الوسيط في المذهب

= كتاب الْجِنَايَات=

(6/251)


اعْلَم أَن أَدِلَّة الشَّرِيعَة من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع متظاهرة على أَن الْقَتْل كَبِيرَة متفاحشة مُوجبَة للعقوبة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وموجباته فِي الدُّنْيَا ثَلَاثَة الْقصاص وَالدية وَالْكَفَّارَة
أما الْقصاص فالنظر فِي حكمه عِنْد الْعَفو والإستيفاء وَفِي مُوجبه أما الْمُوجب فالنظر فِيهِ يتَعَلَّق بالطرف وَالنَّفس أما النَّفس فالنظر فِيهَا يتَعَلَّق بأركان وَهُوَ الْقَاتِل والقتيل وَنَفس الْقَتْل
الرُّكْن الأول الْقَتْل نَفسه

والموجب للْقصَاص مِنْهُ كل فعل عمد محص عدوان مزهق للروح
وَقَوْلنَا مزهق يتَنَاوَل الْمُبَاشرَة وَالسَّبَب فَلَزِمَ تَمْيِيز الْعمد الْمَحْض عَن غَيره وتمييز السَّبَب عَن غَيره وينكشف بِالنّظرِ فِي أَطْرَاف خَمْسَة

(6/253)


الطّرف الأول فِي تَمْيِيز الْعمد عَن شبه الْعمد

وَالْقَصْد لَهُ ثَلَاث متعلقات
أَحدهَا بِالْفِعْلِ فَمن تزلق رِجْلَاهُ فَسقط على غَيره فَمَاتَ فَهُوَ خطأ مَحْض
الثَّانِي التَّعَلُّق بالشخص فَمن رمى إِلَى صيد فَأصَاب إنْسَانا فَهُوَ خطأ مَحْض وَإِن كَانَ الْفِعْل بِاخْتِيَارِهِ
الثَّالِث الْقَصْد الْمُتَعَلّق بزهوق الرّوح وَبِهَذَا يتَمَيَّز الْعمد عَن شبه الْعمد
وَفِي ضَبطه طَرِيقَانِ
أَحدهمَا أَن مَا علم حُصُول الْمَوْت بِهِ بعد وجود قصد الْفِعْل والشخص فَهُوَ عمد مَحْض سَوَاء كَانَ قصد الْفَاعِل إزهاق الرّوح أَو لم يكن قصد وَسَوَاء كَانَ حُصُول الْمَوْت بِهِ غَالِبا أَو نَادرا كَقطع الْأُنْمُلَة
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة أَن الضَّابِط مَا يقْصد بِهِ الْقَتْل غَالِبا فِي المثقل فَأَما فِي

(6/254)


الْجِرَاحَات فَكل جرح سَار ذِي غور لِأَن قطع الْأُنْمُلَة لَا يقْصد بِهِ الْقَتْل غَالِبا ثمَّ هُوَ مُوجب للْقصَاص وَهَذَا ضَعِيف لِأَن معنى الْعمد لَا يخْتَلف بِالْجرْحِ والمثقل وللمثقل أَيْضا تَأْثِير فِي الْبَاطِن وغور فِي الترضيص
والطريقة الأولى أَيْضا مدخولة لِأَنَّهُ لَو ضرب كوعه بعصا فتورم ودام الْأَلَم حَتَّى مَاتَ علم حُصُول الْمَوْت بِهِ وَلَا قصاص فِيهِ لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
قَتِيل السَّوْط والعصا فِيهِ مائَة من الْإِبِل وَأي فرق بَينه وَبَين مَا لَو غرز إبرة فأعقبت ألما وورما حَتَّى مَاتَ إِذْ يجب الْقصاص بِهِ وَلَو أعقبت ألما دون الورم فَوَجْهَانِ فَإِن أمكن أَن يُقَال الْمَضْرُوب بالعصا لَعَلَّه مَاتَ فَجْأَة بِسَبَب فِي بَاطِنه أمكن ذَلِك فِي غرز الإبرة كَيفَ وَقد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه لَو أبان بعض الْأَصَابِع فتأكل الْبَاقِي فَلَا قصاص فِي الْبَاقِي وَقد علم حُصُول السَّرَايَة بِهِ وَنَصّ على أَنه لَو ضرب رَأسه فَأذْهب ضوء عَيْنَيْهِ وَجب الْقصاص فِي الضَّوْء لِأَن اللطائف تقصد بِالسّرَايَةِ دون الْأَجْسَام وَقد علم حُصُول السَّرَايَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَعَن هَذَا تصرف بعض الْأَصْحَاب فِي النصين بِالنَّقْلِ والتخريج وَقَالُوا فيهمَا قَولَانِ فَتخرج الطريقتان على الْقَوْلَيْنِ

(6/255)


وَلما عسر الضَّبْط على أبي حنيفَة رَحمَه الله إِذْ رأى الْقَصْد خفِيا عول على الْجَارِح فَلَزِمَهُ إِسْقَاط الْقصاص فِي التَّفْرِيق والتخنيق وَالتَّحْرِيق
فَالْأولى فِي تَعْلِيل مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن نَتْرُك الضَّبْط ونقول حُصُول الْمَوْت بِالسَّبَبِ إِمَّا أَن يكون نَادرا أَو كثيرا أَو غَالِبا وَلَيْسَ كل كثير غَالِبا فَإِن الْمَرَض كثير وَلَيْسَ بنادر وَلَا غَالب بل الْغَالِب الصِّحَّة والجذام نَادِر لَا كثير وَلَا غَالب فَكل مَا كَانَ حُصُول الْمَوْت بِهِ نَادرا فَلَا قصاص فِيهِ كالعصا وَالسَّوْط وغرز إبرة لَا تعقب ورما وَلما كَانَ

(6/256)


سُقُوط الْأَطْرَاف بِالسّرَايَةِ نَادرا نَص على سُقُوط الْقصاص فِيهِ بِخِلَاف زَوَال اللطائف كالعقل وَالْبَصَر
ويقابل هَذِه الرُّتْبَة مَا كَانَ حُصُول الْمَوْت بِهِ غَالِبا كالجراحات الْكَبِيرَة والمثقلات فتلحق بِمَا يكون حُصُول الْمَوْت بِهِ ضَرُورِيًّا كالتخنيق وحز الرَّقَبَة
والمتوسط الَّذِي يكون حُصُول الْمَوْت بِهِ كثيرا لَا غَالِبا كالجراحات الواسعة فَوق غرز الإبرة وكقطع الْأُنْمُلَة وكالعصا وَالسَّوْط فَفِي هَذَا ينظر إِلَى السَّبَب الظَّاهِر وَهُوَ الْجرْح مزهقا فَيجب الْقصاص بِهِ لِأَن الْجرْح طَرِيق سالك إِلَى الإزهاق غَالِبا وَإِن لم يكن قدر هَذَا الْجرْح مزهقا غَالِبا وَمَا لَا يجرح فَلَيْسَ طَرِيقا غَالِبا فَاعْتبر فِيهِ أَن يتَحَقَّق كَونه بِالْإِضَافَة إِلَى الشَّخْص وَالْحَال مهْلكا غَالِبا ثمَّ ذَلِك يخْتَلف بالأشخاص وَالْأَحْوَال فليحكم فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ
فَإِن قيل لَو ضرب شخصا ضربا يقتل الْمَرِيض غَالِبا لَكِن ظَنّه صَحِيحا قُلْنَا يجب الْقصاص لِأَن هَذَا الظَّن إِذا لم ينف الْعدوان فِي الْفِعْل وَهُوَ فِي نَفسه قَاتل فَلَا يكون

(6/257)


مَعْذُورًا بجهله بِخِلَاف مَا لَو صدر هَذَا من مؤدب أَو أَب أَو من طَبِيب سقَاهُ شَيْئا يقتل ذَلِك الْمَرِيض إِلَّا أَنه لم يعرف مَرضه فَلَا يجب الْقصاص لِأَنَّهُ جهل أَبَاحَ الْفِعْل
فَإِن قيل إِذا سقِِي غَيره دَوَاء يقتل كثيرا لَا غَالِبا فَهُوَ كالجراحات أَو المثقلات قُلْنَا ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب أَنه كغرز الإبرة فَإِن أعقب تغيرا أَو تألما وَجب الْقصاص لِأَن أغشية الْبَاطِن رقيقَة فَيَنْقَطِع بالدواء فَكَانَ إِلْحَاقه بِالْجرْحِ أولى

(6/258)


الطّرف الثَّانِي فِي تَمْيِيز السَّبَب عَن الْمُبَاشرَة

وَمَا يحصل الْمَوْت عقبه يَنْقَسِم إِلَى شُرُوط وَعلة وَسبب
أما الشَّرْط فَهُوَ الَّذِي يحصل عِنْده لِأَنَّهُ كحفر الْبِئْر مَعَ التردية فَإِن الْمَوْت بالتردية لَكِن الْحفر شَرط وَكَذَا الْإِمْسَاك مَعَ الْقَتْل وَالشّرط لَا يتَعَلَّق الْقصاص بِهِ
وَأما الْعلَّة فَمَا تولد الْمَوْت إِمَّا بِغَيْر وَاسِطَة كحز الرَّقَبَة وَإِمَّا بِوَاسِطَة كالرمي فَإِنَّهُ يُولد الْجرْح وَالْجرْح يُولد السَّرَايَة والسراية تولد الْمَوْت وَهَذَا يتَعَلَّق الْقصاص بِهِ
أما السَّبَب فَمَا لَهُ أثر فِي التولد وَلكنه يشبه الشَّرْط من وَجه فَهَذَا على ثَلَاث مَرَاتِب
الأولى الْإِكْرَاه على الْقَتْل وَهُوَ مُوجب للْقصَاص فَإِنَّهُ شَدِيد الشّبَه بِالْعِلَّةِ لِأَنَّهُ يُولد فِي الْمُكْره دَاعِيَة الْقَتْل غَالِبا
الثَّانِيَة شَهَادَة الزُّور فَإِنَّهَا تولد فِي القَاضِي دَاعِيَة الْقَتْل لكنه دون الْإِكْرَاه فَإِن هَذَا إلجاء شرعا والاول حسا لَكِن لما كَانَ كل وَاحِد يُفْضِي إِلَى الْقَتْل غَالِبا فِي شخص معِين لم نفرق بَينهمَا وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله لم يلْحق الشَّهَادَة بِالْإِكْرَاهِ
الثَّالِثَة مَا يُولد الْمُبَاشرَة توليدا عرفيا لَا حسيا وَلَا شَرْعِيًّا كتقديم الطَّعَام المسموم إِلَى

(6/259)


الضَّيْف فَفِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا لَا قصاص على الْمُقدم لِأَن الْأكل لَيْسَ ملجئا لَا حسا وَلَا شرعا
وَالثَّانِي يجب لِأَن هَذَا التَّغْرِير يُفْضِي إِلَى الْقَتْل غَالِبا فِي معِين ثمَّ الصَّحِيح أَن الدِّيَة تجب وَقيل بطرد الْقَوْلَيْنِ
وَلَو وضع الطَّعَام المسموم فِي دَاره اعْتِمَادًا على أَن الدَّاخِل الْمَقْصُود سيأكله انبساطا فَلَا قصاص عَلَيْهِ وَقيل بطرد الْقَوْلَيْنِ فَلَو دَعَا الضَّيْف وحفر فِي الدهليز بِئْرا فتردى فِيهِ فَفِي الْقصاص قَولَانِ فَإِن قيل لَو جرى سَبَب وَقدر الْمَقْصُود على دَفعه وَلم يدْفع قُلْنَا هَذَا على مَرَاتِب
الأولى أَن لَا يكون السَّبَب مهْلكا كَمَا لَو فتح عرقه بِغَيْر إِذْنه وَلم يعصب حَتَّى نزف الدَّم أَو أَلْقَاهُ فِي مَاء قَلِيل فَبَقيَ مُسْتَلْقِيا حَتَّى غرق أَو حَبسه فِي بَيت فَلم يطْلب طَعَاما مَعَ الْقُدْرَة حَتَّى مَاتَ فَهُوَ الَّذِي أهلك نَفسه فَلَا دِيَة لَهُ وَلَا قصاص
الثَّانِيَة أَن يكون السَّبَب مهْلكا وَالدَّفْع عسيرا كَتَرْكِ مداواة الْجرْح فالقصاص وَاجِب
الثَّالِثَة أَن يكون السَّبَب مهْلكا وَكَانَ الدّفع سهلا كَمَا لَو أَلْقَاهُ فِي مَاء مغرق فَترك السباحة وَهُوَ يحسنها فَفِيهِ وَجْهَان وَوجه الْإِيجَاب أَنه قد يدهش عَن السباحة وَالسَّبَب فِي نَفسه مهلك وَفِي الدِّيَة وَجْهَان مرتبان وَأولى بِالْوُجُوب

(6/260)


وَلَو أَلْقَاهُ فِي نَار فَوقف فَوَجْهَانِ مرتبان وَالظَّاهِر وجوب الْقصاص لِأَن النَّار بِأول اللِّقَاء تشنج الْأَعْضَاء فتعسر الْحَرَكَة بِهِ
فَإِن قيل لَو كَانَ بِهِ بعض الْجُوع فحبسه وَمنعه الطَّعَام حَتَّى مَاتَ قُلْنَا إِن علم وَجب الْقصاص كَمَا لَو قصد مَرِيضا بِضَرْب خَفِيف وَإِن كَانَ جَاهِلا بجوعه فَفِي الْقود قَولَانِ
أَحدهمَا يجب كَمَا لَو ضرب مَرِيضا على ظن أَنه صَحِيح فالجوع السَّابِق وَإِن كَانَ معينا فَهُوَ كالمرض
وَالثَّانِي لَا يحب لِأَن هَذَا الْقدر من الْجُوع لَيْسَ مهْلكا وَزِيَادَة الْجُوع الأول هُوَ الَّذِي أهلك بِخِلَاف الضَّرْب فَإِنَّهُ لَيْسَ زِيَادَة فِي الْمَرَض لِأَنَّهُ لَيْسَ من جنسه فَلم يُمكن إِحَالَة الْهَلَاك عَلَيْهِ
وَحَيْثُ لَا نوجب الْقصاص فَلَا بُد من الدِّيَة وَفِي قدرهَا قَولَانِ
أَحدهمَا الْكل إِذْ سُقُوط الْقصاص كَانَ بِالشُّبْهَةِ
وَالثَّانِي النّصْف لِأَن الْهَلَاك حصل بالجوعين فَهُوَ كَمَا لَو وضع فِي السَّفِينَة المثقلة زِيَادَة مغرقة فَفِي قدر الضَّمَان ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا الْكل وَالثَّانِي النّصْف وَالثَّالِث التَّوْزِيع لِأَن تَأْثِير المثقلات فِي الإغراق متناسب بِخِلَاف تَأْثِير الْجُوع وَالْجرْح

(6/261)


الطّرف الثَّالِث فِي اجْتِمَاع السَّبَب والمباشرة

أما الشَّرْط فَلَا يخفى سُقُوطه مَعَهُمَا كالممسك مَعَ الْقَاتِل والحافر مَعَ المردي إِذْ لَا قصاص عَلَيْهِمَا وَلَا ضَمَان خلافًا لمَالِك رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ جعل الممسك شَرِيكا وَأما الْمُبَاشرَة مَعَ السَّبَب فعلى مَرَاتِب
الأولى أَن يغلب السَّبَب الْمُبَاشرَة وَذَلِكَ إِذا لم تكن الْمُبَاشرَة عُدْوانًا كَقَتل القَاضِي والجلاد مَعَ شَهَادَة الزُّور فالقصاص على الشُّهُود فَإِن كَانَ عُدْوانًا بِأَن اعْترف ولي الْقصاص بِكَوْنِهِ عَالما بالتزوير فَلَا قصاص على الشُّهُود وَلَا دِيَة لِأَنَّهُ لم يلجأ حسا وَلَا شرعا فَصَارَ قَوْلهم شرطا مَحْضا كالإمساك
الثَّانِيَة أَن يصير السَّبَب مَغْلُوبًا بِالْمُبَاشرَةِ كَمَا إِذا أَلْقَاهُ من شَاهِق الْجَبَل فَتَلقاهُ إِنْسَان بِسَيْفِهِ فَقده بنصفين فَلَا قصاص على الملقي عرف أَو لم يعرف لِأَن إلقاءه صَار شرطا مَحْضا لما ورد عَلَيْهِ مُبَاشرَة مُسْتَقلَّة

(6/262)


الثَّالِثَة أَن يعتدل السَّبَب والمباشرة كالإكراه على الْقَتْل فالأقوى لَا يحبط مُبَاشرَة الْمُكْره خلافًا لزفَر وَأبي يُوسُف وَهل تصير الْمُبَاشرَة مغلوبة بِهِ حَتَّى لَا يجب الْقصاص على الْمُكْره فِيهِ قَولَانِ فَإِن لم نوجب الْقصاص فَفِي الدِّيَة قَولَانِ مرتبان وَأولى بِالْوُجُوب لِأَنَّهَا تثبت مَعَ الشُّبْهَة وَوجه الْإِسْقَاط نقل الْفِعْل عَن الْمُكْره وَجعله كالآلة وَإِن أَوجَبْنَا الدِّيَة فَفِي طريقها وَجْهَان
أَحدهمَا تجب عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ثمَّ يرجع على الْمُكْره
وَالثَّانِي يجب النّصْف لِأَن إِيجَاب الْقصاص عَلَيْهِمَا كالتشريك فَإِن قُلْنَا لَا دِيَة فَفِي الْكَفَّارَة وَجْهَان وَجه إِثْبَاتهَا أَنه آثم بِالْقَتْلِ وفَاقا وَقد تجب الْكَفَّارَة حَيْثُ لَا دِيَة كَمَا فِي الرَّمْي إِلَى صف الْكفَّار
وَإِن قُلْنَا لَا تجب فَفِي حرمَان الْمِيرَاث وَجْهَان وَالظَّاهِر الحرمان لِأَنَّهُ آثم بِالْقَتْلِ وَالْكَفَّارَة وَالدية غرم يُمكن نَقله إِلَى الْمُكْره بِخِلَاف الحرمان
فَإِن قيل فَمَا قَوْلكُم فِي أَمر السُّلْطَان قُلْنَا فِي نُزُوله منزلَة الْإِكْرَاه وَجْهَان وَجه إِلْحَاقه بِهِ أَمْرَانِ
أَحدهمَا أَنه يعلم من عَادَة السُّلْطَان السطوة عِنْد الْمُخَالفَة وَإِن لم يُصَرح بِهِ وعَلى هَذِه الْعلَّة يلْتَحق بِهِ كل متغلب هَذِه عَادَته وَإِن لم يكن سُلْطَانا ثمَّ وَجه التَّرَدُّد أَن الْمَعْلُوم من عَادَته

(6/263)


هَل يكون كالملفوظ بِهِ على الإقتران
الْعلَّة الثَّانِيَة أَن طَاعَة السُّلْطَان وَاجِبَة على الْجُمْلَة كَيْلا تُؤدِّي مُخَالفَته إِلَى إثارة الْفِتْنَة وَلذَلِك نقُول لَا يَنْعَزِل بِالْفِسْقِ وَلَو كَانَ الإستبدال بِهِ يثير الْفِتْنَة فَلَا يسْتَبْدل فتزاحم على الْفِعْل مُوجب ومحرم فَإِن لم نبح انتهض شُبْهَة كالإكراه بِخِلَاف أَمر السَّيِّد عَبده فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ مُخَالفَة السَّيِّد إِذْ لَو عاقبه دفع السُّلْطَان ظلمه وَلَيْسَ وَرَاء السُّلْطَان يَد دافعة فمخالته تحرّك الْفِتْنَة نعم لَو كَانَ العَبْد من طباعه الضراوة فَإِذا أغراه بِإِنْسَان فالقصاص على السَّيِّد كَمَا لَو أغرى سبعا وَكَذَا لَو أغرى مَجْنُونا هَذِه حَاله هَل يتَعَلَّق الضَّمَان بِرَقَبَة هَذَا العَبْد وبمال هَذَا الْمَجْنُون أم ينزل منزلَة الْبَهِيمَة فِيهِ وَجْهَان من حَيْثُ إِنَّه إِنْسَان صُورَة لكنه بَهِيمَة فِي الْمَعْنى
فَإِن قيل وَمَا حد الْإِكْرَاه قُلْنَا قد ذكرنَا صورته فِي الطَّلَاق لَكنا نتعرض لصور
إِحْدَاهَا أَنه لَو أكره إنْسَانا على أَن يكره ثَالِثا على قتل الرَّابِع فعلى الأول قصاص وفيمن بعده قَولَانِ
الثَّانِيَة لَو قَالَ اقْتُل زيدا أَو عمرا وَإِلَّا قتلتك فَقتل زيدا فَهُوَ مُخْتَار لِأَن ميله إِلَى زيد لَيْسَ إِلَّا عَن شَهْوَة وَيظْهر ذَلِك إِذا قَالَ اقْتُل من أهل الدَّار وَاحِدًا وَإِلَّا قتلتك
الثَّالِثَة أَن يَقُول اقْتُل نَفسك وَإِلَّا قتلتك فَهَذَا لَيْسَ بإكراه وَلَو قَالَ اقتلني وَإِلَّا قتلتك فَهَذَا إِكْرَاه وَإِذن فَهَل يُؤثر الْإِذْن فِي سُقُوط الْقصاص وَالدية فِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَصَحهَا أَنه يسْقط لِأَنَّهُ صَاحب الْحق كَمَا إِذا قَالَ اقْتُل عَبدِي
وَالثَّانِي لَا لِأَن الْقصاص وَالدية تثبت للْوَرَثَة ابْتِدَاء لَا إِرْثا

(6/264)


وَالثَّالِث لَا يجب الْقصاص للشُّبْهَة وَتجب الدِّيَة
فَإِن قيل إِذا رَأَيْتُمْ إِيجَاب الْقصاص عَلَيْهِمَا فَإِن لم يكن أَحدهمَا كُفؤًا للمقتول قُلْنَا يجب الْقصاص على الْكُفْء لِأَن شريك غير الْكُفْء يجب الْقصاص عَلَيْهِ كشريك الْأَب وَشريك العَبْد فِي قتل السَّيِّد
وَإِن كَانَ أَحدهمَا صَبيا وَقُلْنَا إِن فعل الصَّبِي خطأ فالآخر شريك خاطىء لَكِن إِن كَانَ الْمَحْمُول صَبيا فَيحْتَمل أَن يجب الْقصاص على الْحَامِل لِأَن خطأه نتيجة الْإِكْرَاه فَهُوَ كَمَا لَو أكره إنْسَانا على أَن يَرْمِي إِلَى طلل عرفه الْمُكْره إنْسَانا وظنه الرَّامِي جرثومة فَفِي وجوب الْقصاص وَجْهَان وَجه الْإِيجَاب جعل الْمُكْره مباشرا وَجعل الْمُكْره آلَة لَهُ لِأَنَّهُ تولد من إكراهه وَعَن هَذَا اختبط الْأَصْحَاب فِي الْمُكْره على إِتْلَاف المَال هَل يُطَالب بِالضَّمَانِ فعلى وَجه لَا يُطَالب أصلا لِأَنَّهُ كالآلة
وَلَو أكرهه على صعُود شَجَرَة فزلقت رجله فَمَاتَ وَجب الْقصاص على الْمُكْره وَلم يَجْعَل كشريك الخاطىء لِأَن هَذَا الْخَطَأ وَلَده إكراهه بِخِلَاف جهل الْمُكْره وصباه فَإِن فِيهِ وَجْهَيْن

(6/265)


فَإِن قيل فَمَا الَّذِي يُبَاح بِالْإِكْرَاهِ قُلْنَا لَا يُبَاح بِهِ الْقَتْل وَالزِّنَا وَيُبَاح بِهِ إِتْلَاف المَال بل يجب وتباح بِهِ الرِّدَّة وَفِي وجوب التَّلَفُّظ بِهِ وَجْهَان مِنْهُم من لم يُوجب للتصلب فِي الدّين وَيُبَاح شرب الْخمر بِالْإِكْرَاهِ وَفِي وُجُوبه خلاف مُرَتّب على الرِّدَّة وَأولى بِالْوُجُوب والإفطار فِي الصَّوْم يَنْبَغِي أَن يقْضى بِوُجُوبِهِ

(6/266)


الطّرف الرَّابِع أَن يكون السَّبَب من الْآدَمِيّ والمباشرة من بَهِيمَة

كَمَا إِذا أَلْقَاهُ فِي تيار بَحر فالتقمه الْحُوت قبل الْغَرق فَيلْزمهُ الْقصاص وَينزل فعل الْحُوت منزلَة جرح السكين
وَلَو أَلْقَاهُ فِي بِئْر عميق وَكَانَ فِي عمقه نصل مَنْصُوب فَمَاتَ بِهِ وَجب الْقصاص وَخرج الرّبيع قولا أَن الدِّيَة تجب دون الْقصاص اعْتِبَارا بِاخْتِيَار الْحَيَوَان وَكَونه شُبْهَة فِي الدّفع وَإِن أَلْقَاهُ فِي مَاء لَا يغرق فالتقمه الْحُوت من حَيْثُ لم يشْعر الملقي فَلَا يجب عَلَيْهِ إِلَّا الدِّيَة وَإِن عرف حُضُور الْحُوت لزمَه الْقصاص
وَلَو أمسك إنْسَانا وَعرضه للسبع حَتَّى افترسه وَجب الْقصاص وَالْمَجْنُون الضاري بطبعه كالسبع والحوت وَإِن لم يكن ضاريا اعْتبر اخْتِيَاره فِي قطع السَّبَب
فروع أَرْبَعَة
الأول لَو أنهشه حَيَّة أَو عقربا يقتل مثله غَالِبا لزمَه الْقصاص وَنزلت الْحَيَّة منزلَة السكين وَلَو كَانَ لَا يقتل غَالِبا كَانَ كغرز الإبرة
الثَّانِي لَو ألْقى عَلَيْهِ عقربا أَو حَيَّة فنهشته فَلَا قَود لِأَن الْغَالِب أَنه يفر وَإِن كَانَ ضاريا فَهُوَ كالإنهاش
الثَّالِث لَو جمع بَينه وَبَين سبع فِي بَيت فافترسه وَجب الْقصاص وَإِن كَانَ بدله حَيَّة فَلَا قصاص لِأَن الْحَيَّة تَفِر والسبع فِي الْمضيق يثب بطبعه فَإِن لم يكن الطَّبْع كَذَلِك لم يكن الحكم كَذَلِك

(6/267)


الرَّابِع لَو أغرى بِهِ كَلْبا أَو سبعا فِي صحراء فَلَا قصاص بِخِلَاف الْبَيْت فَإِن السَّبع فِي الْمضيق يقْصد وَفِي الصَّحرَاء يتوحش
فَإِن كَانَ ضاريا فِي الصَّحرَاء وَلم يكن الْهَرَب مُمكنا لزم الْقصاص فَإِن كَانَ الْهَرَب مُمكنا فتخاذل فَهُوَ كَتَرْكِ السباحة

(6/268)


الطّرف الْخَامِس فِي طرآن الْمُبَاشرَة على الْمُبَاشرَة أَو السَّبَب على السَّبَب

وَالْحكم فِيهِ تَقْدِيم الْأَقْوَى فَإِن اعتدلا جَمعنَا بَينهمَا فَلَو جرح الأول وحز الثَّانِي الرَّقَبَة فالقاتل هُوَ الثَّانِي لانْقِطَاع أثر الأول بِخِلَاف مَا إِذا قطع هَذَا من الْكُوع وَالثَّانِي من الْمرْفق فَمَاتَ فَإِن الْقصاص عَلَيْهِمَا لِأَن ألم الأول ينتشر إِلَى الْأَعْضَاء الرئيسية وَيبقى
وَلَو قطع الأول حلقومه وَلم يبْق إِلَّا حَرَكَة المذبوحين فَقده الثَّانِي بنصفين فالقصاص على الأول وَلَا نظر إِلَى حَرَكَة المذبوحين بِخِلَاف مَا لَو حز رَقَبَة الْمَرِيض المشرف على الْمَوْت لِأَن مَوته غير مَقْطُوع بِهِ وَبِخِلَاف مَا لَو نزع أحشاءه وَإِن كَانَ بِحَيْثُ يعلم أَنه يَمُوت بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ وَلكنه فِي الْحَال يعقل بحياة مُسْتَقِرَّة فَإِن الْقصاص يجب على من حز الرَّقَبَة لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ شاور فِي الْخلَافَة فِي هَذِه الْحَالة فَكيف لَا تعْتَبر حَيَاته وَقَالَ مَالك رَحمَه الله هُوَ كحركة المذبوحين
فَأَما إِذا جرح كل وَاحِد جِرَاحَة فَمَاتَ بِالسّرَايَةِ أَو حز أَحدهمَا الرَّقَبَة وَالْآخر قد بنصفين مَعًا فهما شريكان
فقد تنخل من هَذَا أَن الْعمد الْمَحْض الْعدوان المزهق للروح سَبَب الْقصاص وَلَا يرد على

(6/269)


الْحَد مَا لَو اسْتحق حز رَقَبَة إِنْسَان فَقده بنصفين لِأَنَّهُ لَا عدوان بِهِ من حَيْثُ كَونه إزهاقا بل من حَيْثُ الْإِسَاءَة فِي الطَّرِيق فَلذَلِك لم يجب الْقصاص فَإِن قيل ظن الْإِبَاحَة هَل يكون شُبْهَة قُلْنَا إِذا قتل من ظَنّه مُرْتَدا وَلم تعهد لَهُ الرِّدَّة فَيجب الْقصاص وَإِن كَانَ قد عهد مُرْتَدا وَلكنه أسلم وَلم يشْعر بِهِ فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا السُّقُوط للظن المبتنى على الإستصحاب
وَالثَّانِي يجب لِأَنَّهُ غير مَعْذُور فِي هَذَا الظَّن إِذْ لَا يحل للآحاد قتل الْمُرْتَد وَكَذَلِكَ لَو ظَنّه عبدا أَو ذِمِّيا لزمَه الْقصاص على الْمَذْهَب لِأَن هَذَا ظن لَا يُبِيح فَهُوَ كَمَا لَو زنى مَعَ الْعلم بِالتَّحْرِيمِ وَالْجهل بِوُجُوب الْحَد بِخِلَاف مَا إِذا رأى مُسلما فِي دَار الْحَرْب على زِيّ الْمُشْركين وَلم يعهده مُسلما فَقتله فَإِذا هُوَ مُسلم فَلَا قَود وَتجب الْكَفَّارَة وَفِي الدِّيَة قَولَانِ لِأَن الْقَتْل مُبَاح بِهَذَا الظَّن وَهُوَ مَعْذُور
أَحدهمَا تجب لِأَنَّهَا ضَمَان الْمحل وَذَلِكَ لَا يخْتَلف باخْتلَاف حَال الْمُتْلف
وَالثَّانِي أَنَّهَا لَا تجب لِأَنَّهَا وَإِن كَانَت عوضا فَلَيْسَتْ على مذاق الأعواض الْمَحْضَة فَإِنَّهَا بدل للنَّفس وَتجب الْكَفَّارَة قولا وَاحِدًا لِأَنَّهَا تجب من غير تَقْصِير
وَلَو قتل إنْسَانا على ظن أَنه قَاتل أَبِيه فَفِي وجوب الْقصاص قَولَانِ
أَحدهمَا يجب لِأَنَّهُ غير مَعْذُور فِيهِ

(6/270)


الثَّانِي لَا يجب لِأَن هَذَا الظَّن مِمَّا يمهد عذره لِأَن الْقَتْل مُبَاح بِهَذَا الظَّن لكنه غير مَعْذُور وَلِهَذَا نقطع بِالْوُجُوب إِذا قَالَ تبينت أَن أبي حَيّ
وَمن أَصْحَابنَا من قطع بِأَنَّهُ لَو صدقه ولي الدَّم فَلَا قصاص وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ إِذا تنَازعا
وَمِنْهُم من طرد الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ ظن من غير مُسْتَند شَرْعِي

(6/271)


الرُّكْن الثَّانِي الْقَتِيل

وَشرط كَونه مَضْمُونا بِالْقصاصِ على الْجُمْلَة كَونه مَعْصُوما والعصمة تستفاد بِالْإِسْلَامِ والجزية والأمان يتنزلان مَنْزِلَته وَالْحَرْبِيّ مهدر وَالْمُرْتَدّ كَذَلِك فِي حق الْمُسلم وَلَكِن فِي حق الْكَافِر الذِّمِّيّ وَالْمُرْتَدّ إِذا قَتله فِيهِ خلاف
وَمن عَلَيْهِ الْقصاص مَعْصُوم فِي حق غير الْمُسْتَحق وَالزَّانِي الْمُحصن مَعْصُوم بِالْقصاصِ عَن الذِّمِّيّ وَعَن الْمُسلم فِيهِ وَجْهَان مثارهما التَّرَدُّد فِي أَن الْحَد للْمُسلمين وَالْإِمَام نائبهم أَو إِضَافَة الْحَد إِلَى الله تَعَالَى كإضافة الْقصاص إِلَى إِنْسَان معِين حَتَّى لَا يظْهر أَثَره فِي حق غَيره

(6/272)


الرُّكْن الثَّالِث الْقَاتِل

وَشرط وجوب الْقصاص عَلَيْهِ أَن يكون مُلْتَزما للْأَحْكَام فَلَا قصاص على الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَلَا على الْحَرْبِيّ وَيجب على الذِّمِّيّ وَفِي السَّكْرَان خلاف مَبْنِيّ على أَنه يسْلك بِهِ مَسْلَك الصاحي أَو الْمَجْنُون
هَذَا هُوَ النّظر فِي صِفَات الْقَتْل والقتيل وَالْقَاتِل ووراء هَذِه صِفَات هِيَ نِسْبَة بَين الْقَاتِل والقتيل لَا يُمكن تَخْصِيصه بأحدها وَهُوَ أَلا يفضل الْقَاتِل الْقَتِيل بِالدّينِ وَالْحريَّة والأبوة وَقد تعْتَبر فَضِيلَة الْعدَد والذكورة وتأبد الْعِصْمَة عِنْد بعض الْعلمَاء فمجموع هَذِه الْخِصَال سِتَّة
الْخصْلَة الأولى من خِصَال الْكَفَاءَة التَّسَاوِي فِي الدّين الْحق
فَهَذِهِ الْفَضِيلَة فِي الْقَاتِل تمنع وجوب الْقصاص ابْتِدَاء فَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَيقتل الْيَهُودِيّ بالنصراني ومعتمد هَذِه الْخصْلَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر
فروع أَرْبَعَة
الأول لَو قتل ذمِّي ذِمِّيا ثمَّ أسلم الْقَاتِل قبل اسْتِيفَاء الْقود اقْتصّ مِنْهُ لِأَن الْمُسَاوَاة شَرط لينعقد الْقَتْل سَببا للْوُجُوب فَمَا طَرَأَ بعد ذَلِك لَا يمْنَع الإستيفاء وَلَو أسلم الْجَارِح بَين الْمَوْت

(6/273)


وَالْجرْح فالنظر إِلَى حَالَة الْجرْح أَو إِلَى حَالَة الْمَوْت فِيهِ وَجْهَان
الثَّانِي إِذا قتل عبد مُسلم عبدا مُسلما لكَافِر فَفِي وجوب الْقصاص وَجْهَان
أَحدهمَا يجب لِأَن الْكَفَاءَة بَين الْقَتِيل وَالْقَاتِل مَوْجُودَة وَالسَّيِّد كالوارث وَلَو مَاتَ ولي الْقَتِيل الذِّمِّيّ بعد أَن أسلم الْقَاتِل بعد الْقَتْل وَقبل اسْتِيفَاء الْقود فَالْمَذْهَب ثُبُوت الْقصاص لهَذَا الذِّمِّيّ لِأَنَّهُ فِي حكم الْإِرْث والدوام
الْوَجْه الثَّانِي أَنه لَا يجب لِأَن هَذَا الْقصاص يجب ابْتِدَاء للسَّيِّد وَهُوَ كَافِر وَلَا يجب للْعَبد حَتَّى يُورث مِنْهُ وَلَا يُمكن تسليط كَافِر ابْتِدَاء على مُسلم
الثَّالِث لَو قتل مُسلم مُرْتَدا فَلَا قصاص فَلَو قَتله مُرْتَد فَالظَّاهِر وجوب الْقصاص للتساوي وَقيل الْمُرْتَد مهدر كالحربي وَلَا يجب قصاص الْحَرْبِيّ على الْحَرْبِيّ أما إِذا قَتله ذمِّي فَثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه يجب الْقصاص لعمده ودية لخطئه لِأَنَّهُ ساواه فِي الدّين وَالْمُرْتَدّ لَيْسَ بمهدر فِي حَقه
وَالثَّانِي لَا يجب لِأَنَّهُ مهدر وَالذِّمِّيّ مَعْصُوم
وَالثَّالِث قَالَه الْإِصْطَخْرِي يجب الْقصاص سياسة وَلَا تجب الدِّيَة لِأَنَّهُ غير مَعْصُوم
الرَّابِع الْمُرْتَد إِذا قتل ذِمِّيا فَفِيهِ قَولَانِ

(6/274)


أَحدهمَا اخْتِيَار الْمُزنِيّ أَنه يقتل كالذميين
وَالثَّانِي لَا لِأَن حُرْمَة الْإِسْلَام بَاقِيَة وَلِهَذَا لَا يجوز للذِّمِّيّ نِكَاح الْمُرْتَدَّة وَلَا يحل استرقاقها
الْخصْلَة الثَّانِيَة الْكَفَاءَة فِي الْحُرِّيَّة
فَلَا يقتل الْحر وَلَا من فِيهِ شقص من الْحُرِّيَّة برقيق كَمَا لَا تقطع يَده بِيَدِهِ وفَاقا ثمَّ طرآن الْحُرِّيَّة أَو الرّقّ على الْقَاتِل بعد الْقَتْل لَا يمْنَع من اسْتِيفَاء الْقود كَمَا فِي طرآن الْإِسْلَام
فروع ثَلَاثَة
الأول النَّاقِص مقتول بالكامل والمستولدة وَالْمُكَاتبَة حكمهمَا حكم الْقِنّ فِي الْقصاص وَالْمكَاتب إِذا قتل عبد نَفسه لم يقتل بِهِ لِأَنَّهُ سَيّده وَإِن كَانَ هُوَ أَيْضا رَقِيقا وَلَو كَانَ عَبده أَبَاهُ وَقد تكاتب عَلَيْهِ فَفِي قَتله وَجْهَان وَوجه الْإِيجَاب أَن ملكه على الْأَب لَيْسَ مُسْتَقرًّا لِأَنَّهُ يسْتَحق الْعتْق بعتاقه فَلَا يكون شُبْهَة
الثَّانِي من نصف حر وَنصفه عبد إِذا قتل من هُوَ فِي مثل حَاله قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ يجب الْقصاص للتساوي إِلَّا إِذا كَانَ جُزْء الْحُرِّيَّة من الْقَاتِل أَكثر وَقَالَت المراوزة لَا يجب مَا دَامَ فِي الْقَاتِل جُزْء من الْحُرِّيَّة وَلَو الْعشْر وَفِي الْقَتِيل جُزْء من الرّقّ وَلَو الْعشْر لِأَن كل جُزْء من الْقَتِيل يُقَابله جُزْء شَائِع من الْقَاتِل من الْحُرِّيَّة وَالرّق فَيُؤَدِّي إِلَى اسْتِيفَاء جُزْء من الْحر بِجُزْء من الرَّقِيق وَهُوَ مقتضي التَّوْزِيع الْمَذْكُور فِي مَسْأَلَة مد عَجْوَة
الثَّالِث العَبْد الْمُسلم وَالْحر الذِّمِّيّ لَا قصاص بَينهمَا من الْجَانِبَيْنِ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فضل صَاحبه بفضيلة والنقيصة لَا تجبر بفضيلة وَمهما آل أَمر العَبْد إِلَى المَال فَالْوَاجِب قِيمَته

(6/275)


بَالِغَة مَا بلغت وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يُزَاد على دِيَة الْحر بل يحط عَنهُ قدر نِصَاب السّرقَة
الْخصْلَة الثَّالِثَة فَضِيلَة الْأُبُوَّة
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَا يقتل وَالِد بولده ففهم مِنْهُ أَن الْوَلَد لَا يكون سَببا لإعدام من هُوَ سَبَب وجوده فيتعدى هَذَا إِلَى الْأُم والأجداد والجدات وَذكر صَاحب التَّلْخِيص فِي الأجداد والجدات قولا وَاقْتصر على النّسَب الْقَرِيب فِي الْوُجُود وَهَذَا ضَعِيف ولهذه الْعلَّة منعنَا أَن يقتل الإبن أَبَاهُ الْحَرْبِيّ أَو الزَّانِي الْمُحصن إِذا كَانَ الإبن جلادا وَكَأن الْخلَل فِي الإستيفاء وَالْقصاص فِي حكم الْوَاجِب السَّاقِط وَلِهَذَا لَو قتل زَوْجَة ابْنه فَلَا قصاص إِذْ صَار ابْنه شَرِيكا فِي الإستحقاق فَلَا يُمكنهُ الإستيفاء وَكَذَلِكَ لَو قتل مُعتق ابْنه وَله وَارِث سوى الإبن فَمَاتَ وَصَارَ الإبن وَارِثا سقط
فرعان
أَحدهمَا أَخَوان قتل الأول أَبَاهُ وَقتل الثَّانِي أمه فَإِن كَانَت الْأُم زَوْجَة الْأَب فَلَا قصاص على الاخ الْقَاتِل للْأَب لِأَن قصاصه ثَبت للْأَخ وَالأُم فَلَمَّا قتل الثَّانِي الْأُم ورث مِنْهَا قصاص نَفسه فَسقط إِذْ يَسْتَحِيل أَن يسْتَحق قتل نَفسه
وَإِن لم تكن زَوْجَة الْأَب اسْتحق كل وَاحِد مِنْهُمَا قصاص صَاحبه وَلم يسْتَحق أحد قصاص نَفسه إِرْثا عَن قتيله لِأَن الْقَاتِل محروم عَن الْمِيرَاث
وَلَو بَادر أَحدهمَا وَقتل آخر سقط الْقصاص عَن المبادر لِأَنَّهُ ورث قصاص نَفسه عَن أَخِيه الْقَتِيل إِن قُلْنَا إِن الْقَتْل بِالْحَقِّ لَا يحرم الْمِيرَاث وعَلى هَذَا إِذا كَانَ يَسْتَفِيد بالمبادرة

(6/276)


تَخْلِيص نَفسه فَلَو تنَازعا فِي السَّبق فَالْوَجْه أَن يقدم من سبق اسْتِحْقَاقه ويقرع بَينهمَا إِذا تَسَاويا
وَمهما تَسَاويا فِي قتل الْأَبَوَيْنِ فَلَا فرق بَين أَن تكون الْأُم زَوْجَة أَو لَا تكون إِذْ لَا سَبِيل إِلَى تَوْرِيث أحد الْقَتِيلين من الآخر
الثَّانِي لَو تداعى رجلَانِ لقيطا أَو وطئا مَنْكُوحَة بِالشُّبْهَةِ فَأَتَت بِولد فَقتله أَحدهمَا قبل إِلْحَاق الْقَائِف فَلَا قصاص فِي الْحَال لِأَن أَحدهمَا أَب وَقد اشْتبهَ الْأَمر فَهُوَ كَمَا لَو اشْتبهَ إِنَاء نجس بِإِنَاء طَاهِر فَلَا يجوز اسْتِعْمَاله من غير اجْتِهَاد فَإِن ألحق الْقَائِف بِغَيْر الْقَاتِل اقْتصّ من الْقَاتِل وَإِن ألحقهُ بِهِ فَلَا
الْخصْلَة الرَّابِع التَّفَاوُت فِي تأبد الْعِصْمَة وَالْمذهب أَنه لَا يعْتَبر بل يقتل الذِّمِّيّ بالمعاهد كَمَا يقتل الْمعَاهد بِهِ وَفِيه احْتِمَال
الْخصْلَة الْخَامِسَة فَضِيلَة الذُّكُورَة وَلَا تعْتَبر بالِاتِّفَاقِ بل يقتل الرجل بِالْمَرْأَةِ وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ يجب فِي تَرِكَة الْمَرْأَة المقتولة شطر دِيَة الرجل لتَكون مَعَ دِيَتهَا كُفؤًا للرجل فَإِذا قتلت الْمَرْأَة رجلا قَالَ لَا يقنع بدمها بل يطْلب مَعَه شطر دِيَة من تركتهَا مَعَ قَتلهَا أَيْضا
فرعان
أَحدهمَا فِي الْخُنْثَى إِذا قطع الرجل ذكر خُنْثَى مُشكل وشفريه فَلَا قصاص فِي الْحَال لاحْتِمَال أَن الْمَقْطُوع امْرَأَة وَكَذَلِكَ إِن كَانَ الْقَاطِع امْرَأَة لم يجب لاحْتِمَال أَن الْمَقْطُوع رجل والشفران زَائِد فَإِذا تبين الْحَال لم يخف الحكم

(6/277)


فَلَو طلب الْخُنْثَى فِي الْحَال الدِّيَة وَعَفا عَن الْقصاص سلمنَا إِلَيْهِ دِيَة الشفرين وحكومة الذّكر وقدرناه امْرَأَة أخذا بِأَحْسَن التَّقْدِيرَيْنِ واقتصارا على المستيقن إِذْ تَقْدِير الذُّكُورَة يزِيد على هَذَا لَا محَالة
وَإِن لم يعف عَن الْقصاص وَقَالَ لَا بُد من تَسْلِيم شَيْء لِأَنِّي أستحق مَعَ الْقصاص شَيْئا لَا محَالة فَإِن كَانَ الْقَاطِع رجلا فالقصاص مُحْتَمل فِي الذّكر فَلَا تقدر دِيَته بل يصرف إِلَيْهِ أقل الْأَمريْنِ من حُكُومَة الشفرين بِالْإِضَافَة إِلَى حَالَة الذُّكُورَة أَو دِيَة الشفرين وحكومة الذّكر والانثيين على تَقْدِير الْأُنُوثَة وَيكون المصروف إِلَيْهِ بِكُل حَال أقل من مائَة من الْإِبِل وَيصرف إِلَيْهِ فَإِنَّهُ أقل من تَقْدِير حُكُومَة الشفرين مَعَ دِيَة الذّكر على تَقْدِير الذُّكُورَة
وَإِن كَانَ الْقَاطِع امْرَأَة فَلَا تقدر دِيَة الشفرين لِإِمْكَان الْقصاص فِيهِ بل تقدر حُكُومَة الذّكر والانثيين على تَقْدِير الْأُنُوثَة وَيصرف إِلَيْهِ فَإِنَّهُ أقل من تَقْدِير حُكُومَة الشفرين مَعَ دِيَة الذّكر على تَقْدِير الذُّكُورَة وَإِن كَانَ الْقَاطِع خُنْثَى مُشكلا لم يصرف إِلَيْهِ شيئ إِذْ يحْتَمل أَن يَكُونَا رجلَيْنِ أوامرأتين فَيجْرِي الْقصاص فِي الإليتين الزَّائِد بِالزَّائِدِ والأصليه بالأصلية وَلَو قطعت الْمَرْأَة آلَة الرِّجَال وَالرجل آلَة النِّسَاء فَلَا يتَصَوَّر الْقصاص فعلى كل وَاحِد حُكُومَة على تَقْدِير كَونهَا زَائِدا بِشَرْط أَن لَا تزيد على تَقْدِير الدِّيَة فِيهَا فَإِنَّهُ لَو كَانَ رجلا فَرُبمَا تكون حُكُومَة فِي شفريه أَكثر من دِيَة امْرَأَة فَلَا يجب إِلَّا مَا دونه وَمن الْأَصْحَاب من قَالَ إِذْ لم يعف عَن الْقصاص وَكَانَ الْقَاطِع رجلا أَو امْرَأَة فَلَا يصرف إِلَيْهِ شَيْء فِي الْحَال لِأَن مَا يُطَالب بِهِ لَيْسَ يدْرِي أهوَ حُكُومَة أم دِيَة وَهُوَ ضَعِيف
الْفَرْع الثَّانِي إِذا كَانَ الْجَانِي رجلا وَكَانَ الْمَجْنِي عَلَيْهِ يَدعِي عَلَيْهِ بأنك أَقرَرت

(6/278)


بِأَنِّي رجل فلي الْقصاص فِي الذّكر وَقَالَ الْجَانِي بل أَقرَرت بأنك امْرَأَة فَفِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا القَوْل قَول الْجَانِي إِذْ الأَصْل عدم الْقصاص
وَالثَّانِي القَوْل قَول الْمَجْنِي عَلَيْهِ لأَنا نحكم لَهُ بالذكورة بقوله إِن تقدم على الْجِنَايَة فَكَذَا إِذا تَأَخّر
الْخصْلَة السَّادِسَة التَّفَاوُت فِي الْعدَد
وَلَا يُؤثر ذَلِك بل تقتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ إِذا اشْتَركُوا فِي قَتله وَالْوَاحد إِذا قتل جمَاعَة قتل بِوَاحِد وللباقين الدِّيات وَإِنَّمَا يُوجب الْقصاص على كل شريك لِأَنَّهُ قَاتل بِفِعْلِهِ وَفعل شَرِيكه مَنْسُوب إِلَيْهِ برابطة الإستعانة وكمل بِهِ فعله حسما للذريعة لَكِن يشْتَرط أَن يكون فعل شَرِيكه عمدا مضمنا وَإِن كَانَ خطأ فَلَا قصاص على الشَّرِيك لخُرُوج الْفِعْل عَن كَونه مُوجبا خلافًا للمزني رَحمَه الله فَيجب الْقصاص على شريك الْأَب وعَلى الذِّمِّيّ إِذا شَارك الْمُسلم فِي قتل ذمِّي وعَلى العَبْد إِذا شَارك الْحر فِي قتل عبد وَكَذَا كل عَامِد ضَامِن خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
وَلَو شَارك عَامِد غير ضَامِن كشريك الْحَرْبِيّ ومستحق الْقصاص وَالْإِمَام فِي قطع يَد السَّارِق وكما إِذا جرح جارح حَرْبِيّا أَو مُرْتَدا فجرحه الآخر بعد الْإِسْلَام فَفِيهِ قَولَانِ

(6/279)


أَحدهمَا أَنه يجب كَمَا فِي شريك الْأَب لوُجُود العمدية
وَالثَّانِي لَا لِأَن الْفِعْل اتّصف بِكَوْنِهِ مُبَاحا فاكتسب صفة من هَذِه الْأَسْبَاب كَمَا اتّصف بِكَوْنِهِ خطأ فَرجع الْخلَل إِلَى وصف الْفِعْل
والسبع مردد بَين الْحَرْبِيّ والخاطيء فَفِي وَجه يلْتَحق بالخاطىء وَهُوَ الْأَصَح وَفِي وَجه بالحربي وعَلى هَذَا لَو أَخطَأ السَّبع فشريكه شريك الخاطىء
وَفِي شريك السَّيِّد طَرِيقَانِ مِنْهُم من قَالَ هُوَ كالحربي لسُقُوط الْقصاص وَالدية وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ ضَامِن لِلْكَفَّارَةِ فَأشبه الْأَب
وَشريك الْقَاتِل نَفسه إِن قُلْنَا تجب الْكَفَّارَة على قَاتل النَّفس فَهُوَ كشريك السَّيِّد فِي عَبده وَإِلَّا فَهُوَ كشريك الْحَرْبِيّ

فروع أَرْبَعَة

الأول إِذا اتَّحد الْجَارِح واقترن بِأحد الجرحين مَا يدْرَأ الْقصاص سقط الْقصاص سَوَاء رَجَعَ الْخلَل إِلَى وصف الْفِعْل كَمَا لَو كَانَ أَحدهمَا خطأ أَو لم يرجع كَمَا لَو جرح حَرْبِيّا أَو مُرْتَدا ثمَّ أسلم فجرحه ثَانِيًا أَو قطع بِالْقصاصِ أَو الْحَد قطعا حَقًا ثمَّ جرح لِأَن الْفَاعِل قد اتَّحد وَإِذا اتَّحد الْمُضَاف إِلَيْهِ اسْتَوَى مَا يرجع إِلَى الصّفة وَإِلَى الْإِضَافَة
الثَّانِي لَو داوى الْمَجْرُوح نَفسه بِسم مذفف فَلَا قصاص على الْجَارِح وَإِن كَانَ يُؤثر على الْجُمْلَة وَلَا يذففه فالجارح شريك النَّفس وَقيل لَا يجب الْقصاص قطعا لِأَنَّهُ شريك

(6/280)


الخاطىء إِذْ المداوي مخطىء وَكَذَلِكَ إِذْ خاط الْمَجْرُوح جرحه فِي لحم حَيّ صَار شَرِيكا وَيُمكن أَن يَجْعَل مخطئا
وَلَا شكّ فِي أَنه لَو كَانَ عَلَيْهِ قُرُوح أَو بِهِ مرض فَلَا يصير بِهِ شَرِيكا وَهل يَجْعَل بمبادىء الْجُوع شَرِيكا إِذا تمم غَيره جوعه إِلَى الْمَوْت فِيهِ تردد سبق لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ مُعْتَادا فَهُوَ دَاخل تَحت الإختيار
الثَّالِث إِذا توالى جمع على وَاحِد فَضَربهُ كل وَاحِد سَوْطًا وَاحِدًا فَمَاتَ فَفِي وجوب الْقصاص ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه لَا يجب لِأَن كل وَاحِد خاطىء وَشريك الخاطىء خاطىء إِذا أُتِي بِمَا لَا بِقصد بِهِ الْقَتْل
وَالثَّانِي يجب لِأَن الْمَجْمُوع قَاتل وَلَو فتح هَذَا الْبَاب لصار ذَلِك ذَرِيعَة
وَالثَّالِث يجب إِن صدر ذَلِك عَن التواطؤ وَإِلَّا فَلَا
الرَّابِع إِذا جرح أَحدهمَا فأنهشه الآخر حَيَّة أَو أغرى عَلَيْهِ سبعا وجرحه فَالدِّيَة عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ لِأَن كَثْرَة الْجِرَاحَات لَا تعْتَبر فَإِن أغوارها لَا تنضبط والحية والسبع كالآلة لَهُ
وَلَو جرح ونهشه حَيَّة فَعَلَيهِ نصف الدِّيَة وَلَو نهشته حَيَّة وجرحه سبع فَعَلَيهِ ثلث الدِّيَة لِأَنَّهُ شريك حيوانيين مختارين وَفِيه وَجه أَن عَلَيْهِ نصف الدِّيَة نظرا إِلَى أصل الشّركَة وإعراضا عَن عدد الْحَيَوَانَات
واختتام القَوْل بفصل فِي تغير الْحَال بَين الْجرْح وَالْمَوْت على الْجَارِح أَو الْمَجْرُوح وَله أَرْبَعَة أَحْوَال

(6/281)


الْحَالة الأولى أَن تطرأ الْعِصْمَة بِأَن جرح حَرْبِيّا أَو مُرْتَدا أَو عبد نَفسه ثمَّ طَرَأَ الْإِسْلَام وَالْعِتْق قبل الْمَوْت لم يجب الْقصاص وَفِي وجوب الضَّمَان وَجْهَان
أَحدهمَا لَا يجب نظرا إِلَى ابْتِدَاء الْفِعْل
والثانى يجب نظرا إِلَى حَالَة الزهوق وَقد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي إِعْتَاق السَّيِّد العَبْد بعد الْجرْح أَن لَا ضَمَان وَنَصّ فِي جَارِيَة مُشْتَركَة حَامِل بِولد رَقِيق ضرب أَحدهمَا بَطنهَا ثمَّ أعتق نصِيبه فسرى فأجهضت جَنِينا مَيتا أَن على الْجَانِي غرَّة كَامِلَة وَهَذَا يُنَاقض نَصه الأول فَقيل فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَولَانِ بِالنَّقْلِ والتخريج وَقيل إِنَّه إِنَّمَا أوجب الْغرَّة لِأَن اتِّصَال الْجِنَايَة بِالْوَلَدِ إِنَّمَا يعرف عِنْد الْولادَة وَمَا قبل ذَلِك لَا يعْتَبر وَقد كَانَ الْوَلَد حرا عِنْد الْولادَة
وَإِذا أَوجَبْنَا الدِّيَة فِي الْحَرْبِيّ فَقيل إِنَّه مَضْرُوب على الْعَاقِلَة لِأَنَّهُ خطأ بِالْإِضَافَة إِلَى حَالَة الْإِسْلَام
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يطْرَأ المهدر كَمَا لَو جرح مُسلما فَارْتَد وَمَات فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أرش الْجِنَايَة الَّتِي ثبتَتْ فِي حَالَة الْإِسْلَام وَأما السَّرَايَة فمهدرة
وَلَو قطع يَده فَارْتَد وَمَات قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لوَلِيِّه الْمُسلم الْقصاص وَهَذَا تَفْرِيع على أَن من لَا وَارِث لَهُ يجب الْقصاص على قَاتله لِأَن الْمُرْتَد لَا وَارِث لَهُ وَلَكِن إثْبَاته للْمُسلمِ مُشكل فَإِن الْمُسلم لَا يَرث حُقُوق الْمُرْتَد عندنَا بل حُقُوقه لبيت المَال وَلَكِن لما ظهر مَقْصُود التشفي كَانَ الْوَلِيّ الْمُسلم أولى بالإستيفاء من الإِمَام وَقيل أَرَادَ الشَّافِعِي

(6/282)


رَضِي الله عَنهُ بالولي الْمُسلم الإِمَام
فروع لَو قطع يَدي الْمُسلم وَرجلَيْهِ فَارْتَد وَمَات فَلَا تلْزمهُ إِلَّا دِيَة وَاحِدَة لِأَن مَوته كَافِرًا لَا يزِيد على مَوته مُسلما وَقَالَ الْإِصْطَخْرِي تجب ديتان لأَنا لَو أدرجنا لأهدرنا فعسر الإدراج بطرآن المهدر كعسره بِمَا لَو حز غَيره رقبته وَلِهَذَا الْإِشْكَال ذكر وَجه فِي سُقُوط أصل الْأَرْش لِأَن الْجرْح صَار قتلا وَالْقَتْل صَار مهدرا فَلَا يبْقى للْقَتْل وَالْجرْح عِبْرَة
الْحَالة الثَّالِثَة لَو ارْتَدَّ بعد الْجرْح ثمَّ أسلم وَمَات فالنص سُقُوط الْقصاص وَنَصّ فِي الذِّمِّيّ إِذا جرح ذِمِّيا والتحق الْمَجْرُوح بدار الْحَرْب ثمَّ عقد لَهُ أَمَان ثَانِيًا ثمَّ مَاتَ أَنه يجب الْقصاص فَقيل قَولَانِ بِالنَّقْلِ والتخريج ينظر فِي أَحدهمَا إِلَى حَالَة الْجرْح وَالْمَوْت وَفِي الثَّانِي إِلَى الْكل لِأَن الْجراحَة تسري فِي حَالَة الرِّدَّة أَيْضا فَهُوَ كَمَا لَو جرح فِي حَالَة الرِّدَّة ثمَّ فِي حَالَة الْإِسْلَام وَقيل الْمَسْأَلَة على حَالين فَإِن طَال زمَان الرِّدَّة فَظهر أثر الرِّدَّة فَلَا قصاص وَإِن قرب فَلَا أثر لَهُ
وَإِن آل الْأَمر إِلَى الدِّيَة فالنص وجوب كَمَال الدِّيَة وَخرج ابْن سُرَيج قولا أَنه يجب ثلثا الدِّيَة ويهدر الثُّلُث بهدر السَّرَايَة فِي إِحْدَى الْأَحْوَال الثَّلَاثَة وَقيل يجب النّصْف جمعا لحالتي الْعِصْمَة فِي مُقَابل حَالَة الإهدار
الْحَالة الرَّابِعَة أَن يطْرَأ مَا يُغير مِقْدَار الدِّيَة كَمَا لَو جرح ذِمِّيا فَأسلم أَو عبدا فَأعتق ثمَّ مَاتَ فالنظر فِي الْمِقْدَار إِلَى حَالَة الْمَوْت فَلَو فَقَأَ عَيْني عبد قِيمَته مِائَتَان من الْإِبِل فَعتق وَمَات فَعَلَيهِ مائَة من الْإِبِل لِأَنَّهُ بدل حر وَقَالَ الْمُزنِيّ رَحمَه الله يجب مِائَتَان من الْإِبِل لِأَنَّهُ يصرف إِلَى السَّيِّد

(6/283)


وَلَو قطع إِحْدَى يَدي عبد فَعتق وَمَات فَعَلَيهِ مائَة من الْإِبِل وَفِي المصروف إِلَى السَّيِّد قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه أقل الْأَمريْنِ من كل الدِّيَة أَو كل الْقيمَة والعبارة عَنهُ أَن المصروف إِلَيْهِ أقل الْأَمريْنِ مِمَّا الْتَزمهُ الْجَانِي آخرا بِالْجِنَايَةِ على الْملك أَولا أَو مثل نسبته من الْقيمَة
وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه أقل الْأَمريْنِ من كل الدِّيَة أَو نصف الْقيمَة فَإِن الْجراحَة فِي ملكه لم تنقص إِلَّا النّصْف فَلم يمت فِي الرّقّ حَتَّى تعْتَبر كل الْقيمَة والعبارة عَنهُ أَن الْوَاجِب أقل الْأَمريْنِ مِمَّا الْتَزمهُ الْجَانِي آخرا بِالْجِنَايَةِ على الْملك أَولا أَو أرش جِنَايَة الْملك دون السَّرَايَة
فعلى هَذَا لَو قطع إِحْدَى يَدَيْهِ فَعتق فجَاء الآخر وَقطع يَده الْأُخْرَى وَجَاء الثَّالِث وَقطع إِحْدَى رجلَيْهِ وَمَات فَالْوَاجِب على جَمِيعهم دِيَة وَاحِدَة وَهِي دِيَة حر على كل وَاحِد ثلث وَلَا حق للسَّيِّد إِلَّا فِيمَا يُؤْخَذ من الْجَانِي فِي حَالَة الرّقّ فَلهُ أقل الْأَمريْنِ من ثلث الدِّيَة أَو ثلث الْقيمَة وَهِي مثل نسبته وعَلى القَوْل الثَّانِي أقل الْأَمريْنِ من ثلث الدِّيَة أَو نصف الْقيمَة فَإِنَّهُ أرش الْجِنَايَة
الْمَسْأَلَة بِحَالِهَا عَاد الْجَانِي الأول فجرح فِي الْحُرِّيَّة جِرَاحَة ثَانِيَة فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا ثلث الدِّيَة إِذْ لَا يزِيد الْوَاجِب بِكَثْرَة الْجِرَاحَات لَكِن الثُّلُث وَجب عَلَيْهِ بجراحتين حِصَّة الْوَاقِع مِنْهُمَا فِي الْملك نصف وَهُوَ السُّدس فترعى النِّسْبَة بَين هَذَا السُّدس وَسدس الْقيمَة على قَول وَبَين السُّدس وَنصف الْقيمَة على القَوْل الآخر
فَلَو أوضح رَأسه فِي الرّقّ فَعتق فجرحه غَيره فَمَاتَ فعلى الْجَانِي فِي الْملك نصف الدِّيَة وعَلى الْجَارِح النّصْف الآخر وَللسَّيِّد أقل الْأَمريْنِ من نصف الدِّيَة أَو نصف الْقيمَة وَهُوَ مثل نسبته على قَول وَله أقل الْأَمريْنِ من نصف الدِّيَة أَو نصف عشر الْقيمَة فَإِنَّهُ يشبه أرش

(6/284)


الْمُوَضّحَة من قيمَة العَبْد فَإِن قيل بدل الْملك الدَّرَاهِم وَبدل الْحر الْإِبِل فَبِمَ يُطَالب السَّيِّد قُلْنَا فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْإِبِل لِأَن حَقه فِيمَا وَجب على الْجَانِي وَهُوَ الْوَاجِب
وَالثَّانِي أَن الْخيرَة إِلَى الْجَانِي فَإِن سلم الدَّرَاهِم لم يكن للسَّيِّد الِامْتِنَاع لِأَنَّهُ حَقه وَإِن سلم الْإِبِل فكمثل لِأَنَّهُ أدّى واجبه وعَلى الْجُمْلَة إِيجَاب دِيَة الْحر ثمَّ صرفهَا إِلَى السَّيِّد بعيد وَلَكِن إِيجَاب مِائَتَيْنِ من الْإِبِل كَمَا ذكره الْمُزنِيّ رَحمَه الله أبعد لِأَن الْقَتِيل حر فَكيف تزاد على دِيَة الْحر والإقتصار على أرش الْجِنَايَة وَلَو كَانَ درهما أبعد وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَنَّهُ إهدار للدم فَفِي كل طَرِيق بعد لَكِن طَرِيق الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أقرب إِذْ نظر إِلَى قدر الْوَاجِب إِلَى الْمَوْت وَفِي مصرفه الْتفت إِلَى حَالَة الْجرْح
فرعان
الأول لَو رمى إِلَى حَرْبِيّ أَو مُرْتَد فَأسلم قبل الْإِصَابَة فَفِي الضَّمَان وَجْهَان مرتبان على مَا إِذا جرح حَرْبِيّا فَأسلم ثمَّ مَاتَ أَو مُرْتَدا فها هُنَا أولى بِوُجُوب الضَّمَان لِأَن الْجرْح سَبَب قديم فِي حَالَة الإهدار وَتَمام الرَّمْي بالإصابة والإصابة جرت فِي حَالَة الْعِصْمَة وَفِي الْمُرْتَد أولى بِالْوُجُوب لِأَن الرَّمْي إِلَيْهِ عدوان
وَلَو رمى إِلَى عبد لَهُ فَأعْتقهُ قبل الْإِصَابَة فَوَجْهَانِ مرتبان فِي الْمُرْتَد وَأولى بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ مَعْصُوم على الْجُمْلَة
وَلَو رمى إِلَى من عَلَيْهِ الْقصاص ثمَّ عَفا قبل الْإِصَابَة فَوَجْهَانِ مرتبان على العَبْد وَأولى بِأَن لَا يجب لِأَن العَبْد مَضْمُون عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ
وَلَو حفر بِئْرا فتردى فِيهِ مُسلم كَانَ مُرْتَدا عِنْد الْحفر وَجب الضَّمَان قطعا لِأَن الْحفر لَيْسَ يتَّجه نَحْو المتردي فِي عينه بِخِلَاف الرَّمْي فَإِنَّهُ مُتَّجه نَحْو الْمَقْصُود

(6/285)


الثَّانِي لَو تخللت ردة المرمي إِلَيْهِ بَين الرَّمْي والإصابة قيل لَا قصاص لاتصال الإهدار بِبَعْض أَجزَاء السَّبَب
وَلَو تخللت ردة الرَّامِي المخطىء ضربت الدِّيَة على الرَّامِي لَا على عَاقِلَته الْمُسلمين لِأَن الأَصْل سُقُوط التَّحَمُّل كَمَا أَن الأَصْل سُقُوط الْقصاص وَقد تخللت حَالَة مَانِعَة وَذكر الشَّيْخ أَبُو عَليّ رَحمَه الله فِي التَّحَمُّل قَوْلَيْنِ وينقدح ذَلِك فِي الْقصاص كَمَا ذكرنَا فِي تخَلّل الرِّدَّة بَين الْجرْح وَالْمَوْت وَهَذَا تَمام القَوْل فِي الْقصاص فِي النَّفس

(6/286)


النَّوْع الثَّانِي فِي قصاص الطّرف

وَهُوَ وَاجِب بِقطع الْأَطْرَاف وَالنَّظَر فِي الْقطع والقاطع والمقطوع
أما الْقطع وَالْجرْح كل عمد مَحْض عدوان مُبين بطرِيق الْمُبَاشرَة لَا بِالسّرَايَةِ وَقد ذكرنَا اخْتِلَاف النَّص فِي السَّرَايَة إِلَى الْأَجْسَام واللطائف
أما الْقَاطِع فشرطه كَونه مُكَلّفا مُلْتَزما كَمَا فِي النَّفس وَلَا يُرَاد فِي الطّرف التَّسَاوِي فِي الْبَدَل بل تقطع عندنَا يَد الرجل بيد الْمَرْأَة وَبِالْعَكْسِ وَيَد العَبْد بِالْعَبدِ وَالْحر نعم لَا تقطع السليمة بالشلاء لَيست نصفا من صَاحبهَا فالبدل يلْتَفت إِلَيْهِ عندنَا معيارا تنعرف بِهِ نِسْبَة الطّرف من النَّفس ثمَّ من قوبل كُله بشخص قوبل نصفه بِنصفِهِ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله التَّفَاوُت فِي الْبَدَل يمْنَع الْقصاص
ثمَّ التَّفَاوُت فِي الْعدَد عندنَا لَا يمْنَع كَمَا فِي النَّفس
وَلَو قطع جمَاعَة يَمِين رجل على الإشتراك بِحَيْثُ لم ينْفَصل فعل بَعضهم من بعض قطعت أَيْمَانهم بِهِ

(6/287)


فَأَما الْمَقْطُوع فَيعْتَبر فِيهِ الْعِصْمَة كَمَا فِي النَّفس وَأَن تكون الْجِنَايَة مَعْلُومَة الْقدر بِحَيْثُ يُمكن الإقتصار على مثله فِي الْقصاص فَإِن الرّوح مستبقاة فَلَا بُد من الإحتياط
ثمَّ الْجِنَايَة على مَا دون النَّفس ثَلَاثَة جرح وإبانة طرف وَإِزَالَة مَنْفَعَة
أما الضَّرْب واللطم فَلَا قصاص فِيهِ بل يُعَزّر صَاحبه
أما الْجرْح فَإِن وَقع على الرَّأْس لم يجب الْقصاص فِيهِ إِلَّا فِي الْمُوَضّحَة وَهِي الَّتِي توضح الْعظم فَأَما مَا بعْدهَا من الهاشمة للعظم أَو المنقلة لَهُ أَو الآمة الْبَالِغَة إِلَى أَمر الرَّأْس أَو الدامغة الخارقة لخريطة الدِّمَاغ فَلَا قصاص فِيهَا لِأَنَّهَا لَا تنضبط
وَمَا قبل الْمُوَضّحَة كالحارصة الَّتِي تشق الْجلد والدامية الَّتِي تسيل الدَّم مِنْهَا فَلَا قصاص فيهمَا
وَأما الباضعة الَّتِي تبضع اللَّحْم أَي تقطعه والمتلاحمة الَّتِي تغوص فِي اللَّحْم غوصا بَالغا وَلَا يَنْتَهِي إِلَى الْعظم فَفِيهَا قَولَانِ
أَحدهمَا النَّفْي فَإِن الْعظم مرد فَإِذا لم ينْتَه إِلَيْهِ لم يُمكن الضَّبْط
وَالثَّانِي يجب وَيُمكن ضبط مِقْدَاره بِالنِّسْبَةِ فَإِن قطع نصف اللَّحْم إِلَى

(6/288)


الْعظم فَيقطع من رَأسه النّصْف وَإِذا كَانَ أَحدهمَا فِي سمك شعيرَة وَالْآخر فِي سمك شعيرتين فَلَا نبالي بِهِ وَإِنَّمَا ترعى النِّسْبَة
والموضحة إِذا وَقعت على الْوَجْه فَانْتهى إِلَى عظم الْجَبْهَة أَو الخد أَو قَصَبَة الْأنف فَهُوَ كموضحة الرَّأْس وَلَو وَقع على سَائِر الْبدن كَمَا لَو انْتهى إِلَى عظم الصَّدْر مثلا فَلَا يلْحق بموضحة الرَّأْس وَالْوَجْه فِي تَقْدِير الْأَرْش بِنصْف عشر الدِّيَة وَلَكِن فِي الْقصاص وَجْهَان
قَالَت المراوزة لَا يلْحق بِهِ كَمَا فِي الدِّيَة
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ يلْحق بِهِ لِأَنَّهُ مضبوط فِي نَفسه وَأما التَّقْدِير فَلَا يَكْفِي الضَّبْط فِيهِ مَعَ اخْتِلَاف الْموضع
فرع لَو قطع بعض المارن أَو الْأذن وَلم يبن فَفِي الْقصاص فِيهِ قَولَانِ مرتبان على المتلاحمة وَأولى بِالْوُجُوب لِأَن الضَّبْط فِيهِ أيسر إِذْ الْهَوَاء بِهِ مُحِيط من الْجَانِبَيْنِ وَلَو قطع نصف كوعه فَقَوْلَانِ مرتبان وَأولى بِأَن لَا يجب لِأَن الْكُوع مجمع الأعصاب وَالْعُرُوق وَهِي تخْتَلف فِي ارتفاعها وانخفاضها
وَأما الْأَطْرَاف فَيجب الْقصاص فِي قطع مفاصلها وَكَذَا فِي مفصل الْمنْكب والفخذ إِن أمكن قطعه بِغَيْر إجافة وَإِن استأصل الْجَانِي الْفَخْذ وأجافه وَأمكن تَحْصِيل مثله فَالظَّاهِر أَنه يمْنَع الإجافة وَقيل يجوز لِأَن هَذِه الْجَائِفَة تَابِعَة لَا مَقْصُودَة وكل جرم يبْقى دلَالَة الْقطع فَهُوَ كالمفصل كَمَا لَو قطع فلقَة من المارن أَو الْأذن والأنثيين وَالذكر والأجفان والشفتين والشفرين لِأَنَّهُ مُقَدّر مَحْدُود
وَلَا يجب الْقصاص فِي فلقَة من الْفَخْذ لِأَن سمكه لَا يَنْضَبِط وَفِي الْعَجز وَجْهَان

(6/289)


لتردده بَين الْفَخْذ وَالذكر لِأَنَّهُ بَين النتو والإنبساط وَأما كسر الْعِظَام فَلَا قصاص فِيهِ وَلَو كسر عضده قطع من الْمرْفق وَأخذ حُكُومَة الْعَضُد وَكَذَلِكَ لَو هشم رَأسه بعد إِيضَاح أوضح وَضمن أرش الْبَاقِي وَلَو قطع من الْكُوع لعَجزه من الْعَضُد مُقْتَصرا عَلَيْهِ فَفِي تجويزه وَجْهَان
أَحدهمَا لَا لِأَن الْمرْفق مَقْدُور عَلَيْهِ وَهُوَ أقرب إِلَى مَحل الْقطع فَهُوَ كَمَا لَو طلب رأش الساعد مَعَ قطع الْكُوع فَإِنَّهُ لَا يُجَاب وكما لَو قطع من الْمرْفق فَنزل إِلَى الْكُوع مَعَ الْقُدْرَة على الْمرْفق فَإِنَّهُ لَا يحاب
وَالثَّانِي أَنه يُجَاب لِأَن مَحل الْجِنَايَة معجوز عَنهُ وَفِي النُّزُول إِلَى الْكُوع مُسَامَحَة
وَلَا خلاف أَنه لَو نزل إِلَى لقط الْأَصَابِع لم يجز لِأَن فِيهِ تَعْذِيب مَحل الْجراحَة ثمَّ إِذا أسقطنا حُكُومَة الساعد فَفِي حُكُومَة بَقِيَّة الْعَضُد تردد لِأَن ذَلِك معجوز عَنهُ بِخِلَاف الساعد
فَأَما الْمعَانِي وَالْمَنَافِع فَلَا يُمكن تنَاولهَا بِالْمُبَاشرَةِ وَلَكِن بِالسّرَايَةِ وَقد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه لَو أوضح رَأسه فَأذْهب ضوء عَيْنَيْهِ أوضحنا رَأسه فَإِن لم يذهب ضوءه أزلنا الضَّوْء مَعَ إبْقَاء الحدقة بطرِيق مُمكن وَهَذَا إِيجَاب قصاص بِالسّرَايَةِ وَنَصّ فِي أجسام الْأَطْرَاف أَنَّهَا لَا تضمن بِالسّرَايَةِ فَقيل قَولَانِ بِالنَّقْلِ والتخرج كَمَا سبق فَإِن قُلْنَا يضمن اللطائف بِالسّرَايَةِ فَفِي الْعقل والبطش تردد لبعدهما عَن التَّنَاوُل بِالسّرَايَةِ أما السّمع فَهُوَ فِي 2 معنى الْبَصَر

(6/290)


فروع إِذا قُلْنَا لَا تضمن الْأَجْسَام بِالسّرَايَةِ فَلَو جَاءَ الْمَقْطُوع يَده وَقطع أصبعا من الْجَانِي فتآكل الْبَاقِي فَفِي تأدي الْقصاص بِهِ قَولَانِ
أَحدهمَا لَا لِأَن السَّرَايَة فِيهِ لَا توجب الْقصاص فَلَا يتَأَدَّى بِهِ الْقصاص بِخِلَاف مَا إِذا قطع يَده فَقطع يَد الْجَانِي فسرتا إِلَى الروحين فَإِنَّهُ يَقع قصاصا لِأَن السَّرَايَة فِي الرّوح كالمباشرة وَكَذَا الْخلاف فِيمَا لَو ضرب من عَلَيْهِ الْقصاص بِسَوْط أَو جرحه خطأ فَمَاتَ لِأَن الرّوح تضمن بِالْقصاصِ وَلَكِن لَا بِهَذَا الطَّرِيق
والأقيس أَن يتَأَدَّى بِهِ الْقصاص لِأَن الْحق مُتَعَيّن وَقد اسْتَوْفَاهُ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون إِذا قتل من يسْتَحق عَلَيْهِ الْقصاص
وَلَو أوضح رَأسه فتمعط شعره وَزَالَ ضوء عَيْنَيْهِ فأوضحنا رَأسه فتمعط شعره وَزَالَ ضوء عَيْنَيْهِ فَفِي وُقُوع الشّعْر قصاصا خلاف مُرَتّب وَأولى بِأَن لَا يَقع لِأَن نفس الشّعْر لَا يضمن بِالْقصاصِ بِخِلَاف نفس الْأَطْرَاف وَوجه وُقُوعه قصاصا التّبعِيَّة والإلتفات إِلَى أَن فَسَاد المنبت من جملَة زَوَال اللطائف إِذْ مَعْنَاهُ زَوَال الْقُوَّة المنبتة وجرم الشّعْر فِيهِ تَابع
وَلَا خلاف فِي أَنه لَو بَاشر تمعيط شعره فقابله بِمثلِهِ لم يَقع قصاصا بل كل وَاحِد مِنْهُمَا جِنَايَة توجب الْحُكُومَة وَالتَّعْزِير

(6/291)


الْفَصْل الثَّانِي فِي الْمُمَاثلَة

والتفاوت فِي ثَلَاثَة أُمُور
الأول تفَاوت فِي الْمحل وَالْقدر وَمِثَال الْمحل أَن الْيُمْنَى لَا تقطع باليسرى وَلَا السبابَة بالوسطى وَلَا أصْبع زَائِدَة بِمِثْلِهَا عِنْد اخْتِلَاف المنبت وَأما الْقدر فتفاوته لَا يُؤثر فِي الْأَعْضَاء الْأَصْلِيَّة إِذْ تقطع يَد الصَّغِير بالكبير وبيد الصَّغِير يَد الْكَبِير عِنْد الْمُسَاوَاة فِي الإسم إِبْهَام وإبهام وَفِي الْأصْبع الزَّائِدَة يمْنَع الْقصاص إِذا وَجب تفَاوت الْحُكُومَة لتَفَاوت النِّسْبَة وَعند تَسَاوِي الْحُكُومَة وَجْهَان لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْم أُصَلِّي حَتَّى يَكْتَفِي بِالِاسْمِ
وَأما الْمُوَضّحَة فالتفاوت فِيهِ فِي الْعرض مُعْتَبر إِذْ لَا يقنع فِيهَا بموضحة 2 ضيقَة فِي مُقَابلَة الواسعة وتفاوت الغوص فِي سمك اللَّحْم لَا يُؤثر لِأَن مرد الإسم هُوَ الْعظم
فروع ثَلَاثَة
الأول لَو أوضح ناصيته لم نوضح قذاله بل راعينا الْمحل وَلَو كَانَ رَأس الشاج أَصْغَر استوعبنا عِنْد اسْتِيفَائه الرَّأْس الْكَبِير وَلم نكمل بالقفا والجبهة لتَفَاوت الإسم وَالْمحل بل نضم إِلَيْهِ أرشا بِخِلَاف الْيَد الصَّغِيرَة فَإِنَّهَا تَكْفِي فِي مُقَابلَة الْكَبِيرَة لِأَن مَا وَقع من النُّقْصَان بَين

(6/292)


الْيَدَيْنِ لم يثبت لَهُ اسْم الْيَد والتفاوت هَا هُنَا مِقْدَار يثبت لَهُ اسْم الْمُوَضّحَة وديتها لَو أفرد فَلم يُمكن أَن يَجْعَل تَابعا
وَلَو استوعب ناصيته وَرَأس الشاج أَصْغَر استوعبنا ناصيته وكملنا من بَاقِي الرَّأْس لِأَن اسْم الرَّأْس شَامِل وَقَالَ القَاضِي اخْتِلَاف أسامي جَوَانِب الرَّأْس كاختلاف مَا بَين الرَّأْس وَغَيره فَلَا يتَعَدَّى الناصية وَيضم إِلَيْهِ الْأَرْش
فَإِن فرعنا على الظَّاهِر فالخيرة فِي تعْيين الْجَانِب الَّذِي بِهِ التَّكْمِيل إِلَى الْجَانِي على وَجه وَإِلَى الْمَجْنِي عَلَيْهِ على وَجه وَفِي الثَّالِث يبتدىء من حَيْثُ ابْتَدَأَ الْجَانِي وَيذْهب فِي صَوبه إِلَى الإستكمال
الثَّانِي لَو اسْتحق قدر أُنْمُلَة من الْمُوَضّحَة فَزَاد فِي الْقصاص غرم أرشا وَفِي مِقْدَاره وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه قسط بِحِصَّة أرش وَاحِد إِذا وزع على الْجَمِيع لِأَن الْمُوَضّحَة وَاحِدَة
وَالثَّانِي أَنه يجب أرش كَامِل لِأَن هَذَا الْقدر حناية وَالْبَاقِي حق مُنْفَرد بِحكمِهِ كَمَا لَو كَانَ الأول خطأ وَاسْتمرّ على الْبَقِيَّة عمدا فَيجب قصاص الْعمد ويفرد حكمه لاخْتِلَاف الْحَال وَيقرب مِنْهُ الْخلاف فِيمَا إِذا أَرَادَ الإقتصار على بعض حَقه مِنْهُم من جوز كَمَا فِي الأصبعين وَمِنْهُم من منع لِاتِّحَاد الِاسْم
الثَّالِث لواشتركوا فِي الْإِيضَاح احْتمل أَن يُوضح من رَأس كل شريك بِقَدرِهِ وَيحْتَمل أَن يوزع لقبوله التَّوْزِيع ثمَّ يتَصَدَّى النّظر فِي تعْيين الْمحل

(6/293)


التَّفَاوُت الثَّانِي فِي الصِّفَات

وَفِيه مسَائِل
الأولى أَن التَّفَاوُت فِي الضعْف وَالْمَرَض لَا يمْنَع بل يقطع ذكر الْقوي بِذكر الْعنين وَالصَّبِيّ وأنف الصَّحِيح بأنف الأجذم إِلَّا إِذا بطلت حَيَاته وَأخذ فِي التفتت
وتقطع أذن السَّمِيع بأذن الْأَصَم وَالْأنف الصَّحِيح بأنف الأخشم لِأَن الْمَرَض فِي مَحل السّمع والشم لَا فِي مَحل الْأذن وَالْأنف وَلَا تقطع يَد الصَّحِيح بالشلاء وَلَا الذّكر الصَّحِيح بالأشل وشلل الذّكر أَن لَا يتَغَيَّر فِي الْحر وَالْبرد بالتقلص والإسترسال وَذكر الْعنين لَا شلل فِيهِ وَإِنَّمَا الْخلَل فِي مَوضِع آخر وَهُوَ فِي الدِّمَاغ أَو الْقلب وشلل الْيَد فِي بطلَان الْبَطْش
وَلَا يشْتَرط سُقُوط الْحس على الْمَذْهَب الظَّاهِر فَإِن قنع صَاحب الصَّحِيحَة بِالْيَدِ الشلاء أُجِيب إِلَيْهِ وَلم يكن لَهُ أرش كَمَا لَو رَضِي المُشْتَرِي بالمعيب فِي الشِّرَاء لِأَن الْبَطْش وصف لَا يقبل الإنفصال
وتقطع الشلاء بالشلاء إِذا تَسَاويا فِي الْحُكُومَة وَضَعِيف الْبَطْش كقويه إِلَّا إِذا كَانَ بِجِنَايَة فَإِن الْجِنَايَة تعْتَبر فِي الشّركَة وَلَا تعْتَبر فِي الْمَرَض
وَأما الحدقة العمياء ولسان الأبكم فَهِيَ كَالْيَدِ الشلاء
الثَّانِيَة تقطع الْأذن الصَّحِيحَة بالأذن المثقوبة إِذا لم يُورث الثقب شَيْئا كآذان النِّسَاء

(6/294)


والمخرومة الَّتِي قطع بَعْضهَا لَا يسْتَوْفى بهَا كَامِلَة وَلَكِن تستوفى بِمِثْلِهَا إِن أجرينا الْقصاص فِي بعض الاطراف وَلَا نكتفي بالمخرومة فِي مُقَابلَة الْكَامِلَة إِلَّا بِضَم الْأَرْش إِلَيْهِ
وَإِن كَانَ الخرم من غير إبانة قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ امْتنع الْقصاص لِأَن الْجمال هوالمقصود الْأَظْهر فِي الْأذن بِخِلَاف مَا إِذا كَانَت أظفار الْمَجْنِي عَلَيْهِ متفرعة اَوْ مخضرة إِذْ تقطع بِهِ الْيَد السليمة لظُهُور مَنْفَعَة الْبَطْش فِي الْيَد وَلَو كَانَت الْأَظْفَار مقلوعة قَالُوا لَا يسْتَوْفى بهَا الْكَامِلَة وَالْكل فِيهِ نظر إِذْ يلْزم أَن ينقص قدر من دِيَة الإصبع لفقد الظفر وَلَا قَائِل بِهِ
وَلَو قطع أُذُنه فَرده إِلَى المقطع فِي حرارة الدَّم فالتصق فَلَا أثر لهَذَا الإلتصاق وَالْقصاص وَاجِب وَيجب قلعه إِن قُلْنَا إِن مَا يبان من الْآدَمِيّ نجس وَإِلَّا فيعفى عَنهُ وَيحْتَمل النّظر إِلَى الدَّم الَّذِي انكتم فِي الإلتصاق لِأَن السَّاتِر جماد فَلَا يُوجب الإستبطان
فَإِذا قُلْنَا يجب إِزَالَته فَلَا قصاص على مقتلعه وَهَكَذَا إِن قُلْنَا لَا يجب إِلَّا إِذا سرى إِلَى الرّوح فَيجب قصاص النَّفس
الثَّالِثَة لَا تقلع سنّ الْبَالِغ بسن صبي لم يثغر لِأَن الْقصاص فِي إِفْسَاد المنبت فَلَا يفْسد من الصَّبِي فَلَو فسد المنبت وَلم تعد سنّ الصَّبِي فَفِي الْقصاص قَولَانِ وَجه قَوْلنَا لَا يجب أَن سنه فضلَة زَائِدَة فَلَا يُمكن أَن يقْلع بِهِ سنّ أُصَلِّي
فَإِن كَانَ فَسَاد المنبت مُشْتَركا والبالغ لَو عَاد سنه على ندور فَفِي سُقُوط الْقصاص عَن قالعه قَولَانِ وَوجه قَوْلنَا لَا يسْقط التَّشْبِيه بِمَا لَو التحمت الْمُوَضّحَة فَإِنَّهَا نعْمَة

(6/295)


جَدِيدَة لَا تسْقط الْقصاص
وَلَو قطع جُزْءا من طول لِسَانه فَعَاد فَهُوَ كعود السن أَو التحام الْمُوَضّحَة وَجْهَان فَإِن حكمنَا بِسُقُوط الْقصاص ففائدته اسْتِرْدَاد الدِّيَة إِن كَانَ قد أَخذهَا أَو إِيجَاب دِيَة سنّ الْجَانِي وَإِن كَانَ قد قلع وَلَيْسَ من فَائِدَته تَأْخِير اسْتِيفَاء الْقصاص لِأَن الظَّاهِر عدم الْعود كَمَا أَن الظَّاهِر فِي الصَّبِي الْعود
فَإِن بَادر الْمَجْنِي عَلَيْهِ وَاسْتوْفى ثمَّ عَاد سنه لم يقْلع قصاصا باستيفائه إِذْ جَازَ لَهُ الإستيفاء لَكِن يغرم لَهُ الدِّيَة وَيبقى لَهُ حُكُومَة سنه
وَلَو عَاد سنّ الْجَانِي وَقُلْنَا عوده مُؤثر فَفِي قلعه ثَانِيًا وثالثا إِلَى إِفْسَاد المنبت وَجْهَان

(6/296)


التَّفَاوُت الثَّالِث فِي الْعدَد

فَإِن كَانَت يَد الْجَانِي نَاقِصَة بأصبع قطع وطولب بِالْأَرْشِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يقنع بِهِ كَمَا فِي النَّفس
فَإِن كَانَ النُّقْصَان فِي يَد الْمَجْنِي عَلَيْهِ لم يكن لَهُ قطع الْكَفّ لَكِن لقط الْأَصَابِع الْأَرْبَع وَطلب حُكُومَة الْبَاقِي كَمَا فِي كسر الْعَضُد

فروع أَرْبَعَة

الأول لَو كَانَ على يَد الْجَانِي أصبعان شلاوان فَلَو قطع يَده فَلَا أرش للشلل وَإِن لقط الْأَصَابِع الثَّلَاث فَلهُ دِيَة أصبعين وَأما حُكُومَة الْكَفّ فالقدر الَّذِي يُقَابل الْأَصَابِع المقطوعة فِيهِ وَجْهَان يعبر عَنْهُمَا بِأَن الْحُكُومَة هَل تندرج تَحت قصاص الْأَصَابِع كَمَا تندرج تَحت دِيَتهَا وَهل يُقَابل الأصبعين فِيهِ وَجْهَان يعبر عَنْهُمَا بِأَن بعض الْأصْبع هَل تنزل منزلَة الْكل فِي استتباع الْحُكُومَة وَأما الْأصْبع الشلاء فَلَا تندرج حُكُومَة الْكَفّ تَحت حكومتها فِي الظَّاهِر
الثَّانِي إِذا كَانَ على يَد الْجَانِي سِتَّة أَصَابِع مُتَسَاوِيَة لَيْسَ فِيهَا زِيَادَة فللمجني عَلَيْهِ أَن يلقط خَمْسَة من أَي جَانب شَاءَ وَله مَعَ ذَلِك سدس دِيَة الْيَد لِأَن الْيَد انقسمت سِتَّة أَقسَام وَقد استوفى فِي خَمْسَة أسداسها إِلَّا أَنه خَمْسَة أَسْدَاس فِي صُورَة خمس كوامل فنحط من أجل الصُّورَة من السُّدس شَيْئا بالإجتهاد
أما إِذا كَانَت فِيهَا زِيَادَة وَزعم أهل الصَّنْعَة أَن الْقُوَّة لم تَنْقَسِم بالأجزاء المتساوية لِأَن

(6/297)


الزَّائِد ملتبس فَلَيْسَ لَهُ الْقصاص لِأَنَّهُ رُبمَا يَسْتَوْفِي الزَّائِدَة بأصلية فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ
فَلَو بَادر فَقطع خمْسا فَهُوَ تَمام حَقه وَلَا يلْتَفت إِلَى قَوْله لَعَلَّ الزَّائِد فِي الْمُسْتَوْفى فقد نقص حَقي لِأَنَّهُ تعدى بالمخالفة
الثَّالِث أصْبع تشْتَمل على أَربع أنامل تَنْقَسِم الْقُوَّة لَهَا على التَّسَاوِي من غير تعْيين زِيَادَة فَإِذا قطع هَذَا من المعتدل أُنْمُلَة قَطعنَا أنملته وألزمناه من الْأَرْش مَا بَين الرّبع وَالثلث
وَإِن قطع أنملتين قَطعنَا أنملتيه وألزمناه مَا بَين النّصْف والثلثين فَإِن قطع الْأصْبع قَطعنَا أُصْبُعه فَإِن أَرْبَعَة أَربَاع تَسَاوِي ثَلَاثَة أَثلَاث هَذَا إِذا لم يزدْ فِي الطول فَإِن زَاد فِي طوله فَالْحكم مَا مضى وَلَكِن يرْعَى تفَاوت الصُّورَة هَا هُنَا كَمَا فِي الْأَصَابِع السِّتَّة
وَلَو قطع من هَذِه الأنامل وَاحِدَة فَلَا نقطع أُنْمُلَة معتدلة لِأَنَّهَا ثلث فَلَا تقَابل بِالربعِ وَإِن قطع أنملتين قَطعنَا وَاحِدَة وطلبناه بالتفاوت بَين النّصْف وَالثلث
وأنملتان متساويتان على رَأس أصْبع ويدان على ساعد وقدمان على كَعْب كالأصابع السِّتَّة
الرَّابِع مَقْطُوع الْأُنْمُلَة الْعليا إِذا قطع صَحِيح

(6/298)


الْأُنْمُلَة الْوُسْطَى مِنْهُ فَلَا يُمكن اسْتِيفَاء الْوُسْطَى وَلَكِن لَو سَقَطت الْعليا بِآفَة أَو جِنَايَة جَان فقدرنا على الْوُسْطَى فنقطعها وَإِلَى أَن يتَّفق ذَلِك فَهَل يُطَالب بِالْأَرْشِ للْحَيْلُولَة نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن ولي الْمَجْنُون يُطَالب بِالْأَرْشِ إِذا ثَبت للمجنون قصاص وَيكون ذَلِك للْحَيْلُولَة وَنَصّ فِي الصَّبِي أَنه لَا يُطَالب لِأَن لَهُ أمدا منتظرا فَخرج إِلَى الْمَجْنُون وَجه من الصَّبِي وَإِلَى الصَّبِي وَجه من الْمَجْنُون
وَأما الْحَامِل فَهِيَ أولى بِأَن لَا يُطَالب لِأَن أمد وضع الْحمل قريب فتوقع سُقُوط الْعليا فِي مَسْأَلَتنَا بِآفَة أَو جِنَايَة جَان كتوقع الْإِفَاقَة من الْمَجْنُون
وَلَو كَانَت علياه مُسْتَحقَّة بِالْقصاصِ فتوقع اسْتِيفَائه كتوقع وضع الْحمل
وَمهما قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ لَهُ أرش الْحَيْلُولَة فَلَو أَخذ كَانَ إقدامه على أَخذ الْأَرْش

(6/299)


عفوا عَن الْقصاص

فروع تتَعَلَّق بالنزاع

الأول إِذا جنى على ملفوف فِي ثوب وَادّعى كَونه مَيتا وَأنْكرهُ ولي الملفوف فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا القَوْل قَول الْجَانِي إِذْ الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة
وَالثَّانِي القَوْل قَول الْوَلِيّ إِذْ الأَصْل اسْتِمْرَار الْحَيَاة
وَلَو قطع يَده ثمَّ قَالَ لم يكن لَهُ أصْبع فَفِيهِ طرق وَحَاصِل الْمَذْهَب أَرْبَعَة أَقْوَال
أَحدهَا أَن القَوْل قَوْله لِأَن الأَصْل عدم الْقصاص
وَالثَّانِي قَول الْمَجْنِي عَلَيْهِ إِذْ الأَصْل السَّلامَة
وَالثَّالِث إِن كَانَ الْعُضْو بَاطِنا فَقَوْل الْمَجْنِي عَلَيْهِ إِذْ يعسر عَلَيْهِ إِقَامَة الْبَيِّنَة وَالْبَاطِن مَا يجب ستره شرعا على رَأْي أَو مَا يستر مُرُوءَة على رَأْي
وَالرَّابِع أَنه إِن ادّعى عدم الْأصْبع فِي الأَصْل فَالْقَوْل قَوْله وَإِن ادّعى سُقُوطه فَالْقَوْل قَول الْمَجْنِي عَلَيْهِ
الثَّانِي إِذا قطع يَدي رجل وَرجلَيْهِ فَمَاتَ وَبعد مَوته ادّعى الْوَلِيّ أَنه مَاتَ بعد اندماله وَعَلَيْك ديتان فَأنْكر فَيصدق من يصدقهُ الظَّاهِر وَيعرف ذَلِك بِقرب الزَّمَان وَبعده
وَإِن تَسَاويا فِي إِمْكَان الصدْق فَهُوَ قريب من تقَابل الْأَصْلَيْنِ إِذْ يُمكن أَن يُقَال الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة وَالْأَصْل التَّعَدُّد عِنْد تعدد الْجِنَايَة والسراية مَشْكُوك فِيهَا

(6/300)


وَلَو ادّعى الْوَارِث أَنه مَاتَ بِسَبَب هاجم فمطالبته بِالْبَيِّنَةِ هَا هُنَا أولى لِأَن إِثْبَات ذَلِك أيسر وَالْأَصْل عدم طرآن السَّبَب
وَلَو انعكس الْخلاف فَطلب الْقصاص فِي النَّفس فَالْقَوْل قَول الْجَانِي لِأَن قصاص النَّفس يتَوَقَّف على السَّرَايَة وَهُوَ مَشْكُوك فِيهِ وَيسْقط بِالشُّبْهَةِ إِلَّا إِذا كَانَ الظَّاهِر خلاف مَا يَقُوله فَإنَّا لَا نصدقه
فَلَو أَقَامَ من لم نصدقه فِي السَّرَايَة بَيِّنَة على أَنه لم يزل ضمنا نحيفا إِلَى الْمَوْت فَهَذَا لَا يُفِيد نفي سَبَب آخر لَكِن يَجْعَل الظَّاهِر لجَانب السَّرَايَة
الثَّالِث إِذا شج رَأس إِنْسَان موضحتين فَرَأَيْنَا الحاجز مرتفعا وَقَالَ الْجَانِي أَنا رفعته وَعلي أرش وَاحِد لِاتِّحَاد الموضحات وَقَالَ الْمَجْنِي عَلَيْهِ أَنْت رفعته وَلَكِن بعد الإندمال فَعَلَيْك ثَلَاثَة أروش فَينْظر فِي دَعْوَى الإندمال إِلَى مَا سبق فَإِن حلف الْمَجْنِي عَلَيْهِ على الإندمال حَيْثُ يصدق ثَبت على الْجَانِي أرشان وَفِي الثَّالِث وَجْهَان
أَحدهمَا نعم لِأَنَّهُ مقرّ بالثالث والإندمال ثَبت بيمينة
وَالثَّانِي لَا لِأَن يَمِين الإندمال تصلح لنفي التَّدَاخُل وَلَا تصلح لإِثْبَات الثَّالِث عَلَيْهِ وَهُوَ لم يقر بثالث مُوجب بل بِرَفْع حاجز لَا يُوجب وَقد تمّ النّظر فِي مُوجب الْقصاص

(6/301)


الْفَنّ الثَّانِي فِي حكم الْقصاص الْوَاجِب فِي الإستيفاء وَالْعَفو

وَفِيه بَابَانِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الأول فِي الإستيفاء - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَفِيه ثَلَاثَة فُصُول
الْفَصْل الأول فِيمَن لَهُ ولَايَة الإستيفاء

وَفِيه مسَائِل
الأولى إِذا كَانَ الْقَتِيل وَاحِدًا وَالْوَرَثَة جمَاعَة فالقصاص موزع على فَرَائض الله تَعَالَى حَتَّى يثبت للزوجين وَالصَّغِير وَالْمَجْنُون
ثمَّ إِن كَانَ فيهم صَغِير أَو مَجْنُون لم يسْتَوْف الْقصاص إِلَى الْبلُوغ والإفاقة خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
وَقد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ على أَن ولي الْمَجْنُون يُطَالب بِالْمَالِ لِأَنَّهُ لَا أمد لَهُ وَولي الصَّبِي لَا يُطَالب بِالْمَالِ وَقد ذكرنَا تصرف الْأَصْحَاب قبل هَذَا فِي كتاب اللَّقِيط

(6/302)


أما إِذا كَانُوا مكلفين فَلَا يجوز الإستيفاء إِلَّا بالتوافق فَإِن تزاحموا أَقرع بَينهم فَمن خرجت الْقرعَة لَهُ فَمَنعه غَيره من أصل الإستيفاء امْتنع وَيدخل فِي الْقرعَة الْمَرْأَة وَالْعَاجِز على أحد الْوَجْهَيْنِ ويستنيب إِن خرجت قرعته

فرع
لَو بَادر وَاحِد دون رضَا الآخرين فَفِي وجوب الْقصاص قَولَانِ
أَحدهمَا يجب إِذْ لَيْسَ لَهُ ذَلِك وَحقه لَيْسَ بكامل فِي الْجَمِيع فَهُوَ كَمَا لَو شَارك غَيره
وَالثَّانِي لَا لِأَن الْبَعْض مهدر فِي حَقه فَصَارَ كَمَا جرح جراحتين إِحْدَاهمَا فِي حَالَة الإهدار وَلِأَن عُلَمَاء الْمَدِينَة ذَهَبُوا إِلَى إِبَاحَة الإستبداد لكل وَارِث وَالْخلاف فِي إِبَاحَة السَّبَب شُبْهَة ولهذه الْعلَّة لَو جرى بعد عَفْو الآخرين سقط الْقصاص أَيْضا وَإِن لم يكن عَالما بِالْعَفو فسقوط الْقصاص أولى
فَإِن قُلْنَا لَا يجب الْقصاص فَالَّذِي لم يرض يرجع بِحِصَّتِهِ على المبادر فِي قَول وَكَأَنَّهُ استوفى الْكل واحتبسه عِنْده وَيرجع على تَرِكَة الْقَتِيل فِي قَول كَمَا لَو قَتله أَجْنَبِي
وَإِن قُلْنَا يجب الْقصاص فَلَو بَادر ولي الْقَتِيل الْقَاتِل فَقتل المبادر بَقِي دِيَة الْقَتِيل الْمَظْلُوم مُتَعَلقَة بتركة الْقَتِيل الْقَاتِل نصفهَا لوَرَثَة المبادر وَنِصْفهَا للَّذي لم يَأْذَن

(6/303)


فَإِن عَفا ولي الْقَتِيل الْقَاتِل على مَال فَذَلِك المَال تَرِكَة الْقَتِيل الْقَاتِل فَيُؤَدِّي مِنْهُ حق الَّذِي لم يَأْذَن وَيجْعَل حق المبادر قصاصا بِمثلِهِ إِن تماثلا
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة إِذا قتل الْوَاحِد جمَاعَة قتل بأولهم وللباقين الدِّيات وَإِن قَتلهمْ مَعًا قتل بِمن خرجت لَهُ الْقرعَة وَاكْتفى أَبُو حنيفَة رَحمَه الله بِهِ عَن جَمِيعهم
وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي العَبْد إِذا قتل جمَاعَة فَقيل يقتل بجميعهم لِأَن حق الآخرين ضائع وَفِي الْقَاتِل فِي قطع الطَّرِيق لجَماعَة فَإِنَّهُ لم يرع فِيهِ الْكَفَاءَة وسلك بِهِ مَسْلَك الْحَد على قَول اكْتفى بِهِ عَن الْجَمَاعَة وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي أَوْلِيَاء الْقَتْلَى إِذا تمالئوا عَلَيْهِ على ثَلَاثَة أوجه
الصَّحِيح أَنه يقسط عَلَيْهِم وَيرجع كل وَاحِد إِلَى حِصَّته من الدِّيَة
وَالثَّانِي أَنه يقرع بَينهم وَيصرف إِلَى من خرجت الْقرعَة لَهُ

(6/304)


وَالثَّالِث أَنه يَكْفِي عَن جَمِيعهم كمذهب أبي حنيفَة رَحمَه الله
هَذَا إِذا حضر الْكل فَإِن كَانَ بَعضهم غَائِبا أَو مَجْنُونا فَفِي رِوَايَة الرّبيع يُؤَخر إِلَى إِمْكَان الْقرعَة وَفِي رِوَايَة حَرْمَلَة يَسْتَوْفِي الْحَاضِر والعاقل وَيكون الْحُضُور مرجحا كالقرعة

فرع
لَو اجْتمع مُسْتَحقّ النَّفس والطرف قدم مُسْتَحقّ الطّرف إِن اجْتمع مُسْتَحقّ الْيَمين ومستحق الْأصْبع من الْيَمين أَقرع بَينهمَا لِأَن قطع الْأصْبع ينقص الْيَمين بِخِلَاف قطع الطّرف فَإِنَّهُ لَا ينقص النَّفس
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي المستوفي وَلَيْسَ للْوَلِيّ الإستقلال دون الرّفْع إِلَى السُّلْطَان فَإِن استوفى وَقع الْموقع وعزره الإِمَام لِأَن أَمر الدِّمَاء خطير
فَإِذا رفع إِلَى السُّلْطَان وَجب عَلَيْهِ أَن يَأْذَن لَهُ فِي الْقَتْل وَلَا يَأْذَن فِي اسْتِيفَاء حد الْقَذْف لِأَن تفَاوت الضربات عَظِيم وَهُوَ حَرِيص على الْمُبَالغَة وَهل يُفَوض إِلَيْهِ الْقطع فعلى وَجْهَيْن وَجه الْمَنْع مَعَ كَونه مُقَدرا مَا يفْرض من ترديد الحديدة الَّتِي يعظم غورها
ثمَّ يَنْبَغِي أَن يسْتَوْفى الْقصاص بِأحد سيف وأسرع ضَرْبَة فَإِن ضرب الْوَلِيّ ضَرْبَة فَأصَاب غير الْموضع الْمَقْصُود فَإِن تعمد عزّر وَلم يعْزل وَإِن اخطأ وَدلّ على تخوفه وعجزه أمرناه بالإستنابة إِذْ لَا يُؤمن خَطؤُهُ ثَانِيًا وَمن أَصْحَابنَا من عكس هَذَا

(6/305)


التَّرْتِيب وَهُوَ ضَعِيف

فروع ثَلَاثَة

الأول لَو قَتله الْوَلِيّ بِسيف مَسْمُوم يفتته قبل الدّفن لم يُمكن وَإِن كَانَ يفتت بعد الدّفن فَوَجْهَانِ
الثَّانِي لَو قطع الْجَانِي طرف نَفسه بِإِذن الْمُسْتَحق فَفِي وُقُوعه عَنهُ وَجْهَان لِاتِّحَاد الْقَاص والمقتص
الثَّالِث نَص على أَن أُجْرَة الجلاد فِي الْقصاص على الْمُقْتَص مِنْهُ وَفِي الْحَد على بَيت المَال فَقيل قَولَانِ منشؤهما أَنه يخرج عَن الْعهْدَة بالتمكين أَو التَّمْيِيز وَالتَّسْلِيم وَهُوَ قريب من التَّرَدُّد فِي أَن مُؤنَة جذاذ الثِّمَار على البَائِع أَو المُشْتَرِي وَقيل بتقرير النصين لِأَن الْحَد يجوز ستر مُوجبه والهرب مِنْهُ فَيَكْفِي فِيهِ التَّمْكِين
وَالْأولَى أَن يكون للجلاد رزق من بَيت المَال إِن اتَّسع
وَيَنْبَغِي أَن يحضر الإِمَام مَحل الإقتصاص عَدْلَيْنِ خبيرين بمجاري الْأَحْوَال يبحثان عَن الحديدة أمسمومة أم لَا يراقبان حَقِيقَة الْحَال

(6/306)


الْفَصْل الثَّانِي فِي أَن حق الْقصاص على الْفَوْر

فَلَا يُؤَخر باللياذ إِلَى الْحرم إِلَى وَقت الْخُرُوج بل يقتل فِي الْحرم عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
وَلَو لَاذَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام يخرج وَيقتل وَقيل يقتل فِي الْمَسْجِد وتبسط الانطاع حذرا عَن التَّأْخِير وَلَو قطع طرفه فَمَاتَ فللوي قطع طرفه وحز رقبته عَقِيبه لانه اسْتحق الرّوح حلى الْفَوْر وَكَذَا لَو قطع فِي الشتَاء فللمستوفي الْقصاص فِي حرارة القيظ كَمَا لَهُ الْقصاص فِي حَالَة الْمَرَض وَإِن كَانَ مخطرا
وَلَو قطع يَدَيْهِ فاندمل فَقطع رجلَيْهِ فللمقطوع أَن يجمع بَين قطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَلَاء وَإِن كَانَ فِيهِ مزِيد خطر لِأَن الْحق على الْفَوْر وَفِيه وَجه أَنه يمْنَع
وَفِي الْجُمْلَة لَا يُؤَخر حق الْقصاص إِلَّا بِعُذْر الْحمل إِلَى وضع الْوَلَد وارتضاعه اللبأ

(6/307)


إِن كَانَ لَا يعِيش دونه فَإِن لم نجد مُرْضِعَة فَإلَى الْفِطَام وَإِن وجدناها وَلم ترغب قتلنَا هَذِه وألزمنا الْمُرضعَة الْإِرْضَاع بِالْأُجْرَةِ وقدرناه صَبيا ضائعا
وَأما الْحَد فيؤخر عَن الْفِطَام أَيْضا إِلَى أَن يكفل الْوَلَد غَيرهَا لقصة الغامدية فَإِن الْحَد على المساهلة وَلذَلِك تحبس الْحَامِل فِي الْقصاص وَلم يحبس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الغامدية وَلَا يتبع الهارب لاجل الْحَد وللوالي حبس الْقَاتِل إِن كَانَ ولي الْمَقْتُول غَائِبا وَلَا يحبس فِي دُيُون الغائبين لِأَن فِي الْقَتْل عُدْوانًا على حق الله تَعَالَى

فروع ثَلَاثَة

الأول لَو ادَّعَت الْحمل فَفِي وجوب التَّأْخِير بِمُجَرَّد دَعْوَاهَا وَجْهَان
أحد الْوَجْهَيْنِ يجب لِأَنَّهَا أعرف بِهِ وعَلى هَذَا لَا يُمكن اسْتِيفَاء الْقصاص من الْمَنْكُوحَة يخالطها زَوجهَا
وَالثَّانِي أَنا لَا ننكف إِلَّا بمخايل الْحمل وَلَا مبالاة بنطفة تعرض عقب الْوَطْء إِذا لم تنسلك الْحَيَاة فِيهَا
الثَّانِي لَو بَادر الْوَلِيّ وَقتل الْحَامِل بِغَيْر إِذن الإِمَام فأجهضت جَنِينا مَيتا عزره

(6/308)


وغرة الحنين على عَاقِلَته لِأَن موت الْجَنِين بِهَذَا السَّبَب لَا يتَيَقَّن بل يحْتَمل عدم الْحَيَاة عِنْد الْجِنَايَة وَإِن قتل بِإِذن السُّلْطَان وهما عالمان فَفِي الْغرَّة ثَلَاثَة أوجه
الْأَصَح أَنه على عَاقِلَة الْوَلِيّ لِأَنَّهُ مبَاشر
وَالثَّانِي يُحَال على الإِمَام لتَقْصِيره بالتسليط
وَالثَّالِث أَنه عَلَيْهِمَا جَمِيعًا بالتشطير
وَإِن كَانَا جاهلين فخلاف مُرَتّب وَالْحوالَة على الْوَلِيّ أولى إِذا لم يبْق لجَانب الإِمَام وَجه إِلَّا تَقْصِيره فِي الْبَحْث فَإِن كَانَ الإِمَام جَاهِلا وَالْوَلِيّ عَالما فليقطع بالحوالة على الْوَلِيّ لِاجْتِمَاع الْعلم والمباشرة وَفِيه وَجه
وَإِن كَانَ الإِمَام عَالما وَالْوَلِيّ جَاهِلا فجانب الإِمَام قد يقوى بِالْعلمِ فيتأكد النّظر إِلَيْهِ
وَحَيْثُ أحلنا على الإِمَام فَهُوَ على عَاقِلَته أَو فِي بَيت المَال فِيهِ قَولَانِ يجريان فِي كل خطأ وَقع للْإِمَام وَإِن كَانَ عَالما فَلَا يجب على بَيت المَال
هَذَا فِي الْوَلِيّ أما الجلاد فَلَا عُهْدَة عَلَيْهِ عِنْد جَهله اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ كالآلة فَكيف يتقلد الْعهْدَة وَإِن كَانَ عَالما وَقدر على الإمتناع فَهُوَ كالولي وَإِن خَافَ سطوة السُّلْطَان فقد ذكرنَا أَن أَمر السُّلْطَان إِكْرَاه أم لَا
الثَّالِث لَو قطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ فَعَفَا عَن الْقصاص وَطلب شَيْئا من الدِّيَة فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال

(6/309)


أَحدهمَا أَنه تعجل لَهُ ديتان فَإِن تدَاخل بِالسّرَايَةِ استردت وَاحِدَة وَكَأن التَّدَاخُل عَارض مغير للسبب بعد تَمَامه
وَالثَّانِي أَنه تسلم إِلَيْهِ دِيَة وَاحِدَة لِأَن المستيقن وَسبب الْبَاقِي يتم بالإندمال
وَالثَّالِث أَنه لَا يسلم شَيْء إِذْ يتَصَوَّر أَنه يجرحه مائَة وَألف فترجع حِصَّته إِلَى جُزْء من الْألف فَلَا يستيقن مِقْدَار وَقد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي السَّيِّد إِذا جنى على مكَاتبه أَنه يعجل فَقيل بطرد الْخلاف تخريجا وَقيل الْفرق التشوف إِلَى الْعتْق
ثمَّ هَؤُلَاءِ اخْتلفُوا فِي اخْتِصَاص التَّعْجِيل بِالنَّجْمِ الْأَخير فَقيل لَا يخْتَص لِأَن الأول أَيْضا يقرب من الْعتْق

(6/310)


الْفَصْل الثَّالِث فِي كَيْفيَّة الْمُمَاثلَة

وَهِي مرعية عندنَا فِي قصاص النَّفس خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
وَمَعْنَاهُ أَن من قطع وَقتل قطع وَقتل وَمن غرق أَو حرق أَو رجم بِالْحِجَارَةِ فعل بِهِ مثله إِلَّا إِذا قتل باللواط أَو إِيجَار الْخمر فَإِن مثله فَاحِشَة فيعدل إِلَى السَّيْف وَقيل يعدل إِلَى إِيجَار الْخلّ وَإِلَى اسْتِعْمَال خَشَبَة
وَمهما عدل الْمُسْتَحق من غير سيف إِلَى السَّيْف يُمكن لِأَنَّهُ أوحى وأسهل

فروع

الأول لَو أحرقه بالنَّار فألقيناه فِي مثلهَا فَلم يمت فِي تِلْكَ الْمدَّة فَيتْرك فِيهَا أَو يعدل إِلَى السَّيْف فِيهِ وَجْهَان

(6/311)


أَحدهمَا إِلَى السَّيْف لِأَنَّهُ أوحى وأسهل
وَالثَّانِي النَّار كَيْلا نوالي بَين نَوْعي الْعَذَاب عَلَيْهِ ولتأخذ النَّار مَقْتَله كَمَا أَخذ من الْمَجْنِي عَلَيْهِ
وَلَو كَانَ رَقَبَة الْقَاتِل غَلِيظَة لَا تنحز إِلَّا بضربات فَلَا نبالي بِهَذَا التَّفَاوُت للضَّرُورَة
فَإِن قُلْنَا لَا يعدل إِلَى السَّيْف لِاتِّحَاد جنس الْعَذَاب فَيجْرِي هَذَا فِي التجويع فِي مثل تِلْكَ الْمدَّة وَهل يجْرِي فِي توالي الضربات بِالْحِجَارَةِ والسياط فِيهِ تردد لِأَن كل ضَرْبَة كالمنقطعة عَمَّا قبلهَا وَلَا يبعد التَّسْوِيَة فَيُقَال ضربه إِلَى الْمَوْت فنضربه إِلَى الْمَوْت
وَلَو قطع طرفه فقطعنا طرفه فَلم يمت فَلَا يجوز أَن نقطع بَقِيَّة الْأَطْرَاف فَإِن هَذَا اخْتِلَاف مَحل مُعْتَبر وَلَو قَتله بجائفة فَلم يمت بجائفة فَهَل نوالي بالجوائف عَلَيْهِ فِيهِ خلاف فَإِن الجوائف تنحو نَحْو جَوف وَاحِد وَالْأَظْهَر أَنه كَقطع الْأَطْرَاف وَمهما قَطعنَا طرفه فَلم يمت فالخيرة فِي حز رقبته إِلَى الْمُسْتَحق إِن شَاءَ أخر وَإِن شَاءَ عجل
الثَّانِي لَو قطع يَده من الْكُوع فجَاء آخر وَقطع يَده من الْمرْفق فَمَاتَ مِنْهُمَا قَطعنَا الْكُوع من قَاطع الْكُوع وَفِي قطع الْمرْفق من قَاطع الْمرْفق وَجْهَان
وَجه الْمَنْع أَنه قطع ساعدا بِلَا كف فَكيف نقطع الساعد مَعَ الْكَفّ
وَوجه التجويز أَن النَّفس مستوفاة فَلَا نظر إِلَى تفَاوت الأطرف
الثَّالِث إِذا مَاتَ بسراية الْقطع فقطعنا يَد الْجَانِي فَمَاتَ وَقع قصاصا وَلَو مَاتَ الْجَانِي أَولا فَفِي وُقُوعه قصاصا وَجْهَان

(6/312)


أَحدهمَا لَا لِأَن شَرط الْقصاص أَن تكون روح الْمَجْنِي عَلَيْهِ زاهقة قبل موت الْجَانِي
وَالثَّانِي نعم لِأَن الْمَقْصُود الْمُقَابلَة وَقد حصل
الرَّابِع إِذا اسْتحق الْقصاص فِي الْيَمين فَأخْرج الْجَانِي يسَاره فَقَطعه الْمُسْتَحق فللجاني ثَلَاثَة أَحْوَال
الْحَالة الأولى أَن يقْصد بِإِخْرَاج الْيَسَار إباحتها فَيسْقط قصاص الْيَسَار لِأَن الْإِخْرَاج مَعَ نِيَّة الْإِبَاحَة كَافِيَة فِي الإهدار وَلَو قصد قطع يَده فَسكت وَلم يُخرجهَا فَهَل يكون ذَلِك إهدارا فِيهِ وَجْهَان وَوجه كَونه إهدارا أَنه سكُوت فِي مَحل يحرم السُّكُوت فِيهِ بِخِلَاف مَا إِذا سكت على إِتْلَاف المَال فَإِنَّهُ لَا يكون إهدارا
فَأَما قصاص الْيَمين فَهَل يسْقط يرجع فِيهِ إِلَى نِيَّة الْقَاطِع وَله ثَلَاثَة تأويلات فِي قطع الْيَسَار
الأول أَن يَقُول استبحته بإباحته فَيبقى حَقه فِي الْيَمين
الثَّانِي أَن يَقُول ظَنَنْت أَن الْيَسَار تجزىء عَن الْيَمين فَفِي سُقُوط حَقه عَن الْيَمين وَجْهَان لِأَنَّهُ قصد الْإِسْقَاط بِنَاء على ظن خطأ وَهَذَا الْخلاف جَار فِيمَا إِذا تضرع من عَلَيْهِ الْقصاص ليؤخذ مِنْهُ الْفِدَاء فَأَخذه الْمُسْتَحق من غير تلفظه بِالْعَفو فإقدامه على الْأَخْذ هَل

(6/313)


يكون إِسْقَاطًا فِيهِ خلاف
فَإِن قُلْنَا بِسُقُوط حَقه عَن الْيَمين بَقِي لَهُ دِيَة الْيَمين
الثَّالِث أَن يَقُول عرفت أَن الْيَسَار لَا تقطع عَن الْيَمين وَلَكِنِّي قصدت أَن أجعله عوضا من تِلْقَاء نَفسِي فَفِيهِ خلاف مُرَتّب وَسُقُوط حَقه عَن الْيَمين هَا هُنَا أولى
الْحَالة الثَّانِيَة للمخرج أَن يَقُول دهشت فَلم أدر مَاذَا فعلت فَهَذَا لَيْسَ بإهدار لليسار وَلَكنَّا نراجع الْقَاطِع وَله أَرْبَعَة تأويلات
الأول أَن يَقُول دهشت أَنا أَيْضا فَلَا يقبل مِنْهُ وَيلْزمهُ قصاص الْيَسَار لِأَن الدهشة لَا تلِيق بِهِ مَعَ إقدامه على قطع مَنْظُور
الثَّانِي أَن يَقُول ظَنَنْت أَن الْيَسَار تقع عَن الْيَمين فَالْخِلَاف فِي سُقُوط حَقه عَن الْيَمين كَمَا سبق وَالْمَنْقُول أَن لَا قصاص فِي الْيَسَار لظَنّه وَيحْتَمل الْإِيجَاب كَمَا إِذا قتل الممسك لِأَبِيهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَن الْقصاص يجب على الممسك فَإِن الظَّاهِر وجوب الْقصاص لبعد ظَنّه
الثَّالِث أَن يَقُول ظَنَنْت أَن الْمخْرج هُوَ الْيَمين فَلَا يسْقط حَقه عَن الْقصاص وَفِي وجوب الْقصاص عَلَيْهِ فِي الْيَسَار قَولَانِ كَمَا لَو قتل شخصا ظَنّه قَاتل أَبِيه
الرَّابِع أَن يَقُول قصدت قطع يسَاره عُدْوانًا فَعَلَيهِ قصاص الْيَسَار وَبَقِي حَقه فِي الْيَمين

(6/314)


الْحَالة الثَّالِثَة للمخرج أَن يَقُول قصدت بِإِخْرَاج الْيَسَار إِيقَاعه عَن الْيَمين فللقاطع ثَلَاثَة تأويلات
الأول أَن يَقُول ظَنَنْت الْإِبَاحَة فَلَا قصاص لِأَن قرينَة الْإِخْرَاج أكدت الظَّن وَحقه فِي الْيَمين بَاقٍ
الثَّانِي أَن يَقُول ظَنَنْت أَن الْيَسَار تجزىء عَن الْيَمين فَفِي سُقُوط حَقه عَن الْيَمين الْخلاف السَّابِق وَلَا قصاص فِي الْيَسَار لتطابق الْفِعْلَيْنِ والظنين ونزولهما منزلَة مُعَاملَة فَاسِدَة وَقَالَ ابْن الْوَكِيل يجب الْقصاص فِي الْيَسَار وَهُوَ بعيد
الثَّالِث أَن يَقُول ظَنَنْت أَن الْمخْرج يَمِين قطع الْعِرَاقِيُّونَ بِنَفْي الْقصاص لانضمام التسليط إِلَيْهِ وَذكروا فِي الضَّمَان وَجْهَيْن وَالْأَظْهَر الْوُجُوب لانه لم يُسَلط مُطلقًا بل بِبَدَل لم يسلم لَهُ
هَذَا كُله فِي الْقصاص فَإِن جرى فِي السّرقَة وَفرض دهشة أَو ظن وَقع الْحَد موقعه نَص عَلَيْهِ لِأَن الْحَد على المساهلة وَالْمَقْصُود النكال وَقد حصل فيبعد أَن تقطع يَمِينه بعد ذَلِك وَقيل بتخرج وجوب الْقصاص
فرع إِذا قضينا بِبَقَاء الْقصاص فِي الْيَمين فَأَرَادَ أَن يقطعهُ عَقِيبه متواليا بَين الجراحتين فالنص مَنعه بِخِلَاف مَا إِذا قطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ مُتَفَرِّقَة فَأَرَادَ الْقصاص متواليا لِأَن ألم الْوَلَاء متولد من الْحق وَهَا هُنَا متولد من جنايتين إِحْدَاهمَا حق وَالْأُخْرَى عدوان

(6/315)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّانِي فِي حكم الْعَفو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَالنَّظَر فِي طرفين
الأول فِي حكم الْعَفو وَهُوَ مَبْنِيّ على أَن مُوجب الْعمد الْمَحْض الْقود الْمَحْض وَالدية أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه على سَبِيل التوازي أَو هُوَ الْقود الْمَحْض وَإِنَّمَا الدِّيَة تجب عِنْد سُقُوط الْقود فِيهِ قَولَانِ توجيههما مَذْكُور فِي الْخلاف
فَإِذا قُلْنَا الدِّيَة موازية للْقصَاص لَا معاقبة لَهُ فَهَل الْقصاص أصل وَالدية تَابع أَو هما متوازيان من كل وَجه فِيهِ تردد وَيظْهر أَثَره فِي صِيغ الْعَفو وَهِي أَرْبَعَة تَفْرِيعا على أَن الْوَاجِب أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه

(6/316)


الأولى أَن يَقُول عَفَوْت عَن الْقصاص وَالدية جَمِيعًا فيسقطان فَلَو قَالَ عَفَوْت عَن الْقصاص لم يبْق إِلَّا الدِّيَة فَإِن قَالَ عَفَوْت عَن الدِّيَة فَلهُ الْقصاص وَهل لَهُ مرجع إِلَى الدِّيَة فِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا لَا لإسقاطه
وَالثَّانِي نعم لِأَن الْقصاص لَا يعري عَن إِمْكَان رُجُوعه إِلَى الدِّيَة فعلى هَذَا لَا أثر للعفو عَن الدِّيَة
فَإِن قُلْنَا لَا يرجع إِلَى المَال اسْتِقْلَالا فَهَل لَهما الْمُصَالحَة على المَال فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا كَحَد الْقَذْف
وَالثَّانِي نعم لِأَن الدَّم مقوم شرعا كالبضع
وَلَو جرى مَعَ أَجْنَبِي فَوَجْهَانِ مرتبان وَأولى بِالْمَنْعِ وَوجه التجويز تشبيهه باختلاع الْأَجْنَبِيّ زَوْجَة الْغَيْر وَهَذَا الْخلاف جَار حَيْثُ يتعرى الْقصاص عَن الدِّيَة وَيُمكن ذَلِك بِأَن يقطع يَدَيْهِ فيسري إِلَى الرّوح فَإِذا قطع يَدَيْهِ قصاصا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا حز الرَّقَبَة فَلَو عَفا فَلَا مَال لِأَنَّهُ استوفى يدين يوازيان الدِّيَة
الثَّانِيَة إِذا قَالَ عَفَوْت على أَن لَا مَال فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَنه يسْقط كِلَاهُمَا كَمَا لَو عَفا عَنْهُمَا
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ شَرط نفي المَال فِي الْعَفو عَن الْقود وَالْعَفو الْمُطلق على هَذَا القَوْل

(6/317)


مُوجب لِلْمَالِ فَلَا يَنْتَفِي بِشَرْط النَّفْي
الثَّالِثَة أَن يَقُول عَفَوْت عَنْك وَلم يتَعَرَّض لدية وَلَا قَود فَإِن قُلْنَا الْوَاجِب الْقود الْمَحْض سقط الْقصاص وَيكون كالعفو الْمُطلق وَإِن قُلْنَا الْوَاجِب أَحدهمَا فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يسْقط الْقود لِأَن لفظ الْعَفو يَلِيق بِهِ
وَالثَّانِي أَنه مُجمل وَيُرَاجع فَإِن نوى شَيْئا اتبع وَإِن قَالَ لم يكن لي نِيَّة قيل لَهُ أنشيء الْآن نِيَّة وَفِيه وَجه ثَالِث أَنه إِن لم يكن لَهُ نِيَّة انْصَرف إِلَى الْقصاص وَإِن نوى الدِّيَة انْصَرف إِلَيْهَا
الرَّابِعَة إِذا قَالَ اخْتَرْت الدِّيَة سقط الْقود وَإِن قَالَ اخْتَرْت الْقود الْمَحْض فَهَل يَجْعَل كإسقاط الدِّيَة فِيهِ وَجْهَان وَجه قَوْلنَا لَا يسْقط أَنه يحمل على التهديد والوعيد فَلهُ أَن يحسن بِالْعَفو

التَّفْرِيع
على قَوْلنَا إِن الْوَاجِب الْقود الْمَحْض أَنه لَو عَفا على مَال ثَبت وَيكون بَدَلا عِنْد عدم الْقود وَكَذَلِكَ لَو تعذر الْقود بِمَوْت من عَلَيْهِ الْقصاص رَجعْنَا إِلَى الدِّيَة وَإِن عَفا مُطلقًا فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا أَن لَا مَال لانه لَا وَاجِب إِلَّا الْقود وَقد أسْقطه
وَالثَّانِي أَنه يثبت لِأَن الدِّيَة خلف الْقود عِنْد سُقُوطه

فرعان

الأول الْمُفلس الْمُسْتَحق للقود لَهُ الإستيفاء فَإِن عَفا عَن الْقود مَعَ نفي المَال فَهَل ينزل منزلَة الْمُطلق فِيهِ وَجْهَان منشؤهما أَنه دفع لسَبَب الْوُجُوب كَمَا إِذا رد هبة أَو وَصِيَّة أَو دفع الْوُجُوب بعد جَرَيَان سَببه
وَفِي المبذر طَرِيقَانِ مِنْهُم من ألحقهُ بالمفلس وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ فِي اسْتِيفَاء الْقصاص وإسقاطه كَالْبَالِغِ وَلَكِن فِي دفع الدِّيَة كَالصَّبِيِّ

(6/318)


الْفَرْع الثَّانِي لَو صَالح عَن الْقصاص على مِائَتَيْنِ من الْإِبِل بَطل على قَوْلنَا إِن الْوَاجِب أَحدهمَا لِأَنَّهُ زِيَادَة على الْوَاجِب وعَلى القَوْل الآخر فِيهِ وَجْهَان وَجه الْمَنْع أَن الدِّيَة لَهَا تعلق بالقود بِكُل حَال فَلَا مزِيد عَلَيْهَا

(6/319)


الطّرف الثَّانِي فِي الْعَفو الصَّحِيح وَالْفَاسِد

وأحوال الْعَفو سَبْعَة
الأولى أَنه إِذا اذن لَهُ فِي الْقطع سقط الْقصاص وَإِن سرى إِلَى النَّفس سقط أرش الطّرف وَفِي دِيَة النَّفس إِذا سرى أَو قَالَ اقتلني قَولَانِ ينبنيان على أَن الدِّيَة تثبت للْوَارِث ابْتِدَاء أَو تلقيا من الْمَيِّت وَالأَصَح أَنه تلق فَسقط بعفوه كل الدِّيَة وَإِن لم يكن لَهُ مَال سواهُ فَإِنَّهُ دفع الْوُجُوب فَلَا يحْسب من الثُّلُث وَفِي سُقُوط الْكَفَّارَة وَجْهَان أصَحهمَا اللُّزُوم للجناية على حق الله تَعَالَى وَخرج ابْن سُرَيج أَن حق الله تَعَالَى يتبع حق الْآدَمِيّ كَمَا فِي الْقَتْل قصاصا
الثَّانِيَة الْعَفو بعد الْقطع وَقبل السّريَّة بِأَن يَقُول عَفَوْت عَن الْقطع أرشا وقودا فَإِذا سرى إِلَى مَا وَرَاءه مَعَ بَقَاء النَّفس فالسراية مَضْمُونَة لِأَنَّهُ لم يعف عَن الْمُسْتَقْبل وَقد تولد عَن فعل كَانَ مَضْمُونا وَفِيه وَجه أَن الْعَفو الطارىء كالإذن الْمُقَارن
وَلَو قَالَ عَفَوْت عَمَّا سيجب فَهُوَ إِبْرَاء عَمَّا لم يجب وَجرى سَبَب وُجُوبه وَفِيه قَولَانِ
الثَّالِثَة الْعَفو بَين الْقطع وَالْمَوْت بِأَن قَالَ عَفَوْت عَمَّا سبق أرشا وقودا فَلَا قصاص فِي النَّفس لتولده عَن مَعْفُو عَنهُ وَعَن ابْن سُرَيج وَجه أَنه يجب لِأَن الْفِعْل كَانَ عُدْوانًا وَلم يعف عَن النَّفس
وَأما الدِّيَة فَتخرج على الْوَصِيَّة للْقَاتِل فَإِن منعناها لم تسْقط وَإِن جوزناها سقط مَا يُقَابل الْقطع السَّابِق وَيبقى الآخر إِلَّا إِذْ صرح بِالْعَفو عَمَّا سيجب فَيخرج على الْقَوْلَيْنِ إِلَّا إِذا كَانَ قد قطع كلتا الْيَدَيْنِ فَإِن الْعَفو عَنهُ عَفْو عَن كَمَال الدِّيَة فَلَا يبْقى وَاجِب

(6/320)


وَلَو أوصى للجاني بِالْأَرْشِ بدل الْعَفو لم يخرج هَذَا على الْإِبْرَاء عَمَّا سيجب لِأَن هَذِه وَصِيَّة يُمكن الرُّجُوع عَنْهَا وَلَيْسَ بإبراء منجز وَالْوَصِيَّة بِمَا سيجب تجوز ونصوص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ هَا هُنَا تدل على منع الْوَصِيَّة للْقَاتِل فَإِنَّهُ قَالَ لَو كَانَ الْقَاتِل عبدا صَحَّ الْعَفو لِأَن أَثَره يرجع إِلَى السَّيِّد الَّذِي لَيْسَ بِقَاتِل وَقَالَ لَو كَانَ الْجَانِي مخطئا صَحَّ الْعَفو لِأَن الْفَائِدَة لِلْعَاقِلَةِ لَا للْقَاتِل وَلَو كَانَ الْعَاقِلَة مُنْكرا أَو مُخَالفا فِي الدّين فَإِن الْعَفو بَاطِل لِأَنَّهُ عَفْو عَن الْقَاتِل فَهُوَ وَصِيَّة لَهُ وَقَالَ الْأَصْحَاب إِذا قَالَ للخاطىء عَفَوْت عَنْك وَقُلْنَا الْوُجُوب لَا يلاقيه فَهُوَ لَغْو وَإِن قُلْنَا يلاقيه لَغَا أَيْضا على أحد الْوَجْهَيْنِ لِأَن ملاقاته لَهُ تَقْدِير مختطف لَا قَرَار لَهُ
الرَّابِعَة إِذا عَفا بعد قطع الطّرف على مَال فقد ذَكرْنَاهُ فِي الْقصاص إِن سرى فَلَو حز رقبته هَل يكون كسراية قطعه فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم فَإِن الْجَانِي وَاحِد فيتحد الحكم كَمَا تتحد الدِّيَة
وَالثَّانِي لَا لِأَن سُقُوط الْقصاص كالمتولد عَن مَعْفُو عَنهُ
الْخَامِسَة عَفْو الْوَارِث بعد موت الْقَتِيل صَحِيح فَإِن اسْتحق الْقصاص فِي الطّرف وَالنَّفس فَعَفَا عَن أَحدهمَا لم يسْقط الآخر وَقيل إِن عَفا عَن النَّفس فقد الْتزم بَقَاء الْأَطْرَاف فَيسْقط قصاص الطّرف وَالنَّفس وَإِن كَانَت النَّفس مُسْتَحقَّة بِقطع الطّرف فَعَفَا عَن الطّرف فَفِي جَوَاز حز الرَّقَبَة وَجْهَان
أَحدهمَا لَا لِأَنَّهُ عَفا عَن الطّرف

(6/321)


وَالثَّانِي نعم إِذْ كَانَ لَهُ أَن يقطع الطّرف ثمَّ يحز الرَّقَبَة وَلَا يبعد أَن ينْفَصل الطّرف عَن الْغَايَة إِذْ لَو قطع طرف عبد فَعتق وَمَات فللسيد قطع يَده وللولد حز رقبته وعفو أَحدهمَا لَا يسْقط حق الآخر
السَّادِسَة الْعَفو بعد مُبَاشرَة سَبَب الإستيفاء كَمَا إِذا قطع يَد من عَلَيْهِ الْقصاص ثمَّ عَفا عَن النَّفس فَإِن اندمل الْقطع صَحَّ الْعَفو وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله وَإِذا سرى بَان أَن الْعَفو بَاطِل وَكَذَلِكَ إِذا رمى إِلَيْهِ ثمَّ عَفا قبل الْإِصَابَة فَإِن أصَاب بَان بطلَان الْعَفو وَهُوَ الْأَصَح
السَّابِعَة إِذا تنحى الْوَكِيل إِلَى عَرصَة الْموقف ليستقيد فَعَفَا الْمُوكل فحز الْوَكِيل رقبته غافلا فَلَا قصاص عَلَيْهِ وَفِي الدِّيَة وَالْكَفَّارَة ثَلَاثَة أَقْوَال فِي الثَّالِث تجب الْكَفَّارَة دون الدِّيَة وَوجه إِسْقَاط الدِّيَة أَنه مَعْذُور كَمَا فِي السهْم الغرب وَوجه إِيجَابه أَنه فِيهِ نوع تَقْصِير إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَن يجدد الإستئذان عِنْد الحز وَوجه دفع الْكَفَّارَة إِسْقَاط أثر الْعَفو فِي حَقه لانه لم يبلغهُ وَمَعَ هَذَا فَلَا خلاف فِي أَن الْقَتْل لم يَقع قصاصا فَيثبت للعافي الدِّيَة فِي تَرِكَة الْقَتِيل وَفِيه وَجه أَنا إِن أهدرنا دِيَة الْقَتِيل فَلَا نوجب للعافي شَيْئا فِي تركته
وَإِن فرعنا على أَن دم الْقَتِيل لَا يهدر فَالدِّيَة على الْوَكِيل أَو على عَاقِلَته فِيهِ قَولَانِ يجريان فِي كل خطأ لَا يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ وَنَفس الْقَتِيل
فَإِذا أوجبناه فَفِي الرُّجُوع على الْعَافِي طَرِيقَانِ مِنْهُم من نزله منزلَة الْمَعْذُور وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ محسن بِالْعَفو فَلَا شَيْء عَلَيْهِ

فرع
لَو اشْترى الْمَجْنِي عَلَيْهِ العَبْد الْجَانِي بِالْأَرْشِ الْمُتَعَلّق بِرَقَبَتِهِ صَحَّ كَشِرَاء الْمُرْتَهن

(6/322)


بِالدّينِ فَإِن هَذَا الدّين وَإِن لم يكن على السَّيِّد فَهُوَ مُتَعَلق بِمَالِه
وَإِن كَانَ الْأَرْش إبِلا فَفِي الشِّرَاء وَجْهَان لما فِيهِ من الْجَهَالَة وَوجه الصِّحَّة أَن الْمَقْصُود الْإِسْقَاط دون الإستيفاء فيسامح فِي الْجَهَالَة
فَلَو وجد بِالْعَبدِ عَيْبا فَلهُ الرَّد وَإِن كَانَ لَا يَسْتَفِيد برده أمرا زَائِدا إِذْ لَا يَتَجَدَّد لَهُ على السَّيِّد طلبه وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم

(6/323)