الوسيط في المذهب

= كتاب حد الزِّنَا=

(6/433)


الْجِنَايَة الثَّالِثَة هِيَ الزِّنَا

وَهِي جريمة مُوجبَة للعقوبة إِمَّا الرَّجْم وَإِمَّا الْجلد
وَالنَّظَر فِي طرفين
الأول فِي الْمُوجب والموجب والضبط فِيهِ أَن إيلاج الْفرج فِي الْفرج الْمحرم قطعا المشتهي طبعا إِذا انْتَفَت الشُّبْهَة عَنهُ سَبَب لوُجُوب الرَّجْم على الْمُحصن ولوجوب الْجلد والتغريب على غير الْمُحصن وَفِي الرابطة قيود لَا بُد من كشفها
أما الْإِحْصَان فَهُوَ عبارَة عَن ثَلَاثَة خِصَال التَّكْلِيف وَالْحريَّة والإصابة فِي نِكَاح صَحِيح فَإِذا انْتَفَى التَّكْلِيف سقط أصل الْحَد فَلَا حد على الْمَجْنُون وَالصَّبِيّ وَإِذا انْتَفَت الْإِصَابَة فقد سقط الرَّجْم وَوَجَب جلد مائَة وتغريب عَام وَلَا تقوم الْإِصَابَة فِي ملك الْيَمين مقَامه وَأما فِي النِّكَاح الْفَاسِد وَوَطْء الشُّبْهَة فَقَوْلَانِ أصَحهمَا أَنه لَا يحصن كَمَا فِي التَّحْلِيل وَالأَصَح أَنه لَا يشْتَرط وُقُوع الْإِصَابَة بعد الْحُرِّيَّة والتكليف وَفِيه وَجه أَنه لَا أثر للإصابة فِي الصِّبَا وَالْجُنُون وَالرّق إِذْ لَيْسَ يحصل التحصن بالمباح بِهِ

(6/435)


وَلَا خلاف أَنه لَا يعْتَبر وجود هَذِه الْخِصَال فِي الواطئين فالرقيق إِذا زنا بحرة رجمت وَكَذَا بِالْعَكْسِ فَإِذا وطىء الْبَالِغَة صَغِير فَفِيهِ وَجْهَان وَكَذَا بِالْعَكْسِ

(6/436)


وَإِنَّمَا ينقدح هَذَا فِي الَّذِي لَا يتشهي أما الْمُرَاهق فَلَا ينقدح فِيهِ خلاف إِذْ الْعَاقِلَة إِذا مكنت مَجْنُونا رجمت والمراهق المشتهي كَالْمَجْنُونِ وَالثَّيِّب إِذا زنى ببكر رجم وجلدت وَكَذَا بِالْعَكْسِ
أما الْحُرِّيَّة إِذا انعدمت اقْتضى تشطير الْحَد فيجلد الرَّقِيق خمسين جلدَة وَفِي تغريبه قَولَانِ
أَحدهَا أَنه لَا يغرب نظرا للسَّيِّد
وَالثَّانِي أَنه يغرب وَفِي قدره وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يغرب نصف سنة تشطيرا
وَالثَّانِي أَنه يكمل لِأَن مَا يتَعَلَّق بالطباع لَا يُؤثر فِيهِ الرّقّ كمدة الْعنَّة
ثمَّ فِي أصل التَّغْرِيب مسَائِل
الأولى أَن الْمَرْأَة لَا نغربها إِلَّا مَعَ مرحم فَإِن كَانَت الطّرق آمِنَة فَفِي تغريبها من غير محرم وَجْهَان وَوَجهه أَن هَذَا سفر وَاجِب كالهجرة
فَإِن أَوجَبْنَا الْمحرم وَلم يُوَافق إِلَّا بِالْأُجْرَةِ فأجرته عَلَيْهَا على وَجه وعَلى بَيت المَال على وَجه كَأُجْرَة الجلاد

(6/437)


وَهل للسُّلْطَان إِجْبَار الْمحرم بِالْأُجْرَةِ فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا لِأَنَّهُ تغريب من لَا ذَنْب لَهُ
وَالثَّانِي نعم وَإِنَّمَا هُوَ استعانة فِي إِقَامَة حد فَتجب الْإِجَابَة
الثَّانِيَة مَسَافَة الغربة يقدرها السُّلْطَان وَلَكِن لَا تنقص عَن مرحلَتَيْنِ لِأَن الوحشة تلتقي بتواصل الْخَبَر
ثمَّ إِذا غربناه إِلَى بَلْدَة لم نمنعه من الإنتقال إِلَى أُخْرَى وَقيل يمْنَع وَهُوَ زِيَادَة حبس ضم إِلَى تغريب بِغَيْر دَلِيل
نعم لَو عين الإِمَام جِهَة الْمشرق وَالْتمس جِهَة الْمغرب فَفِيهِ خلاف وَالظَّاهِر اتِّبَاع رَأْي الزَّانِي لِأَن الْغَرَض الإزعاج نعم الْغَرِيب إِذا زنى أزعجناه لينقطع عَن مَحل الْفَاحِشَة فَلَو كَانَ إِلَى وَطنه مرحلتان فَلَا نغربه إِلَى وَطنه وَإِن غربناه إِلَى بَلْدَة فانتقل إِلَى وَطنه فَفِي مَنعه نظر وَالظَّاهِر أَنه لَا يمْنَع
الثَّالِثَة لَو عَاد الْمغرب إِلَى مَكَانَهُ غربناه ثَانِيًا وَلم تحسب الْمدَّة الْمَاضِيَة على الْأَظْهر لِأَن لتوالي الغربة تَأْثِيرا لَا يُنكر كتوالي الجلدات
هَذَا بَيَان الْإِحْصَان أما الْإِسْلَام فَلَيْسَ من الْإِحْصَان عندنَا بل يرْجم الذِّمِّيّ إِذا

(6/438)


رَضِي بحكمنا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله وَقد رجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهوديين بإقرارهما كَانَا قد أحصنا وَذَلِكَ إِذا رَضوا بحكمنا وَلَو رَضوا فِي شرب الْخمر لم

(6/439)


نحدهم لأَنهم لَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه وَقد التزمنا متاركتهم وَالْأَظْهَر أَن الْحَنَفِيّ يحد على شرب النَّبِيذ لِأَنَّهُ فِي قَبْضَة الإِمَام وَالْحَاجة مآسة إِلَى زَجره
فَأَما قَوْلنَا إيلاج فرج فِي فرج فَيتَنَاوَل اللواط وَفِيه أَرْبَعَة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه يقتل الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ بِالسَّيْفِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
من رَأَيْتُمُوهُ يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ
وَالثَّانِي أَنه يرْجم بِكُل حَال تَغْلِيظًا

(6/440)


وَالثَّالِث وَهُوَ مخرج أَن الْوَاجِب التَّعْزِير
وَالرَّابِع أَنه كَالزِّنَا فَيُوجب الرَّجْم على الْمُحصن وَالْجَلد على غَيره
ثمَّ الْإِصَابَة فِي نِكَاح صَحِيح هَل ينقدح اعْتِبَارهَا فِي الْمَفْعُول بِهِ فِيهِ نظر وَتردد وَفِيمَا إِذا أَتَى امْرَأَة أَجْنَبِيَّة قيل هُوَ كاللواط وَقيل هُوَ كَالزِّنَا قطعا والغلام الْمَمْلُوك كَغَيْر الْمَمْلُوك وَقيل إِنَّه كَوَطْء الْأُخْت الْمَمْلُوكَة
وَلَو أَتَى زَوجته أَو جَارِيَته فِي دبرهَا فَالْمَذْهَب سُقُوط الْحَد لِأَنَّهَا مَحل الإستمتاع بِخِلَاف الْغُلَام وَفِيه وَجه بعيد
فَأَما قَوْلنَا مشتهى طبعا احْتِرَازًا بِهِ عَن الْإِيلَاج فِي الْمَيِّت فَلَا حد فِيهِ بل التَّعْزِير
وَفِي الْبَهِيمَة قَولَانِ الْمَنْصُوص أَنه التَّعْزِير لَا غير لِأَنَّهُ غير مشتهى فِي حَالَة الإختيار وَفِيه قَول مخرج أَنه كاللواط
وعَلى هَذَا فِي قتل الْبَهِيمَة وَجْهَان وَوجه الْقَتْل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ فَقيل للراوي مَا ذَنْب الْبَهِيمَة فَقَالَ إِنَّمَا تقتل حَتَّى لَا تذكر

(6/441)


وَفِيه وَجه أَنَّهَا إِن كَانَت مأكولة ذبحت وَإِلَّا فَلَا لِأَن حُرْمَة الرّوح مرعية وَلَا تَكْلِيف فَإِن قُلْنَا تقتل وَكَانَت مُحرمَة اللَّحْم فَفِي وجوب قيمتهَا وَجْهَان
أَحدهمَا لَا تجب لِأَنَّهُ مُسْتَحقَّة الْقَتْل شرعا
وَالثَّانِي نعم لِأَنَّهُ السَّبَب
ثمَّ تجب على الْفَاعِل أَو على بَيت المَال فِيهِ وَجْهَان وَإِن كَانَت مأكولة اللَّحْم فَفِي حل أكلهَا وَجْهَان إِذا ذبحت وَالأَصَح الْحل
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ حَيَوَان وَجب قَتله
فَإِن أَوجَبْنَا الْحَد فَلَا بُد من أَرْبَعَة عدُول وَإِن أَوجَبْنَا التَّعْزِير فَفِيهِ وَجْهَان وَالنَّص يدل على اشْتِرَاط الْعدَد

(6/442)


وَقَوْلنَا محرم احترزنا بِهِ عَن وَطْء الْمَنْكُوحَة الصائمة والمحرمة وَالْحَائِض والرجعية فَلَا حد فِيهِ إِذْ لَيْسَ التَّحْرِيم لعَينه
وَقَوْلنَا قطعا احترزنا بِهِ عَن الْوَطْء بِالشُّبْهَةِ وَفِي النِّكَاح الْفَاسِد وَفِي الْمُتْعَة فَإِن فِيهِ كلَاما
وَقَوْلنَا لَا شُبْهَة فِيهِ مَأْخُوذ من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ادرءوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ
والشبهة ثَلَاثَة وَهِي إِمَّا فِي الْمحل أَو الْفَاعِل أَو طَرِيق الْإِبَاحَة

(6/443)


أما الشُّبْهَة فِي الْمحل فكالملك فَلَا حد على من يطَأ مملوكته وَإِن كَانَت مُحرمَة عَلَيْهِ برضاع أَو نسب أَو شركَة فِي ملك أَو تَزْوِيج أَو عدَّة من الْغَيْر لِأَن الْمُبِيح قَائِم كَمَا فِي وَطْء الصَّائِم وَالْحَائِض
وَإِذا وطىء جَارِيَة ابْنه وأحبلها فَلَا حد إِذْ انْتقل الْملك إِلَيْهِ وَإِن لم تحبل
فَالظَّاهِر أَن لَا حد لِأَن لَهُ فِي مَاله شُبْهَة اسْتِحْقَاق الإعفاف وَللشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ قَول قديم أَن الْحَد يجب حَيْثُ يحرم الْوَطْء بِالنّسَبِ وَالرّضَاع وَيجْرِي فِي كل تَحْرِيم مؤبد وَلَا يجْرِي فِي الْحيض وَالصَّوْم وَهل يجْرِي فِي الْمَمْلُوكَة الْمُعْتَدَّة والمزوجة فِيهِ تردد
وَأما الشُّبْهَة فِي الْفَاعِل فَهُوَ أَن يظنّ التَّحْلِيل كَمَا لَو زفت إِلَيْهِ غيرت زَوجته فظنها زَوجته أَو صَادف امْرَأَة على فرَاشه ظَنّهَا زَوجته الْقَدِيمَة أَو عقد عقدا ظَنّه صَحِيحا وَلَيْسَ بِصَحِيح فَلَا حد إِذْ لَا إِثْم مَعَ الظَّن
وَأما الشُّبْهَة فِي الطّرق فَهُوَ كل مَا اخْتلف الْعلمَاء فِي إِبَاحَته فَلَا حد على الواطىء فِي نِكَاح الْمُتْعَة لمَذْهَب ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وَفِي نِكَاح بِلَا ولي لمَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله وَبلا شُهُود لمَذْهَب مَالك رَحمَه الله وَفِي الْقَدِيم قَول أَنه يجب فِي نِكَاح الْمُتْعَة لِأَنَّهُ ثَبت نسخه قطعا وَذهب الصَّيْرَفِي إِلَى إِيجَابه فِي نِكَاح بِلَا ولي حَتَّى على الْحَنَفِيّ لظُهُور الْأَخْبَار فِيهِ وَجعله كالحنفي إِذا شرب النَّبِيذ وَهُوَ بعيد

(6/444)


وَمَا جَاوز هَذِه الشُّبُهَات فَلَا عِبْرَة بهَا عندنَا فَيجب الْحَد على من نكح أمه أَو مَحَارمه أَو زنى بهَا
وَكَذَا إِذا استؤجرت للزِّنَا أَو أَبَاحَتْ الْمَرْأَة نَفسهَا أَو جاريتها أَو زنا نَاطِق بخرساء أَو أخرس بناطقة أَو عَاقِلَة مكنت مَجْنُونا أَو اعْترف أحد الواطئين

(6/445)


دون الثَّانِي أَو زنا بِامْرَأَة يسْتَحق عَلَيْهَا الْقصاص أَو زنا فِي دَار الْحَرْب وَخَالف أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي جَمِيع ذَلِك
نعم اخْتلف أَصْحَابنَا فِي إِقَامَة الْحَد فِي دَار الْحَرْب لما فِيهِ من إثارة الْفِتْنَة وَاخْتلفُوا فِي الْمُكْره على الزِّنَا وَالظَّاهِر أَنه لَا يجب أما الْمَرْأَة إِذا أكرهت على التَّمْكِين من الزِّنَا فَلَا خلاف أَنه لَا حد عَلَيْهَا
هَذَا بَيَان مُوجب الْحَد وَيَنْبَغِي أَن يظْهر للْقَاضِي بِجَمِيعِ قيوده وحدوده حَتَّى يجوز لَهُ إِقَامَة الْحُدُود وَذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَار وَيَكْفِي الْإِقْرَار مرّة وَاحِدَة وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا بُد من التّكْرَار حَتَّى قَالَ لَو ثَبت الْحَد بِالشَّهَادَةِ فَصدق الشُّهُود فَلَا حد وَإِن كذب أقيم

(6/446)


الْحَد وَلَا خلاف عندنَا أَنه إِذا رَجَعَ وَكذب نَفسه لم نقم الْحَد لِأَن حق الله تَعَالَى على المساهلة وَالْقصاص لَا يسْقط بِالرُّجُوعِ وَفِي حد السّرقَة خلاف وَالْأَظْهَر أَنه يسْقط
وَهل ينزل منزلَة الرُّجُوع التماسه ترك الْحَد أَو هربه أَو امْتِنَاعه من التَّمْكِين فِيهِ وَجْهَان أقيسهما أَنه لَا يُؤثر وَوجه الْإِعْرَاض عَنهُ أَن شَارِب خمر هم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحده فهرب ولاذ بدار الْعَبَّاس فَلم يتَعَرَّض لَهُ
ثمَّ هَذَا إِنَّمَا ينفع فِيمَا يثبت بِالْإِقْرَارِ فَإِن ثَبت بِالشَّهَادَةِ لم يَنْفَعهُ شَيْء إِلَّا التَّوْبَة وَفِيه قَولَانِ
أصَحهمَا أَنه لَا يسْقط إِذْ يصير ذَلِك ذَرِيعَة

(6/447)


وَالثَّانِي أَنه يسْقط كَمَا يسْقط عَن قطاع الطَّرِيق إِذا تَابُوا قبل الظفر بهم كَمَا ورد بِهِ الْقُرْآن وَفِي تَوْبَته بعد الظفر بِهِ أَيْضا قَولَانِ والهرب لَا يبعد أَن يُؤثر على رَأْي وَإِن ثَبت بِالشَّهَادَةِ
وَفِي المسقطات فِي الشَّهَادَة عَلَيْهِ مسَائِل
إِحْدَاهَا لَو شهد أَرْبَعَة على زنا امْرَأَة لَكِن شهد اثْنَان على أَنَّهَا مطاوعة وَاثْنَانِ أَنَّهَا مُكْرَهَة فَلَا حد عَلَيْهَا وَفِي وجوب حد الْقَذْف على شَاهِدي المطاوعة قَولَانِ إِذْ لم يكمل عدد شَهَادَتهم أما الرجل الْمَذْكُور بِالزِّنَا فقد كمل الْعدَد فِي حَقه فَإِن حددنا الشَّاهِدين حد الْقَذْف فقد صَارا فاسقين فَلَا يجب الْحَد على الرجل بِشَهَادَتِهِمَا وَإِن قُلْنَا لَا حد عَلَيْهِمَا فَالْأَظْهر وجوب حد الزِّنَا عَلَيْهِ وَفِيه وَجه من حَيْثُ إِن اخْتِلَاف الشَّهَادَة فِي الصّفة أورث إشْكَالًا فِي الأَصْل
الثَّانِيَة لَو شهد أَرْبَعَة على زنَاهَا فشهدن أَرْبَعَة على أَنَّهَا عذراء فَلَا حد عَلَيْهَا وَلَا يجب حد الْقَذْف على الشُّهُود لاحْتِمَال عود الْعذرَة فَيسْقط كل حد بِاحْتِمَال
الثَّالِثَة لَو شهد أَرْبَعَة على الزِّنَا وَعين كل وَاحِد زَاوِيَة أُخْرَى من الْبَيْت فَلَا حد عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله

(6/448)


الطّرف الثَّانِي فِي الِاسْتِيفَاء

وَالنَّظَر فِي كيفيته ومتعاطيه
أما الْكَيْفِيَّة فيرعى مِنْهَا أَرْبَعَة أُمُور
أَحدهَا حُضُور الْوَالِي وَالشُّهُود وبداية الشُّهُود بِالرَّمْي وَذَلِكَ مُسْتَحبّ عندنَا وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يجب حُضُور الْوَالِي إِن ثبتَتْ بِالْإِقْرَارِ وَحُضُور الشُّهُود إِن ثبتَتْ بِالشَّهَادَةِ وَيجب بدايتهم بِالرَّمْي

(6/449)


الثَّانِي حِجَارَة الرَّجْم لَا بُد مِنْهَا فَلَو عدل إِلَى السَّيْف وَقع الْموقع وَلَكِن فِيهِ ترك التنكيل الْمَقْصُود ثمَّ لَا يَنْبَغِي أَن يثخن بصخرة كَبِيرَة دفْعَة وَلَا أَن يطول عَلَيْهِ بحصيات خَفِيفَة
الثَّالِث إِن كَانَ الزَّانِي مَرِيضا وَهُوَ مرجوم فيرجم لِأَنَّهُ مستهلك وَإِن كَانَ يجلد فيؤخر إِلَى الْبُرْء إِن كَانَ منتظرا وَلَا يحبس إِن ثبتَتْ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ مهما أَرَادَ قدر على الرُّجُوع وَإِن ثبتَتْ بِالْبَيِّنَةِ حبس كَمَا تحبس الْحَامِل
وَإِن كام مجروحا وَلَا ينظر زَوَال مَا بِهِ وَلَا يحْتَمل مائَة جلدَة فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثله
خُذُوا عثْكَالًا عَلَيْهِ مائَة شِمْرَاخ فاجلدوه بِهِ وَالْأَظْهَر أَنه يضْرب بِهِ ضربا فِيهِ إيلام وَلَا يَكْتَفِي بِمَا يكْتَفى بِهِ فِي الْيَمين وَلَا يشْتَرط أَن تمسه جَمِيع الشماريخ بل يَكْفِي أَن تتثاقل عَلَيْهِ وتنكبس فَلَو كَانَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ ضَرَبْنَاهُ مرَّتَيْنِ فَلَو كَانَ يحْتَمل كل يَوْم سَوْطًا فَلَا نفرق بل يجلد فِي الْحَال وَلَو كَانَ يحْتَمل سياطا خفافا

(6/450)


فَظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب أَنه يعدل إِلَى العثكال لإِطْلَاق الْخَبَر وَيحْتَمل أَن يُقَال ذَلِك أقرب إِلَى الْحَد فَإِذا ضَرَبْنَاهُ بالعثكال فَزَالَ مَرضه على الندور لم نعد الْحَد بِخِلَاف حج المعضوب
الرَّابِع الزَّمَان فَلَا يُقَام الْجلد فِي فرط الْحر وَالْبرد بل يُؤَخر إِلَى اعْتِدَال الْهَوَاء وَالرَّجم إِن ثَبت بِالْبَيِّنَةِ يُقَام بِكُل حَال وَإِن ثَبت بِالْإِقْرَارِ يُؤَخر إِلَى اعْتِدَال الْهَوَاء لِأَنَّهُ رُبمَا يرجع إِذا مسته الْحِجَارَة فيسري الْقَلِيل مِنْهُ فِي الْحر
وَإِذا بَادر الإِمَام فِي الْحر المفرط فجلد وَمَات فالنص أَنه لَا يضمن وَنَصّ أَنه لَو ختن الإِمَام مُمْتَنعا عَن الْخِتَان فِي الْحر فسرى ضمن فَقيل قَولَانِ بِالنَّقْلِ والتخريج
أَحدهمَا أَنه يضمن لإفراطه فِي البدار فِي غير وقته
وَالثَّانِي لَا يجب لِأَن الْحَد مُسْتَحقّ وَلم يزدْ على الْمُسْتَحق
وَقيل بِالْفرقِ لِأَن الْخِيَار لَيْسَ إِلَى الْوُلَاة فِي الأَصْل فَجَاز بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة بِخِلَاف الْحَد فَإِن قُلْنَا يضمن أَوجَبْنَا التَّأْخِير وَإِن قُلْنَا لَا جعلنَا التَّأْخِير مُسْتَحبا لَا وَاجِبا وَيجوز أَن يُقَال يُبَاح التَّعْجِيل وَلَكِن بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة

(6/451)


ثمَّ يحْتَمل أَن يُقَال شَرطه أَن تغلب السَّلامَة مِنْهُ إِذْ لَيْسَ المُرَاد من الْحَد الْقَتْل حَتَّى لَو تعدى بِهِ مُتَعَدٍّ فَلَا قصاص وَيحْتَمل أَن يُقَال لَا يعْتَبر ذَلِك إِلَّا فِي التَّعْزِير أما الْحَد فَلَا يبعد أَن يكون قَاتلا فَلَا يجب الْقصاص بِهِ وَمن مَاتَ بِهِ فَالْحق قَتله وَيدل عَلَيْهِ نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ على جَوَاز الْمُبَادرَة فِي الْحر
فَأَما المستوفي للحد فَهُوَ الإِمَام فِي حق الْأَحْرَار وَالسَّيِّد فِي حق المماليك عندنَا لَا فِي الْمكَاتب وَمن نصفه حر وَنصفه رَقِيق فَأَما الْمُدبر وَأم الْوَلَد فقن وَللْإِمَام الِاسْتِيفَاء أَيْضا
ثمَّ إِذا اجْتمع السَّيِّد وَالسُّلْطَان فَأَيّهمَا أولى فِيهِ احْتِمَال وَهل للسَّيِّد تَعْزِير عَبده الظَّاهِر أَن لَهُ ذَلِك وَقيل لَا إِذْ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِذا زنت أمة أحدكُم فليحدها فَلم يرد الْخَبَر إِلَّا فِي الْحَد
ثمَّ اخْتلفُوا فِي أَن مأخذه الْولَايَة أَو استصلاح الْملك فَإِن قُلْنَا مأخذه الْولَايَة لم يكن ذَلِك للْمَرْأَة وَالْفَاسِق وللمكاتب فِي عبيدهم وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي الْقطع وَالْقَتْل فَمن جعله ولَايَة سلط السَّيِّد عَلَيْهِ وَمن جعله استصلاحا فَهُوَ اسْتِهْلَاك فَلَا يقدر عَلَيْهِ وَمِنْهُم من قَالَ فِي الْقطع استصلاحا فَهُوَ اسْتِهْلَاك فَلَا يقدر عَلَيْهِ وَمِنْهُم من قَالَ فِي الْقطع استصلاح بِخِلَاف الْقَتْل

(6/452)


ثمَّ هَذَا فِيهِ إِذا شهد السَّيِّد الْفَاحِشَة أَو أقرّ فَأَما إِذا شهد الشُّهُود فَإِن قُلْنَا استصلاح فَلَيْسَ لَهُ منصب الحكم وَإِن قُلْنَا ولَايَة فَوَجْهَانِ لِأَن الحكم يَسْتَدْعِي منصبا فَإِن منعناه فيستوفيه إِذا قضى بِهِ القَاضِي فَإِن جَوَّزنَا لَهُ سَماع الْبَيِّنَة لم نشترط كَونه مُجْتَهدا بل يَكْفِيهِ الْعلم بِمَا يُوجب الْحَد
فرع من قتل حدا غسل وَصلي عَلَيْهِ وَدفن فِي مَقَابِر الْمُسلمين كالمقتول قصاصا

(6/453)


الْجِنَايَة الرَّابِعَة هِيَ الْقَذْف كتاب حد الْقَذْف

وَالنَّظَر فِي الْمُوجب وَالْوَاجِب
أما الْمُوجب فالنظر فِي الْقَذْف والقاذف والمقذوف
أما الْقَذْف فقد ذَكرْنَاهُ فِي اللّعان وَالَّذِي نزيده الْآن أَنه لَا بُد أَن يكون فِي معرض التعيير فَلَو كَانَ فِي معرض الشَّهَادَة فَلَا حد إِلَّا إِذا ردَّتْ الشَّهَادَة لعدم الْأَهْلِيَّة كَمَا لَو كَانَ الشَّاهِد عبدا أَو ذِمِّيا فَعَلَيْهِم حد الْقَذْف وَإِن ردَّتْ الشَّهَادَة بِنُقْصَان الْعدَد بِأَن شهد ثَلَاثَة فَفِيهِ قَولَانِ
أقيسهما أَنه لَا يجب لِأَن الشَّهَادَة أَمَانَة يجب أَدَاؤُهَا وكل وَاحِد لَا يكون على ثِقَة من مساعدة غَيره
وَالثَّانِي أَنه يجب لقصة عمر رَضِي الله عَنهُ مَعَ أبي بكرَة

(6/454)


وَأما إِذا شهد لَهُ أَرْبَعَة ثمَّ رَجَعَ وَاحِد فالراجع مَحْدُود والمصر غير مَحْدُود إِذْ تمت الشَّهَادَة أَولا وَقيل بطرد الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ بعيد
ثمَّ ذَلِك لَا ينقدح فِي الرُّجُوع بعد الْقَضَاء أصلا
أما إِذا ردَّتْ الشَّهَادَة بِالْفِسْقِ فَإِن كَانَ بفسق يُجَاهر بِهِ فَفِيهِ قَولَانِ وَإِن كَانَ بفسق خَفِي انْكَشَفَ فَقَوْلَانِ مرتبان وَأولى بِأَن لَا يحد وَوجه إِسْقَاط الْحَد أَن الْفَاسِق من أهل الشَّهَادَة عِنْد بعض الْعلمَاء

(6/455)


أما رد شَهَادَتهم بأَدَاء اجْتِهَاده إِلَى فسقهم فَلَا حد عَلَيْهِم إِذْ الْحَد يسْقط بالإحتمال
أما الْقَاذِف فَيعْتَبر فِيهِ التَّكْلِيف وَالْحريَّة وَإِن انْتَفَى التَّكْلِيف فَلَا حد وَإِن انْتَفَت الْحُرِّيَّة تشطر الْحَد وَهَذَا يدل على مشابهته حُقُوق الله تَعَالَى لَكِن الْغَالِب فِي حد الْقَذْف حق الْآدَمِيّ إِذْ يسْقط بِعَفْو الْمَقْذُوف وَلَكِن لَا يسْقط بِإِبَاحَة الْقَذْف على الصَّحِيح
وَلَا يَقع الْموقع إِذا استوفى الْمَقْذُوف لِأَن للإجتهاد دخلا فِي تَقْدِير وَقع الجلدات فَهُوَ من شَأْن الْوُلَاة لَا كَالْقَتْلِ الَّذِي يَقع موقعه فِي حق الزَّانِي الْمُحصن إِذا بَادر إِلَيْهِ وَاحِد من الْمُسلمين وَإِن تعدى بِهِ
ومستحق الْقطع وَالْقَتْل قصاصا عَلَيْهِ أَن يرفع إِلَى القَاضِي فَإِن اسْتَقل بِهِ وَقع موقعه وينقدح وَجه فِي حد الْقَذْف أَيْضا أَنه يَقع موقعه
أما الْمَقْذُوف فَيعْتَبر إحْصَانه لإِيجَاب الْحَد وَقد ذَكرْنَاهُ فِي اللّعان
الطّرف الثَّانِي فِي قدر الْوَاجِب وَهُوَ ثَمَانُون جلدَة على الْحر وَأَرْبَعُونَ على الرَّقِيق فَإِن تعدد الْقَذْف بِأَن نسبه إِلَى زنيتين فَإِن لم يَتَخَلَّل اسْتِيفَاء الْحَد تدَاخل وَإِن تخَلّل فَقَوْلَانِ
أصَحهمَا أَنه يحد حدا آخر لتجدد الْمُوجب
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ قد ظهر كذبه فِي حَقه مرّة وَاحِدَة
وَلَو عين الزِّنَا بشخص أَولا ثمَّ أطلق الزِّنَا ثَانِيًا حمل على الأول مَا أمكن وَلم نستأنف الْحَد
وَلَو قذف شَخْصَيْنِ بكلمتين فحدان وَلَو قَالَ زنيتما فَفِي تعدد الْحَد خلاف وَقد ذَكرْنَاهُ فِي اللّعان فِي جملَة من أَحْكَام الْقَذْف وَالْحَد فَلَا نعيده

(6/456)