المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الوصايا
مدخل
...
كتاب الوصايا
من ثبتت له الخلافة على الأمة جاز له أن يوصي بها إلى من يصلح لها لأن أبا بكر رضي الله عنه وصى إلى عمر ووصى عمر رضي الله عنه إلى أهل الشورى رضي الله عنهم ورضيت الصحابة رضي الله عنهم بذلك.
فصل: ومن ثبتت له الولاية في مال ولده ولم يكن له ولي بعده جاز له أن يوصي إلى من ينطر في ماله لما روى سفيان بن عيينة رضي الله عنه عن هشام بن عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عثمان والمقداد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود رضي الله عنهم فكان يحفظ عليهم أموالهم وينفق على أبنائهم من ماله وإن كان له جد لم يجز أن يوصي إلى غيره لأن ولاية الجد مستحقة بالشرع فلا يجوز نقلها عنه بالوصية.
فصل: ومن ثبت له الولاية في تزويج ابنته لم يجز أن يوصي إلى من يزوجها وقال أبو ثور: يجوز كما يجوز أن يوصي إلى من ينظر في مالها وهذا خطأ لما روى ابن عمر قال: زوجني قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون فأتى قدامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عمها ووصي أبيها وقد زوجتها من عبد الله بن عمر فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها يتيمة لا تنكح إلا بإذنها" ولأن ولاية النكاح لها من يستحقها بالشرع فلا يجوز نقلها بالوصية بالنظر في المال مع وجود الجد.
فصل: ومن عليه حق يدخله النيابة من دين آدمي أو حج أو زكاة أو رد وديعة جاز أن يوصي إلى من يؤدي عنه لأنه إذا جاز أن يوصي في حق غيره فلأن يجوز في خاصة نفسه أولى.
فصل: ومن ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة ملك الوصية بثلثه في وجود البر لما روى عامر بن سعيد عن أبيه قال: مرضت مرضاً أشرفت منه على الموت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت: يا رسول الله لي مال كثير وليس يرثني إلا ابنتي أفأتصدق بمالي كله قال: "لا" قال: أتصدق بثلثي مالي قال: "لا" قلت أتصدق بالشطر قال: "لا" قلت: أتصدق بالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من

(2/338)


أن تتركهم عالة يتكففون الناس1" ولا يجب ذلك لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} [الأحزاب: 6] وفسر بالوصية فجعل ذلك إليهم فدل على أنها لا تجب ولأنه عطية لا تلزم في حياته فلم تلزم الوصية به قياساً على ما زاد على الثلث.
فصل: وإن كانت ورثته فقراء فالمستحب أن لا يستوفي الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: "الثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس" فاستكثر الثلث وكره أن يترك ورثته فقراء فدل على أن المستحب أن لا يستوفي الثلث وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالثلث وإن كان الورثة أغنياء فالمستحب أن يستوفي الثلث لأنه لما كره الثلث إذا كانوا فقراء دل على أنه يستحب إذا كانوا أغنياء أن يستوفيه.
فصل: وينبغي لمن رأى المريض يجنف في الوصية أن ينهاه لقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] قال أهل التفسير: إذا رأى المريض يجنف على ولده أن يقول اتق الله ولا توص بمالك كله ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعدا عن الزيادة على الثلث.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الفرائض باب 16. مسلم في كتاب الوصية حديث 8،8. أبو داود في كتاب الصايا باب 2. الترمذي في كتاب الصايا باب 1. الموطأ في كتاب الوصايا حديث 4. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 5. أحمد في مسنده "1/168".

(2/339)


فصل: والأفضل أن يقدم ما يوصي به من البر في حياته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا1" ولأنه لا يأمن إذا وصى به أن يفرط به بعد موته فإنه اختار أن يوصي فالمستحب أن لا يؤخر الوصية لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ولأنه إذا أخر لم يؤمن أن يموت فجأة فتفوته.
فصل: وأما من لا يجوز تصرفه في المال فإن كان ممن لا يميز كالمعتوه والمبرسم ومن عاين الموت لم تصح وصيته لأن الوصية تتعلق صحتها بالقول ولا قول لمن لا يميز ولهذا لا يصح إسلامه ولا توبته فلم تصح وصيته فإن كان صبياً مميزاً أو بالغاً مبذراً ففيه قولان: أحدهما لا تصح وصيته لأنه تصرف في المال فلم يصح من الصبي والمبذر كالهبة والثاني تصح لأنه منع من التصرف خوفاً من إضاعة المال وليس في الوصية إضاعة المال لأنه إن عاش فهو على ملكه وإن مات لم يحتج إلى غير الثواب وقد حصل له ذلك بالوصية.
فصل: وأما إذا أوصى بما زاد على الثلث فإن لم يكن له وارث بطلت الوصية فيما زاد على الثلث لأن ماله ميراث للمسلمين ولا مجيز له منهم فبطلت فإن كان له وارث ففيه قولان: أحدهما أن الوصية تبطل بما زاد على الثلث لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعداً عن الوصية بما زاد على الثلث والنهي يقتضي الفساد وليست الزيادة مالاً للوارث فلم تصح وصيته به كما لو أوصى بمال للوارث من غير الميراث والثاني أنها تصح وتقف على إجازة الوارث فإن أجاز نفذت وإن ردها بطلت لأن الوصية صادفت ملكه وإنما يتعلق بها حق الوارث في الثاني فصحت ووقفت الإجازة كما لو باع ما فيه شفعة فإن قلنا على أنها باطلة كانت الإجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها الإيجاب والقبول باللفظ الذي تنعقد به الهبة ويعتبر في لزومها القبض وإن كانت الوصية عتقاً لم يصح إلا بلفظ العتق ويكون
__________
1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 93. النسائي في كتاب الزكاة باب 60. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 4. أحمد في مسنده "2/231".

(2/340)


الولاء فيه للوارث وإن قلنا إنها تصح كانت الإجازة إمضاء لما وصى به الموصي وتصح بلفظ الإجازة كما يصح العفو عن الشفعة بلفظ العفو فإن كانت الوصية عتقاً كان الولاء للموصي ولا يصح الرد والإجازة إلا بعد الموت لأنه لا حق له قبل الموت فلم يصح إسقاطه كالعفو عن الشفعة قبل البيع.
فصل: فإن جاز الوارث ما زاد على الثلث ثم قال أجزت لأني ظننت أن المال قليل وأن ثلثه قليل وقد بان أنه كثير لزمت الإجازة فيما علم والقول قول فيما لم يعلم مع يمينه فإذا حلف لم يلزمه لأن الإجازة في أحد القولين هبة وفي الثاني إسقاط والجميع لا يصح مع الجهل به وإن وصى بعبد فأجازه الوارث ثم قال أجزت لأني ظننت أن المال كثير وقد بان قليل ففيه قولان: أحدهما أن القول قوله كالمسألة قبلها والثاني أنه يلزمه الوصية لأنه عرف ما أجازه ويخالف المسألة قبلها فإن هناك لم يعلم ما أجازه.
فصل: واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قدر المال لإخراج الثلث فمنهم من قال الإعتبار بقدر المال في حال الوصية لأنه عقد يقتضي اعتبار قدر المال فكان الإعتبار فيه بحال العقد كما لو نذر أن يتصدق بثلث ماله فعلى هذا لو أوصى وثلث ماله ألف فصار عند الوفة ألفين لم تلزم الوصية في الزيادة فإن أوصى بألف ولا مال ثم استفاد مالاً لم تتعلق به الوصية وإن وصى وله مال فهلك ماله بطلت الوصية ومنهم من قال: الإعتبار بقدر المال عند الموت وهو المذهب لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها ولأنه لو وصى بثلث ماله ثم باع جميعه تعلقت الوصية بالثمن فلو كان الاعتبار بحال الوصية لم تتعلق بالثمن لأنه لم يكن حال الوصية فعلى هذا لو وصى بثلث ماله وماله ألف فصار ألفين لزمت الوصية في ثلث الألفين فإن وصى بمال ولا مال ثم استفاد مالاً تعلقت به الوصية فإن وصى بثلثه وله مال ثم تلف ماله لم تبطل الوصبية.
فصل: وأما الوصية بما لا قربة فيه كالوصية للكنيسة والوصية بالسلاح لأهل الحرب فهي باطلة لأن الوصية إنما جعلت له ليدرك بها ما فات ويزيد بها الحسنات ولهذا روي أن

(2/341)


النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى أعطاكم ثلث أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم1" وما ذكرناه ليس من الحسنات فلم تصح فيه الوصية فإن وصى ببيع ما له من رجل من غير محاباة ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه قصد تخصيصه بالتمليك والثاني لا يصح لأن البيع من غير محاباة ليس بقربة فلم تصح الوصية به وإن وصى لذمي جاز لما روي أن صفية وصت لأخيها بثلثها ثلاثين ألفاً وكان يهودياً ولأن الذمي موضع للقربة ولهذا يجوز التصدق عليه بصدقة التطوع فجازت له الوصية فإن وصى لحربي ففيه وجهان أحدهما: أنه لا تصح الوصية وهو قول أبي العباس بن القاص لأن القصد بالوصية نفع الموصى له وقد أمرنا بقتل الحربي وأخذ ماله فلا معنى للوصية له والثاني يصح وهو المذهب لأنه تمليك يصح للذمي فصح للحربي كالبيع.
فصل: واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى فيمن وصى لقاتله فقال في أحد القولين لا يجوز لأنه مال مستحق بالموت فمنع القتل منه كالميراث وقال في الثاني: يجوز لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يمنع القتل منه كالبيع فإن قتلت أم الولد مولاها عتقت لأن عتقها ليس بوصية بدليل أنه لا يعتبر من الثلث فلم يمنع القتل منه فإن قتل المدبر مولاه فإن قلنا إن التدبير عتق بالصفة عتق لأنه ليس بوصية وإنما هو عتق بصفة وقد وجدت الصفة تعتق وإن قلنا إنه وصية وقلنا إن الوصية للقاتل لا تجوز لم يعتق وإن قلنا إنها تجوز عتق من الثلث فإن كان على رجل دين مؤجل فقتله صاحب الدين حل الدين لأن الأجل حق للمقتول لا حظ له في بقائه بل الحظ في إسقاطه ليحل الدين ويقضي فيتخلص منه.
فصل: واختلف قوله في الوصية للوارث فقال في أحد القولين لا تصح لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث2" ولأنها وصية لا تلزم لحق الوارث فلم تصح كما لو أوصى بمال لهم من غير الميراث فعلى هذا الإجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها ما يعتبر في الهبة والثاني تصح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز لوارث وصية إلا إن شاء الورثة" فدل على أنهم إذا شاءوا كانت وصية
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 5.
2 رواه البخالري في كتاب الوصايا ببباب 6. أبو داود في كتاب الوصايا باب 6. الترمذي في كتاب الوصايا باب 5. النسائي في كتاب الوصايا باب 5. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 6.

(2/342)


وليست الوصية في ملكه وإنما يتعلق بها حق الورثة في الثاني فلم يمنع صحتها كبيع ما فيه شفعة فعلى هذا إذا أجاز الورثة نفذت الوصية.
فصل: ولا تصح الوصية لمن لا يملك فإن وصى لميت لم تصح الوصية لأنه تمليك فلم يصح للميت كالهبة وإن وصى لحمل تيقن وجوده حال الوصية بأن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية أو لستة أشهر وليست بفراش صحت الوصية لأنه يملك بالإرث فملك بالوصية وإن وضعته لستة أشهر وهي فراش لم تصح الوصية لأنه يجوز أن يكون حدث بعد الوصية فلم تصح الوصية بالشك فإن ألقته ميتاً لم تصح الوصية لأنه لا يتقين حياته حال الوصية ولهذا لا يحكم له بالإرث فلم يحكم له بالملك بالوصية فإن وصى لما تحمل هذه المرأة لم تصح الوصية وقال أبو إسحاق تصح والمذهب الأول لأنه تمليك لمن لا يملك فلم يصح.
فصل: فإن قال وصيت بهذا العبد لأحد هذين الرجلين لم يصح لأنه تمليك لغير معين فإن قال أعطوا هذه العبد أحد هذين الرجلين جاز لأنه ليس بتمليك وإنما هو وصية بالتمليك ولهذا لو قال بعت هذا العبد من أحد هذين الرجلين لم يصح ولو قال لوكيله: بع هذا العبد من أحد هذين الرجلين جاز.
فصل: فإن أوصى لعبده كانت الوصية لوارثه لأن العبد لا يملك فكانت الوصية للوارث وقد بيناه فإن وصى لمكاتبه صحت الوصية لأن المكاتب يملك المال بالعقد فصحت له الوصية فإن وصى لأم ولده صحت لأنها حرة عند الاستحقاق فإن وصى لمدبره وعتق من الثلث صحت له الوصية لأنه حر عند الموت فهو كأم الولد فإن لم يعتق كانت الوصية للوارث وقد بيناه فإن وصى لعبد غيره كانت الوصية لمولاه وهل يصح قبوله من غير إذن المولى؟ فيه وجهان: أحدهما وهو الصحيح أنه يصح ويملك به المولى كما يملك ما يصطاده بغير إذنه والثاني وهو قول أبو سعيد الاصطخري أنه لا يصح لأنه تمليك للسيد بعقد فلم يصح القبول فيه من غير إذنه وهل يصح قبول السيد فيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الإيجاب للعبد فلم يصح قبول السيد كالإيجاب في البيع والثاني يصح لأن القبول في الوصية يصح لغير من أوجب له وهو الوارث بخلاف البيع.
فصل: وتجوز الوصية بالمشاع والمقسوم لأنه تمليك جزء من ماله فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع ويجوز بالمجهول كالحمل في البطن واللبن في الضرع وعبد من عبيد وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق لأن الموصى له يخلف الميت في ثلثه

(2/343)


كما يخلفه الوارث في ثلثه فلما جاز أن يخلف الوارث الميت في هذه الأشياء جاز أن يخلفه الموصى له فإن وصى بمال الكتابة جاز لما ذكرناه فإن وصى برقبته فهو على القولين في بيعه.
فصل: فإن وصى بما تحمله الجارية أو الشجرة صحت الوصية لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة فجاز أن يملك بالوصية ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا إن الإعتبار بحال الوصية لم تصح لأنه لا يملك في الحال ما وصى به.
فصل: وتجوز الوصية بالمنافع لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث فكانت كالأعيان في الوصية ويجوز بالعين دون المنفعة وبالعين لواحد وبالمنفعة لآخر لأن المنفعة والعين كالعين فجاز فيهما ما جاز في العينين ويجوز بمنفعة مقدرة بالمدة وبمنفعة مؤبدة لأن المقدرة كالعين المعلومة والمؤبدة كالعين المجهولة فصحت الوصية بالجميع.
فصل: وتجوز الوصية بما يجوز الإنتفاع به من النجاسات كالسماد والزيت النجس والكلب وجلد الميتة لأنه يحل اقتناؤها للإنتفاع بها فجاز نقل اليد فيها بالوصية ولا يجوز بما لا يحل الإنتفاع به كالخمر والخنزير والكلب العقور لأنه لا يحل الإنتفاع ولا تقر اليد عليها فلم تجز الوصية بها.
فصل: ويجوز تعليق الوصية على شرط في الحياة لأنها تجوز في المجهول فجاز تعليقها بالشرط كالطلاق والعتاق ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة إذا جاز تعليقها على شرط في الحياة جاز بعد الموت.
فصل: وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء لزمت بالموت لأنه لا يمكن اعتبار القبول فلم يعتبر وإن كانت لمعين لم تلزم إلا بالقبول لأنه تمليك لمعين فلم يلزم من غير قبول كالبيع ولا يصح القبول إلا بعد الموت لأن الإيجاب بعد الموت فكان القبول بعده فإن قبل حكم له بالملك وفي وقت الملك قولان منصوصان: أحدهما تملك بالموت والقبول لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يقع الملك قبله كالهبة والثاني أنه موقوف فإن قبل حكمنا بأنه ملك من حين الموت لأنه لا يجوز أن يكون للموصي لأن الميت لا يملك ولا يجوز أن يكون للوارث لأن الوارث لا يملك إلا بعد الدين والوصية ولا يجوز أن يكون للموصي له لأنه لو انتقل إليه لم يملك رده كالميراث فثبت أنه موقوف وروى ابن عبد الحكم قولاً ثالثاً أنه يملك بالموت ووجهه أنه مال مستحق بالموت فانتقل به كالميراث.

(2/344)


فصل: وإن رد نظرت فإن كان في حياة الوصي لم يصح الرد لأنه لا حق له في حياته فلم يملك إسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعة قبل البيع وإن رد بعد الموت وقبل القبول صح الرد لأنه يثبت له الحق فملك إسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعة بعد البيع وإن رد بعد القبول وقبل القبض ففيه وجهان: أحدهما لا يصح الرد لأنه ملكه ملكاً تاماً فلم يصح رده كما لو قبضه والثاني أنه يصح الرد وهو المنصوص لأنه تمليك من جهة الآدمي من غير بدل فصح رده قبل القبض كالوقف وإن لم يقبل ولم يرد كان للورثة المطالبة بالقبول أو الرد فإن امتنع القبول والرد حكم عليه بالرد لأن الملك متردد بينه وبين الورثة كما لو تحجز أرضاً فامتنع عن إحيائها أوقف في مشرعة ماء فلم يأخذ ولم ينصرف.
فصل: وإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلب الوصية ولا يقوم وارثه مقامه إن مات قبل إستحقاق الوصية وإن مات بعد موته وقبل القبول قام وارثه مقامه في القبول والرد لأنه خيار ثابت في تملك المال فقام الوارث مقامه كخيار الشفعة.

(2/345)


باب ما يعتبر من الثلث
ما وصى به من التبرعات كالعتق والهبة والصدقة والمحاباة في البيع يعتبر من الثلث سواء كانت في حال الصحة أو في حال المرض أو بعضها في الصحة وبعضها في المرض لأن لزوم الجميع عند الموت فأما الواجبات من ديون الآدميين وحقوق الله تعالى كالحج والزكاة فإنه إن لم يوص بها وجب قضاؤها من رأس المال دون الثلث لأنه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة ولا حق للورثة مع الديون فلم تعتبر من الثلث وإن وصى أن يؤدي ذلك من الثلث اعتبر من الثلث لأنها في الأصل من رأس المال فلما جعلها من الثلث علم أنها قصد التوفير على الورثة فاعتبرت من الثلث وإن وصى بها ولم يقل أنها من الثلث ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه تعتبر من الثلث وهو ظاهر النص لأنها من رأس المال فلما وصى بها علم أنه قصد أن يجعلها من جملة الوصايا فجعل سبيلها سبيل الوصايا والثاني هو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه إن لم يفرق بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من رأس المال وإن قرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من الثلث لأنها في الأصل من رأس المال فإذا عريت عن القرينة بقيت على أصلها وإن قرن بها ما يعتبر من الثلث علم أنه قصد أن يكون مصرفهما واحداً والثالث أنه تعتبر من رأس المال وهو الصحيح لأنها في الأصل من رأس المال والوصية بها تقتضي التأكيد والتذكار بها والقرينة تقتضي التسوية بينهما في الفعل لا في السبيل فبقيت على أصلها.
فصل: وأما ما تبرع به في حياته ينظر فيه فإن كان في حال الصحة لم يعتبر من

(2/345)


الثلث لأنه مطلق التصرف في ماله لا حق لأحد في ماله فاعتبر من رأس المال وإن كان ذلك في مرض غير مخوف لم يعتبر من الثلث لأن الإنسان لا يخلو من عوارض فكان حكمه حكم الصحيح وإن كان ذلك في مرض مخوف واتصل به الموت اعتبر من الثلث لما روى عمران بن الحصين أن رجلاً أعتق ستة أعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للرجل قولاً شديداً ثم دعاهم فجزأهم فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ولأنه في هذه الحالة لا يأمن الموت فجعل كحال الموت وإن برئ من المرض لم يعتبر من الثلث لأنه قد بان أنه لم يكن في ماله حق أحد وإن وهب في الصحة وأقبض في المرض اعتبر من الثلث لأنه لم يلزم إلا بالقبض وقد وجد ذلك منه في المرض.
فصل: وإن باع في المرض بثمن المثل أو تزوج امرأة بمهر المثل صح العقد ولم يعتبر العوض من الثلث لأنه ليس بوصية لأن الوصية أن يخرج مالاً من غير عوض ولم يخرج ههنا شيئاً من غير عوض وإن كاتب عبداً اعتبر من الثلث لأن ما يأخذ من العوض من كسب عبده وهو مال له فيصير كالعتق بغير عوض وإن وهب له من يعتق عليه في المرض المخوف فقبله اعتبر عتقه من الثلث فإذا مات لم يرثه وقال أبو العباس: يعتبر عتقه من رأس المال ويرثه لأنه ليس بوصية لأنه لم يخرج من ملكه شيئاً بغير عوض والمذهب الأول لأنه ملكه بالقبول وعتق عليه والعتق في المرض وصية والميراث والوصية لا يجتمعان فلو ورثناه بطل عتقه وإذا بطل العتق بطل الإرث فأثبتنا وأبطلنا الإرث.
فصل: والمرض المخوف كالطاعون والقولنج وذات الجنب والرعاف الدائم والإسهال المتواتر وقيام الدم والسل في انتهائه والفالج الحادث في ابتدائه والحمى المطبقة لأن هذه الأمراض لا يؤمن معها معاجلة الموت فجعل كحال الموت فأما غير المخوف فهو كالجرب ووجع الضرس والصداع اليسير وحمى يوم أو يومين وإسهال يوم أو يومين من غير دم والسل قبل انتهائه والفالج إذا طال لأن هذه الأمراض يؤمن معها

(2/346)


معاجلة الموت فإذا اتصل بها الموت علم أنه لم يكن موته من هذه الأمراض وإن أشكل شيء من هذه الأمراض رجع إلى نفسين من أطباء المسلمين ولا يقبل فيه قول الكافر وإن ضرب الحامل الطلق فهو مخوف لأنه يخاف منه الموت وفيه قول آخر أنه غير مخوف لأن السلامة منه أكثر.
فصل: وإن كان في الحرب وقد التحمت طائفتان متكافئتان أو كان في البحر وتموج أو في أسر كفار يرون قتل الأسارى أو قدم للقتل في المحاربة أو الرجم في الزنا ففيه قولان: أحدهما أنه كالمرض المخوف يعتبر تبرعاته فيه من الثلث لأنه لا يأمن الموت كما لا يأمن في المرض المخوف والثاني أنه كالصحيح لأنه لم يحدث في جسمه ما يخاف منه الموت فإن قدم القتل القصاص فالمنصوص أنه لا تعتبر من الثلث ما لم يجرح واختلف أصحابنا فيه على طريقين فقال أبو إسحاق: هي على قولين قياساً على الأسير في يد كفار يرون قتل الأسارى ومن أصحابنا من قال: لا تعتبر عطيته من الثلث لأنه غير مخوف لأن الغالب من حال المسلم أنه إذا قدر رحم وعفا فصار كالأسير في يد من لا يرى قتل الأسارى.
فصل: وإن عجز الثلث عن التبرعات لم يخلو إما أن يكون في التبرعات المنجزة في المرض أو في الوصايا فإن كان في التبرعات المنجزة في المرض فإن كانت في وقت واحد نظرت فإن كانت في هبات أو محاباة قسم الثلث بين الجميع لتساويهما في اللزوم فإن كانت متفاضلة المقدار قسم الثلث عليها على التفاضل وإن كانت متساوية قسم بينها على التساوي كما يفعل في الديون وإن كان عتقاً في عبيد أقرع بينهم لما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين ولأن القصد من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه فإن وقعت متفرقة قدم الأول فالأول عتقاً كان أو غيره لأن الأول سبق فاستحق به الثلث فلم يجز إسقاطه بما بعده فإن كان له عبدان سالم وغانم فقال لسالم: إن أعتقت غانماً فأنت حر ثم أعتق غانماً قدم عتق غانم لأن عتقه سابق فإن قال إن أعتقت غانماً فأنت حر حال عتق غانم ثم أعتق غانماً فقد قال بعض أصحابنا يعتق غانم لأن عتقه غير متعلق بعتق غيره وعتق سالم متعلق بعتق غيره فإذا أعتقناهما في وقت واحد احتجنا أن نقرع بينهما فربما خرجت القرعة على سالم فيبطل عتق غانم وإذا بطل عتقه بطل عتق سالم فيؤدي إثباته إلى نفيه فسقط ويبقى عتق غانم لأنه أصل ويحتمل عندي أنه لا يعتق واحد منهما لأنه جعل عتقهما في وقت واحد ولا يمكن أن نقرع بينهما لما ذكرناه ولا يمكن تقديم عتق أحدهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر

(2/347)


بالسبق فوجب أن يسقطا وإن كانت التبرعات وصايا وعجز الثلث عنها لم يقدم بعضها على بعض بالسبق لأن ما تقدم وما تأخر يلزم في وقت واحد وهو بعد الموت فإن كانت كلها هبات أو كلها محاباة أو بعضها هبات وبعضها محاباة قسم الثلث بين الجميع على التفاضل إن تفاضلت وعلى التساوي إن تساوت وإن كان الجميع عتقاً أقرع بين العبيد لما ذكرناه في القسم قبله وإن كان بعضها عتقاً وبعضها محاباة أو هبات ففيه قولان: أحدهما أن الثلث يقسم بين الجميع لأن الجميع يعتبر من الثلث ويلزم في وقت واحد والثاني يقدم العتق بما له من القوة وإن كان بعضها كتابة وبعضها هبات ففيه طريقان: أحدهما أنه لا تقدم الكتابة لأنه ليس له قوة وسراية فلم تقدم كالهبات والثاني أنها على قولين لأنها تتضمن العتق فكانت كالعتق.
فصل: وإن وصى أن يحج عنه حجة الإسلام من الثلث أو يقضى دينه من الثلث وصى معها بتبرعات ففيه وجهان: أحدهما يسقط الثلث على الجميع لأن الجميع يعتبر من الثلث فإن كان ما يخص الحج أو الدين من الثلث لا يكفي تمم من رأس المال لأنه في الأصل من رأس المال وإنما اعتبر من الثلث بالوصية فإذا عجز الثلث عنه وجب أن يتمم من أصل المال والثاني يقدم الحج والدين لأنه واجب ثم يصرف ما فضل في الوصايا.
فصل: وإن وصى لرجل بمال وله مال حاضر ومال غائب أو له عين ودين دفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين وإلى الورثة الثلثان وكل ما حضر من الغائب أو نض من الدين شيء قسم بين الورثة والموصى له لأن الموصى له شريك الورثة بالثلث فصار كالشريك في المال وإن وصى لرجل بمائة دينار وله مائة حاضرة وله ألف غائبة فللموصى له ثلث الحاضر ويوقف الثلثان لأن الموصى له شريك الوارث في المال فصار كالشريك في المال وإن أراد الموصى له التصرف في ثلث المائة الحاضرة ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن الوصية في ثلث الحاضرة ماضية فمكن من التصرف فيه والثاني لا يجوز لأنا منعنا الورثة من التصرف في الثلثين الموقوفين فوجب أن نمنع الموصى له من التصرف في الثلث وإن دبر عبداً قيمته مائة وله مائتان غائبة ففيه وجهان: أحدهما يعتق ثلث العبد لأنه عتق ثلثه مستحق بكل حال والثاني وهو ظاهر المذهب إلى أنه لا يعتق لأنا لو أعتقنا الثلث حصل للموصى له الثلث ولم يحصل للورثة مثلاه وهذا لا يجوز.
فصل: وإن وصى له بثلث عبد فاستحق ثلثاه وثلث ماله يحتمل الثلث الباقي من العبد نفذت الوصية فيه على المنصوص وقال أبو ثور وأبو العباس لا تنفذ الوصية إلا في

(2/348)


ثلث الباقي كما لو وصى بثلث ماله ثم استحق من ماله الثلثان والمذهب الأول لأن ثلث العبد ملكه وثلث ماله يحتمله فنفذت الوصية فيه كما لو أوصى له بعبد يحتمله الثلث ويخالف هذا إذا أوصى بثلث ماله ثم استحق ثلثاه لأن الوصية هناك بثلث ماله وماله هو الباقي بعد الاستحقاق وليس كذلك ههنا لأنه يملك الباقي وله مال غيره يخرج الباقي من ثلثه.
فصل: وإن وصى له بمنفعة عبد سنة ففي اعتبارها من الثلث وجهان: أحدهما يقوم العبد كامل المنفعة ويقوم مسلوب المنفعة في مدة سنة ويعتبر ما بينهما من الثلث والثاني تقوم المنفعة سنة فيعتبر قدرها من الثلث ولا تقوم الرقبة لأن الموصى به هو المنفعة فلا يقوم غيرها وإن وصى له بمنفعة عبد على التأبيد ففي اعتبار منفعته من الثلث ثلاثة أوجه: أحدها تقوم المنفعة في حق الموصى له والرقبة مسلوبة المنفعة في حق الوارث لأن الموصى له ملك المنفعة والوارث ملك الرقبة وينظر كم قدر التركة مع قيمة الرقبة مساوية المنفعة وينظر قيمة المنفعة فتعتبر من الثلث والثاني تقوم المنفعة في حق الموصى له لأنه ملكها بالوصية ولا تقوم الرقبة في حق الموصى له لأنه لم يملكها ولا في حق الوارث لأنها مسلوبة المنفعة في حقها لا فائدة له فيها فعلى هذا ينظر كم قدر التركة وقيمة المنفعة فتعتبر من الثلث والثالث وهو المنصوص تقوم الرقبة بمنافعها في حق الموصي له لأن المقصود من الرقبة منفعتها فصار كما لو كانت الرقبة له فقومت في حقه وينظر قدر التركة فتعتبر قيمة الرقبة من ثلثه وإن وصى بالرقبة لواحد وبالمنفعة لواحد قومت الرقبة في حق من وصى له بها والمنفعة في حق من وصى له بها لأن كل واحد منهما يملك ما وصى له به فاعتبر قيمتهما من الثلث.
فصل: وإن وصى له بثمرة بستانه فإن كانت موجودة اعتبرت قيمتها من الثلث وإن لم تخلق فإن كانت على التأبيد ففي التقويم وجهان: أحدهما يقوم جميع البستان والثاني يقوم كامل المنفعة ثم يقوم مسلوب المنفعة ويعتبر ما بينهما من الثلث فإن احتمله الثلث نفذت الوصية فيما بقي من البستان وإن احتمل بعضها كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشاركه فيه الورثة فإن كان الذي يحتمله النصف كان للموصي له من ثمرة كل عام النصف وللورثة النصف والله أعلم.

(2/349)


باب جامع الوصايا
إذا وصى لجيرانه صرف إلى أربعين داراً من كل جانب لما روى أبو هريرة رضي الله

(2/349)


عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق الجوار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا وهكذا وهكذا يميناً وشمالاً وقداماً وخلفاً".
فصل: وإن وصى لقراء القرآن صرف إلى من يقرأ جميع القرآن وهل يدخل فيه من لا يحفظ جميعه؟ فيه وجهان: أحدهما يدخل فيه لعموم اللفظ والثاني لا يدخل فيه لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا على من يحفظه وإن وصى للعلماء صرف إلى علماء الشرع لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا عليهم ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه لأن سماع الحديث من غير علم بطرقه ليس بعلم.
فصل: فإن وصى للأيتام لم يدخل فيه من له أب لأن اليتيم في بني آدم من فقد الأب ولا يدخل فيه بالغ لقوله: "لا يتم بعد الحلم1" وهل يدخل فيه الغني فيه وجهان: أحدهما يدخل فيه لأنه يتيم بفقد الأب والثاني لا يدخل فيه لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على غني فإن وصى للأرامل دخل فيه من لا زوج لها من النساء وهل يدخل فيه من لا زوجة له من الرجال فيه وجهان: أحدهما لا يدخل فيه لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على الرجال والثاني يدخل فيه لأنه قد يسمى الرجل أرملاً كما قال الشاعر:
كل الأرامل قد قضيت حاجتهم ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وهل يدخل فيه من لها مال على وجهين كما قلنا في الأيتام.
فصل: وإن وصى للشيوخ أعطى من جاوز الأربعين وإن وصى للفتيان والشباب أعطى من جاوز البلوغ إلى الثلاثين وإن وصى للغلمان والصبيان أعطى من لم يبلغ لأن هذه الأسماء لا تطلق في العرف إلا على ما ذكرناه.
فصل: وإن وصى للفقراء جاز أن يدفع إلى الفقراء والمساكين وإن وصى للمساكين جاز أن يدفع إلى المساكين والفقراء لأن كل واحد من الإسمين يطلق على الفريقين وإن وصى للفقراء والمساكين جمع بين الفريقين في العطية لأان الجمع بينهما يقتضي الجمع في العطية كما قلنا في آية الصدقات وإن وصى لسبيل الله تعالى دفع إلى الغزاة من أهل الصدقات لأنه قد ثبت لهم هذا الاسم في عرف الشرع فإن وصى للرقاب دفع إلى المكاتبين لأن الرقاب في عرف الشرع اسم للمكاتبين وإن وصى لأحد هذه الأصناف دفع إلى ثلاثة منهم لأنه قد ثبت لهذه الألفاظ عرف الشرع في ثلاثة وهو
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الوصايا باب 9.

(2/350)


في الزكاة فحملت الوصية عليها فإن وصى لزيد والفقراء فقد قال الشافعي رحمه الله: هو كأحدهم فمن أصحابنا من قال: هو بظاهره أن يكون كأحدهم يدفع إليه ما يدفع إلى أحدهم لأنه أضاف إليه وإليهم فوجب أن يكون كأحدهم ومنهم من قال: يصرف إلى زيد نصف الثلث ويصرف النصف إلى الفقراء لأنه أضاف إليه وإليهم فوجب أن يساويهم ومنهم من قال يصرف إليه الربع ويصرف ثلاثة أرباعه إلى الفقراء لأن أقل الفقراء ثلاثة فكأنه وصى لأربعة فكان حق كل واحد منهم الربع وإن وصى لزيد بدينار وبثلثه للفقراء وزيد فقير لم يعط غير الدينار لأنه قطع الاجتهاد في الدفع بتقدير حقه في الدينار.
فصل: وإن وصى لقبيلة عظيمة كالعلويين والهاشميين وطيء وتميم ففيه قولان: أحدهما أن الوصية تصح وتصرف إلى ثلاثة منهم كما قلنا في الوصية للفقراء والثاني أن الوصية باطلة لأنه لا يمكن أن يعطي الجميع ولا عرف هذا اللفظ في بعضهم فبطل بخلاف الفقراء فإنه قد ثبت لهذا اللفظ عرف وهو في ثلاثة في الزكاة.
فصل: وإن أوصى أن يضع ثلثه حيث يرى لم يجز أن يضعه في نفسه لأنه تمليك ملكه بالإذن فلم يملك من نفسه كما لو وكله في البيع والمستحب أن يصرفه إلى من لا يرث الموصي من أقاربه فإن لم يكن له أقارب صرف إلى أقاربه من الرضاع فإن لم يكونوا صرف إلى جيرانه لأنه قائم مقام الموصي والمستحب للموصي أن يضع فيما ذكرناه فكذلك الوصي.
فصل: وإن وصى بالثلث لزيد وجبريل كان لزيد نصف الثلث وتبطل في الباقي فإن وصى لزيد وللرياح ففيه وجهان: أحدهما أن الجميع لزيد لأن ذكر الرياح لغو والثاني أن لزيد النصف وتبطل الوصية في الباقي كالمسألة قبلها فإن قال ثلثي لله ولزيد ففيه وجهان: أحدهما أن الجميع لزيد وذكر الله تعالى للتبرك كقوله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] والثاني أنه يدفع إلى زيد نصفه والباقي للفقراء لأن عامة ما يجب لله تعالى يصرف إلى الفقراء.
فصل: وإن وصى لحمل امرأة فولدت ذكراً وأنثى صرف إليهما وسوى بينهما لأن ذلك عطية فاستوى فيه الذكر والأنثى وإن وصى إن ولدت ذكراً فله ألف وإن ولدت أنثى فلها مائة فولدت ذكراً وأنثى استحق الذكر الألف والأنثى المائة فإن ولدت خنثى دفع إليه المائة لأنه يقين ويترك الباقي إلى أن يتبين فإن ولدت ذكرين أو الأنثيين ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الوارث يدفع الألف إلى من يشاء من الذكرين والمائة إلى من يشاء

(2/351)


من الأنثيين لأن الوصية لأحدهما فلا تدفع إليهما والاجتهاد في ذلك إلى الوارث كما لو أوصى لرجل بأحد عبديه والثاني أنه يشترط الذكران في الألف والأنثيان في المائة لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فسوى بينهما ويخالف العبد فإن جعله إلى الوارث وههنا لم يجعله إلى الوارث والثالث أنه يوقف الألف بين الذكرين والمائة بين الأنثيين إلى أن يبلغا ويصطلحا لأن الوصية لأحدهما فلا يجوز أن تجعل لهما ولا خيار للوارث فوجب التوقف فإن قال إن كان ما في بطنك ذكراً فله ألف وإن كان أنثى فله مائة فولدت ذكراً وأنثى لم يستحق واحداً منهما شيئاً لأنه شرط أن يكون جميع ما في البطن ذكراً أو جميعه أنثى ولم يوجد واحد منهما.
فصل: فإن أوصى لرجل بسهم أو بقسط أو بنصيب أو بجزء من ماله فالخيار إلى الوارث في القليل والكثير لأن هذه الألفاظ تستعمل في القليل والكثير.
فصل: فإن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته أعطى مثل نصيب أقلهم نصيباً لأنه نصيب أحدهم فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كان ذلك وصية بنصف المال لأنه يحتمل أن يكون قد جعل له الكل ويحتمل أنه جعله مع ابنه فلا يلزمه إلا اليقين ولأنه قصد التسوية بينه وبين ابنه ولا توجد التسوية إلا فيما ذكرناه فإن كان له ابنان فوصى لهما بمثل نصيب أحد ابنيه جعل له الثلث وإن وصى له بنصيب ابنه بطلت الوصية لأن نصيب الابن للابن فلا تصح الوصية به كما لو أوصى له بمال ابنه من غير الميراث ومن أصحابنا من قال يصح ويجعل المال بينهما كما لو أوصى له بمثل نصيب ابنه فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كافر أو قاتل فالوصية باطلة لأنه وصى بمثل نصيب من لا نصيب له فأشبه إذا وصى بمثل نصيب أخيه وله ابن.
فصل: فإن وصى بضعف نصيب أحد أولاده دفع إليه مثلاً نصيب أحدهم لأن الضعف عبارة عن الشيء ومثله ولهذا يروى أن عمر رضي الله عنه أضعف الصدقة على نصارى بني تغلب أي أخذ مثلي ما يؤخذ من المسلمين فإن وصى له بضعفي نصيب أحدهم أعطى ثلاثة أمثال نصيب أحدهم وقال أبو ثور: يعطي أربعة أمثاله وهذا غلط لأن الضعف عبارة عن الشيء ومثله فوجب أن يكون الضعفان عبارة عن الشيء ومثليه.
فصل: فإن وصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه وأجاز الورثة قسم المال بينهما على خمسة للموصى له بالثلث سهمان وللموصى له بالنصف ثلاثة أسهم فإن لم يجيزوا قسم الثلث بينهما على خمسة على ما ذكرناه لأن ما قسم على التفاضل عند اتساع المال قسم على التفاضل عند ضيق المال كالمواريث والمال بين الغرماء فإن أوصى لرجل

(2/352)


بجميع ماله ولآخر بثلثه وأجاز الورثة قسم المال بينهما على أربعة للموصى له بالجميع ثلاثة أسهم وللموصى له بالثلث منهم لأن السهام في الوصايا كالسهام في المواريث ثم السهام في المواريث إذا زادت على قدر المال أعيلت الفريضة بالسهم الزائد فكذلك في الوصية فإن لم يجيزوا قسم الثلث بينهما على ما قسم الجميع.
فصل: فإن قال أعطوه رأساً من رقيقي ولا رقيق له أو قال أعطوه عبدي الحبشي وله عبد سندي أو عبدي الحبشي وسماه باسمه ووصفه بصفة من بياض أو سواد وعنده حبشي يسمى بذلك الاسم ومخالف له في الصفة فالوصية باطلة لأنه وصى له بما لا يملكه فإن كان له رقيق أعطى منه واحداً سليماً كان أو معيباً لأنه لا عرف في هبة الرقيق فحمل على ما يقع عليه الاسم فإن مات ماله من الرقيق بطلت الوصية لأنه فات ما تعلقت به الوصية من غير تفريط فإن قتلوا فإن كان قبل موت الموصي بطلت الوصية لأنه جاء وقت الوجوب ولا رقيق له فإن قتلوا بعد موته وجبت له قيمة واحد منهم لأنه بدل ما وجب له.
فصل: فإن وصى بعتق عبد أعتق عنه ما يقع عليه الاسم لعموم اللفظ ومن أصحابنا من قال لا يجزي إلا ما يجزي في الكفارة لأن العتق في الشرع له عرف وهو ما يجزي في الكفارة فحملت الوصية عليه فإن وصى أن يعتق عنه رقبة فعجز الثلث عنها ولم وتجز الورثة أعتق قدر الثلث من الرقبة لأن الوصية تعلقت بجميعها فإذا تعذر الجميع بقي في قدر الثلث فإن وصى أن يعتق عنه رقاب أعتق ثلاثة لأن الرقاب جمع وأقله ثلاثة فإن عجز الثلث عن الثلاثة أعتق عنه ما أمكن فإن اتسع الثلث لرقبتين وتفضل شيء فإن لم يمكن أن يشتري بالفضل بعض الثالثة زيد في ثمن الرقبتين وإن أمكن أن يشتري به بعض الثالثة ففيه وجهان: أحدهما يزاد في ثمن الرقبتين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الرقاب فقال: "أكثرها ثمناً وأنفسها عند أهلها" والثاني أن يشتري بعض الثالثة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار1" ولأن ذلك أقرب إلى العدد الموصى به.
فصل: فإن قال أعتقوا عبداً من عبيدي وله خنثى حكم له بأنه رجل ففيه وجهان:
__________
1 رواه البخاري في كتاب الكفارات با 6. مسلم في كتاب العتق حديث 22،23. أبو داود في كتاب العتق باب 13. أحمد في مسنده "2/420".

(2/353)


أحدهما أنه يجوز لأنه محكوم بأنه عبد والثاني لا يجوز لأن اسم العبد لا ينصرف إليه فإن قال أعتقوا أحد رقيقي وفيهم خنثى مشكل فقد روى الربيع فيمن وصى بكتابة أحد رقيقه أنه لا يجوز الخنثى المشكل وروى المزني أنه يجوز فمن أصحابنا من قال يجوز كما نقله المزني لأنه من الرقيق ومنهم من قال لا يجوز كما نقله الربيع لأن إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إلى الخنثى المشكل.
فصل: فإن قال أعطوه شاة جاز أن يدفع إليه الصغير والكبير والضأن والمعز لأن اسم الشاة يقع عليه ولا يدفع إلى تيس ولا كبش على المنصوص ومن أصحابنا من قال: يجوز الذكر والأنثى لأن الشاة اسم للجنس يقع على الذكر والأنثى كالإنسان يقع على الرجل والمرأة فإن قال: أعطوه شاة من غنمي والغنم إناث لم يدفع إليه ذكر فإن كانت ذكوراً لم يدفع إليه أنثى لأنه أضاف إلى المال وليس في المال غيره فإن كانت غنمه ذكوراً وإناثاً فعلى ما ذكرنا من الخلاف فيه إذا أوصى بشاة ولم يضف إلى المال فإن قال أعطوه ثوراً لم يعط بقرة فإن قال أعطوه جملاً لم يعط ناقة فإن قال أعطوه بعيراً فالمنصوص أنه لا يعطي ناقة ومن أصحابنا من قال يعطى لأن البعير كالإنسان يقع على الذكر والأنثى فإن قال أعطوه رأساً من الإبل أو رأساً من البقر أو رأساً من الغنم جاز الذكر والأنثى لأنه ذلك اسم للجنس.
فصل: فإن قال أعطوه دابة فالمنصوص أنه يعطي فرساً أو بغلاً أو حماراً واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس: هذا ما قاله على عادة أهل مصر فإن الدواب في عرفهم الأجناس الثلاثة فإن كان الموصي بمصر أعطى واحداً من الثلاثة وإن كان في غيرها لم يعط إلا الفرس لأنه لا تطلق الدابة في سائر البلاد إلا على الفرس وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: يعطي واحداً من الثلاثة في جميع البلاد لأن اسم الدواب يطلق على الجميع فإن قال أعطوه دابة من دوابي وليس عنده إلا واحداً من الثلاثة أعطى منه لأنه أضاف إلى ماله وليس له غيره فإن قال: أعطوه دابة ليقاتل عليها العدو لم يعط إلا فرساً فإن قال ليحمل عليه لم يعط إلا بغلاً أو حماراً فإن قال لينتفع بنسله لم يعط إلا فرساً أو حماراً لأن القرينة دلت على ما ذكرناه.
فصل: فإن وصى بكلب ولا كلب له فالوصية باطلة لأنه ليس عنده كلب ولا يمكن ان يشتري فبطلت الوصية فإن قال أعطوه كلباً من كلابي وعنده كلاب لا ينتفع بها بطلت الوصية لأن ما لا منفعة فيه من الكلاب لا يحل اقتناؤه فإن كان ينتفع بها من أعطى واحداً منها إلا أن يقرن به قرينة من صيد أو حفظ زرع فيدفع إليه ما دلت عليه القرينة فإن كان

(2/354)


له ثلاثة كلاب ولا مال له فأوصى بجميعها ولم تجز الورثة ردت إلى الثلث وفي كيفية الرد وجهان: أحدهما يدفع إليه من كل كلب ثلثه كسائر الأعيان والثاني يدفع إليه أحدها وتخالف سائر الأعيان لأن الأعيان تقوم وتختلف أثمانها والكلاب لا تقوم فاستوى جميعها وفيما يأخذ وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يأخذ واحداً منها بالقرعة والثاني يعطيه الوارث ما شاء منها فإن كان له كلب واحد فوصى به ولم تجز الورثة ولم يكن له مال أعطى ثلثه فإن كان له مال ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يدفع الجميع إلى الموصى له لأن أقل المال خير من الكلب فأمضيت الوصية فيه كما لو أوصى له بشاة وله مال تخرج الشاة من ثلثه والثاني هو قول أبي سعيد الاصطخري أنه يدفع إليه ثلث الكلب لأنه لا يجوز أن يحصل للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه ولا يمكن اعتبار الكلب من ثلث المال لأنه لا قيمة له فاعتبر بنفسه.
فصل: وإن وصى له بطبل من طبوله وليس له إلا طبول الحرب أعطى واحداً منها وإن لم يكن له إلا طبول اللهو نظرت فإن لم يصلح وهو طبل لغير اللهو وإن فصل لمباح لم يقع عليه اسم الطبل فالوصية باطلة لأنه وصية بمحرم وإن كان يصلح لمنفعة مباحة مع بقاء الاسم جازت الوصية لأنه يمكن الانتفاع به في مباح وإن كان له طبل حرب وطبل لهو ولم يصلح طبل اللهو لغير اللهو أعطي طبل الحرب لأن طبل اللهو لا تصح الوصية به فيصير كالمعدوم وإن كان يصلح لمنفعة مباحة أعطاه الوارث ما شاء منهما.
فصل: فإن وصى بعود من عيدانه وعنده عود اللهو وعود القوس وعود البناء كانت الوصية بعود اللهو لأن إطلاق الاسم ينصرف إليه فإن كان عود اللهو يصلح لمنفعة مباحة دفع إليه ولا يدفع معه الوتر والمضراب لأن اسم العود يقع من غير وتر ولا مضراب وإن كان لا يصلح لغير اللهو فالوصية باطلة لأنه وصية بمحرم ومن أصحابنا من قال: يعطى من عود القوس والبناء لأن المحرم كالمعدوم كما قلنا فيمن وصى بطبل من طبوله وعنده طبل حرب وطبل لهو أنه يجعل الوصية في طبل الحرب ويجعل طبل اللهو كالمعدوم والمذهب أنه لا يعطى شيئاً لأن العود لا يطلق إلا على عود اللهو والطبل يطلق على طبل اللهو وطبل الحرب فإذا بطل في طبل اللهو حمل على طبل الحرب فإن قال أعطوه

(2/355)


عوداً من عيداني وليس عنده إلا عود قوس أو عود البناء أعطي منها لأنه أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه.
فصل: فإن وصى له بقوس كانت الوصية بالقوس الذي يرمي عنه النبل والنشاب دون قوس الندف والجلاهق وهو قوس البندق لأن إطلاق الاسم ينصرف إلى ما يرمي عنه ولا يعطي معه الوتر ومن أصحابنا من قال: يعطى معه الوتر لأنه لا ينتفع به إلا مع الوتر والصحيح أنه لا يعطى لأن الاسم يقع عليه من غير وتر فإن قال: أعطوه قوساً من قسيي وليس عنده إلا قوس الندف أو قوس البندق أعطي مما عنده لأنه أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه وإن كان عنده قوس البندق وقوس الندف أعطي قوس البندق لأن الاسم إليه أسبق.
فصل: فإن وصى بعتق مكاتبه أو بالإبراء مما عليه اعتبر من الثلث أقل الأمرين من قيمته أو مال الكتابة لأن الإبراء عتق والعتق إبراء فاعتبر أقلهما وألغي الآخر فإن احتملهما الثلث عتق وبرئ من المال وإن لم يحتمل شيئاً منه لديوان عليه بطلت الوصية وأخذ المكاتب بأداء جميع ما عليه فإن أدى عتق أو عجز رق وتعلق به حق الغرماء والورثة فإن احتمل الثلث بعض ذلك مثل أن يحتمل النصف من أقل الأمرين عتق نصفه وبقي نصفه على الكتابة فإن أدى عتق وإن عجز رق وإن احتمل الثلث أحدهما دون الآخر اعتبر الأقل فعتق به فإن لم يكن له مال غير العبد نظر فإن كان قد حل عليه مال الكتابة عتق ثلثه في الحال وبقي الباقي على الكتابة إن أدى عتق وإن عجز رق وإن لم يحل عليه مال الكتابة ففيه وجهان: أحدهما لا يتعجل عتق شيء منه لأنه يحصل للموصى له الثلث ولم يحصل للورثة مثلاه وهذا لا يجوز كما لو أوصى بالثلث وله مال حاضر ومال غائب فإنه لا تمضي الوصية في شيء حتى يحصل للورثة مثلاه والثاني وهو ظاهر المذهب أنه يتعجل عتق ثلثه ويقف الثلثان على العتق بالأداء أو الرق بالعجز لأن الورثة على يقين من الثلثين إما بالأداء وإما بالعجز بخلاف ما لو كان له مال حاضر ومال غائب لأنه ليس على يقين من سلامة الغائب.
فصل: فإن قال ضعوا عن مكاتبي أكثر ام عليه وضع عنه النصف وشيء لأنه هو الأكثر فإن قال ضعوا عنه ما شاء من كتابته فشاء الجميع فقد روى الربيع رحمه الله أنه يوضع عنه الجميع إلا شيئاً وروى المزني أنه إذا قال ضعوا عنه ما شاء فشاءها كلها وضع الجميع إلا شيئاً فمن أصحابنا من قال الصحيح مارواه الربيع لأن قوله من كتابته يقتضي

(2/356)


التبعيض وما رواه المزني خطأ في النقل والذي يقتضيه أن يوضع عنه الكل إذا شاء لأن قوله ما شاء عدم في الكل والبعض وقال أبو إسحاق: ما نقله الربيع صحيح على ما ذكرناه وما نقله المزني أيضاً صحيح فإنه يقتضي أن يبقى من الكل شيء لأنه لو أراد وضع الجميع لقال ضعوا عنه مال الكتابة فلما علقه على ما شاء دل على أنه لم يرد الكل فإن قال ضعوا عنه ما قل وما كثر وضع الوارث عنه ما شاء من قليل وكثير لأنه ما من قدر إلا وهو قليل بالإضافة إلى ما هو أكثر وكثير بالإضافة إلى ما هو أقل منه فإن قال ضعوا عنه أكثر نجومه وضع عنه أكثرها مالاً لأن إطلاق الأكثر ينصرف إلى كثرة المال دون طول المدة فإن قال ضعوا عنه أوسط النجوم واجتمع نجومه أوسط في القدر وأوسط في المدة وأوسط في العدد كان للوارث أن يضع أي الثلاثة شاء لأن الوسط يقع على الثلاثة فإن استوى الجميع في المدة والقدر وضع عنه الأوسط في العدد فإن كانت النجوم ثلاثة وضع عنه الثاني فإن كانت أربعة وضع عنه الثاني والثالث فإن كانت خمسة وضع عنه الثالث وعلى هذا القياس.
فصل: وإن كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصى لرجل بما في ذمته لم تصح الوصية لأنه لا شيء له في ذمته فصار كما لو وصى بمال في ذمة حر ولا شيء له في ذمته وإن وصى له بما يقبضه منه صحت الوصية لأنه أضاف إلى مال يملكه فصار كما لو وصى له برقبة مكاتب إذا عجزه وفي هذا عندي نظر لأنه لا يملكه بالقبض وإنما يعتق بحكم الصفة كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه ثم لا يملكه وإن وصى برقبته والكتابة فاسد نظرت فإن لم يعلم بفساد الكتابة ففيه قولان: أحدهما أن الوصية جائزة لأنها صادفت ملكه والثاني أنها باطلة لأنه وصى وهو يعتقد أنه يملك الوصية وإن وصى بها وهو يعلم أن الكتابة فاسدة صحت الوصية قولاً واحداً كما لو باع من رجل شيئاً بيعاً فاسداً ثم باعه من غيره وهو يعلم فساد البيع الأول ومن أصحابنا من قال: القولان في الجميع ويخالف البيع فإن فاسده لا يجري مجرى الصحيح في الملك وفي الكتابة الفاسدة كالصحيح في العتق والصحيح هو الطريقة الأولى.
فصل: وإن وصى بحج فرض من رأس المال حج عنه من الميقات لأن الحج من الميقات وما قبله سبب إليه فإن وصى به من الثلث ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يحج عنه من بلده فإن عجز الثلث عنه تمم من رأس المال لأنه يجب عليه الحج من بلده والثاني وهو قول أكثر أصحابنا أنه من الميقات لأن الحج يجب بالشرع من الميقات فحملت الوصية عليه وإن أوصى أن يجعل جميع الثلث في الحج الفرض

(2/357)


حج عنه من بلده وإن عجز الثلث عن ذلك جح عنه من حيث أمكن من طريقه وإن عجز عن الحج من الميقات تمم من رأس المال ما يحج من الميقات لأن الحج من الميقات مستحق من رأس المال وإنما جعله من الثلث توفيراً على الورثة فإذا لم يف الثلث بالجميع بقي فيما لم يف من رأس المال.
فصل: وإن أوصى بحج التطوع وقلنا إنه تدخله النيابة نظرت فإن قال أحجوا بمائة من ثلثي حج عنه من حيث أمكن وإن لم يوجد من يحج بهذا القدر بطلت الوصية وعاد المال إلى الورثة لأنها تعذرت فبطلت كما لو أوصى لرجل بمال فرده وإن قال أحجوا عني بثلثي صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج فإن اتسع المال لحجة أو حجتين وفضل ما لايكفي لحجة أخرى من بلده حج من حيث أمكن من دون بلده إلى الميقات فإن عجز الفضل عن حجة من الميقات رد الفضل إلى الورثة وإن أمكن أن يعتمر به لم يفعل لأن الموصى له هو الحج دون العمرة فإن قال أحجوا عني حج عنه بأجرة المثل من حيث أمكن من بلده إلى الميقات فإن عجز الثلث عن حجة من الميقات بطلت الوصية لما ذكرناه.
فصل: وإن وصى أن يحج عنه بمائة ويدفع ما يبقى من الثلث إلى آخر وأوصى بالثلث لثالث فقد وصى بثلثي ماله فإن كان الثلث مائة سقطت وصيته للموصى له بالباقي لأن وصيته فيما يبقى بعد المائة ولم يبق شيء فإن أجاز الورثة دفع إلى الموصى له بالثلث ثلثه وهو مائة وإلى الموصى له بالمائة مائة وإن لم يجيزوا قسم الثلث بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالمائة نصفين لأنهما اتفقا في قدر ما يستحقان وهو المائة فإن كان الثلث أكثر من مائة وأجاز الورثة دفع الثلث إلى الموصى له بالثلث ودفع مائة إلى الموصى له بالمائة ودفع ما بقي إلى الموصى له بالباقي وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث ردت الوصية إلى نصفها وهو الثلث فيدفع إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث وفي النصف الآخر وجهان: أحدهما يقدم فيه الموصى له بالمائة ولايدفع إلى الموصى له بالباقي شيء حتى يأخذ الموصى له بالمائة حقه وإن كان قد اعتد به مع الموصى له بالمائة في إحراز الثلث إلا أن حقه فيما يبقى بعد المائة فلا يأخذ شيئاً قبل أن يستوفي الموصى له بالباقي ما يبقى والوجه الثاني أن الموصى له بالمائة والموصى له بالباقي يقسمان النصف على قدر وصيتهما من الثلث فإن كانا مائتين اقتسما المائة نصفين لكل واحد منهما خمسون وإن كان مائة وخمسون اقتسما الخمسة والسبعين

(2/358)


أثلاثاً للموصى له بالمائة خمسون وللموصى له بالباقي خمسة وعشرون وعلى هذا القياس لأنه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث لا من بعضه فلم يجز أن يأخذ من نصف الثلث ما كان يأخذ من جميعه كأصحاب المواريث إذا زاحمهم من له فرض أو وصية.
فصل: وإن بدأ فوصى بثلث ماله لرجل ثم وصى لمن يحج عنه بمائة ووصى لآخر بما يبقى من الثلث ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق إن الوصية بالباقي بعد المائة باطلة لأن الوصية بالثلث تمنع من أن يبقى شيء من الثلث فعلى هذا إن أجاز الورثة نقدت الوصيتان وإن لم يجيزوا ردت الوصية إلى الثلث فإن كان الثلث مائة استوت وصيتهما فيقتسمان الثلث بينهما نصفين وإن كان الثلث خمسمائة قسم الثلث بينهما على ستة أسهم للموصى له بالثلث خمسة أسهم وللموصى له بالمائة سهم فإن كان الثلث ألفاً قسم على أحد عشر سهماً للموصى له بالثلث عشرة أسهم وللموصى له بالمائة سهم والوجه الثاني وهو قول أبي على بن أبي هريرة إن الحكم في هذه المسألة كالحكم في المسألة قبلها لأنه إذا أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه لم يرد ذلك الثلث لأن الوصية الأولى قد استوعبته وإنما أراد ثلثاً ثانياً فإذا أوصى بعد المائة بما يبقى من الثلث دل على أنه أراد ما يبقى من الثلث الثاني فصار موصياً بثلثي ماله كالمسألة قبلها.
فصل: وإن وصى لرجل بعبد ولآخر بما بقي من الثلث قوم العبد مع التركة بعد موت الموصى فإن خرج من الثلث دفع إلى الموصى له فإن بقي من الثلث شيء دفع إلى الآخر وإن لم يبق شيء بطلت الوصية بالباقي لأن وصيته فيما بقي وإن أصاب العبد عيب بعد موت الموصي قوم سليماً ودفع إلى الموصى له بالباقي لأنه وصى له بالباقي من قيمته وهو سليم وإن مات العبد بعد موت الموصي بطلت الوصية فيه وقوم وقت الموت مع التركة ودفع إلى الموصى له الباقي من الثلث لأنهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الأخرى كما لو وصى لرجلين فرد أحدهما.
فصل: فإن وصى له بمنفعة عبد ملك الموصى له منافعه واكتسابه فإن كان جارية ملك مهرها لأنه بدل منفعتها ولا يجوز للمالك وطؤها لأنه تملك الرقبة من غير منفعة ولا للموصى له وطؤها لأنها تملك المنفعة من غير الرقبة والوطء لا يجوز إلا في ملك تام ويجوز تزويجها لاكتساب المهر وفيمن يملك العقد ثلاثة أوجه: أحدها يملكه الموصى له بالمنفعة لأن المهر له والثاني يملكه المالك لأنه يملك رقبتها والثالث لا يصح العقد إلا باتفاقهما لأن لكل واحد منهما حقاً فلا ينفرد به أحدهما دون الآخر فإن

(2/359)


أتت بولد مملوك ففيه وجهان: أحدهما أنه للموصى له لأنه من جملة فوائدها فصار كالكسب والثاني أنه كالأم رقبته للمالك ومنفعته للموصى له لأنه جزء من الأم فكان حكمه حكم الأم فإن قتل ففي قيمته وجهان: أحدهما أنها للمالك لأنها بدله فكانت له والثاني وهو الصحيح أنه يشتري به مثله للمالك رقبته وللموصى له منفعته لأنه قائم مقام الأصل فكان حكمه كحكم الأصل فإن جنى على طرفه ففي أرشه وجهان: أحدهما أنه للمالك لأنه بدل ملكه والثاني وهو الصحيح أن ما قابل منه ما نقص من قيمة الرقبة للمالك وما قابل منه ما نقص من المنفعة للموصى له لأنه دخل النقص عليهما فقسط الأرش عليهما فإن احتاج العبد إلى نفقة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبو سعيد الاصطخري أن النفقة على الموصى له بالمنفعة لأن الكسب له والثاني أنها على المالك وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأن النفقة على الرقبة فكانت على مالكها والثالث أنها في كسبه فإن لم يف الكسب ففي بيت المال لأنه لا يمكن إيجابها على المالك لأنه لا يملك الإنتفاع ولا على الموصى له لأنه لا يملك الرقبة فلم يبق إلا ما قلناه فغن احتاج البستان الموصى بثمرته إلى سقي أو الدار الموصى بمنفعتها إلى عمارة لم يجب على واحد منهما لأنه لو انفرد كل واحد منهما بملك الجميع يجبر على الإنفاق فإذا اشتركا لم يجب.
فصل: فإن أراد المالك بيع الرقبة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجوز لأنه يملكها ملكاً تاماً والثاني أنه لا يجوز لأنها عين مسلوبة المنفعة فلم يجز بيعها كالأعيان التي لامنفعة فيها والثالث يجوز بيعها من الموصى له لأنه يمكنه الانتفاع بها ولا يجوز من غيره لأنه لا يمكنه الإنتفاع بها فإن أراد أن يعتقه جاز لأنه يملكه ملكاً تاماً وللموصى له أن يستوفي المنفعة بعد العتق لأنه تصرف في الرقبة فلم يبطل به حق الموصى له من المنفعة ولا يرجع العبد على المالك بأجرته كما يرجع العبد المستأجر على مولاه بعد العتق في أحد القولين لأن هناك ملك بدل منفعته ولم يملك المولى ههنا بدل المنفعة.

(2/360)


باب الرجوع في الوصية
يجوز الرجوع في الوصية لأنها عطية لم تزل الملك فجاز الرجوع فيها كالهبة قبل القبض ويجوز الرجوع بالقول والتصرف لأنه فسخ عقداً قبل إتمامه فجاز بالقول والتصرف كفسخ البيع في مدة الخيار وفسخ الهبة قبل القبض وإن قال هو حرام عليه فهو رجوع لأنه لا يجوز أن يكون وصية وهو محرم عليه فإن قال لوارثي فهو رجوع

(2/360)


لأنه لا يجوز أن يكون للوارث وللموصى له وإن قال هو تركتي ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأن التركة للورثة والثاني أنه ليس برجوع لأن الوصية من جملة التركة.
فصل: وإن وصى لرجل بعبد ثم وصى به لآخر لم يكن ذلك رجوعاً لإمكان أن يكون نسي الأول أو قصد الجمع بينهما فإن قال ما وصيت به لفلان فقد وصيت به لآخر فهو رجوع ومن أصحابنا من قال: ليس برجوع كالمسألة قبلها والمذهب الأول لأنه صرح بالرجوع.
فصل: وإن باعه أو وهبه وأقبض أو أعتقه أو كاتبه أو أوصى أن يباع أو يوهب ويقبض أو يعتق أو يكاتب فهو رجوع لأنه صرفه عن الموصى له وإن عرضه للبيع أو رهنه في دين أو وهبه ولم يقبضه فهو رجوع لأن تعريضه لزوال الملك صرف عن الموصى له ومن أصحابنا من قال أنه ليس برجوع لأنه لم يزل الملك وليس بشيء وإن وصى بثلث ماله ثم باع ماله لم يكن ذلك رجوعاً لأن الوصية بثلث المال عند الموت إلا بثلث ما باعه فإن وصى بعبد ثم دبره فإن قلنا إن التدبير عتق بصفة كان ذلك رجوعاً لأنه عرضه لزوال الملك وإن قلنا إنه وصية وقلنا في أحد القولين إن العتق يقدم على سائر الوصايا كان ذلك رجوعاً لأنه أقوى من الوصية فأبطلها وإن قلنا إن العتق كسائر الوصايا ففيه وجهان: أحدهما أن ليس برجوع فيكون نصفه مدبراً ونصفه موصى به كما لو أوصى به لرجل ثم وصى به لآخر والثاني أنه رجوع لأن التدبير أقوى لأنه يتنجز من غير قبول والوصية لا تتم إلا بالقبول فقدم التدبير كما يقدم ما تنجز في حياته من التبرعات على الوصية.
فصل: وإن وصى له بعبد ثم زوجه أو أجره أو علمه صنعة أو ختنه لم يكن ذلك رجوعاً لأن هذه التصرفات لا تنافي الوصية فإن كانت جارية فوطئها لم يكن ذلك رجوعاً لأنه استيفاء منفعة فلم يكن رجوعاً كالاستخدام وقال أبو بكر بن الحداد المصري إن عزل عليها لم يكن رجوعاً وإن لم يعزل عنها كان رجوعاً لأنه قصد التسري بها.
فصل: وإن وصى بطعام معين فخلطه بغير كان ذلك رجوعاً لأنه جعله على صفة لا يمكن تسليمه فإن وصى بقفيز من صبرة ثم خلط الصبرة بمثلها لم يكن ذلك رجوعاً لأن الوصية مختلطة بمثلها والذي خلط به مثله فلم يكن ذلك رجوعاً فإن خلطه بأجود منه كان رجوعاً لأنه أحدث فيه بالخلط زيادة لم يرض بتمليكها فإن خلطه بما دونه ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه ليس برجوع لأنه نقص حدثه فيه فلم يكن رجوعاً كما لو أخلف بعضه والثاني أنه رجوع لأنه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود

(2/361)


منه فإن نقله إلى بلد أبعد بلد الموصى له ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه لو لم يرد الرجوع لما أبعده عنه والثاني أنه ليس برجوع لأنه باق على صفته.
فصل: فإن وصى بحنطة فقلاها أو بذرها كان ذلك رجوعاً لأنه جعله كالمستهلك وإن وصى بحنطة فطحنها أو بدقيق فعجنه أو بعجين فخبزه كان ذلك رجوعاً لأنه أزال عنه الاسم ولأنه جعله للإستهلاك وإن وصى له بخبز فجعله فتيتاً ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه أزال عنه إطلاق اسم الخبز فأشبه إذا ثرده والثاني ليس برجوع لأن الاسم باق عليه لأنه يقال خبز مدقوق وإن وصى برطب فجعله تمراً ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه أزال عنه اسم الرطب والثاني ليس برجوع لأنه أبقى له وأحفظ على الموصى له.
فصل: وإن وصى بقطن فغزله أو بغزل فنسجه كان ذلك رجوعاً لأنه أزال عنه الاسم وإن أوصى له بقطن فحشى به فراشاً ففيه وجهان: أحدهما رجوع لأنه جعله للإستهلاك والثاني ليس برجوع لأن الاسم باق عليه.
فصل: وإن أوصى له بثوب فقطعه أو بشاة فذبحها كان رجوعاً لأنه أزال عنه الاسم ولأنه جعله للإستهلاك وإن وصى له بلحم فطبخه أو شواه كان ذلك رجوعاً لأنه جعله للأكل وإن قدده ففيه وجهان كما قلنا في الرطب إذا جعله تمراً
فصل: وإن وصى له بثوب فقطعه قميصاً أو بساج فجعله باباً ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه أزال عنه إطلاق اسم الثوب والساج ولأنه جعله للإستعمال والثاني أنه ليس برجوع لأن اسم الثوب والساج باق عليه.
فصل: وإن وصى بدار فهدمها كان رجوعاً لأنه تصرف أزال به الاسم فكان رجوعاً كما لو وصى بحنطة فطحنها وإن تهدمت نظرت فإن لم يزل عنها اسم الدار فالوصية باقية فيما بقي وأما ما انفصل عنها فالمنصوص أنه خارج من الوصية لأنه انفصل عن الموصى به في حياة الموصى وحكى القاضي أبو القاسم ابن كج رحمه الله وجهاً آخر أنه للموصى له لأنه تناولته الوصية فلم يخرج منها بالإنفصال وإن زال عنها اسم الدار ففي الباقي من العرصة وجهان: أحدهما أنه تبطل فيه الوصية لأنه أزال عنها اسم الدار والثاني لا تبطل لأنه لم يوجد من جهته ما يدل على الرجوع.
فصل: وإن وصى له بأرض فزرعها لم يكن ذلك رجوعاً لأنه لا يراد البقاء وقد يحصل قبل الموت فلم يكن رجوعاً وإن غرسها أو بنى فيها ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه جعلها لمنفعة مؤبدة فدل على الرجوع والثاني ليس برجوع لأنه استيفاء منفعة فهو كالزراعة فعلى هذا في موضع الأساس وقرار الغراس وجهان: أحدهما أنه لا تبطل

(2/362)


فيه الوصية كالبياض الذي بينهما فإذا مات الغراس أو زال البناء عاد إلى الموصى له والثاني أنه تبطل الوصية فيه لأنه جعله تابعاً لما عليه.
فصل: وإن أوصى له بسكنى دار سنة فأجرها دون السنة لم يكن ذلك رجوعاً لأنه قد تنقضي الإجارة قبل الموت فإن مات قبل انقضاء الإجارة ففيه وجهان: أحدهما يسكن مدة الوصية بعد انقضاء الإجارة والثاني أنها تبطل الوصية بقدر ما بقي من مدة انقضاء الإجارة في مدة الباقي.

(2/363)


باب الأوصياء
لا تجوز الوصية إلا إلى بالغ عاقل حر عدل فأما الصبي والمجنون والعبد الفاسق فلا تجوز الوصية إليهم لأنه لا حظ للميت ولا للطفل في نظر هؤلاء ولهذا لم تثبت لهم الولاية وأما الكافر فلا تجوز الوصية إليه في حق المسلم لقوله عز وجل: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ولأنه غير مأمون على المسلم ولهذا قال الله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 8] وفي جواز الوصية إليه في حق الكافر وجهان: أحدهما أنه يجوز لأنه يجوز أن يكون ولياً له فجاز أن يكون وصياً له كالمسلم والثاني لا يجوز كما لا تقبل شهادته للكافر والمسلم.
فصل: وتجوز الوصية إلى المرأة لما روي أن عمر رضي الله عنه وصى إلى ابنته حفصة في صدقته ما عاشت فإذا ماتت فهو إلى ذوي الرأي من أهلها ولأنها من أهل الشهادة فجازت الوصية إليها كالرجل واختلف أصحابنا في الأعمى فمنهم من قال: لا تجوز الوصية لأنه تفتقر الوصية إلى عقود لا تصح من الأعمى وفضل نظر لا يدرك إلا بالعين.
فصل: واختلف أصحابنا في الوقت الذي تعتبر فيه الشروط التي تصح بها الوصية إليه فمنهم من قال يعتبر ذلك عند الوفاة فإن وصى إلى صبي فبلغ أو كافر فأسلم أو فاسق فصار عدلاً قبل الوفاة صحت الوصية لأن التصرف بعد الموت فاعتبرت الشروط عنده كما تعتبر عدالة الشهود عند الأداء أو الحكم دون التحمل ومنهم من قال تعتبر عند العقد وعند الموت ولا تعتبر فيما بينهما لأن حال العقد حال الإيجاب وحال الموت حال التصرف فاعتبر فيهما ومنهم من قال: تعتبر في حال الوصية وفيما بعدها لأن كل

(2/363)


وقت من ذلك يجوز أن يستحق فيه التصرف بأن يموت فاعتبرت الشروط في الجميع.
فصل: وإن وصى إلى رجل فتغير حاله بعد موت الوصي فإن كان لضعف ضم إليه معين أمين وإن تغير بفسق أو جنون بطلت الوصية إليه ويقيم الحاكم من يقوم مقامه.
فصل: ويجوز أن يوصي إلى نفسين لما روي أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت النظر في وقفها إلى علي كرم الله وجهه فإن حدث به حدث رفعه إلى ابنيها فيليانها ويجوز أن يجعل إليهما وإلى كل واحد منهما لأنه تصرف مستفاد بالإذن فكان على حسب الإذن فإن جعل إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف فإن ضعف أحدهما أو فسق أو مات جاز للآخر أن يتصرف ولا يقام مقام الآخر غيره لأن الموصي رضي بنظر كل واحد منهما وحده فإن وصى إليهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف لأنه لم يرض بأحدهما فإن ضعف أحدهما ضم إليه من يعينه فإن فسق أحدهما أو مات أقام الحاكم من يقوم مقامه لأن الموصي لم يرض بنظره وحده فإن أراد الحاكم أن يفوض الجميع إلى الثاني لم يجز لأنه لم يرض الموصي باجتهاده وحده فإن ماتا أو فسقا فهل للحاكم أن يفوض إلى واحد؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه سقط حكم الوصية بموتهما وفسقهما فكان الأمر فيه إلى الحاكم والثاني لا يجوز لأنه لم يرض بنظر واحد وإن اختلف الوصيان في حفظ المال جعل بينهما نصفين فإذا بلغا إلى التصرف فإن كان التصرف إلى كل واحد منهما تصرف كل واحد منهما في الجميع وإن كان إليهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف دون الآخر.
فصل: ومن وصى إليه في شيء لم يصر وصياً في غيره ومن وصى إليه إلى مدة لم يصر وصياً بعد المدة لأنه تصرف بالإذن فكان على حسب الإذن.
فصل: وللوصي أن يوكل فيما لم تجر به العادة أن يتولاه بنفسه كما قلنا في الوكيل ولا يجوز أن يوصي إلى غيره لأنه يتصرف بالإذن فلم يملك الوصية كالوكيل فإذا قال أوصيت إليك فإن مت فقد أوصيت إلى فلان صح لأن عمر رضي الله عنه وصى إلى حفصة فإذا ماتت فإلى ذوي الرأي من أهلها ووصت فاطمة رضي الله عنها إلى علي كرم الله وجهه فإذا مات فإلى ابنيها ولأنه علق وصية التالي على شرط فصار كما لو قال: وصيت إليك شهراً ثم قال إلى فلان فإن أوصى إليه وأذن له أن يوصي إلى من يرى فقد

(2/364)


قال في الوصايا لا يجوز وقال في اختلاف العراقيين يجوز فمن أصحابنا من قال يجوز قولاً واحداً لأنه ملك الوصية والتصرف في المال فإذا جاز أن ينقل التصرف في المال إلى الوصي جاز أن ينقل الوصية إليه وما قال في الوصايا أراد إذا أطلق الوصية ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يجوز لما ذكرناه والثاني لا يجوز لأنه يعقد الوصية عن الموصي في حال لا ولاية له فيه وإن وصى إليه وأذن له أن يوصي بعد موته إلى رجل بعينه ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه قطع اجتهاده فيه بالتعيين والثاني أنه كالمسألة الأولى لأن علة المسألتين واحدة.
فصل: ولا تتم الوصية إليه إلا بالقبول لأنه وصية فلا تتم بالقبول كالوصية له وفي وقت القبول وجهان: أحدهما يصح القبول في الحال وفي الثاني لأنه أذن له في التصرف فصح القبول في الحال والثاني كالوكالة والثاني لا يصح إلا بعد الموت كالقبول في الوصية له.
فصل: وللموصي أن يعزل الوصي إذا شاء وللوصي أن يعزل نفسه متى شاء لأنه تصرف بالإذن لكل واحد منهما فسخه كالوكالة.
فصل: إذا بلغ الصبي واختلف هو والوصي في النفقة فقال الوصي أنفقت عليك وقال الصبي لم تنفق علي فالقول قول الوصي لأنه أمين وتعذر عليه إقامة البينة على النفقة فإن اختلفا في قدر النفقة قال أنفقت عليك في كل سنة مائة دينار وقال الصبي بل أنفقت علي خمسين ديناراً فإن كان ما يدعيه الوصي النفقة بالمعروف فالقول قوله لأنه أمين وإن كان أكثر من النفقة بالمعروف فعليه الضمان لأنه فرط في الزيادة وإن اختلفا في المدة فقال الوصي أنفقت عشر سنين وقال الصبي خمس سنين ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري إن القول قول الوصي كما لو اختلفنا في قدر النفقة والثاني وهو قول أكثر أصحابنا إن القول قول الصبي لأنه اختلاف في مدة الأصل عدمها.
فصل: وإن اختلفا في دفع المال إليه فادعى الوصي أنه دفعه إليه وأنكر الصبي ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص أن القول قول الصبي لأنه لم يأتمنه على حفظ المال فلم يقبل قوله كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودع والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها والثاني أن القول قول الوصي كما قلنا في النفقة.
فصل: ولا يلحق الميت مما يفعل عنه بعد موته بغير إذنه إلا دين يقضى عنه أو صدقة يتصدق بها عنه أو دعاء يدعى له فأما الدين فالدليل عليه ما روي أن امرأة من خثعم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج عن أبيها فأذن لها فقالت أينفعه ذلك؟ قال: "نعم كما لو

(2/365)


كان على أبيك دين فقضيته نفعه" وأما الصدقة فالدليل عليها ما روى ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمه توفيت أفينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال: "نعم" قال: فإن لي مخرفاً فأشهدك أني قد تصدقت به عنها وأما الدعاء فالدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر: 10] فأثنى الله عز وجل عليهم بالدعاء لإخوانهم من الموتى وأما ما سوى ذلك من القرب كقراءة القرآن وغيرها فلا يلحق الميت ثوابها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له1" واختلف أصحابنا فيمن مات وعليه كفارة يمين فأعتق عنه فمنهم من قال لا يقع العتق عن الميت بل يكون للمعتق لأن العتق غير متحتم على الميت لأنه كان يجوز له تركه إلى غيره فلم يقع عنه كما لو تطوع بالعتق عنه في غير الكفارة ومنهم من قال: يقع عنه لأنه لو أعتق في حياته سقط به الفرض وبالله التوفيق.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الوصية حديث 14. أبو داود في كتاب الوصية باب 14. النسائي في كتاب الوصايا باب 8.

(2/366)