المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الهبات
مدخل
...
كتاب الهبات
الهبة مندوب إليها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا" وللأقارب أفضل لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" "الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله" ومن قطعها قطعه الله وفي الهبة صلة الرحم والمستحب أن لا يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة لما روى النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطية فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أعطيت ابني عطية وإن أمه قالت لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل أعطيت كل ولدك مثل ذلك" قال: لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء" قال: بلى قال: "فلا إذا" قال الشافعي رحمه الله: ولأنه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره ولأن الأقارب ينفس بعضها بعضاً ما لا ينفس العدى فإن فضل بعضهم بعطية صحت العطية لما روي في حديث النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشهد على هذا غيري" فلو لم يصح لبين له ولم يأمره لأن يشهد عليه غيره ولا يستنكف أن يهب القليل ولا أن يتهب القليل لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع أو ذراع لقبلت".
فصل: وما جاز بيعه من الأعيان جاز هبته لأنه عقد يقصد به ملك العين فملك به ما يملك بالبيع وما جاز هبته جاز هبة جزء منه مشاع لما روى عمر بن سلمة الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة حتى أتى الروحاء فإذا حمار عقير فقيل يا رسول الله هذا

(2/333)


حمار عقير فقال: "دعوه فإنه سيطلبه صاحبه" فجاء رجل من فهر فقال: يا رسول الله إني أصبت هذا فشأنكم به فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر يقسم لحمه بين الرفاق ولأن القصد منه التمليك والمشاع كالمقسوم في ذلك.
فصل: وما لا يجوز بيعه من المجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملكه عليه كالبيع قبل القبض لا تجوز هبته لأنه عقد يقصد به تمليك المال في حال الحياة فلم يجز فيما ذكرناه كالبيع.
فصل: ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع.
فصل: ولا تصح إلا بالإيجاب والقبول لأنه تمليك آدمي فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع والنكاح ولا يصح القبول إلى على الفور وقال أبو العباس يصح على التراخي والصحيح هو الأول لأنه تمليك مال في حال الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع.
فصل: ولا يملك الموهوب منه الهبة من غير قبض لما روت عائشة رضي الله عنها أن أباها نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله فلما حضرته الوفاة قال: يا بنية إن أحب الناس غنى بعدي لأنت وإن أعز الناس علي فقراً بعدي لأنت وإن كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً من مالي ووددت أنك جذذته وحزته وإنما هو اليوم مال الوارث وإنما هو أخواك وأختاك قالت: هذان أخواي فمن أختاي قال: ذو بطن بنت خارجة فإني أظنها جارية فإن مات قبل القبض قام وارثه إن شاء قبض وإن شاء لم يقبض ومن أصحابنا من قال: يبطل العقد بالموت لأنه غير لازم فبطل بالموت كالعقود الجائزة والمنصوص أنه لا يبطل لأنه عقد يئول إلى اللزوم فلم يبطل بالموت كالبيع بشرط الخيار فإذا قبض ملك بالقبض ومن أصحابنا من قال يتبين أنه تلك بالعقد فإن حدث منه نماء قبل القبض كان للموهوب له لأن الشافعي رضي الله عنه قال فيمن وهب له عبد قبل أن يهل عليه هلال شوال وقبض بعدما أهل إن فطرة العبد على الموهوب له والمذهب الأول وما قال في زكاة الفطر فرعه على قول مالك رحمه الله.

(2/334)


فصل: فإن وهب لغير الولد وولد الولد شيئاً وأقبضه لم يملك الرجوع فيه لما روى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما أعطى ولده وإن وهب للولد أو ولد الولد وإن سفل جاز له أن يرجع للخبر ولأن الأب لا يتهم في رجوعه لأنه لا يرجع إلا لضرورة أو لإصلاح الولد وإن تصدق عليه فالمنصوص أن له أن يرجع كالهبة ومن أصحابنا من قال لا يرجع لأن القصد بالصدقة طلب الثواب وإصلاح حاله مع الله عز وجل فلا يجوز أن يتغير رأيه في ذلك والقصد من الهبة إصلاح حال الولد وربما يكون الصلاح في استرجاعه فجاز له الرجوع وإن تداعى رجلان نسب مولود ووهبا له مالاً لم يجز لواحد منهما أن يرجع لأنه لم يثبت بنوته فإن لحق بأحدهما ففيه وجهان: أحدهما أنه يجوز لأنه ثبت أنه ولده والثاني لا يجوز لأنه لم يثبت له الرجوع في حال العقد وإن وهب لولده ووهب الولد لولده ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه في ملك من يجوز له الرجوع في هبته والثاني لا يجوز لأنه رجوع على غير من وهب له فلم يجز وإن وهب لولده شيئاً فأفلس الولد وحجر عليه ففيه وجهان: أحدهما يرجع لأن حقه سابق لحقوق الغرماء والثاني لا يرجع لأنه تعلق به حق الغرماء فلم يجز له الرجوع كما لو رهنه.
فصل: وإن زاد الموهوب في ملك الولد أو زال الملك فيه ثم عاد إليه فالحكم فيه كالحكم في المبيع إذا زاد في يد المشتري أو زال الملك فيه ثم عاد إليه ثم أفلس في رجوع البائع وقد بيناه في التفليس.
فصل: فإن وهب شيئاً من دونه لم يلزمه أن يثيبه بعوض لأن القصد من هبته الصلة فلم تجب المكافأة فيه بعوض كالصدقة وإن وهب لمن هو مثله لم يلزمه أيضاً أن يثيبه لأن القصد من هبته اكتساب المحبة وتأكيد الصداقة وإن وهب لمن هو أعلى منه ففيه قولان: قال في القديم: لم يلزمه أن يثيبه عليه بعوض لأن العرف في هبة الأدنى للأعلى أن يلتمس به العوض فيصير ذلك كالمشروط وقال في الجديد: لا يجب لأنه تمليك بغير عوض فلا يوجب المكافأة بعوض كهبة النظير للنظير فإن قلنا لا يجب فشرط فيه ثواباً معلوماً ففيه قولان: أحدهما يصح لأنه تمليك مال بمال فجاز كالبيع فعلى هذا يكون كبيع بلفظ الهبة في الربا والخيار وجميع أحكامه والثاني أنه باطل لأنه عقد لا يقتضي العوض فبطل شرط العوض كالرهن فعلى هذا حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه وإن شرط فيه ثواباً مجهولاً بطل قولاً واحداً لأنه شرط العوض ولأنه شرط

(2/335)


عوضاً مجهولاً وإن قلنا أنه يجب العوض ففي قدره ثلاثة أقوال: أحدها أنه يلزمه أن يعطيه إلى أن يرضى لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن أعرابياً وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها وقال "أرضيت؟ " قال لا فزاده وقال: أرضيت فقال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي" والثاني يلزمه قدر قيمته لأنه عقد يوجب العوض فإذا لم يكن مسمى وجب عوض المثل كالنكاح والثالث يلزمه ما جرت العادة في ثواب مثله لأن العوض وجب بالعرف فوجب مقداره في العرف فإن قلنا إنه يجب العوض فلم يعطه ثبت له الرجوع فإن تلفت العين رجع بقيمتها لأن كل عين ثبت له الرجوع بها إذا تلفت وجب الرجوع إلى بدلها كالمبيع ومن أصحابنا من قال: لايجب لأن حق الواهب في العين وإن نقصت العين رجع فيها وهل يرجع بأرش ما نقص؟ فيه وجهان كالوجهين في رد القيمة إذا تلفت وإن شرط عوضاً مجهولاً لم تبطل لأنه شرط ما يقتضيه العقد لأن العقد على هذا القول يقتضي عوضاً مجهولاً وإن لم يدفع إليه العوض وتلف الموهوب ضمن العوض بلا خلاف وإن شرط عوضاً معلوماً ففيه قولان: أحدهما أن العقد يبطل لأن العقد يقتضي عوضاً غير مقدر فبطل بالتقدير والثاني يصح لأنه إذا صح بعوض مجهول فلأن يصح بعوض معلوم أولى.
فصل: وإن اختلف الواهب والموهوب له فقال الواهب وهبتك ببدل وقال الموهوب له وهبتني على غير بدل ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول الواهب لأنه لم يقر لخروج الشيء من ملكه إلا على بدل والثاني أن القول قول الموهوب له لأن الواهب أقر له بالهبة وادعى بدلاً الأصل عدمه.

(2/336)


باب العمرى والرقبى
العمرى هو أن يقول أعمرتك هذه الدار أو جعلتها لك عمرك وفيها ثلاث مسائل: إحداها أن يقول أعمرتك هذه الدار حياتك ولعقبك بعدك فهذه عطية صحيحة تصح بالإيجاب والقبول ويملك فيها بالقبض والدليل عليه ماروى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها1" لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث والثانية أن يقول أعمرتك هذه الدار
__________
1 رواه مسلم في كتاب الهبات حديث 25. أأأبو داود في كتاب البيوع باب 85. النسائي في كتاب العمري باب 4. أحمد في مسنده "3/304".

(2/336)


حياتك ولم يشرط شيئاً ففيه قولان: قال في القديم: هو باطل لأنه تمليك عين قدرة بمدة فأشبه إذا قال أعمرتك سنة أو أعمرتك حياة زيد وقال في الجديد: هو عطية صحيحة ويكون للمعمر في حياته ولو ورثته بعده وهو الصحيح لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعمر عمرى حياته فهي له ولعقبه من بعده يرثها من يرثه من بعده1" ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك وتنتقل إلى الورثة فلم يكن ما جعله في حياته منافياً لحكم الأملاك والثالثة أن يقول أعمرتك حياتك فإن مت عادت إلي إن كنت حياً وإلى ورثتي إن كنت ميتاً فهي كالمسألة الثانية فتكون على قولين أحدهما تبطل والثاني تصح لأنه شرط أن تعود إليه بعد ما زال ملكه أو إلى وارثه وشرطه بعد زوال الملك لا يؤثر في حق المعمر فيصير وجوده كعدمه.
فصل: وأما الرقبى فهو أن يقول أرقبتك هذه الدار أو داري لك رقبى ومعناه وهبت لك وكل واحد منا يرقب صاحبه فإن مت قبلي عادت إلي وإن مت قبلك فهي لك فتكون كالمسألة الثالثة من العمرى وقد بينا أن الثالثة كالثانية فتكون على قولين وقال المزني: الرقبى أن يجعلها لآخرهما موتاً وهذا خطأ لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعمر وأرقب رقبى فهي للمعتمر يرثها من يرثه2".
فصل: ومن وجب على رجل دين جاز له أن يبرئه من غير رضاه من أصحابنا من قال: لا يجوز إلا بقبول من عليه الدين لأنه تبرع يفتقر إلى تعيين المتبرع عليه فافتقر إلى قبوله كالوصية والهبة ولأن فيه التزاماً منه فلم يملك من غير قبوله كالهبة والمذهب الأول لأنه إسقاط حق ليس فيه تمليك مال فلم يعتبر فيه القبول كالعتق والطلاق والعفو عن الشفعة والقصاص ولا يصح الإبراء من دين مجهول لأنه إزالة ملك لا يجوز تعليقه على الشرط فلم يجز مع الجهالة كالبيع والهبة.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الهبة باب 32. مسلم في كتاب الهبات حديث 30 - 32. الترمذي في كتاب الأحكام باب 15. النسائي في كتاب العمري باب 1،2. أحمد في مسنده "1/250".
2 المصدر السابق.

(2/337)