المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الجنايات
باب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه
القتل بغير حق حرام وهو من الكبائر العظام والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا"1. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في قتل مؤمن لعذبهم الله عز وجل إلا أن لا يشاء ذلك" 2.
فصل: ويجب القصاص بجناية العبد وهو أن يقصد الإصابة بما يقتل غالباً فيقتله والدليل عليه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 179 [الآية وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وروى عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الزاني المحصن والمرتد عن دينه وقاتل النفس" 3. ولأنه لولم يجب القصاص أدى ذلك إلى سفك الدماء وهلاك الناس ولا يجب بجناية الخطأ وهو أن يقصد غيره فيصيبه فيقتله لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلا يستحق مع الخطأ ولا يجب في عمد الخطأ وهو أن يقصد الإصابة بما لا يقتل غالباً فيموت منه لأنه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبة القتل كما لا يجب حد الزنا في الوطء الشبهة حيث لم يقصد الزنا.
فصل: ولا يجب القصاص على صبي ولا مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة
__________
1 رواه النسائي في كتاب التحريم باب 2.
2 رواه الترمذي في كتاب الديات باب 8.
3 رواه مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. البخاري في كتاب الديات باب 66. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. أحمد في مسنده 1/382.

(3/170)


عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود والقتل بالكفر وفي السكران طريقان من أصحابنا من قال يجب عليه القصاص قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان وقد بيناه في كتاب الطلاق.
فصل: ويقتل المسلم بالمسلم والذمي بالذمي والحر بالحر والعبد بالعبد والذكر بالذكر والأنثى بالأنثى لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والأنثى بالذكر لأنه إذا قتل كل واحد منهم بمن هو مثله فلأن يقتل بمن هو أفضل منه أولى ويقتل الذكر بالأنثى لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن أن الرجل يقتل بالمرأة ولأن المرأة كالرجل في حد القذف فكانت كالرجل في القصاص.
فصل: ولا يجب القصاص على المسلم بقتل الكافر ولا على الحر بقتل العبد لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر ومن السنة أن لا يقتل حر بعبد فإن جرح ذمي ذمياً ثم أسلم الجاني أو جرح عبد عبداً ثم أعتق الجاني اقتص منه لأنهما متكافئان منه حال الوجوب والاعتبار بحال الوجوب لأن القصاص كالحد والحد يعتبر بحال الوجوب بدليل أنه إذا زنى وهو بكر ثم أحصن أقيم عليه حد البكر ولو زنى وهو عبد ثم أعتق عليه حد العبد فوجب أن يعتبر القصاص أيضاً بحال الوجوب وإن قطع مسلم يد ذمي ثم أسلم ثم مات أو قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم مات لم يجب القصاص لأن التكافؤ معدوم عند وجود الجناية فإن جرح مسلم مسلماً ثم ارتد المجروح ثم أسلم ثم مات فإن أقام في الردة زمانا يسري

(3/171)


الجرح في مثله لم يجب القصاص لأن الجناية في الإسلام توجب القصاص والسراية في الردة تسقط القصاص فغلب الإسقاط كما لو جرح جرحاً عمداً وجرحاً خطأ فإن لم يقم قي الردة زماناً يسري في الجرح ففيه قولان: أحدهما: لا يجب فيه القصاص لأنه أتى عليه زمان لو مات فيه لم يجب القصاص فسقط والثاني: يجب القصاص وهو الصحيح لأن الجناية والموت وجدا في حال الإسلام وزمان الردة لم يسر فيه الجرح فكان وجوده كعدمه وإن قطع يده ثم ارتد ثم مات ففيه قولان: أحدهما: يسقط القصاص في الطرف لأنه تابع للنفس فإذا لم يجب القصاص في النفس لم يجب في الطرف والثاني: وهو الصحيح أنه يجب لأن القصاص في الطرف يجب مستقراً فلا يسقط بسقوطه في النفس والدليل عليه أنه لو قطع طرف إنسان ثم قتله من لا قصاص عليه لم يسقط القصاص في الطرف وإن سقط في النفس.
فصل: وإن قتل مرتد ذمياً ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب القصاص وهو اختيار المزني لأنهما كافران فجرى القصاص بينهما كالذميين والثاني: لا يجب لأن حرمة الإسلام باقية في المرتد بدليل أنه يجب عليه قضاء العبادات ويحرم استرقاقه وإن كانت امرأة لم يجز للذمي نكاحها فلا يجوز قتله بالذمي وإن جرح مسلم ذمياً ثم ارتد الجاني ثم مات المجني عليه لم يجب القصاص قولاً واحداً لأنه عدم التكافؤ في حال الجناية فلم يجب القصاص وإن وجد التكافؤ بعد ذلك كما لو جرح حر عبداً ثم أعتق العبد وإن قتل ذمي مرتداً فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال يجب عليه القصاص إن كان القتل عمداً والدية إن كان خطأ لأن الذمي لا يقتل المرتد تديناً وإنما يقتله عناداً فأشبه إذا قتل مسلماً وقال أبو إسحاق: لا يلزمه قصاص ولا دية وهو الصحيح لأنه مباح الدم فلم يضمن بالقتل كما لو قتله مسلم وقال أبو سعيد الاصطخري إن قتله عمداً وجب القصاص لأنه قتله عناداً وإن قتله خطأ لم تلزمه الدية لأنه لا حرمة له.
فصل: وإن حبس السلطان مرتداً فأسلم وخلاه فقتله مسلم لم يعلم بإسلامه ففيه قولان: أحدهما: لا قصاص عليه لأنه لم يقصد قتل من يكافئه والثاني: يجب عليه القصاص لأن المرتد لا يخلى إلا بعد الإسلام فالظاهر أنه مسلم فوجب القصاص بقتله وإن قتل المسلم الزاني المحصن ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القصاص لأن قتله لغيره فوجب عليه القصاص بقتله كما لو قتل رجل رجلاً فقتله غير ولي الدم والثاني: لا يجب وهو المنصوص لأنه مباح الدم فلا يجب القصاص بقتله كالمرتد.
فصل: ولا يجب القصاص على الأب بقتل ولده ولا على الأم بقتل ولدها لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقاد الأب من ابنه" 1. فإذا ثبت هذا في الأب ثبت في الأم لأنها كالأب في الولادة ولا يجب على الجد وإن علا ولا
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الديات باب 9. الدارمي في كتاب الديات باب 6. أحمد في مسنده 1/16.

(3/172)


على الجدة وإن علت بقتل ولد الولد وإن سفل لمشاركتهم الأب والأم في الولادة وأحكامها وإن ادعى رجلان نسب لقيط ثم قتلاه قبل أن يلحق نسبه بأحدهما: لم يجب القصاص لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون هو الأب وإن رجعا في الدعوى لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق وجب عليهما فلا يقبل رجوعهما فيه بعد الإقرار وإن رجع أحدهما: وجب عليه القصاص لأنه ثبتت الأبوة للآخر ولقطع نسبه من الراجع وإن اشترك رجلان في وطء امرأة وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما وقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما: لم يجب القصاص وإن أنكر أحدهما: النسب لم يقبل إنكاره ولم يجب عليه القصاص لأن بإنكاره لا ينقطع النسب عنه ولا يلحق بالآخر بخلاف المسألة قبلها فإن هناك لحق النسب الآخر وانقطع عن الراجع وإن قتل زوجته وله منها ابن لم يجب عليه القصاص لأنه إذا لم يجب له عليه بجنايته عليه فلا يجب له عليه بجنايته على أمه وإن كان لهما ابنان أحدهما: منه والآخر من غيره لم يجب عليه القصاص لأن القصاص لا تبعض فإذا سقط نصيب ابنه سقط نصيب الآخر كما لو وجب لرجلين على رجل قصاص فعفا أحدهما: عن حقه وإن اشترى المكاتب أباه وعنده عبد فقتل أبوه العبد لم يجز للمكاتب أن يقتص منه لأنه إذا لم يجب له القصاص عليه بجنايته عليه لم يجب بجنايته على عبده.
فصل: ويقتل الابن بالأب لأنه إذا قتل بمن يساويه فلأن يقتل بمن هو أفضل منه أولى وإن جنى المكاتب على أبيه وهو في ملكه ففيه وجهان: أحدهما: لا يقتص منه لأن المولى لا يقتص منه لعبده والثاني: يقتص منه وإليه أومأ الشافعي رحمه الله في بعض كتبه لأن المكاتب ثبت له حق الحرية بالكتابة وأبوه ثبت له حق الحرية بالابن ولهذا لا يملك بيعه فصار كالابن الحر إذا جنى على أبيه الحر.
فصل: وإن قتل مسلم ذمياً أو قتل حر عبداً أو قتل الأب ابنه في المحاربة ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القصاص لما ذكرناه من الأخبار ولأن من لا يقتل بغيره إذا قتله في غير المحاربة لم يقتل به إذا قتله في المحاربة كالمخطئ والثاني: أنه يجب لأن القتل في المحاربة تأكد لحق الله تعالى حتى لا يجوز فيه عفو الولي فلم يعتبر فيه التكافؤ كحد الزنا.
فصل: وتقتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله وهو أن يجني كل واحد منهم جناية لو انفرد بها ومات أضيف القتل إليه ووجب القصاص عليه والدليل عليه ما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سبعة أنفس من أهل صنعاء قتلوا رجلاً وقال: لو تمالأ فيه أهل صنعاء لقتلتهم ولأنا لولم نوجب القصاص عليهم جعل

(3/173)


الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص وسفك الدماء فإن اشترك جماعة في القتل وجناية بعضهم عمداً وجناية البعض خطأ لم يجب القصاص على واحد منهم لأنه لم يتمحض قتل العمد فلم يجب القصاص وإن اشترك الأب والأجنبي في قتل الابن وجب القصاص على الأجنبي لأن مشاركة الأب لم تغير صفة العمد في القتل فلم يسقط القود عن شريكه كمشاركة غير الأب وإن اشترك صبي وبالغ في القتل فإن قلنا عمد الصبي خطأ لم يجب القصاص على البالغ لأن شريكه مخطئ وإن قلنا إن عمده عمد وجب لأن شريكه عامد فهو كشريك الأب وإن جرح رجل نفسه وجرحه آخر أو جرحه سبع وجرحه آخر ومات ففيه قولان: أحدهما: يجب القصاص على الجارح لأنه شاركه في القتل عامداً فوجب عليه القصاص كشريك الأب والثاني: لا يجب لأنه إذا لم يجب على شريك المخطئ وجنايته مضمونة فلأن لا يجب على شريك الجارح نفسه والسبع وجنايتهما غير مضمونة أولى وإن جرحه رجل جراحة وجرحه آخر مائة جراحة وجب القصاص عليهما لأن الجرح له سراية في البدن وقد يموت من جرح واحد ولا يموت من جراحات فلم تمكن إضافة القتل إلى واحد بعينه ولا يمكن إسقاط القصاص فوجب على الجميع وإن قطع أحدهما: يده وجز الآخر رقبته أو قطع حلقومه ومريئه أو شق بطنه فأخرج حشوته فالأول قاطع يجب عليه ما يجب على القاطع والثاني: قاتل لأن الثاني قطع سراية القطع فصار كما لو اندمل الجرح ثم قتله الآخر وإن قطع أحدهما: حلقومه ومريئه أو شق بطنه وأخرج حشوته ثم حز الآخر رقبته فالقاتل هو الأول لأنه لا تبقى بعد جنايته حياة مستقرة وإنما يتحرك حركة مذبوح ولهذا يسقط حكم كلامه في الإقرار والوصية والإسلام والتوبة وإن أجافه جائفة يتحقق الموت منها إلا أن الحياة فيه مستقرة ثم قتله الآخر كان القاتل هو الثاني لأن حكم الحياة باق ولهذا أوصى عمر رضي الله عنه بعد ما سقى اللبن وخرج من الجرح ووقع الأياس منه فعمل بوصيته فجرى مجرى المريض الميؤوس منه إذا قتل وإن جرحه رجل فداوى جرحه بسم غير موح إلا أنه يقتل في الغالب أو خاط جرحه في لحم حي أو خاف التآكل فقطعه فمات ففي وجوب القتل على الجاني طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القتل والثاني: لا يجب لأنه شاركه في

(3/174)


القتل من لا ضمان عليه فكان في قتله قولان كالجارح إذا شاركه المجروح أو السبع في الجرح ومنهم من قال: لا يجب عليه القتل قولاً واحداً لأن المجروح هاهنا لم يقصد الجناية وإنما قصد المداواة فكان فعله عمد خطأ فلم يجب القتل على شريكه والمجروح هناك والسبع قصدا الجناية فوجب القتل على شريكهما وإن كان على رأس مولى عليه سلعة فقطعها وليه أو جرحه رجل فداواه الولي بسم غير موح أو خاط جرحه في لحم حي ومات ففيه قولان: أحدهما: يجب على الولي القصاص لأنه جرح جرحاً مخوفاً فوجب عليه القصاص كما لو فعله غير الولي والثاني: لا قصاص عليه لأنه لم يقصد الجناية وإنما قصد المداواة وله نظر في مداواته فلم يجب عليه القصاص فإن قلنا يجب عليه القصاص وجب على الجارح لأنهما شريكان في القتل وإن قلنا لا قصاص عليه لم يجب على الجارح لأنه شارك من فعله عمد خطأ.

(3/175)


باب ما يجب به القصاص من الجنايات
إذا جرحه بما يقطع الجلد واللحم كالسيف والسكين والسنان أو بما حدد من الخشب والحجر والزجاج وغيرها أو بما له مور وبعد غور كالمسلة والنشاب وما حدد من الخشب والقصب ومات منه وجب عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً وإن غرز فيه إبرة فإن كان في مقتل كالصدر والخاصرة والعين وأصول الأذن فمات منه وجب عليه القود لأن الإصابة بها في المقتل كالإصابة بالسكين والمسلة في الخوف عليه وإن كان في غير مقتل كالإلية والفخذ نظرت فإن بقي منه ضمناً إلى أن مات وجب عليه القود لأن الظاهر أنه مات منه وإن مات في الحال ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب

(3/175)


عليه القود لأنه له غور وسراية في البدن وفي البدن مقاتل خفية والثاني: وهو قول أبي العباس وأبي سعيد الأصطخري أنه يجب لأنه لا يقتل في الغالب فلا يجب به القود كما لو ضربه بمثقل صغير ولأن في المثقل فرقاً بين الصغير والكبير فكذلك في المحدد.
فصل: وإن ضربه بمثقل نظرت فإن كان كبيراً من حديد أو خشب أو حجر فمات منه وجب عليه القود لما روى أنس رضي الله عنه أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين ولأنه يقتل غالبا فلولم يجب فيه القود جعل طريقاً إلى إسقاط القصاص وسفك الدماء وإن قتله بمثقل صغير لا يقتل مثله كالحصاة والقلم فمات لم يجب القود ولا الدية لأنا نعلم أنه لم يمت من ذلك وإن كان بمثقل قد يموت منه وقد لا يموت كالعصا فإن كان في مقتل وفي مريض أوفي صغير أوفي حر شديد أوفي برد شديد أو والى عليه الضرب فمات وجب القود لأن ذلك يقتل غالباً فوجب القود فيه وإن رماه من شاهق أو رمى عليه حائطاً فمات وجب القود فيه لأن ذلك يقتل في الغالب وإن خنقه خنقاً شديداً أو عصر خصيتيه عصراً شديداً أو غمه بمخدة أو وضع يده على فيه ومنعه التنفس إلى أن مات وجب القود لأن ذلك يقتل في الغالب وإن خنقه ثم خلاه وبقي منه متألماً إلى أن مات وجب القود لأنه مات من سراية جنايته فهو كما لو جرحه وتألم منه إلى أن مات إن تنفس وصح ثم مات لم يجب القود لأن الظاهر أنه لم يمت منه فلم يجب القود كما لو جرحه واندمل الجرح ثم مات.
فصل: وإن طرحه في نار أو ماء ولا يمكنه التخلص منه لكثرة الماء أو النار أو لعجزه عن التخلص بالضعف أوبأن كتفه وألقاه فيه ومات وجب القود لأنه يقتل غالباً وإن ألقاه في ماء يمكنه التخلص منه فالتقمه حوت لم يجب القود لأن الذي فعله لا يقتل غالباً وإن كان في لجة لا يتخلص منها فالتقمه حوت قبل أن يصل إلى الماء ففيه قولان: أحدهما: يجب القود لأنه ألقاه في مهلكة فهلك والثاني: لا يجب لأن هلاكه لم يكن بفعله.
فصل: وإن حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها من غير طعام ولا شراب فمات وجب عليه القود لأنه يقتل غالباً وإن أمسكه على رجل ليقتله فقتله وجب القود على القاتل دون الممسك لما روى أبو شريح الخز اعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أعتي

(3/176)


الناس على الله عز وجل من قتل غير قاتله أوطلب بدم الجاهلية في الإسلام أو بصر عينيه في النوم ما لم تبصر". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليقتل القاتل ويصبر الصابر". ولأنه سبب غير ملجئ ضمانه مباشرة فتعلق الضمان دون السبب كما لو حفر بئراً فدفع فيها آخر رجلا فمات.
فصل: وإن كتف رجلا وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع فقتله لم يجب القود لأنه سبب غير ملجئ فصار كمن أمسكه على من يقتله فقتله وإن جمع بينه وبين السبع في زريبة أو بيت صغير ضيق فقتله وجب عليه القود لأن السبع يقتل إذا اجتمع مع الآدمي في موضع ضيق وإن كتفه وتركه في موضع فيه حيات فنهسته فمات لم يجب القود ضيقاً كان المكان أو واسعاً لأن الحية تهرب من الآدمي فلم يكن تركه معها ملجئاً إلى قتله وإن أنهشه سبعاً أو حية يقتل مثلها غالباً فمات وجب عليه القود لأنه ألجأه إلى قتله وإن كانت حية لا يقتل مثلها غالباً ففيه قولان: أحدهما: يجب القود لأن خنس الحيات يقتل غالباً والثاني: لا يجب لأن الذي ألسعه لا يقتل غالباً.
فصل: وإن سقاه سماً مكرهاً فمات وجب عليه القود لأنه يقتل غالباً فهو كما لو جرحه جرحا يقتل غالبا وإن خلطه بطعام وتركه في بيته فدخل فأكله ومات لم يجب عليه القود كما لو حفر بئراً في داره فدخل رجل بغير إذنه فوقع فيها ومات وإن قدمه إليه أو خلطه بطعام فأكله فمات ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القود لأنه أكله باختياره فصار كما لو قتل نفسه بسكين والثاني: يجب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة فأهدت إليه يهودية بخيبر شاة

(3/177)


مصلية فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قال: "ارفعوا أيديكم فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة". فأرسل إلى اليهودية فقال: "ما حملك على ما صنعت". قالت: قلت إن تكن نبياً لم يضرك الذي صنعت وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك فأكل منها بشر بن البراءة بن معرور فمات فأرسل عليها فقتلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أو أن انقطاع أبهري". ولأنه سبب يفضي إلى القتل غالباً فصار كالقتل بالسلاح وإن سقاه سماً وادعى أنه لم يعلم أنه قاتل ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه القود لأن السم يقتل غالباً والثاني: لا يجب لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل وذلك شبهة فسقط بها القود.
فصل: وإن قتله بسحر يقتل غالباً وجب عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً فأشبه إذا قتله بسكين وإن كان مما يقتل ولا يقتل لم يجب القود لأنه عمد خطأ فهو كما لو ضربه بعصاً فمات.
فصل: وإن أكره رجل على قتل رجل بغير حق فقتله وجب القود على المكره لأنه تسبب إلى قتله بمعنى يفضي إلى القتل غالباً فأشبه إذا رماه بسهم فقتله وأما المكره ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القود لأنه قتله للدفع عن نفسه فلم يجب عليه القود كما لو قصده رجل ليقتله فقتله للدفع عن نفسه والثاني: أنه يجب عليه القود وهو الصحيح لأنه قتله ظلماً لاستبقاء نفسه فأشبه إذا اضطر إلى الأكل فقتله ليأكله وإن أمر الإمام بقتل رجل بغير حق فإن كان المأمور لا يعلم أن قتله بغير حق وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص والدية على الإمام لأن المأمور معذور في قتله لأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بالحق وإن كان يعلم أنه يقتله بغير حق وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص أو الدية على المأمور لأنه لا يجوز طاعته فيما لا يحل والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1. وقد روى الشافعي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه" 2. فصار كما لو قتله بغير أمره وإن أمره بعض الرعية بالقتل فقتل وجب على المأمور القود علم أنه يقتله بغير حق أولم
__________
1 رواه أحمد في مسنده 5/66.
2 رواه ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 40. أحمد في مسنده 3/67.

(3/178)


يعلم لأنه لا تلزمه طاعته فليس الظاهر أنه يأمره بحق فلم يكن له عذر في قتله فوجب عليه القود وإن أمر بالقتل صبياً لا يميز أو أعجمياً لا يعلم أن طاعته لا تجوز في القتل بغير حق فقتل وجب القصاص على الآمر لأن المأمور هاهنا كالآلة للآمر ولو أمره بسرقة مال فسرقه لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب إلا بالمباشرة والقصاص يجب بالتسبب والمباشرة.
فصل: وإن شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن شهادتهما وجب القود على الشهود لما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيدكما وأغرمهما دية يده ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالباً فوجب عليهما القود كما لو جرحاه فمات.

(3/179)


باب القصاص في الجروح والأعضاء
يجب القصاص فيما دون النفس من الجروح والأعضاء والدليل قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وروى أنس رضي الله عنه أن الربيع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا وطلبوا العفو فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله أتكسر ثنية الربيعة والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص". قال: فعفا القوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبر قسمه". ولأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوب القصاص.
فصل: ومن لا يقاد بغيره في النفس لا يقاد به فيما دون النفس ومن اقتيد بغيره في النفس اقتيد به فيما دون النفس لأنه لما كان ما دون النفس كالنفس في وجوب القصاص كان كالنفس فيما ذكرناه.
فصل: وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة وجب عليهم القصاص لأنه أحد نوعي القصاص فجاز أن يجب على الجماعة بالجناية ما يجب على واحد كالقصاص في النفس وإن تفرقت جناياتهم بأن قطع واحد بعض العضو وأبانه الآخر لم يجب القصاص على واحد منهما لأن جناية كل واحد منهما في بعض العضو فلا يجوز أن يقتص منه في جميع العضو.

(3/179)


فصل: والقصاص فيما دون النفس شيئين في الجروح وفي الأطراف فأما الجروح فينظر فيها فإن كانت لا تنتهي إلى عظم كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج أو كانت الجناية على عظم ككسر الساعد والعضد والمأمومة والمنقلة لم يجب فيها القصاص لأنه لا تمكن المماثلة فيه ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من الحق فسقط فإن كانت الجناية تنتهي إلى عظم فإن كانت موضحة في الرأس أو للوجه وجب فيها القصاص لأنه تمكن المماثلة فيه ويؤمن أن يستوفى أكثر من حقه وإن كانت فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والساق والفخذ وجب فيها القصاص ومن أصحابنا من قال: لا يجب لأنه لما خالف موضحة الرأس والوجه في تقدير الأرش فخالفهما في وجوب القصاص والمنصوص هو الأول لأنه يمكن استيفاء القصاص فيها من غير حيف لانتهائها إلى العظم فوجب فيها القصاص كالموضحة في الرأس والوجه.
فصل: وإن كانت الجناية موضحة وجب القصاص بقدرها طولاً وعرضاً لقوله عز وجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] والقصاص هو المماثلة ولا تمكن المماثلة في الموضحة إلا بالمساحة في الطول والعرض فإن كانت في الرأس حلق موضعها من رأس الجاني وعلم على القدر المستحق بسواد أو غيره ويقتص منه فإن كانت الموضحة في مقدم الرأس أوفي مؤخره أوفي قزعته وأمكن أن يستوفي قدرها في موضعها من رأس الجاني لم يستوف في غيرها وإن كان قدرها يزيد على مثل موضعها من رأس الجاني استوفى بقدرها وإن جاوز الموضع الذي شجه في مثله لأن الجميع رأس وإن كان قدرها يزيد على رأس الجاني لم يجز أن ينزل إلى الوجه والقفا لأنه قصاص في غير العضو الذي جنى عليه ويجب فيما بقي الأرش لأنه تعذر فيه القصاص فوجب البدل فإن أوضح جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يبتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني لأن الجميع محل للجناية وإن أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره فقد قال بعض أصحابنا: أنه لا يجوز لأنه يأخذ موضحتين بموضحة قال الشيخ الإمام: ويحتمل عندي أنه يجوز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها إلا أن يقول أهل الخبرة إن في ذلك زيادة ضرر أو زيادة شين فيمنع لذلك وإن كانت الموضحة في غير الوجه والرأس وقلنا بالمنصوص أنه يجب فيها القصاص اقتص فيها على ما ذكرناه في الرأس فإن كانت في الساعد فزاد قدرها على ساعد الجاني لم ينزل إلى الكف ولم يصعد إلى العضد وإن كانت في الساق فزادت على

(3/180)


قدر ساق الجاني لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا.
فصل: وإن كانت الجناية هاشمة أو منقلة أو مأمومة فله أن يقتص في الموضحة لأنها داخلة في الجناية ويمكن القصاص فيها ويأخذ الأرش في الباقي لأنه تعذر فيه القصاص فانتقل إلى البدل.
فصل: وأما الأطراف فيجب فيها القصاص في كل ما ينتهي منها إلى مفصل فتؤخذ العين بالعين لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه يمكن المماثلة فيها لانتهائها إلى مفصل فوجب فيها القصاص ولا يجوز أن يأخذ صحيحة بقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة لأنه يأخذ دون حقه وإن أوضح رأسه فذهب ضوء عينه فالمنصوص أنه يجب فيه القصاص وقال فيمن قطع إصبع رجل فتأكل كفه أنه لا قصاص في الكف فنقل أبو إسحاق قوله في الكف إلى العين ولم ينقل قوله في العين إلى الكف فقال في ضوء العين قولان: أحدهما: لا يجب فيه القصاص لأنه سراية فيما دون النفس فلم يجب فيه القصاص كما لو قطع إصبعه فتأكل الكف والثاني: يجب لأنه لا يمكن إتلافه إلا بالمباشرة فوجب القصاص فيه بالسراية كالنفس ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال يجب القصاص في الضوء قولاً واحداً ولا يجب في الكف لأن الكف يمكن إتلافه بالمباشرة فلم يجب القصاص فيه بالسراية بخلاف الضوء.
فصل: ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل فوجب فيه القصاص ويؤخذ جفن البصير بجفن الضرير وجفن الضرير بجفن البصير لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره.
فصل: ويؤخذ الأنف بالأنف لقوله تعالى: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} ولا يجب القصاص إلا في المارن لأنه ينتهي إلى مفصل ويؤخذ الشام بالأخشم والأخشم بالشام لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم الشم نقص في غيره ويؤخذ البعض بالبعض

(3/181)


وهو أن يقدر ما قطعه بالجزء كالنصف والثلث ثم يقتص بالنصف والثلث من مارن الجاني ولا يؤخذ قدره بالمساحة لأنه ربما يكون أنف الجاني صغيراً وأنف المجني عليه كبيراً فإذا اعتبرت المماثلة بالمساحة قطعنا جميع المارن بالبعض وهذا لا يجوز ويؤخذ المنخر بالمنخر والحاجز بين المنخرين بالحاجز لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه بجذام أو انخرام لأنه يأخذ أكثر من حقه فإن قطع من سقط بعض مارنه صحيحاً فللمجني عليه أن يأخذ الموجود فينتقل بالباقي إلى البدل لأنه وجد بعض حقه وعدم البعض فأخذ الموجود وانتقل في الباقي إلى البدل وإن قطع الأنف من أصله اقتص من المارن لأنه داخل في الجناية يمكن القصاص فيه وينتقل في الباقي إلى الحكومة لأنه لا يمكن القصاص فيه فانتقل فيه إلى البدل.
فصل: وتؤخذ الأذن بالأذن لقوله عز وجل: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} ولا يمكن استيفاء القصاص فيه لانتهائه إلى حد فاصل تأخذ أذن السميع بأذن الأصم وأذن الأصم بأذن السميع لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم السمع نقص في غيره ويؤخذ الصحيح بالمثقوب والمثقوب بالصحيح لأن الثقب ليس بنقص وإنما تثقب للزينة ويؤخذ البعض بالبعض على ما ذكرناه في الأنف ولا يؤخذ صحيح بمخروم لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ المخروم بالصحيح ويؤخذ معه من الدية بقدر ما سقط منه لما ذكرناه في الأنف ولا يؤخذ غير المستحشف بالمستحشف وفيه قولان: أحدهما: أنه لا يؤخذ كما لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء والثاني: يؤخذ لأنهما متساويان في المنفعة بخلاف اليد الشلاء فإنها لا تساوي الصحيحة في المنفعة فإن قطع بعض أذنه وألصقه المقطوع فالتصق لم يجب القصاص لأنه لم يمكن المماثلة فيما قطع منه وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة على خده وجب القصاص لأن المماثلة فيه ممكنة بأن يقطع أذنه حتى تصير معلقة على خده وإن أبان أذنه فأخذه المقطوع وألصقه فالتصق لم يسقط القصاص لأن القصاص يجب بالإبانة وما حصل من الالصاق لا حكم له لأنه يجب إزالته ولا تجوز الصلاة معه وإن قطع أذنه فاقتص منه وأخذ الجاني أذنه فألصقه فالتصق لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بقطعه لأنه اقتص منه بالإبانة وما فعله من الإلصاق لا حكم له لأنه يستحق إزالته للصلاة وذلك إلى السلطان وإن قطع أذنه فقطع المجني عليه ببعض أذن الجاني

(3/182)


فألصقه الجاني فالتصق فللمجني عليه أن يعود فيقطعه لأنه يستحق الإبانة ولم يوجد ذلك وإن جنى على رأسه فذهب عقله أو على أنفه فذهب شمه أو على أذنه فذهب سمعه لم يجب القصاص في العقل والشم والسمع لأن هذه المعاني في غير محل الجناية فلم يمكن القصاص فيها.
فصل: وتؤخذ الشفة بالشفة وهو ما بين جلد الذقن والخدين علواً وسفلاً ومن أصحابنا من قال لا يجب فيه القصاص لأنه قطع لحم لا ينتهي إلى عظم فلم يجب فيه القصاص كالباضعة والمتلاحمة والصحيح هو الأول لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه ينتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص.
فصل: ويؤخذ السن بالسن لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ولما رويناه في أول الباب في حديث الربيع بنت النضر بن أنس ولأنه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص ولا يؤخذ سن صحيح بسن مكسور لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ المكسور بالصحيح ويؤخذ معه من الدية بقدر ما انكسر منه لما ذكرناه في الأنف والأذن ويؤخذ الزائد إذا اتفق محلهما لأنهما متساويان وإن قلع سناً زائدة وليس للجاني مثلها وجبت على الحكومة لأنه تعذر المثل فوجب البدل وإن كان له مثلها في غير موضع المقلوع لم يؤخذ كما لا يؤخذ سن أصلي بسن أخرى وإن كسر نصف سنه وأمكن أن يقتص منه نصف سنه اقتص منه فإن لم يمكن وجب بقدره من دية السن وإن وجب له القصاص في السن فاقتص ثم نبت له مكانه سن آخر ففيه قولان: أحدهما: أن النابت هو المقلوع من جهة الحكم لأنه مثله في محله فصار كما لو قلع سن صغير ثم نبت فعلى هذا يجب على المجني عليه دية سن الجاني لأنه قلع سنه بغير سن والقول الثاني أن النابت هبة مجددة لأن الغالب أنه لا يستخلف فعلى هذا وقع القصاص موقعه ولا يجب عليه شيء للجاني وإن قلع سن رجل فاقتص منه ثم نبت للجاني سن في مكان السن الذي اقتص منه فإن قلنا إن النابت هبة مجددة لم يكن للمجني عليه قلعه لأنه استوفى ما كان له وإن قلنا إن النابت هو المقلوع من جهة الحكم فهل يجوز للمجني عليه قلعه فيه وجهان: أحدهما: أن له أن يقلعه ولو نبت ألف مرة لأنه أعدمه السن فاستحق أن يعدم سنه والثاني: ليس له قلعه لأنه يجوز أن يكون هبة مجددة ويجوز أن يكون هو المقلوع فلم يجز قلعه مع الشك.

(3/183)


فصل: ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن له حداً ينتهي إليه فاقتص فيه فلا يؤخذ لسان الناطق بلسان الأخرس لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ لسان الأخرس بلسان الناطق لأنه يأخذ بعض حقه وإن قطع نصف لسانه أو ثلثه اقتص من لسان الجاني في نصفه أو ثلثه وقال أبو إسحاق: لا يقتص منه لأنه لا يأمن أن يجاوز القدر المستحق والمذهب أنه يقتص منه للآية ولأنه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه.
فصل: وتأخذ اليد باليد والرجل بالرجل والأصابع بالأصابع والأنامل بالأنامل لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف فوجب فيها القصاص وإن قطع يده من الكوع اقتص منه لأنه مفصل وإن قطع من نصف الساعد فله أن يقتص من الكوع لأنه داخل في جناية يمكن القصاص فيها ويأخذ الحكومة في الباقي لأنه كسر عظم لا تمكن المماثلة فيه فانتقل فيه إلى البدل وإن قطع من المرفق فله أن يقتص مثله لأنه مفصل وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لم يكن له ذلك لأنه يمكنه أن يستوفي جميع حقه بالقصاص في محل الجناية فلا يجوز أن يأخذ القصاص في غيره وإن قطع يده من نصف العضد فله أن يقتص من المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لأن الجميع مفصل داخل في الجناية ويخالف إذا قطعها من المرفق وأراد أن يقتص من الكوع لأن هناك يمكنه أن يقتص في الجميع في محل الجناية وهاهنا لا يمكنه أن يقتص في موضع الجناية وإن قطع يده من الكتف وقال أهل الخبرة إنه يمكنه أن يقتص منه من غير جائفة اقتص منه لأنه مفصل يمكن القصاص فيه من غير حيف وإن أراد أن يقتص من المرفق أو الكوع لم يجز لأنه يمكنه أن يقتص من محل الجناية فلا يجوز أن يقتص في غيره وإن قال أهل الخبرة إنه يخاف أن يحصل به جائفة لم يجز أن يقتص فيه لأنه لا يأمن أن يأخذ زيادة على حقه وله أن يقتص في المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لما ذكرناه وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها من القدم والركبة والورك وما يجب فيما بينهما من الحكومات حكم اليد وقد بيناه.
فصل: ولا تؤخذ يد صحيحة بيد شلاء ولا رجل صحيحة برجل شلاء لأنه يأخذ

(3/184)


فوق حقه وإن أراد المجني عليه أن يأخذ الشلاء بالصحيحة نظرت فإن قال أهل الخبرة إنه إن قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن وخيف عليه لم يجز أن يقتص منه لأنه يأخذ نفساً بطرف وإن قالوا لا يخاف عليه فله أن يقتص لأنه يأخذ دون حقه فإن طلب مع القصاص الأرش لنقص الشلل لم يكن له لأن الأشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما تنقص عنها في الصفة فلم يؤخذ الأرش للنقص مع القصاص كما لا يأخذ ولي المسلم من الذي مع القصاص أرشاً لنقص الكفر وفي أخذ الأشل بالأشل وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنهما متساويان والثاني: لا يجوز وهو قول أبي إسحاق لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما.
فصل: ولا تؤخذ يد كاملة بيد ناقصة الأصابع فإن قطع من له خمس أصابع كف من له أربع أصابع أو قطع من له ست أصابع كف من له خمس أصابع لم يكن للمجني عليه أن يقتص منه لأنه يأخذ أكثر من حقه وله أن يقطع من أصابع الجاني مثل أصابعه لأنها داخلة في الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها وهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص فيه وجهان: أحدهما: أن يدخل كما يدخل في ديتها والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يدخل بل يأخذ من القصاص الحكومة ما تحتها ولهذا لو قطع أصابعه والدية أن الكف يتبع الأصابع في الدية ولا يتبعها في القصاص ولهذا لو قطع أصابعه وتأكل منها الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الأصابع ولو طلب القصاص قطع الأصابع ويأخذ الحكومة في الكف وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمسة أصابع أو قطع من له خمسة أصابع كف من له ست أصابع فللمجني عليه أن يقتص منه لأنه يأخذ أكثر من حقه وله أن يقطع من أصابع الجاني مثل أصابعه لأنها داخلة في الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها وهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص فيه وجهان: أحدهما: يدخل كما يدخل في ديتها والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يدخل بل يأخذ مع القصاص الحكومة ما تحتها والفرق بين القصاص والدية أن الكف يتبع الأصابع في الدية ولا يتبعها في القصاص ولهذا لو قطع أصابعه وتأكل منها الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الأصابع ولو طلب القصاص قطع الأصابع ويأخذ الحكومة في الكف وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمس أصابع أو قطع من له خمس أصابع كف من له ست أصابع فللمجني عليه أن يقتص من الكف ويأخذ دية الأصابع الخامسة أو الحكومة في الأصبع السادسة لأنه وجد بعض حقه وعدم البعض،

(3/185)


فأخذ الموجود وانتقل في المعدوم إلى البدل كما لو قطع عضوين ووجد أحدهما:.
فصل: ولا يؤخذ أصلي بزائد فإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائد لم يكن للمجني عليه أن يقتص من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه ويجوز أن يقتص من الأصابع الأصلية لأنها داخلة في الجناية ويأخذ الحكومة في الأصبع الزائدة وما تحت الزائدة من الكف يدخل في حكومتها وهل يدخل ما تحت الأصابع التي اقتص منها في قصاصها على الوجهين ويجوز أن يأخذ الزائد بالأصلي فإن قطع من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية فللمجني عليه أن يقتص من الكف لأنه دون حقه ولا شيء له لنقصان الإصبع الزائدة لأن الزائدة كالأصلية في الخلقة وإن كان لكل واحد منهما إصبع زائدة نظرت فإن لم يختلف محلهما أخذ أحدهما: بالأخرى لأنهما متساويان وإن اختلف محلهما لم تؤخذ إحداهما بالأخرى لأنهما مختلفان في أصل الخلقة.
فصل: وإن قطع من له يد صحيحة كف رجل له إصبعان شلا وإن لم يقتص منه في الكف لأنه يأخذ كاملاً بناقص ويجوز أن يقتص في الأصابع الثلاث الصحيحة لأنها مساوية لأصابعه ويأخذ الحكومة في الشلاوين لأنه لا يجد ما يأخذ به ويدخل في حكومة الشلاوين أرش ما تحتهما من الكف وهل يدخل أرش ما تحت الثلاثة في قصاصها على الوجهين.
فصل: ولا تؤخذ يد ذات أظفار بيد لا أظفار لها لأن اليد بلا أظفار ناقصة فلا تؤخذ بها يد كاملة وتؤخذ يد لا أظفار لها بيد لها أظفار لأنه يأخذ بعض حقه.
فصل: فإن قطع أصبع رجل فتأكل منه الكف وجب القصاص في الإصبع لأنه أتلفه بجناية عمد ولا يجب في الكف لأنه لم يتلفه بجناية عمد لأن العمد فيه أن يباشره بالإتلاف ولم يوجد ذلك ويجب عليه دية كل إصبع من الأصابع لأنها تلفت بسبب جنايته ويدخل في دية كل إصبع أرش ما تحته من الكف لأن الكف تابع للأصابع في الدية وهل يدخل ما تحت الأصبع التي اقتص منها في قصاصها على الوجهين.
فصل: وتؤخذ الأليتان وهما الناتئتان بين الظهر والفخذ وقال بعض أصحابنا: لا تؤخذ وهو قول المزني رحمة الله عليه لأنه لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذ والمذهب الأول لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل فوجب فيهما القصاص كالدين.
فصل: ويقطع الذكر بالذكر لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهي إلى حد

(3/186)


فاصل يمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص ويؤخذ بعضه ببعضه وقال أبو إسحاق لا يؤخذ بعضه ببعض كما قال في اللسان والمذهب الأول لأنه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصي لأنه كذكر الفحل في الجماع وعدم الإنزال لمعنى في غيره ويقطع الأغلف بالمختون لأنه يزيد على المختون بجلدة يستحق إزالتها بالختان ولا يؤخذ صحيح بأشل لأن الأشل ناقص الشلل فلا يؤخذ بكامله.
فصل: ويقطع الأنثيان بالأنثيين لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهي إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص فإن قطع إحدى الأنثيين وقال أهل الخبرة إنه أخذها من غير إتلاف الأخرى اقتص منه وإن قالوا إنه يؤدي قطعها إلى إتلاف الأخرى لم يقتص منه لأنه يقتص من أنثيين بواحدة.
فصل: واختلف أصحابنا في الشفريين فمنهم من قال لا قصاص فيهما وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله لأنه لحم وليس له مفصل ينتهي إليه فلم يجب فيه القصاص كلحم الفخذ ومنهم من قال: يجب فيه القصاص وهو المنصوص في الأم لأنهما لحمان محيطان بالفرج من الجانبين يعرف انتهاؤهما فوجب فيهما القصاص.
فصل: وإن قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه وطلب حقه قبل أن يتبين حاله أنه ذكر أو أنثى نظرت فإن طلب القصاص لم يكن له لجواز أن يكون امرأة فلا يجب لها عليه في شيء من ذلك القصاص وإن طلب المال نظرت فإن عفا عن القصاص أعطى أقل حقيه وهو حق امرأة فيعطي دية عن الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين فإن بان أنه امرأة فقد استوفت حقها وإن بان أنه رجل تمم له الباقي من دية الذكر والأنثيين وحكومة عن الشفرين فإن لم يعف عن القصاص وقف القصاص إلى أن يتبين لأنه يجوز أن يكون امرأة فلا يجب عليه القصاص أما المال ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يعطى لأن دفع المال لا يجب مع القود وهو مطالب بالقود فسقطت المطالبة بالمال والوجه الثاني وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يعطي أقل ما يستحق مع القود لأنه يستحق القود في عضو والمال في غيره فلم يكن دفع المال عفواً عن القود فيعطي حكومة في الشفرين ويوقف القود في الذكر والأنثيين وقال القاضي أبو حامد المروروذي في جامعه يعطي دية الشفرين وهذا خطأ لأنه ربما بان أنه رجل فيجب القود في الذكر والأنثيين والحكومة في الشفرين.

(3/187)


فصل: وما وجب فيه القصاص من الأعضاء وجب فيه القصاص وإن اختلف العضوان في الصغر والكبر والطول والقصر والصحة والمرض لأنا لو اعتبرنا المساواة في هذه المعاني سقط القصاص في الأعضاء لأنه لا يكاد أن يتفق العضوان في هذه الصفات فسقط اعتبارها.
فصل: وما انقسم من الأعضاء إلى يمين ويسار كالعين واليد وغيرهما لم تؤخذ اليمين فيه باليسار ولا اليسار باليمين وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالشفة والجفن لم يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى ولا تؤخذ سن بسن غيرها ولا أصبع بأصبع غيرها ولا أنملة بأنملة غيرها لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن فلم يؤخذ بعضها ببعض كالعين بالأنف واليد بالرجل وما لا يؤخذ بعضه ببعض مما ذكرناه لا يؤخذ وإن رضي الجاني والمجني عليه وكذلك ما لا يؤخذ من الأعضاء الكاملة بالأعضاء الناقصة كالعين الصحيحة بالقائمة واليد الصحيحة بالشلاء لا يؤخذ وإن رضي الجاني والمجني عليه بأخذها لأن الدماء لا تستباح بالإباحة.
فصل: وإن جنى على رجل جناية يجب فيها القصاص ثم قتله وجب القصاص فيهما عند الاجتماع كقطع اليد والرجل.
فصل: وإن قتل واحد جماعة أو قطع عضواً من جماعة لم تتداخل حقوقهم لأنها حقوق مقصودة لآدميين فلم تتداخل كالديون فإن قتل أو قطع واحداً بعد واحد اقتص منه الأول لأن له مزية بالسبق وإن سقط حق الأول بالعفو اقتص للثاني وإن سقط حق الثاني اقتص للثالث وعلى هذا وإذا اقتص منه لواحد بعينه تعين حق الباقين في الدية لأنه فاتهم القود بغير رضاهم فانتقل حقهم إلى الدية كما لو مات القاتل أو زال طرفه وإن قتلهم أو قطعهم دفعة واحدة أو أشكل الحال أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة اقتص له لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه فإن خرجت القرعة لواحد فعفا عن حقه أعيدت القرعة للباقين لتساويهم وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو القرعة فبدر غيره واقتص صار مستوفياً لحقه وإن أساء في التقدم على من هو أحق منه كما قلنا قيمن قتل مرتداً بغير إذن الإمام أنه يصير مستوفياً لقتل الردة وإن أساء في الافتيات على الإمام وإن قتل رجل جماعة في المحاربة ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم ما لو قتله في غير المحاربة والثاني: أنه يقتل بالجميع لأن قتل المحاربة لحق الله تعالى ولهذا لا يسقط بالعفو فتداخل كحدود الله تعالى.
فصل: وإن قطع يد رجل وقتل آخر قطع للمقطوع ثم قتل للمقتول تقدم القطع أو

(3/188)


تأخر لأنا إذا قدمنا القتل سقط حق المقطوع وإن قدمنا القطع لم يسقط حق المقتول وإذا أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص لم يجز إسقاط أحدهما: ويخالف إذا قتل اثنين لأنه لا يمكن إبقاء الحقين فقدم السبق وإن قطع إصبعاً من يمين رجل ثم قطع يمين آخر قطع الإصبع للأول ثم قطعت اليد للثاني ويدفع إليه أرش الأصبع ويخالف إذا قطع ثم قتل حيث قلنا إنه يقطع للأول ويقتل للثاني ولا يلزمه لنقصان اليد شيء لأن النفس لا تنقص لنقصان اليد ولهذا يقتل صحيح بمقطوع اليد واليد تنقص بنقصان الأصبع ولهذا لا تقطع اليد الصحيحة بيد ناقصة الأصابع وإن قطع يمين رجل ثم قطع إصبعاً من يد رجل آخر قطعت يمينه للأول لأن حقه سابق ويخالف إذا قتل رجلاً ثم قطع يد آخر حيث أخرنا القتل وإذا كان سابقاً لأن هناك يمكن إبقاء الحقين من غير نقص يدخل على ولي المقتول بقطع اليد وهاهنا يدخل النقص على صاحب اليد بنقصان الإصبع.
فصل: وإن قتل رجلاً وارتد أو قطع يمين رجل وسرق قدم حق الآدمي من القتل والقطع وسقط حق الله تعالى لأن حق الآدمي مبني على التشديد فقدم على حق الله تعالى.

(3/189)


باب استيفاء القصاص
من ورث المال ورث الدية لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر رضي الله عنه يقول: لا ترث المرأة من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن قيس: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع عمر رضي الله عنه عن ذلك ويقضي من الدية دينه وينفذ منها وصيته وقال أبو ثور: لا يقضي منها الدين ولا ينفذ منها الوصية لأنها تجب بعد الموت والمذهب الأول لأنه مال يملكه الوارث من جهة فقضى منه دينه ونفذت منه وصيته كسائر أمواله ومن ورث المال ورث القصاص والدليل عليه ما روى أبو شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقل فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية". وإن قطع مسلم طرف مسلم ثم ارتد ومات في الردة وقلنا بأصح القولين أنه يجب القصاص في طرفه فقد نقل المزني أنه قال: يقتص وليه المسلم وقال المزني رحمه الله لا يقتص غير الإمام لأن المسلم لا يرثه فمن أصحابنا من قال: لا

(3/189)


يقتص غير الإمام كما قال المزني وحمل قول الشافعي رحمة الله عليه على الإمام وقال عامة أصحابنا: يقتص المناسب لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ والذي يتشفى هو المناسب ويجوز أن يثبت القصاص لمن لا يرث شيئاً كما لو قتل من له وارث وعليه دين محيط بالتركة فإن القصاص للوارث وإن لم يرث شيئاً وإن كان الوارث صغيراً أو مجنوناً لم يستوف له الولي لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ وذلك لا يحصل باستيفاء الولي ويحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير أو يعقل المجنون لأن فيه حظاً للقاتل بأن لا يقتل وفيه حظاً للمولى عليه ليحصل له التشفي فإن أقام القاتل كفيلاً ليخلي لم يجز تخليته لأن فيه تغريراً بحق المولى عليه بأن يهرب فيضيع الحق وإن ركب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله ففيه وجهان: أحدهما: أن يصير مستوفياً لحقه كما لو كانت له وديعة عند رجل فأتلفها والثاني: لا يصير مستوفياً لحقه وهو الصحيح لأنه ليس من أهل استيفاء الحقوق ويخالف الوديعة فإنها لو تلفت من غير فعل برئ منها المودع ولو هلك الجاني من غير فعل لم يبرأ من الجناية وإن كان القصاص بين صغير وكبير لم يجز للكبير أن يستوفي وإن كان بين عاقل ومجنون لم يجز للعاقل أن يستوفي لأنه مشترك بينهما فلا يجوز لأحدهما: أن ينفرد به فإن قتل من لا وارث له كان القصاص للمسلمين واستيفاؤه إلى السلطان وإن كان له من يرث منه بعض القصاص كان استيفاؤه إلى الوارث والسلطان ولا يجوز لأحدهما: أن ينفرد به لما ذكرناه.
فصل: وإن قتل رجل وله اثنان من أهل الاستيفاء فبدر أحدهما: وقتل القاتل من غير إذن أخيه ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القصاص وهو الصحيح لأن له في قتله حقاً فلا يجب عليه القصاص بقتله كما لا يجب الحد على أحد الشريكين في وطء الجارية المشتركة والثاني: يجب عليه القصاص لأنه اقتص في أكثر من حقه فوجب عليه القصاص كما لو وجب له القصاص في طرفه فقتله ولأن القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عرى عن الشبهة ولهذا يجب على كل واحد من الشريكين في القتل وإن كان قاتلاً لبعض النفس والنفس والنصف الذي لأخيه لا شبهة فيه فوجب القصاص عليه بقتله وإن عفا أحدهما: عن حقه من القصاص ثم قتله الآخر بعد العلم بالعفو نظرت فإن كان بعد حكم الحاكم بسقوط القود عنه وجب عليه القصاص لأنه لم يبق له شبهة وإن كان قبل حكم الحاكم بسقوط القود عنه فإن قلنا يجب عليه القود إذا قتله قبل العفو فلأن يجب عليه إذا قتله بعد العفو أولى وإن قلنا لا يجب عليه قبل العفو ففيما بعد العفو قولان:

(3/190)


أحدهما: يجب عليه لأنه لا حق له في قتله فصار كما لو عفوا ثم قتله أحدهما: والثاني: لا يجب لأن على مذهب مالك رحمة الله عليه يجب له القود بعد عفو الشريك فيصير ذلك شبهة في سقوط القود فإذا قلنا إنه يجب القصاص على الابن القاتل وجب دية الأب في تركة قاتله نصفها للأخ الذي لم يقتل ونصفها للأخ القاتل ولورثته بعده وإذا قلنا لا يجب القصاص على الابن القاتل وجب عليه نصف دية المقتول لأنه قتله وهو يستحق نصف النفس وللأخ الذي لم يقتل نصف الدية وفيمن يجب عليه قولان: أحدهما: يجب على الابن القاتل لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما فإذا أتلفها أحدهما: لزمه ضمان حق الآخر كما لو كانت لهما وديعة عند رجل فأتلفها أحدهما: فعلى هذا إن أبرأ لابن الذي لم يقتل ورثة قاتل أبيه من نصفه لم يصح إبراؤه لأنه أبرأ من لا حق له عليه وإن أبرأ أخاه صح إبراؤه لأنه أبرأ من عليه الحق والقول الآخر أنه يجب ذلك في تركة قاتل أبيه لأنه قود سقط إلى مال فوجب في تركة القاتل كما لو قتله أجنبي ويخالف الوديعة فإنه لو أتلفها أجنبي وجب حقه عليه والقاتل لو قتله أجنبي لم يجب حقه عليه فعلى هذا لو أبرأ أخاه لم يصح إبراؤه وإن أبرأ ورثة قاتل أبيه صح إبراؤه ولورثة قاتل الأب مطالبة الابن القاتل بنصف الدية لأن ذلك حق لهم عليه فلا يسقط ببراءتهم عن الابن الآخر.
فصل: ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان لأنه يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف مع قصد التشفي فإن استوفاه من غير حضرة السلطان عزره على ذلك ومن أصحابنا من قال: لا يعزر لأنه استوفى حقه والمنصوص أنه يعزر لأنه افتيات على السلطان والمستحب أن يكون بحضرة شاهدين حتى لا ينكر المجني عليه الاستيفاء وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها القصاص فإن كانت كالة منع من الاستيفاء بها لما روى شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" 1. وإن كانت مسمومة منع من الاستيفاء بها لأنه يفسد البدن ويمنع من
__________
1 رواه مسلم في كتاب الصيد 57. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 11. الترمذي في كتاب الديات باب 14. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 3.

(3/191)


غسله فإن عجل واستوفى بآلة كالة أو بآلة مسمومة عزر فإن طلب من له القصاص أن يستوفي بنفسه فإن كان في الطرف لم يمكن منه لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وإن كان في النفس فإن كان يكمل للاستيفاء بالقوة والمعرفة مكن منه لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية" 1. لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ فمكن منه وإن لم يكمل للاستيفاء أمر بالتوكيل فإن يكن من يستوفي بغير عوض استؤجر من خمس المصالح من يستوفي لأن ذلك من المصالح وإن لم يكن خمس أو كان ولكنه يحتاج إليه لما هو أهم منه وجبت الأجرة على الجاني لأن الحق عليه فكانت أجرة الاستيفاء عليه كالبائع في كيل الطعام المبيع فإن قال الجاني أقتص لك بنفسي ولا أؤدي الأجرة لم يجب تمكينه لأن القصاص أن يؤخذ منه مثل ما أخذ ولأن من لزمه إيفاء حق لغيره لم يجز أن يكون هو المستوفي كالبائع في كيل الطعام المبيع فإن كان القصاص لجماعة وهم من أهل الاستيفاء وتشاحوا أقرع بينهم لأنه لا يجوز اجتماعهم على القصاص لأن في ذلك تعذيباً للجاني ولا مزية لبعضهم على بعض فوجب التقديم بالقرعة.
فصل: وإن كان القصاص على امرأة حامل لم يقتص منها حتى تضع لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] وفي قتل الحامل إسراف في القتل لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت إنها زنت وهي حبلى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال له: "أحسن إليها فإذا وضعت فجيء بها". فلما أن وضعت جاء بها فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ لأنه لا يعيش إلا به وإن لم يكن من يرضعه لم يجز قتلها حتى ترضعه حولين كاملين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعامرية: "اذهبي حتى ترضعيه". ولأنه لما أخر القتل لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر لحفظه وهو مولود أولى وإن وجد له مرضعة راتبة جاز أن يقتص لأنه يستغني بها عن الأم وإن وجد مرضعات غير رواتب أو وجدت بهيمة يسقي من لبنها فالمستحب
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الديات باب 4. أحمد في مسنده 6/385.

(3/192)


لولي الدم أن لا يقتصر حتى ترضعه لأن اختلاف اللبن عليه والتربية بلبن البهيمة يفسد طبعه فإن لم يصبر اقتص منها لأن الولد يعيش بالألبان المختلفة وبلبن البهيمة وإن ادعت الحمل قال الشافعي رحمه الله تحبس حتى يتبين أمرها واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخري رحمة الله عليه لا تحبس حتى يشهد أربع نسوة بالحمل لأن القصاص وجب فلا يؤخر بقولها وقال أكثر أصحابنا تحبس بقولها لأن الحمل وما يدل عليه من الدم وغيره يتعذر إقامة البينة عليه فقبل قولها فيه.
فصل: وإن كان القصاص في الطرف فالمستحب أن لا يستوفي إلا بعد استقرار الجناية بالاندمال أو بالسراية إلى النفس لما روى عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة قال: طعن رجل رجلاً بقرن في رجله فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني فقال: "دعه حتى يبرأ" فأعادها عليه مرتين أو ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "حتى يبرأ". فأبى فأقاده منه ثم عرج المستقيد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: برئ صاحبي وعرت رجلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حق لك". فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه فإن استوفى قبل الاندمال جاز للخبر وهل يجوز أخذ الأرش قبل الاندمال فيه قولان: أحدهما: يجوز كما يجوز استيفاء القصاص قبل الاندمال والثاني: لا يجوز لأن الأرش لا يستقر قبل الاندمال لأنه قد يسري إلى النفس ويدخل في دية النفس وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص بخلاف القصاص فإنه لا يسقط بالسراية ولا تؤثر فيه المشاركة فإذا قلنا يجوز ففي القدر الذي يجوز أخذه وجهان: أحدهما: يجوز أخذه بالغاً ما بلغ لأنه قد وجب في الظاهر فجاز أخذه والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يأخذ أقل الأمرين من أرش الجناية أودية النفس لأن ما زاد على دية النفس لا يتيقن استقراره لأنه ربما سقط فعلى هذا إن قطع يديه ورجليه وجب في الظاهر ديتان وربما سرت الجناية إلى النفس فرجع إلى دية فيأخذ دية فإن سرت الجناية إلى النفس فقد أخذ حقه وإن اندملت أخذ دية أخرى.
فصل: وإن قلع سن صغير لم يثغر أوسن كبير قد أثغر وقال أهل الخبرة أنه يرجى أن ينبت إلى مدة لم يقتص منه قبل الإياس من نباته لأنه لا يتحقق الإتلاف فيه قبل الإياس كما لا يتحقق إتلاف الشعر قبل الإياس من نباته فإن مات قبل الإياس لم يجب القصاص لأنه لم يتحقق الإتلاف فلم يقتص مع الشك.

(3/193)


فصل: إذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن السيف أرجى الآلات فإذا قتل به واقتص بغيره أخذ فوق حقه لأن حقه في القتل وقد قتل وعذب فإن أحرقه أو أغرقه أورماه بحجر أورماه من شاهق أو ضربه بخشب أو حبسه ومنعه من الطعام والشراب فمات فللولي أن يقتص بذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ولما روى البراءة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه". ولأن القصاص موضوع على الماثلة والمماثلة ممكنة بهذه الأسباب فجاز أن يستوفي بها القصاص وله أن يقتص منه بالسيف لأنه قد وجب له القتل والتعذيب فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه فجاز فإن قتله بالسحر قتل بالسيف لأن عمل السحر محرم فسقط وبقي القتل فقتل بالسيف وإن قتله باللواط أو بسقي الخمر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه إن قتله بسقي الخمر قتله بقيء الماء وإن قتله باللواط فعل به مثل ما فعله بخشبه لأنه تعذر مثله حقيقة ففعل به ما هو أشبه بفعله والثاني: أنه يقتله بالسيف لأنه قتله بما هو محرم في نفسه فاقتص بالسيف كما لو قتله بالسحر وإن ضرب رجلاً بالسيف فمات فضرب بالسيف فلم يمت كرر عليه الضرب بالسيف لأن قتله مستحق وليس هاهنا ما هو أرجى من السيف فقتل به وإن قتله بمثقل أورماه من شاهق أو منعه من الطعام والشراب مدة ففعل به مثل ذلك فلم يمت ففيه قولان: أحدهما: يكرر عليه ذلك إلى أن يموت كما قلنا في السيف والثاني: أنه يقتل بالسيف لأنه فعل به مثل ما فعل وبقي إزهاق الروح فوجب بالسيف وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قطع كفه أو أوضح رأسه فمات فللولي أن يستوفي القصاص بما جنى فيقطع كفه ويوضح رأسه لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة45] فإن مات به فقد استوفى حقه وإن لم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضواً آخر ولا أن يوضع في موضع آخر لأنه يصير قطع عضوين بعضو وإيضاح موضحتين بموضحة وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص كالجائفة وقطع اليد من الساعد فمات منه ففيه

(3/194)


قولان: أحدهما: يقتل بالسيف ولا يقتص منه في الجائفة ولا في قطع اليد من الساعد لأنه جناية لا يجب فيها القصاص فلا يستوفي بها القصاص كاللواط والثاني: يقتص منه في الجائفة وقطع اليد من الساعد لأنه جهة يجوز القتل بها في غير القصاص فجاز القتل بها في القصاص كالقطع من المفصل وحز الرقبة إن اقتص بالجائفة أو قطع اليد من الساعد فلم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يجاف جائفة أخرى ولا أن يقطع منه عضو آخر فتصير جائفتان وقطع عضوين بعضو.
فصل: وإن أوضح رأسه بالسيف اقتص منه بحديدة ماضية كالموسى ونحوه ولا يقتص منه بالسيف لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم.
فصل: وإن جنى عليه جناية ذهب منها ضوء عينيه نظرت فإن كانت جناية لا يجب فيها القصاص كالهاشمة عولج بما يزيل ضوء العين من كافور يطرح في العين أو حديدة حامية تقرب منها لأنه تعذر استيفاء القصاص فيه بالهاشمة ولا يقلع الحدقة لأنه قصاص في غير محل الجناية فعدل إلى أسهل ما يمكن كما قلنا في القتل باللواط وإن كانت جناية يمكن فيها القصاص كالموضحة اقتص منه فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة وإن لطمه فذهب الضوء فقد قال بعض أصحابنا إنه يلطم كما لطم فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه وإن لم يذهب عولج على ما ذكرناه وقال الشيخ الإمام: ويحتمل عندي أنه لا يقتص منه باللطمة بل يعالج بما يذهب الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة والدليل عليه ما روى يحيى بن جعده أن أعرابياً قدم بجلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه فأبى فرفعهما إلى علي فدعا علي رضي الله عنه بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه ولأن اللطم لا يمكن اعتبار المماثلة فيه ولهذا فهو انفراد من إذهاب الضوء لم يجب فيه القصاص فلا يستوفي به القصاص في الضوء كالهاشمة وإن قلع عين رجل بالأصبع فأراد المجني عليه أن يقتص بالإصبع ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه يأتي على ما تأتي عليه الحديدة مع المماثلة والثاني: لا يجوز لأن الحديد أرجى فلا يجوز بغيره.

(3/195)


فصل: وإن وجب له القصاص بالسيف فضربه فأصاب غير الموضع وادعى أنه أخطأ فإن كان يجوز في مثله الخطأ فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه محتمل وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ لم يقبل قوله ولا يسمع فيه يمينه لأنه يتحمل ما يدعيه وإن أراد أن يعود ويقتص فقد قال في موضع: لا يمكن وقال في موضع يمكن ومن أصحابنا من قال هما قولان: أحدهما: لا يمكن لأنه لا يؤمن في الثاني والثاني: أنه يمكن لأن الحق له والظاهر أنه لا يعود إلى مثله ومن أصحابنا من قال إن كان يحسن مكن لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله ومن أصحابنا من قال إن كان يحسن مكن لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله وإن لم يحسن لم يمكن لأنه لا يؤمن أن يعود إلى مثله وحمل القولين على هذين الحالين وإن وجب له القصاص في موضحة فاستوفى أكثر من حقه أو وجب له القصاص في أنملة فقطع أنملتين فإن كان عامداً وجب عليه القود في الزيادة وإن كان خطأ وجب عليه الأرش كما لو فعل ذلك في غير القصاص وإن استوفى أكثر من حقه باضطراب الجاني لم يلزمه شيء لأنه حصل بفعله فهدر.
فصل: وإن اقتص من الطرف بحديدة مسمومة فمات لم يجب عليه القصاص لأنه تلف من جائز وغير جائز ويجب نصف الدية لأنه هلك من مضمون وغير مضمون فسقط النصف ووجب النصف.
فصل: وإن وجب له القصاص في يمينه فقال أخرج يمينك فأخرج اليسار من كم اليمين فإن قال: تعمدت إخراج اليسار وعلمت أنه لا يجوز قطعها عن اليمين لم يجب على القاطع ضمان لأنه قطعهما ببذله ورضاه وإن قال ظننتها اليمين أو ظننت أنه يجوز قطعها عن اليمين نظرت في المستوفى فإن جهل أنها اليسار لم يجب عليه القصاص لأنه موضع شبهة وهل يجب عليه الدية فيه وجهان: أحدهما: لا تجب عليه لأنه قطعها ببذل صاحبها والثاني: يجب وهو المذهب لأنه بذل على أن يكون عوضاً عن اليمين فإذا لم يصح العوض وتلف المعوض وجب له بدله كما لو اشترى سلعة بعوض فاسد وتلفت عنده فإن علم أنه اليسار وجب عليه ضمانه وفيما يضمن وجهان: أحدهما: وهو قول أبي حفص بن الوكيل أنه يضمن بالقود لأنه تعمد قطع يد محرمة والثاني: وهو المذهب أنه لا يجب القود لأنه قطعها ببذل الجاني ورضاه وتلزمه الدية لأنه قطع يداً لا يستحقها مع العلم به فإن وجب له القود في اليمين فصالحه على اليسار لم يصح الصلح لأن الدماء لا تستباح بالعوض وهل يسقط القصاص في اليمين فيه وجهان: أحدهما: يسقط لأن عدوله إلى اليسار رضاً بترك القصاص في اليمين والثاني: أنه لا يسقط لأنه أخذ اليسار على أن يكون بدلاً عن اليمين ولم يسلم البدل فبقي حقه في المبدل فإذا قلنا لا

(3/196)


يسقط القصاص فله على المقتص دية اليسار وللمقتص عليه القصاص في اليمين وإن قلنا إنه يسقط القصاص فله دية اليمين وعليه دية اليسار وإن كان القصاص على مجنون فقال له المجني عليه أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها وجب عليه القصاص إن كان عالماً أو الدية إن كان جاهلاً لأن بذل المجنون لا يصح فصار كما لو بدأ بقطعه.
فصل: إذا اقتص في الطرف فسرى إلى نفس الجاني فمات لم يجب ضمان السراية لما روي أن عمراً وعلياً رضي الله عنهما قالا في الذي يموت من القصاص: لا دية له وإن جنى على طرف رجل فاقتص منه ثم سرت الجناية إلى نفس الجاني قصاصاً عن سراية الجناية إلى نفس المجني عليه لأنه لما كانت السراية كالمباشرة في إيجاب القصاص كانت كالمباشرة في استيفاء القصاص وإن سرى القصاص إلى نفس الجاني ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه ففيه وجهان: أحدهما: أن السراية قصاص لأنها سراية قصاص فوقعت عن القصاص كما لو سرت الجناية ثم سرى القصاص والثاني: وهو الصحيح أن السراية هدر ولا تكون قصاصاً لأنها سبقت القصاص فلا يجوز أن تكون قصاصاً عما وجب بعدها فعلى هذا يجب تركة الجاني نصف الدية لأنه قد أخذ منه بقدر نصف الدية وبقية النصف.
فصل: من وجب عليه قتل بكفر أوردة أوزنا أو قصاص فالتجأ إلى الحرم قتل ولم يمنع الحرم من قتله والدليل عليه قوله عز وجل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] ولأنه قتل لا يوجب الحرم ضمانه فلم يمنع منه كقتل الحية والعقرب.
فصل: ومن وجب عليه القصاص في النفس فمات عن مال أو وجب عليه قصاص في الطرف فزال الطرف وله مال ثبت حق المجني عليه في الدية لأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما: ثبت الآخر كذوات الأمثال.

(3/197)


باب العفوعن القصاص
ومن وجب عليه القصاص وهو جائز التصرف فله أن يقتص وله أن يعفو على المال لما روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية". فإن عفا مطلقاً بنينا على ما يجب بقتل العمد وفيه قولان: أحدهما: أن موجب قتل العبد القصاص وحده ولا تجب الدية إلا بالاختيار والدليل عليه قوله عز وجل:

(3/197)


{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ولأن ما ضمن بالبدل في حق الآدمي ضمن ببدل معين كالمال والقول الثاني: أن موجبه أحد الأمرين من القصاص أو الدية والدليل عليه أن له أن يختار ما شاء منهما فكان الواجب أحدهما: كالهدي والطعام في جزاء الصيد فإذا قلنا إن الواجب هو القصاص وحده فعفا عن القصاص مطلقاً سقط القصاص ولم تجب الدية لأنه لا يجب له غير القصاص وقد أسقطه بالعفو وإن قلنا إنه يجب أحد الأمرين فعفا عن القصاص وجبت الدية لأن الواجب أحدهما: فإذا ترك أحدهما: وجب الآخر وإن اختار الدية سقط القصاص وثبت المال ولم يكن له أن يرجع إلى القصاص وإن قال اخترت القصاص فهل له أن يرجع إلى الدية فيه وجهان: أحدهما: له أن يرجع لأن القصاص أعلى فجاز أن ينتقل عنه إلى الأدنى والثاني: ليس له أن يرجع إلى الدية لأنه تركها فلم يرجع إليها كالقصاص فإن جنى عمد على رجل جناية توجب القصاص فاشتراه بأرش الجناية سقط القصاص لأن عدوله إلى الشراء اختيار للمال وهل يصح الشراء ينظر فيه فإن كانا لا يعرفان عدد الإبل وأسنانها لم يصح الشراء لأنه بيع مجهول فإن كانا يعرفان العدد والأسنان ففيه قولان: أحدهما: لا يصح الشراء لأن الجهل بالصفة كالجهل بالعدد والسن كما قلنا في السلم والثاني: أنه يصح لأنه مال مستقر في الذمة تصح المطالبة به فجاز البيع به كالعوض في القرض.
فصل: فإن كان القصاص لصغير لم يجز للولي أن يعفو عنه على غير مال لأنه تصرف لا حظ للصغير فيه فلا يملكه الولي كهبة ماله وإن أراد أن يعفو على مال فإن كان له مال أوله من ينفق عليه لم يجز العفو لأنه يفوت عليه القصاص من غير حاجة وإن لم يكن له مال ولا من ينفق عليه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز العفو على مال لحاجته إلى المال ليحفظ به حياته والثاني: لا يجوز وهو المنصوص لأنه يستحق النفقة في بيت المال ولا حاجة به إلى العفو عن القصاص وإن كان المقتول لا وارث له غير المسلمين كان الأمر إلى السلطان فإن رأى القصاص اقتص وإن رأى العفو على مال عفا لأن الحق للمسلمين فوجب على الإمام أن يفعل ما يراه من المصلحة فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز لأنه تصرف لا حظ فيه للمسلمين فلم يملكه.
فصل: وإن كان القصاص لجماعة فعفا بعضهم سقط حق الباقين من القصاص لما روى زيد بن وهب أن عمر رضي الله عنه أتي برجل قتل رجلاً فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت أخت المقتول وهي امرأة القاتل قد عفوت عن حقي فقال عمر رضي الله عنه عتق من القتل وروى قتادة رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه رفع إليه رجل قتل

(3/198)


رجلاً فجاء أولاد المقتول وقد عفا أحدهم فقال عمر لابن مسعود رضي الله عنهما وهو إلى جنبه ما تقول فقال: إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه وقال كنيف ملئ علماً ولأن القصاص مشترك بينهم وهو مما لا يتبعض ومبناه على الإسقاط فإذا أسقط بعضهم حقه سرى إلى الباقي كالعتق في نصيب أحد الشريكين وينتقل حق الباقين إلى الدية لما روى زيد بن وهب قال: دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلاً فقتلها فاستعدى إخوتها عمر فقال بعض إخوتها قد تصدقت بحقي فقضى لسائرهم بالدية ولأنه سقط حق من لم يعف عن القصاص بغير رضاه فثبت له البدل مع وجود المال كما يسقط حق من لم يعتق من الشريكين إلى القيمة.
فصل: وإن وكل من له القصاص من يستوفي له ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو ففيه قولان: أحدهما: لا يصح العفو لأنه عفا في حال لا يقدر الوكيل على تلافي ما وكل فيه فلم يصح العفو كما لو عفا بعد ما رمى الحربة إلى الجاني والثاني: يصح لأنه حق له فلا يفتقر عفوه عنه إلى علم غيره كالإبراء من الدين ولا يجب القصاص على الوكيل لأن قتله وهو جاهل بتحريم القتل وأما الدية فعلى القولين: إن قلنا إن العفو لا يصح لم تجب الدية كما لا تجب إذا عفا عنه بعد القتل وإن قلنا يصح العفو وجبت الدية على الوكيل لأنه قتل محقون الدم ولا يرجع بما غرمه من الدية على الموكل وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه يرجع عليه لأنه غره حين لم يعلمه بالعفو كما قلنا فيمن وطئ أمة غر بحريتها في النكاح وقلنا إن النكاح باطل أنه يلزمه المهر ثم يرجع به على من غره في أحد القولين وهذا خطأ لأن الذي غره في النكاح مسيء مفرط فرجع عليه والموكل ههنا محسن في العفو غير مفرط.
فصل: فإن جنى على رجل جناية فعفا المجني عليه عن القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى النفس فإن كانت الجناية مما يجب فيها القصاص كقطع الكف والقدم لم يجب القصاص في النفس لأن القصاص لا يتبعض فإذا سقط في بالبعض سقط في الجميع وإن كانت الجناية مما لا قصاص فيها كالجائفة ونحوها وجب القصاص في النفس لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يعمل فيه العفو.
فصل: وإن قطع أصبع رجل عمداً فعفا المجني عليه عن القصاص والدية ثم

(3/199)


اندملت سقط القصاص والدية وقال المزني رحمه الله يسقط القصاص ولا تسقط الدية لأنه عفا عن القصاص بعد وجوبه فسقط وعفا عن الدية قبل وجوبها لأن الدية لا تجب إلا بالاندمال والعفو وجد قبله فلم تسقط وهذا خطأ لأن الدية تجب بالجناية والدليل عليه أنه لو جنى على طرف عبده ثم باعه ثم اندمل كان أرش الطرف له دون المشتري فدل على أنه وجب بالجناية وإنما تأخرت المطالبة إلى ما بعد الإندمال فصار كما لو عفا عن دين مؤجل فإن سرت الجناية إلى الكف واندملت سقط القصاص في الأصبع بالعفو ولم يجب في الكف لأنه تلف بالسراية والقصاص فيما دون النفس لا يجب بالسراية وسقطت دية الأصبع لأنه عفا عنها بعد الوجوب ولا يسقط أرش ما تسري إليه لأنه عفا عنه قبل الوجوب وإن سرت الجناية إلى النفس نظرت فإن قال عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها وما يحدث منها سقط القود في الأصبع والنفس لأنه سقط في الأصبع بالعفو بعد الوجوب وسقط في النفس لأنها لا تتبعض وأما الدية فإنه إن كان العفو بلفظ الوصية فهو وصية للقاتل وفيها قولان: فإن قلنا لا تصح وجبت دية النفس وإن قلنا تصح وخرجت من الثلث سقطت وإن خرج بعضها سقط ما خرج منها من الثلث ووجب الباقي وإن كان بغير لفظ الوصية فهل هو وصية في الحكم أم لا فيه قولان: أحدهما: أنه وصية لأنه يعتبر من الثلث والثاني: أنه ليس بوصية لأن الوصية ما تكون بعد الموت وهذا إسقاط في حال الحياة فإذا قلنا إنه وصية فعلى ما ذكرناه من القولين في الوصية للقاتل وإن قلنا إنه ليس بوصية صح العفوعن دية الأصبع لأنه عفا عنها بعد الوجوب ولا يصح عما زاد لأنه عفا قبل الوجوب فيجب عليه دية النفس إلا أرش أصبع وأما إذا قال عفوت عن هذه الجناية قودها وعقلها ولم يقل وما يحدث منها سقط القود في الجميع لما ذكرناه ولا تسقط دية النفس لأنه أبرأ منها قبل الوجوب وأما دية الأصبع فإنه إن كان عفا عنها بلفظ الوصية أو بلفظ العفو وقلنا إنه وصية للقاتل وفيها قولان وإن كان بلفظ العفو وقلنا إنه ليس بوصية فإن خرج من الثلث سقط وإن خرج بعضه سقط منه ما خرج ووجب الباقي لأنه إبراء عما وجب.
فصل: فإن جنى جناية يجب فيها القصاص كقطع اليد فعفا عن القصاص وأخذ نصف الدية ثم عاد فقتله فقد اختلف أصحابنا فيه فذهب أبو سعيد الإصطخري رحمة الله عليه إلى أنه يلزمه القصاص في النفس أو الدية الكاملة إن عفى عن القصاص لأن القتل منفرد عن الجناية فلم يدخل حكمه في وجوب لأجله القصاص أو الدية، ومن

(3/200)


أصحابنا من قال لا يجب القصاص ويجب نصف الدية لأن الجناية والقتل كالجناية الواحدة فإذا سقط القصاص في بعضها سقط في جميعها ويجب نصف الدية لأنه وجب كمال الدية وقد أخذ نصفها وبقي له النصف ومنهم من قال يجب له القصاص في النفس وهو الصحيح لأن القتل انفرد عن الجناية فعفوه عن الجناية لا يوجب سقوط ما لزمه بالقتل ويجب له نصف الدية لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال صار بمنزلة ما لو سرت إلى النفس ولو سرت وجب فيها الدية وقد أخذ النصف وبقي النصف.
فصل: إذا قطع يد رجل فسرى القطع إلى النفس فاقتص في اليد ثم عفى عن النفس على غير مال لم يضمن اليد لأنه قطعها في حال لا يضمنها فأشبه إذا قطع يد مرتد فأسلم ولأن العفو يرجع إلى ما بقي دون ما استوفى كما لو قبض من ديته بعضه ثم أبرأه وإن عفى على مال وجب له نصف الدية لأنه بالعفو صار حقه في الدية وقد أخذ ما يساوي نصف الدية فوجب له النصف فإن قطع يدي رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولي يدي الجاني ثم عفا عن النفس لم يجب له مال لأنه لم يجب له أكثر من دية وقد أخذ ما يساوي دية فلم يجب له شيء وإن قطع نصراني يد مسلم فاقتص منه في الطرف ثم سرى القطع إلى نفس المسلم فللوالي أن يقتله لأنه صارت الجناية نفساً وإن اختار أن يعفو على الدية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عشرة آلاف درهم لأن دية المسلم اثنا عشر ألفاً وقد أخذ ما يساوي ألفي درهم فوجب الباقي والثاني: أنه يجب له نصف ديته وهو ستة آلاف درهم لأنه رضي أن يأخذ يداً ناقصة بيد كاملة ديتها ستة آلاف درهم فوجب الباقي وإن قطع يديه فاقتص منه ثم سرى القطع إلى نفس المسلم فللوالي أن يقتله لأنه صارت الجناية نفساً فإن عفى على الدية أخذ على الوجه الأول ثمانية آلاف درهم لأنه أخذ ما يساوي أربعة آلاف درهم وبقي له ثمانية آلاف درهم وعلى الوجه الثاني لا شيء له لأنه رضي أن يأخذ نفسه بنفسه فيصير كما لو استوفى ديته وإن قطعت امرأة يد رجل فاقتص منها ثم سرى القطع إلى نفس الرجل فلوليه أن يقتلها لما ذكرناه فإن عفا على مال وجب على الوجه الأول تسعة آلاف درهم لأن الذي أخذ يساوي ثلاثة آلاف درهم وبقي تسعة آلاف درهم وعلى الوجه الثاني يجب ستة آلاف لأنه رضي أن يأخذ يدها بيده وذلك بقدر نصف ديته وبقي الصف.

(3/201)