الوسيط في المذهب

= كتاب الدِّيات =
وَالنَّظَر فِي الْوَاجِب والموجب وَمن عَلَيْهِ وَفِي دِيَة الْجَنِين الْقسم الأول فِي الْوَاجِب
وَالنَّظَر فِي النَّفس والطرف وَفِيه بَابَانِ

(6/325)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الأول فِي النَّفس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَالْأَصْل فِي الْحر الْمُسلم مائَة من الْإِبِل وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي النَّفس المؤمنة مائَة من الْإِبِل مخمسة عشرُون مِنْهَا بنت مَخَاض وَعِشْرُونَ بنت لبون وَعِشْرُونَ ابْن لبون وَعِشْرُونَ حَقه وَعِشْرُونَ جَذَعَة
ثمَّ تَتَغَيَّر فِي أَربع مغلظات وَأَرْبع منقصات
أما المغلظات الْأَرْبَع فَهُوَ الْحرم وَالْأَشْهر الْحرم وَالرحم والعمدية
أما الْحرم فالقتل فِي مَكَّة وَسَائِر الْحرم يُوجب التَّغْلِيظ على الخاطىء وَكَذَا لَو رمى من الْحرم إِلَى الْحل أَو من الْحل إِلَى الْحرم كَمَا فِي الصَّيْد وَفِي حرم الْمَدِينَة خلاف وَالْإِحْرَام لَا يلْتَحق بِهِ

(6/327)


وَأما الْأَشْهر الْحرم فَأَرْبَعَة ثَلَاثَة مِنْهُنَّ سرد ذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم وَوَاحِد فَرد وَهُوَ رَجَب
وَأما الرَّحِم فَمَا يُوجب الْمَحْرَمِيَّة دون مَا عَداهَا من القربات
وَاعْتمد الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي التَّغْلِيظ بِهَذِهِ الْأَسْبَاب الثَّلَاثَة آثَار الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
وَأما العمدية وَكَونه شبه الْعمد فقد ذَكرْنَاهُ وَنَذْكُر الْآن ثَلَاث صور
إِحْدَاهَا أَن من قتل شخصا فِي دَار الْكفْر عَليّ زِيّ الْكفَّار فَإِذا هُوَ مُسلم فَفِي الدِّيَة قَولَانِ فَإِن أوجبناها فَفِي الضَّرْب على الْعَاقِلَة قَولَانِ وَهُوَ تردد فِي أَنه يَجْعَل عمدا اَوْ شبه عمد وَفِيه وَجه أَنه يلْحق بالْخَطَأ الْمَحْض فيخفف على الْعَاقِلَة
الثَّانِيَة إِذا رمى إِلَى مُرْتَد فَأسلم قبل الْإِصَابَة وَهِي معنى الصُّورَة السَّابِقَة وَأولى بِأَن يلْحق بالْخَطَأ
الثَّالِثَة إِذا رمى إِلَى جرثومة ظَنّهَا شَجَرَة فَإِذا هِيَ إِنْسَان فَالصَّحِيح أَنه خطأ مَحْض كَمَا لَو سقط من سطح أَو مرق السهْم من صيد إِلَى إِنْسَان أَو قصد شخصا فَأصَاب غَيره وَيحْتَمل من مَسْأَلَة الْحَرْبِيّ أَن يُقَال ظن كَونه شَجرا كظن كَونه حَرْبِيّا هدرا وَقد قَصده فِي عينه
فَإِن قيل مَا معنى التَّخْفِيف والتغليظ قُلْنَا الْمِائَة من الْإِبِل تتخفف فِي الْخَطَأ الْمَحْض من ثَلَاثَة أوجه الضَّرْب على الْعَاقِلَة والتأجيل بِثَلَاث سِنِين ووجوبها مخمسة وَفِي الْعمد الْمَحْض تتغلظ بتخصيصه بالجاني وبتعجيله عَلَيْهِ وتبديل التخميس بالتثليث وَهُوَ أَن 8

(6/328)


يجب ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا وَهَذِه النِّسْبَة مرعية حَتَّى تجب فِي أرش جِنَايَة الْمُوَضّحَة خلفتان وجذعة وَنصف وحقة وَنصف وَكَذَا فِي سَائِر الْجِرَاحَات
وَأما شبه الْعمد فتتخفف من وَجْهَيْن الضَّرْب على الْعَاقِلَة والتأجيل ثَلَاث سِنِين وتغلظ من وَجه وَهُوَ التَّثْلِيث لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
أَلا إِن قَتِيل الْعمد الْخَطَأ قَتِيل السَّوْط والعصا فِيهِ مائَة من الْإِبِل أَرْبَعُونَ مِنْهَا خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا
وَلَا يتضاعف التَّغْلِيظ بتضاعف الْأَسْبَاب فَيجب على الْعَامِد فِي الْحرم فِي الْأَشْهر الْحرم بقتل ذِي الرَّحِم مَا يجب على الْعَامِد دون هَذِه المغلظات
فَإِن قيل فَمَا صفة الْإِبِل وصنفه وبدله عِنْد فَقده قُلْنَا أما الصّفة فَمَا ذَكرْنَاهُ مَعَ السَّلامَة عَن الْعُيُوب المثبتة للرَّدّ بِالْعَيْبِ أما الخلفة فَلَا تكون إِلَّا ثنية فَإِن حملت مَا دونهَا على الندور فَفِي إجزائها وَجْهَان لِأَنَّهُ قد يظنّ الإجهاض بهَا
وَمهما تنَازعا فِي وجود الْحمل حكم فِي الْحَال بقول عَدْلَيْنِ من أهل البصيرة فَلَو اخْتلف قَوْلهمَا استدرك فَلَو رد ولي الدَّم وَقَالَ لَيْسَ حَامِلا فَالْقَوْل قَوْله إِلَّا إِذا ادّعى الْجَانِي الإجهاض فِي يَده وَكَانَ قد أَخذه بقول عَدْلَيْنِ لَا بقول الْجَانِي فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَن الْمُصِيب هُوَ الْجَانِي لموافقته قَول العدلين

(6/329)


وَالثَّانِي هُوَ الْوَلِيّ لِأَن الْعدْل لم يحكم إِلَّا بالتخمين فيصلح تخمينه لتأخير حَقه لَا لإسقاطه
أما صنفه فَهُوَ غَالب إبل الْبَلَد فَإِن لم يكن فِي الْبَلَد إبل فأقرب الْبلدَانِ إِلَيْهِ فَإِن كَانَ إبل من عَلَيْهِ مُخَالفا لإبل الْبَلَد فَهَل تتَعَيَّن فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم كقوت من عَلَيْهِ زَكَاة الْفطر فِي أحد الْقَوْلَيْنِ
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ شكر على النِّعْمَة فَيكون من جِنْسهَا وَهَذَا أرش الْجِنَايَة فَلَا يُنَاسب اعْتِبَار ملكه
فَإِن اعتبرناها فَكَانَت مَرِيضَة أَو مَعِيبَة فَهِيَ كالمعدومة وَإِن كَانَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلفين متساويين فالخيرة إِلَى الْمُعْطِي
وَأما بدله عِنْد الْعَجز فَقيمته فِي مَحل الْعبْرَة مُغَلّظَة كَانَت أَو مُخَفّفَة وَنَصّ فِي الْقَدِيم على أَنه يرجع إِلَى ألف دِينَار أَو إِلَى اثْنَي عشر ألف دِرْهَم من النقرة الْخَالِصَة وَقيل إِن معنى الْقَدِيم التَّخْيِير بَين الْخِصَال الثَّلَاث وَهُوَ ضَعِيف لِأَن أثر التَّغْلِيظ يسْقط بِهِ وَقيل يُزَاد الثُّلُث بِسَبَب التَّغْلِيظ فَيجْعَل سِتَّة عشر ألفا تقليدا لأثر ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ بعيد
هَذَا بَيَان المغلظات وَأما المنقصات فَهِيَ أَربع
الأولى الْأُنُوثَة فَإِنَّهَا ترد كل وَاجِب إِلَى الشّطْر ثمَّ ترعى النِّسْبَة فِي التَّغْلِيظ وَالتَّخْفِيف فَيجب عشرُون خلفة وَخمْس عشرَة حقة وَخمْس عشرَة جَذَعَة وعَلى هَذَا الْحساب فِي الْأَطْرَاف

(6/330)


الثَّانِيَة الرّقّ وواجب الرَّقِيق قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت وَإِن زَادَت على دِيَة الْحر خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُ حط عَن دِيَته بِقدر نِصَاب السّرقَة
الثَّالِثَة الاجتنان فِي الْبَطن إِذْ وَاجِب الْجَنِين الْغرَّة وَلَا يتغلظ فِيهِ وَسَيَأْتِي
الرَّابِعَة الْكفْر ودية الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ ثلث دِيَة الْمُسلم ودية الْمَجُوسِيّ ثَمَانمِائَة دِرْهَم وَلَا يظْهر فِيهِ التَّغْلِيظ إِلَّا أَن يَجْعَل هَذَا معيارا للنسبة فينسب إِلَى اثْنَي عشر ألف دِرْهَم وَيُقَال هُوَ خمس دِيَة الْمُسلم
هَذَا فِي أهل الذِّمَّة وَأهل العقد والمستأمنين من هَؤُلَاءِ
أما الزَّنَادِقَة وَعَبدَة الْأَوْثَان فَلَا دِيَة لَهُم ولاذمة لَهُم وَلَو دخل وَاحِد مِنْهُم دَارنَا رَسُولا مستأمنا فَإِن كَانَ وثنيا أثبت لَهُ أخس الدِّيات وَهِي دِيَة الْمَجُوسِيّ لِأَنَّهُ الْأَقَل تَحْقِيقا للعصمة لاجل الْحَاجة إِلَى الْأمان وَإِن كَانَ مُرْتَدا فَلَا دِيَة فِي قَتله وَلَكنَّا نمتنع عَن قَتله فِي الْحَال مصلحَة كالنساء والذراري
والزنديق الَّذِي ولد كَذَلِك مُتَرَدّد بَين الوثني وَالْمُرْتَدّ
هَذَا كُله فِيمَن بلغتهم الدعْوَة وَأما من لم تبلغهم دَعوتنَا قَالَ الْقفال يجب الْقصاص على الْمُسلم بِقَتْلِهِم لأَنهم على الْحق وَمِنْهُم من قَالَ لَا كفاءة بَين الدينَيْنِ وَإِن كَانَا حقين لِأَنَّهُ بَقِي خطأ بِاعْتِبَار جَهله وَهُوَ الْآن بَاطِل فِي نَفسه فَلَا قصاص وَلَكِن تجب دِيَة الْمُسلم وَمِنْهُم من قَالَ بل تجب دِيَة أهل دينه إِن كَانَ يَهُودِيّا أَو مجوسيا لِأَن منصب دينهم لَا يَقْتَضِي إِلَّا هَذَا الْقدر
وَإِن لم تبلغهم أصلا دَعْوَة نَبِي قَالَ الْقفال وَجب الْقصاص لأَنهم أهل الْجنَّة وَقَالَ غَيره لَا لعدم أصل الدّين وَلَكِن فِي الدِّيَة وَجْهَان

(6/331)


أَحدهمَا دِيَة الْمُسلم
وَالثَّانِي أخس الدِّيات
وَإِن كَانُوا مُتَعَلقين بدين محرف كَدين مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بعد التحريف فَلَا قصاص وَيحْتَمل إِسْقَاط الضَّمَان لعدم الذِّمَّة وَعدم الدّين الصَّحِيح وَيكون انكفافنا عَنْهُم كانكفافنا عَن النِّسَاء
وَأما الصابئون من النَّصَارَى والسامرة من الْيَهُود إِن كَانُوا معطلة دينهم فَلَا حُرْمَة لَهُم وَإِن كَانُوا من أهل الْفرق فَلهم حكم دينهم
وَأما من أسلم وَلم يُهَاجر فَهُوَ كَالَّذي هَاجر فِي الْقود وَالدية وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا عصمَة إِلَّا بِالْهِجْرَةِ إِلَى دَار الْإِسْلَام

(6/332)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّانِي فِيمَا دون النَّفس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَهَذِه الْجِنَايَة إِمَّا جرح يشق أَو قطع مُبين أَو ضرب يبطل مَنْفَعَة
النَّوْع الأول فِي الْجرْح وَذَلِكَ إِمَّا على الْوَجْه وَالرَّأْس أَو على سَائِر الْبدن
أما الرَّأْس فَفِي الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل وَهِي كل مَا توضح الْعظم فَإِن صَارَت هاشمة فعشر من الْإِبِل فَإِن صَارَت منقلة فَخمس عشرَة فَإِن صَارَت مأمومة فثلث الدِّيَة
أما الدامغة المذففة فَفِيهَا كَمَال الدِّيَة وَفِي الهاشمة من غير إِيضَاح خمس من الْإِبِل وَقيل حُكُومَة لِأَن الْعشْر فِي مُقَابلَة الْمُوَضّحَة الهاشمة وَلَو أوضح وَاحِد وهشم آخر

(6/333)


وَنقل ثَالِث وَأم رَابِع فعلى كل وَاحِد خمس من الْإِبِل إِلَّا على الآم فَعَلَيهِ التَّفَاوُت بَين المنقلة وَأرش المأمومة وَهِي ثَمَانِيَة عشر بَعِيرًا وَثلث بعير
والتعويل فِي هَذِه التقديرات على النَّقْل وَقد نصر الشَّارِع على بَعْضهَا وَقيس بهَا الْبَعْض فَإِذا قُلْنَا فِي الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل عنينا بِهِ نصف عشر الدِّيَة حَتَّى ترعى هَذِه النِّسْبَة فِي الْمَرْأَة وَالذِّمِّيّ وَالْعَبْد
وكل عظم على كرة الرَّأْس فَهُوَ فِي مَحل الْإِيضَاح وَإِن كَانَ من الْوَجْه كالجبهة والجبين والوجنة وقصبة الْأنف واللحيين وَمن جَانب الْقَفَا إِلَى الرَّقَبَة فَأَما العظمة الْوَاصِلَة بَين عَمُود الرَّقَبَة وكرة الرَّأْس فَفِيهِ تردد
فَإِن تعدّدت الْمُوَضّحَة على الرَّأْس تعدد الْأَرْش فَإِن استوعب جَمِيع الرَّأْس بِوَاحِدَة فالأرش وَاحِد فاتحاد الموحضة بِأَن لَا يخْتَلف الْمحل وَالصُّورَة وَالْحكم وَالْفِعْل
أما الصُّورَة فَأن تقع على الْمَوْضِعَيْنِ فَإِن رفع الحاجز اتَّحد الْأَرْش وَإِن كَانَ الرّفْع من غير الْجَانِي لم يتحد وَلَو كَانَ الحاجز بَين الموضحتين الْجلد دون اللَّحْم أَو اللَّحْم دون الْجلد فَأَرْبَعَة أوجه
أَحدهَا أَنه يَتَعَدَّد إِذْ بَقِي حاجز مَا
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ حصل نوع من الإتحاد
وَالثَّالِث اللَّحْم حاجز دون الْجلد لِأَنَّهُ المنطبق على الْعظم

(6/334)


الرَّابِع الْجلد حاجز دون اللَّحْم لانه السَّاتِر عَن الْعين
وَأما تعدد الْمحل فبأن تخرج الْمُوَضّحَة الْوَاحِدَة من الرَّأْس إِلَى الْجَبْهَة أَو من الْجَبْهَة إِلَى الْوَجْه فَفِي تعدده وَجْهَان أَحدهمَا لَا لاخْتِلَاف اسْم الْمحل وَلَا تتعد بشمولها القذال والهامة إِذْ الْكل فِي حكم الرَّأْس
أما تعدد الْفَاعِل بِأَن يُوسع إِنْسَان مُوضحَة غَيره فعلى كل وَاحِد أرش وَإِن كَانَت الْمُوَضّحَة وَاحِدَة فَإِن جَاءَ هُوَ ووسع مُوضحَة نَفسه لم يزدْ الْأَرْش على الصَّحِيح
أما تعدد الحكم فبأن يكون بعض الْمُوَضّحَة عمدا وَبَعضهَا خطأ أَو بَعْضهَا حَقًا قصاصا وَالْبَاقِي عُدْوانًا فيتعدد الحكم اعْتِبَارا لاخْتِلَاف الحكم باخْتلَاف الْمحل فَإِن قُلْنَا بالاتحاد فَيَكْفِي أرش وَاحِد فِي الْعمد وَالْخَطَأ وَفِي الزِّيَادَة على الإقتصاص لَا بُد من شَيْء لهَذِهِ الزِّيَادَة وَهُوَ أَن يوزع الْأَرْش على جملَة الْجراحَة وَيسْقط مَا يُقَابل الْحق وَيجب الْبَاقِي فَإِن اندراج الدِّيَة تَحت الْقصاص غير مُمكن
أما المتلاحمة فواجبها حُكُومَة وَفِيه وَجه أَنه يقدر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوَضّحَة وَذَلِكَ بِتَقْدِير سمك اللَّحْم
الْموضع الثَّانِي الْجِرَاحَات فِي سَائِر الْبدن وَفِي جَمِيعهَا الْحُكُومَة إِلَّا الْجَائِفَة فَفِيهَا ثلث الدِّيَة وَهِي كل واصلة إِلَى جَوف فِيهَا قُوَّة مَحَله كالبطن وداخل الصَّدْر وَإِن لم تخرق الأمعاء والدماغ وَإِن لم تخرق الخريطة وَكَذَا المثانة وداخل الشرج من جِهَة العجان

(6/335)


فَأَما مَا يَنْتَهِي إِلَى دَاخل الإحليل والفم وَالْأنف والأجفان إِلَى بَيْضَة الْعين فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا يتَقَدَّر لحُصُول اسْم الْجوف
وَالثَّانِي لَا لِأَن تَقْدِير الْجَائِفَة لخطرها وَهِي جَوف أودع فِيهِ القوى المحيلة
وداخل عظم الْفَخْذ لَيْسَ بجوف وفَاقا
وَإِن قُلْنَا لَا يتَقَدَّر فَلَو كَانَ على الْوَجْه وَنفذ فِي اللَّحْم فأرش متلاحمة وَزِيَادَة شَيْء لصورة النّفُوذ وَإِن نفذ فِي عظم الْوَجْه فأرش منقلة وَزِيَادَة

فروع

الأول لَو ضرب بَطْنه بمشقص فجائفتان وَلَو ضربه بسنان فَخرج من بَطْنه إِلَى ظَهره فَوَجْهَانِ
الصَّحِيح أَنَّهُمَا جائفتان كالمشقص
وَالثَّانِي لَا لِاتِّحَاد الْخَارِج وَالْفِعْل
الثَّانِي لَو التحمت الْجَائِفَة لم يسْقط الْأَرْش كالموضحة بِخِلَاف عود السن فَإِن التحام الْمُوَضّحَة لَا بُد مِنْهُ وَكَذَا فِي كل جارحة لَا تسري وَفِيه وَجه قِيَاسا على السن وَلَا قَائِل بِهِ فِي الْمُوَضّحَة وَيحْتَمل فِيمَا إِذا غرز إبرة فانضم اللَّحْم والتحم أَن نقضي بالسقوط
الثَّالِث لَو خاط الْجَائِفَة فجَاء جَان وَقطع الْخَيط فَعَلَيهِ تَعْزِير فَإِن كَانَ بعد الإلتحام فأجاف فِي ذَلِك الْموضع فَعَلَيهِ أرش كَامِل وَلَو لم يلتحم إِلَّا الظَّاهِر فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حُكُومَة فَلَو أدّى فتقه إِلَى انفتاق لحم تَامّ حَتَّى يجيفه فَعَلَيهِ أرش كَامِل

(6/336)


فَإِن أقيل فَمَا معنى الْحُكُومَة قُلْنَا أَن يقدر الْمَجْنِي عَلَيْهِ عبدا فتعرف قِيمَته دون الْجِنَايَة فَإِذا قيل عشرَة فَيقوم مَعَ الْجِنَايَة فَإِذا قيل تِسْعَة فَيُقَال التَّفَاوُت الْعشْر فَيُوجب بِمثل نسبته من الدِّيَة وَهَذَا بِشَرْط أَن لَا تزيد حُكُومَة جراح على مِقْدَار الطّرف الْمَجْرُوح فَلَا تزاد حُكُومَة جِرَاحَة الْأصْبع على دِيَة الْأصْبع وَلَا تزاد حُكُومَة الْكَفّ والساعد وَعظم الْعَضُد على دِيَة الْأَصَابِع الْخمس
وَهل تزاد حُكُومَة كف على دِيَة أصْبع وَاحِدَة فِيهِ وَجْهَان
فَأَما الْيَد الشلاء فَيجوز أَن نزيد حكومتها على اصبع وَلَا تزاد على يَد صَحِيحَة

فروع ثَلَاثَة فِي الْحُكُومَة

الأول إِنَّمَا تقدر الْحُكُومَة بعد اندمال الْجراحَة فَلَو لم يُوجد تفَاوت بَان التحم الْجرْح وَلم يبْق شين فَفِيهِ وَجْهَان
الْقيَاس أَن لَا يجب شَيْء إِلَّا تَعْزِير كَمَا فِي الضَّرْب والصفع
وَالثَّانِي أَن الْجرْح خطير فتقدر الْجراحَة دامية وتقدر الْحُكُومَة فِي تِلْكَ الْحَالة حَتَّى يظْهر التَّفَاوُت
فَإِن لم يكن مخوفا وَلم يظْهر التَّفَاوُت اضطررنا إِلَى إِلْحَاقه بِالضَّرْبِ
الثَّانِي إِن قطع أصبعا زَائِدَة أَو سنا شاغية أَو أفسد المنبت من لحية الْمَرْأَة وزادت الْقيمَة فَالْقِيَاس أَن لَا يجب شَيْء وَمِنْهُم من قَالَ تقدر اللِّحْيَة فِي عبد فِي أَوَان التزين

(6/337)


باللحية ونأخذ تَفَاوتا ونوجبه بعد نُقْصَان شَيْء مِنْهُ لِأَن إِلْحَاق الْمَرْأَة بِالْعَبدِ ظلم والإنصاف أَن هَذَا التَّقْدِير فِي أَصله ظلم فَلَا يَنْبَغِي أَن يجب بِهِ إِلَّا تَعْزِير
وَلَو قطع ذكر العَبْد أَو أنثييه فزادت قِيمَته فَالْقِيَاس أَلا يجب شَيْء وَفِيه وَجه أَنه يجب كَمَال الْقيمَة لِأَن جراح العَبْد على القَوْل الْمَنْصُوص من قِيمَته كجراح الْحر من دِيَته
الثَّالِث إِذا جرح فَبَقيَ حوال الْجرْح شين فَإِن كَانَت الْجراحَة مقدرَة كالموضحة استتبع حُكُومَة الشين كَمَا تستتبع المتلاحمة حواليها وَإِن لم يكن مُقَدرا فَالْقِيَاس أَن لَا تستتبع بل تجب حُكُومَة الْجرْح والشين جَمِيعًا وَظَاهر النَّصْر أَنه يستتبع لِأَن الشين تبع للجراحة قَائِم بِهِ فَإِن كَانَ حُكُومَة الشين أَكثر لم يُمكن الإتباع فنعتبره فِي نَفسه فَإِن كَانَ مثلا احْتمل وَجْهَيْن على النَّص

(6/338)


النَّوْع الثَّانِي من الْجِنَايَات الْقطع الْمُبين للأعضاء

وَالنَّظَر فِي سِتَّة عشر عضوا
الأول الأذنان وَفِيهِمَا كَمَال الدِّيَة وَفِي إِحْدَاهمَا النّصْف وَفِي الْبَعْض الْبَعْض بِالنِّسْبَةِ وَفِيه وَجه أَن فِي الْأُذُنَيْنِ الْحُكُومَة إِذْ لَا تَوْقِيف
وَلَيْسَت فِي معنى الْيَدَيْنِ إِذْ لَيْسَ يظْهر فيهمَا مَنْفَعَة وَمن قدر قَالَ فيهمَا منفعتان
إِحْدَاهمَا جمع الْأَصْوَات
وَالثَّانيَِة دفع الْهَوَام من الدبيب إِلَى الصماخ وَلذَلِك كثرت التعريجات حَتَّى ينتبه عِنْد الدبيب
فعلى هَذَا لَو استحشفت الْأذن بِجِنَايَة جَان وقطعها آخر فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَن على الْقَاطِع الدِّيَة لبَقَاء مَنْفَعَة جمع الْأَصْوَات وعَلى من أبطل الْحس الْحُكُومَة
وَالثَّانِي أَن على مُبْطل الْحس الدِّيَة لِأَنَّهُ أظهر الْمَنَافِع وعَلى الْقَاطِع بعده حُكُومَة كَقطع الْيَد الشلاء
وَأما أذن الْأَصَم فتكمل فِيهِ الدِّيَة لِأَن الْخلَل فِي مَحل السّمع لَا فِي صدفة الْأذن
الْعُضْو الثَّانِي العينان وَفِيهِمَا كَمَال الدِّيَة إِذا فقئتا وَفِي إِحْدَاهمَا النّصْف وَفِي عين الْأَعْوَر النّصْف وَقَالَ مَالك رَحمَه الله الْكل

(6/339)


وَيجب كَمَال الدِّيَة فِي الْأَخْفَش وَالْأَعْمَش لِأَن ضعف الْبَصَر كضعف قُوَّة الْيَد
الْعُضْو الثَّالِث الأجفان وَفِيهِمَا كَمَال الدِّيَة وَفِي الْوَاحِد ربع الدِّيَة يَسْتَوِي الْأَعْلَى والأسفل فَإِن قطع الْبَعْض وتقلص الْبَاقِي لم تجب إِلَّا بِقدر الْمَقْطُوع وَتَقْدِيره بِالنِّسْبَةِ مَا أمكن وَلَا عدُول إِلَى الْحُكُومَة إِلَّا بِالضَّرُورَةِ
وَأما الْأَهْدَاب فَلَو فسد منابتها فَفِيهَا وَفِي جَمِيع الشُّعُور حُكُومَة وكمل أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الدِّيَة فِي خمس من الشُّعُور
فرع لَو استأصل الاجفان اندرج حُكُومَة الْأَهْدَاب تَحْتَهُ على أظهر الْوَجْهَيْنِ وَفِيه وَجه أَنَّهَا لَا تندرج لِأَن فِي الْأَهْدَاب مَنْفَعَة فَإِنَّهَا تشتبك فتمنع الْغُبَار وَلَا تمنع نُفُوذ الْبَصَر فَلَا تندرج تَحت غَيره
الرَّابِع الْأنف فَإِن أوعب مارنه جدعا فَفِيهِ كَمَال الدِّيَة والمارن مَا لَان من الْأنف فَإِن قطع شَيْئا من رَأس المارن وَجب جُزْء بِالنِّسْبَةِ وَالْأنف ثَلَاث طَبَقَات فَفِي كل طبقَة إِذا أفرد ثلث الدِّيَة وَقيل يجب النّصْف من كل وَاحِد من المنخرين
وَأما الحاجز بَين المنخرين فَهُوَ تَابع لَا يفرد بِثلث من الدِّيَة وَفِيه وَجه أَنه تنْسب الطَّبَقَات

(6/340)


إِلَى الْجُمْلَة وَتجب بِحِسَاب النِّسْبَة وَذَلِكَ أَيْضا يقرب من الثُّلُث
وَفِي انف الأخشم كَمَال الدِّيَة كَمَا فِي أذن الْأَصَم
الْخَامِس الشفتان فِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا نصف الدِّيَة وَقَالَ مَالك رَحمَه الله فِي الْعليا الثُّلُثَانِ
ثمَّ حد الشّفة فِي عرض الْوَجْه إِلَى الشدقين وَفِي طوله إِلَى مَحل الإرتتاق على وَجه وَإِلَى الْموضع الَّذِي يستر عَمُود الْأَسْنَان على وَجه وَهُوَ أقل من الأول وَمَا ينبو عِنْد الإنطباق على وَجه وَهُوَ أقل الدَّرَجَات وَبِه يحد الشفران وَقيل إِنَّه إِذا قطع من الْأَعْلَى مَا لَا ينطبق على الْأَسْفَل فقد استوقى الْكل فَهُوَ الْحَد
فَلَو قطع جُزْءا من الشّفة وَجب بِقدر نسبته إِلَى الْكل وَتَقْدِير الْكل بِأَن يقدر قَوس طَرفَيْهِ عِنْد الشدقين ومجذبه عِنْد الارتتاق أَو مَا دونه على أحد الْوُجُوه فَمَا يحويه مقعر هَذَا الْقوس هُوَ كل الشّفة فلينسب إِلَيْهِ
السَّادِس اللِّسَان وَفِي لِسَان النَّاطِق كَمَال الدِّيَة وَفِي الْأَخْرَس حُكُومَة وَفِي الصَّبِي الَّذِي لم ينْطق كَمَال الدِّيَة إِن ظَهرت امارة الْقُدْرَة بِالتَّحْرِيكِ والبكاء
وَيجب بِقطعِهِ الْقصاص وَإِن قطع كَمَا ولد وَلم تظهر أَمارَة فَحُكُومَة إِذْ لم تتيقن الْقُدْرَة اتّفق عَلَيْهِ الْأَصْحَاب وَلَو قيل الأَصْل السَّلامَة لم يبعد
السَّابِع الْأَسْنَان وَفِي كل سنّ مِمَّا هُنَالك خمس من الْإِبِل إِذا كَانَت تَامَّة أَصْلِيَّة مثغورة غير متقلقلة بالهرم
احترزنا بالأصلية عَن السن الشاغية وفيهَا حُكُومَة وَلَو قلع سنه ورد إِلَيْهِ سنا من ذهب

(6/341)


فتشبث بِهِ اللَّحْم وتهيأ للمضغ فَلَيْسَ فِي قلعه أرش وَفِيه حُكُومَة على أحد الْقَوْلَيْنِ لصلاحه للمضغ
واحترزنا بالتامة عَن قلع الْبَعْض إِذْ يجب بِهِ بعض الْأَرْش بِحَسب النِّسْبَة
وَهل يدْخل السنخ فِي حِسَاب النِّسْبَة فِيهِ وَجْهَان يطردان فِي أَن الدِّيَة تكمل فِي الْحَشَفَة وحلمتي الثدي والمارن وَلَا يزِيد باستئصال الذّكر والثديين وقصبة الْأنف بل نسبتها إِلَيْهِ كنسبة الْكَفّ إِلَى الْأَصَابِع وَلَكِن إِذا قطع بعض الْحَشَفَة وَبَعض المارن فَهَل يدْخل الْبَاقِي فِي حِسَاب النِّسْبَة فِيهِ وَجْهَان
وَفِي هَذِه الْمسَائِل وَجه آخر أَنه إِذا استأصل تزيد نسبتها حُكُومَة فَإِذا قلع سنا فَفِي قدر الْبَاقِي البادي دِيَة وَفِي السنخ حُكُومَة وَهَذَا فِي قَصَبَة المارن أظهر مِنْهُ فِي السن
فَإِن فرعنا على الإندراج وَهُوَ الصَّحِيح فَهَل ينْدَرج السنخ تَحت نصف السن فِيمَا إِذا قطع إِنْسَان بعض السن وَجَاء آخر وَقطع الْبَاقِي من السنخ فَفِيمَا يجب على الثَّانِي وَجْهَان
احدهما النّصْف إدراجا للسنخ
وَالثَّانِي النّصْف والحكومة لِأَن السنخ ينْدَرج تَحت كل
وَهُوَ يلْتَفت على أَن الْكَفّ هَل ينْدَرج تَحت بعض الْأَصَابِع

(6/342)


واحترزنا بالمثغورة عَن سنّ الصَّبِي فَإِنَّهَا فضلَة فَلَيْسَ فِي قلعهَا إِلَّا حُكُومَة عِنْد إبْقَاء شين كَمَا فِي حلق شعره فَإِن فسد المنبت وَجب الْقصاص أَو الْأَرْش وَلَو مَاتَ قبل ظُهُور فَسَاد المنبت فَفِي وجوب الْأَرْش وَجْهَان لتقابل الْأَصْلَيْنِ إِذْ الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة من جَانِبه وَالْأَصْل عدم عود السن من الْجَانِب الآخر
وَأما المثغور إِذا عَاد سنه نَادرا فَفِي اسْتِرْدَاد الْأَرْش قَولَانِ
أَحدهمَا لَا لِأَن هَذَا نعْمَة جَدِيدَة عَادَتْ فَهِيَ كالموضحة إِذا التحمت بنبات لحم جَدِيد
وَالثَّانِي نعم لِأَن مُتَعَلق الْأَرْش هَا هُنَا فَسَاد المنبت مَعَ الْقلع وَقد بَان أَنه لم يفْسد
وَاخْتَارَ الْمُزنِيّ رَحمَه الله أَنه لَا يسْتَردّ وَاسْتشْهدَ بِأَن التَّوَقُّف غير وَاجِب فِي الْأَرْش كَمَا لَو قلع بعض أَسْنَانه فنبت وَمن أَصْحَابنَا من طرد الْخلاف فِي اللِّسَان وَمِنْهُم من فرق لِأَن ذَلِك لحم جَدِيد نبت من الْغذَاء وَهَا هُنَا السن نبت من مَادَّة اصلية لم يصر مُسْتَوْفيا بِالْقَلْعِ فَإِنَّهَا إِن استوفيت فالغذاء لَا يَسْتَحِيل إِلَى الْعظم ابْتِدَاء وَإِن كَانَ يغذي الْعظم
وَأما التَّوَقُّف فَمنهمْ من اوجب وَمِنْهُم من اعتذر بِالْبِنَاءِ على الْغَالِب
واحترزنا بالتقلقل عَن الشَّيْخ الْهم إِذا أشرف سنه على السُّقُوط فَإِن كَانَ الظَّاهِر أَنه لَا يسْقط فَلَا يُؤثر كضعف الْأَعْضَاء وَإِن غلب على الظَّن أَنه إِلَى السُّقُوط مائلة

(6/343)


فَقَوْلَانِ
أَحدهَا أَنه يجب كَمَال الْأَرْش كَمَا إِذا قتل مَرِيضا مشرفا على الْهَلَاك
وَالثَّانِي لَا لِأَن الشَّرْع اسقط أرش السن الضَّعِيف بِدَلِيل الصَّبِي

فرع
الْأَسْنَان من الْخلقَة المعتدلة اثْنَان وَثَلَاثُونَ فَلَو اقتلعها بِجِنَايَة وَاحِدَة فَفِي الْوَاجِب قَولَانِ
أَحدهمَا مائَة وَسِتُّونَ من الْإِبِل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي كل سنّ خمس من الْإِبِل وَالثَّانِي أَنه لَا يزِيد على مائَة من الْإِبِل إِذا جمع الْكل لِأَنَّهُ جنس وَاحِد فيضاهي سَائِر أَجنَاس الْأَعْضَاء
ثمَّ شَرط هَذَا القَوْل اتِّحَاد الْجَانِي وَالْجِنَايَة فَلَو اقتلع عشْرين واقتلع غَيره الْبَاقِي وَجب فِي كل سنّ خمس من الْإِبِل وَكَذَلِكَ إِذا اقتلع هُوَ وَاحِد بعد أُخْرَى إِذا تخَلّل الِانْدِمَال وَإِن كَانَ على التَّعَاقُب فطريقان
مِنْهُم من قَالَ هُوَ اتِّحَاد كالضرب الْوَاحِد الْمسْقط للْكُلّ
وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ تعدد
الثَّامِن اللحيان وَفِيهِمَا كَمَال الدِّيَة وَفِي احدهما النّصْف وَلَو كَانَ عَلَيْهِمَا الْأَسْنَان لم تندرج دِيَة الْأَسْنَان تَحت دِيَة اللحيين على الْأَظْهر وَالثَّانِي أَنه تندرج لِأَنَّهُ

(6/344)


مركب الْأَسْنَان وَكِلَاهُمَا لغَرَض وَاحِد كَالْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِع
التَّاسِع اليدان وَفِيهِمَا كَمَال الدِّيَة إِذا قطعتا من الكوعين وَكَذَا إِن لقط الْأَصَابِع فَحُكُومَة الْكَفّ مندرجة قولا وَاحِدًا والساعد والعضد لَا ينْدَرج بل لَهما حُكُومَة
وَفِي كل أصْبع عشر من الْإِبِل من غير تفاضل وَفِي كل أُنْمُلَة ثلث الْعشْر إِلَّا فِي الْإِبْهَام فَإِنَّهَا أنملتان فَفِي إِحْدَاهمَا نصف الْأَرْش وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله ثلث الْأَرْش وَجعل الْأُنْمُلَة الغائصة محسوبة من الْأصْبع
وَلَو كَانَ على معصم كفان باطشان فَفِي الْأَصْلِيَّة نصف الدِّيَة وَفِي الزَّائِدَة حُكُومَة فَإِن كَانَت إِحْدَاهمَا منحرفة عَن الساعد أَو نَاقِصَة بأصبع أَو ضَعِيفَة الْبَطْش فَهِيَ الزَّائِدَة وَإِن كَانَت المنحرفة أقوى بطشا فَهِيَ الْأَصْلِيَّة وَالنَّظَر إِلَى الْبَطْش أولى
وَالَّتِي عَلَيْهَا أصْبع زَائِدَة فَهَل يحكم عَلَيْهَا بِأَنَّهَا زَائِدَة فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم لِأَن الزَّائِدَة على الْكَمَال نُقْصَان
وَالثَّانِي لَا إِذْ لَا يبعد وُقُوع ذَلِك على الْأَصْلِيَّة كَمَا خرجت الْيَد الزَّائِدَة من الساعد الْأَصْلِيّ
وَإِن تَسَاويا من كل وَجه فَمن قطعهمَا فَعَلَيهِ قصاص وحكومة أَو دِيَة يَد وحكومة وَإِن قطع إِحْدَاهَا فَلَا قصاص لاحْتِمَال أَنَّهَا زَائِدَة وَتجب نصف دِيَة الْيَد وَزِيَادَة حُكُومَة لِأَنَّهُ نصف فِي صُورَة الْكل
هَذَا مَا قيل وَجعله نصفا مَعَ الإحتمال لكَونهَا زَائِدَة مُشكل

فرع
لَو قطع الْيَد الباطشة وأوجبنا دِيَة الْيَد فاشتدت الْيَد الْأُخْرَى بِهَذَا الْقطع

(6/345)


وبطشت بَطش الأصليات فَفِي اسْتِرْدَاد الْأَرْش المبذول ورده إِلَى قدر الْحُكُومَة وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يسْتَردّ فَإِن هَذِه صَارَت أَصْلِيَّة وَلَا يتَصَوَّر أصليتان على معصم
وَالثَّانِي لَا لِأَن هَذِه نعْمَة جَدِيدَة وَله الْتِفَات على عود السن
الْعَاشِر الترقوة والضلع وَفِي كسر كل ضلع جمل وَكَذَا الترقوة قَالَه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ تقليدا لعمر رضوَان الله عَلَيْهِ وَقَالَ فِي مَوضِع آخر فيهمَا حُكُومَة وَقَالَ الْمُزنِيّ رَحمَه الله قَولَانِ وَمِنْهُم من قطع بالحكومة قِيَاسا وَحمل مَذْهَب عمر رَضِي الله عَنهُ على حُكُومَة بلغت عشر الْعشْر وَهُوَ جمل وَمِنْهُم من قَالَ تَقْدِير الْحُكُومَة تخمين من القَاضِي فتخمين عمر رَضِي الله عَنهُ أولى على الْإِطْلَاق بالتقليد
الْحَادِي عشر الحلمتان من الْمَرْأَة مَضْمُونَة بِكَمَال دِيَتهَا وَهُوَ مَا يلتقمه الصَّبِي وَهُوَ لَا يزِيد باستئصال الثدي وَقيل تزيد حُكُومَة
وَفِي حلمتي الرجل قَولَانِ الْمَنْصُوص أَن فيهمَا حُكُومَة إِذْ لَيْسَ لَهما مَنْفَعَة درور اللَّبن وَفِيه قَول مخرج أَن فيهمَا الدِّيَة كحلمتي الْعَجُوز
الثَّانِي عشر الذّكر والأنثيان وَفِيهِمَا ديتان وتكمل الدِّيَة فِي ذكر الْخصي والعنين وَلَا تكمل فِي ذكر الأشل وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي ذكر الْخصي حُكُومَة
وَإِذا قطعهمَا فَإِن ابْتَدَأَ بِالذكر فَعَلَيهِ عِنْده ديتان فَإِن ابْتَدَأَ بالأنثيين فَعَلَيهِ عِنْده حُكُومَة ودية لِأَن إخصاءه أَولا بِقطع الْأُنْثَيَيْنِ ثمَّ تكمل الدِّيَة بِقطع الْحَشَفَة
الثَّالِث عشر الأليتان وَفِي قطع مَا أشرف مِنْهُمَا على الْبدن كَمَال الدِّيَة وَإِن لم يقرع الْعظم وَفِي إِحْدَاهمَا النّصْف وَلَا يخفى منفعتهما فِي الرّكُوب وَالْقعُود

(6/346)


الرَّابِع عشر الشفران من الْمَرْأَة فيهمَا كَمَال الدِّيَة وهما حرفا الْفرج المنطبقان على المنفذ على نتوء فالقدر الْبَاقِي هُوَ كَمَال الشفر
الْخَامِس عشر الرّجلَانِ وهما كاليدين وَرجل الْأَعْرَج كَرجل الصَّحِيح إِذْ الْخلَل فِي الحقو لَا فِي الرجل
وَرجل من امْتنع مَشْيه بِكَسْر الفقار قَالَ الْقفال كَالصَّحِيحِ وَفِيه وَجه أَن تعطل الْمَشْي كزواله
وَفِي الْتِقَاط أَصَابِع الرجل كَمَال الدِّيَة مَعَ أَن أعظم الْمَنَافِع وَهُوَ أصل الْمَشْي بَاقٍ
السَّادِس عشر الْجلد وَلَو سلخ جَمِيع جلده فَفِيهِ دِيَة لِأَن الْجلد أعد لغَرَض وَاحِد فَهُوَ جنس وسلخ جَمِيعه قَاتل وَلَكِن قد يبْقى بعده حَيَاة مُسْتَقِرَّة فتظهر فَائِدَته إِذا حزت بعده رقبته

(6/347)


النَّوْع الثَّالِث من الْجِنَايَات مَا يفوت اللطائف وَالْمَنَافِع

وَالنَّظَر فِي اثْنَتَيْ عشرَة مَنْفَعَة
الأولى الْعقل فَإِذا ضرب رَأسه فأزال عقله فَعَلَيهِ كَمَال الدِّيَة وَلَو قطع يَدَيْهِ فأزال عقله فنص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يُشِير إِلَى دِيَة وَاحِدَة وَهُوَ بعيد إِذْ لَيْسَ الْعقل فِي الْيَد وَلَو قطع أُذُنَيْهِ فأزال سَمعه فديتان لِأَن مَحل السّمع غير مَحل الْقطع فَهِيَ أولى وَلَا يُمكن أَن يُقَال نزل الْعقل منزلَة الرّوح فأدرج تَحت دِيَة الْيَد لِأَنَّهُ إِذا قطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ فَزَالَ عقله فَعَلَيهِ ديتان قولا وَاحِدًا وَلَعَلَّ وَجهه أَن الْعقل لَا يُضَاف إِلَى مَحل من الْبدن فنسبته إِلَى الْكل على وتيرة فيندرج تَحت كل عُضْو تكمل فِيهِ الدِّيَة

فرع
لَو أنكر الْجَانِي زَوَال عقله وَنسبه إِلَى التجانن راقبناه فِي خلواته فَإِن لم تنضبط أَحْوَاله أَوجَبْنَا الدِّيَة وَلَا نحلفه لأَنا إِذا طلبنا مِنْهُ الْيَمين أجابنا عَن مَوضِع آخر متجاننا كَانَ أَو مَجْنُونا
الثَّانِيَة السّمع وَفِيه كَمَال الدِّيَة وَفِي إِبْطَاله فِي أَحدهمَا نصف الدِّيَة وَفِيه وَجه أَن الْوَاجِب حُكُومَة لِأَن مَحل السّمع وَاحِد وَإِنَّمَا المشتبه منفذه وَهُوَ ضَعِيف إِذْ كَيْفَمَا كَانَ فضبط النِّسْبَة بالمنفذ أولى من ضَبطه بِغَيْرِهِ
فَلَو كذبه الْجَانِي غافصناه بِصَوْت مُنكر فَإِن اضْطربَ بَان كذبه وَإِن ثَبت حلفناه إِذْ رُبمَا يتماسك تكلفا فَلَو قَالَ الْجَانِي حلفوني فَإِن الأَصْل بَقَاء السّمع قُلْنَا لَو فتح هَذَا الْبَاب

(6/348)


لم يعجز من يستجيز الْجِنَايَة عَن الْحلف وجريان الْجِنَايَة سَبَب مظهر لجَانب الْمَجْنِي عَلَيْهِ فتصديقه أولى

فرعان

الأول لَو قَالَ الْمَجْنِي عَلَيْهِ نقص سَمْعِي وَلم يزل وَجب أرش النُّقْصَان وَقدر بالمسافة وَطَرِيقه أَن يجلس بجنبه من هُوَ فِي مثل سنه وَصِحَّته وَيبعد عَنْهُمَا وَاحِد وَيرْفَع الصَّوْت فَلَا يزَال يقرب إِلَى أَن يَقُول السَّلِيم سَمِعت ثمَّ يديم ذَلِك الْحَد فِي الصَّوْت وَيقرب إِلَى أَن يَقُول الْمَجْنِي عَلَيْهِ سَمِعت فَإِن سمع على النّصْف من تِلْكَ الْمسَافَة فقد نقص نصف السّمع فَإِن قَالَ الْجَانِي سمع من قبل حلفنا الْمَجْنِي عَلَيْهِ
وَلَو قَالَ لست أسمع من إِحْدَى أُذُنِي فامتحانه أَن تصم الْأذن الثَّانِيَة ويصاح بِهِ صَيْحَة مُنكرَة
الثَّانِي لَو قَالَ أهل الصَّنْعَة لَطِيفَة السّمع بَاقِيَة لَكِن وَقع فِي المنفذ الارتتاق فَفِي كَمَال الدِّيَة وَجْهَان
أَحدهمَا أَن تعطل الْمَنْفَعَة هَل هُوَ كزوالها وَيجْرِي فِيمَا إِذا ذهب سمع الصَّبِي فتعطل نطقه أَو ضرب صلبه فتعطل رجله فَفِي تعدد الدِّيَة فِي نَظَائِر ذَلِك خلاف
الثَّالِثَة الْبَصَر وَفِي إِبْطَالهَا مَعَ بَقَاء الحدقة كَمَال الدِّيَة يَسْتَوِي فِيهِ الْأَخْفَش وَالْأَعْمَش وَمن على حدقته بَيَاض لَا يمْنَع أصل الْبَصَر ثمَّ يمْتَحن عِنْد دَعْوَى الْعَمى بتقريب حَدِيدَة من حدقته مغافصة وَإِن ادّعى النُّقْصَان امتحن كَمَا فِي السّمع
الرَّابِعَة الشم وَفِي إِبْطَاله كَمَال الدِّيَة ويجرب بالروائح المنتنة الحادة فَإِن ادّعى

(6/349)


النُّقْصَان فامتحان ذَلِك عسير فيكتفي بِالْيَمِينِ وَقيل إِن الشم لَا تكمل فِيهِ الدِّيَة لِأَن التأذي بِهِ مَعَ كَثْرَة الأنتان أَكثر من التَّلَذُّذ بِهِ مَعَ قلَّة الطّيب وَهَذَا هوس إِذْ هُوَ طَلِيعَة كَسَائِر الْحَواس
الْخَامِسَة النُّطْق وَفِي إِبْطَاله عَن اللِّسَان كَمَال الدِّيَة وَإِن بَقِي حاسة الذَّوْق والإعانة على المضع والحروف الشفهية والحلقية لِأَن الَّذِي بَطل جُزْء مَقْصُود بِرَأْسِهِ فَإِن ذهب بعض الْكَلَام فأقرب معيار فِيهِ الْحُرُوف وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ مُتَسَاوِيَة فِي الِاعْتِبَار وَقَالَ الاصطخري لَا تدخل الشفوية والحلقية فِي التَّوْزِيع
فرعان
الأول لَو كَانَ لَا يحسن بعض الْحُرُوف فَهَل يُؤثر فِي نُقْصَان الدِّيَة فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا لانه يرجع إِلَى ضعف النُّطْق فَهُوَ كضعف الْبَطْش
وَالثَّانِي نعم لِأَن الْبَطْش لَا يتَقَدَّر والحروف صَارَت مقدرَة للنطق بِنَوْع من التَّقْرِيب فَإِن قُلْنَا يحط فَلَو كَانَ يقدر على الْإِعْرَاب عَن جَمِيع مقاصده بِتِلْكَ الْحُرُوف لغزارة فَضله فَفِي الْحَط خلاف وَالظَّاهِر أَنه يحط أما إِذا كَانَ نُقْصَان الْحُرُوف بِجِنَايَة جَان فالحط أولى
وَالْقَوْل الضَّابِط فِي الْفرق بَين النُّقْصَان بِجِنَايَة أَو آفَة أَن المفوت جرم أَو مَنْفَعَة فَكل جرم مُقَدّر فنقصان بعضه مُؤثر سَوَاء كَانَ بِجِنَايَة أَو آفَة كسقوط بعض السن وَبَعض الْأُنْمُلَة وانشقاق لحم الرَّأْس إِلَى حد المتلاحمة وَمَا لَا يتَقَدَّر كفلقة من الْأُنْمُلَة فسقوطها لَا ينقص كَانَت بِآفَة سَمَاوِيَّة أَو جِنَايَة أبقى شَيْئا أَو لم تبْق مهما لم ينقص الْبَطْش لِأَن الزِّينَة لَيست من خاصية هَذَا الْعُضْو

(6/350)


وَأما نُقْصَان الْمَنْفَعَة الَّتِي لَا تتقدر إِن كَانَت بِآفَة سَمَاوِيَّة لم ينقص وَإِن كَانَت بِجِنَايَة وَجَمِيع جرم الْعُضْو بَاقٍ فَثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا لَا يعْتَبر كالآفة
وَالثَّانِي نعم لِأَن الْآفَات لَا تنضبط وَالْجِنَايَة تنضبط كَمَا فِي القروح والجراحات
وَالثَّالِث أَن الآخر إِن قطع الْعُضْو لم يعْتَبر النُّقْصَان فِي حَقه وَإِن أبطل بَقِيَّة الْبَطْش حط عَنهُ مَا وَجب على الأول لِأَنَّهُمَا جنايتان متناسبتان من وَجه وَاحِد وَإِنَّمَا يظْهر الْخلاف فِي نُقْصَان الْحُرُوف لِأَنَّهَا كالمقدرة للنطق
الْفَرْع الثَّانِي لَو قطع بعض لِسَانه فَأبْطل كل كَلَامه فَعَلَيهِ الدِّيَة وَلَو أبطل بعض كَلَامه وتساوت نِسْبَة الجرم والحروف بِأَن قطع نصف الجرم وَزَالَ نصف الْكَلَام فَعَلَيهِ نصف الدِّيَة وَإِن تفاوتت النِّسْبَة فنأخذ بِأَكْثَرَ الشَّهَادَتَيْنِ لِأَن كل وَاحِد من الْحُرُوف والجرم مُبين مِقْدَار الزائل من الْقُوَّة النطقية الَّتِي لَا يتَقَدَّر تحقيقها بِنَوْع من التَّقْرِيب فنأخذ أَكثر الشَّهَادَتَيْنِ
فَإِن قطع ربع اللِّسَان فَزَالَ نصف الْحُرُوف فَعَلَيهِ النّصْف
وَإِن قطع نصف اللِّسَان فَزَالَ ربع الْحُرُوف فَعَلَيهِ النّصْف وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق النّظر إِلَى الجرم وَلَكِن إِذا قطع ربع اللِّسَان فَزَالَ نصف الْكَلَام فَكَأَنَّهُ أشل ربعا من الْبَاقِي فتظهر فَائِدَة العبارتين فِيمَن اقتلع الْبَاقِي فَإِنَّهُ لَو قطع ربع لِسَانه وَذهب نصف كَلَامه فاستأصل غَيره بَاقِي اللِّسَان فَعَلَيهِ ثَلَاثَة أَربَاع الدِّيَة نظرا إِلَى الْأَكْثَر عِنْد الْأَصْحَاب وَعند أبي إِسْحَاق عَلَيْهِ نصف الدِّيَة وحكومة ربع أشل
وَلَو قطع ربع اللِّسَان فَأذْهب ربع الْكَلَام فأوجبنا النّصْف فجَاء الثَّانِي واستأصل

(6/351)


وَجب عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَربَاع الدِّيَة نظرا إِلَى الْأَكْثَر وَعند الشَّيْخ أبي إِسْحَاق رَحمَه الله نصف الدِّيَة نظرا إِلَى الجرم
وَأما إِذا قطع فلقَة من لِسَانه وَلم يذهب شَيْئا من الْكَلَام فَلَا شَيْء لِأَن الْقُوَّة إِذا نقصت رَجعْنَا إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ ورجحنا وَإِذا لم ينقص فَلَيْسَ إِلَّا حُكُومَة كلسان الْأَخْرَس
الْمَنْفَعَة السَّادِسَة الصَّوْت وَفِي إِبْطَاله كل الدِّيَة وَإِن بَطل مَعَه حَرَكَة اللِّسَان فديتان وَفِيه وَجه أَن الْوَاجِب دِيَة وَاحِدَة لِأَن مَقْصُود الصَّوْت النُّطْق
وَإِن قُلْنَا ديتان فَلَو كَانَ حَرَكَة اللِّسَان نَاقِصَة فقد تعطل النُّطْق وَلم يزل فَفِيهِ الْخلاف السَّابِق
السَّابِعَة الذَّوْق وَفِيه كَمَال الدِّيَة لِأَنَّهُ أحد الْحَواس الْخَمْسَة ويجرب عِنْد النزاع بالأشياء الْمرة المقرة
الثَّامِنَة مَنْفَعَة المضغ وفيهَا كَمَال الدِّيَة وفواتها بِأَن يتصلب مغرس اللحيين فَلَا يَتَحَرَّك بانخفاض وارتفاع وَلَا يحيا صَاحبه إِلَّا بالحسوة والإيجار
فرع لَو جنى على سنه فاسود وَلم يُمكن المضغ بِهِ وَجب كَمَال الْأَرْش فَإِن لم يكن إِلَّا مُجَرّد السوَاد فَفِيهِ حُكُومَة لِأَنَّهُ إِزَالَة جمال مَحْض
التَّاسِعَة قُوَّة الإمناء والإحبال بِهِ فَإِذا أبطل بِجِنَايَة على صلبه وَجب كَمَال الدِّيَة وَلَو جنى على ثدي امْرَأَة وأبطل مَنْفَعَة الْإِرْضَاع قَالَ القَاضِي رَحمَه الله فِيهِ حُكُومَة لِأَن مَنْفَعَة الْإِرْضَاع تطرأ وتزول بِخِلَاف قُوَّة مَنْفَعَة الْمَنِيّ فَإِنَّهَا ثَابِتَة قَالَ الإِمَام

(6/352)


وَيحْتَمل خِلَافه لانه مَقْصُود فِي نَفسه وَإِن كَانَ يطْرَأ
الْعَاشِرَة مَنْفَعَة الْمَشْي والبطش وَفِيهِمَا كَمَال الدِّيَة وَلَو ضرب صلبه فَبَطل مَشْيه وَجب كَمَال الدِّيَة وَلَو قطع رجله فَفِي كَمَال الدِّيَة فِيهِ خلاف لِأَنَّهَا صَحِيحَة فِي نَفسهَا وَأَنَّهَا تعطل بِجِنَايَة على غَيرهَا وَلَو ضرب صلبه فَبَطل مَشْيه ومنيه فَفِي الإندراج خلاف من حَيْثُ إِن الصلب مَحل الْمَنِيّ ومبدأ الْحَرَكَة للمشي فاقتضي اتحادا بَينهمَا من وَجه
الْحَادِيَة عشرَة إِذا بَطل شَهْوَة الْجِمَاع من غير شلل فِي الذّكر وَلَا انْقِطَاع فِي الْمَنِيّ لم يبعد تَكْمِيل الدِّيَة لانْقِطَاع إحساسه باللذة وَكَذَا إِذا بَطل شَهْوَة الطَّعَام إِن أمكن وَكَذَا لَو ضرب عُنُقه فارتتق منفذ الطَّعَام وَجب كَمَال الدِّيَة إِذْ تبقى حَيَاة مُسْتَقِرَّة فَإِذا حز غَيره رقبته كملت الدِّيَة على الأول
الثَّانِيَة عشرَة إِذا أفْضى ثَيِّبًا كَانَ أَو بكرا عَلَيْهِ دِيَتهَا وَمعنى هَذَا أَن يتحد مَسْلَك الْجِمَاع وَالْغَائِط أَو مَسْلَك الْجِمَاع وَالْبَوْل وَلَا ينْدَرج الْمهْر تحتهَا لاخْتِلَاف مأخذهما
وَيجب على الزَّانِي وَالزَّوْج لِأَن الزَّوْج لَا يسْتَحق إِلَّا وطأ لَا يُوجب الْإِفْضَاء فَإِن كَانَ لَا يحْتَمل إِلَّا بالإفضاء لضيق المنفذ أَو كبر الْآلَة لم يسْتَحق الْوَطْء وَنزل الضّيق من جَانبهَا منزلَة الرتق إِن خَالف الْعَادة وَالْكبر من جَانِبه ينزل منزلَة الْجب فِي إِثْبَات الْفَسْخ
وَلَو انتزع بكرا على كره لزمَه مهر الْمثل وَأرش الْبكارَة وَقيل إِذا أَوجَبْنَا مهر مثل بكر فقد قضينا حق الْبكارَة
والإفضاء بالخشبة والأصبع مُوجب للدية وَلَو أَزَال الزَّوْج بكارة زَوجته بالأصبع لم يجب أرش الْبكارَة لِأَنَّهُ مُسْتَحقّ وَقيل يجب لعدوله عَن طَرِيق الإستحقاق

(6/353)


هَذَا حكم الْأَطْرَاف إِذا أفردت أَو جمعت من غير سرَايَة فيتصور أَن يجب فِي شخص وَاحِد قريب من عشْرين دِيَة وَلَو مَاتَ بِالسّرَايَةِ عَاد إِلَى دِيَة وَاحِدَة وَلَو حز الْجَانِي رقبته فالنص أَنه يتداخل وَخرج ابْن سُرَيج أَنه لَا يتداخل كَمَا لَو تعدد الْجَانِي
فَإِن اخْتلف حكم الْجِنَايَة بِأَن قطع خطأ وحز عمدا أَو على الْعَكْس فَقَوْلَانِ منصوصان لِأَن تغاير الْوَصْف يضاهي تغاير الْجَانِي
فَإِن قُلْنَا بالتداخل فَإِن قطع يدا خطأ وَقتل عمدا قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِنَّه تجب دِيَة وَاحِدَة نصفهَا على الْجَانِي مُغَلّظَة وَنِصْفهَا على الْعَاقِلَة مُخَفّفَة وَكَأَنَّهُ جعل الحز كجناية أُخْرَى تممت سرَايَة الأولى وَمن الْأَصْحَاب من خَالف النَّص وَقَالَ تجب دِيَة مُغَلّظَة إِذْ حز الرَّقَبَة يبطل أثر مَا سبق
هَذَا حكم أَطْرَاف الْحر الذّكر أما الرَّقِيق فنص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن جراح العَبْد من قِيمَته كجراح الْحر من دِيَته اسْتِحْسَانًا لقَوْل سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ وَخرج ابْن سُرَيج قولا أَن الْوَاجِب قدر النُّقْصَان كَمَا أَن الْوَاجِب فِي الْجُمْلَة قدر الْقيمَة وكما نَص على قَول فِي أَنه لَا تضرب على الْعَاقِلَة بدله وَلَا تجْرِي الْقسَامَة فِيهِ إِلْحَاقًا لَهُ بالبهائم
فَإِن قطع بإلحاقه بِالْحرِّ فِي الْقصاص وَالْكَفَّارَة فَلَو قطع ذكره وأنثييه فزادت قِيمَته فَيجب على النَّص قيمتان وعَلى التَّخْرِيج لَا يجب شَيْء كَمَا فِي الْبَهِيمَة
وَأما الْمَرْأَة فترعى نِسْبَة أطرافها إِلَى دِيَتهَا وفيهَا قَول قديم أَنَّهَا تعاقل الرجل إِلَى ثلث دِيَته أَي تساويها فَإِن جَاوَزت الثُّلُث رد إِلَى قِيَاس دِيَتهَا فَفِي ثلث أصابعها ثَلَاثُونَ من الْإِبِل وَفِي أَربع لَو أَوجَبْنَا أَرْبَعِينَ لجاوزنا ثلث الدِّيَة فنرجع إِلَى نِسْبَة دِيَتهَا فنوجب عشْرين وَهُوَ بعيد مرجوع عَنهُ

(6/354)


الْقسم الثَّانِي من الْكتاب فِي بَيَان الْمُوجب من الْأَسْبَاب والمباشرات

وَالنَّظَر فِي أَرْبَعَة أَطْرَاف
الأول فِي تَمْيِيز السَّبَب عَمَّا لَيْسَ بِسَبَب وكل مَا يحصل الْهَلَاك مَعَه فإمَّا أَن يحصل بِهِ فَيكون عِلّة كالتردية فِي الْبِئْر أَو يحصل عِنْده بعلة أُخْرَى وَلَكِن لولاه لم تُؤثر الْعلَّة كحفر الْبِئْر مَعَ التردية فَهُوَ سَبَب وَإِمَّا أَن يحصل مَعَه وفَاقا وَلَا تقف الْعلَّة على وجوده فَلَا عِبْرَة بِهِ كَمَا إِذا كلم غَيره اَوْ صفعه صفعة خَفِيفَة فَمَاتَ فَهَذَا لَا يَجْعَل سَببا بل هُوَ مُوَافقَة قدر
والإحتمال يظْهر فِي ثَلَاث صور
الأولى إِذا صَاح على صَغِير وَهُوَ على طرف سطح فارتعد وَسقط وَمَات وَجب الضَّمَان لِأَنَّهُ سَبَب ظَاهر وَفِي الْقصاص قَولَانِ مرتبان على مَا لَو حفر بِئْرا فِي دَاره ودعا إِلَيْهِ غَيره وَهَذَا أولى بِالْإِيجَابِ لِأَن الْإِفْضَاء إِلَى الْهَلَاك هَا هُنَا أغلب
وَلَو تغفل بَالغا بِصَوْت مُنكر فَسقط من السَّطْح فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه يحمل على مُوَافقَة الْقدر لِأَن الرعدة لَهَا أَسبَاب وَالْكَبِير لَا يسْقط بالصياح غَالِبا
وَالثَّانِي يجب الضَّمَان لِأَن هَذَا مُمكن وَالسَّبَب ظَاهر فيحال عَلَيْهِ
وَالثَّالِث إِن جَاءَهُ من وَرَائه وَجب وَإِن واجهه فَلَا
وَالصَّحِيح أَنه إِن ظهر أَنه سقط بِهِ وَجب وَإِن شكّ فِيهِ احْتمل أَن يُقَال الأَصْل برءاة

(6/355)


الذِّمَّة وَاحْتمل أَن يُقَال الأَصْل حمله على السَّبَب الْمُقَارن بِهِ
الثَّانِيَة لَو صَاح على صبي مَوْضُوع على الأَرْض فَمَاتَ أَو على بَالغ فَزَالَ عقله فَفِيهِ وَجْهَان منشؤهما التَّرَدُّد فِي الإحالة عَلَيْهِ
الثَّالِثَة التهديد والتخويف إِذا أفْضى إِلَى سُقُوط الْجَنِين وَجب الضَّمَان إِذْ وُقُوع ذَلِك غَالب وَقع لعمر رَضِي الله عَنهُ فَشَاور الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَقَالَ عبد الرحمن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ إِنَّك مؤدب فَلَا شَيْء عَلَيْك وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِن لم يجْتَهد فقد غشك وَإِن اجْتهد فقد أَخطَأ أرى عَلَيْك الدِّيَة
الطّرف الثَّانِي فِي اجْتِمَاع الْعلَّة وَالشّرط كالحفر والتردي وَمهما كَانَت الْعلَّة عُدْوانًا انْقَطَعت الْحِوَالَة عَن الشَّرْط فَالضَّمَان على المردي لَا على الْحَافِر وَإِن لم يكن عُدْوانًا بِأَن تخطى الْإِنْسَان فتردى جَاهِلا نظر إِلَى الْحفر فَإِن لم يكن عُدْوانًا أهْدر الضَّمَان وَإِن كَانَ عُدْوانًا أُحِيل الْهَلَاك عَلَيْهِ
وَإِن تزلق رجله بقشر بطيخ أَو بِمَاء مرشوش فَهَذِهِ الْأَسْبَاب كحفر الْبِئْر

فروع

الأول إِذا وضع صَبيا فِي مسبعَة فافترسه سبع فَإِن قدر على الإنتقال فَلَا ضَمَان كَمَا لَو فصد بِغَيْر إِذْنه فَتَركه حَتَّى نزف الدَّم وَإِن كَانَ عَاجِزا فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا الْحِوَالَة على السَّبع لِأَنَّهُ مُخْتَار وَلم يسْبق مِنْهُ إِلَّا وضع يَد وَالصَّبِيّ الْحر لَا يضمن بِالْيَدِ

(6/356)


وَالأَصَح أَنه يُحَال عَلَيْهِ لِأَن هَذَا يعد فِي الْعرف إهلاكا
الثَّانِي إِذا اتبع إنْسَانا بِسَيْفِهِ فولى هَارِبا فَألْقى نَفسه فِي نَار أَو مَاء أَو بِئْر أَو مسبعَة وافترسه سبع فَلَا ضَمَان على المتبع لِأَنَّهُ مُخْتَار فِي هَذِه الْأَفْعَال وغايته أَن يكون مكْرها
وَلَو قَالَ اقْتُل نَفسك وَإِلَّا قتلتك فَقتل نَفسه لم يضمن الْمُكْره إِذْ لَا معنى للخلاص عَن الإهلاك أصلا
أما إِذا تردى فِي بِئْر جَاهِلا لكَونه أعمى أَو لظلام اللَّيْل أَو لكَون الْبِئْر مغطاة فَالضَّمَان على المتبع لِأَن هَذَا الإلجاء أقوى من مُجَرّد الْحفر
وَلَو ألْقى نَفسه على سطح فانخسف بِهِ فيحال الضَّمَان عَلَيْهِ لاختياره إِلَّا إِذا كَانَ انخسافه لضَعْفه وَهُوَ لَا يدْرِي فَهُوَ كالبئر المغطاة
الثَّالِث إِذا سلم صَبيا إِلَى سابح فغرق وَجب الضَّمَان على أستاذه لِأَنَّهُ لَا يغرق إِلَّا بتقصير بِأَن يهمله فِي غير مَحَله
فَلَو قَالَ لَهُ ادخل المَاء فَدخل مُخْتَارًا فَيحْتَمل أَن يُقَال لَا ضَمَان لِأَنَّهُ لَا يضمن الْحر بِالْيَدِ وَالصَّبِيّ مُخْتَار وَلَكِن قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ يجب لِأَنَّهُ مُلْتَزم للْحِفْظ وَأما الْبَالِغ فَلَا يضمن فِي هَذِه الصُّورَة
وَإِن خَاضَ مَعَه اعْتِمَادًا على يَده فَأَهْمَلَهُ احْتمل إِيجَاب الضَّمَان وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لَا يجب لِأَنَّهُ مقصر فِي الإغترار بقوله

(6/357)


فَإِن قيل إِذا كَانَ حفر الْبِئْر سَببا عِنْد الْعدوان فبماذا يكون الْعدوان عُدْوانًا قُلْنَا نذْكر مَحل الْعدوان من الْبِئْر وَإِيقَاد النَّار وإشراع الْجنَاح وإلقاء قشر الْبِطِّيخ وقمامة السُّوق ورش المَاء حَتَّى يعرف بِهِ مَا عداهُ
أما الْبِئْر فَلَا عُهْدَة فِيهِ على من حفره فِي ملكه أَو فِي موَات فَإِن كَانَ فِي ملك الْغَيْر فَهُوَ عدوان وَإِن كَانَ فِي الشوارع نظر فَإِن أضرّ بالطارقين فَهُوَ عدوان وَإِن لم يضر فَإِن فعله لمصْلحَة الطَّرِيق وبإذن الْوَالِي وَأحكم رَأسه فَلَا ضَمَان على الْحَافِر وَإِن كَانَ بِغَيْر إِذن الْوَالِي فَقَوْلَانِ وَوجه الْإِيجَاب أَن الإستقلال للآحاد إِنَّمَا يُبَاح بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة فَإِن فعل لمصْلحَة نَفسه فَلهُ ذَلِك وَلَكِن بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة
وَكَذَلِكَ إشراع القوابيل والأجنحة جَائِز إِذا لم يضر بالمجتازين وَلكنه بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة فَهُوَ فِي عهدته دواما وَابْتِدَاء وَلَيْسَ هَذَا كَمَا لَو حفر بِئْرا فِي دَاره فنسقط جِدَار دَار جَاره فَلَا ضَمَان لِأَن تصرفه فِي نفس الْملك لَو قيد بِشَرْط السَّلامَة لأورث حرجا على النَّاس فقيد بِالْعَادَةِ وَأسْقط عهدته
وَأما الإرتفاق بالاجنحة فمستغنى عَنْهَا وَمهما حفر بِئْرا فِي أَرض جوارة وَلم يحكم أطرافها بالخشب أَو وسع رَأسهَا بِحَيْثُ خرج عَن الْعَادة فَهُوَ مطَالب بعهدته وَكَذَلِكَ لَو أوقد نَارا على السَّطْح فِي يَوْم ريح كَانَ فِي عُهْدَة الشرار وَإِن كَانَ على الْعَادة فعصفت ريح بَغْتَة فَلَا ضَمَان

(6/358)


فرعان

أَحدهمَا لَو حفر بِئْرا فِي ملكه ودعا إِلَيْهِ إنْسَانا فِي ظلمَة فَسقط فِيهِ فَإِن لم يكن عَنهُ معدل فَفِي الضَّمَان قَولَانِ فَإِن اتَّسع الطّرق فَقَوْلَانِ مرتبان منشؤهما تعَارض الْغرُور والمباشرة وَكَذَا الْخلاف فِي تَقْدِيم طَعَام مَسْمُوم أَو أَطْعِمَة فِيهَا طَعَام مَسْمُوم
الثَّانِي إِذا سقط ميزاب لإِنْسَان على رَأس إِنْسَان فَإِن كَانَ السَّاقِط هُوَ الْقدر البارز فَهُوَ كالجناح وَإِن سقط الْكل فَفِي وجوب الضَّمَان وَجْهَان وَجه الْإِسْقَاط كَونه من مرافق الْملك لَا كالجناح فَإِن قُلْنَا يجب فيقسط الضَّمَان على الْقدر البارز وَالْقدر الدَّاخِل فِي الْملك تنصيفا على أحد الْوَجْهَيْنِ وتقسيطا فِي الْوَجْه الثَّانِي على الْوَزْن بِخِلَاف مَا لَو ضربا بعمودين متفاوتين فِي الثّقل فَإِنَّهُمَا يتساويان فِي الدِّيَة لِأَن ذَلِك يخْتَلف بِقُوَّة الضَّارِب وَلَا يَنْضَبِط
والجدار المائل إِلَى الشَّارِع كالقابول فَإِن مَال إِلَى ملكه وَسقط فَلَا ضَمَان وَإِن مَال إِلَى الشَّارِع وَسقط من غير إِمْكَان تدارك فَلَا ضَمَان فَإِن مَال أَولا وَأمكنهُ التَّدَارُك وَلم يفعل فَوَجْهَانِ لتعارض النّظر إِلَى أصل الْبناء وَمَا طَرَأَ من بعد
فَأَما قشور الْبِطِّيخ وقمامات الْبيُوت فَفِي الْمَنْع من إلقائها على الشوارع عسر لِأَنَّهَا

(6/359)


من مرافق الْملك وتشبه الْمِيزَاب فَفِي ضَمَان المتعثر بهَا ثَلَاثَة أوجه يفرق فِي الثَّالِث بَين إِلْقَاء إِلَى وسط الطَّرِيق وَبَين الرَّد إِلَى الطّرف
وَأما رش المَاء فَإِن كَانَ لتسكين الْغُبَار فَهُوَ لمصْلحَة عَامَّة فيضاهي حفر الْبِئْر لمصلحتهم فَإِن لم تكن مصلحَة فَهُوَ سَبَب ضَمَان فِي حق الْمَاشِي إِذا لم ير مَوضِع الرش فَإِن تخطاه قصدا فَلَا ضَمَان
الطّرف الثَّالِث فِي تَرْجِيح سَبَب على سَبَب فَإِذا اجْتمع سببان مُخْتَلِفَانِ قدم الأول على الثَّانِي فَلَو حفر بِئْرا وَنصب آخر حجرا على طرف الْبِئْر أَو وضع قشرة بطيخ على طرفه فتعثر بِهِ إِنْسَان وَسقط فِي الْبِئْر فَالضَّمَان على صَاحب الْحجر لِأَن التردي نتيجته فَهِيَ الْعلَّة الأولى وَكَذَا لَو جرف السَّيْل حجرا وَتَركه على طرف الْبِئْر سقط الضَّمَان عَن الْحَافِر كَمَا لَو وَضعه آخر
وَكَذَلِكَ لَو نصب سكينا وَنصب آخر أَمَامه حجرا فتعثر بِالْحجرِ وَوَقع على السكين وَكَذَا لَو حفر بِئْرا وَنصب آخر فِي قَعْر الْبِئْر سكينا وَنصب آخر أَمَامه حجرا فَالضَّمَان على الْحَافِر
وَلَو حفر بِئْرا قريب العمق فعمقها غَيره وَهلك المتردي فِيهَا فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا الإحالة على الأول
وَالثَّانِي أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ لتناسب الجنايتين

فروع

الأول لَو وضع حجرا فِي الطَّرِيق فتعثر بِهِ من لَا يرَاهُ ضمن وَلَو قعد على الطَّرِيق فتعثر بِهِ

(6/360)


غَيره وهلكا فالنص أَن ضَمَان الْقَاعِد مهدر وَضَمان الْمَاشِي على عَاقِلَة الْقَاعِد وَلَو تعثر ماش بواقف وَمَاتَا فالهلاك مُضَاف إِلَى الْمَاشِي بِالنَّصِّ وَقيل فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَولَانِ بِالنَّقْلِ والتخريج
أَحدهمَا أَن الإحالة على الْمَاشِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لانه المتحرك
وَالثَّانِي على السَّاكِن لِأَن الطَّرِيق للمشي لَا للسكون
وَمن قرر النَّص فرق بِأَن الْمَاشِي قد يفْتَقر إِلَى الْوُقُوف لَحْظَة فَأَما الْقعُود فَلَيْسَ من مرافق الطَّرِيق
الثَّانِي إِذا تردى فِي بِئْر فِي مَحل عدوان فتردى وَرَاءه آخر فَسقط عَلَيْهِ وَمَاتَا فَالْأول مَاتَ بسببين الحفرة وَثقل الثَّانِي وَلَكِن يسْتَقرّ أَيْضا ضَمَانه على الْحَافِر لِأَن وُقُوع الثَّانِي كَانَ من الْحفر أَيْضا إِلَّا أَن لوَرَثَة الأول مُطَالبَة عَاقِلَة الثَّانِي بِنصْف الدِّيَة ثمَّ يرجع على عَاقِلَة الْحَافِر وَيحْتَمل أَن يُقَال الثَّانِي كالمكره فَلَا يتَعَلَّق بعاقلته شَيْء وَهَذَا يضاهي المتردد فِي أَن الْمُكْره على إِتْلَاف المَال هَل يُطَالب ثمَّ يرجع أم لَا يُطَالب أصلا
الثَّالِث لَو انزلق على طرف الْبِئْر فَتعلق بآخر وجذبه وَتعلق ذَلِك الآخر بثالث وجذبه وَوَقع بَعضهم على بعض فَالْأول مَاتَ بِثَلَاثَة أَسبَاب بصدمة الْبِئْر وَثقل الثَّانِي وَثقل الثَّالِث وَهُوَ منتسب من جُمْلَتهَا إِلَى وَاحِد وَهُوَ ثقل الثَّانِي بجذبه إِيَّاه فَهدر ثلث الدِّيَة وثلثها على الْحَافِر وثلثها على الثَّانِي لجذبه الثَّالِث
وَأما الثَّانِي فَهَلَك بجذبه الأول وَثقل الثَّالِث فَنصف دِيَته على الأول لِأَنَّهُ جذبه

(6/361)


وَنصفه مهدر لِأَن الثَّالِث سقط بجذبه وَأما الثَّالِث فَكل دِيَته على الثَّانِي فَلَو زَاد رَابِع فيجتمع لهلاك الأول أَرْبَعَة أَسبَاب فالمهدر ربع الدِّيَة وَلَا يخفى طَرِيقه هَذَا مَذْهَب عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه وَاخْتِيَار الْجُمْهُور وَفِيه وُجُوه أخر مزيفة ذَكرنَاهَا فِي الْبَسِيط
الطّرف الرَّابِع فِي الْأَسْبَاب المتشابهة الَّتِي تثبت بهَا شركَة من غير تَرْجِيح وَلها صور
الأولى إِذا اصطدم حران فِي الْمَشْي وَمَاتَا فَكل وَاحِد شريك فِي قتل نَفسه وَقتل صَاحبه فَفِي تَركه كل وَاحِد مِنْهُمَا كفارتان لِأَن الشَّرِيك فِي قتل نفسين يلْتَزم كفارتين لِأَنَّهَا لَا تتجزأ وَفِي تَرِكَة كل وَاحِد نصف دِيَة صَاحبه إِن كَانَ التصادم عمدا وَإِلَّا فعلى

(6/362)


الْعَاقِلَة فَإِن كَانَا راكبين فَفِي تَركه كل وَاحِد نصف قيمَة دَابَّة صَاحبه فَأَما حكم نفسيهما فَكَمَا سبق
وَإِن غلبت الدَّابَّة راكبها فاصطدما قهرا فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا أَن هَلَاك النَّفس وَالدَّابَّة مهدر لحصوله بِفعل الدَّابَّة
وَالثَّانِي أَنه مَنْسُوب إِلَى اختيارهما فِي الرّكُوب وهما مخطئان
فَإِن كَانَا صبيين ركبا بأنفسهما فكالبالغين إِلَّا إِذا قُلْنَا لَا عمد للصَّبِيّ فيخالف الْبَالِغ فِيهِ فَإِن أركبهما أَجْنَبِي وَاحِد مُتَعَدِّيا فَعَلَيهِ كفارتان وَقِيمَة الدابتين وعَلى عَاقِلَته دِيَة النفسين وَإِن أركبهما أجنبيان فَنصف الْهَلَاك فِي الْكل مُضَاف إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا
فَإِن أركبه الْوَلِيّ عِنْد مَسِيس الْحَاجة من غير تَفْرِيط فَهُوَ كَمَا لَو ركب الصَّبِي بِنَفسِهِ وَلَا عُهْدَة على الْوَلِيّ وَإِن لم تكن حَاجَة وَلَكِن أركبه لغَرَض التفرج والزينة حَيْثُ يغلب الْأَمْن فَفِي إِحَالَة الضَّمَان على الْوَلِيّ ووجهان الْحِوَالَة أَن مثل ذَلِك يجوز بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة
وَلَو تعدى الْمركب وتعدى الصَّبِي فقد قيل الإحالة على الْمركب وَيحْتَمل الإحالة على الصَّبِي فَإِذا قُلْنَا لَهُ عمد إِذْ الْمُبَاشرَة أولى من السَّبَب لَكِن لما لم تكن مُبَاشَرَته عُدْوانًا لصباه أمكن أَن يَجْعَل كالمتردي مَعَ الْحفر
فَإِن كَانَا عَبْدَيْنِ فهما مهدران وَإِن كَانَ أَحدهمَا عبدا فَنصف قيمَة العَبْد فِي تَرِكَة الْحر أَو على عَاقِلَته على قَول وَنصف دِيَة الْحر تتَعَلَّق بِتِلْكَ الْقيمَة لِأَنَّهُ كَانَ يتَعَلَّق بِرَقَبَتِهِ لَو بَقِي فَيتَعَلَّق بِقِيمَتِه
وَإِن كَانَتَا حاملين فَفِي تَرِكَة كل وَاحِدَة أَربع كَفَّارَات بِنَاء على أَن قَاتل نَفسه تلْزمهُ

(6/363)


الْكَفَّارَة وَأَن الشَّرِيك تلْزمهُ كَفَّارَة كَامِلَة وَأَن الْجَنِين فِيهِ كَفَّارَة وَفِي تَرِكَة كل وَاحِدَة نصف غرَّة جَنِينهَا وَنصف دِيَة صاحبتها وَنصف غرَّة جَنِين صاحبتها فَتجب غرتان كاملتان فِي التركتين ودية وَاحِدَة ويهدر النّصْف مِنْهُمَا لَا من الْجَنِين
وَإِن كَانَتَا مستولدتين حاملتين وتساوت قيمتهمَا فقد تقاصا وَإِن كَانَت إِحْدَاهمَا تَسَاوِي مِائَتَيْنِ وَالْأُخْرَى مائَة فَصَاحب الْمِائَتَيْنِ يسْتَحق مائَة وَصَاحب الْمِائَة يسْتَحق خمسين فَبَقيَ لصَاحب النفيسة خَمْسُونَ على صَاحب الخسيسة لِأَن جِنَايَة الْمُسْتَوْلدَة تجب على السَّيِّد لانه بالإستيلاد السَّابِق صَار مَانِعا بِخِلَاف الْقِنّ وَكَانَ يحْتَمل هَا هُنَا أَن لَا تلْزمهُ لانه إِنَّمَا يكون مَانِعا إِذا بَقِي الْمحل حَيا قَابلا للتفويت وَقد كَانَ مَوته مَعَ الْجِنَايَة لَا بعْدهَا
وَإِن كَانَتَا حاملتين وَالْقيمَة بِحَالِهَا وَقِيمَة كل غرَّة أَرْبَعُونَ فَصَاحب النفيسة يسْتَحق مائَة وَعشْرين من جملَة مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَلَكِن قيمَة الخسيسة مائَة وَهِي أقل من الْأَرْش فَلَا يجب على السَّيِّد إِلَّا أقل الْأَمريْنِ فَالْوَاجِب على صَاحب الخسيسة مائَة وَيسْتَحق صَاحب الخسيسة سبعين خَمْسُونَ لمستولدته وَعشر للغرة فَيبقى عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ
الصُّورَة الثَّانِيَة إِذا اصطدمت سفينتان بأجراء ملاحين فالسفينة كالدابة والملاح كالراكب وَغَلَبَة الرِّيَاح كغلبة الدَّابَّة حَتَّى يخرج على الْقَوْلَيْنِ ونزيد هَا هُنَا إِن كَانَ فِي كل سفينة عشرَة أنفس مثلا فهما شريكان فِي قتل الْعشْرين وَكَذَلِكَ فِي إِتْلَاف المَال الَّذِي فِي السَّفِينَة فَإِن هلك المَال وَتَنَازَعُوا فَقَالَ الملاح حصل بِغَلَبَة الرّيح وَقَالَ الْمَالِك بل بفعلكما فَالْقَوْل قَول الملاح إِذْ الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة

(6/364)


وَلَو ثقب الملاح السَّفِينَة وغرق أَهلهَا فقد يكون عمدا مَحْضا وَقد يكون شبه الْعمد وَقد يكون خطأ وَلَا يخفى حكمه

فرع
إِذا أشرفت السَّفِينَة على الْغَرق وَكَانَ النجَاة فِي إِلْقَاء الْأَمْتِعَة فَقَالَ من احْتَاجَ إِلَى النجَاة ألق متاعك وَأَنا ضَامِن فَيلْزمهُ الضَّمَان لمسيس الْحَاجة إِلَى الْفِدَاء كَمَا إِذا قَالَ طلق زَوجتك وَأَنا ضَامِن للمهر وَكَذَلِكَ إِن كَانَ الْحَاجة لغيره فَلهُ الإلتزام بِسَبَبِهِ بل عَلَيْهِ إِلْقَاء مَتَاعه لنَفسِهِ وَإِن كَانَت الْحَاجة عَامَّة للملتمس وَصَاحب الْمَتَاع فِيهِ وَجْهَان
النَّص أَنه يجب ضَمَانه لِأَن الملتمس مُحْتَاج فحاجة الْمَالِك لَا تَمنعهُ من الْبَذْل
وَالثَّانِي أَنه يسْقط بِحِصَّة الْمَالِك فَإِن كَانُوا عشرَة سقط الْعشْر اَوْ خَمْسَة فالخمس
وَلَو قَالَ ألق متاعك وَلم يتَعَرَّض للضَّمَان فَفِيهِ وَجْهَان كَمَا إِذا قَالَ اقْضِ ديني وَلم يشْتَرط الرُّجُوع
وَلَو قَالَ أَنا وركبان السَّفِينَة ضامنون كل وَاحِد وَاحِد على الْكَمَال فَيلْزمهُ وركبان السَّفِينَة لَا يلْزمهُم إِذا أنكروه
وَلَو قَالَ أَنا وهم ضامنون كل بِحِصَّتِهِ فحصته تلْزمهُ وَالْبَاقِي يرجع إِلَيْهِم فَإِن قَالُوا رَضِينَا بِمَا قَالَ لَزِمَهُم وَإِن كُنَّا لَا نقُول بوقف الْعُقُود لِأَن هَذَا مَبْنِيّ على الْمُصَالحَة والتساهل
وَلَو أطلق قَوْله أَنا وركبان السَّفِينَة ضامنون ثمَّ قَالَ أردْت التقسيط فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه حَتَّى لَا يلْزمه إِلَّا نصِيبه
وَإِن قَالَ أَنا ضَامِن وركبان السَّفِينَة ضامنون ثمَّ فسر بالتقسيط فاختيار الْمُزنِيّ رَحمَه الله أَنه يقبل مَعَ يَمِينه وَظَاهر النَّص أَنه لَا يقبل لِإِضَافَتِهِ الضَّمَان إِلَى نَفسه أَولا ثمَّ ذكره الركْبَان بعده

(6/365)


الصُّورَة الثَّالِثَة إِذا رَجَعَ حجر المنجنيق على الرُّمَاة وَكَانُوا عشرَة فهلكوا فيهدر من دم كل وَاحِد عشره وَيتَعَلَّق تِسْعَة
أعشار بعاقلة البَاقِينَ إِذْ مَا من وَاحِد إِلَّا وَهُوَ قتل نَفسه بمشاركة تِسْعَة وَإِن أصَاب غير الرامين فَالدِّيَة على عاقلتهم إِلَّا إِذا قصد شخصا بِعَيْنِه وقدروا على الْإِصَابَة غَالِبا فَإِن قصدُوا جمعا وَعَلمُوا أَنهم يصيبون وَاحِدًا وَلَكِن لَا بِعَيْنِه فَهُوَ خطأ فِي حق ذَلِك الْوَاحِد وَلِهَذَا قُلْنَا الْمُكْره إِذا قَالَ اقْتُل زيدا اَوْ عمرا فَقتل زيدا فَلَا قصاص على الْمُكْره لِأَنَّهُ مَا قصد زيدا بِعَيْنِه وَيجب على الْمُكْره لِأَنَّهُ ذُو خيرة فِي تَعْيِينه بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ اقتلهما وَإِلَّا قتلتك فَإِن خيرته فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير لَا تُؤثر
الصُّورَة الرَّابِعَة إِذا جرح الدَّافِع ثَلَاث جراحات أَولهَا عِنْد قَصده وَالثَّانيَِة بعد إعراضه وَالثَّالِثَة بعد عوده إِلَى الْقَصْد فالمتوسطة مَضْمُونَة والأخريان مهدران فَعَلَيهِ ثلث الدِّيَة
وَلَو ضربه فِي الدّفع ضربتين وَبعد الْإِعْرَاض وَاحِدَة فَعَلَيهِ نصف الدِّيَة جمعا لما جرى فِي حَالَة الإهدار بِخِلَاف مَا إِذا توسطت حَالَة بَين حالتين
وَلَو جرح مُرْتَدا وَأسلم فَعَاد الْجَارِح مَعَ ثَلَاثَة من الجناة فجرحوه قَالَ ابْن الْحداد الجناة أَرْبَعَة فعلى كل وَاحِد ربع الدِّيَة إِلَّا أَن الْجَانِي فِي الْحَالَتَيْنِ لزمَه الرّبع بجراحتين إِحْدَاهمَا مهدرة فَيَعُود نصِيبه إِلَى الثّمن وَقَالَ بعض الْأَصْحَاب لَا بل توزع على الْجِرَاحَات لَا على الجارحين وَيُقَال الْجِرَاحَات خَمْسَة وَالْوَاحد مِنْهَا مهدر فَسقط الْخمس وَيبقى

(6/366)


على كل وَاحِد من الْأَرْبَعَة خمس الدِّيَة وَيدخل نُقْصَان الإهدار على الْكل
وَلَو جنى أَرْبَعَة فِي الرِّدَّة ثمَّ عَاد مِنْهُم وَاحِد مَعَ ثَلَاثَة آخَرين وجنوا فِي الْإِسْلَام فعلى مَذْهَب ابْن الْحداد رَحمَه الله الجناة سَبْعَة فعلى كل من لم يجن فِي الْإِسْلَام سبع كَامِل وَمن جنى فِي الْحَالَتَيْنِ رَجَعَ سبعه إِلَى النّصْف وعَلى الْوَجْه الآخر يُقَال الْجِنَايَات ثَمَانِيَة أَرْبَعَة فِي الرِّدَّة مهدرة فَيبقى أَرْبَعَة أَثمَان الدِّيَة على الْأَرْبَعَة الَّذين جنوا فِي الْإِسْلَام ولنقس على هَذَا مَا إِذا جنى خطأ ثمَّ عَاد مَعَ غَيره وجنيا مَعًا عمدا وَلَكِن يكون التَّوْزِيع هَاهُنَا النَّقْل إِلَى الْعَاقِلَة فِي الْبَعْض كَمَا كَانَ
ثمَّ للإهدار فرعان
الأول جنى عبد على حر فجَاء إِنْسَان وَقطع يَد العَبْد ثمَّ قطع العَبْد بعده يَد حر وماتوا فتؤخذ قيمَة العَبْد من الْجَانِي عَلَيْهِ وَيخْتَص الْمَجْنِي عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ بِقدر أرش الْيَد وَالْبَاقِي يكون مُشْتَركا بَينه وَبَين الْمَجْنِي عَلَيْهِ ثَانِيًا لِأَنَّهُ حَيْثُ قطع يَده لم يكن للثَّانِي حق
ونعني بِالْأَرْشِ قيمَة النُّقْصَان على الْأَصَح إِذْ لَو أردنَا نصف الدِّيَة فَلَو فَرضنَا بدله قطع الْيَدَيْنِ لم يبْق للْمَجْنِيّ عَلَيْهِ ثَانِيًا شَيْء
الثَّانِي إِذا تقَاتل رجلَانِ بسيفهما فأصبحا قَتِيلين فَادّعى ولي كل وَاحِد أَن صَاحبه كَانَ دافعا لَا قَاصِدا تحَالفا فَإِن نكل وَاحِد حصل الْغَرَض وَإِن حلفا تساقطا
وَحكم كل شَخْصَيْنِ التقيا فِي بادية واستشعر كل وَاحِد من صَاحبه الْقَصْد أَنه إِن غلب على ظَنّه قَصده حل لَهُ الْبِدَايَة بِالدفع وَإِلَّا فَلَا فَإِن قَتله وَمَات الدَّافِع وَأقر وليه بِأَنَّهُ كَانَ مخطئا فِي ظَنّه أخذت الدِّيَة من التَّرِكَة

(6/367)


فَإِن قيل الْقَاتِل بِالسحرِ لم يذكروه قُلْنَا لَا يعرف ذَلِك إِلَّا بِإِقْرَار السَّاحر فَإِن قَالَ سحرِي يقتل غَالِبا فَهُوَ عمد يجب بِهِ الْقصاص وَإِن قَالَ قصدت الْإِصْلَاح فَهُوَ شبه عمد وَإِن قَالَ قصدت غَيره فَأَصَبْت اسْمه فَهُوَ خطأ مَحْض
وَلَا يَنْبَغِي أَن يتعجب من هَذَا فَإِن السحر حق

(6/368)


الْقسم الثَّالِث فِي بَيَان من تجب عَلَيْهِ الدِّيَة

وَهُوَ الْجَانِي إِن كَانَ عمدا والعاقلة إِن كَانَ خطأ أَو شبه عمد لما رُوِيَ أَن جاريتين اختصمتا فَضربت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بعمود فسطاط فقتلتها وَمَا فِي بَطنهَا
فَقضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَة وَفِي الْجَنِين بغرة عبد أَو أمة
وَالنَّظَر فِي الْعَاقِلَة يتَعَلَّق بأركان
الأول فِي تعيينهم
وَالدية تضرب على ثَلَاث جِهَات الْعُصُوبَة وَالْوَلَاء وَبَيت المَال أما المحالفة والموالاة فَلَا توجب تحمل الْعقل خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
الْجِهَة الأولى الْقَرَابَة وَهُوَ كل عصبَة وَاقع على طرف النّسَب فَلَا تضرب على أَب الْجَانِي وَابْنه كَمَا لَا تضرب على نَفسه وَقد ورد فِي الحَدِيث وَكَانَ الْعصبَة أَحَق بِهِ
وَاخْتلفُوا فِي ثَلَاثَة أُمُور
أَحدهَا أَن ابْنهَا لَو كَانَ ابْن ابْن عَمها أَو مُعْتقه فَهَل تضرب عَلَيْهِ فِيهِ وَجْهَان

(6/369)


أَحدهمَا لَا لِأَن الْبُنُوَّة مَانِعَة
وَالثَّانِي تضرب لِأَنَّهَا لَيست مَانِعَة وَلَا مُوجبَة كَمَا فِي ولَايَة النِّكَاح فتجعل كَالْعدمِ
الثَّانِي أَن الْأَخ للْأَب وَالأُم هَل يقدم على الْأَخ للْأَب فِيهِ قَولَانِ كَمَا فِي ولَايَة النِّكَاح
الثَّالِث أَن التَّرْتِيب يرْعَى وَلَا يرقى إِلَى الْأَعْمَام مَا لم يفصل عَن الْإِخْوَة ويرعى من لم يثبت لَهُ الْمِيرَاث وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يسوى بَينهم
الْجِهَة الثَّانِيَة الْوَلَاء فَإِذا لم نصادف عصبَة ضربنا على مُعتق الْجَانِي فَإِن لم يكن فعصباته ثمَّ مُعتق الْمُعْتق ثمَّ عصباته ثمَّ مُعتق أَب أَب الْمُعْتق ثمَّ عصباته ثمَّ مُعتق جد الْمُعْتق ثمَّ عصباته على هَذَا التَّرْتِيب كَمَا فِي الْمِيرَاث
وَهل يدْخل ابْن الْمُعْتق وَأَبوهُ وَمن على عَمُود نسبه فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا كَمَا فِي النّسَب وَلما رُوِيَ أَن مولى صَفِيَّة بنت عبد المطلب رَضِي الله عَنْهَا جنى فَقضى عمر رَضِي الله عَنهُ بِأَرْش الْجِنَايَة على عَليّ رَضِي الله عَنهُ ابْن عَمها وَقضى بِالْمِيرَاثِ لابنها الزبير رَضِي الله عَنهُ
وَالثَّانِي أَنه يضْرب لِأَن الْمُعْتق عَاقِلَة فَيضْرب على ابْنه كَمَا يضْرب على ابْن الْأَخ بِخِلَاف الْجَانِي نَفسه

فروع

الأول الْمَرْأَة إِذا أعتقت فَلَا تضرب عَلَيْهَا بل يحمل عَنْهَا جِنَايَة عتقهَا من يحمل جنايتها من عصباتها كَمَا يُزَوّج عتيقها من يُزَوّجهَا
الثَّانِي لَو أعتق جمَاعَة عبدا فهم كشخص وَاحِد لَا يلْزم جَمِيعهم أَكثر من حِصَّة وَاحِدَة وَهُوَ نصف دِينَار فَإِن كَانُوا ثَلَاثَة فحصة كل وَاحِد السُّدس فَلَو مَاتَ وَاحِد وَله

(6/370)


إخْوَة فَلَا يجب على كل وَاحِد من إخْوَته أَكثر من السُّدس إِذْ غَايَته أَن يكون وَحده نازلا منزله مُوَرِثه لَو كَانَ حَيا
الثَّالِث إِذا فضل من الْمُعْتق نصيب فَلَا يترقى إِلَى عصباته فِي حَيَاته لِأَن تحملهم بِالْوَلَاءِ وَلَيْسَ لَهُم وَلَاء فِي حَيَاة الْمُعْتق بِخِلَاف مَا إِذا مَاتَ وَله إخْوَة وأعمام ففضل من إخْوَته شَيْء فَيُطَالب الْأَعْمَام كَمَا فِي النّسَب لِأَن الْوَلَاء يُورث بِهِ فَهُوَ لحْمَة كلحمة النّسَب وَلَكِن يكون كَذَلِك بعد موت الْمُعْتق وَلَا يَخْلُو الْفرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ عَن احْتِمَال
الرَّابِع الْعَتِيق هَل يتَحَمَّل الْعقل عَن مُعْتقه وَفِيه قَولَانِ
أَحدهمَا نعم لِأَن الْمِنَّة عَلَيْهِ أعظم فَهُوَ بالنصرة أَجْدَر
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ لَا يَرث بِخِلَاف الْمُعْتق
فَإِن قُلْنَا يتَحَمَّل فَلَو اجْتمع الْمولى الْأَعْلَى والأسفل فَلَعَلَّ تَقْدِيم الْأَعْلَى أولى
الْخَامِس المستولد من عَتيق وعتيقة يثبت الْوَلَاء عَلَيْهِ لموَالِي الْأَب تَرْجِيحا لجَانب الْأُبُوَّة فَلَو تولد من عتيقة ورقيق فَالْولَاء لموَالِي الْأُم لانسداد جِهَة الْأَب إِذْ لَا وَلَاء عَلَيْهِ بعد
فَلَو أعتق الْأَب انجر الْوَلَاء إِلَى موَالِي الْأَب وَسقط وَلَاء موَالِي الْأُم فَلَو جنى هَذَا الْوَلَد قبل جر الْوَلَاء فالعقل على موَالِي الْأُم أَعنِي إِذا مَاتَ الْمَجْنِي عَلَيْهِ قبل الْجَرّ فَإِن مَاتَ بعده فَقدر أرش الْجِنَايَة على موَالِي الْأُم مَعَ السَّرَايَة إِلَى وَقت الْجَرّ وَمَا حصل بعد الْجَرّ فعلى الْجَانِي فَإِنَّهُ كَيفَ تضرب على موَالِي الْأَب وَهُوَ نتيجة جِنَايَة قبل الْجَرّ وَكَيف تضرب على موَالِي الْأُم مَعَ السَّرَايَة وَإِنَّمَا حصل بعد الْجَرّ وَكَيف تضرب على بَيت المَال وَفِي الْحَالَتَيْنِ قد وجد من هُوَ

(6/371)


أولى مِنْهُ
وَبِالْجُمْلَةِ الضَّرْب على الْعَاقِلَة بِخِلَاف الْقيَاس فَتسقط بِالشُّبْهَةِ كَالْقصاصِ وَلَو قيل تضرب على بَيت المَال لم يكن بَعيدا فَلَو قطع الْيَدَيْنِ قبل الْجَرّ أَو قطع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ ثمَّ مَاتَ بعد الْجَرّ فعلى موَالِي الْأُم دِيَة كَامِلَة وَلَا يُبَالِي بقَوْلهمْ إِن هَذِه دِيَة نفس ذهبت بعد الْجَرّ لِأَن الْمَقْصُود أَن لَا نزيد عَلَيْهِم لما بعد الْجَرّ شَيْئا وَمِقْدَار الدِّيَة كَانَ لَازِما قبل الْجَرّ وَلم يرد بعده شَيْء
الْجِهَة الثَّالِثَة بَيت مَال الْمُسلمين فَإِنَّهُ مصب الْمَوَارِيث فَإِذا لم نجد من عصبات النّسَب وَالْوَلَاء محلا أَو فضل مِنْهُم ضربنا على بَيت المَال إِلَّا إِذا كَانَ الْجَانِي ذِمِّيا فَإِن لم يكن فِي بَيت المَال شَيْء رَجعْنَا إِلَى الْجَانِي وضربنا عَلَيْهِ هَذَا حكم الْجِهَات
أما الصِّفَات يشْتَرط فِيمَن تضرب عَلَيْهِ التَّكْلِيف والذكورة والموافقة فِي الدّين واليسار وَلَا تضرب على مَجْنُون وَصبي وَامْرَأَة وَإِن كَانَت مُعتقة لأَنهم لَيْسُوا أهل النُّصْرَة بِالسَّيْفِ
وَفِي الزَّمن الْمُوسر وَجْهَان لِأَنَّهُ بِحكم عجز الْحَال يضاهي النِّسَاء
ونعني بموافقة الدّين أَنه لَا يتَحَمَّل مُسلم عَن كَافِر وَلَا كَافِر عَن مُسلم وَهل يتَحَمَّل الْيَهُودِيّ عَن النَّصْرَانِي فعلى قَوْلَيْنِ منشؤهما أَن التَّوَارُث مَوْجُود والتناسل مَعْدُوم
وتضرب جِنَايَة الذِّمِّيّ على عَاقِلَته الذميين دون أهل الْحَرْب فَإِنَّهُم كالمعدومين وتضرب على المعاهدين فَإِن زَادَت عهودهم على أجل الدِّيَة فَإِن بَقِي سنة أَخذنَا حِصَّة تِلْكَ

(6/372)


السّنة فَإِن لم نجد أَوجَبْنَا على الْجَانِي دون بَيت المَال لِأَن بَيت المَال لَا يَرِثهُ وَيَرِث الْمُسلم نعم الذِّمِّيّ إِذا مَاتَ فَمَاله من الْخمس
وَأما الْيَسَار فَشرط وَلَا تضرب على فَقير وَإِن كَانَ معتملا وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يُكَلف المعتمل الْكسْب
ثمَّ على الْغَنِيّ نصف دِينَار وَلَا يُزَاد عَلَيْهِ وَهُوَ أول دَرَجَة الْمُوَاسَاة فِي الزَّكَاة وعَلى الْمُتَوَسّط نصف ذَلِك وَهُوَ ربع دِينَار
ونعني بالغني من ملك عشْرين دِينَارا عِنْد آخر السّنة الَّتِي هِيَ أصل الدِّيَة وَليكن ذَلِك فَاضلا عَن مَسْكَنه وثيابه وكل مَا لَا يحْسب فِي الْغنى فِي الْكَفَّارَات الْمرتبَة
والمتوسط من جَاوز حد الْفَقِير وَهُوَ الَّذِي ملك شَيْئا فَاضلا عَن حَاجته نَاقِصا عَن عشْرين دِينَار وَليكن ذَلِك أَكثر من ربع دِينَار حَتَّى لَا يردهُ أَخذه مِنْهُ إِلَى حد الْفقر
وَإِنَّمَا يعْتَبر الْيَسَار آخر السّنة فَلَو طَرَأَ الْيَسَار بعْدهَا أَو كَانَ قبلهَا فَلَا الْتِفَات إِلَيْهِ

(6/373)


الرُّكْن الثَّانِي فِي كَيْفيَّة الضَّرْب على الْعَاقِلَة

وَالنَّظَر فِي الْقدر وَالتَّرْتِيب وَالْأَجَل
أما الْقدر فَلَا يُزَاد على النّصْف وَالرّبع فِي حق الْغَنِيّ والمتوسط وَلكنه حِصَّة سنة وَاحِدَة أَو حِصَّة للسنين الثَّلَاث فِيهِ وَجْهَان
وكل مَا قل وَكثر مَضْرُوب على الْعَاقِلَة وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله مَا دون أرش الْمُوَضّحَة لَا يعقل وَفِي الْقَدِيم قَول أَنه لَا يحمل مَا دون ثلث الدِّيَة وَقَول أَنه لَا يحمل إِلَّا بدل النَّفس وهما مهجوران
فَإِن كَانَ أرش الْجِنَايَة نصف دِينَار والعاقلة مائَة مثلا فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَن القَاضِي يعين وَاحِدًا بِرَأْيهِ إِذْ توزيعه يُؤَدِّي إِلَى مُطَالبَة كل وَاحِد بِمَا لَا يتمول
وَالثَّانِي أَنه يوزع عَلَيْهِم وَعَلَيْهِم تَحْصِيل نصف دِينَار مُشْتَركا بَينهم
وَإِن كثر الْوَاجِب وَقلت الْعَاقِلَة بدأنا بالإخوة فَإِن فضل مِنْهُم شَيْء بعد أَدَاء كل وَاحِد مِنْهُم النّصْف أَو الرّبع ترقينا إِلَى بني الْإِخْوَة ثمَّ إِلَى الْأَعْمَام على التَّرْتِيب فَإِن فضل عَن الْعَصَبَات طالبنا الْمُعْتق فَإِن فضل عَنهُ شَيْء لم يضْرب على عصباته فِي جِنَايَة إِذْ لَا وَلَاء لَهُم وَفِي مَوته يسْلك بعصباته مَسْلَك عصبات الْجَانِي فَإِن لم نجد من جِهَة الْوَلَاء والقرابة أَخذنَا الْبَقِيَّة آخر السّنة من بَيت المَال ونفعل كَذَلِك بِحِصَّة السّنة الثَّانِيَة وَلَا يبعد أَن يتَحَمَّل فِي السّنة الثَّانِيَة من لم يتَحَمَّل فِي السّنة الأولى لعذر صغر أَو فقر

(6/374)


ثمَّ إِن لم يكن فِي بَيت المَال شَيْء فَفِي الرُّجُوع إِلَى الْجَانِي وَجْهَان ينبنيان على أَن الْوُجُوب يلاقيه أم لَا وَقيل إِنَّه يَنْبَنِي على أَنه إِن ظهر يسَار لبيت المَال بعد الْمدَّة فَهَل يُؤْخَذ مِنْهُ وَهَذَا الْبناء أولى فَإنَّا لَو قُلْنَا لَا يتَعَلَّق بِبَيْت المَال وَلَا يرجع إِلَى الْجَانِي كَانَ ذَلِك تعطيلا وَقطع القَاضِي بِأَنَّهُ لَا يضْرب على الْجَانِي وَذكر فِي فطْرَة الزَّوْجَة الموسرة عِنْد إعسار الزَّوْج وَجْهَيْن وَالْفرق عسير وَالْوَجْه التَّسْوِيَة فِي الْوُجُوب عِنْد الْعَجز عَن التَّحَمُّل كَيفَ وَقد قطع الْأَصْحَاب بِالرُّجُوعِ إِلَى الْجَانِي فِي مَسْأَلَتَيْنِ
إِحْدَاهمَا الذِّمِّيّ إِذا لم يكن لَهُ عَاقِلَة
وَالثَّانيَِة إِذا أقرّ الْجَانِي بالْخَطَأ وَأنكر الْعَاقِلَة ولَايَته طُولِبَ الْجَانِي وَالْفرق عسير وَغَايَة الْمُمكن توقع يسَار بَيت المَال فِي حق الْمُسلم الَّذِي تثبت عَلَيْهِ الْجِنَايَة بِالْبَيِّنَةِ بِخِلَاف مَا إِذا أنكر الْعَاقِلَة فَإِن إقرارهم بعيد وَالذِّمِّيّ لَا يتَوَقَّع لَهُ متحمل إِذْ لَا تتَعَلَّق جِنَايَته بِبَيْت المَال

فرع
لَو اعْترف الْعَاقِلَة بعد أَدَاء الْجَانِي فَإِن قُلْنَا الْوُجُوب يلاقيه رَجَعَ على الْعَاقِلَة وَإِن قُلْنَا لَا يلاقيه اسْتردَّ مَا أَدَّاهُ وطالب الْمَجْنِي عَلَيْهِ الْعَاقِلَة
أما الْأَجَل فمائة من الْإِبِل إِذا وَجَبت فِي النَّفس مَضْرُوبَة فِي ثَلَاث سِنِين وفَاقا يُؤْخَذ فِي آخر كل سنة ثلثهَا فَمنهمْ من قَالَ علته أَنه بدل النَّفس حَتَّى زَاد عَلَيْهِ فِي عبد قِيمَته مِائَتَان من الْإِبِل وَقُلْنَا تحمل اَوْ نقص فِي عبد خسيس أَو غرَّة جَنِين فَتضْرب أَيْضا فِي ثَلَاث سِنِين وَمِنْهُم من قَالَ علته الْقدر فقيمة العَبْد إِذا كَانَ مِائَتَيْنِ من الْإِبِل

(6/375)


تضرب فِي ثَلَاث سِنِين
ودية الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ فِي سنة وَاحِدَة ودية الْمَرْأَة فِي سنتَيْن ودية الْمَجُوسِيّ وغرة الْجَنِين فِي سنة وَاحِدَة لِأَن السّنة لَا تتجزأ

فروع

الأول لَو قتل وَاحِد ثَلَاثَة وَاجْتمعَ على عَاقِلَته ثَلَاثمِائَة من الْإِبِل فَمنهمْ من قَالَ إِن نَظرنَا إِلَى الْقدر فَتضْرب هُنَا فِي تسع سِنِين وَإِن نَظرنَا إِلَى النَّفس فَوَجْهَانِ إِذْ لَا يبعد أَن تزيد النُّفُوس المتعددة على نفس وَاحِدَة وَمِنْهُم من عكس وَقَالَ إِن نَظرنَا إِلَى النَّفس فَفِي ثَلَاث سِنِين وَإِن نَظرنَا إِلَى الْقدر فَوَجْهَانِ وَوجه الإقتصار أَن كل دِيَة متميزة عَن غَيرهَا وآجال الدُّيُون الْمُخْتَلفَة تتساوى وَلَا تتعاقب
فَإِن ضربنا فِي تسع سِنِين فَإِذا تمت السّنة الأولى أَخذ ثلث دِيَة وَاحِدَة ووزع على أَوْلِيَاء الْقَتْلَى وَكَذَا آخر كل سنة
فَإِن اخْتلف ابْتِدَاء التواريخ فَإِذا تمّ حول الأول أَخذ ثلث الدِّيَة وَسلم إِلَى ولي الْقَتِيل الأول فَإِذا ثمَّ حول الثَّانِي ثمَّ حول الثَّالِث فَكَذَلِك يفعل فَيتم ثلث دِيَة وَاحِدَة فِي ثَلَاثَة أَوْقَات وَهَكَذَا نَفْعل فِي تسع سِنِين
الثَّانِي ثَلَاثَة قتلوا وَاحِدًا فَالصَّحِيح أَن الدِّيَة تضرب على العواقل على كل عَاقِلَة ثلثهَا ويؤدى ذَلِك الثُّلُث فِي ثَلَاث سِنِين وَكَأَنَّهُم عَاقِلَة وَاحِدَة لِأَن الْمُسْتَحق وَاحِد وَقيل تضرب فِي سنة نظرا إِلَى الْمُسْتَحق عَلَيْهِ
الثَّالِث دِيَة إِحْدَى يَدي الْمُسلم تضرب فِي سنتَيْن إِذْ لم يكمل الْقدر وَلَا هُوَ بدل النَّفس ودية الْيَدَيْنِ كدية النَّفس من كل إِنْسَان ودية يَدي الْمَرْأَة كنفسها وَلَو قطع يَدي رجل وَرجلَيْهِ فَوَجْهَانِ

(6/376)


أَحدهمَا أَنه تضرب فِي سِتّ سِنِين وَهُوَ نظر إِلَى الْقدر وَمن نظر إِلَى النَّفس شبه هَذَا بنفسين وَقد ذكرنَا فِيهِ وَجْهَيْن وَفِي الْأَطْرَاف وَجه أَن بدلهَا كَيْفَمَا كَانَ تضرب فِي سنة وَاحِدَة وَهُوَ بعيد
الرَّابِع من مَاتَ فِي أثْنَاء السّنة أَو أعْسر فِي آخر السّنة فَكَأَنَّهُ لم يكن وَلَا يلْزمه شَيْء من حِصَّة تِلْكَ السّنة تَشْبِيها لَهُ بِتَلف نِصَاب الزَّكَاة فِي أثْنَاء الْحول
وَالذِّمِّيّ إِذا مَاتَ فِي أثْنَاء الْحول فَفِي حِصَّته من الْجِزْيَة وَجْهَان لِأَن فِيهِ مشابه الْأُجْرَة
الْخَامِس غيبَة بعض الْعَصَبَات فِي آخر الْحول هَل يكون كعدمهم فِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا نعم إِذْ يعسر تَحْصِيلهَا مِنْهُم فَتضْرب على البَاقِينَ وعَلى هَذَا تعْتَبر غيبَة لَا يُمكن تَحْصِيل المَال بالمكاتبة إِلَى القَاضِي فِي مُدَّة سنة
وَالثَّانِي أَنه تضرب عَلَيْهِ وَتحصل على حسب الْإِمْكَان وَهُوَ الْقيَاس
السَّادِس أول الْحول يحْسب من وَقت الرّفْع إِلَى القَاضِي سَوَاء شعر بِهِ الْعَاقِلَة أَو لم تشعر وَلم يحْسب من وَقت الْجِنَايَة لِأَن هَذِه مُدَّة تناط بالإجتهاد
وَلَو رفعت جِنَايَة إِلَى القَاضِي ثمَّ تولد سرَايَة بعد الرّفْع فأرش السَّرَايَة وَلَا يحْسب من وَقت الْجِنَايَة بل من وَقت السَّرَايَة

(6/377)


السَّابِع إِذا جنى العَبْد فأرشه يتَعَلَّق بِرَقَبَتِهِ وَلَا يتَعَلَّق بسيده وَلَا بعاقلته وَهل يتَعَلَّق بِذِمَّتِهِ حَتَّى يُطَالب بعد الْعتْق فِيهِ قَولَانِ والأقيس أَن يتَعَلَّق بِهِ
ثمَّ هَل يَصح ضَمَانه فِيهِ وَجْهَان منشؤهما ضعف هَذَا التَّعَلُّق
وَالأَصَح صِحَّته كَمَا فِي الْمُعسر وَمعنى التَّعَلُّق بِرَقَبَتِهِ أَن يُبَاع وَيصرف ثمنه إِلَى الْجِنَايَة فَلَو منع السَّيِّد وَاخْتَارَ الْفِدَاء فَلهُ ذَلِك وَفِي الْوَاجِب عَلَيْهِ قَولَانِ
أَحدهمَا أقل الْأَمريْنِ من الْأَرْش أَو قيمَة العَبْد لِأَنَّهُ لم يمْنَع إِلَّا من العَبْد
وَالثَّانِي يلْزمه كَمَال الْأَرْش لِأَن الْمَجْنِي عَلَيْهِ رُبمَا يَقُول رُبمَا أجد زبونا يَشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ
فعلى هَذَا لَو قَتله السَّيِّد أَو أعْتقهُ اقْتصر مِنْهُ على الْقيمَة فِي أحد الْوَجْهَيْنِ كَمَا لَو قَتله الْأَجْنَبِيّ إِذْ فَاتَ الطمع فِي الزبون وَقيل يلْزمه كَمَال الْأَرْش كَمَا إِذا أمْسكهُ
وَإِن جنت الْمُسْتَوْلدَة فالسيد يمانع بالاستيلاد السَّابِق فَعَلَيهِ أقل الْأَمريْنِ إِذْ لَا طمع فِي زبون يَشْتَرِي وَقيل بطرد الْقَوْلَيْنِ
فَلَو جنت الْمُسْتَوْلدَة مرَارًا وَلم يَتَخَلَّل الْفِدَاء فَهِيَ كجناية وَاحِدَة فتجمع وَيلْزم السَّيِّد أقل الْأَمريْنِ وَإِن تخَلّل الْفِدَاء فَهَذَا فِي الْقِنّ يَقْتَضِي فدَاء جَدِيدا لِأَنَّهُ مَانع بِمَنْع جَدِيد وَفِي الْمُسْتَوْلدَة قَولَانِ لِأَن الْمَنْع مُتحد فَإِن قُلْنَا لَا يتَكَرَّر الْفِدَاء فيسترد مَا سلم إِلَى الأول ويوزع

(6/378)


عَلَيْهِمَا وَلَا يستبعد هَذَا كَمَا لَو حفر بِئْرا فتردى فِيهِ إِنْسَان فصرفت تركته إِلَى ضَمَانه فتردى فِيهِ إِنْسَان آخر فَإِنَّهُ يسْتَردّ ويوزع
فرع لَو قَالَ السَّيِّد اخْتَرْت فدَاء العَبْد فَهَل يلْزمه أم يبْقى على حُرِّيَّته فِيهِ وَجْهَان
وَلَو وطىء الْجَارِيَة الجانية هَل يكون اخْتِيَار للْفِدَاء كَالْوَطْءِ فِي زمَان الْخِيَار فِيهِ وَجْهَان وَالأَصَح أَنه يبْقى على خيرته مَا لم يرد الْفِدَاء وَأَن الوطأ لَا يكون اخْتِيَارا

(6/379)


الْقسم الرَّابِع من الْكتاب فِي دِيَة الْجَنِين

وَقد قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بغرة عبد أَو أمة على الْعَاقِلَة فَقَالُوا كَيفَ نفدي من لَا شرب وَلَا أكل وَلَا صَاح وَلَا اسْتهلّ وَمثل ذَلِك يطلّ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام
أسجعا كسجع الْجَاهِلِيَّة وَقضى بالغرة
وَالنَّظَر فِيهِ فِي ثَلَاثَة أَطْرَاف الْمُوجب والموجب فِيهِ وَالْوَاجِب
الطّرف الأول فِي مُوجب الْغرَّة وَهِي جِنَايَة توجب انْفِصَال الْجَنِين مَيتا فَإِن انْفَصل حَيا ثمَّ مَاتَ من أثر الْجِنَايَة وَجب دِيَة كَامِلَة سَوَاء كَانَت الْحَيَاة مُسْتَقِرَّة أَو كَانَ حَرَكَة الْمَذْبُوح سَوَاء كَانَ قبل سِتَّة أشهر وَلَا تدوم تِلْكَ الْحَيَاة أَو بعده لِأَن الْحَيَاة صَارَت مستيقنة بل نزيد فَنَقُول من حز رَقَبَة مثل هَذَا الْجَنِين وَهُوَ فِي حَرَكَة المذبوحين أَو أجهض لدوّنَ سِتَّة أشهر فَعَلَيهِ الْقصاص إِلَّا إِذا كَانَ ذَلِك من أثر جِنَايَة سَابِقَة وَهُوَ كفرقنا بَين الْمَرِيض المشرف على الْهَلَاك وَبَين قتل من أشرف على الْهَلَاك بِجِنَايَة
وَمهما صَار إِلَى حَرَكَة المذبوحين بِجِنَايَة فحز غير الْجَانِي رقبته فَالدِّيَة على الْجَانِي وَقَالَ

(6/380)


الْمُزنِيّ رَحمَه الله لَا تتمّ الدِّيَة فِي جَنِين انْفَصل قبل سِتَّة أشهر وَلَا يجب فِيهِ الْقصاص لِأَنَّهُ منع للحياة لَا قطع لَهَا فَإِن هَذِه الْحَيَاة لَا يتَوَهَّم استقرارها
وَلَو مَاتَت الْأُم وَلم ينْفَصل الْجَنِين فَلَا غرَّة إِذْ لَا تتيقن حَيَاة الْجَنِين وَلَا وجوده وَلَو انْفَصل مَيتا وَهِي حَيَّة أَو ميتَة وَجب الْغرَّة وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يُحَال مَوته على موت الْأُم وَعِنْدنَا يُحَال كِلَاهُمَا على الْجِنَايَة
ثمَّ اخْتلفُوا فِي أَن الْمُعْتَبر انكشاف الْجَنِين أَو انْفِصَاله حَتَّى لَو خرج رَأسه وَمَاتَتْ الْأُم كَذَلِك فَفِي وجوب الْغرَّة وَجْهَان
أَحدهمَا تجب إِذْ تحقق وجوده بالإنكشاف
وَالثَّانِي لَا إِذْ لم ينْفَصل
وَكَذَا لَو قدت الْمَرْأَة بنصفين وشاهدنا الْجَنِين فِي بَطنهَا فَهُوَ على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ
وعَلى هَذَا لَو خرج رَأسه وَصَاح فحزت رقبته فَفِي وجوب الْقصاص وَجْهَان بِنَاء على أَن هَذَا الإنفصال هَل يعْتد بِهِ وَلَو أَلْقَت يدا وَاحِدَة وَمَاتَتْ وَلم تلق شَيْئا آخر وَجَبت الْغرَّة إِذْ تَيَقنا وجود الْجَنِين بانفصال الْعُضْو وَلَو أَلْقَت رَأْسَيْنِ أَو أَرْبَعَة أيد لم نزد على غرَّة وَاحِدَة لاحْتِمَال أَن يكون الْجَنِين وَاحِدًا وَلَو أَلْقَت بدنين فغرتان وَقد أخبر الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بِامْرَأَة لَهَا رأسان فنكحها بِمِائَة دِينَار وَنظر إِلَيْهَا وَطَلقهَا وَلَو أَلْقَت يدا ثمَّ أَلْقَت

(6/381)


جَنِينا مَيتا سليم الْيَدَيْنِ لم نزد على غرَّة لاحْتِمَال انها كَانَت زَائِدَة فَسَقَطت وانمحى أَثَرهَا
وَلَو انْفَصل جَنِين حَيا سَاقِط الْيَدَيْنِ وَجَبت دِيَة تَامَّة وَإِن كَانَ صَحِيح الْيَدَيْنِ وَأَلْقَتْ مَعَه يدا وَجَبت حُكُومَة لتِلْك الْيَد فَإِن قيل فَلَو تنَازع الْمَرْأَة والجاني قُلْنَا إِن تنَازعا فِي أصل الْجِنَايَة أَو الإجهاض فَالْقَوْل قَوْله وَلَا يثبت الإجهاض إِلَّا بِشَهَادَة القوابل وَإِن اعْترف بهَا وَلَكِن قَالَ لم يكن الإجهاض بِالْجِنَايَةِ فَإِن كَانَت متألمة ذَات فرش إِلَى الإجهاض فَالْقَوْل قَوْلهَا وَإِلَّا فَهُوَ نزاع فِي سرَايَة الْجراحَة
وَلَو سلم جَمِيع ذَلِك وَلَكِن قَالَت الْمَرْأَة انْفَصل حَيا ثمَّ مَاتَ فَعَلَيْك كَمَال الدِّيَة وَقَالَ الْجَانِي بل انْفَصل مَيتا فعلي غرَّة فَالْقَوْل قَوْله وَعَلَيْهَا إِثْبَات الْحَيَاة وَتثبت بِشَهَادَة النسْوَة وَإِن لم تدم الْحَيَاة لِأَن شَهَادَة الرِّجَال لَا تمكن
وَلَو سلم الإنفصال حَيا بِالْجِنَايَةِ وَلَكِن قَالَ مَاتَ بِسَبَب آخر أَو مَاتَ بالطلق فَإِن لم يكن على الْجَنِين أثر الْحَيَاة القو قَوْله إِذْ الطلق سَبَب ظَاهر وَإِن كَانَ عَلَيْهِ أثر الْحَيَاة فَالْقَوْل قَوْلهَا
الطّرف الثَّانِي فِي الْمُوجب فِيهِ وَهُوَ الْجَنِين ونعني بِهِ مَا بَدَأَ فِيهِ التخطيط والتخليق وَلَو فِي طرف من الْأَطْرَاف على وَجه تُدْرِكهُ القوابل وَإِن لم يُدْرِكهُ غَيْرهنَّ
فَإِن أسقط قبل التخطيط مُضْغَة أَو علقَة لم يلْزمه بِهِ شَيْء على الْأَصَح
هَذَا فِي أصل الْجَنِين

(6/382)


أما صفته فَإِن كَانَ حرا مُسلما فَفِيهِ غرَّة إِذْ فِيهِ ورد الْخَبَر وَإِن كَانَ كَافِرًا فَثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه لَا يجب شَيْء إِذْ فِي إِيجَابه تَسْوِيَة بَينه وَبَين الْمُسلم والتجزئة غير مُمكن لِأَن قيمَة الْغرَّة غير مقدرَة
وَالثَّانِي أَنه يجب ثلث الْغرَّة وَفِي الْجَنِين الْمَجُوسِيّ ثلث خمس الْغرَّة وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ ولتكن قيمَة الْغرَّة مَا تَسَاوِي خمْسا من الْإِبِل أَو خمسين دِينَار
وَالثَّالِث أَنه تجب الْغرَّة وَلَا نبالي بالتسوية

(6/383)


فرعان على قَوْلنَا بالتفاوت

أَحدهمَا الْمُتَوَلد من نَصْرَانِيّ أَو مَجُوسِيّ فِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنا نَأْخُذ بأخف الديتين
وَالْآخر أَنا نَأْخُذ بالأغلظ
وَالثَّالِث أَنا نعتبر جَانب الْأَب
الْفَرْع الثَّانِي أَن المرعي حَالَة الإنفصال فِي الْمِقْدَار فَلَو جنى على ذِمِّيَّة فَأسْلمت وأجهضت فَالْوَاجِب غرَّة كَامِلَة وَكَذَلِكَ فِي طرآن الْعتْق وَلَو جنى على بطن حربية فَأسْلمت وأجهضت فَفِي أصل ضَمَان الْجَنِين وَجْهَان يضاهي الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذا رمى إِلَى حَرْبِيّ فَأسلم قبل الْإِصَابَة وَكَأن وُصُول الْجِنَايَة إِلَى الْجَنِين بالانفصال
أما الْجَنِين الرَّقِيق فَلَا يكون إِلَّا فِي بطن الرقيقة وَفِيه إِذا سقط مَيتا بِالْجِنَايَةِ عشر قيمَة الْأُم فَإِن بدل الْغرَّة خمس من الْإِبِل وَهِي عشر الْخمسين الَّتِي هِيَ دِيَة الْأُم وجراح الرَّقِيق من قِيمَته كجراح الْحر من دِيَته
وَهَذَا قد يُفْضِي إِلَى تَفْضِيل الْمَيِّت على الْحَيّ إِذْ لَو أسقط حَيا ثمَّ مَاتَ رُبمَا لم يلْزم إِلَّا دِينَار وَهُوَ قِيمَته وَإِذا سقط مَيتا فعشر قيمَة الْأُم وَرُبمَا كَانَ مائَة لَكِن سلك فِي هَذَا الِاعْتِبَار بِهِ مَسْلَك الْأَعْضَاء فَلَا يُقَاس بِحَال الإستقلال وَمَعَ هَذَا فَالْوَاجِب مثل عشر قيمَة الْأُم لَا عشر قيمَة الْأُم وَلذَلِك يصرف إِلَى وَرَثَة الْجَنِين وَلَا تخْتَص الْأُم باستحقاقها
ثمَّ إِنَّمَا يرْعَى قيمَة الْأُم عِنْد الْجِنَايَة لِأَنَّهُ أغْلظ الْأَحْوَال كَمَا إِذا جنى على عبد فَمَاتَ بِالسّرَايَةِ إِذْ يلْزم أقْصَى الْقيم من وَقت الْجِنَايَة إِلَى الْمَوْت وَقَالَ الْمُزنِيّ رَحمَه الله يعْتَبر وَقت الإنفصال كَمَا فِي حُرِّيَّته وإسلامه

(6/384)


فرعان

الأول إِذا انْفَصل جَنِين الرَّقِيق سليما وَالأُم مَقْطُوعَة الْأَطْرَاف فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا انا نوجب عشر قيمَة الْأُم سليمَة الْأَطْرَاف ونكسوها صفة السَّلامَة تَقْديرا كَمَا نكسوها الْحُرِّيَّة وَالْإِسْلَام إِذا كَانَ الْجَنِين حرا مُسلما
وَالثَّانِي أَن السَّلامَة لَا تقدر لِأَنَّهُ أَمر خلقي وَلِأَن سَلامَة أَطْرَاف الْجَنِين لَا يوثق بهَا بِخِلَاف الْحُرِّيَّة وَالْإِسْلَام فَلَو كَانَ الْجَنِين نَاقص الْأَطْرَاف فتقدير نُقْصَان الْأُم أبعد إِذْ رُبمَا نقص الْجَنِين بِالْجِنَايَةِ
الثَّانِي خلف رجل زوجه حَامِلا وأخا لأَب وعبدا قِيمَته عشرُون دِينَارا فجنى العَبْد على بَطنهَا فأجهضت وَتعلق بِرَقَبَتِهِ غرَّة قيمتهَا سِتُّونَ دِينَار فالمرأة تسْتَحقّ من الْغرَّة ثلثا وَهُوَ عشرُون فقد ضَاعَ مِنْهُ الرّبع إِذْ ربع الْجَانِي ملكهَا وَلَا يسْتَحق الْمَالِك على ملك نَفسه شَيْئا وَثَلَاثَة أَربَاع حَقّهَا وَهُوَ خَمْسَة عشر تتَعَلَّق بِنَصِيب الْأَخ ونصيبه يساوى خَمْسَة عشر فَإِن لَهُ ثَلَاثَة أَربَاع العَبْد وَأما الْأَخ اسْتحق ثُلثي الْغرَّة وَهِي أَرْبَعُونَ وَضاع ثَلَاثَة أَرْبَاعه لِأَن ثَلَاثَة أَربَاع الْجَانِي ملكه فَيبقى سدس الْغرَّة مُتَعَلقَة بِنَصِيب الْمَرْأَة ونصيبها ربع العَبْد وَهُوَ خَمْسَة فَإِذا سلم العَبْد ضَاعَ الْخَمْسَة الفاضلة وعَلى هَذَا تقاس جِنَايَة العَبْد الْمُشْتَرك على المَال الْمُشْتَرك بَين سيديه إِذا كَانَ بَين الحصتين تفَاوت إِمَّا فِي العَبْد وَالْمَال أَو فِي أَحدهمَا
الطّرف الثَّالِث فِي صفة الْغرَّة ويرعى فِيهِ ثَلَاثَة أُمُور

(6/385)


الأول السَّلامَة من كل عيب يثبت الرَّد فِي البيع وَلَا تراعي خِصَال الضَّحَايَا وَالْكَفَّارَة لِأَن هَذَا جبر مَال
الثَّانِي السن وَلَا يقبل مَا دون سبع أَو ثَمَان لانه كل على آخذه وَفِي جِهَة الْكبر لَا يُؤْخَذ مَا جَاوز الْعشْرين فِي الْجَارِيَة وَجَاوَزَ الْخَمْسَة عشر فِي الْغُلَام لِأَنَّهُ لَا يعد من الْخِيَار الغر وَالْوَاجِب غرَّة عبد أَو أمة وَقيل الْمَانِع فِي جِهَة الْكبر هُوَ الْهَرم المضعف للمنة
الثَّالِث نفاسة الْقيمَة وَفِيه وَجْهَان
أَحدهمَا لَا يعْتَبر بل السَّلِيم من هَذَا السن يقبل وَإِن كَانَ قِيمَته دِينَارا
وَالثَّانِي لَا يقبل إِلَّا مَا تعدل قِيمَته خمْسا من الْإِبِل أَو خمسين دِينَار فَإِن الْخمس من الْإِبِل يرجع إِلَيْهِ عِنْد عدم الْغرَّة وَلَا ينقص الْمُبدل عَن الْبَدَل وَلِأَنَّهُ لَو لم يتَقَدَّر لعسر الْفرق بَين الْمُسلم وَالْكَافِر كَمَا سبق
فَإِن قيل فَلَو فقدت الْغرَّة قُلْنَا فِي بدلهَا قَولَانِ
الْجَدِيد أَنه خمس من الْإِبِل وَلَا يُمكن أَن يعرف هَذَا إِلَّا بالتوقيف وَلَعَلَّه ورد إِذْ هُوَ مَأْخَذ ومعتمد الْفَرِيقَيْنِ فِي النِّسْبَة فِي الْجَنِين الرَّقِيق فَإِن فقدت الْإِبِل أَيْضا فَهُوَ كإبل الدِّيَة
وَالْقَوْل الْقَدِيم أَن بدل الْغرَّة قيمتهَا فَإِن قيل فالغرة لمن وعَلى من قُلْنَا لوَارث الْجَنِين وَهُوَ الْأُم والعصبة وعَلى عَاقِلَة الْجَانِي وَلَا يُمكن أَن تكون على الْجَانِي لِأَن الْعمد غير مُتَصَوّر فِيهِ إِذْ لَا يتَيَقَّن جِنَايَة بِحَال فَإِن كَانَ عدد الْعَاقِلَة لَا يَفِي إِلَّا بِالنِّصْفِ فَعَلَيْهِم نصف قيمَة الْغرَّة لَا قيمَة نصف الْغرَّة وَبَينهمَا فرق إِذْ الْغرَّة رُبمَا تسوى ألفا وَالنّصف يُؤْخَذ بأربعمائة فَالْوَاجِب خَمْسمِائَة كَامِلَة وَهُوَ نصف الْكل

(6/386)


فرع
إِذا بَقِي على الْأُم شين وجراحة ضم إِلَى الْغرَّة حُكُومَة لَهَا فَإِن لم يكن إِلَّا الْأَلَم اندرج تَحت الْغرَّة
هَذَا تَمام النّظر فِي الدِّيَة وَالْقصاص من مُوجبَات الْقَتْل فلنذكر الْمُوجب الثَّالِث وَهِي الْكَفَّارَة

(6/387)