المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الأيمان
مدخل
...
كتاب الأيمان
تصح اليمين من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وأما غير المكلف كالصبي والمجنون والنائم فلا تصح يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه قول يتعلق به وجوب حق فلا يصح من غير مكلف كالبيع وفيمن زال عقله بالسكر طريقان على ما ذكرناه في الطلاق وأما المكره فلا تصح يمينه لما روى واثلة بن الأسقع وأبو أمامة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على مقهور يمين". ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح كما لو أكره على كلمة الكفر وأما من لا يقصد اليمين وهو الذي يسبق لسانه إلى اليمين أو أراد اليمين على شيء فسبق لسانه إلى غيره فلا تصح يمينه لقوله عز وجل: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا هو قول الرجل لا والله وبلى والله ولأن ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر.
فصل: ويصح اليمين على الماضي والمستقبل فإن حلف على ماض وهو صادق فلا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المدعى عليه ولا يجوز أن يجعل اليمين عليه إلا وهو صادق فدل على أنه يجوز أن يحلف على ما هو صادق فيه وروى محمد ابن كعب القرظي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر وفي يده عصا: يا أيها الناس لا يمنعكم اليمين عن أخذ حقوقكم فو الذي نفسي بيده إن في يدي عصا وإن كان كاذبا وهو أن يحلف على أمر أنه كان ولم يكن أو على امرأته لم وكان أثم بذلك وهو اليمين الغموس والدليل عليه ما روي عن الشعبي رضي الله عنه عن عبد الله

(3/94)


ابن عمر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "الشرك بالله" قال ثم ماذا؟ قال: "عقوق الوالدين" قال ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس" 1. قيل للشعبي ما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع بها مال امرئ وهو فيها كاذب. وروى عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو علي غضبان" 2. وإن كان على مستقبل نظرت فإن كان على أمر مباح ففيه وجهان: أحدهما: الأولى أن لا يحنث لقوله عز وجل: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] والثاني: أن الأولى أن يحنث لقوله عز وجل: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} [المائدة: 87] فإن حلف على فعل مكروه أوترك مستحب فالأولى أن يحنث لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير".
فصل: وتكره اليمين بغير الله عز وجل فإن حلف بغيره كالنبي والكعبة والآباء والأجداد لم تنعقد يمينه لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله تعالى" 3. وروي عن عمر رضي الله عنه قال: سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي فقال: "إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" فقال عمر رضي الله عنه: والله ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا وإن قال: إن فعلت كذا وكذا فأنا يهودي أو نصراني أو أنا بريء من الله أومن الإسلام لم ينعقد يمينه لما روى بريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف أنه بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فقد قال وإن كان صادقاً فلم يرجع إلى الإسلام سالماً". لأنه يمين بمحدث فلم ينعقد كاليمين بالمخلوقات.
فصل: وتجوز اليمين بأسماء الله وصفاته فإن حلف من أسمائه بالله انعقدت يمينه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشاً ثم قال: إن شاء الله". وإن حلف بالرحمن أو بالإله أو بخالق
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 16. الترمذي في كتاب تفسير سورة النساء باب 6. النسائي في كتاب التحريم باب 3. أحمد في مسنده 2/201.
2 رواه البخاري في كتاب الخصومات باب 4. مسلم في كتاب الإيمان حديث 22. أبو داود في كتاب الأيمان باب 1. الترمذي في كتاب البيوع باب 42. أحمد في مسنده 1/377.
3 رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 13. أبو داود في كتاب الأيمان باب 4. الترمذي في كتاب النذور باب 9. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 2. الموطأ في كتاب النذور حديث 14.

(3/95)


الخلق أو ببارئ النسمة أو بالحي القيوم أو بالحي الذي لا يموت أو برب السموات والأرضين أو بمالك يوم الدين أو برب العالمين وما أشبه ذلك من الأسماء التي لا يشاركه فيها أحد انعقدت يمينه لأنه لا يسمى بها غيره ولا يوصف بها سواه فصار كما لو قال والله فإن حلف بالرحيم والرب القادر والقاهر والملك والجبار والخالق والمتكبر ولم ينوبه غير الله عز وجل انعقدت به يمينه لأنه لا تطلق هذه الأسماء إلا عليه وإن نوى به غيره لم ينعقد لأنه قد تستعمل في غيره مع التقييد لأنه يقال فلان رحيم القلب ورب الدار وقادر على المشي وقاهر للعدو وخالق للكذب ومالك البلد وجبار متكبر فجاز أن تصرف إليه بالنية فإن قال والحي والموجود والعالم والمؤمن والكريم لم تنعقد يمينه إلا أن ينوي به الله تعالى لأن هذه الأسماء مشتركة بين الله تعالى وبين الخلق مستعملة في الجميع استعمالاً واحداً فلم تنصرف إلى الله تعالى من غير نية كالكنايات في الطلاق وإن حلف بصفة من صفاته نظرت فإن حلف بعظمة الله أو بعزته أو بكبريائه أو بجلاله أو ببقائه أو بكلامه انعقدت يمينه لأن هذه الصفات للذات لم يزل موصوفاً بها ولا يجوز وصفه بضدها فصار كاليمين بأسمائه وإن قال وعلم الله ولم ينوبه المعلوم أو بقدرة الله ولم ينوبه المقدور انعقدت يمينه لأن العلم والقدرة من صفات الذات لم يزل موصوفاً بهما ولا يجوز وصفه بضدهما فصارا كالصفات الستة فإن نوى بالعلم المعلوم أو بالقدرة المقدور لم ينعقد يمينه لأنه قد يستعمل العلم في المعلوم

(3/96)


والقدرة في المقدور ألا ترى أنك تقول اغفر لنا علمك فينا وتريد المعلوم وتقول انظروا إلى قدرة الله وتريد به المقدور فانصرف إليه بالنية فإن قال وحق الله وأراد به العبادات لم ينعقد يمينه لأنه يمين بمحدث وإن لم ينو العبادات انعقدت يمينه لأن الحق يستعمل فيما يستحق من العبادات ويستعمل فيما يستحقه الباري من الصفات وذلك من صفات الذات وقد انضم إليه العرف في الحلف به فانعقدت به اليمين من غير نية.
فصل: وإن قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته فإن أراد به ما أخذ علينا من العهد في العبادات فليس بيمين لأنه يمين بمحدث وإن أراد بالعهد استحقاقه ما تعبدنا به فهو يمين لأنه صفة قديمة وإن لم يكن له نية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين لأن العادة الحلف بها والتغليظ بصفاته كالطالب الغالب وترك المهلك والثاني: ليس بيمين لأنه يحتمل العبادات ويحتمل ما ذكرناه من استحقاقه ولم يقترن بذلك عرف عام وإنما يحلف به بعض الناس وأكثرهم لا يعرفونه فلم يجعل يمينا.
فصل: وإن قال بالله لأفعلن كذا بالباء المعجمة من تحت فإن أراد بالله إني أستعين بالله أو أثق بالله في الفعل الذي أشار إليه لم يكن يميناً لأن ما نواه ليس بيمين واللفظ يحتمله فلم يجعل يمينا وإن لم يكن له نية كان يميناً لأن الباء من حروف القسم فحمل إطلاق اللفظ عليه وإن قال تالله لأفعلن كذا بالتاء المعجمة من فوق فالمنصوص في الأيمان والإيلاء أنه يمين وروى المزني في القسامة أنه ليس بيمين واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال المذهب ما نص عليه في الأيمان والإيلاء لأن التاء من حروف القسم والدليل عليه قوله عز وجل: {وَتَالله لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] وقوله تعالى: {لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] فصار كما لو قال والله وبالله وما رواه المزني صحف فيه والذي قال المزني في القسامة بالباء المجمعة من تحت وتعليله يدل عليه فإنه قال لأنه دعاء وتالله ليس بدعاء ومن أصحابنا من قال إن كان في الأيمان والإيلاء فهو يمين لأنه يلزمه حق وإن كان في القسامة لم يكن يميناً لأنه يستحق به المال فلم يجعل يمينا وإن قال الله لأفعلن كذا فإن أراد به اليمين فهو يمين لأنه قد تحذف حروف القسم ولهذا روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل أبا جهل فقال: "آلله إنك قتلته". قال الله إني قتلته وإن لم يكن له نية لم

(3/97)


يكن يميناً لأنه لم يأت بلفظ القسم وإن قال لاها الله ونوى به اليمين فهويمين لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في سلب قتيل قتله أبو قتادة لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق". وإن لم ينو اليمين لم يكن يميناً لأنه غير متعارف في اليمين فلم يجعل يميناً من غير نية وإن قال وأيم الله ونوى به اليمين فهو يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسامة بن زيد: "وأيم الله إنه لخليق بالإمارة". فإن لم يكن له فيه لم يكن يميناً لأنه لم يقترن به عرف ولا نية.
فصل: وإن قال لعمر الله ونوى به اليمين فهو يمين لأنه قد قيل معناه بقاء الله وقيل حق الله وقيل علم الله والجميع من الصفات التي تنعقد بها اليمين فإن لم يكن له نية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين لأن الشرع ورد به في اليمين وهو قول الله عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} والثاني: أنه ليس بيمين وهو ظاهر النص لأنه غير متعارف في اليمين.

(3/98)


فصل: وإن قال أقسمت بالله أو أقسم بالله لأفعلن كذا ولم ينو شيئاً فهو يمين لأنه ثبت له عرف الشرع وعرف العادة فالشرع قوله عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بِالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] وقوله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 53] وعرف العادة أن الناس يحلفون بها كثيرا وإن قال أردت بقولي أقسمت بالله الخبر عن يمين متقدمة وبقولي أقسم بالله الخبر عن يمين مستأنفة قبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى لأن ما يدعيه يحتمله اللفظ فأما في الحكم فالمنصوص في الأيمان أنه يقبل وقال في الإيلاء إذا قال لزوجته أقسمت بالله لا وطئتك وقال أردت به في زمان متقدم أنه لا يقبل فمن أصحابنا من قال لا يقبل قولا واحدا وما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وعرف العادة وقوله في الأيمان أنه يقبل إرادته فيما بينه وبين الله عز وجل ومنهم من قال لا يقبل في الإيلاء ويقبل في غيره من الأيمان لأن الإيلاء يتعلق به حق المرأة فلم يقبل منه خلاف الظاهر والحق في سائر الأيمان لله عز وجل فقبل قوله ومنهم من نقل جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: يقبل لأن ما يدعيه يحتمله اللفظ والثاني: لا يقبل لأن ما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وعرف العادة فإن قال شهدت بالله أو أشهد بالله لأفعلن كذا فإن نوى به اليمين فهو يمين لأنه قد يراد بالشهادة اليمين وإن نوى بالشهادة بالله الأيمان بها فليس بيمين لأنه قد يراد به ذلك وإن لم يكن له نية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين لأنه ورد به القرآن والمراد به اليمين وهو قوله عز وجل: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] والثاني: أنه ليس بيمين لأنه ليس في اليمين بها عرف من جهة العادة وأما في الشرع فقد ورد والمراد به اليمين وورد والمراد به الشهادة فلم يجعل يميناً من غير نية وإن قال أعزم بالله لأفعلن كذا فإن أراد به اليمين فهو يمين لأنه يحتمل أن أقول أعزم ثم يبتدئ اليمين بقوله بالله لأفعلن كذا وإن أراد إني أعزم بالله أي بمعونته وقدرته لم يكن يمينا وإن لم ينو شيئاً لم يكن يميناً لأنه يحتمل اليمين ويحتمل العزم على الفعل بمعونة الله فلم يجعل يمينا من غير نية ولا عرف وإن قال أقسم أو اشهد أو اعزم ولم يذكر اسم الله تعالى لم يكن يميناً نوى به اليمين أولم ينو لأن اليمين لا ينعقد إلا باسم معظم أوصفة معظمة ليتحقق المحلوف عليه وذلك لم يوجد.
فصل: وإن قال أسألك بالله أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا فإن أراد به الشفاعة بالله عز وجل في الفعل لم يكن يمينا وإن أراد أن يحلف عليه ليفعلن ذلك صار حالفا

(3/99)


لأنه يحتمل اليمين وهو أن يبتدئ بقوله بالله لتفعلن كذا وإن أراد أن يعقد للمسؤول بذلك يميناً لم ينعقد لواحد منهما لأن السائل صرف اليمين عن نفسه والمسؤول لم يحلف.
فصل: إذا قال والله لأفعلن كذا إن شاء زيد أن أفعله فقال زيد قد شئت أن يفعله انعقدت يمينه لأنه علق عقد اليمين على مشيئته وقد وجدت ثم يقف البر والحنث على فعل الشيء وتركه وإن قال زيد لست أشاء أن يفعله لم تنعقد اليمين لأنه لم يوجد شرط عقدها وإن فقدت مشيئته بالجنون أو الغيبة أو الموت لم ينعقد اليمين لأنه لم يتحقق شرط الانعقاد ولا ينعقد اليمين به. والله أعلم.

(3/100)


باب جامع الايمان
إذا حلف لا يسكن دارا وهو فيها فخرج في الحال بنية التحويل وترك رحله فيها لم يحنث لأن اليمين على سكناه وقد ترك السكنى فلم يحنث بترك الرحل كما لو حلف لا يسكن في بلد فخرج وترك رحله فيه وإن تردد إلى الدار لنقل الرحل لم يحنث لأن ذلك ليس بسكنى وإن حلف لا يسكنها وهو فيها أولا يلبس هذا الثوب وهو لابسه أولا يركب هذه الدابة وهو راكبها فاستدام حنث لأن الاسم يطلق على حال الاستدامة ولهذا تقول سكنت الدار شهرا ولبست الثوب شهرا وركبت الدابة شهرا وإن حلف لا يتزوج وهو متزوج أولا يتطهر وهو متطهر أولا يتطيب وهو متطيب فاستدام لم يحنث لأنه لا يطلق الاسم عليه في حال الاستدامة ولهذا تقول تزوجت من شهر وتطهرت من شهر وتطيبت من شهر ولا تقول تزوجت شهرا وتطهرت شهرا وتطيبت شهرا وإن حلف لا يدخل الدار وهو فيها فاستدام ففيه قولان: قال في الأم: يحنث لأن استدامة الدخول كالإبتداء في التحريم في ملك الغير فكذلك في الحنث في اليمين كاللبس والركوب وقال في حرملة: لا يحنث وهو الصحيح لأن الدخول لا يستعمل في الاستدامة ولهذا نقول دخلت الدار من شهر ولا تقول دخلتها شهراً فلم يحنث بالاستدامة كما لو حلف لا يتطهر أولا يتزوج فاستدام فإن حلف لا يسافر وهو في السفر فأخذ في العود لم يحنث لأنه أخذ في ترك السفر وإن استدام السفر حنث لأنه مسافر.

(3/100)


فصل: وإن حلف لا يساكن فلانا وهما في مسكن واحد ففارق أحدهما: الآخر في الحال وبقي الآخر لم يحنث لأنه زالت المساكنة وإن سكن كل واحد منهما في بيت من خان أو دار كبيرة وانفرد كل واحد منهما بباب وغلق لم يحنث لأنه ما ساكنه فإن حلف لا يدخل داراً فأدخل إحدى الرجلين أو ادخل رأسه إليها لم يحنث وإن حلف لا يخرج من دار فأخرج إحدى الرجلين أو أخرج رأسه منها لم يحنث لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفا وكان يدخل رأسه إلى عائشة لترجله ولأن كمال الدخول والخروج لا يحصل بذلك.
فصل: وإن حلف لا يدخل داراً فحصل في سطحها وهو غير محجر لم يحنث وقال أبو ثور: يحنث لأن السطح من الدار وهذا خطأ لأنه حاجز بين داخل الدار وخارجها فلم يصر بحصوله فيه داخلاً فيها كما لو حصل على حائط الدار وإن كان محجراً ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه يحيط به سور الدار والثاني: لا يحنث وهو ظاهر النص لأنه لم يحصل في داخل الدار وإن كان في الدار نهر فطرح نفسه في الماء حتى حمله إلى داخل الدار حنث لأنه دخل الدار وإن كان في الدار شجرة منتشرة الأغصان فتعلق بغصن منها ونزل فيها حتى أحاط به حائط الدار حنث وإن نزل فيه حتى حاذى السطح فإن كان غير محجر لم يحنث وإن كان محجرا فعلى الوجهين.
فصل: وإن حلف لا يدخل دار زيد هذه فباعها ثم دخلها حنث لأن اليمين على وجه عين مضافة إلى مالك فلم يسقط الحنث فيه بزوال الملك كما لو حلف لا يكلم زوجة فلان هذه فطلقها ثم كلمها وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل داراً لزيد وعمرو ولم يحنث لأن اليمين معقودة على دار جميعها لزيد وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل داراً يسكنها زيد بإعارة أو إجارة أو غصب فإن أراد مسكنه حنث لأنه يحتمل ما نوى وإن لم يكن له نية لم يحنث وقال أبو ثور: يحنث لأن الدار تضاف إلى الساكن والدليل عليه قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فأضاف بيوت أزواجهن إليهن بالسكنى وهذا خطأ لأن حقيقة الإضافة تقتضي ملك العين ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد جعل ذلك إقرارا له بملكها.
فصل: وإن حلف لا يدخل هذه الدار فانهدمت وصارت ساحة أو جعلت حانوتاً أو بستاناً فدخلها لم يحنث لأنه زال عنها اسم الدار وإن أعيدت بغير تلك الآلة لم يحنث

(3/101)


بدخولها لأنها غير تلك الدار وإن أعيدت بتلك الآلة ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأنها غير تلك الدار والثاني: أنه يحنث لأنها عادت كما كانت.
فصل: وإن حلف لا يدخل هذه الدار من هذا الباب فقلع الباب ونصبه في مكان آخر وبقي الممر الذي كان عليه الباب فدخلها من الممر حنث وإن دخلها من الموضع الذي نصب فيه الباب لم يحنث ومن أصحابنا من قال إن دخل من الممر الذي كان فيه الباب لم يحنث لأنه لم يدخل من ذلك الباب لأن الباب نقل وهذا خطأ لأن الباب هو الممر الذي يدخل ويخرج منه دون المصراع المنصوب والممر الأول باق فتعلق به الحنث وإن حلف لا يدخل هذه الدار من بابها أولاً يدخل من باب هذه الدار فسد الباب وجعل الباب في مكان آخر فدخلها منه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحنث وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة وهو المنصوص في الأم لأن اليمين انعقدت على باب موجود مضاف إلى الدار وذلك هو الباب الأول فلا يحنث بالثاني كما لو حلف لا يدخل دار زيد فباع زيد داره ثم دخلها والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يحنث وهو الأظهر لأن اليمين معقودة على بابها وبابها الآن هو الثاني فتعلق الحنث به كما لو حلف لا يدخل دار زيد فباع زيد داره واشترى أخرى فإن الحنث يتعلق بالدار الثانية دون الأولى.
فصل: وإن حلف لا يدخل بيتاً فدخل مسجداً أو بيتاً في الحمام لم يحنث لأن المسجد وبيت الحمام لا يدخلان إطلاق اسم البيت ولأن البيت اسم لما جعل للإيواء والسكنى والمسجد وبيت الحمام لم يجعل لذلك فإن دخل بيتاً من شعر أو أدم نظرت فإن كان الحالف ممن يسكن بيوت الشعر والأدم حنث وإن كان ممن لا يسكنها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج أنه لا يحنث لأن اليمين تحمل على العرف ولهذا لو حلف لا يأكل الرؤوس حل على ما يتعارف أكله منفردا وبيت الشعر والأدم غير متعارف للقروي فلم يحنث به والثاني: وهو قول أبي إسحاق وغيره أنه يحنث لأنه بيت جعل للإيواء والسكنى فأشبه بيوت المدر وقولهم إنه غير متعارف في حق أهل القرى يبطل بالبيت من المدر فإنه غير متعارف في حق أهل البادية ثم يحنث به وخبز الأرز غير متعارف في حق غير الطبري ثم يحنث بأكله إذا حلف لا يأخذ الخبز.

(3/102)


فصل: وإن حلف لا يأكل هذه الحنطة فجعلها دقيقاً أولا يأكل هذا الدقيق فجعله عجينا أولا يأكل هذا العجين فجعله خبزاً لم يحنث بأكله وقال أبو العباس: يحنث لأن اليمين تعلقت بعينه فتعلق الحنث بها وإن زال الاسم كما لو حلف لا يأكل هذا الحمل فذبحه وأكله والمذهب الأول لأنه علق اليمين على العين والاسم ثم لا يحنث بغير العين فكذلك لا يحنث بغير الاسم ويخالف الحمل لأنه لا يمكن أكله حيا والحنطة يمكن أكلها حباً أو لأن الحمل ممنوع من أكله في حال الحياة من غير يمين فلم يدخل في اليمين والحنطة غير ممنوع من أكلها فتعلق بها اليمين وإن حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله وهو تمر أولا يأكل هذا الحمل فأكله وهو كبش أولا يكلم هذا الصبي فكلمه وهو شيخ ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه لا يحنث كما لا يحنث في الحنطة إذا صارت دقيقاً فأكله والثاني: أنه يحنث لأن الانتقال حدث فيه من غير صنعة وفي الحنطة الانتقال حدث فيها بصنعة وهذا لا يصح لأنه يبطل به إذا حلف لا يأكل هذا البيض فصار فرخا أولا يأكل هذا الحب فصار زرعاً فإنه لا يحنث وإن كان الانتقال حدث فيه من غير صنعة وإن حلف لا يشرب هذا العصير فصار خمراً أولا يشرب هذا الخمر فصار خلاً فشربه لم يحنث كما قلنا في الحنطة إذا صارت دقيقا وإن حلف لا يلبس هذا الغزل فنسج منه ثوباً حنث بلبسه لأن الغزل لا يلبس إلا منسوجاً فصار كما لو حلف لا يأكل هذا الحيوان فذبحه وأكله.
فصل: وإن حلف لا يشرب هذا السويق فاستفه أولا يأكل هذا الخبز فدقه وشربه أو ابتلعه من غير مضغ لم يحنث لأن الأفعال أجناس مختلفة كالأعيان ثم لو حلف على جنس من الأعيان لم يحنث بجنس آخر فكذلك إذا حلف على جنس من الأفعال لم يحنث بجنس آخر وإن حلف لا يذوق هذا الطعام فذاقه ولفظه ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يوجد حقيقة الذوق ما لم يزدرده ولهذا لا يبطل به الصوم والثاني: أنه لا يحنث الذوق معرفة الطعم وذلك يحصل من غير ازدراد وإن حلف لا يذوقه فأكله أو شربه حنث لأنه قد ذاق وزاد عليه وإن حلف لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق فأوجر في حلقه حتى وصل إلى جوفه لم يحنث لأنه لم يأكل ولم يشرب ولم يذق وإن قال والله لا طعمت هذا الطعام فأوجر في حلقه حنث لأن معناه لا جعلته لي طعاماً وقد جعله طعاما له.

(3/103)


فصل: وإن حلف لا يأكل اللحم حنث بأكل لحم كل ما يؤكل لحمه من النعم والوحش والطير لأن اسم اللحم يطلق على الجميع ولا يحنث بأكل السوك لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم وهل يحنث بأكل لحم ما لا يؤكل لحمه ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه يطلق عليه اسم اللحم وإن لم يحل كما أطلق على اللحم المغصوب وإن لم يحل والثاني: لا يحنث لأن القصد باليمين أن يمنع نفسه مما يستبيحه ولحم ما لا يؤكل لحمه ممنوع من أكله من غير يمين فلم يدخل في اليمين وإن حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم لم يحنث وإن حلف لا يأكل الشحم فأكل اللحم لم يحنث لأنهما جنسان مختلفان في الاسم والصفة وإن حلف على اللحم فأكل سمين الظهر والجنب وما يعلو اللحم ويتخلله من البياض حنث لأنه لحم سمين وإن حلف على الشحم فأكل ذلك لم يحنث لأنه ليس بشحم وإن حلف على اللحم أو الشحم فأكل الكبد أو الطحال أو الرئة أو الكرش أو المخ لم يحنث لأنه مخالف للحم والشحم في الاسم والصفة وإن حلف على اللحم فأكل لحم الخد أو لحم الرأس أو اللسان ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه لحم والثاني: لا يحنث لأن اللحم لا يطلق إلا على لحم البدن واختلف أصحابنا في الألية فمنهم من قال: هو شحم يحنث به في اليمين على الشحم ولا يحنث به في اليمين على اللحم لأنه يشبه الشحم في بياضه ويذوب كما يذوب الشحم ومنهم من قال: هو لحم فيحنث به في اليمين على اللحم ولا يحنث به في اليمين على الشحم لأنه نابت في اللحم ويشبهه في الصلابة ومنهم من قال: ليس بلحم ولا شحم ولا يحنث به في اليمين على واحد منهما لأنه مخالف للجميع في الاسم والصفة فصار كالكبد والطحال وإن حلف على اللحم فأكل شحم العين لم يحنث لأنه مخالف للحم في الاسم والصفة وإن حلف على الشحم فأكله ففيه وجهان: أحدهما: يحنث به بدخوله في اسم الشحم والثاني: لا يحنث به لأنه لا يدخل في إطلاق اسمه كما لا يدخل لحم السمك في إطلاق اليمين على اللحم ولا التمر الهندي في إطلاق اليمين على التمر.
فصل: وإن حلف لا يأكل الرؤوس ولم يكن له نية حنث برؤوس الإبل والبقر والغنم لأنها تباع مفردة وتؤكل مفردة عن الأبدان ولا يحنث برؤوس الطير فإنها لا تباع مفردة ولا تؤكل مفردة فإن كان في بلد يباع فيه رؤوس الصيد ورؤوس السمك مفردة حنث بأكلها لأنها تباع مفردة فهي كرؤوس الإبل والبقر والغنم وهل يحنث بأكلها في سائر البلاد فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يطلق عليها اسم الرؤوس إلا في البلد الذي يباع فيه ويعتاد أكله والثاني: يحنث بها لأن ما ثبت له العرف في مكان وقع الحنث به في كل مكان كخبز الأرز.

(3/104)


فصل: وإن حلف لا يأكل البيض حنث بأكل كل بيض يزايل بائضه في الحياة كبيض الدجاجة والحمامة والنعامة لأنه يؤكل مفردا ويباع منفردا فيدخل في مطلق اليمين ولا يحنث بما لا يزايل بائضه كبيض السمك والجراد لأنه لا يباع منفردا ولا يؤكل منفرداً فلم يدخل في مطلق اليمين.
فصل: وإن حلف لا يأكل اللبن حنث بأكل لبن الأنعام ولبن الصيد لأن اسم اللبن يطلق على الجميع وإن كان فيه ما يقل أكله لتقذره كما يحنث في اليمين على اللحم بأكل لحم الجميع وإن كان فيه ما يقل أكله لتقذره ويحنث بالحليب والرائب وما جمد منه لأن الجميع لبن ولا يحنث بأكل الجبن واللوز واللبا والزبد والسمن والمصل والأقط وقال أبوعلي ابن هريرة إذا حلف على اللبن حنث بكل ما يتخذ منه لأنه من اللبن والمذهب الأول لأنه لا يطلق عليه اسم اللبن فلم يحنث به وإن كان منه كما لو حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر أولا يأكل السمسم فأكل الشيرج فإنه لا يحنث وإن كان التمر من الرطب والشيرج من السمسم.
فصل: وإن حلف لا يأكل السمن فأكله مع الخبز أو أكله في العصيدة وهو ظاهر فيها حنث وإن حلف لا يأكل اللبن فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه أو حلف لا يأكل الخل فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه حنث وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا أكله مع غيره لم يحنث لأنه لم يفرده بالأكل فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وعمرو والمذهب الأول لأنه فعل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث كما لو حلف لا يدخل على زيد فدخل على جماعة وهو فيهم.
فصل: وإن حلف لا يأكل أدماً فأكل اللحم حنث لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الإدام اللحم" 1. ولأنه يؤتدم به في العادة فحنث به كالخل والمري فإن أكل التمر ففيه
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب 27. بلفظ: "سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم".

(3/105)


وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يؤتدم به في العادة وإنم يؤكل قوتا أو حلاوة والثاني: أنه يحنث به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سائلا خبزا وتمرا وقال: "هذا أدم هذا".
فصل: وإن حلف لا يأكل الفاكهة فأكل الرطب أو العنب أو الرمان أو الإترنج أو التوت أو النبق حنث لأنها ثمار أشجار فحنث بها كالتفاح والسفرجل وإن أكل البطيخ أو الموز حنث لأنه يتفكه به كما يتفكه بثمار الأشجار وإن أكل الخيار أو القثاء لم يحنث لأنهما من الخضروات.
فصل: وإن حلف لا يأكل بسرا ولا رطباً فأكل منصفاً حنث في اليمين لأنه أكل البسر والرطب وإن حلف لا يأكل بسرة ولا رطبة فأكل منصفاً لم يحنث لأنه لم يأكل بسرة ولا رطبة.
فصل: وإن حلف لا يأكل قوتاً فأكل التمر أو الزبيب أو اللحم وهو ممن يقتات ذلك حنث وهل يحنث به غيره على ما ذكرناه من الوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد.
فصل: وإن حلف لا يأكل طعاماً حنث بأكل كل ما يطعم من قوت وأدم وفاكهة وحلاوة لأن اسم الطعام يقع على الجميع والدليل عليه قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] وهل يحنث بأكل الدواء ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام والثاني: يحنث لأنه يطعم في حال الاختيار ولهذا يحرم فيه الربا.

(3/106)


فصل: وإن حلف لا يشرب الماء فشرب ماء البحر احتمل عندي وجهين: أحدهما: يحنث لأنه يدخل في اسم الماء المطلق ولهذا تجوز به الطهارة والثاني: لا يحنث لأنه لا يشرب وإن حلف لا يشرب ماء فراتاً فشرب ماء دجلة أو غيره من المياه العذبة حنث لأن الفرات هو الماء العذب والدليل عليه قوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} [المرسلات: 27] وأراد به العذب وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من ماء دجلة لم يحنث لأن الفرات إذا عرف بالألف واللام فهو النهر الذي بين العراق والشام.
فصل: وإن حلف لا يشم الريحان فشم الضميران وهو الريحان الفارسي حنث وإن شم ما سواه كالورد والبنفسج والياسمين والزعفران لم يحنث لأنه لا يطلق اسم الريحان إلا على الضميران وما سواه لا يسمى إلا بأسمائها وإن حلف لا يشم المشموم حنث بالجميع لأن الجميع مشموم وإن شم الكافور أو المسك أو العود أو الصندل لم يحنث لأنه لا يطلب عليه اسم المشموم وإن حلف لا يشم الورد والبنفسج فشم دهنهما لم يحنث لأنه لم يشم الورد والبنفسج وإن جف الورد والبنفسج فشمهما ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث كما لا يحنث إذا حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر والثاني: يحنث لبقاء اسم الورد والبنفسج.
فصل: وإن حلف لا يلبس شيئاً فلبس درعاً أو جوشناً أو خفاً أو فعلاً ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه ليس شيئا والثاني: لا يحنث لأن إطلاق اللبس لا ينصرف إلى غير الثياب.
فصل: وإن كان معه رداء فقال والله لا لبست هذا الثوب وهو رداء فأرتدي به أو تعمم به أو اتزر به حنث لأنه لبسه وهو رداء فإن جعله قميصاً أو سراويل ولبسه لم يحنث لأنه لم يلبسه وهو رداء فإن قال والله لا لبست هذا الثوب ولم يقل وهو رداء فأرتدي به أو تعمم به أو اتزر به أو جعله قميصاً أو سراويل حنث ومن أصحابنا من قال: لا يحنث لأنه حلف على لبسه وهو على صفة فلم يحنث بلبسه على غير تلك الصفة والصحيح هو الأول لأنه حلف على لبسه ثوباً فحمل على العموم كما لو قال: والله لا لبست ثوبا.
فصل: وإن حلف لا يلبس حلياً فلبس خاتماً من ذهب أو فضة أو مخنقة من لؤلؤ

(3/107)


أو غيره من الجواهر لأن الجميع حلي والدليل عليه قوله عز وجل: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] وإن لبس شيئاً من الخرز أو السبج فإن كان ممن عادته التحلي بها كأهل السواد حنث لأنهم يسمونه حليا وهل يحنث به غيرهم على ما ذكرناه من الوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد وإن تقلد سيفاً محلى لم يحنث لأن السيف ليس بحلى وإن لبس منطقة محلاة ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه من حلي الرجال والثاني: لا يحنث لأنه ليس من الآلات المحلاة فلم يحنث به كالسيف وإن حلف لا يلبس خاتماً فلبسها في غير الخنصر أو حلف لا يلبس قميصاً فارتدى به أولا يلبس قلنسوة فلبسها في رجله لم يحنث لأن اليمين يقتضي لبسا متعارفا وهذا غير متعارف.
فصل: وإن من عليه رجل فحلف لا يشرب له ماء من عطش فأكل له خبزاً أو لبس له ثوباً أو شرب له ماء من غير عطش لم يحنث لأن الحنث لا يقع إلا على ما عقد عليه اليمين والذي عقد عليه اليمين شرب الماء من عطش فلو حنثناه على ما سواه لحنثناه على ما نوى لا على ما حلف عليه وإن حلف لا يلبس له ثوباً فوهب له ثوباً فلبسه لم يحنث لأنه لم يلبس ثوبه.
فصل: وإن حلف لا يضرب امرأته فضربها ضرباً غير مؤلم حنث لأنه يقع عليه اسم الضرب وإن عضها أو خنقها أو نتف شعرها لم يحنث لأن ذلك ليس بضرب وإن لكمها أو لطمها أو رفسها ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه ضربها والثاني: لا يحنث لأن الضرب المتعارف ما كان يؤلم وإن حلف ليضرب عبده مائة سوط فشد مائة سوط فضربه بها ضربة واحدة فإن تيقن أنه أصابه لماءة بر في يمينه لأنه ضربه مائة سوط وإن تيقن أنه لم يصبه بالمائة لم يبر لأنه ضربه دون المائة وإن شك هل أصابه بالجميع أولم يصبه بالجميع فالمنصوص أنه يبر وقال المزني: لا يبر كما قال الشافعي رحمه الله فيمن حلف ليفعلن كذا في وقت إلا أن يشاء فلان فمات فلان حنث وإذا لم نجعله باراً للشك في المشيئة وجب أن لا نجعله باراً للشك في الإصابة والمذهب الأول لأن أيوب عليه السلام حلف ليضربن امرأته عددا فقال عز وجل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}

(3/108)


[ص: 44] ويخالف ما قاله الشافعي رحمه الله في المشيئة لأنه ليس الظاهر وجود المشيئة فإذا لم تكن مشيئة حنث بالمخالفة والظاهر إصابته بالجميع فبر وإن حلف ليضربنه مائة مرة فضربه بالمائة المشدودة لم يبر لأنه لم يضربه إلا مرة فإن حلف ليضربنه مائة ضربة فضربه بالمائة المشدودة دفعة واحدة فأصابه الجميع ففيه وجهان: أحدهما: لا يبر لأنه ما ضربه إلا ضربة ولهذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة إلى الجمرة لم يحتسب له سبعا والثاني: أنه يبر لأنه حصل بكل سوط ضربة ولهذا لو ضرب به في حد الزنا حسب بكل سوط جلدة.
فصل: وإن حلف لا يهب له فأعمره أو أرقبه أو تصدق عليه حنث لأن الهبة تمليك العين بغير عوض وإن كان لكل نوع منها اسم وإن وقف عليه وقلنا إن الملك ينتقل إليه حنث لأنه ملكه العين من غير عوض وإن باعه وحاباه لم يحنث لأنه ملكه بعوض وإن وصى به لم يحنث لأن التمليك بعد الموت والميت لا يحنث.
فصل: وإن حلف لا يتكلم فقرأ القرآن لم يحنث لأن الكلام لا يطلق في العرف إلا على كلام الآدمي وإن حلف لا يكلم فلاناً فسلم عليه حنث لأن السلام من كلام الآدميين ولهذا تبطل به الصلاة فإن كلمه وهو نائم أو ميت أوفي موضع لا يسمع كلامه لم يحنث لأنه لا يقال في العرف كلمه وإن كلمه في موضع يسمع إلا أنه لم يسمع لاشتغاله بغيره حنث لأنه كلمه ولهذا يقال كلمه فلم يسمع وإن كلمه وهو أصم فلم يسمع الصمم ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه كلمه وإن لم يسمع فحنث كما لو كلمه فلم يسمع لاشتغاله بغيره والثاني: لا يحنث وهو الصحيح لأنه كلمه وهولا يسمع فأشبه إذا كلمه وهو غائب وإن كاتبه أو راسله ففيه قولان: قال في القديم يحنث وقال في الجديد لا يحنث وأضاف إليه أصحابنا إذا أشار إليه فجعلوا الجميع على قولين: أحدهما: يحنث والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً} [الشورى: 51] فاستثنى الوحي وهو الرسالة من الكلام فدل على أنها منه وقوله عز وجل: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران: 41] فاستثنى الرمز وهو الإشارة من الكلام فدل على أنها منه ولأنه وضع لإفهام الآدميين فأشبه الكلام والقول الثاني أنه لا يحنث لقوله عز وجل: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ

(3/109)


صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 26] ثم قال: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم: 28 - 29] فلو كانت الإشارة كلاما لم تفعله وقد نذرت أن لا تكلم ولأن حقيقة الكلام ما كان باللسان ولهذا يصح نفيه عما سواه بأن تقول ما كلمته وإنما كاتبته أو راسلته أو أشرت إليه ويحرم على المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام لقوله عليه السلام: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام والسابق أسبقهما إلى الجنة" 1. وإن كاتبه أو راسله ففيه وجهان: أحدهما: لا يخرج من مأثم الهجران لأن الهجران ترك الكلام فلا يزول إلا بالكلام والثاني: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه يخرج من مأثم الهجران لأن القصد بالكلام إزالة ما بينهما من الوحشة وذلك يزول بالمكاتبة والمراسلة.
فصل: وإن حلف لا يسلم على فلان فسلم على قوم هو فيهم ونوى السلام على جميعهم حنث لأنه سلم عليه وإن استثناه بقلبه لم يحنث لأن اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه يحتمل التخصيص فجاز تخصيصه بالنية وإن أطلق السلام من غير نية ففيه قولان: أحدهما: أنه يحنث لأن سلم عليهم فدخل كل واحد منهم فيه والثاني: أنه لا يحنث لأن اليمين يحمل على المتعارف ولا يقال في العرف لمن سلم على الجماعة وفيهم فلان إنه كلم فلانا وسلم على فلان وإن حلف لا يدخل على فلان في بيت فدخل على جماعة في بيت هو فيهم ولم يستثنه بقلبه حنث بدخوله عليهم وإن استثنى بقلبه عليهم ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحنث كما لو حلف لا يسلم عليه فسلم عليهم واستثناه بقلبه والثاني: أنه يحنث لأن الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالاستثناء والسلام قول فجاز تخصيصه بالاستثناء ولهذا لو قال سلام عليكم إلا على فلان صح وإن قال دخلت عليكم إلا على فلان لم يصح.
فصل: وإن حلف لا يصوم أولا يصلي فدخل فيهما حنث لأنه بالدخول فيهما يسمى صائما ومصليا وإن حلف لا يبيع أولا يتزوج أولا يهب لم يحنث إلا بالإيجاب والقبول ومن أصحابنا من قال: يحنث في الهبة بالإيجاب من غير قبول لأنه يقال وهب له ولم يقبل والصحيح هو الأول لأن الهبة عقد تمليك فلم يحنث فيه من غير إيجاب
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 57، 57. مسلم في كتاب البر حديث 23، 25. الترمذي في كتاب البر باب 21، 24. أحمد في مسنده 1/176، 183.

(3/110)


وقبول كالبيع والنكاح ولا يحنث إلا بالصحيح فأما إذا باع بيعاً فاسداً أو وهب هبة فاسدة لم يحنث لأن هذه العقود لا تطلق في العرف والشرع إلا على الصحيح.
فصل: وإن قال والله لا تسريت ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن يحنث بوطء الجارية لأنه قد قيل إن التسري مشتق من السراة وهو الظهر فيصير كأنه حلف لا يتخذها ظهراً والجارية لا يتخذها ظهرا إلا بالوطء وقد قيل إنه مشتق من السر وهو الوطء فصار كما لو حلف لا يطؤها والثاني: أنه لا يحنث إلا بالتحصين عن العيون والوطء لأنه مشتق من السر فكأنه حلف لا يتخذها أسرى الجواري وهذا لا يحصل إلا بالتحصين والوطء والثالث أنه لا يحنث إلا بالتحصين والوطء والإنزال لأن التسري في العرف اتخاذ الجارية لابتغاء الولد ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه.
فصل: وإن حلف أنه لا مال له وله دين حال حنث لأن الدين الحال مال بدليل أنه تجب فيه الزكاة ويملك أخذه إذا شاء فهو كالعين في يد المودع وإن كان له دين مؤجل ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يستحق قبضه في الحال والثاني: أن يحنث لأنه يملك الحوالة به والإبراء عنه وإن كان له مال مغصوب حنث لأنه على ملكه وتصرفه وإن كان له مال ضال ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأن الأصل بقاؤه والثاني: لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه فلا يحنث بالشك.
فصل: وإن حلف أنه لا يملك عبدا وله مكاتب فالمنصوص أنه لا يحنث وقال في الأم: ولو ذهب ذاهب إلى أنه عبد ما بقي عليه درهم إنما يعني أنه عبد في حال دون حال لأنه لو كان عبداً له لكان مسلطا على بيعه وأخذ كسبه فمن أصحابنا من جعل ذلك قولاً آخر وقال أبوعلي الطبري رحمه الله إنه لا يحنث قولاً واحدا وإنما ألزم الشافعي رحمه الله نفسه شيئا وانفصل عنه فلا يجعل ذلك قولاً له.
فصل: وإن حلف لا يرفع منكراً إلى فلان القاضي أو إلى هذا القاضي ولم ينو أنه لا يرفعه إليه وهو قاض فرفعه إليه بعد العزل ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحنث لأنه شرط أن يكون قاضياً فلم يحنث بعد العزل كما لو حلف لا يأكل هذه الحنطة فأكلها بعد ما صارت دقيقا والثاني: أنه يحنث لأنه علق اليمين على عينه فكان ذكر القضاء تعريفاً لا

(3/111)


شرطاً كما لو حلف لا يدخل دار زيد هذه فدخلها بعد ما باعها زيد وإن حلف لا يرفع منكراً إلى قاض حنث بالرفع إلى كل قاض لعموم اللفظ وإن حلف لا يرفع منكراً إلى القاضي لم يحنث إلا بالرفع إلى قاضي البلد لأن التعريف بالألف واللام يرجع إليه فإن كان في البلد قاض عند اليمين فعزل وولي غيره فرفع إليه حنث.
فصل: وإن حلف لا يكلم فلاناً حيناً أو دهراً أو حقباً أو زماناً بر بأدنى زمان لأنه اسم للوقت ويقع على القليل والكثير وإن حلف لا يكلمه مدة قريبة أو مدة بعيدة بر بأدنى مدة لأنه ما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها بالإضافة إلى ما هو أقرب منها.
فصل: وإن حلف لا يستخدم فلانا فخدمه وهو ساكت لم يحنث لأنه حلف على فعله وهو طلب الخدمة ولم يوجد ذلك منه وإن حلف لا يتزوج أولا يطلق فأمر غيره حتى تزوج له أو طلق عنه لم يحنث لأنه حلف على فعله نفسه ولم يفعل وإن حلف لا يبيع أولا يضرب فأمر غيره ففعل فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه لم يحنث لما ذكرناه وإن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه كالسلطان فالمنصوص أنه لا يحنث وقال الربيع: فيه قول آخر أنه يحنث ووجهه أن العرف في حقه أن يفعل ذلك عنه بأمره واليمين يحمل على العرف ولهذا لو حلف لا يأكل الرؤوس حملت على رؤوس الأنعام والصحيح هو الأول لأن اليمين على فعله والحقيقة لا تنتقل بعادة الحالف ولهذا لو حلف السلطان أنه لا يأكل الخبز أولا يلبس الثوب فأكل خبز الذرة ولبس عباءة حنث وإن لم يكن ذلك من عادته وإن حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه ففيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين كالبيع والضرب في حق من يتولاه بنفسه والثاني: أنه يحنث قولاً واحداً لأن العرف في الحلق في حق كل أحد أن يفعله غيره بأمره ثم يضاف الفعل إلى المحلوق.
فصل: وإن حلف لا يدخل دارين فدخل أحدهما: أولا يأكل رغيفين فأكل أحدهما: أولا يأكل رغيفا فأكله إلا لقمة أولا يأكل رمانة فأكلها إلا حبة أولا يشرب ماء حب فشربه إلا جرعة لم يحنث لأنه لم يفعل المحلوف عليه وإن حلف لا يشرب ماء هذا النهر أو ماء هذه البئر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنه يحنث بشرب بعضه لأنه يستحيل شرب جميعه فانعقدت اليمين على ما لا يستحيل وهو شرب البعض والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحنث بشرب بعضه لأنه حلف على شرب جميعه فلم يحنث بشرب بعضه كما لو حلف على شرب ماء في الحب.

(3/112)


فصل: وإن حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وعمر ولم يحنث لأن ليس فيه شيء يمكن أن يشار إليه إن اشتراه زيد دون عمر فلم يحنث وإن اشترى كل واحد منهما طعاماً ثم خلطاه فأكل منه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يحنث لأن ليس فيه شيء يمكن أن يقال هذا الطعام اشتراه زيد دون عمرو فلم يحنث كما لو اشترياه في صفقة واحدة والثاني: أنه إن أكل النصف فما دونه لم يحنث وإن أكل أكثر من النصف حنث لأن النصف فما دونه يمكن أن يكون مما اشتراه عمرو فلم يحنث بالشك وفيما زاد يتحقق أنه أكل مما اشتراه زيد والثالث: وهو قول أبي إسحاق أنه أكل الحبة والعشرين حبة لم يحنث لجواز أن يكون مما اشتراه عمرو وإن أكل الكف والكفين حنث لأنه يستحيل فيما يختلط أن يتميز في الكف والكفين ما اشتراه زيد عما اشتراه عمرو.
فصل: وإن حلف لا يدخل دار زيد فحمله غيره باختياره فدخل به حنث لأن الدخول ينسب إليه كما ينسب إذا دخلها راكباً على البهيمة أو دخلها برجله فإن دخلها ناسياً لليمين أو جاهلاً بالدار أو أكره حتى دخلها ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه فعل ما حلف عليه فحنث والثاني: لا يحنث وهو الصحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن حال النسيان والجهل والإكراه لا يدخل في اليمين كما لا يدخل في الأمر والنهي في خطاب الله عز وجل وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا لم يدخل في اليمين لم يحنث به وإن حمله غيره مكرهاً حتى دخل به ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كما لو أكره حتى دخلها بنفسه لأنه لما كان في حال الاختيار دخوله بنفسه ودخوله محمولاً واحداً لوجب أن يكون في حال الإكراه دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا ومنهم من قال: لا يحنث قولاً واحداً لأن الفعل إنما ينسب إليه إما بفعله حقيقة أو بفعل غيره بأمره مجازا وههنا لم يوجد واحد منهما فلم يحنث.
فصل: وإن حلف ليأكلن هذا الرغيف غداً فأكله من الغد بر في يمينه لأنه فعل ما حلف على فعله وإن ترك أكله في الغد حتى انقضى حنث لأنه فوت المحلوف عليه باختياره وإن أكل نصفه في الغد حنث لأنه قدر على أكل الجميع ولم يفعل وإن أكله في يومه حنث لأنه فوت المحلوف عليه باختياره فحنث كما لوترك أكله حتى انقضى الغد وإن تلف الرغيف في يومه أوفي الغد قبل أن يتمكن من أكله ففيه قولان كالمكره،

(3/113)


وإن تلف من الغد بعدما تمكن من أكله ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يحنث قولا واحدا لأنه فوته باختياره ومنهم من قال فيه قولان لأن جميع الغد وقت للأكل فلم يكن تفويته بفعله فإن حلف ليقضينه حقه عند رأس الشهر مع رأس الشهر فقضاه قبل رؤية الهلال حنث لأنه فوت القضاء باختياره وإن رأى الهلال ومضى زمان أمكنه فيه القضاء فلم يقضه حنث لأنه فوت القضاء باختياره وإن أخذ عند رؤية الهلال في كيله وتأخر الفراغ منه لكثرته لم يحنث لأنه لم يترك القضاء وإن أخر عن أول ليلة الشك ثم بان أنه كان من الشهر ففيه قولان كالناسي والجاهل وإن قال والله لأقضين حقه إلى شهر رمضان فلم يقضه حتى دخل الشهر حنث لأنه ترك ما حلف على فعله من غير ضرر وإن قال والله لأفين حقه إلى أول الشهر فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم قال حكمها حكم ما لو قال والله لأقضين حقه عند رأس الشهر وهو ظاهر النص وإن قضاه قبل رؤية الهلال حنث وإن رأى الهلال ومضى وقت يمكن فيه القضاء ثم قضاه حنث لأن إلى فد تكون للغاية كقوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فلما احتمل أن تكون للغاية واحتمل أن تكون للمقارنة لم يجز أن نحنثه بالشك ويخالف قوله والله لأقضين حقه إلى رمضان لأنه لا يحتمل أن تكون للمقارنة لأنه لا يمكن أن يقارن القضاء في جميع شهر رمضان فجعلناه للغاية.
فصل: وإن كان له على رجل حق فقال له والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي ففر منه الغريم لم يحنث الحالف وقال أبوعلي ابن أبي هريرة فيه قولان كالقولين في المكره وهذا خطأ لأنه حلف على فعل نفسه ولم يوجد ذلك منه ولو قال والله لا فارقتني حتى أستوفي حقي منك ففارقه الغريم مختارا ذاكرا لليمين حنث الحالف وإن فارقه مكرهاً أو ناسياً ففيه طريقان من أصحابنا من قال هي على القولين في المكره والناسي ومنهم من قال يحنث الحالف قولاً واحداً لأن الاختيار والقصد يعتبر في فعل الحالف لا في فعل غيره والصحيح هو الأول وأن يعتبر في فعل من حلف على فعله وإن كانت اليمين على فعل الحالف اعتبر الاختيار والقصد في فعله وإن كانت على فعل غيره اعتبر الاختيار والقصد في فعله وإن فارقه الحالف لم يحنث لأن اليمين على فعل الغريم ولم يوجد منه فعل وإن حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه ثم أفلس وفارقه لما يعلم من وجوب إنظار المعسر حنث لأنه فعل المحلوف عليه مختاراً ذاكراً لليمين فحنث،

(3/114)


وإن وجب الفعل بالشرع كما لو حلف لأرددت عليك المغصوب فرده حنث وإن وجب الرد بالشرع فإن ألزمه الحاكم مفارقته فعلى قولين.
فصل: وإن حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه منه فأحاله على غيره أو أبرأه من الدين أو دفع إليه عوضاً عن حقه حنث في اليمين لأنه لم يستوف حقه وإن كان حقه دنانير فدفع إليه شيئاً على أنه دنانير فخرج نحاساً فعلى القولين في الجاهل وإن قال من عليه الحق والله لا فارقتك حتى أدفع إليك مالك وكان الحق عيناً فوهبها منه فقبلت حنث لأنه فوت الدفع بقبوله وإن كان دينا فأبرأه منه وقلنا إنه لا يحتاج الإبراء إلى القبول على الصحيح من المذهب فعلى الطريقين فيمن حلف لا يدخل الدار فحمل إليه مكرهاً.

(3/115)


باب كفارة اليمين
إذا حلف بالله تعالى ثم حنث وجبت عليه الكفارة لما روى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك من أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك". وإن حلف على فعل مرتين بأن قال والله لا دخلت الدار والله لا دخلت الدار نظرت فإن نوى بالثاني التأكيد لم يلزمه إلا كفارة واحدة وإن نوى الاستئناف ففيه قولان: أحدهما: يلزمه كفارتان لأنهما يمينان بالله عز وجل فتعلق بالحنث فيهما كفارتين كما لو كانت على فعلين والثاني: تجب كفارة واحدة وهو الصحيح لأن الثانية لا تفيد إلا ما أفادت الأولى فلم يجب أكثر من كفارة كما لو قصد بها التأكيد وإن لم يكن له نية فإن قلنا إنه إذا نوى الاستئناف لزمه كفارة واحدة فههنا أولى وإن قلنا هناك تجب كفارتان ففي هذا قولان بناء على القولين فيه من كرر لفظ الطلاق ولم ينو.
فصل: والكفارة إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة وهو مخير بين الثلاثة والدليل عليه قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] فإن لم يقدر على الثلاثة لزمه صيام ثلاثة أيام لقوله عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] فإن كان يكفر بالمال فالمستحب أن لا يكفر قبل الحنث ليخرج من الخلاف فإن أبا حنيفة لا يجيز تقديم الكفارة على الحنث،

(3/115)


وإن أراد أن يكفر بالمال قبل الحنث نظرت فإن كان الحنث بغير معصية جاز تقديم الكفارة لأنه حق مال يتعلق بسببين يختصانه فإذا وجد أحدهما: جاز تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول وإن كان الحنث بمعصية والثاني: يجوز لما ذكرناه والثاني: لا يجوز لأنه يتوصل به إلى معصية واختلف أصحابنا في كفارة الظهار قبل العود وكفارة القتل بعد الجرح وقبل الموت فمنهم من قال فيه وجهان كما قلنا في اليمين على معصية ومنهم من قال يجوز لأنه ليس فيه توصل إلى معصية وإن كان يكفر بالصوم لم يجز قبل الحنث لأنها عبادة تتعلق بالبدن لا حاجة به إلى تقديمها فلم يجز تقديمها على الوجوب كصوم رمضان.
فصل: وإن أراد أن يكفر بالعتق لم يجز إلا بما يجوز في الظهار وقد بيناه وإن أراد أن يكفر بالإطعام أطعم كل مسكين مدا كما يطعم في الظهار وقد بيناه.
فصل: وإن أراد أن يكفر بالكسوة كسا كل مسكين ما يقع عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو رداء أم مقنعة أو خمار لأن الشرع ورد به مطلقا ولم يقدر فحمل على ما يسمى كسوة في العرف وهل يجزئ فيه القلنسوة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه لأنه لا يطلق عليه اسم الكسوة والثاني: أنه يجزئه وهو قول أبي إسحاق المروزي لما روي أن رجلاً سأل عمران بن الحصين عن قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] قال لو أن وفداً قدموا على أميركم هذا فكساهم قلنسوة قلنسوة قلتم قد كسوا ولا يجزئ الخف والنعل والمنطقة والتكة لأنه لا يقع عليه اسم الكسوة ويجزئ الكساء والطيلسان لأنه من الكسوات ويجوز ما اتخذ من القطن والكتان والشعر والصوف والخز وأما الحرير فإنه إن أعطاه للمرأة أجزأه وهل يجوز أن يعطي رجلاً ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئ لأنه يحرم عليه لبسه والثاني: يجزئه وهو الصحيح لأنه يجوز أن يعطي الرجال كسوة النساء والنساء كسوة الرجال ويجوز فيه الخام والمقصور والبياض والمصبوغ فأما الملبوس فإنه إن ذهبت قوته لم يجزه وإن لم تذهب قوته أجزأه كما تجزئه الرقبة إذا لم تبطل منفعتها ولا تجزئه إذا بطلت منفعتها.
فصل: وإن أراد أن يكفر بالصيام ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز إلا متتابعاً لأنه كفارة جعل الصوم فيها بدلاً عن العتق فشرط في صومها التتابع ككفارة الظهار والقتل والثاني: أنه يجوز متتابعا ومتفرقا لأنه صوم نزل به القرآن مطلقاً فجاز متفرقا ومتتابعا كالصوم في فدية الأذى.

(3/116)


فصل: وإن كان الحالف عبدا فكفارته الصوم وإن كان الصوم يضر به لشدة الحر وطول النهار نظرت فإن حلف بإذن المولى وحنث بإذنه جاز له أن يصوم من غير إذنه لأنه لزمه بإذنه وإن حلف بغير إذنه وحنث بغير إذنه لم يجز أن يصوم إلا بإذنه لأنه لزمه بغير إذنه وإن حلف بغير إذنه وحنث بإذنه جاز أن يصوم بغير إذنه لأنه لزمه بإذنه وإن حلف بإذنه وحنث بغير إذنه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يصوم بغير إذنه لأنه وجد أحد السببين بإذنه فصار كما لو حلف بغير إذنه وحنث بإذنه والثاني: لا يجوز أن يصوم إذا كان الصوم لا يضر به كالصوم في الشتاء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يصوم بغير إذنه لأنه لا ضرر عليه والثاني: أنه كصوم الذي يضرب به على ما ذكرناه لأنه ينقص من نشاطه في خدمته فإن صام في المواضع التي منعناه من الصوم فيها أجزأه لأنه من أهل الصيام وإنما منع منه لحق المولى فإذا فعل بغير إذنه صح كصلاة الجمعة فإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا وله مال لم يكفر بالعتق لأنه ليس من أهل الولاء ويلزمه أن يكفر بالطعام أو الكسوة ومن أصحابنا من قال فرضه الصوم وهو قول المزني لأنه ناقص بالرق وهو كالعبد والمذهب الأول لأنه يملك المال بنصف الحر ملكاً تاما فأشبه الحر.

(3/117)