المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب العدة
مدخل
...
كتاب العدة
إذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول والخلوة لم تجب العدة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ولأن العدة تجب لبراءة الرحم وقد تيقنا براءة رحمها وإن طلقها بعد الدخول وجبت العدة لأنه لما أسقط العدة في الآية قبل الدخول دل على وجوبها بعد الدخول ولأن بعد الدخول يشتغل الرحم بالماء فوجبت العدة لبراءة الرحم وإن طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول ففيه قولان: أحدهما: لا تجب العدة لما ذكرناه من الآية والمعنى والثاني: تجب لأن التمكين من استيفاء المنفعة جعل كالاستيفاء ولهذا تستقر به الأجرة في الإجارة كما تستقر بالاستيفاء فجعل كالاستيفاء في إيجاب العدة
فصل: وإن وجبت العدة على المطلقة لم تخل إما أن تكون حرة أو أمة فإن كانت حرة نظرت فإن كانت حاملاً من الزوج اعتدت بالحمل لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل إلا بوضع الحمل فإن كان الحمل ولداً واحداً لم تنقض العدة حتى ينفصل جميعه وإن كان ولدين أو أكثر لم تنقض حتى ينفصل الجميع لأن الحمل هو الجميع ولأن براءة الرحم لا تحصل إلا بوضع الجميع وإن وضعت ما بان فيه خلق آدمي انقضت به العدة وإن وضعت مضغة لم يظهر فيه خلق آدمي وشهد أربع نسوة من أهل المعرفة أنه خلق آدمي ففيه طريقان: من أصحابنا من قال تنقضي به العدة قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان وقد بيناه في عتق أم الولد وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما روي أنه أتي عثمان رضي الله عنه بامرأة ولدت لستة أشهر فشاور القوم في رجمها فقال ابن عباس رضي الله عنه: أنزل الله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وأنزل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فالفصال في العامين والحمل في ستة أشهر وذكر القتيبي في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر وأكثره أربع سنين لما روى الوليد بن مسلم قال قلت لمالك بن أنس حدثت جميلة بنت سعد عن عائشة رضي الله عنها لا تزيد المرأة على اثنتين في الحمل قال مالك: سبحان الله من يقول هذا هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد وقلما تنقضي به عدة الحامل أن تضع

(3/118)


بعد ثمانين يوماً من بعد إمكان الوطء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم ليخلق في بطن أمه نطفة أربعين يوماً ثم يكون علقة أربعين يوماً ثم يكون مضغة أربعين يوما" 1. ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن يكون بعد الثمانين.
فصل: فإن كانت المعتدة غير حامل فإن كانت ممن تحيض اعتدت بثلاثة أقراء لقوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] والأقراء هي الأطهار والدليل عليه قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] والمراد به في وقت عدتهن كما قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} والمراد به في يوم القيامة والطلاق المأمور به في الطهر فدل على أنه وقت العدة وإن كان الطلاق في وقت الحيض كان أول الأقراء الطهر الذي بعده فإن كان في حال الطهر نظرت فإن بقيت في الطهر بعد الطلاق لحظة ثم حاضت احتسبت تلك اللحظة قرءاً لأن الطلاق إنما جعل في الطهر ولم يجعل في الحيض حتى لا يؤدي إلى الإضرار بها في تطويل العدة فلولم تحسب بقية الطهر قرءاً كان الطلاق في الطهر أضر بها من الطلاق في الحيض لأنه أطول للعدة فإن لم يبق بعد الطلاق جزء من الطهر بأن وافق آخر لفظ الطلاق آخر الطهر أو قال لها أنت طالق في آخر جزء من طهرك كان أول الأقراء الطهر الذي بعد الحيض وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه يجعل الزمان الذي صادفه الطلاق من الطهر قرءا وهذا لا يصح لأن العدد لا يكون إلا بعد وقوع الطلاق فلم يجز الاعتداد بما قبله وأما آخر العدة فقد روى المزني والربيع أنها إذا رأت الدم بعد الطهر الثالث انقضت العدة برؤية الدم وروى البويطي وحرملة أنها لا تنقضي حتى يمضي من الحيض يوم وليلة فمن أصحابنا من قال هما قولان: أحدهما: تنقضي العدة برؤية الدم لأن الظاهر أن ذلك حيض والثاني: لا تنقضي حتى يمضي يوم وليلة لجواز أن يكون دم فساد فلا يحكم بانقضاء العدة ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين فالذي رواه المزني والربيع فيمن رأت الدم لعادتها فيعلم بالعادة أن ذلك حيض والذي رواه البويطي وحرملة فيمن رأت الدم لغير عادة لأنه لا يعلم أنه حيض قبل يوم وليلة وهل يكون ما رأته من الحيض من العدة ففيه قولان: أحدهما: أنه من العدة لأنه لا بد من اعتباره فعلى هذا إذا راجعها فيه صحت الرجعة وإن
__________
1 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 6. مسلم في كتاب القدر حديث 1. أبو داود في كتاب السنة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 4.

(3/119)


تزوجت فيه لم يصح النكاح والثاني: ليس من العدة لأنا لو جعلناه من العدة لزادت العدة على ثلاثة أقراء فعلى هذا إذا راجعها لم تصح الرجعة فإن تزوجت فيه صح النكاح.
فصل: وأقل ما يمكن أن تعتد فيه الحرة بالأقراء اثنان وثلاثون يوما وساعة وذلك بأن يطلقها في الطهر ويبقى في الطهر بعد الطلاق ساعة فتكون تلك الساعة قرءاً ثم تحيض يوماً ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثاني ثم تحيض يوماً ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثالث فإذا طعنت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها.
فصل: وإن كانت من ذوات الأقراء فارتفع حيضها فإن كان لعارض معروف كالمرض والرضاع تربصت إلى أن يعود الدم فتعتد بالأقراء لأن ارتفاع الدم بسبب يزول فانتظر زواله فإن ارتفع بغير سبب معروف ففيه قولان: قال في القديم تمكث إلى أن تعلم براءة رحمها ثم تعتد عدة الآيسة لأن العدة تراد لبراءة الرحم وقال في الجديد تمكث إلى أن تيأس من الحيض ثم تعتد عدة الآيسة لأن الاعتداد بالشهور جعل بعد الإياس فلم يجز قبله فإن قلنا بالقول القديم ففي القدر التي تمكث فيه قولان: أحدهما: تسعة أشهر لأنه غالب عادة الحمل ويعلم به براءة الرحم في الظاهر والثاني: تمكث أربع سنين لأنه لو جاز الاقتصار على براءة الرحم في الظاهر لجاز الاقتصار على حيضة واحدة لأنه يعلم بها براءة الرحم في الظاهر فوجب أن يعتبر أكثر مدة الحمل ليعلم براءة الرحم بيقين فإذا علمت براءة الرحم بتسعة أشهر أو بأربع سنين اعتدت بعد ذلك بثلاثة أشهر لما روي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في المرأة إذا طلقت فارتفعت حيضتها أن عدتها تسعة أشهر لحملها وثلاثة أشهر لعدتها ولأن تربصها فيما تقدم ليس بعدة وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء فإذا علمت اعتدت بعدة الآيسات فإن حاضت قبل العلم ببراءة رحمها أو قبل انقضاء العدة بالشهور لزمها الاعتداد بالأقراء لأنا تبينا أنها من ذوات الأقراء فإن اعتدت

(3/120)


وتزوجت ثم حاضت لم يؤثر ذلك في العدة لأنها انقضت العدة وتعلق بها حق الزوج فلم يبطل فإن حاضت بعد العدة قبل النكاح ففيه قولان: أحدهما: لا يلزمها الاعتداد بالأقراء لأنا حكمنا بانقضاء العدة فلم يبطل بما حدث معه والثاني: يلزمها لأنها صارت من ذوات الأقراء قبل تعلق حق الزوج بها فلزمها الاعتداد بالأقراء فإن قلنا بقوله الجديد إنها تقعد إلى الإياس ففي الإياس قولان: أحدهما: يعتبر إياس أقاربها لأنها أقرب إليهن والثاني: يعتبر إياس نساء العالم وهو أن تبلغ اثنتين وستين سنة لأنه لا يتحقق الإياس فيما دونها فإذا تربصت قدر الإياس اعتدت بعد ذلك بالأشهر لأن ما قبلها لم يكن عدة وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء.
فصل: وإن كانت ممن لا تحيض ولا يحيض مثلها كالصغيرة والكبيرة الآيسة اعتدت بثلاثة أشهر لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتدت بثلاثة أشهر بالأهلة لأن الأشهر في الشرع بالأهلة والدليل عليه قوله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وإن كان الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقية الشهر ثم اعتدت بشهرين بالأهلة ثم تنظر عدد ما اعتدت من الشهر الأول وتضيف إليه من الشهر الرابع ما يتم به ثلاثون يوما وقال أبو محمد عبد الرحمن ابن بنت الشافعي رحمه الله: إذا طلقت المرأة في أثناء الشهر اعتدت بثلاثة أشهر بالعدد كاملة لأنها إذا فاتها الهلال في الشهر الأول فاتها في كل شهر فاعتبر العدد في الجميع وهذا خطأ لأنه لم يتعذر اعتبار الهلال إلا في الشهر الأول فلم يسقط اعتباره فيما سواه.
فصل: وإن كانت ممن لا تحيض ولكنها في سن تحيض فيه النساء اعتدت بالشهور لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ولأن الاعتبار بحال المعتدة لا بعادة النساء والدليل عليه أنها لو بلغت سناً لا تحيض فيه النساء وهي تحيض كانت عدتها بالأقراء اعتباراً بحالها فكذلك إذا لم تحض في سن تحيض فيه النساء وجب أن تعتد بالأشهر اعتباراً بحالها وإن ولدت ولم تر حيضا قبله ولا نفاسا بعده ففي عدتها وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنها تعتد بالشهور للآية والثاني: أنها لا تعتد بالشهور بل تكون كمن تباعد حيضها من ذوات الأقراء لأنه لا يجوز أن تكون من ذوات الأحمال ولا تكون من ذوات الأقراء.
فصل: وإذا شرعت الصغيرة في العدة بالشهور ثم حاضت لزمها الانتقال إلى

(3/121)


الأقراء لأن الشهور بدل عن الأقراء فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها وهل يحسب ما مضى من الأشهر قرءاً ففيه قولان: أحدهما: يحتسب به وهو قول أبي العباس لأنه طهر بعده حيض فاعتدت به قرءاً كما لو تقدمه حيض والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحتسب به كما إذا اعتدت بقرئين ثم أيست لزمها الاستئناف ثلاثة أشهر ولم يحتسب ما مضى من زمان الأقراء شهراً وإن انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت لم يلزمها الاستئناف للعدة بالأقراء لأن هذا معنى حدث بعد انقضاء العدة وإن شرعت في العدة بالأقراء ثم ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم الأقراء إذا قلنا إن الحامل تحيض لأن الأقراء دليل على براءة الرحم من جهة الظاهر والحمل دليل على براءة الرحم من جهة الظاهر والحمل دليل على براءة الرحم من جهة القطع والظاهر إذا عارضه قطع سقطت دلالته كالقياس إذا عارض نصه وإن اعتدت بالأقراء ثم ظهر حمل من الزوج لزمها الاعتداد بالحمل ويخالف إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت لأن ما رأت من الحيض لم يكن موجوداً في حال العدة وإنما حدث بعدها والحمل من الزوج كان موجوداً في حال العدة بالأقراء فسقط معه حكم الإقراء.
فصل: وإن كانت المطلقة أمة نظرت فإن كانت حاملاً اعتدت بالحمل لما ذكرناه في الحرة وإن كانت من ذوات الأقراء اعتدت بقرءين لما روى جابر عن عمر رضي الله عنه أنه جعل عدة الأمة حيضتين ولأن القياس اقتضى أن تكون قرءا ونصفا كما كان حدها على النصف إلا أن القرء لا يتبعض فكمل فصارت قرءين ولهذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لواستطعت أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت وإن كانت من ذوات الشهور ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنها تعتد بشهرين لأن الشهور بدل من الأقراء فكانت بعددها كالشهور في عدة الحرة والثاني: أنها تعتد بثلاثة أشهر لأن براءة الرحم لا تحصل إلا بثلاثة أشهر لأن الحمل يمكث أربعين يوماً نطفة ثم أربعين يوماً علقة ثم أربعين يوماً مضغة ثم يتحرك ويعلو جوف المرأة فيه وهو الحمل والثالث أنها تعتد بشهر ونصف لأن القياس يقتضي أن تكون على النصف من الحرة كما قلنا في الحد ولأن القرء لا يتبعض فكمل والشهور تتبعض فتبعضت كما نقول في المحرم إذا وجب عليه نصف مد في جزاء الصيد وأراد أن يكفر بالصوم صام يوماً لأنه لا يتبعض وإن أراد أن يكفر بالإطعام أخرج نصف مد.
فصل: وإن أعتقت الأمة قبل الطلاق اعتدت بثلاثة أقراء لأنه وجبت عليها العدة وهي حرة وإن انقضت عدتها بقرءين ثم اعتقت لم يلزمها زيادة لأنها اعتدت على حسب حالها فلم يلزمها زيادة كما لو اعتدت من لم تحض بالشهور ثم حاضت أو اعتدت ذات

(3/122)


الأقراء بالأقراء ثم صارت آيسة فإن أعتقت في أثناء العدة ففيه ثلاثة أقوال أحدها: تتم عدة أمة لأنه عدد محصور يختلف بالرق والحرية فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد والثاني: أن
ها إن كانت رجعية أتمت عدة حرة وإن كانت بائناً أتمت عدة أمة كما نقول فيمن مات عنها زوجها أنها إن كانت رجعية انتقلت إلى عدة الوفاة وإن كانت بائنا لم تنتقل والثالث: وهو الصحيح أنه يلزمها أن تتمم عدة حرة لأن الاعتبار في العدة بالانتهاء ولهذا لو شرعت في الاعتداد بالشهور ثم حاضت انتقلت إلى الأقراء.
فصل: وإن وطئت امرأة بشبهة وجبت عليها العدة لأن وطء الشبهة كالوطء في النكاح في النسب فكان كالوطء في النكاح في إيجاب العدة فإن زنى بامرأة لم تجب عليها العدة لأن العدة لحفظ النسب والزاني لا يلحقه نسب.
فصل: ومن مات عنها زوجها وجبت عليها العدة دخل بها أولم يدخل لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فإن كانت حائلا وهي حرة اعتدت بأربعة أشهر وعشر للآية وإن كانت أمة اعتدت بشهرين وخمس ليال لأنا دللنا على أن عدتها بالأقراء على النصف إلا أنه لما لم يتبعض جعلناه قرءين والشهور تتبعض فوجب عليها نصف ما يجب على الحرة وإن كانت حاملاً بولد يلحق بالزوج اعتدت بوضعه لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قد حللت فانكحي". وإن كنت حاملاً بولد لا يلحق الزوج كامرأة الطفل لم تعتد بالحمل منه لأنه لا يمكن أن يكون منه فلم تعتد به منه كامرأة الكبير إذا طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين العقد فإن كان الحمل لاحقاً برجل وطئها بشبهة اعتدت به منه وإذا وضعت اعتدت عن الطفل بالشهور لأنه لا يجوز أن تعتد عن شخصين في وقت واحد وإن كان عن زنا احتسبت بما مضى من الشهور في حال الحمل عن عدة وفاة الطفل لأن الحمل عن الزنا لا حكم له فلا يمنع من الاعتداد بالشهور وإن طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم مات عنها وهي في العدة اعتدت بعدة الوفاة لأنه توفي عنها وهي زوجته.
فصل: وإن طلق إحدى امرأتيه بعينها ثلاثا ومات قبل أن يبين نظرت فإن لم يدخل بهما اعتدت كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشرا لأن كل واحدة منهما يجوز أن تكون

(3/123)


هي الزوجة فوجبت العدة عليهما ليسقط الفرض بيقين كمن نسي صلاة من صلاتين لا يعرف عينها وإن دخل بهما فإن كانتا حاملتين اعتدتا بوضع الحمل لأن عدة الطلاق والوفاة في الحمل واحدة وإن كانتا من ذوات الشهور اعتدتا بأربعة شهور وعشر لأنها تجمع عدة الطلاق والوفاة وإن كانتا من ذوات الأقراء اعتدتا بأقصى الأجلين من أربعة أشهر وعشر أو ثلاثة أقراء وابتداء الأشهر من موت الزوج وابتداء الأقراء من وقت الطلاق ليسقط الفرد بيقين وإن اختلفت صفتهما في العدة كان حكم كل واحدة منهما على الانفراد كحكمها إذا اتفقت صفتهما وقد بيناه وإن طلق إحداهما لا بعينها ومات قبل أن يعين فالحكم فيه على ما ذكرناه فإن كانت المطلقة معينة ومات قبل أن يبين إلا في شيء واحد وهو أنا متى أمرناها بالاعتداد بالشهور أو الأقراء فإن ابتداء الأشهر من حين الموت فأما الأقراء فإن قلنا على أحد الوجهين أن ابتداء العدة من حين يلفظ بالطلاق كان ابتداء الأقراء من حين الطلاق وإن قلنا بالوجه الآخر أن ابتداء العدة من حين التعيين كان ابتداء الأقراء من حين الموت لأن بالموت وقع الأياس من بيانه وقبل الموت لم ييأس من بيانه.
فصل: إذا فقدت المرأة زوجها وانقطع عنها خبره ففيه قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم أن لها أن تفسخ النكاح ثم تتزوج لما روى عمر بن دينار عن يحيى بن جعدة أن رجلاً استهوته الجن فغاب عن امرأته فأتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرها أن تمكث أربع سنين ثم أمرها أن تعتد ثم تتزوج ولأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطء بالتعنين وتعذر النفقة بالإعسار فلأن يجوز ههنا وقد تعذر الجميع أولى والثاني: وهو قوله في الجديد وهو الصحيح أنه ليس لها الفسخ لأنه إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله لم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته وقول عمر رضي الله عنه يعارضه قول علي عليه السلام تصبر حتى يعلم موته ويخالف فرقة التعنين والإعسار بالنفقة لأن هناك ثبت سبب الفرقة بالتعنين وههنا لم يثبت سبب الفرقة وهو الموت فإن قلنا بقوله القديم قعدت أربع سنين ثم تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج لما رويناه عن عمر رضي الله عنه ولأن يمضي أربع سنين يتحقق براءة رحمها ثم تعتد لأن الظاهر أنه مات فوجب عليها عدة الوفاة قال أبو إسحاق يعتبر ابتداء المدة من حين أمرها الحاكم بالتربص ومن أصحابنا من قال يعتبر

(3/124)


من حين انقطع خبره والأول أظهر لأن هذه المدة تثبت بالإجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم كمدة التعنين وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى الحكم بالفرقة فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يفتقر لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها والثاني: أنه يفتقر إلى الحكم لأنه فرقة مجتهد فيها فافتقرت إلى الحاكم كفرقة التعنين وهل تقع الفرقة ظاهرا وباطنا ففيه قولان: أحدهما: تقع ظاهرا وباطنا فإن قدم الزوج وقد تزوجت لم يجز أن ينتزعها من الزوج لأنه فسخ مختلف فيه فنفذ فيه الحكم ظاهرا وباطنا كفرقة التعنين والثاني: ينفذ في الظاهر دون الباطن لأن عمر رضي الله عنه جعل للمفقود لما رجع أن يأخذ زوجته وإن قلنا بالقول الجديد أنها باقية على نكاح الزوج فإن تزوجت بعد مدة التربص وانقضاء العدة فالنكاح باطل فإن قضى لها حاكم بالفرقة فهل يجوز نقضه على قوله الجديد ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه حكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد والثاني: أنه يجوز لأنه حكم مخالف لقياس جلي وهو أن يكون حياً في ماله ميتاً في نكاح زوجته.
فصل: وإن رجع المفقود فإن قلنا بقوله الجديد سلمت الزوجة إليه وإن قلنا بقوله القديم وقلنا إن حكم الحاكم لا ينفذ في الباطن سلمت إليه وإن قلنا إنه ينفذ ظاهرا وباطنا لم تسلم إليه وإن فرق الحاكم بينهما وتزوجت ثم بان أن المفقود كان قد مات وقت الحكم بالفرقة فإن قلنا بقوله القديم صح النكاح سواء قلنا إن الحاكم ينفذ الظاهر دون الباطن أو قلنا إنه ينفذ في الباطن دون الظاهر لأن الحكم أباح لها النكاح وقد بان أن الباطن كالظاهر وإن قلنا بقوله الجديد ففي صحة النكاح الثاني وجهان بناء على القولين فيمن وصى بمكاتبه ثم تبين أن الكتابة كانت فاسدة.

(3/125)


باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه
إذا طلقت المرأة فإن كان الطلاق رجعياً كان سكناها حيث يختار الزوج من المواضع التي تصلح لسكنى مثلها لأنها تجب لحق الزوجية وإن كان الطلاق بائناً نظرت فإن كان في بيت يملك الزوج سكناه بملك أو إجارة أو إعارة فإن كان الموضع يصلح لسكنى مثلها لزمها أن تعتد فيه لقوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] فأوجب أن تسكن في الموضع الذي كان يسكن الزوج فيه فإن كان الموضع يضيق عليهما انتقل الزوج وترك السكنى لها لأن سكناها تختص بالموضع

(3/125)


الذي طلقها فيه وإن اتسع الموضع لهما وأراد أن يسكن معها نظرت فإن كان في الدار موضع منفرد يصلح لسكنى مثلها كالحجرة أو علو الدار أو سفلها وبينهما باب مغلق فسكنت فيه وسكن الزوج في الثاني جاز لأنهما كالدارين المتجاورتين فإن لم يكن بينهما باب مغلق فإن كان لها موضع تستتر فيه ومعها محرم لها تتحفظ به كره لأنه لا يؤمن من النظر ولا يحرم لأن مع المحرم يؤمن بالفساد وإن لم يكن محرم لم يجز لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يخلون رجل بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان" 1.
فصل: وإن أراد الزوج بيع الدار التي تعتد فيها نظرت فإن كانت مدة العدة غير معلومة كالعدة بالحمل أو بالأقراء فالبيع باطل لأن المنافع في مدة العدة مستثناة فيصير كما لو باع الدار واستثنى منفعة مجهولة فإن كانت مدة العدة معلومة كالعدة بالشهور ففيه وجهان: أحدهما: إنها على قولين كبيع الدار المستأجرة والثاني: أنه يبطل قولا واحدا والفرق بينهما أن منفعة الدار تنتقل إلى المستأجر ولهذا إذا مات انتقل إلى وارثه فلا يكون في معنى من باع الدار واستثنى بعض المنفعة والمرأة لا تنتقل المنفعة إليها في مدة العدة ولهذا إذا ماتت رجعت منافع الدار إلى الزوج فيكون في معنى من باع الدار واستثنى منفعتها لنفسه.
فصل: وإن حجر على الزوج بعد الطلاق لديون عليه لم يبع المسكن حتى تنقضي العدة لأن حقها يختص بالعين فقدمت كما يقدم المرتهن على سائر الغرماء وإن حجر عليه ثم طلق ضاربت المرأة الغرماء بحقها إن بيعت الدار استؤجر لها بحقها مسكن تسكن فيه لأن حقها وإن ثبت بعد حقوق الغرباء إلا أنه يستند إلى سبب متقدم وهو الوطء في النكاح فإن كانت لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضاربت بالسكنى في تلك المدة فإن انقضت العدة فيما دون ذلك ردت الفاضل على الغرماء فإن زادت مدة العدة على العادة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها ترجع على الغرماء بما بقي لها كما ردت الفاضل إذا ألقت عدتها فيما دون العادة والثاني: لا ترجع عليهم لأن الذي استحقت الضرب به قدر عادتها والثالث: إن كانت عدتها بالإقراء لم ترجع لأن ذلك لا يعلم إلا من جهتها وهي متهمة وإن كانت بوضع الحمل أقامت البينة على وضع الحمل ورجعت عليهم لأنه لا يلحقها فيه تهمة فإن لم يكن لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضربت معهم بأجرة أقل مدة
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 111، 112. مسلم في كتاب الحج حديث 424. الترمذي في كتاب الرضاع باب 16. أحمد في مسنده 1/222. بدون لفظ: "فإن ثالثهما الشيطان".

(3/126)


تنقضي بها العدة لأنه يقين فلا يجب ما زاد بالشك فإن زادت العدة على أقل ما تنقضي به العدة كان الحكم في الرجوع بالزيادة على ما ذكرناه إذا زادت على العادة.
فصل: وإن طلقت وهي في مسكن لها لزمها أن تعتد به لأنه مسكن وجبت فيه العدة ولها أن تطالب الزوج بأجرة المسكن لأن سكناها عليه في العدة.
فصل: وإن مات الزوج وهي في العدة قدمت على الورثة في السكنى لأنها استحقتها في حال الحياة فلم تسقط بالموت كما لو أجر داره ثم مات فإن أراد الورثة قسمة الدار لم يكن لهم ذلك لأن إضراراً بها في التضييق عليها وإن أرادوا التمييز بأن يعلموا عليها بخطوط من غير نقض ولا بناء فإن قلنا إن القسمة تمييز الحقين جاز لأنه لا ضرر عليها وإن قلنا إنها بيع فعلى ما بيناه.
فصل: وإن توفي عنها زوجها وقلنا إنها تستحق السكنى فإن كانت في مسكن الزوج لزمها أن تعتد فيه لما روت فريعة بنت مالك أن زوجها قتل فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "امكثي حتى يبلغ الكتاب أجله". وإن لم تكن في مسكن الزوج وجب من تركته أجرة مسكنها مقدمة على الميراث الوصية لأنه دين مستحق فقدم وإن زاحمها الغرماء ضاربتهم بقدر حقها فإن لم يكن له مسكن فعلى السلطان سكناها لما في عدتها من حق الله تعالى وإن قلنا لا تجب لها السكنى اعتدت حيث شاءت فإن تطوع الورثة بالسكنى من مالهم وجب عليها الاعتداد فيه.
فصل: وإن أمر الزوج امرأته بالانتقال إلى دار أخرى فخرجت بنية الانتقال ثم مات أو طلقها وهي بين الدارين ففيه وجهان: أحدهما: أنها تخير بين الدارين في الاعتداد لأن الأولى خرجت عن أن تكون مسكناً لها بالخروج منها والثانية: لم تصر مسكنا لها والثاني: وهو الصحيح أنه يلزمها الاعتداد في الثانية لأنها مأمورة بالمقام فيها ممنوعة من الأولى.
فصل: وإن أذن لها في السفر فخرجت من البيت بنية السفر ثم وجبت العدة قبل أن تفارق البنيان ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن لها أن تعود ولها أن تمضي في سفرها لأن العدة وجبت بعد الانتقال من موضع العدة فصار كما لو فارقت البنيان والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يلزمها أن تعود وتعتد لأنه لم يثبت لها حكم السفر فإن وجبت العدة وقد فارقت البنيان فإن كان في سفر انتقال ففيه وجهان كما قلنا فيمن طلقت وهي بين الدار التي كانت فيها وبين الدار التي أمرت الانتقال إليها فإن كانت في سفر حاجة فلها أن تمضي في سفرها ولها أن تعود لأن في قطعها عن السفر مشقة وإن وجبت العدة وقد وصلت إلى المقصد فإن كان للبقاء لها أن تقيم وتعتد لأنه

(3/127)


الإجارة أو طلب أكثر من أجرة المثل انتقلت إلى موضع آخر لأنه حال عذر ولا ننتقل في هذه المواضع إلا إلى أقرب موضع من الموضع الذي وجبت فيه العدة لأنه أقرب إلى موضع الوجوب كما قلنا فيمن وجبت عليه الزكاة في موضع لا يجد فيه أهل السهمان أنه ينقل الزكاة إلى أقرب موضع منه وإن وجب عليها حق لا يمكن الاستيفاء إلا بها كاليمين في دعوى أوحد فإن كانت ذات خدر بعث إليها السلطان من يستوفي الحق منها وإن كانت برزة جاز إحضارها لأنه موضع حاجة فإذا قضت ما عليها رجعت إلى مكانها وإن احتاجت إلى الخروج لحاجة كشراء القطن وبيع الغزل لم يجز أن تخرج لذلك بالليل لما روى مجاهد قال استشهد رجال يوم أحد فتأيم نساؤهم فجئن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن يا رسول الله إنا نستوحش بالليل ونبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا درنا إلى بيوتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحدثن عند إحداكن ما بدا لكن حتى إذا أردتم النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها". ولأن الليل مظنة للفساد فلا يجوز لها الخروج من غير ضرورة وإن أرادت الخروج لذلك بالنهار نظرت فإن كانت في عدة الوفاة جاز لحديث مجاهد وإن كانت في عدة المبتوتة ففيه قولان: قال في القديم لا يجوز لقوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] وقال في الجديد: يجوز وهو الصحيح لما روى جابر رضي الله عنه قال: طلقت خالتي ثلاثاً فخرجت تجد نخلاً لها فلقيها رجل فنهاها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال لها: "اخرجي فجدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا". ولأنها بائن فجاز لها أن تخرج بالنهار لقضاء الحاجة كالمتوفى عنها زوجها.

(3/129)


باب الإحداد
الإحداد ترك الزينة وما يدعوا إلى المباشرة ويجب ذلك في عدة الوفاة لما روت أم

(3/129)


سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل" 1. ولا يجب ذلك على المعتدة الرجعية لأنها باقية على الزوجية ولا يجب على أم الولد إذا توفي عنها مولاها ولا على الموطوءة بشبهة لما روت أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا". واختلف قوله في المعتدة المبتوتة فقال في القديم يجب عليها الإحداد لأنها معتدة بائن فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها وقال في الجديد لا يجب عليها الإحداد لأنها معتدة من طلاق فلم يلزمها الإحداد كالرجعية.
فصل: ومن لزمها الإحداد حرم عليها أن تكتحل بالإثمد والصبر وقال أبو الحسن الماسرجسي: إن كانت سوداء لم يحرم عليها والمذهب أنه يحرم لما ذكرناه من حديث أم سلمة ولأنه يحسن الوجه ويجوز أن تكتحل بالأبيض كالتوتيا لأنه لا يحسن بل يزيد العين مرهاً فإن احتاجت إلى الاكتحال بالصبر والإثمد اكتحلت بالليل وغسلته بالنهار ولما روت أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبراً فقال: "ما هذا يا أم سلمة قلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب فقال إنه يشب الوجه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار".
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 46، النسائي في كتاب الطلاق باب 64. أحمد في مسنده 6/302.

(3/130)


فصل: ويحرم عليها أن تختضب لحديث أم سلمة ولأنه يدعوا إلى المباشرة ويحرم عليها أن تحمر وجهها بالدمام وهو الكلكون وأن تبيضه باسفيذاج العرائس لأن ذلك أبلغ في الزينة من الخضاب فهو بالتحريم أولى ويحرم عليها ترجيل الشعر لأنه يحسنها ويدعوا إلى مباشرتها.
فصل: ويحرم عليها أن تطيب لما روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تمس طيباً إلا عند طهرها من حيضها نبذة من قسط أو أظفار" 1. ولأن الطيب يحرك الشهوة ويدعوا إلى المباشرة ولا تأكل شيئا فيه طيب ظاهر ولا تستعمل الأدهان المطيبة كالبان ودهن الورد ودهن البنفسج لأنه طيب ولا تستعمل الزيت والشيرج في الرأس لأنه يرجل الشعر ويجوز لها أن تغسل رأسها بالسدر لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "امتشطي" فقلت بأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: "بالسدر تغلفين به رأسك". ولأن ذلك تنظيف لا تزيين فلم يمنع منه ويجوز أن تقلم الأظفار وتحلق العانة لأنه يراد للتنظيف لا للزينة.
فصل: ويحرم عليها لبس الحلي لحديث أم سلمة ولأنه يزيد في حسنها ولهذا قال الشاعر:
__________
1 رواه البخاري في كتاب الطلاق باب 46، 49.مسلم في كتاب الرضاع حديث 125، 126. أبو داود في كتاب الطلاق باب 43، 46. الموطأ في كتاب الطلاق حديث 101، 102. أحمد في مسنده 6/37، 148.

(3/131)


وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
فأما إذا كان الجمال موفراً ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
فصل: ويحرم عليها لبس ما صبغ من الثياب للزينة كالأحمر والأصفر والأزرق الصافي والأخضر الصافي لحديث أم عطية: ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب وأما ما صبغ غزله ثم نسج فقد قال أبو إسحاق: إنه لا يحرم لحديث أم عطية: "ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب"، والعصب ما صبغ غزله ثم نسج والمذهب أنه يحرم لأن الشافعي رحمه الله نص على تحريم الوشي والديباج وهذا كله صبغ غزله ثم نسج ولأنه ما صبغ غزله ثم نسج أرفع وأحسن مما صبغ بعد النسج وأما ما صبغ لغير الزينة كالثوب المصبوغ بالسواد للمصيبة وما صبغ للوسخ كالأزرق المشبع والأخضر المشبع فإنه لا يحرم لأنه لا زينة فيه ولا يحرم ما عمل من غزله من غير صبغ كالمعمول من القطن والكتان والإبريسم والصوف والوبر لأنها وإن كانت حسنة إلا أن حسنها من أصل الخلقة لا لزينة أدخلت عليها وإن عمل على البياض طرز فإن كانت كباراً حرم عليها لبسه لأنه زينة ظاهرة أدخلت عليه وإن كانت صغاراً ففيه وجهان: أحدهما: يحرم كما يحرم قليل الحلي وكثيره. والثاني: لا يحرم لقلتها وخفائها.

(3/132)


باب اجتماع العدتين
إذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول وتزوجت في عدتها بآخر ووطئها جاهلاً بتحريمها وجب عليها إتمام عدة الأول واستئناف عدة الثاني ولا تدخل عدة أحدهما: في عدة الآخر لما روى سعيد بن المسيب وسيمان بن بشار أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر رضي الله عنه وضرب زوجها بمخفقة ضربات ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت عليه بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ولم

(3/132)


ينكحها أبدا ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين فإن كانت حائلاً انقطعت عدة الأول بوطء الثاني إلى أن يفرق بينهما لأنها صارت فراشاً للثاني فإذا فرق بينهما أتمت ما بقي من عدة الأول ثم استأنفت العدة من الثاني لأنهما عدتان من جنس واحد فقدمت السابقة منهما وإن كانت حاملاً نظرت فإن كان الحمل من الأول انقطعت عدتها منه بوضعه ثم استأنفت العدة من الثاني بالأقراء بعد الطهر من النفاس وإن كان الحمل من الثاني انقضت عدتها منه بوضعه ثم أتمت عدة الأول وتقدم عدة الثاني ههنا على عدة الأول لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من الثاني وتعتد به من الأول وإن أمكن أن يكون من كل واحد منهما عرض على القافة فإن ألحقته بالأول انقضت به عدته وإن ألحقته بالثاني انقضت به عدته وإن ألحقته بهما أو نفته عنهما أولم تعلم أولم تكن قافة لزمها أن تعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء لأنه إن كان من الأول لزمها للثاني ثلاثة أقراء وإن كان من الثاني لزمها إكمال العدة من الأول فوجب أن تعتد بثلاثة أقراء ليسقط الفرض بيقين وإن لم يمكن أن يكون من واحد منهما ففيه قولان: أحدهما: لا تعتد به عن أحدهما: لأنه غير لاخق بواحد منهما فعلى هذا إذا وضعت أكملت عدة الأول ثم تعتد من الثاني بثلاثة أقراء والثاني: تعتد به عن أحدهما: لا يعينه لأنه يمكن أن يكون من أحدهما: ولهذا لو أقر به لحقه فانقضت به العدة كالمنفي باللعان فعلى هذا يلزمها أن تعتد بثلاثة أقراء بعد الطهر من النفاس.
فصل: إذا تزوج رجل امرأة في عدة غيره ووطئها فيه قولان: قال في القديم تحرم عليه على التأبيد لما رويناه عن عمر رضي الله عنه أنه قال ثم لا ينكحها أبدا وقال في الجديد لا تحرم عليه على التأبيد كالوطء في النكاح بلا ولي وما روي عن عمر رضي الله عنه فقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب فخطب عمر رضي الله عنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة فرجع إلى قول علي كرم الله وجهه.
فصل: إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم وطئها في العدة وجب عليها عدة بالوطء لأنه وطء في نكاح قد تشعث فهو كالوطء الشبهة فإن كانت من ذوات الأقراء أومن ذوات الشهور لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها البقية من عدة الطلاق لأنهما من واحد وله أن يراجعها في البقية لأنها من عدة الطلاق فإذا مضت البقية لم يجز أن يراجعها

(3/133)


لأنها في عدة وطء شبهة وإن حملت من الوطء صارت في عدة الوطء حتى تضع وهل تدخل فيها بقية عدة الطلاق ففيه قولان: أحدهما: تدخل لأنهما لواحد فدخلت إحداهما في الأخرى كما لو كانتا بالأقراء والثاني: لا يدخل لأنهما جنسان فلم تدخل إحداهما في الأخرى فإن قلنا يتداخلان كان في العدتين إلى أن تضع لأن الحمل لا يتبعض وله أن يراجعها إلى أن تضع لأنها في عدة الطلاق وإن قلنا لا يتداخلان فإن لم تر دماً على الحمل وقلنا إنه ليس بحيض فهي معتدة بالحمل عن وطء الشبهة إلى أن تضع فإذا وضعت أتمت عدة الطلاق وله أن يراجعها في هذه البقية لأنها في عدة الطلاق وهل له أن يراجعها قبل الوضع فيه وجهان: أحدهما: ليس له أن يراجعها لأنها في عدة وطء الشبهة والثاني: له أن يراجعها لأنها لم تكمل عدة الطلاق فإذا رأت الدم على الحمل وقلنا إنه حيض كانت عدتها من الوطء بالحمل وعدتها من الطلاق بالإقرار التي على الحمل لأن عليها عدتين إحداهما بالأقراء والأخرى بالحمل فجاز أن تجتمعا فإذا أمضت ثلاثة أقراء قبل وضع الحمل فقد انقضت عدة الطلاق وإن وضعت قبل انقضاء الأقراء فقد انقضت عدة الوطء وعليها إتمام عدة الطلاق فإذا راجعها في بقية عدة الطلاق صحت الرجعة وإن راجعها قبل الوضع ففي صحة الرجعة وجهان على ما ذكرناه فأما إذا كانت قد حبلت من الوطء قبل الطلاق كانت عدة الطلاق بالحمل وعدة الوطء بالأقرار فإن قلنا إن عدة الأقراء تدخل في عدة الحمل كانت عدتها من الطلاق والوطء بالحمل فإذا أوضعت انقضت العدتان جميعا وإن قلنا لا ندخل عدة الأقراء في الحمل فإن كانت لا ترى الدم على الحمل أوتراه وقلنا إنه ليس بحيض فإن عدتها من الطلاق تنقضي بوضع الحمل وعليها استئناف عدة الوطء بالأقراء وإن كانت ترى الدم وقلنا إنه حيض فإن سبق الوضع انقضت العدة الأولى وعليها إتمام العدة الثانية فإن سبق انقضاء الأقراء انقضت عدة الوطء ولا تنقضي العدة الأولى إلا بالوضع.
فصل: إذا خالع امرأته بعد الدخول فله أن يتزوجها في العدة وقال المزني: لا يجوز كما لا يجوز لغيره وهذا خطأ لأن نكاح غيره يؤدي إلى اختلاط الأنساب ولا يوجد ذلك في نكاحه وإن تزوجها انقطعت العدة وقال أبو العباس: لا تنقطع قبل أن يطأها كما لا تنقطع إذا تزوجها أجنبي قبل أن يطأها وهذا خطأ لأن المرأة تصير فراشا بالعقد ولا يجوز أن تبقى مع الفراش عدة ولأنه لا يجوز أن تكون زوجته وتعتد منه ويخالف الأجنبي فإن نكاحه في العدة فاسد فلم تصر فراشاً إلا بالوطء فإن وطئها ثم طلقها لزمها عدة مستأنفة وتدخل فيها بقية الأولى وإن طلقها قبل أن يطأها لم يلزمها

(3/134)


استئناف عدة لأنها مطلقة في نكاح قبل المسيس فلم تلزمها عدة كما لو تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول وعليها أن تتمم ما بقي عليها من العدة الأولى لأنا لو أسقطنا البقية أدى ذلك إلى اختلاط المياه وفساد الأنساب لأنه يتزوج امرأة ويطأها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر فيطؤها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر ويفعل مثل ذلك إلى أن يجتمع على وطئها في يوم واحد عشرون وتختلط المياه وتفسد الأنساب.
فصل: إذا طلق امرأته بعد الدخول طلقة ثم راجعها نظرت فإن وطئها بعد الرجعة ثم طلقها لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها بقية العدة الأولى فإن راجعها ثم طلقها ثم راجعها قبل أن يطأها ففيه قولان: أحدهما: ترجع إلى العدة الأولى وتبنى عليها كما لو خالعها ثم تزوجها في العدة ثم طلقها قبل أن يطأها والثاني: أنها تستأنف العدة وهو اختيار المزني وهو الصحيح لأنه طلاق في نكاح وطئ فيه فأوجب عدة كاملة كما لولم يتقدمه طلاق ولا رجعية وتخالف المختلفة لأن هناك عادت إليه بنكاح جديد ثم طلقها من غير وطء وههنا عادت إلى النكاح الذي طلقها فيه فإذا طلقها استأنفت العدة كما لو ارتدت بعد الدخول ثم أسلمت ثم طلقها وإن طلقها ثم مضى عليها قرء أو قرءان ثم طلقها من غير رجعية ففيه طريقان: قال أبو سعيد الإصطخري وأبو علي بن خيران رحمهما الله: هي كالمسألة قبلها فتكون على قولين وللشافعي رحمه الله ما يدل عليه فإنه قال في تلك المسألة: ويلزم أن نقول ارتجع أولم يرتجع سواء والدليل عليه أن الطلاق معنى لو طرأ على الزوجية أوجب عدة فإذا طرأ على الرجعية أوجب عدة كالوفاة في إيجاب عدة الوفاة وقال أبو إسحاق تبنى على عدتها قولاً واحداً لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة فصار كما لو طلقها طلقتين في وقت واحد.
فصل: وإن تزوج عبد أمة ودخل بها ثم طلقها طلاقاً رجعياً ثم أعتقت الأمة وفسخت النكاح ففيه قولان: أحدهما: أنها على قولين: أحدهما: تستأنف العدة من حين الفسخ والثاني: لا تستأنف والطريق الثاني أنها تستأنف العدة من الفسخ قولاً واحدا لأن إحدى العدتين من طلاق والأخرى من فسخ فلا تبنى إحداهما على الأخرى.
فصل: وإذا خلا الرجل بامرأته ثم اختلفا في الإصابة فادعاه أحدهما: وأنكر الآخر ففيه قولان: قال في الجديد قول المنكر لأن الأصل عدم الإصابة وقال في القديم القول قول المدعي لأن الخلوة تدل على الإصابة.
فصل: وإن اختلفا في انقضاء العدة بالأقراء فادعت المرأة انقضاءها لزمان يمكن فيه انقضاء العدة وأنكر الزوج فالقول قولها وإن اختلفا في وضع ما تنقضي به العدة فادعت

(3/135)


المرأة أنها وضعت ما تنقضي به العدة وأنكر الزوج فالقول قولها لقوله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة 228] فحرج النساء على كتمان ما في الأرحام كما حرج على كتمان الشهادة فقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ثم يجب قبول شهادة قول الشهود فوجب قبول قول النساء ولأن ذلك لا يعلم إلا من جهتها فوجب قبول قولها فيه كما يجب على التابعي قبول ما يخبره به الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يكن له سبيل إلى معرفته إلا من جهته وإن ادعت المرأة انقضاء العدة بالشهور وأنكر الزوج فالقول قوله لأن ذلك اختلاف في وقت الطلاق فكان القول فيه قوله.
فصل: وإن طلقها فقالت المرأة وقد بقي من الطهر ما يعتد به قرء أو قال الزوج طلقك ولم يبق شيء من الطهر فالقول قول المرأة لأن ذلك اختلاف في وقت الحيض وقد بينا أن القول في الحيض قولها.
فصل: وإن طلقها وولدت واتفقا على وقت الولادة واختلفا في وقت الطلاق فقال الزوج طلقتك بعد الولادة على الرجعة وقالت المرأة طلقتني قبل الولادة فلا رجعة لك فالقول قول الزوج لأنهما لو اختلفا في أصل الطلاق كان القول قوله فكذلك إذا اختلفا في وقته ولأن هذا اختلاف في قوله وهو أعلم به فرجع إليه وإن اتفقنا في وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة فقال الزوج ولدت قبل الطلاق فلي الرجعة وقالت المرأة بل ولدت بعد الطلاق فلا رجعة لك فالقول قولها لأنهما لو اختلفا في أصل الولادة كان القول قولها فكذلك إذا اختلفا في وقتها وإن جهلا وقت الطلاق ووقت الولادة وتداعيا السبق فقال الرجل تأخر الطلاق وقالت المرأة تأخرت الولادة فالقول قول الزوج لأن الأصل وجوب العدة وبقاء الرجعة فإن جهلا وقتهما أو جهل السابق منهما لم يحكم بينهما لأنهما لا يدعيان حقاً وإن ادعت المرأة السبق وقال الزوج لا أعرف السابق قال له الحاكم ليس هذا بجواب فإما أن تجيب جواباً صحيحاً أو نجعلك ناكلاً فإن استفتى أفتيناه بما ذكرناه في المسألة قبلها وأن للزوج الرجعة لأن الأصل وجوب العدة وبقاء الرجعة والورع أن لا يراجعها.
فصل: فإن أذن لها في الخروج إلى بلد آخر ثم طلقها واختلفا فقالت المرأة نقلتني إلى البلد الآخر ففيه أعتد وقال الزوج بل أذنت لك في الخروج لحاجة فعليك أن ترجعي فالقول قول الزوج لأنه أعلم بقصده وإن مات واختلفت الزوجة والوارث فالقول قولها

(3/136)


لأنهما استويا في الجهل بقصد الزوج ومع الزوجة ظاهر فإن الأمر بالخروج يقتضي خروجاً من غير عود.

(3/137)


باب استبراء الأمة وأم الولد
من ملك أمة ببيع أو هبة أو إرث أو سبي أو غيرها من الأسباب لزمه أن يستبرئها لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام أو طاس أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة فإن كانت حاملاً استبرأها بوضع الحمل لحديث أبي سعيد الخدري وإن كانت حائلاً نظرت فإن كانت ممن تحيض استبرأها بقرء وفي القرء قولان: أحدهما: أنه طهر لأنه استبراء فكان القرء فيه الطهر كالعدة والثاني: أن القرء حيض وهو الصحيح لحديث أبي سعيد ولأن براءة الرحم لا تحصل إلا بالحيض فإن قلنا إن القرء هو الطهر فإن كانت عند وجوب الإستبراء طاهراً كانت بقية الطهر قرءاً فإن طعنت في الحيض لم تحل حتى تحيض حيضة كاملة ليعلم براءة رحمها فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن كانت حائضاً لم تشرع في القرء حتى تطهر فإذا طعنت في الحيض الثاني حلت وإن قلنا إن القرء هو الحيض فإن كانت حال وجوب الاستبراء طاهراً لم تشرع في القرء حتى تحيض فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن كانت حائضاً لم تشرع في القرء إلا في الحيضة الثانية لن بقية الحيض لا تعد قرءاً فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن وجب الاستبراء وهي ممن تحيض فارتفعت حيضتها كان حكمها في الانتظار حكم المطلقة إذا ارتفع حيضها وإن وجب الاستبراء وهي ممن لا تحيض لصغر أوكبر ففيه قولان: أحدهما: تستبرأ بشهر لأن كل شهر في مقابلة قرء والثاني: تستبرأ بثلاثة أشهر وهو الصحيح لأن ما دونها لم يجعل دليلا على براءة الرحم.
فصل: وإن ملكها وهي مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو ذات زوج لم يصح استبراؤها في هذه الأحوال لأن الإستبراء يراد للاستباحة ولا توجد الاستباحة في هذه الأحوال وإن اشتراها فوضعت في مدة الخيار أو حاضت في مدة الخيار فإن قلنا إنها لا تملك قبل انقضاء الخيار لم يعتد بذلك عن الاستبراء لأنه اشتراها قبل الملك وإن قلنا إنها تملك ففيه وجهان: أحدهما: لايعتد به لأن الملك غير تام لأنه معرض للفسخ والثاني: يعتد به لأنه استبراء بعد الملك وجواز الفسخ لا يمنع الاستبراء كما لو استبرأها وبها عيب لم يعلم به وإن ملكها بالبيع أو الوصية فوضعت أو حاضت قبل القبض ففيه وجهان: أحدهما: لا يعتد به لأن الملك غير تام والثاني: يعتد به لأنه استبراء بعد الملك وللشافعي رحمه الله ما

(3/137)


يدل على كل واحد من الوجهين وإن ملكها بالإرث صح الاستبراء وإن لم تقبض لأن المورث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف.
فصل: وإن مللك أمة وهي زوجته لم يجب الاستبراء لأن الاستبراء لبراءة الرحم من ماء غيره والمستحب أن يستبرئها لأن الولد من النكاح مملوك ومن ملك اليمين حر فاستحب أن يميز بينهما.
فصل: وإن كانت أمته ثم رجعت إليه بالفسخ أو باعها ثم رجعت إليه بالإقالة لزمه أن يستبرئها لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالعقد وعاد بالفسخ فصار كما لو باعها ثم استبرأها فإن رهنها ثم فكها لم يجب الاستبراء لأن بالرهن لم يزل ملكه عن استمتاعها لأن له أن يقبلها وينظر إليها بالشهوة وإنما منع من وطئها لحق المرتهن وقد زال حقه بالفكاك فحلت له وإن ارتد المولى ثم أسلم أو ارتدت الأمة ثم أسلمت وجب استبراؤها لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالردة وعاد بالإسلام وإن زوجها ثم طلقت فإن كان قبل الدخول لم تحل له حتى يستبرئها لأنه تجدد له الملك على استمتاعها فوجب استبراؤها كما لوباعها ثم اشتراها والثاني: تحل له وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأن الاستبراء يراد لبراءة الرحم وقد حصل ذلك العدة.
فصل: ومن وجب استبراؤها حرم وطؤها وهل يحرم التلذذ بها بالنظر والقبلة ينظر فيه فإن ملكها ممن له حرمة لم يحل له لأنه لا يؤمن أن تكون أم ولد لمن ملكها من جهته وإن ملكها ممن لا حرمة له كالمسبية ففيه وجهان: أحدهما: لا تحل له لأن من حرم وطؤها بحكم الاستبراء حرم التلذذ بها كما لو ملكها ممن له حرمة والثاني: أنها تحل لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال خرجت في سهمي يوم حلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة فما ملكت نفسي أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون ولأن المسبية يملكها حاملاً كانت أو حائلاً فلا يكون التلذذ بها إلا في ملكه وإنما منع من وطئها حتى لا يختلط ماؤه بماء مشرك ولا يوجد هذا في التلذذ بالنظر والقبلة وإن وطئت زوجته بشبهة لم يحل له وطؤها قبل إنقضاء العدة لأنه يؤدي إلى إختلاط المياه وإفساد النسب وهل له التلذذ بها في غير الوطء على ما ذكرناه من الوجهين في المسبية لأنها زوجته حاملا كانت أو حائلا.
فصل: ومن ملك أمة جاز له بيعها قبل الاستبراء لأنا قد دللنا على أنه يجب على

(3/138)


المشتري الاستبراء فلم يجب على البائع لأن براءة الرحم تحصل باستبراء المشتري وإن أراد تزويجها نظرت فإن لم يكن وطئها جاز تزويجها من غير استبراء لأنها لم تصر فراشا له وإن وطئها لم يجز تزويجها قبل الاستبراء لأنها صارت بالوطء فراشاً له.
فصل: وإن أعتق أم ولده في حياته أو أعتقت بموته لزمها الاستبراء لأنها صارت بالوطء فراشاً له وتستبرأ كما تستبرأ المسبية لأنه استبراء بحكم اليمين فصار كاستبراء المسبية وإن أعتقها أومات عنها وهي مزوجة أو معتدة لم يلزمها الاستبراء لأنه زال فراشه قبل وجوب الاستبراء فلم يلزمها الاستبراء كما لوطلق أمرأته قبل الدخول ثم مات ولأنها صارت فراشأ لغيره فلا يلزمها لأجله استبراء وإن زوجها ثم مات ومات الزوج ولم يعلم السابق منهما لم يخل إما أن يكون بين موتهما شهران وخمسة أيام فما دون أو أكثر أولا يعلم مقدار ما بينهما فإن كان بينهما شهران وخمسة أيام فما دون لم يلزمها الاستبراء عن المولى لأنه إن كان المولى مات أولاً فقد مات وهي زوجة فلا يجب عليها الاستبراء وإن مات الزوج أولاً فقد مات المولى بعده وهي معتدة من الزوج فلا يلزمها الاستبراء وعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد موت أحدهما: لأنه يجوز أن يكون قد مات المولى أولاً فعتقت ثم مات الزوج فيلزمها عدة حرة وإن كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال لزمها أن تعتد من بعد آخرهما موتا بأكثر الأمرين من أربعة أشهر وعشر أو حيضة لأنه إن مات الزوج أولاً فقد اعتدت عنه بشهرين وخمسة أيام وعادت فراشأ للمولى فإذا مات لزمها أن تستبرئ منه بحيضة وإن مات المولى أولاً لم يلزمها استبراء فإذا مات الزوج لزمتها عدة حرة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين وإن لم يعلم قدر ما بين المدتين من الزمان وجب أن تأخذ بأغلظ الحالين وهو أن يكون بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشر أو حيضة من الزمان وجب أن تأخذ بأغلظ الحالين وهو أن يكون بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشر أو حيضة ليسقط الفرض بيقن كما يلزم من نسي صلاة من صلاتين قضاء الصلاتين ليسقط الفرض بيقين ولا يوقف لها شيء من تركة الزوج لأن الأصل فيه الرق فلم تورث مع الشك.
فصل: وإن كانت بين رجلين جارية فوطئها ففيها وجهان: أحدهما: يجب استبراءان لأنه يجب لحقهما فلم يدخل أحدهما: في الأخر كالعدتين والثاني: يجب استبراء واحد لأن القصد من الاستبراء معرفة براءة الرحم ولهذا لا يجب الاستبراء بأكثر من حيضة وبراءة الرحم منهما تحصل باستبراء واحد.

(3/139)


فصل: إذا أستبرأ أمته ثم ظهر بها حمل فقال البائع هو مني وصدقه المشتري لحقه الولد والجارية أم ولد له والبيع باطل وإن كذبه المشتري نظرت فإن لم يكن أقر بالوطء حال البيع لم يقبل قوله لأن الملك انتقل الى المشتري في الظاهر فلم يقبل إقراره بما يبطل حقه كما لو باعه عبداً ثم أقر أنه كان غصبه أو اعتقه وهل يلحقه نسب الولد فيه قولان: قال في القديم والإملاء يلحقه لأنه يجوز أن يكون إبناً لواحد ومملوكا لغيره وقال في البويطي لا يلحقه لأن فيه إضراراً بالمشتري لأنه قد يعتقه فيثبت له عليه الولاء وإذا كان ابناً لغيره لم يرثه فإن كان قد أقر بوطئها عند البيع فإن كان قد إستبرأها ثم باعها نظرت فإن أتت بولد لدون ستة أشهر لحقه نسبه وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا وإن ولدته لستة أشهر فصاعداً لم يلحقه الولد لأنه لو استبرأها ثم أتت بولد وهي في ملكه لم يلحقه فلأن لا يلحقه وهي في ملك غيره أولى فإن لم يكن المشتري قد وطئها كانت الجارية والولد مملوكين وإن كان قد وطئها فإن أتت بولد لدون ستة أشهر من حين الوطء فهو كما لولم يطأها لأنه لا يجوز أن يكون منه وتكون الجارية والولد مملوكين له وإن أتت بولد لستة أشهر من وقت البيع لحق البائع وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا وإن ولدته لستة أشهر نظرت فإن لم يكن قد وطئها المشتري فهو كالقسم قبله لأنه لم تصر فراشا له وإن وطئها فولدت لستة أشهر من وطئه عرض الولد على القافة فإن ألحقته بالبائع لحق به وإن ألحقته بالمشتري لحقته وقد بينا حكم الجميع.

(3/140)