثر مما في يد الآخر في حال الرمي ولا أن يرمي أحدهما والشمس في وجهه لأن القصد أن يعرف حذقهما وذلك لا يعرف مع الاختلاف لأنه إذا نضل أحدهما كان النضل بما شرط لا بجودة الرمي فإن شرط شيئاً من ذلك بطل العقد لأنه في أحد القولين كالإجارة وفي الثاني كالجعالة والجميع يبطل بالشرط الفاسد وهل يجب للناضل في الفاسد أجرة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما لا تجب وهو قول أبي إسحاق لأنه لا يحصل للمسبوق منفعة بسبق السابق فلم تلزمه أجرته والثاني تجب وهو الصحيح لأن كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب عوض المثل في فاسده كالبيع والإجارة.
فصل: وإن شرط على السابق أن يطعم أصحابه من السبق بطل الشرط لأنه شرط

(2/285)


ينافي مقتضى العقد فبطل وهو يبطل العقد المنصوص أنه يبطل لأنه تمليك مال شرط فيه شرط يمنع كمال التصرف فإذا بطل الشرط بطل العقد كما لو باعه سلعة بألف على أن يتصدق بها وقال أبو إسحاق: يحتمل قولاً آخر لا يبطل كما قال فيمن أصدق امرأته ألفين على أن تعطي أباها ألفاً أن الشرط باطل ويصح الصداق فإذا قلنا بالمنصوص سقط المستحق وهل يرجع السابق بأجرة المثل على الوجهين.
فصل: وإذا تناضلا لم يخل إما أن يكون الرمي مبادرة أو محاطة أو حوابي فإن كان مبادرة وهو أن يعقد على إصابة عدد من الرشق وأن من بدر منهما إلى ذلك مع تساويهما في الرمي كان ناضلاً فإن كان العقد على إصابة عشرة من ثلاثين نظرت فإن أصاب أحدهما عشرة من عشرين وأصاب الآخر تسعة من عشرين فالأول ناضل لأنه بادر إلى عدد الإصابة وإن أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم ينضل واحد منهما ويسقط رمي الباقي لأن الزيادة على عدد الإصابة غير معتد بها وإن أصاب الأول تسعة من عشرين وأصاب الآخر خمسة من عشرين فالنضال بحاله لأنه لم يستوف واحد منهما عدد الإصابة فيرميان فإن رمى الأول سهماً وأصاب فقد فلج وسقط رمي الباقي وإن رمى الأول خمسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني فأصاب في جميعها فإن الناضل هو الثاني ويسقط رمي ما بقي من الرشق لأن الأول أصاب تسعة من خمسة وعشرين وأصاب الثاني عشرة من خمسة وعشرين وإن أصاب الأول تسعة من تسعة عشر وأصاب الآخر ثمانية من تسعة عشر فرمى البادئ سهماً فأصاب فقد نضل ولا يرمي الثاني ما بقي من رشقه لأنه لا يستفيد به نضلاً ولا مساواة لأن الباقي من رشقه سهم وعليه إصابة سهمين فإن أصاب كل واحد منهما تسعة من عشرة ثم رمى البادئ فأصاب جاز للثاني أن يرمي لأنه ربما يصيب فيساويه.
فصل: وإن كان الرمي محاطة وهو أن يعقدا على إصابة عدد من الرشق وأن يتحاطا ما استويا فيه من عدد الإصابة ويفضل لأحدهما عدد الإصابة فيكون ناضلاً نظرت فإن كان العقد على إصابة خمسة من عشرين فأصاب كل واحد منهما خمسة من عشرة لم ينضل أحدهما الآخر لأنه لم يفضل له عدد من الإصابة فيرميان ما تبقى من الرشق لأنه يرجو كل واحد منهما أن ينضل فإن فضل لأحدهما بعد تساويهما في الرمي وإسقاط ما استويا فيه عدد الإصابة لم يخل إما أن يكون قبل إكمال الرشق أو بعده فإن كان بعد

(2/286)


إكمال الرشق بأن رمى أحدهما عشرين وأصابها ورمى الآخر فأصاب خمسة عشر فالأول هو الناضل لأنه يفضل له بعد المحاطة فيما استويا فيه عدد الإصابة وإن كان قبل كمال الرشق وطالب صاحب الأقل صاحب الأكثر برمي باقي الرشق نظرت فإن لم يكن له فائدة مثل أن يرمي الأول خمسة عشر وأصابها ورمى الثاني خمسة عشر فأصاب خمسة لم يكن له مطالبته لأن أكثر ما يمكن أن يصيب فيما بقي له وهو خمسة ويبقى للأول خمسة فينضله بها وإن كان له فيه فائدة بأن يرجو أن ينضل بأن يرمي أحدهما أحد عشر فيصيب ستة ويرمي الآخر عشرة فيصيب واحداً ثم يرمي صاحب الستة فيخطئ فيما بقي له من الرشق ويرمي صاحب الواحد فيصيب في جميع ما بقي له فينضله بخمسة أو يساويه بأن يرمي أحدهما خمسة عشر فيصيب منها عشرة ويرمي الآخر خمسة عشر فيصيب منها خمسة ثم يرمي صاحب العشرة فيخطئ في الجميع ويرمي صاحب الخمسة فيصيب فيساويه أو يقلل إصابته بأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر ويصيب الآخر سهمين من خمسة عشر ثم يرمي صاحب الأحد عشر ما بقي له من رشقه فيخطئ في الجميع ويرمي صاحب السهمين فيصيب في الجميع فيصير له سبعة ويبقى لصاحبه أربعة فهو لأقلهما إصابة مطالبة الآخر بإكمال الرشق فيه وجهان: أحدهما ليس له مطالبته لأنه بدر إلى الإصابة مع تساويهما في الرمي بعد المحاطة فحكم له بالسبق والثاني له مطالبته لأن مقتضى المحاطة إسقاط ما استويا فيه من الرشق وقد بقي من الرشق بعضه.
فصل: وإن كان على العقد على جرابي وهو أن يشترطا إصابة عدد من الرشق على أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابة الآخر فمن فضل له بعد ذلك مما اشترطا عليه من العدد كان له السبق فإن رمى أحدهما فأصاب من الهدف موضعاً بينه وبين الغرض قدر شبر حسب له فإن رمى الآخر فأصاب موضعاً بينه وبين الغرض قدر إصبع حسب له وأسقط ما رماه الأول فإن عاد الأول رمى فأصاب الغرض أسقط ما رماه صاحبه وإن أصاب أحدهما الشن وأصاب الآخر العظم الذي في الشن فقد قال الشافعي رحمه الله من الرماة من قال إنه تسقط الإصابة من العظم ما كان أبعد منه قال الشافعي رحمه الله: وعندي أهما سواء لأن الغرض كله موضع الإصابة فإن استوفيا الرشق ولم يفضل أحدهما صاحبه بالعدد الذي اشترطاه فقد تكافآ وإن فضل أحدهما صاحبه بالعدد أخذ بالسبق وحكى عن بعض الرماة أنهما إذا أصابا أعلى الغرض لم يتقايسا قال: والقياس أن يتقايسا لأن أحدهما أقرب إلى الغرض من الآخر فأسقط الأقرب الأبعد كما لو أصاب أسفل الغرض أو جنبه.

(2/287)


فصل: وإن كان النضال بين حزبين جاز وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: لا يجوز لأنه يأخذ كل واحد منهم بفعل غيره والمذهب الأول لما رويناه في أول الكتاب من حديث سلمة بن الأكوع وينصب كل واحد من الحزبين زعيماً يتوكل لهم في العقد ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحداً كما لا يجوز أن يكون وكيل المشتري والبائع واحداً ولا يجوز إلا على حزبين متساويي العدد لأن القصد معرفة الحذق فإذا تفاضلا في العدد فضل أحدهما الآخر بكثرة العدد لا بالحذق وجودة الرمي ويجب أن يتعين الرماة كما قلنا في نضال الاثنين ولا يجوز أن يتعينوا إلا بالاختيار فإن اقترع الزعيمان على أن من خرجت عليه قرعة أحدهما كان معه لم يجز لأنه ربما أخرجت القرعة الحذاق لأحد الحزبين والضعفاء للحزب الآخر فإن عدل بين الحزبين في القوة والضعف بالاختيار ثم اقترع الزعيمان على أن من خرجت قرعته على أحد الحزبين كان معه لم يجز لأنه عقد معاوضة فلم يجز تعيين المعقود عليه فيه بالقرعة كالبيع ويجب أن يكون على عدد من الرشق معلوم فإن كان عدد كل حزب ثلاثة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ثلث صحيح كالثلاث والستين وإن كانوا أربعة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ربع صحيح كالأربعين والثمانين لأنه إذا لم يفعل ذلك بقي سهم ولا يمكن اشتراك جماعة في سهم واحد فإن خرج في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي بطل العقد فيه لأنه بطل العقد فيه لأنه ليس بمحل في العقد وسقط من الحزب الآخر بإزائه واحد كما إذا بطل البيع في أحد العبدين سقط ما في مقابلته من الثمن وهل يبطل العقد في الباقي من الحزبين؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة فإن قلنا لا يبطل في الباقي ثبت للحزبين الخيار في فسخ العقد لأن الصفقة تبعضت عليهم بغير اختيارهم فإن اختاروا البقاء على العقد وتنازعوا فيمن يخرج في مقابلة من الحزب الآخر فسخ العقد لأنه تعذر إمضاؤه على مقتضاه ففسخ ومن أصحابنا من قال: يبطل في الجميع قولاً واحداً لأن من في مقابلته من الحزب الآخر لا يتعين ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة فبطل في الجميع فإن نضل أحد الحزبين الآخر ففي قسمة المال بين الناضلين وجهان: أحدهما يقسم بينهما بالسوية كما يجب على المنضولين بينهم بالسوية فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب استحق والثاني تقسم بينهم على قدر إصابتهم لأنهم استحقوا بالإصابة فاختلف باختلاف الإصابة ويخالف ما لزم المنضولين فإن ذلك وجب بالالتزام والاستحقاق بالرمي فاعتبر بقدر الإصابة فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب لم يستحق شيئاً وبالله التوفيق.

(2/288)


باب بيان الإصابة والخطأ في الرمي
إذا عقد على إصابة الغرض فأصاب الشن أو الجريد الذي يشد فيه الشن أو العري وهو السير الذي يشد به الشن على الجريد حسب له لأن ذلك كله من الغرض وإن أصاب العلاقة ففيه قولان: أحدهما يحسب له لأنه من جملة الغرض ألا ترى أنه إذا مد امتد معه فأشبه العري والثاني لا يحسب لأن العلاقة ما يعلق به الغرض فأما الغرض فهو الشن وما يحيط به وإن شرط إصابة الخاصرة وهو الجنب من اليمين واليسار فأصاب غيرهما لم يحسب له لأنه لم يصب الخاصرة وإن شرط إصابة الشن فأصاب العروة وهو السير أو العلاقة لم يحسب لأن ذلك كله غير الشن فإن أصاب سهماً في الغرض فإن كان السهم متعلقاً بنصله وباقيه خارج الغرض لم يحسب له ولا عليه لأن بينه وبين الغرض طول السهم ولا يدري لو لم يكن هذا السهم هل كان يصيب الغرض أم لايصيب وإن كان السهم قد غرق في الغرض إلى فوقه حسب له لأن العقد على إصابة الغرض ومعلوم أنه لو لم يكن هذا لكان يصيب الغرض فإن خرج السهم من القوس فهبت ريح فنقلت الغرض إلى موضع آخر فأصاب السهم موضعه حسب له وإن أصاب الغرض في الموضع الذي انتقل إليه حسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ في الرمي وإنما أصاب بفعل الريح لا بفعله وإن رمى وفي الجو ريح ضعيفة فأرسل السهم مفارقاً للغرض وأمال يده ليصيب مع الريح فأصاب الغرض أو كانت ريح خلفه فنزع نزعاً قريباً ليصيب مع معاونة الريح فأصاب حسب له لأنه أصاب بفراهته وحذقه وإن أخطأ حسب عليه لأنه أخطأ بسوء رميه ولأنه لو أصاب مع الريح لحسب له فإذا أخطأ معها حسب عليه وإن كانت الريح قوية لا حيلة له فيها لم يحسب له إذا أصاب لأنه لم يصب بحسن رميه ولا يحسب عليه إذا أخطأ لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بالرمي في غير وقته وإن رمى في غير ريح فثارت ريح بعد خروج السهم من القوس فأخطأ لم يحسب عليه لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بعارض الريح وإن أصاب فقد قال بعض أصحابنا فيه وجهان بناء على القولين في إصابة السهم المزدلف وعندي أنه لا يحسب له قولاً واحداً لأن المزدلف إنما أصاب الغرض بحدة رميه ومع الريح لا يعلم أنه أصاب برميه وإن رمى سهماً فأصاب الغرض بفوقه لم يحسب له لأن ذلك من أسوأ الرمي وأردئه.

(2/289)


فصل: وإن انكسر القوس أو انقطع الوتر أو أصابت يده ريح فرمى وأصاب حسب له لأن إصابته مع اختلاف الآلة أدل على حذقه فإن أخطأ لم يحسب عليه في الخطأ لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بعارض وإن أغرق السهم فخرج من الجانب الآخر نظرت فإن أصاب حسب له لأن إصابته مع الإغراق أدل على حذقه فإن أخطأ لم يحسب عليه ومن أصحابنا من قال: يحسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ في مد القوس والمنصوص هو الأول لأن الإغراق ليس من سوء الرمي وإنما هو لمعنى قبل الرمي فهو كانقطاع الوتر وانكسار القوس وإن انكسر السهم بعد خروجه من القوس وسقط دون الغرض لم يحسب عليه في الخطأ لأنه إنما لم يصب لفساد الآلة لا لسوء الرمي وإن أصاب بما فيه النصل حسب له لأن إصابته مع فساد الآلة دل على حذقه وإن أصابه بالموضع الآخر لم يحسب له لأنه لم يصب ولم يحسب عليه لأن خطأه لفساد الآلة لا لسوء الرمي.
فصل: وإن عرض دون الغرض عارض من إنسان أو بهيمة نظرت فإن رد السهم ولم يصل لم يحسب عليه لأنه لم يصل للعارض لا لسوء الرمي وإن نفذ السهم وأصاب حسب له لأن إصابته مع العارض أدل على حذقه وحكي أن الكسعي كان رامياً فخرج ذات ليلة فرأى ظبياً فرمى فأنفذه وخرج السهم فأصاب حجراً وقدح فيه ناراً فرأى ضوء النار فظن أنه أخطأ فكسر القوس وقطع إبهامه فلما أصبح رأى الظبي صريعاً قد نفذ فيه سهمه فندم فضربت به العرب مثلاً وقال الشاعر:
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما صنعت يداه
وإن رمى فعارضه عارض فعثر به السهم وجاوز الغرض ولم يصب ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبو إسحاق أنه يحسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ بسوء الرمي للعارض لأنه لو كان للعارض تأثير لوقع سهمه دون الغرض فلما جاوزه ولم يصب دل على أنه أخطأ بسوء رميه فحسب عليه في الخطأ والثاني أنه لا يحسب عليه لأن العارض قد يشوش الرمي فيقصر عن الغرش وقد يجاوزه وإن رمى السهم فأصاب الأرض وازدلف فأصاب الغرض ففيه قولان: أحدهما يحسب لأنه أصاب الغرض بالنزعة التي أرسلها وما

(2/290)


عرض دونها من الأرض لا يمنع الاحتساب كما لو عرض دونه شيء فهتكه وأصاب الغرض والثاني لا يحسب له لأن السهم خرج من الرمي إلى غير الغرض وإنما أعانته الأرض حتى ازدلف عنها إلى الغرض فلم يحسب له وإن ازدلف ولم يصب الغرض ففيه وجهان: أحدهما يحسب عليه في الخطأ لأنه إنما ازدلف بسوء رميه لأن الحاذق لا يزدلف سهمه والثاني لا يحسب عليه لأن الأرض تشوش السهم وتزيله عن سنته فإذا أخطأ لم يكن من سوء رميه.
فصل: وإن كان العقد على إصابة موصوفة نظرت فإن كان على القرع فأصاب الغرض وخزق أو خسق أو مرق حسب له لأن الشرط هو الإصابة وقد حصل ذلك في هذه الأنواع.
فصل: وإن كان الشرط هو الخسق نظرت فغن أصاب الغرض وثبت فيه ثم سقط حسب له لأن الخسق هو أن يثبت وقد ثبت فلم يؤثر زواله بعد ذلك كما لو ثبت ثم نزعه إنسان فإن ثقب الموضع بحيث يصلح لثبوت السهم لكنه لم يثبت ففيه قولان: أحدهما أنه يحسب لأن الخسق أن يثقب بحيث يصلح لثبوت السهم وقد فعل ذلك ولعله لم يثبت لسعة الثقب أو لغلظ لقيه والثاني وهو الصحيح أنه لا يحسب له لأن الأصل عدم الخسق وأنه لم يكن فيه من القوة ما يثبت فيه فلم يحسب له وإن كان الغرض ملصقاً بالهدف فأصابه السهم ولم يثبت فيه فقال الرامي قد خسق إلا أنه لم يثبت فيه لغلظ لقيه من نواة أو حصاة وقال رسيله لم يخسق نظرت فإن لم يعلم موضع الإصابة من الغرض فالقول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق وهل يحلف ينظر فيه فإن فتش الغرض فلم يكن فيه شيء يمنع من ثبوته لم يحلف لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن وإن كان هناك ما يمنع من ثبوته حلف لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن وإن علم موضع الإصابة ولم يكن فيه ما يمنع من ثبوته فالقول قول الرسيل من غير يمين لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن وإن كان فيه ما يمنع الثبوت ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول الرامي لأن المانع شهد له والثاني أن القول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق والمانع لا يدل على أنه لو لم يكن لكان خاسقاً ولعله لو لم يكن مانع لكان هذا منتهى رميه فلا يحكم له بالخسق بالشك وإن كان في الشن خرق أو موضع بال فوقع فيه السهم وثبت في الهدف نظرت فإن كان الموضع الذي ثبت فيه في صلابة الشن اعتد به لأنا نعلم أنه لو كان الشن صحيحاً لثبت فيه وإن كان دون الشن في الصلابة كالتراب والطين الرطب لم يعتد له ولا عليه لأنا لنعلم لأنه لو كان صحيحاً هل كان يثبت فيه أم لا فيرد إليه

(2/291)


السهم حتى يرميه وإن خرمه وثبت ففيه قولان: أحدهما يعتد به لأن الخسق هو أن يثبت النصل وقد ثبت والثاني لا يعتد به لأن الخسق أن يثبت السهم في جميع الشن ولم يوجد ذلك فإن مرق السهم فقد قال الشافعي رحمه الله هو عندي خاسق ومن الرماة من لا يحتسبه فمن أصحابنا من قال: يحتسب له قولاً واحداً وما حكاه من غيره ليس بقول له لأن معنى الخسق قد وجد وزيادة ولأنه لو مرق والشرط القرع حسب فكذلك إذا مرق والشرط الخسق ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما يحسب له لما ذكرناه والثاني لا يحسب له لأن الخسق أن يثبت وما ثبت ولأن في الخسق زيادة حذق وصنعة من نزع القوس بمقدار الخسق والتعليل الأول أصح لأن هذا يبطل به إذا مرق والشرط القرع وإن أصاب الشن ومرق وثبت في الهدف ووجد على نصله قطعة من الشن والهدف دون الشن في الصلابة فقال الرامي هذا الجلد قطعه سهمي بقوته وقال الرسيل بل كان في الشن ثقبة وهذه الجلدة كانت قد انقطعت من قبل فحصلت في السهم فالقول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق.
فصل: إذا مات أحد الراميين أو ذهبت يده بطل العقد لأن المقصود معرفة حذقه وقد فات ذلك فبطل العقد كما لو هلك المبيع وإن رمدت عينه أو مرض لم يبطل العقد لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه بعد زوال العذر وإن أراد أن يفسخ فإن قلنا إنه كالجعالة كان حكمه حكم الفسخ من غير عذر وقد بيناه في أول الكتاب وإن قلنا أنه كالإجارة جاز له أن يفسخ لأنه تأخر المعقود عليه فملك الفسخ كما يملك في الإجارة وإن أراد أحدهما أن يؤخر الرمي للدعة فإن قلنا إنه كالإجارة أجبر عليه كما أجبر في الإجارة وإن قلنا إنه كالجعالة لم يجبر كما لم يجبر في الجعالة.

(2/292)