الوسيط في المذهب

= كتاب إحْيَاء الْموَات = وَفِيه ثَلَاثَة أَبْوَاب

(4/215)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الأول فِي تملك الْأَرَاضِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه فصلان
الأول فِيمَا يملك من الْأَرَاضِي بِالْإِحْيَاءِ وَهِي الْموَات
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ
والموات هى الأَرْض المنفكة عَن الاختصاصات
والاختصاصات سِتَّة أَنْوَاع

النَّوْع الأول الْعِمَارَة
فَكل أَرض معمورة فَهِيَ محياة فَلَا تتملك بِالْإِحْيَاءِ سَوَاء كَانَ ذَلِك من دَار الْإِسْلَام أَو دَار الْحَرْب
وَإِن اندرست الْعِمَارَة وَبَقِي أَثَرهَا فَإِن كَانَ من عمَارَة الْإِسْلَام فَلَا تملك لِأَنَّهُ موروث عَمَّن ملكه فينتظر صَاحبه أَو يحفظ لبيت المَال ويتصرف الإِمَام فِيهِ

(4/217)


كَمَا يتَصَرَّف فِي مَال ضائع لَا يتَعَيَّن مَالِكه
وَإِن كَانَ من عمارات الْجَاهِلِيَّة وَعلم وَجه دُخُولهَا فِي يَد الْمُسلمين إِمَّا بطرِيق الاغتنام أَو الفئ استصحب ذَلِك الحكم وَلم تتملك بِالْإِحْيَاءِ وَإِن وَقع الْيَأْس عَن مَعْرفَته فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا يتَمَلَّك إِذْ لَا حُرْمَة لعمارة الْكفَّار فَصَارَ كركازهم
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ دخل فِي يَد أهل الْإِسْلَام فَالْأَصْل سبق ملك عَلَيْهِ وَأما الرِّكَاز فَحكمه حكم لقطَة معرضة للضياع
هَذَا حكم دَار الْإِسْلَام أما دَار الْحَرْب فمعمورها كَسَائِر أَمْوَالهم يملك بالاغتنام
وَأما مواتها فَمَا لَا يدْفَعُونَ الْمُسلمين عَنْهَا فَهُوَ كموات دَار الْإِسْلَام يتَمَلَّك بِالْإِحْيَاءِ ويفارقها فِي أَمر وَهُوَ أَن الْكَافِر لَو أَحْيَاهَا ملكهَا
وَلَو أَحْيَا موَات دَار الْإِسْلَام لم يملكهَا عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن لأهل الْإِسْلَام اختصاصا بِحكم الْإِضَافَة إِلَى الدَّار

(4/218)


أما مَا يدْفَعُونَ الْمُسلمين عَنهُ فَلَو أَحْيَاهَا مُسلم وَقدر على الْإِقَامَة ملكه وَإِن استولى عَلَيْهَا بعض الْغَانِمين وقصدوا الِاخْتِصَاص بهَا فَثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا انه يفيدهم الِاخْتِصَاص بِالِاسْتِيلَاءِ مَا يُفِيد التحجر كَمَا سَيَأْتِي
وَالثَّانِي أَنه يفيدهم الْملك فِي الْحَال لِأَن مَال الْكفَّار يملك بِالِاسْتِيلَاءِ
وَالثَّالِث أَنه لَا يُفِيد الْملك لِأَنَّهُ لَيْسَ ملك الْكفَّار وَإِنَّمَا هُوَ موَات وَلَا اخْتِصَاص لِأَنَّهُ لَا يحْجر وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد يَد فَهُوَ كمجرد الِاسْتِيلَاء على موَات دَار الْإِسْلَام

النَّوْع الثَّانِي من الِاخْتِصَاص أَن يكون حَرِيم عمَارَة
فَيخْتَص بِهِ صَاحب الْعِمَارَة وَلَا يملك بِالْإِحْيَاءِ
فَإِن قيل وَمَا حد الْحَرِيم
قُلْنَا أما الْبَلدة الَّتِى قَررنَا الْكفَّار عَلَيْهَا بالمصالحة فَلَمَّا حواليها من الْموَات الَّتِى يدْفَعُونَ الْمُسلمين عَنْهَا لَا تحيا وَفَاء بِالصُّلْحِ فَإِنَّهَا حَرِيم الْبَلدة
وَأما الْقرْيَة المعمورة فِي الْإِسْلَام فَمَا يتَّصل بهَا من مرتكض الْخَيل وملعب الصّبيان ومناخ الْإِبِل ومجتمع النادي فَهُوَ حريمها فَلَيْسَ لغَيرهم إحياؤها
وَمَا ينتشر إِلَيْهِ الْبَهَائِم للرعي فِي وَقت الْخَوْف وَهُوَ على قرب الْقرْيَة فِيهِ تردد
أما الدَّار فحريمها إِذا كَانَت محفوفة بالموات مطرح التُّرَاب والثلج

(4/219)


ومصب مَاء الْمِيزَاب وفناء الدَّار وَحقّ الاجتياز فِي جِهَة فتح الْبَاب
وَإِن كَانَت محفوفة بالأملاك فَلَا حَرِيم لَهَا لِأَن الْأَمْلَاك متعارضة فَلَيْسَ بعضهما بِأَن يَجْعَل حريما لَهَا أولى من الآخر وَلكُل وَاحِد أَن ينْتَفع فِي ملكه بِمَا جرت بِهِ الْعَادة
وَإِن تضرر بِهِ صَاحبه فَلَا يمْنَع إِلَّا إِذا كَانَت الْعَادة السّكُون
وَلَو اتخذ أَحدهمَا دَاره مدبغة أَو حَماما أَو حَانُوت قصار أَو حداد
قَالَ المراوزة يمْنَع نظرا إِلَى الْعَادة الْقَدِيمَة
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ إِذا أحكم الجدران واحتاط على الْعَادة لَا يمْنَع
وَتردد الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد فِيمَا إِذا كَانَ يُؤْذِي بِدُخَان الْخبز وَجعله مخبزا على خلاف الْعَادة لِأَن هَذَا إِيذَاء الْمَالِك لَا إِيذَاء الْملك وَحَاصِله وَلَا يمْنَع لَا تمنع وَمَعَ

(4/220)


أما الْبِئْر فَإِن حفرهَا فِي الْموَات للنزح فموقف النازح حواليها حريمها وَإِن كَانَ النزح بالدواب فموضع تردد الدَّوَابّ وعَلى الْجُمْلَة مَا يتم الِانْتِفَاع
وَلَو حفر آخر بِئْرا بجنبه بِحَيْثُ ينقص مَاؤُهَا لم يجز بل حريمها الْقدر الذى يصون ماءها وَكَأَنَّهُ اسْتحق بِالْحفرِ
وَفِي طَريقَة الْعرَاق الْقطع بِأَنَّهُ يجوز
وَالْأول أظهر فَإِنَّهُ لَو أَحْيَا دَارا فِي موَات فَلَيْسَ لآخر أَن يحْفر بِجنب جِدَاره بِئْرا يتَوَهَّم الْإِضْرَار بجداره وَإِن كَانَ ذَلِك يجوز للْجَار الْمَالِك وَلَكِن وضع الْبناء فِي الْموَات أوجب حريما لصيانة الْملك فَكَذَلِك لصيانة مَاء الْبِئْر

النَّوْع الثَّالِث اخْتِصَاص الْمُسلمين بِعَرَفَة لأجل الْوُقُوف
وَفِي امْتنَاع إحْيَاء عَرَفَة بِهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا لَا يمْتَنع إِذْ لَا تضييق بِهِ
وَالثَّانِي يمْتَنع إِذْ فتح بَابه يُؤَدِّي إِلَى التَّضْيِيق

(4/221)


وَالثَّالِث يجوز وَإِن ضيق ثمَّ يبْقى فِي الدّور حق الْوُقُوف
النَّوْع الرَّابِع اخْتِصَاص المتحجر

وَمن تقدم إِلَى مَوضِع وَنصب حِجَارَة وعلامات للعمارة اخْتصَّ بِهِ بِحَق السَّبق بِشَرْط أَن يشْتَغل بالعمارة
فَلَو تحجر ليعمر فِي السّنة الثَّانِيَة لم يجز وَمهما جَازَ التحجر وَمنع غَيره من الْإِحْيَاء فَإِن أَحْيَا فَهَل يملك ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا نعم لِأَنَّهُ سَبَب قوي والتحجر ضَعِيف فَكَانَ كَالْبيع سوما على سوم غَيره
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ اخْتِصَاص مُؤَكد
وَالثَّالِث أَن التحجر إِن كَانَ مَعَ الإقطاع منع وَإِلَّا فَلَا
وَهل يجوز للمتحجر بيع حَقه من الِاخْتِصَاص والاعتياض عَنهُ فعلى وَجْهَيْن
أَحدهمَا يجوز كالملك

(4/222)


وَالثَّانِي لَا كحق الشُّفْعَة وَحقّ الرَّهْن
النَّوْع الْخَامِس من الِاخْتِصَاص الإقطاع

وَيجوز للْإِمَام أَن يقطع مواتا على قدر مَا يقدر المقطع على عِمَارَته وَينزل الإقطاع منزلَة التحجر فِي الِاخْتِصَاص
النَّوْع السَّادِس الْحمى

وَهُوَ كَانَ جَائِزا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أَن يحمي الْكلأ ببقعة لإبل الصَّدَقَة
وَكَانَ يجوز لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يحمي لنَفسِهِ وللمسلمين
وَهل يجوز للْإِمَام بعده فِيهِ خلاف
وَالصَّحِيح الْجَوَاز إِذْ حمى عمر رَضِي الله عَنهُ لإبل الْمُسلمين

(4/223)


وَلَكِن لَا يجوز أَن يحمى الإِمَام لنَفسِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك خاصية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا صَحَّ الْحمى فإحياؤه كالإحياء بعد التحجر

فرع
مَا حماه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحَاجَة أَو حماه غَيره فَزَالَتْ الْحَاجة فَهَل لأحد بعد ذَلِك نقضه فِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا لَا لِأَنَّهَا بقْعَة أرصدت لخير فَأشبه الْمَسْجِد
وَالثَّانِي نعم لِأَنَّهُ بني على مصلحَة حَالية ظنية
وَالثَّالِث أَن حمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يُغير وَهُوَ حماه بِالبَقِيعِ وَهُوَ بلد لَيْسَ بالواسع لِأَن حماه كالنص وَحمى غَيره كالاجتهاد

(4/224)


الْفَصْل الثَّانِي فِي كَيْفيَّة الْإِحْيَاء

وَالرُّجُوع فِي حَده إِلَى الْعرف وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف الْغَرَض فَإِن أَحْيَا بقْعَة للزريبة فيكفيه التحويط وتغليق الْبَاب وَلَا يملك قبله إِذْ بِهِ تصير زريبة
وَإِن أَرَادَ السّكُون فبالبناء وتسقيف الْبَعْض إِذْ بِهِ يتهيأ للسكون
وَإِن أَرَادَ بستانا فبسوق المَاء إِلَيْهِ وتسوية الْأَنْهَار والتحويط وتغليق الْبَاب
وَإِن كَانَ من البطائح فَيحْبس المَاء عَنهُ فَإِنَّهُ الْعَادة
وَإِن أَرَادَ مزرعة فيقلب الأَرْض ويسويها وَيجمع حواليها التُّرَاب ويسوق إِلَيْهَا المَاء وَهل يفْتَقر إِلَى الزِّرَاعَة ليملك فِيهِ وَجْهَان
ظَاهر مَا نَقله الْمُزنِيّ أَنه يشْتَرط كالتسقيف فِي الْبناء
وَالثَّانِي لَا لِأَن هَذَا انْتِفَاع ووزانه من الدَّار السّكُون وَلَا يحْتَاج إِلَى بِنَاء الْجِدَار للمزرعة

(4/225)


قَالَ إمامي رَضِي الله عَنهُ يحْتَمل أَن يُقَال مَا تملك بِهِ الأَرْض إِذا قصد الزِّرَاعَة فَيملك أَيْضا وَإِن قصد الْبُسْتَان وَمَا تملك بِهِ الزريبة يملك بِهِ الْمسكن وَإِن الْقَصْد لَا يُغير أمره
وَمن أَحْيَا أَرضًا ميتَة بِغَيْر إِذن الإِمَام ملكهَا عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله

(4/226)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّانِي فِي الْمَنَافِع الْمُشْتَركَة فِي الْبِقَاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَهِي كالشوارع والمساجد والرباطات والمدارس فَإِن هَذِه الأرضي لَا تملك أصلا إِذا ثَبت فِي كل وَاحِد مِنْهَا نوع اخْتِصَاص
فالشوارع للاستطراق وَهُوَ مُسْتَحقّ لكافة الْخلق فِي الصَّحَارِي والبلاد
نعم يجوز الْجُلُوس فِيهَا بِشَرْط أَن لَا يضيق الطَّرِيق على المجتازين
وَمن سبق إِلَى مَوضِع فَجَلَسَ فِيهِ إِن لم يجلس لغَرَض فَكَمَا قَامَ انْقَطع حَقه
وَإِن جلس لبيع كالمقاعد فِي الْأَسْوَاق اخْتصَّ السَّابِق بِهِ وَلَو انْصَرف إِلَى بَيته لَيْلًا وتخلف بِعُذْر يَوْمًا ويومين وَلم يَنْقَطِع اخْتِصَاصه إِذْ ألافه فِي الْمُعَامَلَة لَا ينقطعون بِهَذَا الْقدر
وَلَو طَال سَفَره أَو مَرضه أَو جلس فِي مَوضِع آخر أَو غير ذَلِك مِمَّا يقطع ألافه عَن مَكَانَهُ فَيَنْقَطِع بِهِ اخْتِصَاصه
وَلَو جلس فِي غيبته فِي الْمدَّة القصيرة من عزم على التَّسْلِيم لَهُ إِذا عَاد فقد قيل إِنَّه يمْنَع إِذْ يتخيل بِهِ ألافه تَركه الحرفة
وَقيل إِنَّه لَا يمْنَع لِأَن الْموضع فارغ فِي الْحَال فَلَا يعطل منفعَته وَلَا يحْتَاج إِلَى إِذن الإِمَام فِي هَذَا الِاخْتِصَاص

(4/227)


وَهل للإقطاع فِيهِ مدْخل كَمَا فِي الْموَات فعلى وَجْهَيْن
وَالْفرق أَنه إِذا كَانَ لَا يَبْغِي بِهِ ملكا فَلَا وزن لَهُ كالسبق فِي الْمَسَاجِد
وَأما الْمَسَاجِد فَمن سبق إِلَى مَوضِع للصَّلَاة لَا يثبت لَهُ حق الِاخْتِصَاص فِي صَلَاة أُخْرَى إِذْ لَا غَرَض فِيهِ
وَلَو غَابَ فِي صَلَاة وَاحِدَة بِعُذْر رُعَاف أَو ريح أَو تَجْدِيد وضوء فِي متسع الْوَقْت وَعَاد فَفِي بَقَاء اخْتِصَاصه وَجْهَان
وَوجه الْبَقَاء قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
إِذا قَامَ أحدكُم من مَجْلِسه فِي الْمَسْجِد فَهُوَ أَحَق بِهِ إِذا عَاد إِلَيْهِ
وَإِن جلس ليقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن أَو يتَعَلَّم مِنْهُ الْعلم وألفه أَصْحَابه ثمَّ فَارقه

(4/228)


فَهَذَا يظْهر إِلْحَاقه بمقاعد الْأَسْوَاق
وَأما الرباطات والمدارس فَالسَّابِق إِلَى بَيت أولى بِهِ
وَإِن غَابَ بِعُذْر فَإِذا عَاد فَهُوَ أولى بِهِ لوُقُوع الإلف بِوَجْه الارتفاق بالبقعة بِخِلَاف الْمَسَاجِد
وَلَو طَال مقَام وَاحِد إِن كَانَ لَهُ غَرَض كَمَا فِي الْمدَارِس فَلَا يزعج إِلَى تَمام الْغَرَض
وَإِن لم يكن للغرض مرد كرباط الصُّوفِيَّة فَفِي إزعاجه وَجْهَان
وَوجه الْجَوَاز أَنه يُؤَدِّي إِلَى أَن يتَمَلَّك الرِّبَاط وَيبْطل الِاشْتِرَاك مِنْهُ فيتقدم إِلَيْهِمَا جمَاعَة ويقيمون فِيهَا على الدَّوَام وَإِن جَوَّزنَا ذَلِك فَالرَّأْي فِي تَفْصِيل مُدَّة الْإِقَامَة إِلَى الْمُتَوَلِي وَهُوَ جَار فِي العكوف على الْمَعَادِن ومقاعد الْأَسْوَاق

(4/229)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّالِث فِي الْأَعْيَان المستفادة من الأَرْض كالمعادن والمياه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما الْمَعَادِن فظاهرة وباطنة
أما الظَّاهِرَة كالملح المائي والجبلي والنفظ والمومياء والمياه الْعدة فِي الأودية والعيون وأحجار الأرجبة والقدور وكل مَا الْعَمَل فِي تَحْصِيله لَا فِي إِظْهَاره فَهَذَا لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ اخْتِصَاص لَا يتحجر وَلَا يملك بإحياء وَلَا إقطاع لما رُوِيَ أَن أَبيض ابْن حمال المأربي استقطع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ملح مأرب فهم بإقطاعه فَقيل لَهُ يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَالْمَاءِ الْعد فَقَالَ فَلَا إِذا
فَلَو سبق وَاحِد وحوط مثل هَذَا الْمَعْدن وَبنى وَزعم أَنه أَرَادَ مسكنا فَالظَّاهِر أَنه لَا يملكهُ فَإِنَّهُ احتيال إِذْ لَا يقْصد من هَذِه الْبقْعَة الْمسكن

(4/230)


نعم لكل سَابق أَن يَأْخُذ قدر حَاجته لَا يزعج قبل قَضَاء وطره إِلَّا إِذا طَال عكوفه فَفِيهِ الْخلاف السَّابِق
فَلَو تسابق رجلَانِ فتزاحما قيل إِنَّه يقرع بَينهمَا
وَقيل للْقَاضِي أَن يقدم مِنْهُمَا من يرَاهُ أحْوج وَهُوَ جَار فِي مقاعد الْأَسْوَاق

فرع
لَو حفر بِجنب المملحة حفيرة يملك تِلْكَ الحفيرة
فَلَو اجْتمع فِيهَا مَاء وانعقد ملحا فَهُوَ مَخْصُوص بِهِ وَكَأَنَّهُ أَخذه بِيَدِهِ وَوَضعه فِي ظرف مَمْلُوك لَهُ
أما الْمَعَادِن الباطانه فَهِيَ الَّتِى تظهر بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا كالذهب وَالْفِضَّة والفيروزج وَمَا هُوَ مثبوت فِي طَبَقَات الأَرْض فَفِي تملك ذَلِك بإحيائه بالإظهار بِالْعَمَلِ أَو بعمارة أُخْرَى قَولَانِ
أَحدهمَا نعم لِأَن إحياءه إِظْهَار فَهُوَ كعمارة الْموَات
وَالثَّانِي لَا إِذْ تبقى حَيَاة الْعِمَارَة بِالْبِنَاءِ وَهَذَا يحْتَاج إِلَى عمل فِي كل سَاعَة لينْتَفع بِهِ
التَّفْرِيع إِن قُلْنَا يملك فَهُوَ كالموات على مَا سبق وَفِيه فروع
الأول لَو حفر حفيرة وَظهر النّيل فِي طرفها لَا يقصر ملكه على مَحل

(4/231)


النّيل بل مَا حواليه على مَا يَلِيق بحريمه فَلَو بَاعَ الأَرْض فَالظَّاهِر الْمَنْع إِذْ الرَّغْبَة فِيهِ بالنيل وَهُوَ غرر
وَالثَّانِي الْجَوَاز تعويلا على الرَّقَبَة والنيل كدر الشَّاة وَثَمَرَة الشَّجَرَة
وَلَو جمع تُرَاب الْمَعْدن وَفِيه الذَّهَب لم يجز البيع لِأَن التُّرَاب لَا يقْصد بِخِلَاف الرَّقَبَة
الثَّانِي لَو قَالَ لغيره اعْمَلْ وكل النّيل لَك
فَإِن اسْتعْمل صِيغَة الْإِجَارَة فَالظَّاهِر أَنه يسْتَحق أُجْرَة الْمثل لِأَنَّهُ إِجَارَة فَاسِدَة إِذْ النّيل يكون للْمَالِك وَلَا يصلح أَن يَجْعَل أُجْرَة
وَإِن قَالَ أَذِنت لَك أَن تعْمل لنَفسك كَانَ النّيل للْمَالِك وَلم يسْتَحق الْأُجْرَة على الظَّاهِر
وَفِيه عَن ابْن سُرَيج وَجه أَنه يسْتَحق كَمَا لَو شَرط فِي الْمُضَاربَة كل الرِّبْح لِلْعَامِلِ
وَإِن قَالَ اعْمَلْ وَلَك النّيل فَوَجْهَانِ مشهوران لتردده بَين صِيغَة الْإِذْن وَالْإِجَارَة
أما إِذا قَالَ اعْمَلْ على أَن لَك نصف النّيل فَيسْتَحق أُجْرَة الْمثل هَاهُنَا إِذْ وجد قصد الْعَمَل لغيره

(4/232)


وَلَكِن قيل إِنَّه يسْتَحق أُجْرَة نصف الْعَمَل لِأَنَّهُ قصد غَيره بِالنِّصْفِ وَقيل إِنَّه يسْتَحق أُجْرَة نصف الْعَمَل للْكُلّ
أما إِذا فرعنا على أَنه لَا يملك الْمَعَادِن بالإظهار
فَلَو أَحْيَا مواتا بِالْبِنَاءِ ثمَّ ظهر بعد ذَلِك مَعْدن فَلَا خلاف فِي أَنه ملكه
فَإِنَّهُ من أَجزَاء الأَرْض الْمَمْلُوكَة إِلَى تخوم الْأَرْضين
وعَلى قولي الْملك يَنْبَنِي جَوَاز الإقطاع فَإِن قُلْنَا يملك بالإظهار تطرق إِلَيْهِ الإقطاع كالموات وَإِلَّا فَلَا كالمعادن الظَّاهِرَة
أما الْمِيَاه فَهِيَ ثَلَاثَة أَقسَام

الأول الْمِيَاه الْعَامَّة المنفكة عَن كل اخْتِصَاص وَهِي الَّتِى لم تظهر بِالْعَمَلِ وَلَا حفر نهرها كدجلة والفرات وَسَائِر أَوديَة الْعَالم فَحكمه أَن من سبق إِلَيْهِ واقتطع مِنْهُ ساقية إِلَى أرضه وانتفع بِهِ جَازَ
فَإِن تنَازعا وَجب على الْأَسْفَل الصَّبْر إِلَى أَن يسرح إِلَيْهِ الْأَعْلَى فضل مَائه فقد ورد فِيهِ الحَدِيث

(4/233)


فَإِن استوعب جمَاعَة المَاء بأراضيهم المحياة
فَمن سفل مِنْهُم لَاحق لَهُ إِلَّا بتبرعهم بالتسريح إِلَيْهِ فَإِذا سقى كل وَاحِد أرضه إِلَى الكعب كَانَت الزِّيَادَة مَمْنُوعَة لِأَنَّهُ فَوق الْحَاجة كَذَلِك ورد الحَدِيث
فَإِن أَرَادَ وَاحِد أَن يَعْلُو عَلَيْهِم وَيحبس عَنْهُم المَاء إِلَى أَرض يستجد إحياؤها منع لأَنهم بِالْإِحْيَاءِ على شاطئ النَّهر استحقوا مرافق الأَرْض وَالْمَاء من مرافقها وَلَو فتح هَذَا الْبَاب لأبطل سَعْيهمْ فِي الْإِحْيَاء وفاتت أملاكهم فَهِيَ كالحريم الْمُسْتَحق بالعمارة
الْقسم الثَّانِي الْمِيَاه الْمُخْتَص بِالْملكِ بالإحراز فِي الْأَوَانِي والروايا فَهُوَ كَسَائِر الْأَمْلَاك لَا يجب بذله لأحد وَلَا لمضطر إِلَّا بِقِيمَة وَالْمَاء مَمْلُوك على الْأَظْهر وَبيعه صَحِيح
الْقسم الثَّالِث متوسط بَين الرتبتين وَهُوَ مَا ظهر اخْتِصَاص بِمَنْعه كالمياه فِي الْآبَار والقنوات وَلها صُورَتَانِ
إِحْدَاهمَا أَن يحْفر المنتجع حُفْرَة ليسقى بهَا مَا شيته وَلم يقْصد ملك الحفرة فَهُوَ أَحَق بذلك المَاء
فَإِن فضل عَن حَاجته ومست إِلَيْهِ حَاجَة مَاشِيَة غَيره حرم عَلَيْهِ الْمَنْع لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(4/234)


من منع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ مَنعه الله فضل رَحمته
وَالْمعْنَى أَنه يمْتَنع عَن مَاشِيَة غَيره بِسَبَب منع المَاء
وَهَذَا مَخْصُوص بالماشية وَلَا يجْرِي فِي الزَّرْع وَإِنَّمَا هُوَ لحُرْمَة الرّوح وَلَا يجْرِي فِي الْكلأ فِي الْحَال لَا يسْتَخْلف فقد يتَضَرَّر بِهِ وَالْمَاء يسْتَخْلف
وَلَا يجْرِي فِي الدَّلْو والرشاء فَلَا يجب إعارته إِلَّا بعوض لِأَن الْملك فِيهِ ثَابت بِخِلَاف المَاء إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حق سبق بِهِ
الصُّورَة الثَّانِيَة أَن يقْصد ملك الْبِئْر
فالماء الْحَاصِل مِنْهُ مَمْلُوك وَكَذَلِكَ مَاء القنوات
وَفِي تَحْرِيم منع الشّرْب فِيمَا يفضل من حَاجته بِغَيْر عوض خلاف مِنْهُم من نظر إِلَى عُمُوم الْخَبَر وَمِنْهُم من خصص بِمَا لم يملك وَألْحق هَذَا بالمحرز فِي الْأَوَانِي

(4/235)


فرع

إِذا اشْترك جمَاعَة فِي حُفْرَة قناة اشْتَركُوا فِي الْملك بِحَسب الْعَمَل أَو بِحَسب الْتِزَام الْمُؤْنَة وقسموا المَاء بِنصب خَشَبَة مستوية فِيهَا ثقب مُتَسَاوِيَة كَمَا جرت الْعَادة
فَإِن قسموا بالمهاياة فَالظَّاهِر جَوَازهَا فَإِنَّهَا لَا تلْزم وَفِيه وَجه أَنَّهَا تلْزم وَفِيه وَجه أَنَّهَا لَا تصح لِأَن الْقيمَة تخْتَلف باخْتلَاف الأوقوات

(4/236)