المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب النفقات
باب نفقة الزوجة
إذا سلمت المرأة نفسها إلى زوجها وتمكن من الاستمتاع بها ونقلها إلى حيث يريد وهما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح وجبت نفقتها لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". وإن امتنعت من تسليم نفسها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أوفي منزل دون منزل أوفي بلد دون بلد لم تجب النفقة لأنه لم يوجد التمكين التام فلم تجب النفقة كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع أو سلم في موضع دون موضع فإن عرضت عليه وبذلت له التمكين التام والنقل حيث يريد وهو حاضر وجبت عليه النفقة لأنه وجد التمكين التام وإن عرضت عليه وهو غائب لم يجب حتى يقدم هو أو وكيله أو يمضي زمان لو أراد المسير لكان يقدر على أخذها لأنه لا يوجد التمكين التام إلا بذلك وإن تسلم إليه ولم تعرض عليه حتى مضى على ذلك زمان لم تجب النفقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق إلا من حين دخلت عليه ولم يلتزم نفقتها لما مضى ولأنه لم يوجد التمكين التام فيما مضى فلم يجب بدله كما لا يجب بدل ما تلف من البيع في يد البائع قبل التسليم.
فصل: وإن سلمت إلى الزوج أو عرضت عليه وهي صغيرة لا يجامع مثلها ففيه قولان: أحدهما: تجب النفقة لأنها سلمت من غير منع والثاني: لا يجب وهو الصحيح لأنه لم يوجد التمكين التام من الاستمتاع وإن كانت كبيرة والزوج صغير ففيه قولان: أحدهما: لا تجب لأنه لم يوجد التمكين من الاستمتاع والثاني: تجب وهو الصحيح لأن التمكين وجد من جهتها وإن تعذر الاستيفاء من جهته فوجبت النفقة كما لو سلمت إلى الزوج وهو كبير فهرب منها وإن سلمت وهي مريضة أو رتقاء أو نحيفة لا يمكن وطؤها أو الزوج مريض أو محجوب أو حسيم لا يقدر على الوطء وجبت النفقة لأنه وجد التمكين من الاستمتاع وما تعذر فهو بسبب لا تنسب فيه التفريط.
فصل: وإن سلمت إليه ومكن من الاستمتاع بها في نكاح فاسد لم تجب النفقة لأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح ولا يستحق ما في مقابلته.

(3/148)


فصل: وإن انتقلت المرأة من منزل الزوج إلى منزل آخر بغير إذنه أو سافرت بغير إذنه سقطت نفقتها حاضراً كان الزوج أو غائباً لأنها خرجت عن قبضته وطاعته فسقطت نفقته كالناشزة وإن سافرت بإذنه فإن كان معها وجبت النفقة لأنها ما خرجت عن قبضته ولا طاعته وإن لم يكن معها ففيه قولان ذكرناهما في القسم.
فصل: وإن أحرمت بالحج بغير إذنه سقطت نفقتها لأنه إن كان تطوعاً فقد منعت حق الزوج وهو واجب بما ليس واجب وإن كان واجباً فقد منعت حق الزوج وهو على الفور بما هو على التراخي وإن أحرمت بإذنه فإن خرجت معه لم تسقط نفقتها لأنها لم تخرج عن طاعته وقبضته وإن خرجت وحدها فعلى القولين في سفرها بإذنه.
فصل: وإن منعت نفسها باعتكاف تطوع أو نذر في الذمة سقطت نفقتها لما ذكرناه في الحج وإن كان نذر معين أذن فيه الزوج لم تسقط نفقتها لأن الزوج أذن فيه وأسقط حقه فلا يسقط حقها وإن كان عن نذر لم يأذن فيه فإن بعد عقد النكاح سقطت نفقتها لأنها منعت حق الزوج بعد وجوبه وإن كان بنذر قبل النكاح لم تسقط نفقتها لأن ما استحق قبل النكاح لا حق للزوج في زمانه كما لو أجرت نفسها ثم تزوجت وإن اعتكفت بإذنه وهو معها لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته وطاعته وإن لم يكن معها فعلى القولين في الحج.
فصل: وإن منعت نفسها بالصوم فإن كان بتطوع ففيه وجهان: أحدهما: لا تسقط نفقتها لأنها في قبضته والثاني: وهو الصحيح أنها تسقط لأنها منعت التمكين التام بما ليس بواجب فسقطت نفقتها كالناشزة وإن منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته لم تسقط نفقتها لأن ما استحق بالشرع لا حق للزوج في زمانه وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل أن يضيق وقته أو بصوم كفارة أو نذر في الذمة سقطت نفقتها لأنها منعت حقه وهو على الفور بما هو ليس على الفور وإن كان بنذر معين فإن كان النذر بإذن الزوج لم تسقط نفقتها لأنه لزمها برضاه وإن كان بغير إذنه فإن كان بنذر بعد النكاح سقطت نفقتها وإن كان بنذر قبل النكاح لم تسقط لما ذكرناه في الاعتكاف.
فصل: وإن منعت نفسها بالصلاة فإن كانت بالصلوات الخمس أو السنن الراتبة لم تسقط نفقتها لأن ما ترتب بالشرع لا حق للزوج في زمانه وإن كان بقضاء فوائت فإن قلنا إنها على الفور لم تسقط نفقتها وإن قلنا إنها على التراخي سقطت نفقتها لما قلنا في قضاء رمضان وإن كانت بالصلوات المنذورة فعلى ما ذكرناه في الاعتكاف والصوم.
فصل: وإن كان الزوجان كافرين وأسلمت المرأة بعد الدخول ولم يسلم الزوج لم

(3/149)


تسقط نفقتها لأنه تعذر الاستمتاع بمعنى من جهته هو قادر على إزالته فلم تسقط نفقتها كالمسلم إذا غاب عن زوجته وقال أبوعلي ابن خيران فيه قول آخر أنها تسقط لأنه امتنع الاستمتاع لمعنى من جهتها فسقطت نفقتها كما لو أحرمت المسلمة من غير إذن الزوج والصحيح هو الأول لأن الحج فرض موسع الوقت والإسلام فرض مضيق الوقت فلا تسقط النفقة كصوم رمضان وإن أسلم الزوج بعد الدخول وهي مجوسية أو وثنية وتخلفت في الشرك سقطت نفقتها لأنها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة وإن أسلمت قبل إنقضاء العدة فهل تستحق النفقة للمدة التي تخلفت في الشرك فيه قولان: أحدهما: تستحق لأن بالإسلام زال ما تشعث من النكاح فصار كأن لم يكن والقول الثاني أنها لا تستحق لأنه تعذر التمكين من الاستمتاع فيما مضى فلم تستحق النفقة كالناشزة إذا رجعت عن الطاعة وإن ارتد الزوج بعد دخول الإسلام لم تسقط نفقتها لأن امتناع الوطء بسبب وهو قادر على إزالته فلم تسقط النفقة وإن ارتدت المرأة سقطت نفقتها لأنها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة فإن عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة فهل تجب نفقة ما مضى من الردة؟ فيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كالكافرة إذا تخلفت في الشرك ثم أسلمت ومنهم من قال لا تجب قولا واحدا والفرق بينها وبين الكافرة أن الكافرة لم يحدث من جهتها منع بل أقامت على دينها والمرتدة أحدثت منعاً بالردة فغلظ عليها وإن ارتدت الزوجة وعادت إلى الإسلام والزوج غائب استحقت النفقة من حين عادت إلى الإسلام وإن نشزت الزوجة وعادت إلى الطاعة والزوج غائب لم تستحق النفقة حتى يمضي زمان لو سافر فيه لقدر على استمتاعها والفرق بينهما أن المرتدة سقطت نفقتها بالردة وقد زالت بالإسلام والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من التمكين وذلك لا يزول بالعود إلى الطاعة.
فصل: إن كانت الزوجة أمة فسلمها المولى بالليل والنهار وجبت لها النفقة لوجود التمكين التام وإن سلمها بالليل دون النهار ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه يجب لها نصف النفقة اعتباراً بما سلمت والثاني: وهو قول أبي إسحاق وظاهر المذهب أنه تجب لأنه لم يوجد التمكين التام فلم يجب لها شيء من النفقة كالحرة إذا سلمت نفسها بالليل دون النهار. والله أعلم.

(3/150)


باب قدر النفقة
إذا كان الزوج موسراً وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه لزمه في كل يوم مدان وإن كان معسرا وهولا يقدر على النفقة ولا كسب لزمه في كل يوم مد لقوله عز وجل {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله}

(3/150)


[الطلاق: 7] ففرق بين الموسر والمعسر وأوجب على كل واحد منهما على قدر حاله ولم يبين المقدار فوجب تقديره بالاجتهاد وأشبه ما تقاس النفقة الطعام في الكفارة لأنه طعام يجب بالشرع لسد الجوعة وأكثر ما يجب في الكفارة للمسكين مدان في فدية الأذى وأقل ما يجب مد وهو في كفارة الجماع في رمضان فإن كان متوسطاً لزم مد ونصف لأنه لا يمكن إلحاقه بالموسر وهو دونه ولا بالمعسر وهو فوقه فجعل عليه مد ونصف وإن كان الزوج عبداً أو مكاتباً وجب عليه مد لأنه ليس بأحسن حالاً من الحر المعسر فلا يجب عليه أكثر من مد وإن كان نصفه حراً ونصفه عبداً وجب عليه نقفة المعسر قال المزني: إن كان موسراً بما فيه من الحرية وجب عليه مد ونصف لأنه اجتمع فيه الرق والحرية فوجب عليه نصف نفقة الموسر وهو مد ونصف نفقة المعسر وهو نصف مد وهذا خطأ لأنه ناقص بالرق فلزمه نفقة المعسر كالعبد.
فصل: وتجب النفقة عليه من قوت البلد لقوله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: [233] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". والمعروف ما يقتاته الناس في البلد ويجب لها الحب فإن دفع إليها سوقياً أو دقيقاً أو خبزاً لم يلزمها قبوله لأنه طعام وجب بالشرع فكان الواجب فيه هو الحب كالطعام في الكفارة وإن اتفقا على دفع العوض ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وجب في الذمة بالشرع فلم يجز أخذ العوض فيه كالطعام في الكفارة والثاني: يجوز وهو الصحيح لأنه طعام يستقر في الذمة للآدمي فجاز أخذ العوض فيه كالطعام في القرض ويخالف الطعام في الكفارة فإن ذلك يجب لحق الله تعالى ولم يأذن في أخذ العوض عنه والنفقة تجب لحقها وقد رضيت بأخذ العوض.
فصل: ويجب لها الأدم بقدر ما يحتاج إليه من أدم البلد من الزيت والشيرج والسمن واللحم لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من أو اسط ما تطعمون أهليكم الخبز والزيت وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: الخبز والزيت والخبز والسمن والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم ولأن ذلك من النفقة بالمعروف.
فصل: ويجب لها ما تحتاج إليه من المشط والسدر والدهن للرأس وأجرة الحمام إن كان عادتها دخول الحمام لأن ذلك يراد للتنظيف فوجب عليه كما يجب على المستأجر كنس الدار وتنظيفها وأما الخضاب فإنه إن لم يطلبه الزوج لم يلزمه وإن طلبه منها لزمه ثمنه لأنه للزينة وأما الأدوية وأجرة الطبيب والحجام فلا تجب عليه لأنه ليس من النفقة الثابتة وإنما يحتاج إليه لعارض وأنه يراد لإصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر

(3/151)


إصلاح ما انهدم من الدار وأما الطبيب فإنه إن كان يراد لقطع السهوكة لزمه لأنه يراد للتنظيف وإن كان يراد للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه لأن الاستمتاع حق له فلا يجبر عليه.
فصل: ويجب لها الكسوة لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ولحديث جابر: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". ولأنه يحتاج إليه لحفظ البدن على الدوام فلزمه كالنفقة ويجب لامرأة الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد من القطن والكتان والخز والإبريسم ولامرأة المعسر من غليظ القطن والكتان ولامرأة المتوسط ما بينهما وأقل ما يجب قميص وسراويل ومقنعة ومداس للرجل وإن كان في الشتاء أضاف إليه جبة لأن ذلك من الكسوة بالمعروف.
فصل: ويجب لها ملحفة أو كساء ووسادة ومضربة محشوة للنوم وزلية أو لبد أو حصير للنهار ويكون ذلك لامرأة الموسر من المرتفع ولامرأة المعسر من غير المرتفع ولامرأة المتوسط ما بينهما لأن ذلك من المعروف
فصل: ويجب لها مسكن لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون والتصرف والاستمتاع ويكون المسكن على قدر يساره وإعساره وتوسطه كما قلنا في النفقة.
فصل: وإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها بأن تكون من ذوات الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لأن المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد ولا يجوز أن يكون الخادم إلا امرأة أو ذا رحم محرم وهل يجوز أن يكون من اليهود والنصارى فيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنهم يصلحون للخدمة والثاني: لا يجوز لأن النفس تعاف من استخدامهم وإن قالت المرأة أنا أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يجبر الزوج عليه لأن القصد بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه وذلك لا يحصل بخدمتها وإن قال الزوج أنا أخدمها بنفسي ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يلزمها الرضا به لأنه تقع الكفاية بخدمته والثاني: لا يلزمها الرضا به لأنها تحتشمه ولا تستوفي حقها من الخدمة.
فصل: وإن كان الخادم مملوكاً لها واتفقا على خدمته لزمه نفقته فإن كان موسراً لزمه للخادم مد وثلث من قوت البلد وإن كان متوسطاً أو معسراً لزمه مد لأنه لا تقع

(3/152)


الكفاية بما دونه وفي أدمه وجهان: أحدهما: أنه يجب من نوع أدمها كما يجب الطعام من جنس طعامها والثاني: أنه يجب من دون أدمها وهو المنصوص لأن العرف في الأدم أن يكون من دون أدمها وفي الطعام العرف أن يكون من جنس طعامها ويجب لخادم كل زوجة من الكسوة والفراش والدثار دون ما يجب للزوجة ولا يجب له السراويل ولا يجب له المشط والسدر والدهن للرأس لأن ذلك يراد للزينة والخادم لا يراد للزينة وإن كانت خادمة تخرج للحاجات وجب لها خف لحاجتها إلى الخروج.
فصل: ويجب أن يدفع إليها نفقة كل يوم إذا طلعت الشمس لأنه أول وقت الحاجة ويجب أن يدفع إليها الكسوة في كل ستة أشهر لأن العرف في الكسوة أن تبدل في هذه المدة فإن دفع إليها الكسوة فبليت في أقل من هذا القدر لم يجب عليه بدلها كما لا يجب عليه بدل طعام اليوم إذا نفد قبل انقضاء اليوم وإذا انقضت المدة والكسوة باقية ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه تجديدها لأن الكسوة مقدرة بالكفاية وهي مكفية والثاني: يلزمه تجديدها وهو الصحيح كما يلزمه الطعام في كل يوم وإن بقي عندها طعام اليوم الذي قبله ولأن الاعتبار بالمدة لا بالكفاية بدليل أنها لو تلفت قبل انقضاء المدة لم يلزمه تجديدها والمدة قد انقضت فوجب التجديد وأما ما يبقى سنة فأكثر كالبسط والفرش وجبة الخز والإبريسم فلا يجب تجديدها في كل فصل لأن العادة أن لا تجدد في كل فصل.
فصل: وإن دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه لم يرجع بما بقي لأنه دفع ما يستحق دفعه وإن سلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها فله أن يرجع في نفقة ما بعد اليوم الذي بانت فيه لأنه غير مستحق وإن دفع إليها كسوة الشتاء أو الصيف فبانت قبل انقضائه ففيه وجهان أحدهما: له أن يرجع لأنه دفع لزمان مستقبل فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق ثبت له الرجوع كما لو أسلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها والثاني: لا يرجع لأنه دفع ما يستحق دفعه فلم يرجع به كما لو دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه.
فصل: وإن قبضت كسوة فصل وأرادت بيعها لم تمنع منه وقال أبو بكر بن الحداد المصري لا يجوز وقال أبو الحسن الموردي البصري إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال لم يجز لأن للزوج حظاً في جمالها وعليه ضرراً في نقصان جمالها والأول أظهر لأنه عوض مستحق فلم تمنع من التصرف فيه كالمهر وإن قبضت النفقة وأرادت أن تبيعها أو تبدلها بغيرها لم تمنع منه ومن أصحابنا من قال إن أبدلتها بما يستضر بأكله كان للزوج منعها لما عليه من الضرر في الاستمتاع بمرضها والمذهب الأول لما ذكرناه في الكسوة والضرر في الأكل لا يتحقق فلا يجوز المنع منه.

(3/153)


باب الإعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها
إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر فلها أن تفسخ النكاح لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: "يفرق بينهما". ولأنه إذا ثبت لها الفسخ بالعجز عن الوطء والضرر ففيه أقل فلأن يثبت بالعجز عن النفقة والضرر فيه أكثر من الأولى وإذا أعسر ببعض نفقة المعسر ثبت لها الخيار لأن البدن لا يقوم بما دون المد وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر لم يثبت لها الفسخ لأن ما زاد غير مستحق مع الإعسار وإن أعسر بالأدم لم يثبت لها الفسخ لأن البدن يقوم بالطعام من غير أدم وإن أعسر بالكسوة ثبت لها الفسخ لأن البدن لا يقوم بغير الكسوة كما لا يقوم بغير القوت وإن أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها الفسخ لأن النفس تقوم بغير خادم وإن أعسر بالمسكن ففيه وجهان: أحدهما: يثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر لعدم المسكن والثاني: لا يثبت لأنها لا تعدم موضع تسكن فيه.
فصل: وإن لم يجد إلا نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الفسخ لأنه لا يلزمه في كل يوم أكثر من نفقة يوم وإن وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعشيها ففيه وجهان: أحدهما: لها الفسخ لأن نفقة اليوم لا تتبعض والثاني: ليس لها الفسخ لأنها تصل إلى كفايتها وإن كان يجد يوماً قدر الكفاية ولا يجد يوماً ثبت لها الفسخ لأنه لا يحصل لها في كل يوم إلا بعض النفقة وإن كان نساجاً ينسج في كل أسبوع ثوباً تكفيه أجرته الأسبوع أو صانعاً يعمل في كل ثلاثة أيام تكة يكفيه ثمنها ثلاثة أيام لم يثبت لها الفسخ لأنه يقدر أن يستقرض لهذه المدة ما ينفقه فلا تنقطع به النفقة وإن كانت نفقته في عمل فعجز عن العمل بمرض نظرت فإن كان مرضه يرجى زواله في اليومين أو الثلاثة لم يثبت لها الفسخ لأنه يمكنها أن تستقرض ما تنفقه ثم تقتضيه وإن كان مرضاً مما يطول زمانه ثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر لعدم النفقة وإن كان له مال غائب فإن كان في مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يجز لها الفسخ وإن كان في مسافة تقصر فيها الصلاة ثبت لها الفسخ لما ذكراه في المرض وإن كان له دين على موسر لم يثبت لها الفسخ وإن كان على معسر ثبت لها الفسخ لأن يسار الغريم كيساره وإعساره في تيسير النفقة وتعسيرها.
فصل: وإن كان الزوج موسراً وامتنع من الإنفاق لم يثبت لها الفسخ لأنه يمكن الاستيفاء بالحاكم وإن غاب وانقطع خبره لم يثبت لها الفسخ لأن الفسخ يثبت بالعيب بالإعسار ولم يثبت الإعسار ومن أصحابنا من ذكر فيه وجهاً آخر أنه يثبت لها الفسخ لأن تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالإعسار.
فصل: إذا ثبت لها الفسخ بالإعسار واختارت المقام معه ثبت لها في ذمته ما يجب

(3/154)


على المعسر من الطعام والأدم والكسوة ونفقة الخادم فإذا أيسر طولب بها لأنها حقوق واجبة عجز عن أدائها فإذا قدر طولب بها كسائر الديون ولا يثبت لها في الذمة ما لا يجب على المعسر من الزيادة على نفقة المعسر لأنه غير مستحق.
فصل: وإن اختارت المقام بعد الإعسار لم يلزمها التمكين من الاستمتاع ولها أن تخرج من منزله لأن التمكين في مقابلة النفقة فلا يجب مع عدمها وإن اختارت المقام معه على الإعسار ثم عن لها أن تفسخ فلها أن تفسخ لأن النفقة يتجدد وجوبها في كل يوم فيتجدد حق الفسخ وإن تزوجت بفقير مع العلم بحاله ثم أعسر بالنفقة فلها أن تفسخ لأن حق الفسخ يتجدد بالإعسار بتجدد النفقة.
فصل: وإن اختارت الفسخ لم يجز الفسخ إلا بالحاكم لأنه فسخ مختلف فيه فلم يصح بغير الحاكم كالفسخ بالتعنين وفي وقت الفسخ قولان: أحدهما: أن لها الفسخ في الحال لأنه فسخ لتعذر العوض فثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن والثاني: أن يمهل ثلاثة أيام لأنه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في غد ولا يمكن إمهاله أبداً لأنه يؤدي إلى الإضرار بالمرأة والثلاث في حد القلة فوجب إمهاله وعلى هذا لها أن تخرج في هذه الأيام من منزل الزوج لأنها لا يلزمها التمكين من غير نفقة.
فصل: إذا وجد التمكين الموجب للنفقة ولم ينفق حتى مضت مدة صارت النفقة ديناً في ذمته ولا تسقط بمضي الزمان لأنه مال يجب على سبيل البدل في عقد المعاوضة فلا يسقط بمضي الزمان كالثمن والأجرة والمهر ويصح ضمان ما استقر منها بمضي الزمان كما يصح ضمان سائر الديون وهل يصح ضمانها قبل استقرارها بمضي الزمان فيه قولان بناء على القول في النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين فيه قولان: قال في الجديد تجب بالتمكين وهو الصحيح لأنها لو وجبت بالعقد لملكت المطالبة بالجميع كالمهر والأجرة وعلى هذا لا يصح ضمانها لأنه ضمان ما لم يجب وقال في القديم تجب بالعقد لأنها في مقابلة الاستمتاع والاستمتاع يجب بالعقد فكذلك النفقة وعلى هذا يصح أن يضمن منها نفقة موصوفة لمدة معلومة.
فصل: وإذا اختلف الزوجان في قبض النفقة فادعى الزوج أنها قبضت وأنكرت الزوجة فالقول قولها مع يمينها لقوله عليه السلام: "اليمين على المدعى عليه" 1. ولأن
__________
1 رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 1، مسلم في كتاب الأقضية حديث 1، 2. أبو داود في كتاب الأقضية باب 23. الترمذي في كتاب الأحكام باب 12. أحمد في مسنده 1/253، 342.

(3/155)


الأصل عدم القبض وإن مضت مدة لم ينفق فيها وادعت الزوجة أنه كان موسراً فيلزمه نفقة الموسر وادعى الزوج أنه كان معسراً فلا يلزمه إلا نفقة المعسر نظرت فإن عرف له مال فالقول قولها لأن الأصل بقاؤه وإن لم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله لأن الأصل عدم المال وإن اختلفا في التمكين فادعت المرأة أنها مكنت وأنكر الزوج فالقول قوله لأن الأصل عدم التمكين وبراءة الذمة من النفقة وإن طلق زوجته طلقة رجعية وهي حامل فوضعت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة فقال الزوج طلقتك قبل الوضع فانقضت العدة فلا رجعة لي عليك ولا نفقة لك علي وقالت المرأة بل طلقتني بعد الوضع فلك علي الرجعة ولي عليك النفقة فالقول قول الزوج أنه لا رجعة لي عليك لأنه حق له فقيل إقراره فيه والقول قول المرأة في وجوب العدة لأنه حق عليها فكان القول قولها والقول قولها مع يمينها في وجوب النفقة لأن الأصل بقاؤها. والله أعلم.

(3/156)


باب نفقة المعتدة
إذا طلق امرأته بعد الدخول طلاقاً رجعياً وجب لها السكنى والنفقة في العدة لأن الزوجة باقية والتمكين من الاستمتاع موجود فإن طلقها طلاقاً بائناً وجب لها السكنى في العدة حائلاً كانت أو حاملا لقوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] وأما النفقة فإنها إن كانت حائلاً لم تجب وإن كانت حاملاً وجبت لقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فأوجب النفقة مع الحمل فدل على أنها لا تجب مع عدم الحمل وهل تجب النفقة للحمل أو الحامل بسبب الحمل فيه قولان: قال في القديم تجب للحمل لأنها تجب بوجوبه وتسقط بعدمه وقال في الأم تجب للحامل بسبب الحمل وهو الصحيح لأنها لو وجبت للحمل لتقدرت بكفايته وذلك يحصل بما دون المد فإن قلنا تجب للحمل لم تجب إلا على من تجب عليه نفقة الولد فإن كانت الزوجة أمة والزوج حراً وجبت نفقتها على مولاها لأن الولد مملوك له وإن قلنا تجب النفقة للحامل وجبت على الزوج لأن نفقتها تجب عليه وإن كان الزوج عبداً وقلنا إن النفقة للحامل وجبت عليه وإن قلنا تجب للحامل لم تجب لأن العبد يلزمه نفقة ولده.
فصل: وإذا وجبت النفقة للحمل أو للحامل بسبب الحمل ففي وجوب الدفع قولان: أحدهما: لا يوجب الدفع حتى تضع الحمل لجواز أن يكون ريحاً فانفش فلا يجب الدفع مع الشك والثاني: يجب الدفع يوماً بيوم لأن الظاهر وجود الحمل ولأنه جعل كالمتحقق في منع النكاح وفسخ البيع في الجارية والمنع من الأخذ في الزكاة ووجوب الدفع في

(3/156)


الدية فجعل كالمتحقق في دفع النفقة فإن دفع إليها ثم بان أنه لم يكن بها حمل فإن قلنا تجب يوماً بيوم فله أن يرجع عليها لأنه دفعها على أنها واجبة وقد بان أنها لم تجب فثبت له الرجوع وإن قلنا إنها لا تجب إلا بالوضع فإن دفعها بأمر الحاكم فله أن يرجع لأنه إذا أمره الحاكم لزمه الدفع فثبت له الرجوع وإن دفع من غير أمره فإن شرط أن ذلك عن نفقتها إن كانت حاملاً فله أن يرجع لأنه دفع عما يجب وقد بان أنه لم يجب وإن لم يشرط لم يرجع لأن الظاهر أنه متبرع.
فصل: فإن تزوج امرأة ودخل بها ثم انفسخ النكاح برضاع أو عيب وجب لها السكنى في العدة وأما النفقة فإنها إن كانت حائلاً لم تجب وإن كانت حاملاً وجبت لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة فكان حكمها في النفقة والسكنى ما ذكرناه كالمطلقة وإن لاعنها بعد الدخول فإن لم ينف الحمل وجبت النفقة وإن نفى الحمل لم تجب النفقة لأن النفقة تجب في أحد القولين للحمل والثاني: تجب لها بسبب الحمل والحمل منتف عنه فلم تجب بسببه نفقة وأما السكنى ففيها وجهان: أحدهما: تجب لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة فوجب لها السكنى كالمطلقة والثاني: لا تجب لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى ألا تثبت لها من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها ولأنها لم تحصن ماءه فلم يلزمه سكناها.
فصل: وإن نكح امرأة نكاحاً فاسداً ودخل بها وفرق بينهما فلم تجب لها السكنى لأنها إذا لم تجب مع قيام الفراش واجتماعهما على النكاح فلأن لا تجب مع زوال الفراش والافتراق أولى وأما النفقة فإنها إن كانت حائلاً لم تجب لأنها إذا لم تجب في العدة عن نكاح صحيح فلأن لا تجب في العدة عن النكاح الفاسد أولى وإن كانت حاملاً فعلى القولين إن قلنا إن النفقة للحامل لم تجب لأن حرمتها في النكاح الفاسد غير كاملة وإن قلنا أنها تجب للحمل وجبت لأن الحمل في النكاح الفاسد كالحمل في النكاح الصحيح.
فصل: وإن كانت الزوجة معتدة عن الوفاة لم تجب لها النفقة لأن النفقة إنما تجب للمتمكن من الاستمتاع وقد زال التمكين بالموت أو بسبب الحمل والميت مستحق عليه حق لأجل الولد وهل تجب لها السكنى فيه قولان: أحدهما: لا تجب وهو اختيار المزني لأنه حق يجب يوماً بيوم فلم تجب في عدة الوفاة كالنفقة والثاني: تجب لما روت فريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا". ولأنها معتدة عن نكاح صحيح فوجب لها السكنى كالمطلقة.

(3/157)


فصل: إذا حسبت زوجة المفقود أربع سنين فلها النفقة لأنها محبوسة عليه في بيته فإن طلبت الفرقة بعد أربع سنين ففرق الحاكم بينهما فإن قلنا بقوله القديم إن التفريق صحيح فهي كالمتوفى عنها زوجها لأنها معتدة عن وفاة فلا تجب لها النفقة وفي السكنى قولان: فإن رجع الزوج فإن قلنا تسلم إليه عادت إلى نفقته في المستقبل وإن قلنا لا تسلم إليه لم يكن لها عليه نفقة فإن قلنا بقوله الجديد وأن التفريق باطل فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لأنها محبوسة عليه في بيته وإن تزوجت سقطت نفقتها لأنها صارت كالناشزة وإن لم يرجع الزوج ورجعت إلى بيتها وقعدت فيه فإن قلنا بقوله القديم لم تعد النفقة وإن قلنا بقوله الجديد فهل تعود نفقتها بعودها إلى البيت فيه وجهان: أحدهما: تعود لأنها سقطت بنشوزها فعادت بعودها والثاني: لا تعود لأن التسليم الأول قد بطل فلا تعود إلا بتسليم مستأنف كما أن الوديعة إذا تعدى فيها ثم ردها إلى المكان لم تعد الأمانة ومن أصحابنا من قال إن كان الحاكم فرق بينهما وأمرها بالاعتداد واعتدت وفارقت البيت ثم عادت إليه لم تعد نفقتها لأن التسليم الأول قد بطل لحكم الحاكم وإن كانت تربصت فاعتدت ثم فارقت البيت ثم عادت إليه عادت النفقة لأن التسليم الأول لم يبطل من غير حكم الحاكم. والله أعلم.

(3/158)


باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم
والقرابة التي تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا وقرابة الأولاد وإن سفلوا فتجب على الولد نفقة الأب والأم والدليل عليه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] ومن الإحسان أن ينفق عليهما وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه"1. ويجب عليه نفقة الأجداد والجدات لأن اسم الوالدين يقع على الجميع والدليل عليه قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فسمى الله تعالى إبراهيم أباً وهو جد ولأن الجد كالأب والجدة كالأم في أحكام الولادة من رد الشهادة وغيرها وكذلك في إيجاب النفقة ويجب على الأب نفقة الولد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عندي دينار فقال: "أنفقه على نفسك" قال: عندي آخر فقال: "أنفقه على ولدك" قال: عندي آخر فقال: "أنفقه على أهلك" قال: عندي
__________
1 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 1. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 1. الدارمي في كتاب البيوع باب 6. أحمد في مسنده 6/31، 42.

(3/158)


آخر قال: "أنفقه على خادمك" قال: عندي آخر قال: "أنت أعلم به". ويجب عليه نفقة ولد الوالد وإن سفل لأن اسم الولد يقع عليه والدليل عليه قوله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ} وتجب على الأم نفقة الولد لقوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] ولأنه إذا وجبت على الأب وولادته من جهة الظاهر فلأن تجب على الأم وولادتها من جهة القطع أولى وتجب عليها نفقة ولد الولد لما ذكرناه في الأب ولا تجب نفقة من عدا الوالدين والمولدين من الأقارب كالإخوة والأعمام وغيرهما لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولدين ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة فلم يلحق بهم في وجوب النفقة.
فصل: ولا تجب نفقة القريب إلا على موسر أو مكتسب يفضل عن حاجته ما ينفق على قريبه وأما من لا يفضل عن نفقته شيء فلا تجب عليه لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه فإن كان فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته" 1. فإن لم يكن فضل غير ما ينفق على زوجته لم يلزمه نفقة القريب لحديث جابر رضي الله عنه ولأن نفقة القريب مواساة ونفقة الزوجة عوض فقدمت على المواساة ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كنفقة نفسه.
فصل: ولا يستحق القريب النفقة على قريبه من غير حاجة فإن كان موسراً لم يستحق لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة وإن كان معسراً عاجزاً عن الكسب لعدم البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة استحق النفقة على قريبه لأنه محتاج لعدم المال وعدم الكسب وإن كان قادراً على الكسب بالصحة والقوة فإن كان من الوالدين ففيه قولان: أحدهما: يستحق لأنه محتاج فاستحق النفقة على القريب كالزمن والثاني: لا يستحق لأن القوة كاليسار ولهذا سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في تحريم الزكاة فقال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة قوي" 2. وإن كان من المولدين ففيه طريقان:
__________
1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 41. النسائي في كتاب الزكاة باب 60.
2 رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب 22، 23. النسائي في كتاب الزكاة باب 80. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 26. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 29.

(3/159)


من أصحابنا من قال فيه قولان كالوالدين ومنهم من قال لا يستحق قولاً واحداً لأن حرمة الوالد آكد فاستحق بها مع القوة وحرمة الولد أضعف فلم يستحق بها مع القوة.
فصل: فإن كان للذي يستحق النفقة أب وجد أوجد وأبو جد وهما موسران كانت النفقة على الأقرب منهما لأنه أحق بالمواساة من الأبعد وإن كان له أب وابن موسران ففيه وجهان: أحدهما: أن النفقة على الأب لأن وجوب النفقة عليه منصوص عليه وهو قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ووجوبها على الولد ثبت بالاجتهاد والثاني: أنهما سواء لتساويهما في القرب والذكورية وإن كان له أب وأم موسران كانت النفقة على الأب لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6 [فجعل أجرة الرضاع على الأب وروت عائشة رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرا وهولا يعلم فهل علي في ذلك من شيء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". ولأن الأب ساوى الأم في الولادة وانفرد بالتعصيب فقدم وإن كان له أم وجد أبو الأب وهما موسران فالنفقة على الجد لأن له ولادة وتعصيباً فقدم على الأم كالأب وإن كانت له بنت وابن بنت ففيه قولان: أحدهما: أن النفقة على البنت لأنها أقرب والثاني: أنها على ابن البنت لأنه أقوى وأقدر على النفقة بالذكورية وإن كانت له بنت وابن ابن فالنفقة على ابن الابن لأن له ولادة وتعصيباً فقدم كما قدم الجد على الأم وإن كان له أم وبنت كانت النفقة على البنت لأن للبنت تعصيباً وليس للأم تعصيب وإن كان له أم أم وأبو أم فهما سواء لأنهما يتساويان في القرب وعدم التعصيب وإن كان له أم أم وأم أب ففيه وجهان: أحدهما: أنهما سواء لتساويهما في الدرجة والثاني: أن النفقة على أم الأب لأنها تدلي بالعصبة.
فصل: وإن كان الذي تجب عليه النفقة يقدر على نفقة قريب واحد وله أب وأم يستحقان النفقة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأم أحق لما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك". ولأنها تساوي الأب في الولادة وتنفرد بالحمل والوضع والرضاع والتربية. والثاني: أن الأب أحق لأنه يساويها في الولادة وينفرد بالتعصيب ولأنهما لوكانا موسرين والابن معسراً قدم الأب في وجوب النفقة عليها فقدم في النفقة له. والثالث: أنهما سواء لأن النفقة بالقرابة لا بالتعصيب وهما في القرابة سواء وإن كان له أب وابن ففيه وجهان: أحدهما: أن الابن أحق لأن نفقته ثبتت بنص الكتاب والثاني: أن الأب أحق لأن حرمته

(3/160)


آكد ولهذا لا يقاد بالابن ويقاد به الابن وإن كان له ابن وابن ابن أو أب وجد ففيه وجهان: أحدهما: أن الابن أحق من ابن الابن والأب أحق من الجد لأنهما أقرب ولأنهما لوكانا موسرين وهو معسر كانت نفقته على أقربهما فكذلك في نفقته عليهما والثاني: أنهما سواء لأن النفقة بالقرابة ولهذا لا يسقط أحدهما: بالآخر إذا قدر على نفقتهما.
فصل: ومن وجبت عليه نفقته بالقرابة وجبت نفقته على قدر الكفاية لأنها تجب للحاجة فقدرت بالكفاية وإن احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمه وإن كانت له زوجة وجبت نفقة زوجته لأن ذلك من تمام الكفاية وإن مضت مدة ولم ينفق على من تلزمه نفقته من الأقارب لم يصر ديناً عليه لأنها وجبت عليه لتزجية الوقت ودفع الحاجة وقد زالت الحاجة لما مضى فسقطت.
فصل: وإن كان له أب فقير مجنون أو فقير زمن واحتاج إلى الإعفاف وجب على الولد إعفافه على المنصوص وخرج أبوعلي بن خيران قولاً آخر أنه لا يجب لأنه قريب يستحق النفقة فلا يستحق الإعفاف كالابن والمذهب الأول لأنه معنى يحتاج الأب إليه ويلحقه الضرر بفقده فوجب كالنفقة وإن كان صحيحاً قوياً وقلنا إنه تجب نفقته وجب إعفافه وإن قلنا لا تجب نفقته ففي إعفافه وجهان: أحدهما: لا يجب لأنه لا تجب نفقته فلا يجب إعفافه والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب إعفافه لأن نفقته إن لم تجب على القريب أنفق عليه من بيت المال والإعفاف لا يجب في بيت المال فوجب على القريب ومن وجب عليه الإعفاف فهو بالخيار بين أن يزوجه بحرة وبين أن يسريه بجارية ولا يجوز أن يزوجه بأمة لأنه بالإعفاف يستغنى عن نكاح الأمة ولا يعفه بعجوز ولا بقبيحة لأن الأصل من العفة هو الاستمتاع ولا يحصل ذلك بالعجوز ولا القبيحة فإن زوجه بحرة أو سراه بجارية ثم استغنى لم يلزمه مفارقة الحرة ولا رد الجارية لأن ما استحق للحاجة لم يجب رده بزوال الحاجة كما لو قبض نفقة يوم ثم أيسر وإن أعفه بحرة فطلقها أو سرا بجارية فأعتقها لم يجب عليه بدلها لأن ذلك مواساة لدفع الضرر فلو أوجبنا البدل خرج من حد المواساة وأدى إلى الضرر والضرر لا يزال بالضرر وإن ماتت عنده ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب البدل لأنه يخرج عن حد المواساة والثاني: يجب لأنه زال ملكه عنها بغير تفريط فوجب بدله كما لو دفع إليه نفقة يوم فسرقت منه.
فصل: وإن احتاج الولد إلى الرضاع وجب على القريب إرضاعه لأن الرضاع في

(3/161)


حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولا يجب إلا في حولين كاملين لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فإن كان الولد من زوجته وامتنعت من الإرضاع لم تجبر وقال أبو ثور تجبر لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وهذا خطأ لأنها إذا لم تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب لم تجبر على الرضاع وإن أرادت إرضاعه كره للزوج منعها لأن لبنها أوفق له وإن أراد منعها منه كان له ذلك لأنه يستحق الاستمتاع بها في كل وقت إلا في وقت العبادة فلا يجوز لها تفويته عليه بالرضاع وإن رضيا بإرضاعه فهل تلزمه زيادة على نفقتها فيه وجهان: أحدهما: تلزمه وهو قول أبي سعيد وأبي إسحاق لأنها تحتاج في حال الرضاع إلى أكثر مما تحتاج في غيره والثاني: لا تلزمه الزيادة على نفقتها في النفقة لأن نفقتها مقدرة فلا تجب الزيادة لحاجتها كما لا تجب الزيادة في نفقة الأكولة لحاجتها وإن أرادت إرضاعه بأجرة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمة الله عليه لأن أوقات الرضاع مستحقة لاستمتاع الزوج ببدل وهو النفقة فلا يجوز أن تأخذ بدلاً آخر والثاني: أنه يجوز لأنه عمل يجوز أخذ الأجرة عليه بعد البينونة فجاز أخذ الأجرة عليه قبل البينونة كالنسج وإن بانت لم يملك إجبارها على إرضاعه كما لا يملك قبل البينونة فإن طلبت أجرة المثل على الرضاع ولم يكن للأب من يرضع بدون الأجرة كانت الأم أحق به لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وإن طلبت أكثر من أجرة المثل جاز انتزاعه منها وتسليمه إلى غيرها لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ولأن ما يوجد بأكثر من عوض المثل كالمعدوم ولهذا لو وجد الماء بأكثر من ثمن المثل جعل كالمعدوم في الانتقال إلى التيمم فكذلك ههنا وإن طلبت أجرة المثل وللأب من يرضعه بغير عوض أو بدون أجرة المثل ففيه قولان: أحدهما: أن الأم أحق بأجرة المثل لأن الرضاع لحق الولد ولأن لبن الأم أصلح له وأنفع وقد رضيت بعوض المثل فكان أحق والثاني: أن الأب أحق لأن الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولو وجد الكبير من يتبرع بإرضاعه لم يستحق على الأب أجرة الرضاع وإن ادعت المرأة أن الأب لا يجد غيرها فالقول قول الأب لأنها تدعي استحقاق أجرة المثل والأصل عدمه.
فصل: ويجب على المولى نفقة عبده وأمته وكسوتهما لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". ويجب عليه نفقته من قوت البلد لأنه هو المتعارف فإن تولى طعامه استحب أن يطعمه منه لما

(3/162)


روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم خادمه بطعام فليجلسه معه فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين فإنه تولى علاجه وحره " 1. فإن كانت له جارية للتسري استحب أن تكون كسوتها أعلى من كسوة جارية الخدمة لأن العرف أن تكون كسوتها أعلى فوق كسوة جارية الخدمة.
فصل: ولا يكلف عبده وأمته من الخدمة ما لا يطيقان لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق" 2. ولا يسترضع الجارية إلا ما فضل عن ولدها لأن في ذلك إضراراً بولدها وإن كان لعبده زوجة أذن له في الاستمتاع بالليل لأن إذنه بالنكاح يتضمن الإذن في الاستمتاع بالليل وإن مرض العبد أو الأمة أو عميا أو زمنا لزمه نفقتهما لأن نفقتهما بالملك ولهذا تجب مع الصغر فوجبت مع العمى والزمانة ولا يجوز أن يجبر عبده على المخارجة لأنه معاوضة فلم يملك إجباره عليها كالكتابة وإن طلب العبد ذلك لم يجبر المولى كما لا يجبر إذا طلب الكتابة فإن اتفقا عليها وله كسب جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره وسأل مواليه أن يخففوا من خراجه وإن لم يكن له كسب لم يجز لأنه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة تحل فلم يجز.
فصل: ومن ملك بهيمة لزمه القيامة بعلفها لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار فقيل لها ـ والله أعلم ـ لا أنت أطعمتها وسقيتها حين حبستها ولا أنت أرسلتها حتى تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً" 3. ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع أن يكلف العبد ما لا يطيق فوجب أن تكون البهيمة مثله ولا يحلب من لبنها إلا ما يفضل عن ولدها لأنه غذاء للولد فلا يجوز منعه.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 41. الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 40. أحمد في مسنده 2/247.
2 رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب 55. مسلم في كتاب الأيمان حديث 43. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 50. الدارمي في كتاب الأطعمة باب 33.
3 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 16. مسلم في كتاب البر حديث 133، 135. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 152. أحمد في مسنده 2/159، 188.

(3/163)


فصل: وإن امتنع من الإنفاق على رقيقه أو على بهيمته أجبر عليه كما يجبر على نفقة زوجته وإن لم يكن له مال أكرى عليه إن أمكن إكراؤه فإن لم يمكن بيع عليه كما يزال الملك عنه في امرأته إذا أعسر بنفقتهما. والله أعلم.

(3/164)


باب الحضانة
إذا افترق الزوجان ولهما ولد بالغ رشيد فله أن ينفرد عن أبويه لأنه مستغن عن الحضانة والكفالة والمستحب أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما وإن كانت جارية كره لها أن تنفرد لأنها إذا انفردت لم يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها وإن كان لهما ولد مجنون أو صغير لا يميز وهو الذي له دون سبع سنين وجبت حضانته لأنه إن ترك حضانته ضاع وهلك.
فصل: ولا تثبت الحضانة لرقيق لأنه لا يقدر على القيام بالحضانة مع خدمة المولى ولا تثبت لمعتوه لأنه لا يكمل للحضانة ولا تثبت لفاسق لأنه لا يوفي الحضانة حقها ولأن الحضانة إنما جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد في حضانة الفاسق لأنه ينشأ على طريقه ولا تثبت لكافر على مسلم وقال أبو سعيد الإصطخري تثبت للكافر على المسلم لما روى عبد الحميد بن سلمة عن أبيه أنه قال: أسلم أبي وأبت أمي أن تسلمني وأنا غلام فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا غلام اذهب إلى أيهما شئت إن شئت إلى أبيك وإن شئت إلى أمك" فتوجهت إلى أمي فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "اللهم اهده فملت إلى أبي فقعدت في حجره". والمذهب الأول لأن الحضانة جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد المسلم في حضانة الكافر لأنه يفتنه من دينه وذلك من أعظم الضرر والحديث منسوخ لأن الأمة أجمعت على أنه لا يسلم الصبي المسلم إلى الكافر ولا حضانة للمرأة إذا تزوجت لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي ". ولأنها إذا تزوجت اشتغلت باستمتاع الزوج عن الحضانة فإن أعتق الرقيق وعقل المعتوه وعدل الفاسق وأسلم الكافر عاد حقهم من الحضانة لأنها زالت لعلة فعادت بزوال العلة وإذا طلقت المرأة عاد حقها من الحضانة وقال المزني إن كان الطلاق رجعياً لم يعد لأن النكاح باق وهذا خطأ لأنه إنما

(3/164)


سقط حقها بالنكاح لاشتغالها باستمتاع الزوج والطلاق الرجعي يحرم الاستمتاع كما يحرم بالطلاق البائن فعادت الحضانة.
فصل: ولا حضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام وهم ابن البنت وابن الأخت وابن الأخ من الأم وأبو الأم والخال والعم من الأم لأن الحضانة إنما تثبت للنساء لمعرفتهن بالحضانة أولمن له قوة قرابة بالميراث من الرجال وهذا لا يوجد في ذوي الأرحام من الرجال ولا يثبت لمن أدلى بهم من الذكور والإناث لأنه إذا لم يثبت لهم لضعف قرابتهم فلأن لا يثبت لمن يدلي بهم أولى.
فصل: وإن اجتمع النساء دون الرجال وهن من أهل الحضانة فالأم أحق من غيرها لما روى عب الله بن عمرو العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت أحق ما لم تنكحي". ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه ثم تنتقل إلى من يرث من أمهاتها لمشاركتهن الأم في الولادة والإرث ويقدم الأقرب فالأقرب ويقدمن على أمهات الأب وإن قربن لتحقق ولادتهن ولأنهن أقوى في الميراث من أمهات الأب لأنهن لا يسقطن بالأب وتسقط أمهات الأب بالأم فإذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الأم ففيه قولان: قال في القديم: تنقل إلى الأخت والخالة ويقدمان على أم الأب لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت حمزة لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". ولأن الخالة تدلي بالأم وأم الأب تدلي بالأب والأم تقدم على الأب فقدم من يدلي بها عل من يدلي به ولأن الأخت ركضت مع الولد في الرحم ولم تركض أم الأب معه في الرحم فقدمت عليها فعلى هذا تكون الحضانة للأخت من الأب والأم ثم الأخت من الأم ثم الخالة ثم لأم الأب ثم للأخت من الأب ثم للعمة وقال في الجديد: إذا عدمت أمهات الأم انتقلت الحضانة إلى أم الأب وهو الصحيح لأنها جدة وارثة فقدمت على الأخت والخالة كأم الأم فعلى هذا تكون الحضانة لأم الأب ثم لأمهاتها وإن علون الأقرب فالأقرب ويقدمن على أم الجد كما يقدم الأب على الجد فإن عدمت أمهات الأب انتقلت إلى أمهات الجد ثم إلى أمهاتها وإن علون ثم تنتقل إلى أمهات أب الجد فإذا عدم أمهات الأبوين انتقلت إلى الأخوات ويقدمن على الخالات والعمات لأنهن راكضن الولد في الرحم وشاركنا في النسب وتقدم الأخت من الأب والأم ثم الأخت للأب ثم الأخت للأم وقال أبو العباس بن سريج: تقدم الأخت للأم على الأخت للأب لأن إحداهما تدلي بالأم والأخرى تدلي بالأب فقدم المدلي بالأم على المدلي بالأب كما قدمت الأم على الأب وهذا خطأ لأن الأخت من الأب أقوى من الأخت من الأم في الميراث والتعصيب مع البنات ولأن

(3/165)


الأخت من الأب تقوم مقام الأخت من الأب والأم في الميراث فقامت مقامها في الحضانة فإن عدمت الأخوات انتقلت إلى الخالات ويقدمن على العمات لأن الخالة تساوي العمة في الدرجة وعدم الإرث وتدلي بالأم والعمة تدلي بالأب والأم تقدم على الأب فقدم من يدلي بها وتقدم الخالة من الأب والأم على الخالة من الأب ثم الخالة من الأب ثم الخالة من الأم ثم تنتقل إلى العمات لأنهن يدلين بالأب وتقدم العمة من الأب والأم ثم العمة من الأب ثم العمة من الأم وعلى قياس قول المزني وابن العباس تقدم الخالة والعمة من الأم على الخالة والعمة من الأب.
فصل: وإن اجتمع الرجال وهم من أهل الحضانة وليس معهم نساء قدم الأب لأن له ولادة وفضل شفقة ثم تنتقل إلى آبائها الأقرب فالأقرب لمشاركتهم الأب في الولادة والتعصيب فإن عدم الجداد انتقلت إلى من بعدهم من العصبات ومن أصحابنا من قال لا يثبت لغير الآباء والأجداد من العصبات لأنه لا معرفة لهم في الحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم تكن لهم حضانة كالأجانب والمنصوص هو الأول والدليل عليه ما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أنه اختصم في بنت حمزة علي وجعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه: أنا أحق بها وهي بنت عمي وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها عندي وقال زيد: بنت أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". ولولم يكن ابن العم من أهل الحضانة لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر وعلى علي رضي الله عنهما ادعاءهما الحضانة بالعمومة ولأن له تعصيباً بالقرابة فثبتت له الحضانة كالأب والجد فعلى هذا تنتقل إلى الأخ من الأب والأم ثم إلى الأخ من الأب ثم إلى ابن الأخ من الأب والأم ثم إلى ابن الأخ من الأب ثم إلى العم من الأب والأم ثم إلى العم من الأب ثم إلى ابن العم من الأب والأم ثم إلى ابن العم من الأب لأن الحضانة تثبت لهم بقوة قرابتهم بالإرث فقدم من تقدم في الإرث.
فصل: وإن اجتمع الرجال والنساء والجميع من أهل الحضانة نظرت فإن اجتمع الأب مع الأم كانت الحضانة للأم لأن ولادتها متحققة وولادة الأب مظنونة ولأن لها فضلاً بالحمل والوضع ولها معرفة بالحضانة فقدمت على الأب فإن اجتمع مع أم الأم وإن علت كانت الحضانة لأم الأم لأنها كالأم في تحقق الولادة والميراث ومعرفة الحضانة وإن اجتمع مع أم نفسه أو مع الأخت من الأب أو مع العمة قدم عليهن لأنهن يدلين به فقدم عليهن وإن اجتمع الأب مع الأخت من الأم أو الخالة ففيه وجهان: أحدهما: أن الأب أحق وهو ظاهر النص لأن الأب له ولادة وإرث فقدم على الأخت

(3/166)


والخالة كالأم والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يقدم الأخت والخالة على الأب لأنهما من أهل الحضانة والتربية ويدليان بالأم فقدمتا على الأب كأمهات الأم إن اجتمع الأب وأم الأب والأخت من الأم أو الخالة بنينا على القولين في الأخت من الأم والخالة إذا اجتمعا مع أم الأب فإن قلنا بقوله القديم إن الأخت والخالة يقدمان على أم الأب قدمت الأخت والخالة على الأب وأم الأب وإن قلنا بقوله الجديد إن أم الأب تقدم على الأخت والخالة بنينا على الوجهين في الأب إذا اجتمع مع الأخت من الأم أو الخالة فإن قلنا بظاهر النص إن الأب يقدم عليهما كانت الحضانة للأب لأنه يسقط الأخت والخالة وأم نفسه فانفرد بالحضانة وإن قلنا بالوجه الآخر إن الحضانة للأخت والخالة ففي هذه المسألة وجهان: أحدهما: أن الحضانة للأخت والخالة لأن أم الأب تسقط بالأب والأب يسقط بالأخت والخالة والثاني: أن الحضانة للأب وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله عليه لأن الأخت والخالة يسقطان بأم الأب ثم تسقط أم الأب بالأب فتصير الحضانة للأب ويجوز أن يمنع الشخص غيره من حق ثم لا يحصل له ما منع منه غيره كالأخوين مع الأبوين فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس ثم لا يحصل لهما ما منعناه بل يصير الجميع للأب وإن اجتمع الجد أب الأب مع الأم أو مع أم الأم وإن علت قدمت عليه كما تقدم على الأب وإن اجتمع مع أم الأب قدمت عليه لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الأم على الأب وإن اجتمع مع الخالة أو مع الأخت من الأم ففيه وجهان كما لو اجتمعتا مع الأب وإن اجتمع مع الأخت من الأب ففيه وجهان: أحدهما: أن الجد أحق لأنه كالأب في الولادة والتعصيب فكذلك في التقدم على الأخت والثاني: أن الأخت أحق لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة.
فصل: وإن عدم الأمهات والآباء ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن النساء أحق بالحضانة من العصبات فتكون الأخوات والخالات ومن أدلى بهن من البنات أحق من الأخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم لاختصاصهن بمعرفة الحضانة والتربية والثاني: أن العصبات أحق من الأخوات والخالات والعمات ومن يدلي بهن لاختصاصهم بالنسب والقيام بتأديب الولد والثالث: أنه إن كان العصبات أقرب قدموا وإن كان النساء أقرب قدمن وإن استويا في القرب قدمت النساء لاختصاصهن بالتربية وإن استوى اثنان في القرابة والإدلاء كالأخوين أو الأختين أو الخالتين أو العمتين أقرع بينهما لأنه لا يمكن اجتماعهما على الحضانة ولا مزية لإحداهما على الأخرى فوجب التقديم بالقرعة، وإن عدم أهل الحضانة من العصبات

(3/167)


والنساء وله أقارب من رجال ذوي الأرحام ومن يدلي بهم ففيه وجهان: أحدهما: أنهم أحق من السلطان لأن لهم رحماً فكانوا أحق من السلطان كالعصبات والثاني: أن السلطان أحق بالحضانة لأنه لا حق لهم مع وجود غيرهم فكان السلطان أحق منهم كما قلنا في الميراث وإن كان للطفل أبوان فثبتت الحضانة للأم فامتنعت منها فقد ذكر أبو سعيد الأصطخري فيه وجهين: أحدهما: أن الحضانة تنتقل إلى أم الأم كما تنتقل إليها بموت الأم أو جنونها أو فسقها أو كفرها والثاني: أنها تكون للأب لأن الأم لم يبطل حقها من الحضانة لأنها لو طالبت بها كانت أحق فلم تنتقل إلى من يدلي بها.
فصل: وإن افترق الزوجان ولهما ولد له سبع سنين أو ثمان سنين وهو مميز وتنازعا كفالته خير بينهما لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت". فأخذ بيد أمه فانطلقت به فإن اختارهما أقرع بينهما لأنه لا يمكن اجتماعهما على كفالته ولا مزية لأحدهما: على الآخر فوجب التقديم بالقرعة وإن لم يختر واحداً منهما أقرع بينهما لأنه لا يمكن تركه وحده ما لم يبلغ لأنه يضيع ولا مزية لأحدهما: على الآخر فوجبت القرعة وإن اختار أحدهما: نظرت فإن كان ابناً فاختار الأم كان عندها بالليل ويأخذه الأب بالنهار ويسلمه في مكتب أو صنعة لأن القصد حظ الولد وحظ الولد فيما ذكرناه وإن اختار الأب كان عنده بالليل والنهار ولا يمنعه من زيارة أمه لأن المنع من ذلك إغراء بالعقوق وقطع الرحم فإن مرض كانت الأم أحق بتمريضه لأنه بالمرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره فكانت الأم أحق به وإن كانت جارية فاختارت أحدهما: كانت عنده بالليل والنهار ولا يمنع الآخر من زيارتها من غير إطالة وتبسط لأن الفرقة بين الزوجين تمنع من تبسط أحدهما: في دار الآخر وإن مرضت كانت الأم أحق بتمريضها في بيتها وإن مرض أحد الأبوين والولد عند الآخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته لما ذكرناه وإن اختار أحدهما: فسلم إليه ثم اختار الآخر حول إليه وإن عاد فاختار الأول أعيد إليه

(3/168)


لأن الاختيار إلى شهوته وقد يشتهي المقام عند أحدهما: في وقت وعند الآخر في وقت فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب وإن لم يكن له أب وله أم وجد خير بينهما لأن الجد كالأب في الحضانة في حق الصغير فكان كالأب في التخيير في الكفالة فإن لم يكن له أب ولا جد فإن قلنا إنه لا حق لغير الآب والجد في الحضانة ترك مع الأم إلى أن يبلغ وإن قلنا بالمنصوص إن الحضانة تثبت للعصبة فإن كانت العصبة محرماً كالعم والأخ وابن الأخ خير بينهم وبين الأم لما روى عامر بن عبد الله قال: خاصم عمي أمي وأراد أن يأخذني فاختصما إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فخيرني على ثلاث مرات فاخترت أمي فدفعني إليها فإن كان العصبة ابن عم فإن كان الولد ابناً خير بينه وبين الأم وإن كانت بنتاً كانت عند الأم إلى أن تبلغ ولا تخير بينهما لأن ابن العم ليس بمحرم لها ولا يجوز أن تسلم إليه.
فصل: وإن افترق الزوجان ولهما ولد فأراد أحدهما: أن يسافر بالولد فإن كان السفر مخوفاً أبو البلد الذي يسافر إليه مخوفاً فالمقيم أحق به فإن كان مميزاً لم يخبر بينهما لأن في السفر تغريراً بالولد وإن كان السفر لا تقصر فيها الصلاة كانا كالمقيمين في حضانة الصغير ويخير المميز بينهما لأنهما يستويان في انتفاء أحكام السفر من القصر والفطر والمسح فصارا كالمقيمين في محلتين في بلد واحد وإن كان السفر لحاجة لا لنقلة كان المقيم أحق بالولد لأنه لا حظ للولد في حمله ورده وإن كان السفر للنقلة إلى موضع يقصر فيه الصلاة من غير خوف فالأب أحق به سواء كان هو المقيم أو المسافر لأن في الكون مع الأم حضانة وفي الكون مع الأب حفظ النسب والتأديب وفي الحضانة يقوم غير الأم مقامها وفي حفظ النسب لا يقوم غير الأب مقامه فكان الأب أحق وإن كان المسافر هو الأب فقالت الأم يسافر لحاجة فأنا أحق وقال الأب أسافر للنقلة فأنا أحق فالقول قول الأب لأنه أعرف بنيته. وبالله التوفيق.

(3/169)