الوسيط في المذهب

= كتاب الْجِزْيَة والمهادنة = والعقود الَّتِي تفِيد الْأَمْن للْكفَّار
ثَلَاثَة الْأمان وَقد ذَكرْنَاهُ والذمة والمهادنة وهما مَقْصُود الْكتاب

(7/53)


العقد الأول عقد الذِّمَّة

وَهُوَ الْتِزَام تقريرهم فِي دِيَارنَا وحمايتهم والذب عَنْهُم ببذل الْجِزْيَة والإستسلام من جهتهم وَذَلِكَ جَائِز لقَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} وَلقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن إِنَّك سترد على قوم معظمهم أهل الْكتاب فاعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام فَإِن امْتَنعُوا فَأَعْرض عَلَيْهِم الْجِزْيَة وَخذ من كل حالم دِينَارا فَإِن امْتَنعُوا فاقتلهم

(7/55)


وَالنَّظَر فِي أَرْكَان هَذَا العقد وَأَحْكَامه
أما الْأَركان فخمسة
الرُّكْن الأول صِيغَة العقد وَهُوَ أَن يَقُول نَائِب الإِمَام أقررتكم بِشَرْط الْجِزْيَة والإستسلام وَالصَّحِيح أَنه يشْتَرط ذكر مِقْدَار الْجِزْيَة وَقيل لَا يشْتَرط وَلَكِن ننزل الْمُطلق على الْأَقَل وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لَا يشْتَرط ذكر الإستسلام لِأَنَّهُ حكم للْعقد كالملك فِي البيع
لَكِن هَل يجب التَّعَرُّض لكف اللِّسَان عَن الله وَرَسُوله فِيهِ وَجْهَان وَالصَّحِيح أَن الإستسلام من جانبهم مَعَ الْجِزْيَة كالعوض عَن التَّقْرِير فَيجب ذكره ثمَّ ينْدَرج تَحْتَهُ كف اللِّسَان والتأقيت هَل يبطل هَذَا العقد فِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا أَنه لَا يبطل كالأمان

(7/56)


وَالثَّانِي أَنه يبطل لِأَن هَذَا بدل عَن الْإِسْلَام فليتأبد
وَلَو قَالَ الإِمَام أقركم بِالذِّمةِ مَا شِئْت أَنا فَقَوْلَانِ مرتبان وَأولى بِالْجَوَازِ إِذْ نقل أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُم أقركم على ذَلِك مَا أقركم الله إِلَّا أَن ذَلِك كَانَ فِي انْتِظَار الْوَحْي وَلَا يتَصَوَّر الْآن

(7/57)


وَلَو قَالَ
أقركم مَا شِئْتُم جَازَ لانه حكم الْمُطلق إِذْ لَا يلْزم هَذَا العقد من جانبهم لَكِن يلْزم من جانبنا إِن صَحَّ وَإِذا فسد لم يلْزم وَلَكِن لَا نغتالهم بل نلحقهم بالمأمن

فرع
لَو اتّفقت الْإِقَامَة على حكم الْفساد سنة أَو سنتَيْن نَأْخُذ لكل سنة دِينَار وَلَا نسامح بالتقرير مجَّانا وَلَو وَقع كَافِر فِي دِيَارنَا مُدَّة وَلم نشعر بِهِ حَتَّى انْقَضتْ سنة فَلَا نَأْخُذ مِنْهُ الدِّينَار لِأَنَّهُ لم نقبله أصلا نعم ونغتاله ونسترقه فَإِن قبل الْجِزْيَة فَفِي منع استرقاقه وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يسترق كالأسير إِذا أَرَادَ منع الرّقّ ببذل الْجِزْيَة لم يمْتَنع
وَالثَّانِي أَنه يلْزم قبُول الْجِزْيَة لِأَن هَذَا لم نقصد الإستيلاء عَلَيْهِ بِخِلَاف الْأَسير
وَلَو قَالَ دخلت لسَمَاع كَلَام الله تَعَالَى تَرَكْنَاهُ وَإِن قَالَ دخلت لسفارة صدقناه إِن كَانَ مَعَه كتاب وَإِن لم يكن فَوَجْهَانِ وَالظَّاهِر نصدقه وَلَو قَالَ دخلت بِأَمَان مُسلم فَفِي تَصْدِيقه بِغَيْر حجَّة وَجْهَان من حَيْثُ إِن إِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِ مُمكن
ثمَّ الَّذِي يدْخل للسماع لَا نمكنه من الْمقَام وَرَاء أَرْبَعَة أشهر وَفِيمَا دون ذَلِك إِلَى مُدَّة الْبَيَان وَجْهَان

(7/58)


الرُّكْن الثَّانِي فِي الْعَاقِد وَلَا يعقده إِلَّا الإِمَام فَلَو تعاطاه وَاحِد بِغَيْر إِذْنه لم يَصح وَلَكِن يمْنَع الإغتيال وَلَو أَقَامَ سنة فَفِي أَخذ الْجِزْيَة وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يُؤْخَذ كعقد الإِمَام إِذا فسد
وَالثَّانِي لَا لِأَن قبُوله لَا يُؤثر إِذْ لم يكن الْقبُول مِمَّن هُوَ من أهل الْإِيجَاب
وَيجب على الإِمَام قبُول الْجِزْيَة إِذا بذلوها إِلَّا أَن يخَاف غائلتهم فَإِن كثر جمعهم فليفرقهم فِي الْبِلَاد وَلَا يجب قبُولهَا من الجاسوس لما فِيهِ من الْمضرَّة
الرُّكْن الثَّالِث فِيمَن يعْقد لَهُ وَهُوَ كل كتابي عَاقل بَالغ حر ذكر متأهب لِلْقِتَالِ قَادر على أَدَاء الْجِزْيَة فَهَذِهِ سَبْعَة قيود
الأول الْكِتَابِيّ فَلَا يُؤْخَذ من عَبدة الْأَوْثَان وَالشَّمْس وَإِنَّمَا تُؤْخَذ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس أَيْضا يسن بهم سنة أهل الْكتاب فِي الْجِزْيَة دون أكل الذَّبِيحَة والمناكحة

(7/59)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يُقرر وَثني الْعَجم دون وَثني الْعَرَب وَلَو ظهر قوم زَعَمُوا أَنهم أهل الْكتاب كالزبور وَغَيره فَهَل يقرونَ بالجزية فِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا نعم لِأَن الزبُور كتاب مُحْتَرم وَكَذَا سَائِر كتب الله تَعَالَى وَلَا يُمكن أَن نعلم دينهم إِلَّا بقَوْلهمْ
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ لَا ثِقَة بقَوْلهمْ والأولون لم يعولوا إِلَّا على أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل
ثمَّ لَا شكّ فِي أَنه لَا تحل مناحكتهم لظُهُور هَذِه الشُّبْهَة كَمَا أَن من شكّ فِي

(7/60)


أَن أول آبَائِهِ دَان بدينهم قبل المبعث أَو بعده يُقرر وَلَا يناكح فَإِن علم أَنه دَان قبل المبعث يُقرر ويناكح وَإِن علم أَنه دَان بعد المبعث لم يُقرر وَإِن دَان بعد التبديل قرر وَلَا يناكح وَفِيه وَجه أَنه لَا يُقرر

فروع

الأول اخْتلفت نُصُوص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الصابئين وهم فرقة من النَّصَارَى وَفِي السامرة وهم فرقة من الْيَهُود فَمنهمْ من قَالَ إِنَّه تردد لتردده فِي أَنهم مبتدعة عِنْدهم أَو كفرة فَإِن صَحَّ كفرهم بِأَن قَالُوا مُدبر الْعَالم النُّجُوم السَّبْعَة أَو قَالُوا بقدم النُّور والظلمة فَلَا يُقرر لِأَنَّهُ يُنَاقض مُوجب الْكتب الْمنزلَة وَمِنْهُم من قَالَ وَإِن كَانُوا مبتدعة فالقولان جائزان إِذْ تضعف بالبدعة حرمتهم
وَهَذَا الْخلاف إِنَّمَا ينقدح فِي نكاحهم لِأَن مبتدعة الْإِسْلَام يناكحون لأخبار منعت من التَّكْفِير فَلَا يعد فِي التَّغْلِيظ على مبتدعة أهل الْكتاب
الثَّانِي قلو قبلنَا جزيته فَأسلم مِنْهُم رجلَانِ عَدْلَانِ شَهدا أَنه كَافِر بدينهم تبين انتقضا الْعَهْد ونغتاله لتلبيسه علينا وَإِنَّمَا تثبت علقَة الْأمان عِنْد جهلهم
الثَّالِث الْمُتَوَلد بَين وَثني وكتابية وبعكسه فِي مناكحته قَولَانِ الصَّحِيح

(7/61)


أَنه يُقرر وَمِنْهُم من طرد الْقَوْلَيْنِ
الرَّابِع إِذا توثن نَصْرَانِيّ وَله أَوْلَاد صغَار فَإِن كَانَت الْأُم نَصْرَانِيَّة اسْتمرّ حكم تنصرهم بعد الْبلُوغ وَإِن كَانَت وثنية فَقَوْلَانِ أَحدهمَا أَنه تبقى علقَة التنصير لَهُم فيقررون بعد الْبلُوغ
وَالثَّانِي أَنهم يتبعُون فِي التوثن أَيْضا لَكِن لَا يغتالون وَفِي اغتيال أَبِيهِم خلاف
الْخَامِس الْوَلَد الْحَاصِل من الْمُرْتَدين فِي إسْلَامهمْ لأجل علقَة الْإِسْلَام فِي الْمُرْتَد خلاف فَإِن قضينا بِهِ فَإِن لم يصرحوا بعد الْبلُوغ فهم مرتدون وَإِن لم نقض بِهِ فَلَا يقرونَ إِذْ لم يثبت دين آبَائِهِ قبل المبعث وَفِيه وَجه بعيد لَا اتجاه لَهُ إِذْ تخرم الْقَاعِدَة فِي مُرَاعَاة تَقْدِيم الدّين على المبعث ولعى هَذَا يتَّجه التَّرَدُّد فِي نكاحهم وَالصَّحِيح الْمَنْع
وَالصَّحِيح أَنه لَا يحل وَطْء سَبَايَا غوراء إِذْ صَحَّ أَنهم ارْتَدُّوا بعد الْإِسْلَام نعم ينقدح التَّرَدُّد فِي استرقاقهم بِنَاء على أَنهم كفار أصليون فَإِن عَبدة الْأَوْثَان لَا يمْتَنع إرقاقهم على ظَاهر الْمَذْهَب وَفِيه وَجه أَنه يمْتَنع لِأَن فِيهِ أَمَانًا مُؤَبَّدًا لوثني
الْقَيْد الثَّانِي الْعقل فَلَا يُؤْخَذ من الْمَجْنُون جِزْيَة بل هُوَ تَابع كَالصَّبِيِّ وَلَو وَقع فِي الْأسر رق بِنَفس الْأسر كَالصَّبِيِّ وَإِن كَانَ يجن يَوْمًا ويفيق يَوْمًا فَفِي وَجه يعْتَبر آخر الْحول وَفِي وَجه تلفق أَيَّام الْإِفَاقَة سنة وَيُؤْخَذ لَهَا دِينَار وَهُوَ الأقيس وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله وَفِي وَجه ينظر إِلَى الْأَغْلَب وَفِي

(7/62)


وَجه لَا نظر إِلَى جُنُون مُنْقَطع بل هُوَ كالغشية بل تجب جِزْيَة كَامِلَة وَفِي وَجه أَنه لَا ينظر إِلَى عقل مُنْقَطع فَلَا جِزْيَة عَلَيْهِ أصلا والوجهان الأخيران ضعيفان وَإِن وَقع مثل هَذَا فِي الْأسر فَالصَّحِيح أَنه ينظر إِلَى وَقت الْأسر
الْقَيْد الثَّالِث الصَّغِير فَلَا يؤخد مِنْهُ جِزْيَة بل هُوَ تَابع أَبِيه ثمَّ إِذا بلغ عَاقِلا فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه لَا حَاجَة إِلَى الإستئناف بل يلْزمه مثل مَا الْتزم أَبوهُ وَكَأَنَّهُ عقد لنَفسِهِ ولولده بعد الْبلُوغ وَالثَّانِي أَنه يسْتَأْنف لنَفسِهِ
فَلَو بلغ سَفِيها وَالْتزم زِيَادَة نفذ لِأَنَّهُ يحقن بِهِ دَمه كَمَا لَو كَانَ عَلَيْهِ قصاص فَصَالح على أَكثر من الدِّيَة فَلَيْسَ للْوَلِيّ الْمَنْع لِأَن حقن الدَّم أهم من المَال وَلَو عقد لَهُ الْوَلِيّ بِزِيَادَة لم يكن للسفيه الْمَنْع كَمَا يَشْتَرِي لَهُ الطَّعَام فِي

(7/63)


المخمصة قهرا لصيانة روحه
وَإِن قُلْنَا لَا يسْتَأْنف فَإِن كَانَ الْأَب قد الْتزم زِيَادَة لزمَه بعد الْبلُوغ وَكَانَ امْتِنَاعه كامتناع أَبِيه من الزِّيَادَة
الْقَيْد الرَّابِع الْحُرِّيَّة فَالْعَبْد تَابع فَلَا جِزْيَة عَلَيْهِ وَكَذَا من نصفه حر وَنصفه رَقِيق
الْقَيْد الْخَامِس الذُّكُورَة فَلَا جِزْيَة على الْمَرْأَة إِذْ لَا تتعرض للْقَتْل بل هِيَ تَابِعَة وللرجل أَن يستتبع بِدِينَار وَاحِد جمعا من النِّسَاء الْأَقَارِب والزوجات وَلَا يشْتَرط الْمَحْرَمِيَّة أما الأصهار والأحماء فَمنهمْ من ألحقهن بالأجانب وَمِنْهُم من ألحقهن بالأقارب وَالصبيان والمجانين الْأَقَارِب أَيْضا يجوز استتباعهم
هَذَا فِيهِ إِذا شَرط فِي العقد فَإِن أطلق لم يتبع الْأَقَارِب والأصهار أما أَوْلَاده الصغار فَوَجْهَانِ وَفِي زَوْجَاته طَرِيقَانِ أَحدهمَا أَنَّهُنَّ كالأولاد وَالثَّانِي أَنَّهُنَّ كالأقارب

(7/64)


وَالأَصَح أَن الزَّوْجَة وَالْولد مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاق فَلَا حَاجَة إِلَى الشَّرْط
ثمَّ إِذا دخل صبي أَو امْرَأَة دَارنَا من غير أَمَان وتبعية أوقفناهما وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون وَالْحَرْبِيّ يتَخَيَّر فِيهِ بَين الْقَتْل والإرقاق
فرع إِذا حاصرنا قلعة وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا النسوان فَإِن فتحناها جرى الرّقّ عَلَيْهِنَّ بِمُجَرَّد الظفر وَإِن بذلن الْجِزْيَة لدفع الرّقّ فَالصَّحِيح أَنه لَا يجب الْقبُول إِذْ لَو جَازَ لَهَا دفع الرّقّ بالجزية كَمَا يجوز للرجل دفع الْقَتْل لما كَانَت تَابِعَة فِي الْجِزْيَة بل صَار أصلا كَالرّجلِ ولكان إِذا دخلت دَارنَا لم يجز إرقاقها إِن بذلت الْجِزْيَة وَهُوَ بعيد
وَالثَّانِي أَنه يجب الْقبُول وَإِنَّمَا التّبعِيَّة إِذا كَانَ مَعهَا رجل قريب أَو زوج وَإِنَّمَا لَا تستقل إِذا وَقعت فِي الْأسر لِأَنَّهَا رقت بِمُجَرَّد الْأسر
أما إِذا كَانَ فِيهِنَّ رجل وَاحِد وبذل الْجِزْيَة كَانَ عصمَة لجَمِيع النسوان إِن كن من أَهله وَإِن كن أجانب فَلَا وَقد أطلق الْأَصْحَاب عصمَة الْجَمِيع وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادهم
الْقَيْد السَّادِس المتأهب لِلْقِتَالِ واحترزنا بِهِ عَن الزمني وأرباب الصوامع وَمن ذكرنَا خلافًا فِي قَتلهمْ فَمنهمْ من قَالَ إِذا منعنَا قَتلهمْ فهم كالنسوان فَلَا جِزْيَة عَلَيْهِم وَمِنْهُم من قطع بِأخذ الْجِزْيَة للجنسية وَهُوَ الْأَصَح
الْقَيْد السَّابِع الْقُدْرَة واحترزنا بِهِ عَن الْكَافِر الْفَقِير الَّذِي لَيْسَ بكسوب فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهمَا أَنه يخرج من الدَّار وَلَا يُقرر مجَّانا وَالثَّانِي أَنه يُقرر مجَّانا لِأَنَّهُ مَعْذُور وَالثَّالِث أَنه يُقرر بجزية تَسْتَقِر فِي ذمَّته إِلَى أَن يقدر

(7/65)


الرُّكْن الرَّابِع فِي الْبِقَاع الَّتِي يُقرر بهَا الْكَافِر وَيجوز تقريرهم بِكُل بقْعَة إِلَّا الْحجاز فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو عِشْت لأخرجت الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب ثمَّ لم يَعش صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يتفرغ لَهُ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فأجلاهم عمر رَضِي الله عَنهُ وهم زهاء أَرْبَعِينَ ألفا
ونعني بِجَزِيرَة الْعَرَب مَكَّة وَالْمَدينَة واليمامة ومخاليفها والطائف وَوَج وَمَا ينْسب إِلَيْهَا مَنْسُوب إِلَى مَكَّة وَفِي بعض الْكتب التهامة وَلَعَلَّه تَصْحِيف الْيَمَامَة وخيبر من مخاليف الْمَدِينَة

(7/66)


وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ جَزِيرَة الْعَرَب تمتد إِلَى أَطْرَاف الْعرَاق من جَانب وَإِلَى أَطْرَاف الشَّام من جَانب وعَلى هَذَا تلتحق الْيمن بالجزيرة فتحصلنا فِيهِ على خلاف
هَذَا فِي المخاليف والبلاد أما الطّرق المعترضة بَينهمَا فَهَل يمْنَعُونَ من الْإِقَامَة بهَا وَفِيه وَجْهَان أَحدهمَا لَا لِأَن المُرَاد الْمَنْع من الإختلاط بالعرب حُرْمَة لَهُم وَالثَّانِي أَنهم يمْنَعُونَ لِأَن الْحُرْمَة للبقعة
ثمَّ لَا خلاف أَنهم لَا يمْنَعُونَ من الإجتياز لسفارة أَو تِجَارَة وَلَكِن بِشَرْط أَن لَا يُقِيمُونَ فِي مَوضِع أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام وَلَا يحْسب يَوْم الدُّخُول وَالْخُرُوج إِلَّا فِي مَكَّة

(7/67)


فَإِنَّهُ يمْنَع وَلَا يُمكن الْكَافِر من دُخُولهَا مجتازا وَلَا برسالة بل يخرج إِلَيْهِ من يستمع الرسَالَة لقَوْله تَعَالَى {فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا} وَلَا يجْرِي هَذَا التَّغْلِيظ فِي الْمَدِينَة

فرع
لَو دخل مَكَّة وَمرض وَخيف من نَقله الْمَوْت فَلَا يُبَالِي وينقل وَلَو دفن نبش قَبره وَأخرج عِظَامه تَطْهِيرا للحرم وَإِن مَاتَ على طرف الْحجاز وَأمكن نَقله نقل قبل الدّفن وَإِن دفن فَفِي نبش قَبره وَجْهَان
وَلَو مرض فِي الْحجاز لم ينْقل إِن خيف مَوته فَإِن كَانَ يشق النَّقْل وَلَا يخَاف الْمَوْت فَفِي وجوب نَقله وَجْهَان فَإِن مَاتَ فِي غير مَكَّة وَدفن وعظمت الْمَشَقَّة فِي نَقله تَرَكْنَاهُ وَلم نرفع نعش قَبره

(7/68)


الرُّكْن الْخَامِس فِي قدر الْجِزْيَة الْوَاجِبَة والواجبات عَلَيْهِم خَمْسَة

الأول نفس الْجِزْيَة وأقلها دِينَار فِي السّنة على كل محتلم كَمَا سبق أَو اثْنَي عشر درهما نقرة وَيُخَير الإِمَام بَينهمَا والتخيير مُسْتَنده قَضَاء عمر رَضِي الله عَنهُ وَإِلَّا فَلم يرد فِي الْخَبَر إِلَّا الدِّينَار وشبب بعض الْأَصْحَاب بِأَن النقرة نقومها بِالذَّهَب كَمَا فِي نِصَاب السّرقَة
ثمَّ إِن لم يبذلوا إِلَّا دِينَار وَجب الْقبُول وَللْإِمَام أَن يماكس فِي الزِّيَادَة فَإِن بذل زِيَادَة ثمَّ علم أَن الزِّيَادَة لم تكن وَاجِبَة لم يَنْفَعهُ وَكَانَ كمن اشْترى بِالْغبنِ نعم لَو نبذ إِلَيْنَا الْعَهْد ثمَّ رَجَعَ وَطلب العقد بِدِينَار وَجَبت الْإِجَابَة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله على الْفَقِير دِينَار وعَلى الْغَنِيّ أَرْبَعَة وعَلى الْمُتَوَسّط دِينَارَانِ وَعِنْدنَا لَا فرق

(7/69)


وَلَو أسلم أَو مَاتَ بعد مُضِيّ السّنة استوفي عندنَا وَلَو تكَرر سنُون لم تتداخل خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَو كَانَ عَلَيْهِ دُيُون وَمَات قدمت الْجِزْيَة على وَصَايَاهُ وديونه وَمِنْهُم من قَالَ بل الْجِزْيَة من حُقُوق

(7/70)


الله فَتقدم على حق الْآدَمِيّ فِي قَول وتؤخر فِي قَول وتستوي فِي قَول

فرع
لَو مَاتَ فِي أثْنَاء السّنة فَفِي وجوب قسطه قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه لَا يجب إِلَّا لتَمام السّنة كَالزَّكَاةِ وَالثَّانِي أَنه يجب كالأجرة
وَيُشِير هَذَا إِلَى تردد فِي أَنَّهَا هَل تجب بِأول السّنة لَكِن تَسْتَقِر بِتَمَامِهَا أَو تجب شَيْئا شَيْئا وبنوا على هَذَا أَن الإِمَام لَو طلب شَيْئا فِي أثْنَاء السّنة هَل يجوز

(7/71)


مَعَ اسْتِمْرَار الْحَيَاة وَالظَّاهِر الْمَنْع لِأَنَّهُ على خلاف سير الْأَوَّلين
الْوَاجِب الثَّانِي الضِّيَافَة وَقد وظف عمر رَضِي الله عَنهُ الضِّيَافَة لمن يطرقهم من أَبنَاء السَّبِيل فاتفقوا على جَوَاز ذَلِك بِشَرْط أَن نبين لكل وَاحِد عدد الضيفان وَقدر الطَّعَام والأدم وجنسه وعلف الدَّابَّة ومنازل الضيفان وليفاوت بَين الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِي عدد الضيفان لَا فِي جنس الطَّعَام كي لَا يُؤَدِّي إِلَى التزاحم على الْغَنِيّ وَيبين مُدَّة إِقَامَة الضَّيْف من يَوْم إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام فقد ورد أَن الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام فَمَا زَاد صَدَقَة وَيُقَال إجَازَة يَوْم وَلَيْلَة أَعنِي مَا يُعْطي الضَّيْف ليتزود فِي الطَّرِيق إِذا رَحل
ثمَّ هَذَا مَحْسُوب لَهُم من نفس الدِّينَار إِذْ كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا يطالبهم بالجزية مَعَ الضِّيَافَة وَمِنْهُم من أَبى ذَلِك لِأَن الْإِطْعَام لَيْسَ بِتَمْلِيك وَهُوَ كالتغدية فِي الْكَفَّارَة

(7/72)


فَإِن قُلْنَا إِنَّه من الْجِزْيَة فَمَا نقص من الدِّينَار يجب أَن يكمل وَلَو أَرَادَ نقلهم عَن الضِّيَافَة إِلَى الدَّنَانِير بعد ضربه بِغَيْر رضاهم فَفِيهِ وَجْهَان وَكَأَنَّهُ تردد فِي أَن ضربه هَل ينقعد لَازِما
وَالصَّحِيح أَنه إِن قُلْنَا إِنَّه من الدِّينَار فَيجوز الْإِبْدَال وَإِن قُلْنَا إِنَّه أصل فَلَا بُد من رضاهم فِي الْإِبْدَال
ثمَّ إِذا أبدلت فقد كَانَت الضِّيَافَة لجَمِيع الطارقين فَهَل يصرف الْبَدَل إِلَى جَمِيع الْمصَالح أم يخْتَص بِأَهْل الْفَيْء فِيهِ وَجْهَان وَالظَّاهِر أَنه لأهل الْفَيْء لِأَن ذَلِك احْتمل فِي الضِّيَافَة لعسر الضَّبْط
الْوَاجِب الثَّالِث الإهانة والتصغير عِنْد الْأَخْذ لقَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} قيل مَعْنَاهُ أَن يطأطىء الذِّمِّيّ رَأسه وَيصب مَا مَعَه فِي كف المستوفي فَيَأْخُذ المستوفي بلحيته وَيضْرب فِي لهازمه

(7/73)


وَهَذَا مُسْتَحبّ أَو مُسْتَحقّ فِيهِ وَجْهَان
فَإِن قُلْنَا إِنَّه مُسْتَحقّ لم يجز لَهُ تَوْكِيل الْمُسلم فِي التوفية وَلم يَصح ضَمَان الْمُسلم للجزية فَإِنَّهُ يجب قبُولهَا إِذا أسلم وَتسقط الإهانة
وَلَكِن الصَّحِيح أَنه مُسْتَحبّ إِذْ يجوز إِسْقَاطهَا بِتَضْعِيف الصَّدَقَة كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ فَإِن جمَاعَة من نَصَارَى الْعَرَب أنفوا من اسْم الْجِزْيَة وَالصغَار فَقَالُوا نَحن عرب فَخذ منا مَا يَأْخُذ بَعْضكُم من بعض يَعْنِي الزَّكَاة فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِنَّهَا طهرة ولستم من أَهلهَا فَقَالُوا خُذ بذلك الإسم وزد مَا شِئْت فضعف عَلَيْهِم الصَّدَقَة وَحط اسْم الْجِزْيَة والإهانة وَلَا شكّ فِي أَن الْمَأْخُوذ جِزْيَة حَتَّى لَا تُؤْخَذ من النِّسَاء وَالصبيان
وَلَا بُد أَن يَفِي بِقدر الْجِزْيَة إِذا وزع على رُءُوس الْبَالِغين وَله أَن يَأْخُذ ثَلَاثَة أَمْثَال الصَّدَقَة وَله أَن يَأْخُذ نصف الصَّدَقَة إِن وفى بالجزية وَلَكِن لَا يتْرك الإهانة إِلَّا لغَرَض ظَاهر

(7/74)


فَإِن كَثُرُوا وَلم يُمكن عدهم لتبيين الْوَفَاء فَفِي جَوَاز أَخذه بغالب الظَّن وَجْهَان والفقراء هَل يدْخلُونَ فِي الْحساب يخرج على الْقَوْلَيْنِ فِي العقد وَهل يجوز ذَلِك مَعَ غير الْعَرَب فِيهِ وَجْهَان وَالظَّاهِر جَوَازه للْمصْلحَة
ثمَّ صِيغَة العقد أَن يَقُول الإِمَام ضعفت عَلَيْكُم الصَّدَقَة فَيلْزمهُ عَلَيْكُم الصَّدَقَة فَيلْزمهُ الْوَفَاء فَيَأْخُذ من خمس من الْإِبِل شَاتين وَمن عشر أَربع شِيَاه وَمن خمس وَعشْرين بِنْتي مَخَاض وَلَا يضعف المَال فَيَجْعَلهُ كالخمسين وَيَأْخُذ حَقه بل نضعفه الصَّدَقَة ونأخذ الْخمس مِمَّا سقته السَّمَاء وَالْعشر مِمَّا سقِِي بدالية وَمن عشْرين دِينَارا دِينَارا وَاخْتلفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ
إِحْدَاهمَا أَنه هَل يحط لَهُم الوقص فِيهِ ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَنه يحط كالصدقة وَالثَّانِي لَا لِأَن ذَلِك تَخْفيف عَن الْمُسلمين وَالثَّالِث
أَنه يَأْخُذ إِن لم يؤد إِلَى التجزئة فَيَأْخُذ من سَبْعَة وَنصف من الْإِبِل ثَلَاث شِيَاه وَقد حُكيَ عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ يَأْخُذ من عشْرين شَاة شَاة وَمن مائَة دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم

(7/75)


الثَّانِيَة لَو ملك سِتا وَثَلَاثِينَ من الْإِبِل وَلَيْسَ فِي مَاله بنت لبون فَيَأْخُذ بِنْتي مَخَاض وجبرانين لكل جبران وَاحِد شَاتين أَو عشْرين درهما وَلَا يضعف الْجبرَان ثَانِيًا وَمن قَالَ بذلك فقد غلط وَكَذَلِكَ إِذا أخرج حقتين فعلى الإِمَام الْجبرَان
الْوَاجِب الرَّابِع الْعشْر من البضاعة الَّتِي مَعَ تجارهم إِذا ترددوا فِي بِلَادنَا وَالنَّظَر فِيمَن يعشر مَاله وَفِي قدر الْمَأْخُوذ
أما من يُؤْخَذ مِنْهُ فَهُوَ كل حَرْبِيّ يتجر فِي بِلَادنَا ضرب عمر رَضِي الله عَنهُ عَلَيْهِم الْعشْر أما الذِّمِّيّ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ إِذا اتّجر وَلَا على الْحَرْبِيّ إِذا دخل لسفارة أَو سَماع كَلَام الله تَعَالَى
أما لَو تردد فِي الْحجاز لَا للتِّجَارَة فَفِي أَخذ شَيْء مِنْهُ خلاف فَقيل إِنَّه لَا يُمكن تعشير مَاله
وَلَا بُد من تَعْظِيم الْحجاز فَيُؤْخَذ دِينَار وَهُوَ أقل الْجِزْيَة وَالذِّمِّيّ إِذا اتّجر فِي الْحجاز أَخذ مِنْهُ نصف الْعشْر كَذَلِك فعل عمر رَضِي الله عَنهُ
ثمَّ هَذَا إِذا جرى الشَّرْط وقبلوا فَإِن دخلُوا بِأَمَان من غير شَرط فأصح الْوَجْهَيْنِ أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِم وَالثَّانِي أَن قَضَاء عمر رَضِي الله عَنهُ بذلك قَضَاء على من سَيكون مِنْهُم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَيتبع
أما الْمِقْدَار فَلَا مزِيد على الْعشْر وَقل للْإِمَام أَن يزِيد إِن رأى وَأما النُّقْصَان فَجَائِز إِلَى نصف الْعشْر وَذَلِكَ فِي الْميرَة وكل مَا يحْتَاج الْمُسلمُونَ إِلَى كَثْرَة

(7/76)


المكاسب فِيهِ كَذَلِك فعل عمر رَضِي الله عَنهُ وَلَو رأى رفع هَذِه الضريبة أصلا فَفِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا أَنه لَا بُد من قبُول شَيْء وَالثَّانِي أَن هَذَا الْجِنْس يتبع فِيهِ الْمصلحَة إِذْ عمر رَضِي الله عَنهُ فعل ذَلِك بِرَأْيهِ واستصوابه وَقد يتَغَيَّر الصَّوَاب
ثمَّ إِذا أَخذ الْعشْر مرّة فَلَا يَأْخُذهُ ثَانِيًا فِي تِلْكَ السّنة بل يعْطى جَوَازًا حَتَّى لَا يُطَالِبهُ عشار أصلا إِلَّا إِذا جَوَّزنَا الزِّيَادَة فَعِنْدَ ذَلِك يجوز أَخذه فِي دفعات
أما إِذا جرى ترديد مَال وَاحِد إِلَى الْحجاز فِي سنة وَاحِدَة فَهَل يُكَرر الْعشْر لتعظيم الْحجاز فِيهِ خلاف وَهَذَا إِذا خرج من الْحجاز وَعَاد وَمَا دَامَ يتَرَدَّد فِيهِ فَلَا وَلَو بذل اللِّسَان عِنْد المشارطة بِزِيَادَة فَالظَّاهِر أَنه لَا يلْزم إِذْ لَيْسَ ذَلِك عقدا أَصْلِيًّا بِخِلَاف عقد الْجِزْيَة
الْوَاجِب الْخَامِس الْخراج وَذَلِكَ قد يكون أُجْرَة فَلَا يسْقط بِالْإِسْلَامِ كَمَا إِذا ملكنا أراضيهم ثمَّ رددناها إِلَيْهِم بخراج كَمَا فعله عمر رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا وَاجِب وَرَاء الْجِزْيَة
أما إِذا صالحناهم على عقارهم بخراج يؤدونه فملكهم مطرد والمأخوذ فِي حكم جِزْيَة

(7/77)


وَمن أسلم سقط الْخراج عَنهُ فِي الْمُسْتَقْبل خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله

(7/78)


النّظر الثَّانِي فِي أَحْكَام عقد الذِّمَّة

وَهُوَ يَقْتَضِي وجوبا علينا وَعَلَيْهِم أما مَا علينا فَيرجع إِلَى أَمريْن الْكَفّ عَنْهُم وذب الْكفَّار دونهم
أما الْكَفّ فَمَعْنَاه أَنا لَا نتعرض لأنفهسم ومالهم ونعصمهم بِالضَّمَانِ وَلَا نريق خمورهم وَلَا نتلف خنازيرهم مَا داموا يخفونه وَلَا نمنعهم من التَّرَدُّد إِلَى كنائسهم الْقَدِيمَة وَلَو أظهرُوا الْخُمُور أرقناها وَمن دخل دَارهم وأراقها فقد تعدى وَلَا ضَمَان عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله وَلَو غصبهَا وَجب مئونة الرَّد وَفِيه وَجه أَنه لَا يجب إِلَّا التَّخْلِيَة وَلَو بَاعَ خمرًا من مُسلم أريق على الْمُسلم وَلَا ثمن للذِّمِّيّ وَالظَّاهِر أَنه يجب رد الْخمر المحترمة على الْمُسلم إِذا غصب
أما الذب عَنْهُم فَمَعْنَاه دفع الْكفَّار عَنْهُم مَا داموا فِي دَارنَا وَهُوَ ذب عَن الدَّار وَلَو دخلُوا دَار الْحَرْب فَلَا مطمع للذب وَلَو انفردوا ببلدة غير مُتَّصِلَة بِبِلَاد الْإِسْلَام فَفِي وجوب ذب أهل الْحَرْب عَنْهُم وَجْهَان أَحدهمَا أَنه لَا يجب إِذْ لم نلتزم إِلَّا الْكَفّ

(7/79)


وَالثَّانِي أَنه يجب إِذْ بذلوا الْجِزْيَة لنسلك بهم مَسْلَك أهل الْإِسْلَام فعلى هَذَا لَو شرطنا أَن لَا نذب عَنْهُم لم يلْزمنَا وَمِنْهُم من ألغى هَذَا الشَّرْط وعَلى الأول لَو شرطنا الذب لزمنا وَمِنْهُم من ألغى ذَلِك الشَّرْط وَكَذَلِكَ لَو ترافعوا إِلَيْنَا هَل يجب الحكم بَينهم فِيهِ خلاف وَيرجع حَاصله إِلَى دفع أَذَى بَعضهم عَن بعض
أما الْوَاجِب عَلَيْهِم فَهُوَ الْوَفَاء بالجزية والإنقياد للْأَحْكَام والكف عَن الْفَوَاحِش وَعَن بِنَاء الْكَنَائِس ومطاولة الْمُسلمين بالبنيان والتجمل بترك الغيار وركوب الْخُيُول وسلوك جادة الطّرق هَذِه مجامعها
الأول حكم الْكَنَائِس وتفصيله أَن للبلاد ثَلَاثَة أَحْوَال
الأولى بَلْدَة بناها الْمُسلمُونَ فَلَا يكون فِيهَا كَنِيسَة وَإِذا دخلُوا وقبلوا الْجِزْيَة منعُوا من إِحْدَاث الْكَنَائِس قطعا وَفِي مَعْنَاهَا بَلْدَة ملك الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم رقبَتهَا قهرا فَإِنَّهُ ينْقض كنائسهم لَا محَالة وَلَو أَرَادَ الإِمَام أَن ينزل مِنْهُم طَائِفَة بجزية وَيتْرك لَهُم كَنِيسَة قديمَة قطع المراوزة بِالْمَنْعِ وَذكر الْعِرَاقِيُّونَ وَجها فِي جَوَازه أما الإحداث فَلَا خلاف فِي الْمَنْع

(7/80)


الثَّانِيَة بَلْدَة فتحناها صلحا على أَن تكون رَقَبَة الْأَبْنِيَة للْمُسلمين وهم يسكنونها بخراج يبذلونه سوى الْجِزْيَة فَإِن اسْتثْنى فِي الصُّلْح البيع وَالْكَنَائِس لم تنقض وَإِن أطلق فَوَجْهَانِ أَحدهمَا انها تنفض لِأَنَّهَا ملك الْمُسلمين فَلهم التَّصَرُّف فِي ملكهم وَالثَّانِي لَا وَفَاء بِشَرْط التَّقْرِير فَإِنَّهُ يمْنَع عَلَيْهِم الْقَرار من غير متعبد جَامع
الثَّالِثَة أَن تفتح على أَن تكون الرّقاب لَهُم وَيضْرب عَلَيْهِم خراج فَهَذِهِ بلدتهم وَلَيْسَ عَلَيْهِم نقض الْكَنَائِس وَلَو أَحْدَثُوا كنائس فَالْمَذْهَب أَنهم لَا يمْنَعُونَ وَقيل يمْنَع لِأَنَّهَا على الْجُمْلَة تَحت حكم الْإِسْلَام
وَلَا خلاف أَنهم لَا يمْنَعُونَ من ضرب الناقوس وَإِظْهَار الْخُمُور وَإِن كَانَ الْمُسلمُونَ يدْخلُونَ على الْجُمْلَة لِأَنَّهَا كعقر دَارهم وَلَا نتعرض لما يجْرِي فِي دُورهمْ

فرع
حَيْثُ قضينا بإبقاء كَنِيسَة قديمَة وَالْمَنْع من الإحداث فَلَا نمنعهم من الْعِمَارَة إِذا استرمت وَالأَصَح أَنا لَا نكلفهم إخفاء الْعِمَارَة وَقيل يجب الْإخْفَاء حَتَّى لَو زَالَ الْجِدَار الْخَارِج فَلَا وَجه إِلَّا بِنَاء جِدَار دَاخل الْكَنِيسَة
نعم لَو انْهَدَمت الْكَنِيسَة فَفِي إِعَادَتهَا وَجْهَان من حَيْثُ إِن هَذَا كالإحداث من وَجه وَإِن قُلْنَا لَهُم الْإِعَادَة فَفِي جَوَاز زِيَادَة فِي الخطة وَجْهَان أصَحهمَا الْمَنْع لِأَن هَذَا إِحْدَاث

(7/81)


وَأما النواقيس فَإنَّا نمنعهم فِي كنائسهم أَن يظْهر صَوته فَهُوَ كإظهار الْخمر وَقيل لَا يمْنَع فَإِنَّهُ تَابع للكنيسة
الْوَاجِب الثَّانِي ترك مطاولة الْبُنيان فَلَو بنى دَارا أرفع من دَار جَاره منع وَلَو كَانَ مثله فَوَجْهَانِ وَلَو لم يكن بجنبه إِلَّا حجرَة ضَعِيفَة منخفضة فَعَلَيهِ أَن لَا يعلوها بُنْيَانه وَلَو كَانَ فِي طرف بلد حَيْثُ لَا جَار أَو كَانَت لَهُم محلّة فَلَا معنى للمطاولة فَلَا حجر وَقيل إِنَّهُم على الْجُمْلَة يمْنَعُونَ من رفع فِيهِ تجمل
وَهَذَا كُله فِي الْبناء فَلَو اشْترى دَارا مُرْتَفعَة لم ينْقض بناؤها وَهَذَا الْمَنْع مُسْتَحبّ أَو حتم فِيهِ وَجْهَان
الْوَاجِب الثَّالِث يمْنَعُونَ من التجمل بركوب الْخَيل وَلَا يمْنَعُونَ من الْحمار النفيس وَليكن رِكَابهمْ من الْخشب وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد لَا يمْنَع من الْفرس الخسيس كالقتبيات وَيمْنَع من البغال الغر

(7/82)


الْوَاجِب الرَّابِع لَا بُد من الغيار ولون الصُّفْرَة باليهود أليق والكهبة بالنصارى والسواد بالمجوس وَالْمَقْصُود أَن يتميزوا حَتَّى لَا نسلم عَلَيْهِم ويضطرون إِلَى أضيق الطّرق وَيمْنَعُونَ من سرارة الجادة إِذا كَانَت مَشْغُولَة بِالْمُسْلِمين وَإِن كَانَت خَالِيَة فَلَا منع وَيخرج الْكَافِر من الْحمام إِذا لم يكن عَلَيْهِم غيار لِأَنَّهُ رُبمَا ينجس المَاء من حَيْثُ لَا نَعْرِف
وَالْمَرْأَة هَل يلْزمهَا الغيار فِي الْحمام وخارجه فِيهِ وَجْهَان ثمَّ أصل الغيار وَترك ركُوب الْخَيل حتم أَو مُسْتَحبّ فِيهِ وَجْهَان

(7/83)


الْوَاجِب الْخَامِس الإنقياد للْأَحْكَام بِأَن يذعن للحد وَالضَّمان إِذا تعلّقت الْخُصُومَة بِمُسلم أَو زنا بِمسلمَة أَو سرق مَال مُسلم أما مَا لَا يتَعَلَّق بِمُسلم وَلم يعْتَقد تَحْرِيمه فَلَا يحد على الصَّحِيح فِيهِ كالشرب وَمَا اعْتقد تَحْرِيمه وترافعوا إِلَيْنَا وَجب عَلَيْهِم الإنقياد فَإِن قيل فَلَو خالفوا فِي شَيْء من هَذِه الْجُمْلَة فَهَل ينْتَقض عَهدهم قُلْنَا هَذِه الْأُمُور على ثَلَاث مَرَاتِب
الأولى وَهِي أخفها إِظْهَار الْخمر وَضرب الناقوس وَترك الغيار وَإِظْهَار معتقدهم فِي الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي الله تَعَالَى بانه ثَالِث ثَلَاثَة وَمَا يضاهيه مِمَّا لَا ضَرَر على الْمُسلمين فِيهِ فَلَا ينْتَقض بِهِ الْعَهْد بل نعزرهم وَلَو شَرط الإِمَام انْتِقَاض الْعَهْد بذلك قَالَ الْأَصْحَاب يحمل على التخويف شَرطه وَلَا ينْتَقض بِهِ
الرُّتْبَة الثَّالِثَة وَهِي أغلظها الْقِتَال وَمنع الْجِزْيَة وَالْأَحْكَام وَالْمَشْهُور أَن الْعَهْد

(7/84)


ينْتَقض بِهَذِهِ الثَّلَاث وَهُوَ ظَاهر فِي الْقِتَال
أما منع الْجِزْيَة فَلَا يبعد أَن يَجْعَل كمنع الدُّيُون فتستوفى قهرا وَلَا يبعد من حَيْثُ إِنَّه ركن الْأمان فَكَأَن مَنعه إِسْقَاط أَمَانه بِخِلَاف سَائِر الدُّيُون وَيحْتَمل أَن يكون مُرَاد الْأَصْحَاب مِنْهُ أَن يكون الْمَنْع بالتغلب فَيُؤَدِّي إِلَى الْقِتَال
وَأما منع الحكم فَلَا يَنْبَغِي أَن ينْقض إِن كَانَ بالهرب فَإِن كَانَ بتمرد حملناه عَلَيْهِ وَإِن أدّى إِلَى الْقِتَال انْتقض عَهده وعَلى الْجُمْلَة لَا يظْهر انْتِقَاض الْعَهْد إِلَّا بِالْقِتَالِ
الرُّتْبَة الثَّالِثَة مَا هُوَ مَحْظُور وَفِيه على الْمُسلمين ضَرَر كَالزِّنَا بالمسلمة والتطلع على عورات الْمُسلمين أَو افتتان الْمُسلم عَن دينه فَفِي هَذِه الثَّلَاثَة ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَنه ينْقض الْعَهْد كالقتال وَالثَّانِي لَا ينْقض بل يعاقبون عَلَيْهَا كإظهار الْخمر

(7/85)


وَالثَّالِث أَنه إِذا جرى شَرط الإنتقاض انْتقض وَإِلَّا فَلَا
وَأما قطع الطَّرِيق وَالْقَتْل الْمُوجب للْقصَاص فَمنهمْ من قَالَ هُوَ من هَذَا الْقسم وَمِنْهُم من قطع بإلحاقه بِالْقِتَالِ وَكَذَلِكَ فِي تعرضهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالسوء طَرِيقَانِ وَمِنْهُم من قَالَ كالقتال وَمِنْهُم من قَالَ على الْأَوْجه الثَّلَاثَة
أما إِذا كَانَ الطعْن على وفْق اعْتِقَادهم كَقَوْلِهِم إِنَّه لي رَسُول الله وَالْقُرْآن لَيْسَ بمنزل فَهَذَا كَقَوْلِهِم إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَإِنَّمَا الْخلاف فِي السب والطعن فِي النّسَب وَمَا لَا يُوَافق عقيدتهم فَإِن قيل وَمَا حكم انْتِقَاض الْعَهْد قُلْنَا أما فِي الْقِتَال فَحكمه الإغتيال وَأما فِي الرُّتْبَة الثَّالِثَة فَقَوْلَانِ أَحدهمَا الإغتيال وَصَارَ الْعَهْد كَالْمَعْدُومِ
وَالثَّانِي أَنا نلحقهم بالمأمن وَلَا اغتيال
وَلَو نبذ الذِّمِّيّ عَهده إِلَيْنَا من غير جِنَايَة فَالصَّحِيح أَنه يلْحق بالمأمن وَقيل يخرج على الْقَوْلَيْنِ إِذا كَانَ يقدر على الْخُرُوج من غير

(7/86)


مجاهرة بنبذ الْعَهْد
فَإِن قيل فالمسلم إِن طول لِسَانه فِي الرَّسُول فَمَا حكمه قُلْنَا إِن كذب عَلَيْهِ عذر وَإِن كذبه فَهُوَ مُرْتَد فَيقْتل إِلَّا أَن يَتُوب وَكَذَلِكَ كل تعرض فِيهِ استهزاء فَهُوَ ردة وَلَو نسبه إِلَى الزِّنَا فَهَذَا الْقَذْف كفر بالإتفاق فَلَو تَابَ فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه أَحدهمَا وَهُوَ اخْتِيَار الْفَارِسِي أَنه يقتل إِذْ حد قذف الرَّسُول قتل فَلَا يسْقط الْحَد بِالتَّوْبَةِ وَفِي الْخَبَر من سبّ نَبيا فَاقْتُلُوهُ وَمن سبّ أَصْحَابه فاجلدوه وَالثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَار الْقفال والأستاذ أبي إِسْحَاق أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَن الْقَتْل صَار مغمورا فِي الْكفْر فَيسْقط أَثَره بِالْإِسْلَامِ وَالثَّالِث وَهُوَ الَّذِي ذكره الصيدلاني رَحمَه الله أَنه يسْقط الْقَتْل وَتبقى ثَمَانُون جلدَة للحد وَهَذَا يلْزمه أَن يجلد قبل الْقَتْل إِذا لم يتب كالمرتد إِذا قذف والإلتفات إِلَى هَذَا الْقيَاس الجروي فِي مثل هَذَا الْمقَام بعيد

(7/87)


ثمَّ إِن قُلْنَا ثَبت حد الْقَذْف فَلَو عَفا وَاحِد من بني أَعْمَامه يَنْبَغِي أَن يسْقط أَو نقُول هم لَا ينحصرون فَهُوَ كقذف ميت لَا وَارِث لَهُ وَكَذَلِكَ فِي قتل مثله قَولَانِ أَحدهمَا أَنه لَا قصاص إِذْ فِي الْمُسلمين صبيان وَلِأَنَّهُ إِن وَجب على الإِمَام الإستيفاء ضاهى الْحَد وَبَطل خاصية الْقصاص وَإِن جَازَ لَهُ الْعَفو فَهُوَ بعيد وَالثَّانِي أَنه يجب إِذْ يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال عصمَة من لَا وَارِث لَهُ فينقدح أَيْضا الْقَوْلَانِ فِي قذف من لَا وَارِث لَهُ

(7/88)


العقد الثَّانِي مَعَ الْكفَّار المهادنة
وَالنَّظَر فِي شُرُوطه وَأَحْكَامه أما الشُّرُوط فَأَرْبَعَة
الأول أَن هَذَا العقد لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الإِمَام لِأَنَّهُ يرجع حَاصله إِلَى صلح جمع من الْكفَّار على ترك قِتَالهمْ والكف عَنْهُم من غير مَال نعم لآحاد الْوُلَاة عقد ذَلِك مَعَ أهل الْقرى والأطراف الْمُتَعَلّقَة بهم فَأَما مهادنة إقليم كالهند وَالروم فَلَيْسَ إِلَّا للْإِمَام
الشَّرْط الثَّانِي أَن يكون للْمُسلمين إِلَى ذَلِك حَاجَة فَإِن لم تكن حَاجَة وَلَا مضرَّة وطلبوا ذَلِك لم يجب على الإِمَام الْإِجَابَة على الصَّحِيح بل يتبع الْأَصْلَح وَفِيه وَجه مخرج أَنه تجب الْإِجَابَة وَفِي الْجِزْيَة وَجه مخرج من المهادنة أَنه لَا تجب الْإِجَابَة والوجهان ضعيفان وَالصَّحِيح الْفرق فَإِن عقد الذِّمَّة كف بِمَال وَهَذِه مُسَامَحَة
الشَّرْط الثَّالِث أَن يَخْلُو العقد عَن شَرط يأباه الْمُسلم كَمَا لَو شَرط أَن يتْرك فِي أَيْديهم مَال مُسلم أَو شَرط أَن يرد عَلَيْهِم أَسِيرًا مُسلما أفلت مِنْهُم أَو شَرط لَهُم على الْمُسلمين مَالا فَكل ذَلِك فَاسد مُفسد نعم لَو كَانَ على الْمُسلمين خوف جَازَ الْتِزَام مَال لدفع الشَّرّ كَمَا يجوز فدَاء الْأَسير الْمُسلم إِذا عجزنا عَن انْتِزَاعه مجَّانا
الشَّرْط الرَّابِع الْمدَّة وَهُوَ يتَقَدَّر بأَرْبعَة أشهر إِن لم يكن بِالْمُسْلِمين ضعف وَهُوَ مُدَّة السياحة قَالَ الله تَعَالَى {فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر}

(7/89)


وَلَا يجوزو أَن تبلغ سنة وَهَذِه الْمدَّة للجزية لِأَن الْكَفّ سنة إِنَّمَا جَازَ بعوض أما فِيمَا دون السّنة وَفَوق أَرْبَعَة أشهر فَقَوْلَانِ أَحدهمَا الْجَوَاز للقصور عَن مُدَّة الْجِزْيَة وَهَذَا يستمد من قَوْلنَا إِن طلب قسط من الْجِزْيَة فِي بعض السّنة لَا يجوز وَالثَّانِي الْمَنْع للزِّيَادَة على مُدَّة التسييح أما إِذا كَانَ بِالْمُسْلِمين ضعف وَخَوف جَازَت المهادنة عشر سِنِين هادن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل مَكَّة عشر سِنِين وَلَا مزِيد عَلَيْهِ وَفِيه وَجه أَنه تجوز الزِّيَادَة بِالْمَصْلَحَةِ

(7/90)


فرع
لَو أطلق الإِمَام المهادنة وَلم يذكر الْمدَّة فَالصَّحِيح أَنَّهَا فَاسِدَة وَقَالَ الفوراني فِي حَال الْقُوَّة وَجْهَان أَحدهمَا أَنه ينزل على الْأَقَل وَالثَّانِي على الْأَكْثَر وَهُوَ مَا يُقَارب السّنة
وَإِن كَانَ فِي حَالَة الضعْف فَينزل على عشر سِنِين إِذْ لَا يتَقَدَّر أَقَله وَسَببه أَن مُقْتَضى الْمُطلق التَّأْبِيد فنحذف مَا يزِيد على الْمدَّة الشَّرْعِيَّة
وَلَو صرح بِالزِّيَادَةِ على الْمدَّة فَالزِّيَادَة مَرْدُودَة وَفِي صِحَّتهَا فِي الْمدَّة قولا تَفْرِيق الصَّفْقَة وأصحهما الصِّحَّة إِذْ لَيْسَ فِيهَا عوض تحدد جهالته
ثمَّ حكم الْفَاسِد أَن ننذرهم وَلَا نغتالهم وَحكم الصَّحِيح وجوب الْكَفّ عَنْهُم إِلَى انْقِضَاء الْمدَّة أَو إِلَى جِنَايَة تصدر مِنْهُم تنَاقض الْعَهْد فنغتالهم إِن علمُوا أَنَّهَا جِنَايَة وَإِن لم يعلمُوا فَفِي اغتيالهم من غير إنذار وَجْهَان
وَلَو بنينَا تَطْوِيل الْمدَّة على خوف لم ترْتَفع بِزَوَال الْخَوْف بل لَا بُد من الْوَفَاء
وَلَو استشعر الإِمَام جِنَايَة فَلهُ أَن ينْبذ إِلَيْهِم عَهدهم بالتهمة وَذَلِكَ لَا يجوز فِي الْجِزْيَة نعم لَا يبتدىء عقد الْجِزْيَة مَعَ التُّهْمَة

(7/91)


النّظر الثَّانِي فِي أَحْكَام العقد

وَحكمه الْوَفَاء بِالشّرطِ والمعتاد فِي الشَّرْط أَن يَقُول صالحناكم على أَن من جَاءَكُم من الْمُسلمين رددتموه وَمن جَاءَنَا مِنْكُم رددناه وَلَا يجوز شَرط رد الْمَرْأَة إِذا جَاءَت مسلمة وَيجوز رد الرجل الْمُسلم وَالْمَرْأَة الْكَافِرَة وَلما هادن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُهَيْل بن عَمْرو وعيينة بن حصن قَالَ من جَاءَكُم منا فسحقا سحقا وَمن جَاءَنَا مِنْكُم رددناه ثمَّ جَاءَ أَبُو جندل بن سُهَيْل مُسلما فَرده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَبِيه فولى باكيا فَقَالَ إِن الله تَعَالَى يَجْعَل لَك مخلصا فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِن دم الْكَافِر عِنْد الله كَدم الْكَلْب كالتعريض لَهُ بقتل أَبِيه ثمَّ جَاءَ أَبُو بَصِير مُسلما وَجَاء فِي طلبه

(7/92)


رجلَانِ فَرده عَلَيْهِمَا فَقتل أَحدهمَا وأفلت الآخر قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مسعر حَرْب لَو وجد أعوانا كالتعريض لَهُ بالإمتناع وَهَذَا يدل على أَن الرُّجُوع غير وَاجِب عَلَيْهِ إِذْ لم يجر الشَّرْط مَعَه وَإِنَّمَا الرَّد يجب علينا فَجَاز تَعْرِيفه بالتعريض دون التَّصْرِيح وَلِأَن أَبَا بَصِير رَجَعَ مَعَ أحد الرجلَيْن وَقتل الآخر فَلم يُنكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحْتَمل أَن يُقَال للَّذي أسلم بَينهم أَن يقتلهُمْ إِن قدر إِذْ لم يجر الشَّرْط مَعَه وَيدل عَلَيْهِ تَعْرِيض عمر رَضِي الله عَنهُ وَيحْتَمل أَن يُقَال لَا يجوز إِذْ شَرط الْإِسْلَام يتَنَاوَلهُ وَكَذَلِكَ إِذا اسْتَقر فِي دَارنَا لزمَه الْكَفّ عَنْهُم وعَلى هَذَا هَل يحمل

(7/93)


تَعْرِيض عمر رَضِي الله عَنهُ على تصلب وَلَكِن ترك الْإِنْكَار من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يبْقى لَهُ وَجه إِلَّا أَن يُقَال إِن الرُّجُوع غير وَاجِب فَيجوز الْقَتْل فِي دفع من يكلفه الرُّجُوع
ثمَّ نزل قَوْله تَعَالَى {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} فَاخْتلف فِي أَن النسْوَة هَل كن مندرجات تَحت قَوْله من جَاءَنَا مِنْكُم رددناه فوردت الْآيَة ناسخة أَو وَردت الْآيَة مخصصة للْعُمُوم الظَّاهِر وعَلى هَذَا ترددوا فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام عرف الْخُصُوص فأوهم الْعُمُوم أَو ظَنّه عَاما حَتَّى تبين لَهُ
وَقد أفادت الْآيَة منع ردهَا وَوُجُوب صَدَاقهَا وَاخْتلف قَول الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي عِلّة وجوب الصَدَاق عَلَيْهِ فَقَالَ فِي قَول لَا يجب لِأَنَّهُ الْتزم ردهن ثمَّ نسخ فَخَالف فغرم وعَلى هَذَا يقْتَصر الْغرم عَلَيْهِ وَلَا يلْزمنَا فَإنَّا لَا نلتزم رد الْمسلمَة وَلَو التزمنا فسد الشَّرْط وَهل تفْسد المهادنة بِالشّرطِ الْفَاسِد أم تلغى فِيهِ تردد كترددنا فِي الْوَقْف أَنه هَل يفْسد بِالشّرطِ الْفَاسِد
وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه وَجب لِأَنَّهُ أوهم بِالْعُمُومِ ردهَا فعلى هَذَا إِن عممنا وأوهمنا لم نردها وغرمنا وَإِن اطلقنا العقد أَو صرحنا بِأَنَّهَا لَا ترد فَلَا غرم

(7/94)


وَمِنْهُم من أوجب الْغرم فِي المهادنة الْمُطلقَة وَقَالَ إِطْلَاقهَا أَيْضا موهوم ويتشعب عَن التَّفْرِيع على إِيجَاب الْغرم النّظر فِي سَبَب الْغرم ومصرفه وَقدره
أما السَّبَب فَهُوَ الْمَنْع عَن الزَّوْج بعلة الْإِسْلَام واحترزنا بِالْمَنْعِ عَمَّا إِذا جَاءَت وَلم تطلب إِذْ لَا يجب الرَّد فَلَا غرم وَكَذَلِكَ كل كَافِر وكافرة لَا طَالب لَهُ وَمن لَهُ طَالب فَلَيْسَ علينا الرَّد لَكنا لَا نمْنَع من يسترجعه وَقَوْلنَا من الزَّوْج احترزنا بِهِ عَمَّا لَو طلبَهَا أَبوهَا أَو أقاربها فَلَا نرد وَلَا نغرم لِأَن الزَّوْج هُوَ الْمُسْتَحق
وَقَوْلنَا بعلة الْإِسْلَام أردنَا بِهِ أَنَّهَا لَو مَاتَت أَو قتلت قبل الطّلب فَلَا غرم إِذْ لَا منع أما إِذا قتلت بعد الطّلب وَجب الْقصاص على الْقَاتِل مَعَ الصَدَاق وَيحْتَمل عِنْدِي أَن يُقَال الْغرم على بَيت المَال لِأَن الْمَنْع حَال الطّلب وَاجِب شرعا وَالْقَتْل وَاقع بِهِ اسْتِحْقَاق الْمَنْع فَلم نفوت ردا مُمكنا بل ردا مُمْتَنعا شرعا وَلَو غرمنا فَأسلم الزَّوْج قبل انْقِضَاء الْعدة استرددنا إِذْ النِّكَاح يبْقى وَإِن أسلم بعد انْقِضَاء الْعدة لم نسترد وَلَو طَلقهَا ثمَّ أسلمت وَهِي مَنْكُوحَة رَجْعِيَّة قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لَا نغرم إِن لم يُرَاجع لِأَن الْفِرَاق بِالطَّلَاق وَفِيه قَول مخرج وَهُوَ

(7/95)


الأقيس أَنه يسْتَحق الْغرم لِأَن الرَّجْعِيَّة مَنْكُوحَة وَإِن لم يُرَاجِعهَا فَلَا معنى لرجعته مَعَ إسْلَامهَا
أما المَال فَهُوَ الْقدر الَّذِي بذله الزَّوْج قَالَ الله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا} فَإِن كَانَ قد سلم بعض الصَدَاق لم يسْتَحق إِلَّا ذَاك وَإِن لم يسلم شَيْئا أَو سلم خمرًا أَو خنزيرا لم يسْتَحق شَيْئا وَإِن أخذت ووهبت مِنْهُ فَقَوْلَانِ كَمَا فِي التشطير بِالطَّلَاق وَلَو أسلمت قبل قبض الصَدَاق وَبعد الْمَسِيس ثمَّ أسلم الزَّوْج بعد الْعدة أَو قبل الْجِزْيَة فلهَا مُطَالبَته بِالْمهْرِ لأجل الْمَسِيس إِذْ الظَّاهِر صِحَة أنكحتهم فَإِذا غرم لَهَا فَهَل نغرم لَهُ مَا غرم فِيهِ تردد من حَيْثُ إِنَّه حَيْثُ كَانَ أَهلا للطلب لم يكن قد بذل شَيْئا
ثمَّ لَا نقبل مُجَرّد قَوْله سلمت الصَدَاق فَإِن أقرَّت فَلَا بُد من التَّصْدِيق إِذْ تعسر إِقَامَة الْحجَّة
وَأما المغروم فِيهِ فَهُوَ الْبضْع والمالية فِي الرقيقة وَلَو دخلت كَافِرَة ثمَّ أسلمت فَالْأَصَحّ وجوب الْغرم كَمَا لَو أسلمت ثمَّ دخلت وَلَو دخلت مسلمة ثمَّ ارْتَدَّت فَلَا نردها لعلقة الْإِسْلَام وَفِي وجوب الْغرم وَجْهَان إِذْ لَا قيمَة لبضعها وَالأَصَح الْوُجُوب فَإِن دخلت مَجْنُونَة لم نرد لاحْتِمَال أَنَّهَا أسلمت قبل الْجُنُون وَلَا نغرم لاحْتِمَال أَنَّهَا لم تسلم فنأخذ بِالْيَقِينِ فِي الطَّرفَيْنِ
والصبية إِذا أسلمة وَقُلْنَا يَصح إسْلَامهَا فكالبالغة وَإِن لم نصحح فَلَا نرد لحُرْمَة الْإِسْلَام لأَنا نحول بَين الصَّبِي الْمُسلم وَبَين أَبَوَيْهِ وَإِن منعناها فَالصَّحِيح الْغرم وَقيل إِنَّهَا كالمجنونة وَقيل إِنَّهَا ترد وَهُوَ ضَعِيف

(7/96)


والرقيقة يمْتَنع ردهَا وَتجب قيمتهَا لسَيِّدهَا لَا مَا بذل من الثّمن لِأَن المَال تقويمه سهل وَإِنَّمَا الْعُدُول إِلَى مَا أنْفق فِي الصَدَاق بِنَصّ الْقُرْآن فِيمَا يعسر تقويمه
وَلَو جَاءَ غير سَيِّدهَا طَالبا لم يلْتَفت إِلَيْهِ إِلَّا إِذا كَانَت مُزَوّجَة فَإِن جَاءَ السَّيِّد وَالزَّوْج مَعًا غرمنا للسَّيِّد الْقيمَة وَللزَّوْج مَا بذل وَإِن جَاءَ احدهما فَثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَنه لَا يلْزم شَيْء إِذْ لَيْسَ لأَحَدهمَا حق الإنفراد وَالثَّانِي يجب أَدَاء حَقه وَحده وَالثَّالِث أَن السَّيِّد مُسْتَحقّ الرَّد فنغرم لَهُ وَالزَّوْج وَحده لَا يتسحق الرَّد وَالْغُرْم تبع الرَّد
وَإِن جاءتنا زَوْجَة عبد فَحق الْبضْع للْعَبد وَالسَّيِّد هُوَ باذل الْمهْر فَلَا يلْزمنَا شَيْء إِلَّا إِذا حضرا فَإِن حضر أَحدهمَا لم نغرم شَيْئا
وَأما العَبْد فَفِي وجوب رده وَجْهَان وَوجه الْمَنْع أَنه يستضعف ويهان إِذْ لَا نَاصِر لَهُ وَفِي الْحر الَّذِي لَا عشيرة لَهُ وَجْهَان مرتبان وَأولى بِأَن يرد لظُهُور الْعُمُوم فِي حَقه فَإِن قُلْنَا يرد فليشترط فِي أصل المهادنة أَن من رد مُسلما لَا يستهان بِهِ إِن احتملوا ذَلِك وَإِن قُلْنَا لَا نرد العَبْد فنغرم قِيمَته
فرع إِن قُلْنَا فِي المهادنة من جَاءَكُم منا فسحقا سحقا فالتحق بهم مُرْتَد فسحقا

(7/97)


وَإِن كَانَت مرتدة استرددناها فَإِن تعذر غرمنا لزَوجهَا الْمُسلم مَا أنْفق لقَوْله تَعَالَى {وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا} وكأنا بالمهادنة أحلنا بَينه وَبَين زَوجته الْمُرْتَدَّة إِذْ لأجل المهادنة والأمن رغبت فِي الإلتحاق بهم
ثمَّ جَمِيع الْكفَّار كشخص وَاحِد فَلَو جاءتنا مسلمة سلمنَا مهرهَا إِلَى زوج الْمُرْتَدَّة إِن تَسَاويا وَإِن زَاد مهر الْمسلمَة سلمنَا الزِّيَادَة إِلَى زَوجهَا الْكَافِر وَقُلْنَا وَاحِدَة بِوَاحِدَة وَكَأن جُمْلَتهمْ كشخص وَاحِد فيؤاخذ الْوَاحِد بِحكم الْجُمْلَة وَالله أعلم صلوَات الله عَلَيْهِم كرم الله وَجهه الله تبَارك وَتَعَالَى الرب عز وَجل

(7/98)