الوسيط في المذهب

= كتاب الْأَيْمَان =
وَالنَّظَر فِي الْيَمين وَالْكَفَّارَة والحنث فنعقد فِي كل وَاحِد بَابا

(7/201)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الأول فِي الْيَمين وَفِيه فصلان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْفَصْل الأول فِي الصَّرِيح وَالْكِنَايَة

وَالْيَمِين عبارَة عَن تَحْقِيق مَا يحْتَمل الْمُخَالفَة بِذكر اسْم الله تَعَالَى أَو بِصفة من صِفَاته مَاضِيا كَانَ أَو مُسْتَقْبلا لَا فِي معرض اللَّغْو والمناشدة
وأشرنا بالماضي إِلَى يَمِين الْغمُوس فَإِنَّهَا توجب الْكَفَّارَة عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله

(7/203)


وأشرنا بِاللَّغْوِ إِلَى قَول الْعَرَب لَا وَالله وبلى وَالله فِي معرض المحاورة من غير قصد إِلَى التَّحْقِيق فَلذَلِك لَا يُوجب الْكَفَّارَة وَهُوَ لَغْو إِلَّا فِي الطَّلَاق وَالْعتاق فَإِن الْعَادة مَا جرت بِاللَّغْوِ فِيهِ وَإِنَّمَا يخرج عَن كَونه لَغوا بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّة على قصد التَّحْقِيق
وَأما المناشدة فَهُوَ أَن يَقُول أقسم بِاللَّه عَلَيْك لتفعلن فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد لَا عَلَيْهِ وَلَا على الْمُخَاطب إِلَّا أَن يقْصد العقد على نَفسه فَيصير حَالفا فَيحنث بمخالفة الْمُخَاطب
وَأما قَوْلنَا بِاللَّه أَو بصفاته احترزنا بِهِ عَن قَوْله وَحقّ الْكَعْبَة وَالنَّبِيّ وقبره وشعره وَجِبْرِيل وَالْمَلَائِكَة فاليمين بِهِ وَبِكُل مَخْلُوق لَا يُوجب الْكَفَّارَة قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حلف فليحلف بِاللَّه وَإِلَّا فليصمت

(7/204)


وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فَأَنا يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ أَو بَرِيء من الله لم تلْزمهُ الْكَفَّارَة خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله وَإِنَّمَا يسْتَثْنى عَن هَذَا الأَصْل يَمِين اللجاج وَالْغَضَب على قَول ثمَّ الْيَمين يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ صَرِيح وكناية بِالْإِضَافَة إِلَى أَسمَاء الله تَعَالَى وَهِي على أَربع مَرَاتِب
الْمرتبَة الأولى أَن يذكر اسْما لَا يُطلق إِلَّا على الله تَعَالَى فِي معرض التَّعْظِيم كَقَوْلِه بِاللَّه وبالرحمن والرحيم وبالخالق والرازق فَهَذَا صَرِيح وَإِن لم ينْو فَإِن قَالَ أردْت بِاللَّه أَي وثقت بِاللَّه ثمَّ ابتدأت لَأَفْعَلَنَّ فَهَذَا لَا يقبل ظَاهرا فِي الْإِيلَاء

(7/205)


وَغَيره وَهل يدين بَاطِنا فِيهِ وَجْهَان
الْمرتبَة الثَّانِيَة أَن يذكر اسْما مُشْتَركا يُطلق على الله وعَلى غَيره كالعليم والحكيم والرحيم والجبار وَالْحق وَأَمْثَاله فَهُوَ كِنَايَة وَإِنَّمَا يصير يَمِينا بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّة وَكَذَلِكَ قَوْله وَحقّ الله إِذْ قد يُرَاد بِهِ حُقُوقه من الْعِبَادَات وَقد يُرَاد اسْتِحْقَاقه للإلهية
الْمرتبَة الثَّالِثَة أَن يحلف بِالصِّفَاتِ كَقَوْلِه بقدرة الله وَعلمه وَكَلَامه فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَنه كَقَوْلِه بِاللَّه فَلَا يقبل فِيهِ التورية وَالثَّانِي أَنه كِنَايَة

(7/206)


وَالثَّالِث أَنه يدين بَاطِنا وَفِي قبُوله ظَاهرا وَجْهَان إِذْ قد يُرَاد بِالْقُدْرَةِ الْمَقْدُور وبالعلم الْمَعْلُوم فَيَقُول رَأَيْت قدرَة الله أَي آثَار صنعه وَلَو قَالَ وجلال الله وعظمته وكبريائه فَفِيهِ طَرِيقَانِ أَحدهمَا أَنه كالحلف بِاللَّه وَالثَّانِي أَنه كالحلف بِالْقُدْرَةِ إِذْ قد يَقُول رَأَيْت جلال الله وَيُرِيد آثَار صنعه وَقَوله وَحُرْمَة الله قيل إِنَّه كَقَوْلِه وَحقّ الله وَقيل إِنَّه كالصفات وَقَوله لعمر الله قيل إِنَّه حلف بِبَقَاء الله فَهُوَ كالصفات وَقيل إِنَّه كِنَايَة

(7/207)


الْمرتبَة الرَّابِعَة مَا لَا يصير يَمِينا وَإِن نوى وَهُوَ مَا لَا تَعْظِيم فِيهِ كَقَوْلِه وَالشَّيْء الْمَوْجُود والمرئي وَأَرَادَ بِهِ الله تَعَالَى فَلَيْسَ بِيَمِين وَإِن نوى إِذْ لم يذكر اسْما مُعظما وَذكر اسْم مُعظم لَا بُد مِنْهُ وَلَو قَالَ بله وَقصد التلبيس فَلَيْسَ بحالف وَكَذَلِكَ إِن لم يقْصد فَإِن البلة من الرُّطُوبَة إِلَّا إِذا نوى الْيَمين فَيحمل حذف الْألف على لحن قد تجْرِي بِهِ الْعَادة عِنْد الْوَقْف هَذَا فِي انقسام الْيَمين بِذكر اسْم الله تَعَالَى وينقسم أَيْضا بِذكر الصلات وَهِي على دَرَجَات فَإِنَّهَا تَنْقَسِم إِلَى حُرُوف وكلمات
أما الْكَلِمَات فَقَوله أَقْسَمت بِاللَّه أَو أقسم بِاللَّه أَو حَلَفت بِاللَّه أَو أَحْلف فَهَذَا يحْتَمل الْإِخْبَار والوعد فَإِن نوى الْيَمين فَهُوَ يَمِين وَإِن قصد الْوَعْد والإخبار فَلَا وَإِن أطلق فَوَجْهَانِ أَحدهمَا أَنه لَيْسَ بِيَمِين لتردد اللَّفْظ وَالثَّانِي أَنه يَمِين للْعَادَة
الدرجَة الثَّانِيَة مَا هُوَ كِنَايَة قطعا كَقَوْلِه وعهد الله وَعلي عهد الله أَو نذرت بِاللَّه أما قَوْله أزخداي تَعَالَى بديرفتم قيل إِنَّه كِنَايَة وَقيل هُوَ كَقَوْلِه حَلَفت بِاللَّه

(7/208)


الدرجَة الثَّالِثَة وَهُوَ بَين المرتبتين قَوْله أشهد بِاللَّه مِنْهُم من قَالَ إِنَّه كِنَايَة قطعا وَقَالَ المراوزة هُوَ كَقَوْلِه أقسم بِاللَّه وَقَالَ صَاحب التَّقْرِيب لَو قَالَ الْملَاعن فِي لِعَانه أشهد بِاللَّه كَاذِبًا فَفِي لُزُوم الْكَفَّارَة وَجْهَان وَهَذَا جَار وَإِن قصد الْيَمين لِأَن اللّعان صرف الْيَمين إِلَى اقْتِضَاء الْفِرَاق فَيحْتَمل خلافًا فِي الْكَفَّارَة فِيهِ كَمَا فِي الْإِيلَاء

(7/209)


الدرجَة الرَّابِعَة أَن يَقُول وَايْم الله الظَّاهِر أَنه كَقَوْلِه أَحْلف بِاللَّه وَقيل إِنَّه كَقَوْلِه بِاللَّه فَإِنَّهُ صَرِيح فِيمَا بَين الْعَرَب وَأَصله أَيمن الله والأيمن جمع الْيَمين
أما الْحُرُوف فَهِيَ الْبَاء وَالتَّاء وَالْوَاو وَالْفَاء
وَقَوله وَالله وتالله كقلوه بِاللَّه وَنقل نَص عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن تالله لَيْسَ بِيَمِين فَقيل هُوَ كَقَوْلِه أقسم بِاللَّه وَالصَّحِيح أَنه يَمِين قطعا وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ مَا إِذا قَالَ القَاضِي فِي الْقسَامَة قل بِاللَّه فَقَالَ تالله لم يكن يَمِينا للمخالفة
أما قَوْله يَا الله فَلَيْسَ بِيَمِين وَلَو قَالَ الله لَأَفْعَلَنَّ لم يكن يَمِينا إِلَّا أَن يَنْوِي وَلَو قَالَ الله لَأَفْعَلَنَّ بالخفض كَانَ يَمِينا وَلَو لم ينْو

(7/210)


الْفَصْل الثَّانِي فِي يَمِين الْغَضَب واللجاج

فَإِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار فَللَّه عَليّ صَوْم أَو حج أَو صَدَقَة أَو ذكر عبَادَة تلتزم بِالنذرِ فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا أَنه يلْزمه الْوَفَاء كَمَا لَو قَالَ إِن شفى الله مريضي فَللَّه عَليّ صَوْم أَو علقه بِدفع بلية أَو حُصُول نعْمَة وَالثَّانِي أَنه يلْزمه كَفَّارَة يَمِين لِأَن هَذَا يقْصد للْمَنْع بِخِلَاف نذر التبرر فَإِنَّهُ يذكر للتقرب وَالثَّالِث أَن يتَخَيَّر بَين الْوَفَاء وَالْكَفَّارَة لتردد اللَّفْظ بَين الْمَعْنيين

التَّفْرِيع
إِن قُلْنَا يلْزمه الْكَفَّارَة فَإِنَّمَا يكون فِيمَا لَيْسَ بِنِعْمَة كَقَوْلِه إِن دخلت نيسابور أَو شربت أَو زَنَيْت وَلَو قَالَ إِن دخلت مَكَّة أَو لم أشْرب

(7/211)


أَو صليت فَهَذَا مُحْتَمل للوجهين فَيرجع إِلَى قَصده أما إِذا علقه بمباح لَا على قصد الْمَنْع بل لِحِرْصِهِ على ذَلِك الشَّيْء كَقَوْلِه إِن لم آكل أَي انْكَسَرت شهوتي بِتَوْفِيق الله أَو دخلت نيسابور أَي إِن بقيت إِلَى ذَلِك الْوَقْت فَهَذَا فِيهِ تردد فَمنهمْ من منع التبرر فِي الْمُبَاحَات

فروع

الأول إِذا قَالَ إِن فعلت كَذَا فعلي نذر نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين وَهُوَ تَفْرِيع على قَول الْكَفَّارَة وَإِن فرعنا على الْوَفَاء فَيَنْبَغِي أَن تجب هَاهُنَا عبَادَة مَا وَإِلَيْهِ التَّعْيِين وَله تعْيين كل مَا يتَصَوَّر الْتِزَامه بِالنذرِ وَإِن قَالَ
إِن فعلت فعلي يَمِين فَهُوَ لَغْو إِذْ لم يَأْتِ بِمَا يشْعر بِعبَادة وَلَا بِصِيغَة الْحلف وَقيل عَلَيْهِ مَا على الْحَالِف
الثَّانِي لَو قَالَ مَالِي صَدَقَة أَو فِي سَبِيل الله قَالَ القَاضِي هُوَ لَغْو لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِصِيغَة الإلتزام وَفِيه وَجْهَان آخرَانِ أَحدهمَا أَن ذَلِك كَقَوْلِه عَليّ صَدَقَة وَالثَّانِي أَنه يتَعَيَّن مَاله للصدقة كَقَوْلِه جعلت هَذِه الشَّاة ضحية وَهُوَ

(7/212)


بعيد وعَلى الْوُجُوه الثَّلَاثَة يخرج مَا لَو قَالَ إِن دخلت الدَّار فَمَالِي صَدَقَة هَذَا بَيَان الْيَمين الْمُوجبَة وكل ذَلِك إِذا لم يعقبه الإستثناء فَلَو قَالَ بعد الْيَمين إِن شَاءَ الله لم يلْزمه شَيْء كَمَا ذكرنَا فِي الطَّلَاق

(7/213)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّانِي فِي الْكَفَّارَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّظَر فِي السَّبَب والكيفية والملتزم
النّظر الأول فِي سَبَب الْوُجُوب وَهُوَ الْيَمين عندنَا دون الْحِنْث لَكِن الْيَمين يُوجب عِنْد الْحِنْث كَمَا يُوجب ملك النّصاب عِنْد آخر الْحول لِأَن الْحِنْث لَا يحرم بِالْيَمِينِ بل يبْقى تَحْرِيمه وإباحته كَمَا كَانَ نعم فِي الأولى ثَلَاثَة أوجه إِذا عقد على مُبَاح أَحدهَا أَن الأولى الْبر لتعظيم الْيَمين وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ الأولى الْحِنْث لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} الْآيَة وَالثَّالِث أَنه يبْقى كَمَا كَانَ
وَأما أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُ قضى بِتَحْرِيم الْحِنْث عَلَيْهِ وَبنى عَلَيْهِ أَن يَمِين الْغمُوس لَا ينْعَقد إِذْ الْمَاضِي لَا يُمكن تَحْرِيمه وَقضى بِأَنَّهُ لَو قَالَ حرمت هَذَا الطَّعَام لَزِمته الْكَفَّارَة

(7/214)


وَعِنْدنَا لَا يلْزم إِلَّا فِي تَحْرِيم الْبضْع وَفِيه وَردت الْآيَة وَقضى بِلُزُوم الْيَمين فِي قَوْله إِن فعلت كَذَا فَأَنا يَهُودِيّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي معنى التَّحْرِيم وَقَالَ لَا ينْعَقد يَمِين الْكَافِر إِذْ لَيْسَ مأخوذا بِتَحْرِيم شرعنا وَقَالَ لَا تقدم الْكَفَّارَة على الْحِنْث وَإِن قدم الزَّكَاة على الْحول وَمَالك رَحمَه الله يجوز تَعْجِيل الْكَفَّارَة دون تَعْجِيل الزَّكَاة وَعِنْدنَا يجوز تعجيلهما إِلَّا إِذا حلف على مَحْظُور فَفِي جَوَاز تَقْدِيم الْكَفَّارَة وَجْهَان

(7/215)


أَحدهمَا لَا لِأَنَّهُ تمهيد للتوصل إِلَى الْحَرَام وَالثَّانِي وَهُوَ الأقيس أَنه يجوز لِأَن التَّحْرِيم يباين مَأْخَذ الْيَمين

(7/216)


هَذَا فِي الْكَفَّارَة الْمَالِيَّة تَشْبِيها بِالزَّكَاةِ أما بِالصَّوْمِ فَالْمَذْهَب أَنه لَا يقدم لَا سِيمَا فِي الْيَمين وَهُوَ مُرَتّب على الْعَجز وَلَا يتَحَقَّق الْعَجز إِلَّا بعد الْوُجُوب وَفِيه وَجه أَنه يجوز لعُمُوم قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر عَن يَمِينه وليأت الَّذِي هُوَ خير ثمَّ يجْرِي التَّقْدِيم فِي كل كَفَّارَة بعد جَرَيَان سَبَب الْوُجُوب وَكَفَّارَة الْقَتْل

(7/217)


تجْرِي بعد الْجرْح وَقبل الزهوق وَكَفَّارَة الظِّهَار بعد الظِّهَار وَقبل الْعود إِن أمكن وكفارات الْحَج بعد الْإِحْرَام وَقبل ارْتِكَاب الْأَسْبَاب وَفِيه وَجه أَنه لَا يجوز قبل ارْتِكَاب الْمَحْظُور لِأَن الْإِحْرَام لَيْسَ سَببا بل الإرتكاب للمحظور هُوَ السَّبَب
النّظر الثَّانِي فِي الْكَيْفِيَّة وَهَذِه الْكَفَّارَة فِيهَا تَخْيِير وترتيب فَيتَخَيَّر بَين

(7/218)


عتق رَقَبَة وَكِسْوَة عشرَة مَسَاكِين وإطعام عشرَة مَسَاكِين لكل وَاحِد مد فَإِن عجز عَن جَمِيع ذَلِك فصوم ثَلَاثَة أَيَّام مُتَفَرقًا أَو مُتَتَابِعًا وَفِيه قَول قديم أَنه يجب التَّتَابُع حملا للمطلق على الْمُقَيد فِي الظِّهَار وَكَيْفِيَّة الْكَفَّارَة ذَكرنَاهَا فِي الظِّهَار وَإِنَّمَا نذْكر الْآن الْكسْوَة وَالنَّظَر فِي قدرهَا وجنسها وصفتها
أما الْقدر فَلَا يشْتَرط دست ثوب بل يَكْفِي ثوب وَاحِد كجبة أَو قَمِيص أَو رِدَاء أَو سَرَاوِيل أَو عِمَامَة قَصِيرَة ثمَّ لَا يشْتَرط الْمخيط بل يَكْفِي الكرباس وَلَو سلم إِلَى طِفْل يواريه خرقَة كَفاهُ إِذا قبضهَا وليه وَلَو سلم إِلَى كَبِير مَا يستر طفْلا فَالظَّاهِر جَوَازه وَلَا ينظر إِلَى الْآخِذ هَكَذَا قَالَه القَاضِي وَقَالَ غَيره لَا بُد أَن ينظر إِلَى الْآخِذ وَقَالَ مَالك رَحمَه الله الْوَاجِب مَا يستر الْعَوْرَة بِحَيْثُ تصح الصَّلَاة مَعَه وَهُوَ قَول حَكَاهُ الْبُوَيْطِيّ
أما الْجِنْس فيجزىء الْقطن والإبريسم والكتان وَالصُّوف وَفِي الدرْع وَجْهَان

(7/219)


لِأَنَّهُ أَيْضا ملبوس تجب الْفِدْيَة على الْمحرم بِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْخُف والشمشك والقلنسوة وَجْهَان أما النَّعْل فَلَا يجزىء كالمنطقة على وَجه وعَلى وَجه هُوَ كالشمشك وَلم يعْتَبر فِي الثَّوْب غَالب جنس ملبوس أهل الْبَلَد قَالَ القَاضِي وَلَو اعْتبر ذَلِك لم يبعد
أما الصّفة فَيُؤْخَذ الْجَدِيد والخلق والمعيب إِلَّا إِذا صَار بِكَثْرَة الإستعمال منسحقا بِحَيْثُ يتمزق على الْقرب أَو تمزق بالإستعمال ورقع
النّظر الثَّالِث فِيمَن عَلَيْهِ الْكَفَّارَة وَتجب الْكَفَّارَة على كل مُكَلّف حنث حرا كَانَ أَو عبدا مُسلما كَانَ أَو كَافِرًا بَقِي حَيا أَو مَاتَ قبل الْأَدَاء وَالنَّظَر فِي الْمَيِّت وَالْعَبْد
أما الْمَيِّت فَلهُ أَحْوَال
الأولى أَن يكون لَهُ تَرِكَة وَعَلِيهِ كَفَّارَة مرتبَة فعلى الْوَارِث الْإِعْتَاق عَنهُ وَلَا بَأْس بِحُصُول الْوَلَاء لَهُ بِغَيْر إِذْنه وَتثبت هَذِه الْخلَافَة للضَّرُورَة وَإِن كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين فَلهُ أَن يكسو وَيطْعم عَنهُ وَلَا ضَرُورَة فِي تَحْصِيل الْوَلَاء لَهُ فَفِي إِعْتَاقه عَنهُ وَالْكَفَّارَة مخيرة وَجْهَان وَالأَصَح الْجَوَاز
الثَّانِيَة أَن لَا يكون لَهُ تَرِكَة فللوارث أَن يكسو وَيطْعم عَنهُ مُتَبَرعا وَفِي التَّبَرُّع بِالْإِعْتَاقِ عَنهُ وَجْهَان مرتبان على الْكَفَّارَة المتخيرة وَأولى بِالْمَنْعِ إِذْ التَّرِكَة

(7/220)


علقَة مسلطة وتبرع الْأَجْنَبِيّ بِالْعِتْقِ عَنهُ لَا يجوز وَفِي إطعامه وَكسوته وَجْهَان وَفِي عتق الْأَجْنَبِيّ عَنهُ وَجه بعيد أَنه ينفذ كالكسوة وَفِي إطْعَام الْوَارِث وَجه بعيد أَنه لَا يجوز كالإعتاق وهما بعيدان أما الصَّوْم فَفِي صَوْم الْوَلِيّ عَنهُ خلاف

(7/221)


وَالْأَجْنَبِيّ الْمَأْذُون لَهُ فِي الصَّوْم كالولي الَّذِي لَيْسَ بمأذون فِي الصَّوْم وَفِي صَوْم الْأَجْنَبِيّ من غير إِذن خلاف مُرَتّب على الْإِطْعَام وَأولى بِالْمَنْعِ وَإِن قُلْنَا تجْرِي فِيهِ النِّيَابَة فَلَو مرض بِحَيْثُ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ فَفِي الصَّوْم عَنهُ وَهُوَ حَيّ وَجْهَان كشبهه بِالْحَجِّ حَيْثُ تطرقت إِلَيْهِ النِّيَابَة وَلكنه بِالْجُمْلَةِ أبعد عَن النِّيَابَة
الثَّالِثَة إِذا مَاتَ وَله تَركه وَعَلِيهِ دُيُون فَفِي تَقْدِيم حق الله أَو الْآدَمِيّ ثَلَاثَة أَقْوَال ذَكرنَاهَا فِي الزَّكَاة فَإِن قُلْنَا تقدم الدُّيُون فَكَأَنَّهُ لَا تَرِكَة لَهُ وَلَو حجر عَلَيْهِ بالإفلاس قدم الدُّيُون قطعا لِأَن الْكَفَّارَة على التَّرَاخِي
فرع لَو أوصى أَن يعْتق عَن كَفَّارَة يَمِينه عبد وَقِيمَته تزيد على الطَّعَام وَالْكِسْوَة فَفِيهِ وَجها أَحدهمَا أَنه يحْسب من الثُّلُث لِأَن تعْيين الْعتْق تبرع وَالثَّانِي لَا بل هُوَ أحد الْخِصَال الْوَاجِبَة وَقد تعين بتعيينه فَإِن قُلْنَا إِنَّه يحْسب من الثُّلُث فَوَجْهَانِ أَحدهمَا أَن قدر قيمَة الطَّعَام يحْسب من رَأس المَال وَالزَّائِد إِن لم يَفِ الثُّلُث بِهِ عدلنا إِلَى الطَّعَام وَالثَّانِي وَهُوَ ظَاهر النَّص أَن الثُّلُث إِن لم يَفِ بِأَصْل قيمَة العَبْد عدلنا إِلَى الطَّعَام
أما العَبْد فَإِذا حلف فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْم لِأَن الصَّحِيح أَنه لَا يملك بالتمليك وَللسَّيِّد منع الْجَارِيَة عَنهُ للإستمتاع لِأَنَّهُ على التَّرَاخِي وَله مِنْهُ العَبْد الَّذِي يضعف عَن الْخدمَة عَن الصَّوْم وَإِن كَانَ قَوِيا فَلَا وَإِن كَانَ الْحِنْث أَو الْيَمين أَو كِلَاهُمَا

(7/222)


بِإِذن السَّيِّد فَفِيهِ نظر مَا ذَكرْنَاهُ فِي الظِّهَار وَمنعه عَن صَوْم كَفَّارَة الظِّهَار غير مُمكن لِأَن فِيهِ إدامة التَّحْرِيم وإضرارا بِالْعَبدِ
أما إِذا مَاتَ العَبْد فللسيد أَن يكفر عَنهُ بِالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَة وَإِن قُلْنَا إِن العَبْد لَا ملك لَهُ لِأَنَّهُ إِذا مَاتَ فَلَا رق عَلَيْهِ وَالْحر الْمَيِّت أَيْضا لَا ملك لَهُ وَإِن أعتق عَنهُ فَوَجْهَانِ لعسر الْوَلَاء فِي حق الرَّقِيق
أما إِعْتَاق العَبْد مِمَّا ملكه على قَوْلنَا إِنَّه يملك بالتمليك فَفِيهِ تَفْصِيل ذَكرْنَاهُ فِي الْبَسِيط فَلَا نطول بِهِ لِأَنَّهُ تَفْرِيع على قَول ضَعِيف
فرع من نصف حر وَنصفه عبد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه يكفر بِالْمَالِ إِن كَانَ لَهُ مَال وَقَالَ الْمُزنِيّ رَحمَه الله لَا يجوز إِلَّا الصَّوْم لِأَن المَال يَقع عَن جملَته إِذْ التجزئة لَا تمكن فِي الْمُؤَدِّي كَمَا لَا يُمكن إِعْتَاق نصف رَقَبَة وإطعام خَمْسَة مَسَاكِين وَمن الْأَصْحَاب من جعل هَذَا قولا مخرجا

(7/223)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّالِث فِيمَا يَقع بِهِ الْحِنْث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَذَلِكَ بمخالفة مُوجب الْيَمين لفظا وَعرفا وَهُوَ بَاب جَامع الْأَيْمَان والألفاظ لَا تَنْحَصِر وَلَكِن تعرض الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لما يكثر وُقُوعه وَهِي سَبْعَة أَنْوَاع
النَّوْع الأول فِي أَلْفَاظ الدُّخُول وَمَا يتَعَلَّق بِهِ وَفِيه أَلْفَاظ
الأول إِذا حلف أَن لَا يدْخل الدَّار فرقي فِي السَّطْح لم يَحْنَث إِلَّا أَن يكون مسقفا وَإِن كَانَ محوطا من الجوانب غير مسقف فَالظَّاهِر أَنه لَا يَحْنَث والحائط من جَانب وَاحِد لَا يُؤثر وَإِن كَانَ من جانبين وَثَلَاثَة فَفِيهِ خلاف مُرَتّب على التحويط من الجوانب وَأولى بِأَن لَا يَحْنَث وَلَو حلف أَن لَا يدْخل الدَّار فَصَعدَ السَّطْح وَنزل إِلَى صحن الدَّار وَخرج من الْبَاب فَوَجْهَانِ من حَيْثُ إِنَّه حصل فِي الدَّار لكنه لم يدْخل من الْبَاب وَلَو حلف أَن لَا يخرج من الدَّار فَصَعدَ السَّطْح

(7/224)


وَنزل فَلَا يَحْنَث قَالَ القَاضِي وَجب أَن يَحْنَث لِأَنَّهُ كالدخول سَوَاء فَإِن من حلف لَا يدْخل الدَّار فَدخل بِبَعْضِه لم يدْخل
وَلَو حلف على الْخُرُوج فَصَعدَ السَّطْح لَا يبر بِهِ إِذْ لَيْسَ بِهِ أَيْضا خَارِجا كَمَا أَن من دخل بِبَعْض بدنه أَو خرج بِبَعْض بدنه لَا يَحْنَث فِي يَمِين الدُّخُول وَالْخُرُوج لِأَنَّهُ لَيْسَ بداخل وَلَا خَارج وَقَالَ القَاضِي إِذا لم يكن دَاخِلا فِي صعُود السَّطْح فَيَنْبَغِي أَن نجعله خَارِجا
وَأما الدهليز فقد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن دَاخل الدهليز لَا يَحْنَث فَقَالَ الْأَصْحَاب أَرَادَ بِهِ الطاق الْمَضْرُوب خَارج الْبَاب فَإِن جَاوز الْبَاب حنث قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ لَا يبعد أَن يُقَال أَرَادَ بِهِ دَاخل الْبَاب قبل الْوُصُول إِلَى صحن الدَّار لِأَن ذَلِك لَا يُسمى دَارا بل لَهُ اسْم على الْخُصُوص وَلَو انْهَدَمت الدَّار وَلم يبْق إِلَّا الْعَرَصَة لم يَحْنَث بِدُخُولِهَا وَلَو بَقِي مَا يُقَال إِنَّه دَار فَيحنث
وَلَو قَالَ لَا أَدخل الدَّار فَصَعدَ السَّطْح وَنزل فِي الدَّار وَخرج فَفِي الْحِنْث وَجْهَان من حَيْثُ إِنَّه حصل فِي الدَّار لَكِن لم يدْخل من الْبَاب وَلَو قَالَ وَهُوَ فِي الدَّار لَا أَدخل الدَّار لم يَحْنَث بالْمقَام كَمَا لَو قَالَ لَا أتطهر لَا يَحْنَث باستدامة الطَّهَارَة بِخِلَاف مَا لَو قَالَ لَا ألبس وَلَا أركب فَإِنَّهُ يَحْنَث بالإستدامة إِذْ يَقُول الرَّاكِب أركب فرسخا أَي أستديم وَلَا يَقُول من فِي الدَّار أَدخل بل يَقُول أقيم فِيهِ وَفِيه وَجه بعيد أَنه لَا بُد من مُفَارقَة الدَّار كَمَا لَا بُد من نزع الثَّوْب

(7/225)


اللَّفْظ الثَّانِي إِذا حلف أَن لَا يدْخل بَيْتا فَدخل بَيْتا لَهُ اسْم آخر أخص وَأشهر كالمسجد والكعبة والرحا وَالْحمام فَالظَّاهِر أَنه لَا يَحْنَث بِهِ وَفِيه وَجه أَنه يَحْنَث بِهِ لِأَن الْبَيْت وَإِن جعل مَسْجِدا لَا يُفَارِقهُ وضع الإسم وَيقرب مِنْهُ الْخلاف فِيمَا لَو حلف أَنه لَا يَأْكُل الْميتَة فَأكل السّمك أَو لَا يَأْكُل اللَّحْم فَأكل الْميتَة فَمن نَاظر إِلَى وضع الإسم وَمن نَاظر إِلَى وضع الإستعمال
وَلَو دخل بَيت الشّعْر حنث إِن كَانَ بدويا لِأَنَّهُ بَيت عِنْدهم وَإِن كَانَ قرويا فَثَلَاثَة أوجه أَحدهمَا أَنه يَحْنَث لِأَن الله تَعَالَى سَمَّاهُ بَيْتا وَقَالَ {وَجعل لكم من جُلُود الْأَنْعَام بُيُوتًا} وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ يفهم مِنْهُ الْبَيْت فيراعى فهمه لَا وضع اللِّسَان وَالثَّالِث أَن قريته إِن كَانَت قريبَة من الْبَادِيَة يطرقونها فَيحنث وَإِلَّا فَلَا
وَيرجع الْخلاف إِلَى أَن الْمُعْتَبر عرف اللَّفْظ فِي الْوَضع عِنْد من وَضعه أَو عرف اللافظ فِي الإستعمال وَنَصّ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يمِيل إِلَى عرف اللَّفْظ فَإِنَّهُ قَالَ يَحْنَث قرويا كَانَ أَو بدويا وَمَعَ هَذَا نَص أَنه لَو حلف لَا يَأْكُل الرُّءُوس لَا يَحْنَث بِرَأْس الطير والسمك وَلَو قَالَ لَا آكل اللَّحْم لم يَحْنَث بِلَحْم السّمك وَذكر صَاحب

(7/226)


التَّقْرِيب قولا أَنه يَحْنَث بِرَأْس الطير والسمك اتبَاعا للفظ كَمَا فِي لفظ الْبَيْت لَكِن الْفرق مُمكن من حَيْثُ إِن الرَّأْس إِذا ذكر مَقْرُونا بِالْأَكْلِ لم يُمكن أَن ندعى فِيهِ عُمُوم اللَّفْظ فِي عرف الْوَضع
وَلَو ذكر الرَّأْس مَقْرُونا باللمس لَا بِالْأَكْلِ حنث بِرَأْس الطير حَتَّى قَالَ الْقفال لَو قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ درخانه نشوم لَا يَحْنَث بِبَيْت الشّعْر إِذْ لم يثبت هَذَا الْعُمُوم فِي عرف الفارسية وَإِذا قصد اللَّفْظ الْعَرَبِيّ جَازَ أَن يُؤَاخذ بِمُوجب ذَلِك اللَّفْظ لِأَنَّهُ اخْتَار ذَلِك اللَّفْظ كَمَا لَو قَالَ لَا آكل التفاح وَهُوَ لَا يدْرِي مَا التفاح حنث بِمَا سَمَّاهُ الْعَرَب تفاحا

(7/227)


وَقَالَ الصيدلاني لَو حلف لَا يَأْكُل الْخبز وَهُوَ فِي بِلَاد طبرستان حنث بِخبْز الْأرز وَلَا يَحْنَث فِي غَيرهَا
وكل مَا ذَكرْنَاهُ فِي مُطلق اللَّفْظ فَإِن نوى شَيْئا من ذَلِك فتتبع نِيَّته إِن احْتمل فَلَو قَالَ وَالله مَا ذقت لفُلَان مَاء وَكَانَ قد أكل طَعَامه لم يَحْنَث وَلَو نوى الطَّعَام أَيْضا لم يَحْنَث لِأَن لفظ المَاء لَا يصلح لَهُ
اللَّفْظ الثَّالِث لَو قَالَ لَا أسكن هَذِه الدَّار فَليخْرجْ على الْفَوْر وَلَا يَكْفِيهِ إِخْرَاج أَهله مَعَ الْمقَام وَلَو خرج وَترك أَهله لم يَحْنَث وَلَو انتهض لنقل الأقمشة على الْعَادة قَالَ المراوزة لَا يَحْنَث وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ يَحْنَث وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يَحْنَث إِلَّا بالْمقَام يَوْمًا وَلَيْلَة

(7/228)


وَلَو قَالَ لَا أساكن فلَانا ففارقه صَاحبه بر فِي الْيَمين وَإِن فَارق هُوَ فِي الْحَال فَكَذَلِك وَإِن أَقَامَ سَاعَة حنث وَالنَّظَر فِي الْأَمَاكِن فَإِن كَانَا فِي خَان فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَنه يبر فِي الْيَمين إِذْ انْفَرد بِبَيْت وَإِن كَانَ مَعَه فِي الخان وَالثَّانِي أَنه لَا بُد من الْخُرُوج من الخان تَشْبِيها للخان بِالدَّار لَا بالسكة وَالثَّالِث أَنه إِن حلف وَهُوَ مَعَه فِي بَيت كَفاهُ الْخُرُوج من الْبَيْت وَإِن لم يكن فِي الْبَيْت فَلَا بُد من الْخُرُوج من الخان
أما البيتان من الدَّار فمكان وَاحِد عِنْد الْإِطْلَاق وَفِيه وَجه آخر أَنَّهُمَا كالخان ثمَّ على الصَّحِيح لَو انْفَرد بحجرة تنفرد بمرافقها لَكِن بَابهَا لافظ فِي الدَّار فَفِيهِ وَجْهَان لأجل الطَّرِيق أما الْحُجْرَة فِي الخان فمنفردة وَلَا يُؤثر كَون الطَّرِيق على الخان وَلَو قَالَ سَاكن حجرَة فِي الخان لَا أساكن فلَانا وَهُوَ فِي حجرَة أُخْرَى فَلَا يَحْنَث بِالْإِقَامَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مساكنا وَقَالَ القَاضِي يجب الْخُرُوج من الخان وَهَذَا بعيد وَلَزِمَه طرده فِي دور فِي سكَّة وَقد ارْتَكَبهُ وَيلْزمهُ فِي سكتين

(7/229)


من بلد وَلَا قَائِل بِهِ نعم لَو قَالَ نَوَيْت أَن لَا أساكنه فِي الْبَلدة فَوَجْهَانِ وَوجه الْمَنْع أَن اللَّفْظ لَا ينبىء عَنهُ وَيلْزمهُ مِنْهُ تَقْدِير ذَلِك فِي خُرَاسَان أما الْمحلة فَوَجْهَانِ مرتبان على الْبَلَد وَأولى بالإندراج عِنْد النِّيَّة وَإِن كَانَا فِي سكَّة منسدة الْأَسْفَل وَجَرت النِّيَّة فَالْوَجْه الْقطع بِأَنَّهُ تتبع النِّيَّة أما إِذا كَانَ فِي دَار فانتهض بِبِنَاء جِدَار حَائِل فَالصَّحِيح أَنه يَحْنَث بالمكث وَفِيه وَجه

(7/230)


النَّوْع الثَّانِي فِي أَلْفَاظ الْأكل وَالشرب وَمَا يتَعَلَّق بِهِ
وَهُوَ ثَلَاثَة أَلْفَاظ
الأول إِذا قَالَ لَا أشْرب مَاء هَذِه الْإِدَاوَة لم يَحْنَث إِلَّا بِشرب الْجَمِيع وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لأشربن مَاء هَذِه الْإِدَاوَة فَلَا يبر إِلَّا بِشرب الْجَمِيع وَلَو قَالَ لأشرين مَاء هَذَا النَّهر فَوَجْهَانِ أَحدهمَا أَنه يَقْتَضِي الْجَمِيع وَهُوَ محَال فَيحنث فِي الْحَال كَمَا لَو قَالَ لأصعدن السَّمَاء وَالثَّانِي أَنه يحمل على التَّبْعِيض حَيْثُ لَا يحْتَمل إِذْ قد يُقَال فلَان شرب مَاء دجلة أَي شرب مِنْهَا
وَلَو قَالَ لأقتلن فلَانا وَهُوَ يدْرِي أَنه ميت يلْزمه الْكَفَّارَة فِي الْحَال كَمَا لَو قَالَ لأصعدن السَّمَاء وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لأشربن مَاء هَذِه الْإِدَاوَة وَلَا مَاء فِيهَا وَفِيه وَجه أَنه لَا كَفَّارَة فَإِنَّهُ ذكر محالا فِي ذَاته بِخِلَاف الصعُود وَقتل

(7/231)


الْمَيِّت إِذْ إحْيَاء الْمَيِّت مَقْدُور لله تَعَالَى وَهَذَا فَاسد لأَنا نوجب الْكَفَّارَة بِوُجُود الْمُخَالفَة فِي الْيَمين بِدَلِيل وُجُوبه فِي الْغمُوس وَلَو قَالَ لأصعدن السَّمَاء غَدا فَفِي لُزُوم الْكَفَّارَة قبل الْغَد وَجْهَان وَلَو قَالَ لأقتلن فلَانا وَهُوَ يَظُنّهُ حَيا فَإِذا هُوَ ميت فَفِي الْكَفَّارَة خلاف بِنَاء على أَن النَّاسِي بِالْحلف هَل يعْذر
اللَّفْظ الثَّانِي إِذا قَالَ لَا آكل هَذَا الرَّغِيف وَهَذَا الرَّغِيف لَا يَحْنَث إِلَّا بأكلهما وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لَا آكل وَلَا أكلم زيدا فَلَا يَحْنَث إِلَّا بمجموعهما وَقد ذَكرْنَاهُ فِي الطَّلَاق وَلَيْسَ يَخْلُو عَن إِشْكَال وَلَكِن قَالُوا الْوَاو العاطفة تجْعَل الإسمين

(7/232)


كالإسم الْوَاحِد الْمثنى فَهُوَ كَمَا لَو قَالَ لَا أكلمهما فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث إِلَّا

(7/233)


بتكليمهما جَمِيعًا
اللَّفْظ الثَّالِث إِذا حلف أَن لَا يَأْكُل الرَّأْس لم يَحْنَث بِرَأْس الطير والسمك على الظَّاهِر وَيحنث بِرَأْس الْبَقر وَالْإِبِل فَإِن ذَلِك يُؤْكَل بِبَعْض الأقطار وَرَأس الظباء لَا يَحْنَث بهَا لِأَنَّهَا لَا تُؤْكَل فِي سَائِر الأقطار وَإِن كَانَ يعْتَاد فِي قطر حنث من حلف بذلك الْقطر وَهل يَحْنَث فِي قطر آخر فِيهِ وَجْهَان مأخذه أَنه يرْعَى أصل

(7/234)


الْعَادة أَو عَادَة الحالفين وَكَذَا بيض السّمك لَا يَحْنَث بِهِ الْحَالِف على أكل الْبيض لِأَنَّهُ لَا يُفَارق السّمك وَيحنث ببيض الأوز والبط والنعامة وَلَا يَحْنَث ببيض العصافير فَإِن بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبيض كرأس الطير بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرُّءُوس وَيجْرِي فِيهِ وَجه صَاحب التَّقْرِيب بِمُجَرَّد الإسم وَلَو حلف لَا يَأْكُل اللَّحْم لَا يَحْنَث بالشحم وَيحنث بالسمين وَهل يَحْنَث بالألية فِيهِ وَجْهَان وسنام الْبَعِير كالألية لَا كالشحم وَالسمن وَلَا يَحْنَث بتناول الأمعاء والكرش والكبد وَالطحَال والرئة وَفِي الْقلب وَجْهَان فَقيل يطرد ذَلِك فِي الأمعاء وَهُوَ

(7/235)


بعيد وَلَو حلف على الزّبد لم يَحْنَث بالسمن وَلَا بِالْعَكْسِ وَفِيه وَجه أَن الزّبد سمن وَلَيْسَ السّمن بزبد وَاللَّبن لَيْسَ بزبد وَلَا سمن والمخيض هَل هُوَ لبن فِيهِ وَجْهَان إِذْ الْعَرَب قد تسمى المخيض لَبَنًا وَلَو حلف على السّمن لم يَحْنَث بالأدهان وَلَو حلف على الدّهن فَفِي الْحِنْث بالسمن تردد أما روغن بِالْفَارِسِيَّةِ فيتناولهما جَمِيعًا وَلَو حلف على الْجَوْز حنث بالهندي وَلَو حلف على التَّمْر لم يَحْنَث بالهندي وَلَو حلف لَا يَأْكُل لحم الْبَقر حنث ببقر الوحشي وَلَو حلف لَا يركب الْحمار فَهَل يَحْنَث بركوب حمَار الْوَحْش وَلَو حلف أَن لَا يَأْكُل لَا يَحْنَث بالشرب أَو لَا يشرب لم يَحْنَث بِالْأَكْلِ
وَلَو حلف لَا يشرب سويقا فَصَارَ خاثرا بِحَيْثُ يُؤْكَل بالملاعق فتحساه فَفِيهِ تردد وَلَو قَالَ لَا آكل السكر فَوضع فِي الْفَم حَتَّى انماع لم يَحْنَث وَفِيه وَجه وَلَو حلف لَا يَأْكُل الْعِنَب وَالرُّمَّان فَشرب عصيرهما لم يَحْنَث فَإِن حلف لَا يَذُوق فَأدْرك طعمه ومجه وَلم يبتلع فَفِيهِ وَجْهَان وَإِن ازدرد حنث وَإِن لم يدْرك الطّعْم لَو حلف لَا يَأْكُل السّمن فَشرب الذائب مِنْهُ لم يَحْنَث وَإِن جعله فِي عصيدة وَلم يبْق لَهُ أثر لم يَحْنَث وَإِن كَانَ ممتازا مِنْهُ حنث وَقَالَ الْإِصْطَخْرِي لَا يَحْنَث إِذا كَانَ مَعَ غَيره حَتَّى قَالَ لَو أكل مَعَ الْخبز لم يَحْنَث وَهُوَ بعيد فَإِنَّهُ الْعَادة
وَلَو حلف لَا يَأْكُل الْخلّ فَغمسَ فِيهِ الْخبز حنث وَلَو جعله فِي سكباج نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه لَا يَحْنَث وَقَالَ مُعظم الْأَصْحَاب أَرَادَ إِذا لم يظْهر

(7/236)


طعمه فَإِن ظهر طعمه حنث
وَمِنْهُم من جرى على ظَاهر النَّص لِأَن الإسم قد تبدل خلاف السّمن الْمُمَيز عَن العصيدة وَالسمن وَإِذا لم يتَمَيَّز فِي العصيدة فَهُوَ كالخل فِي السكباج وَلَو حلف لَا يَأْكُل الْفَاكِهَة حنث بالطرب واليابس وَالْعِنَب وَالرُّمَّان خلافًا لأبي حنيفَة إِذْ قَالَ لَا يَحْنَث وَفِي الْحِنْث بالقثاء تردد وَكَذَا فِي اللبوب كلب الفستق

(7/237)


فرع لَو حلف لَا يَأْكُل الْبيض ثمَّ انْتهى إِلَى رجل فَقَالَ وَالله لآكلن مِمَّا فِي كمك فَإِذا هُوَ بيض فقد سُئِلَ الْقفال رَحمَه الله عَنهُ هَذِه الْمَسْأَلَة وَهُوَ على الْكُرْسِيّ فَلم يحضرهُ الْجَواب فَقَالَ المَسْعُودِيّ وَهُوَ تِلْمِيذه يتَّخذ مِنْهُ الناطف وَيَأْكُل فَيكون قد أكل مِمَّا فِي كمه وَلم يَأْكُل الْبيض فَاسْتحْسن مِنْهُ ذَلِك

(7/238)


النَّوْع الثَّالِث فِي أَلْفَاظ الْعُقُود

فَإِذا حلف لَا يَأْكُل طَعَاما اشْتَرَاهُ فلَان لَا يَحْنَث بِمَا ملكه من وَصِيَّة وَهبة وَإِجَارَة أَو رَجَعَ إِلَيْهِ بإقالة ورد عيب أَو قسْمَة نظرا إِلَى اللَّفْظ وَيحنث بالسلم وَفِيمَا ملك بِالصُّلْحِ عَن الدّين تردد وَلَو قَالَ لَا أَدخل دَارا اشْترى فلَان بَعْضهَا فَأَخذه بِالشُّفْعَة لم يَحْنَث وَمَا ملكه بِلَفْظ الإشتراك وَالتَّوْلِيَة فَهُوَ شِرَاء وَلَو قَالَ مَا اشْتَرَاهُ زيد فاشترك زيد وَعَمْرو فَالْمَشْهُور من الْمَذْهَب أَنه لَا يَحْنَث لِأَن الشِّرَاء غير مُضَاف إِلَى أَحدهمَا على الْخُصُوص وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَحْنَث وَلَو اشْترى زيد وخلط بِمَا اشْتَرَاهُ غَيره حنث إِذا أكل من الْمُخْتَلط
اللَّفْظ الثَّانِي إِذا قَالَ لَا أَشْتَرِي وَلَا أَتزوّج فَوكل لم يَحْنَث كَمَا لَو وكل بِالضَّرْبِ إِلَّا أَن يحلف على مَا لَا يقدر عَلَيْهِ كَقَوْلِه لَا أبني بَيْتا وَهُوَ لَيْسَ بِبِنَاء أَو قَالَ الْأَمِير لَا

(7/239)


أضْرب فَأمر الجلاد فقد خرج الرّبيع فِيهِ قولا أَنه يَحْنَث وَظَاهر الْمَذْهَب أَنه لَا يَحْنَث وَيتبع اللَّفْظ إِذا لم تكن نِيَّة
أما إِذا توكل فِي هَذِه الْعُقُود فَإِن أضَاف إِلَى الْمُوكل لم يَحْنَث وَالنِّكَاح يجب إِضَافَته فَلَا يَحْنَث فِيهِ الْوَكِيل وَلَا الْمُوكل وَلَو حلفا جَمِيعًا فَإِن اطلق الْوَكِيل الشِّرَاء من غير إِضَافَة فَالْمَشْهُور أَنه يَحْنَث لِأَنَّهُ يُنَاقض قَوْله لَا أَشْتَرِي وَخرج القَاضِي وَجها أَنه لَا يَحْنَث لانصراف العقد إِلَى غَيره وَلَو قَالَ لَا أزوج فَوكل بِالتَّزْوِيجِ حنث لِأَن الْوَلِيّ أَيْضا كَالْوَكِيلِ وَلَو قَالَ لَا أكلم زَوْجَة زيد حنث بمكالمة امْرَأَة قبل نِكَاحهَا وَكيل زيد وَلَو قَالَ لَا أكلم عبدا اشْتَرَاهُ زيد فَاشْترى وَكيله لم يَحْنَث بمكالمته وَلَو قَالَ لَا أكلم امْرَأَة تزَوجهَا زيد فَقبل وَكيله فَالْقِيَاس أَنه لَا يَحْنَث كَمَا فِي الشِّرَاء وَقَالَ الصيدلاني إِنَّه يَحْنَث وَهُوَ تشوف إِلَى مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي أَن من تزوج بِالتَّوْكِيلِ حنث فِي يَمِين التَّزَوُّج
اللَّفْظ الثَّالِث لَو قَالَ لَا أبيع الْخمر فَبَاعَهُ لم يَحْنَث لِأَن ذَلِك صُورَة البيع وَبيع الْخمر محَال فَهُوَ كصعود السَّمَاء وَقَالَ الْمُزنِيّ رَحمَه الله يَحْنَث وَيحمل هَذَا على صُورَة البيع بِخِلَاف مَا لَو أطلق وَقَالَ لَا أبيع فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث بالفاسد وَالْمذهب أَنه لَا يَحْنَث

(7/240)


وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ الزَّوْج لَا أبيع مَال زَوْجَتي بِغَيْر إِذْنهَا ثمَّ بَاعَ بِغَيْر إِذْنهَا لم يَحْنَث لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبيع وَإِنَّمَا حلف على محَال
اللَّفْظ الرَّابِع إِذا حلف لَا يهب مِنْهُ فَتصدق عَلَيْهِ حنث وَيحنث بالرقبى والعمرى وَلَا يَحْنَث بِالْوَقْفِ إِن قُلْنَا لَا يملك الْمَوْقُوف عَلَيْهِ وَإِن قُلْنَا يملك حنث وَفِيه احْتِمَال وَلَا يَحْنَث بِتَقْدِيم الطَّعَام إِلَيْهِ بالضيافة وَلَا يَحْنَث بِالْهبةِ من غير قبُوله وَهل يَحْنَث قبل الْإِقْبَاض فِيهِ وَجْهَان وَقَالَ ابْن سُرَيج يَحْنَث من غير قبُوله إِذْ يَقُول وهبت فَلم يقبل وَيلْزمهُ طرد ذَلِك فِي جَمِيع الْعُقُود وَإِن قَالَ لَا أَتصدق عَلَيْهِ لم يَحْنَث بِالْهبةِ مِنْهُ إِذْ حلت الْهِبَة لرَسُول الله دو الصَّدَقَة وَفِيه وَجه أَنه يَحْنَث وَلَو حلف أَنه لَا مَال لَهُ حنث بِمَال لَا تجب فِيهِ الزَّكَاة خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
وَيحنث بِالدّينِ المجل والمعجل كَانَ على مُوسر أَو مُعسر والآبق مَال وَكَذَا

(7/241)


الْمُدبر وَفِي أم الْوَلَد وَجْهَان وَفِي الْمكَاتب وَجْهَان مرتبان وَأولى بِأَن لَا يكون مَالا لاستقلاله بِنَفسِهِ وَالْمَنَافِع لَيْسَ بِمَال فِي الْيَمين حَتَّى لَو ملك مَنْفَعَة دَار بِالْإِجَارَة لم يَحْنَث لِأَنَّهُ يُرَاد بِهِ الْأَعْيَان

(7/242)


النَّوْع الرَّابِع فِي الإضافات وفيهَا أَلْفَاظ

الأول إِذا قَالَ لَا أَدخل دَار فلَان فَدخل مَا يملكهُ وَلَا يسكنهُ حنث وَلَو دخل مَا يسكنهُ عَارِية لم يَحْنَث فمطلق الْإِضَافَة للْملك وَلَو قَالَ لَا أسكن مسكن فلَان حنث بِمَا يسكنهُ عَارِية وَهل يَحْنَث بمسكنه الْمَغْصُوب فِيهِ وَجْهَان وَهل يَحْنَث بِمَا يملكهُ وَلَا يسكنهُ ثَلَاثَة أوجه وَفِي الثَّالِث أَنه يَحْنَث إِن سكنه مرّة وَلَو سَاعَة وَلَو قَالَ لَا أَدخل دَار زيد هَذِه فَبَاعَهَا ثمَّ دخل حنث فِي الْأَظْهر تَغْلِيبًا للْإِشَارَة وَفِيه وَجه وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه لَا يَحْنَث للإضافة المقرونة بِالْإِشَارَةِ وَلم تُوجد إِلَّا إِحْدَاهمَا وَلَو قَالَ لَا أَدخل من هَذَا الْبَاب فحول الْبَاب إِلَى منفذ آخر فبأيهما يَحْنَث فِيهِ ثَلَاثَة أوجه أَحدهمَا أَنه يَحْنَث بِدُخُول هَذَا المنفذ وَإِن لم يكن عَلَيْهِ بَاب وَالثَّانِي أَنه يَحْنَث بِدُخُول المنفذ الَّذِي عَلَيْهِ الْبَاب وَالثَّالِث أَنه لَا يَحْنَث بِوَاحِد مِنْهُمَا فَلَا بُد من اجتماعها
فَلَو قَالَ لَا أَدخل بَاب هَذِه الدَّار وَلم يشر إِلَى بَاب ومنفذ فَفتح للدَّار بَاب جَدِيد فعلى

(7/243)


وَجه يَحْنَث بِهِ وَبِأَيِّ بَاب كَانَ وعَلى وَجه ينزل على الْمَوْجُود وَقت الْيَمين وَلَو قَالَ لَا أركب دَابَّة ذَلِك العَبْد لَا يَحْنَث بِمَا هُوَ مَنْسُوب إِلَيْهِ إِذا لم يملكهُ إِذا قُلْنَا إِنَّه يملك بالتمليك وَلَو قَالَ لَا أركب سرج هَذِه الدَّابَّة وَلَا أبيع جلها حنث بالمنسوب إِلَيْهَا إِلَّا أَن الْملك للدابة غير متوقع فَيحمل على النِّسْبَة وَلَو قَالَ لَا ألبس مَا من بِهِ فلَان عَليّ حنث بِمَا وهبه فِي الْمَاضِي لَا بِمَا يهب فِي الْمُسْتَقْبل لِأَن اللَّفْظ للماضي وَلَو قَالَ بِمَا يمن بِهِ فلَان لم يَحْنَث بِمَا وهب من قبل وَيحنث بِمَا سيهبه ثمَّ سَبيله أَن يُبدل بِثَوْب آخر يَبِيعهُ وَلَو بَاعه ثوبا بمحاباة لم يَحْنَث بِهِ لِأَنَّهُ مَا من بِالثَّوْبِ بل من بِالثّمن وَلَو قَالَ لَا ألبس ثوبا فارتدى بِهِ أَو اتزر حنث وَكَذَلِكَ لَو ارتدى بسراويل واتزر بقميص لتحَقّق اسْم اللّبْس وَالثَّوْب وَلَو طواه وَوَضعه على رَأسه لم يَحْنَث لِأَنَّهُ حمل وَلَيْسَ بِلبْس وَلَو فرش ورقد عَلَيْهِ لم يَحْنَث وَلَو تدثر بِهِ فَفِيهِ تردد وَلَو قَالَ لَا ألبس قيمصا فارتدى بِهِ فَفِيهِ وَجْهَان لِأَن ذكر الْقَمِيص يشْعر بلبسه كَمَا يلبس الْقَمِيص وَلَو فتق واتزر بِهِ يجب الْقطع بِأَنَّهُ لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ فِي الْحَال غير قَمِيص وَلَو قَالَ لَا ألبس هَذَا الْقَمِيص فَوَجْهَانِ وَأولى بِأَن يَحْنَث حَتَّى يجْرِي الْخلاف وَإِن فتقه وارتدى بِهِ تَغْلِيبًا للْإِشَارَة على وَجه وَلَو قَالَ لَا ألبس هَذَا الثَّوْب وَهُوَ قَمِيص عِنْد ذكره ففتقه وارتدى بِهِ فَوَجْهَانِ وَأولى بِالْحِنْثِ وَلَو قَالَ لَا أكلم هَذَا وَأَشَارَ إِلَى عبد وَعتق وَكَلمه حنث وَإِن قَالَ لَا أكلم هَذَا العَبْد فَفِي كَلَامه بعد الْعتْق وَجْهَان لاخْتِلَاف الْإِشَارَة والإسم وَلَو قَالَ لَا آكل لحم هَذَا وَكَانَت سخلة فكبرت وَأكل حنث وَلَو قَالَ لَا آكل لحم هَذِه السخلة فكبرت فَوَجْهَانِ وَكَذَلِكَ الرطب

(7/244)


إِذا جف وَالْحِنْطَة إِذا تَغَيَّرت وَمن الْأَصْحَاب من قَالَ لَا يَحْنَث فِي الْحِنْطَة أَو مَا تَغَيَّرت بالصنعة بِخِلَاف السخلة وَالرّطب فَإِن تغيره بالخلقة وَلَو أَشَارَ إِلَى سخلة وَقَالَ لَا آكل لحم هَذِه الْبَقَرَة حنث بأكلها تَغْلِيبًا للْإِشَارَة وَفِي مثله فِي البيع خلاف لِأَن فِي الْعُقُود تعبدات توجب مُلَاحظَة النّظم فِي الْعبارَة وَلَو قَالَ لَا ألبس مِمَّا غزلته فُلَانَة يحمل على مَا غزلته فِي الْمَاضِي وَلَو قَالَ من غزلها عَم الْمَاضِي والمستقبل وَلَو خيط ثَوْبه بغزلها لم يَحْنَث إِذْ الْخَيط غير ملبوس وَلَو كَانَ السّديّ من غزلها واللحمة من غزل غَيرهَا فَالْمَشْهُور أَنه لَا يَحْنَث لِأَن اسْم الثَّوْب لَا يتَنَاوَل بعض الْغَزل وَاسم اللّبْس يتَنَاوَل الثَّوْب قَالَ الإِمَام وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يُقَال لَو حلف لَا يلبس من غزل نسوته فنسج ثوبا وَاحِدًا من غزلهن لَا يَحْنَث وَهُوَ بعيد وَإِنَّمَا يتَّجه هَذَا إِذا قَالَ لَا ألبس ثوبا من غزل فُلَانَة فَإِن الْبَعْض لَيْسَ بِثَوْب أما إِذا قَالَ لَا ألبس من غزل فُلَانَة فَهَذَا فِيهِ غزلها فَلَا يبعد أَن يَحْنَث وَلَو حلف لَا تخرج امْرَأَته بِغَيْر إِذْنه ثمَّ أذن لَهَا بِحَيْثُ لم تسمع فَفِي الْحِنْث إِذا خرجت وَجْهَان مأخذهما التَّرَدُّد فِي حد الْإِذْن إِذْ يحْتَمل أَن يُقَال شَرطه اسْتِمَاع الْمَأْذُون فِيهِ وَيحْتَمل أَن يُقَال أَرَادَ بِالْإِذْنِ الرِّضَا وَقد رَضِي ونطق بِهِ والمشكل أَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قد نَص أَنَّهَا لَو خرجت مرّة بِإِذْنِهِ انحل الْيَمين وَلَو خرجت بعد ذَلِك بِغَيْر إِذن لم يَحْنَث بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ إِن خرجت بِغَيْر خف فَأَنت طَالِق فَخرجت بخف ثمَّ خرجت بِغَيْر خف يَحْنَث وَمن أَصْحَابنَا من خرج وَجها أَنه لَا تنْحَل الْيَمين بِالْخرُوجِ بِالْإِذْنِ أَيْضا وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله وَهُوَ منقاس وَلكنه خلاف النَّص وَالْفرق أَن مَقْصُود الزَّوْج فِي مثله إلزامها التحذر وَإِذا أذن فِي الْخُرُوج مرّة فقد رفع ذَلِك التحذر بِنَفسِهِ فخروجها بعد ذَلِك لَا يتَنَاوَلهُ الْيَمين

(7/245)


النَّوْع الْخَامِس فِي الْحلف على الْكَلَام

فَلَو قَالَ وَالله لَا أُكَلِّمك تَنَح عني حنث بقوله تَنَح عني وَكَذَلِكَ بِكُل مَا يذكرهُ بعد الْيَمين من زجر وإبعاد وَشتم وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يَحْنَث
وَلَو كَاتبه لم يَحْنَث فَلَو رمز بِإِشَارَة مفهمة فالجديد أَنه لَا يَحْنَث وَكَذَلِكَ إِن خرس وَأَشَارَ إِلَيْهِ لِأَن إِشَارَته لَيست بِكَلَام فِي اللُّغَة وَإِنَّمَا أعطي حكم الْكَلَام لضَرُورَة الْمُعَامَلَة وَلَو حلف على مهاجرته فَفِي مُكَاتبَته تردد من حَيْثُ إِنَّهَا ضد المهاجرة وَلَكِن المهاجرة الْمُحرمَة لَا ترْتَفع بهَا وَلَو قَالَ لَا أَتكَلّم فَقَرَأَ الْقُرْآن وَسبح وَهَلل لم يَحْنَث وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَحْنَث كَمَا لَو ردد شعرًا مَعَ نَفسه فَإِنَّهُ يَحْنَث عندنَا أَيْضا وَمَا ذكره لَا يَخْلُو عَن احْتِمَال

(7/246)


وَلَو قَالَ لأنثين على الله أحسن الثَّنَاء فالبر أَن يَقُول لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك
وَلَو قَالَ لأحمدن الله بِمَجَامِع الْحَمد فَلْيقل مَا علمه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام آدم عَلَيْهِ السَّلَام الْحَمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده
وَلَو قَالَ وَالله لَا أُصَلِّي حنث كَمَا يحرم بِالصَّلَاةِ وَإِن أفسدها بعد ذَلِك وَمِنْهُم من قَالَ مَا لم يفرغ من صَلَاة صَحِيحَة لَا يَحْنَث لَكِن هَل يتَبَيَّن استناد الْحِنْث إِلَى أول الصَّلَاة فِيهِ وَجْهَان وَكَذَا الْخلاف فِي الصَّوْم وَلمن حلف لَا يحجّ حنث بِالْحَجِّ الْفَاسِد لِأَنَّهُ مُنْعَقد بِخِلَاف البيع الْفَاسِد

(7/247)


النَّوْع السَّادِس وَهُوَ تَقْدِيم الْبر وتأخيره وَفِيه أَلْفَاظ

الأول إِذا قَالَ لآكلن هَذَا الطَّعَام غَدا فَإِن أكل الطَّعَام قبل الْغَد حنث لِأَنَّهُ فَوت الْبر بِاخْتِيَارِهِ وَكَذَلِكَ إِذا أكل الْبَعْض لِأَن الْبر يحصل بِأَكْل جَمِيعه لَكِن الْكَفَّارَة تلْزمهُ فِي الْوَقْت أَو غَدا فِيهِ خلاف وَلَو تلف الطَّعَام قبل مَجِيء الْغَد بِغَيْر اخْتِيَاره فَفِي الْحِنْث خلاف يلْتَفت على الْإِكْرَاه وَالنِّسْيَان فِي الْحِنْث وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلَو أتْلفه فِي أثْنَاء الْغَد أَو مَاتَ الْحَالِف وَقد بَقِي من الْغَد بَقِيَّة فَفِيهِ وَجْهَان يلتفتان على أَن من مَاتَ فِي أثْنَاء وَقت الصَّلَاة هَل يَعْصِي بترك الْمُبَادرَة وَالصَّحِيح أَنه لَا يَعْصِي لِأَن الْوَقْت فسحة التَّأْخِير وَالصَّحِيح أَنه يَحْنَث لِأَنَّهُ فَوت الْبر مَعَ إِمْكَانه وَكَذَلِكَ لَو فَاتَ مهما قُلْنَا

(7/248)


إِن الْحِنْث يحصل بِغَيْر اخْتِيَاره
اللَّفْظ الثَّانِي لَو قَالَ لأقضين حَقك غَدا فَمَاتَ الْمُسْتَحق فالوفاء مُمكن بِالتَّسْلِيمِ إِلَى الْوَرَثَة وَإِن مَاتَ الْحَالِف سَوَاء مَاتَ قبل الْغَد أَو بعده فَهُوَ كفوات الطَّعَام فَإِن قُلْنَا يَحْنَث فَفِي مَوته قبل الْغَد نظر لِأَن وَقت الْحِنْث إِنَّمَا يدْخل وَهُوَ ميت وَلَكِن لَا يبعد أَن يَحْنَث وَهُوَ ميت مهما سبق الْيَمين الَّتِي هِيَ السَّبَب فِي حَال الْحَيَاة كَمَا لَو حفر بِئْرا فتردى فِيهَا بعد مَوته إِنْسَان إِذْ يلْزمه الْكَفَّارَة وَالضَّمان فِي مَاله
اللَّفْظ الثَّالِث لَو قَالَ لأقضين حلقك عِنْد رَأس الْهلَال فَلَو قضى قبله فقد فَوت الْبر فَيحنث وَلَو قضى بعده فَكَذَلِك فَيَنْبَغِي أَن يترصد ويحضر المَال ليسلم عِنْد الإستهلال لَا قبله وَلَا بعده وَهَذَا يكَاد يكون محالا إِذْ لَا يقدر عَلَيْهِ فإمَّا أَن يتَسَامَح

(7/249)


فِيهِ ويقنع بالممكن أَو يُقَال الْتزم محالا فَيحنث بِكُل حَال وَلَا ذَاهِب إِلَيْهِ وَلَكِن قَالَ بعض الْأَصْحَاب لَهُ فسحة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَالْيَوْم الأول فَإِن هَذَا فِي الْعَادة يُسمى أول الْهلَال وَهُوَ بعيد
اللَّفْظ الرَّابِع لَو قَالَ لأقضين حَقك إِلَى حِين فَهَذَا ينبسط على الْعُمر وَلَا يتَقَدَّر وقته وَلَو قَالَ إِذا مضى حِين فَأَنت طَالِق نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنَّهَا تطلق بعد لَحْظَة وَهَذَا فِي جَانب الطَّلَاق مُمكن وَغَايَة تَعْلِيله أَن الإسم ينْطَلق على لَحْظَة وَهُوَ تَعْلِيق فَيتَعَلَّق بِأول مَا يُسمى حينا أما إِذا قَالَ لأقضين حَقك إِلَى حِين فَهَذَا وعد فَلَا يتَعَلَّق بِأول اسْم

(7/250)


النَّوْع السَّابِع فِي الْخُصُومَات
وَفِيه ثَلَاثَة أَلْفَاظ
الأول إِذا قَالَ لَا أرى مُنْكرا إِلَّا رفعته إِلَى القَاضِي فَلَيْسَ عَلَيْهِ البدار إِذا رَآهُ بل جَمِيع عمره فسحة وَإِنَّمَا يَحْنَث إِذا مَاتَ هُوَ أَو القَاضِي بعد التَّمَكُّن من الرّفْع وَلَو لم يتَمَكَّن حَتَّى مَاتَ أَحدهمَا فَهَذَا فَوَات الْبر كرها فَيخرج على الْخلاف وَلَو بَادر إِلَى الرّفْع فَمَاتَ القَاضِي قبل الإنتهاء إِلَى مَجْلِسه مِنْهُم من قطع بِأَنَّهُ لَا يَحْنَث وَمِنْهُم من خرج على الْخلاف وَلَو عزل القَاضِي الَّذِي عينه وَلم يرفعهُ إِلَيْهِ بعد الْعَزْل قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ خشيت أَن يَحْنَث فَأطلق الْأَصْحَاب قَوْلَيْنِ وَإِذا قَالَ رفعته إِلَى القَاضِي فَهَل يتَعَيَّن الْمَنْصُوب فِي الْحَال أم يبر بِالرَّفْع إِلَى كل من ينصب بعده فَفِيهِ وَجْهَان لتردد الْألف وَاللَّام بَين التَّعْرِيف وَالْجِنْس وَلَو رأى مُنْكرا بَين يَدي القَاضِي مَعَ القَاضِي فَلَا معنى للرفع وَلَو اطلع عَلَيْهِ بعد اطلَاع القَاضِي فَوَجْهَانِ أَحدهمَا أَنه فَاتَ الْبر كَمَا لَو رأى مَعَه وَالثَّانِي أَنه يبر بِصُورَة الرّفْع وَإِن لم يكن فِيهِ إِعْلَام

(7/251)


وعَلى الْوَجْه الأول يخرج مَا لَو صب مَاء الْإِدَاوَة بعد أَن حلف على شربة أَو أبرىء عَن الدّين بعد أَن حلف على قَضَائِهِ فَإِن قُلْنَا الْإِبْرَاء يفْتَقر إِلَى قبُول فَقبل يَحْنَث بالفوات قطعا لاختياره
اللَّفْظ الثَّانِي إِذا حلف لَا يُفَارق غَرِيمه حَتَّى يَسْتَوْفِي الْحق فَإِن أَبرَأَهُ أَو أَخذ مِنْهُ عوضا حنث لِأَنَّهُ لم يسْتَوْف عين حَقه إِلَّا إِذا نوى وَلَو فَارقه الْغَرِيم فَلم يتَعَلَّق بِهِ وَلم يتبعهُ لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ لم يُفَارق وَإِنَّمَا المفارق غَرِيمه وَهُوَ حَالف على فعل نَفسه وَلَو كَانَا يتماشيان فَوقف وَمَشى الْغَرِيم لَا يَحْنَث أَيْضا لِأَن الْمُفَارقَة قد حصلت بحركة الْغَرِيم وَلَا ينْسب إِلَى سكونه وَقَالَ القَاضِي ينْسب إِلَى سكونه فَإِنَّهُ الْحَادِث الْآن بِخِلَاف الصُّورَة الأولى فَإِن الْحَادِث هُوَ أصل الْمَشْي وَهُوَ من الْغَرِيم أما إِذا قَالَ لَا يفْتَرق فَإِن فَارقه الْغَرِيم حنث لِأَنَّهُ أضَاف إِلَى الْجَانِبَيْنِ وَفِيه وَجه أَنه لَا يَحْنَث
اللَّفْظ الثَّالِث إِذا قَالَ لأضربنك مائَة خَشَبَة حصل الْبر بِالضَّرْبِ بشمراخ عَلَيْهِ مائَة من القضبان وَهَذَا بعيد على خلاف مُوجب اللَّفْظ وَلكنه يثبت تعبدا قَالَ الله تَعَالَى {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} فِي قصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام

(7/252)


ثمَّ لَا بُد أَن يتثاقل على الْمَضْرُوب بِحَيْثُ تنكبس جَمِيع القضبان حَتَّى يكون لكل وَاحِد أثر وَلَا بَأْس أَن يكون وَرَاء حَائِل إِذا كَانَ لَا يمْنَع التَّأْثِير أصلا وَفِيه وَجه أَنه لَا بُد من ملاقاة جَمِيع بدنه وَلَا يَكْفِي انكباس الْبَعْض على الْبَعْض ثمَّ لَو شككنا فِي حُصُول التثقيل أَو المماسة إِن شرطناها قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ حصل الْبر وَنَصّ أَنه لَو قَالَ لَا أَدخل الدَّار إِلَّا أَن يَشَاء زيد ثمَّ دخل وَمَات زيد وَلم يعرف أَنه شَاءَ أم لَا حنث فَقيل قَولَانِ بِالنَّقْلِ والتخريج لأجل الْإِشْكَال وَقيل الْفرق أَن الأَصْل عدم الْمَشِيئَة وَلَا سَبَب يظنّ بِهِ وجودهَا وَالضَّرْب هَاهُنَا سَبَب ظَاهر فِي اقْتِضَاء الإنكباس وَلَو قَالَ مائَة سَوط بدل الْخَشَبَة لم تكفه الشماريخ بل عَلَيْهِ أَن يَأْخُذ مائَة سَوط وَيجمع وَيضْرب دفْعَة وَاحِدَة وَمِنْهُم من قَالَ تكفيه الشماريخ أَيْضا كَمَا فِي لفظ الْخَشَبَة أما إِذا قَالَ لَأَضرِبَن مائَة ضَرْبَة فَلَا يَكْفِي الضَّرْب مرّة وَاحِدَة بالشماريخ وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ يَكْفِي الضربات بالسياط مَعًا ولنقتصر من صور الْأَلْفَاظ ومعانيها على هَذَا الْقدر فَإِنَّهُ فن لَا يتَصَوَّر أَن يحصر وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ هَاهُنَا وَفِي الطَّلَاق مَا يمهد طَرِيق الْمعرفَة

(7/253)


خَاتِمَة

كل فعل يحصل بِهِ الْحِنْث فَإِذا حصل ذَلِك الْفِعْل مَعَ إِكْرَاه أَو نِسْيَان أَو جهل فَفِيهِ نظر لَا بُد من بَيَانه فَلَو قَالَ وَالله لَا أَدخل الدَّار فَأذن حَتَّى حمل وَأدْخل حنث لِأَنَّهُ كالراكب والراكب دَاخل وَلَو حمل قهرا وَأدْخل لم يَحْنَث وَفِيه وَجه أَنه كالإذن وَبَين الدرجتين أَن يحمل وَهُوَ قَادر على الإمتناع فَلَا يمْتَنع فقد ألحقهُ الْأَكْثَرُونَ بِالْإِذْنِ وَمِنْهُم من ألحقهُ بالقهر أما إِذا أكره على الدُّخُول أَو نسي الْيَمين فَقَوْلَانِ أَحدهمَا أَنه يَحْنَث لوُجُود الصُّورَة وَلِأَنَّهُ يَحْنَث بِطُلُوع الشَّمْس إِذا حلف عَلَيْهِ فَلَيْسَ يشْتَرط الْفِعْل فِي الْحِنْث وَالثَّانِي أَنه لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ الْآن علق على الْفِعْل وَهَذَا لَيْسَ بِفعل شرعا

(7/254)


وَاخْتَارَ الْقفال رَحمَه الله أَن الطَّلَاق يَقع والحنث لَا يحصل فَإِنَّهُ أشبه بالعبادات الَّتِي ينْسب فِيهَا إِلَى الْإِحْرَام وَتَركه فيؤثر فِيهِ النسْيَان وَالْإِكْرَاه ثمَّ قيل النَّاسِي أولى بِأَن يَحْنَث وَقيل أولى بِأَن لَا يَحْنَث وَقد ذَكرْنَاهُ فِي الطَّلَاق
وَأما الْجَهْل فَهُوَ أَن يَقُول لَا أسلم على زيد فَسلم فِي ظلمَة وَلَا يدْرِي أَنه زيد فَقَوْلَانِ مرتبان وَأولى بِالْحِنْثِ لِأَن الْجَاهِل يفْطر وَالنَّاسِي لَا يفْطر أَعنِي من غلط فَظن غرُوب

(7/255)


الشَّمْس وكل مَا يفوت الْبر بِهِ من انصباب مَاء الْإِدَاوَة وَمَوْت من يتَعَلَّق الْبر بِهِ وهلاكه فَيخرج على الْقَوْلَيْنِ وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ مَا فعلت أَو لَا أملك شَيْئا وَكَانَ قد فعل وَملك لَكِن نسي خرج على الْقَوْلَيْنِ
فرع لَو قَالَ لَا أسلم على زيد فَسلم على قوم هُوَ فيهم وَلكنه لم يعلم فَقَوْلَانِ مرتبان على مَا إِذا رَآهُ فِي ظلمَة فَسلم عَلَيْهِ وَهَاهُنَا أولى بِأَن لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ لم يُعينهُ بِالسَّلَامِ
وَلَو قَالَ لَا أَدخل على فلَان فَدخل على قوم هُوَ فيهم وَلم يعلم فَقَوْلَانِ مرتبان وَأولى بِالْحِنْثِ بِأَن اللَّفْظ أقبل للخصوص من الْفِعْل
وَأما إِذا سلم على الْقَوْم واستثناه بِاللَّفْظِ أَو بِالنِّيَّةِ لم يَحْنَث وَلَو لم يسْتَثْن وَهُوَ عَالم بِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ فِيهِ قَولَانِ وَلَا مَأْخَذ لَهُ إِلَّا أَنه لم يسلم عَلَيْهِ خَاصَّة فَيحمل مُطلق لَفظه على التَّسْلِيم عَلَيْهِ بالتنصيص أما إِذا قَالَ لَا أَدخل عَلَيْهِ ثمَّ دخل على قوم وَهُوَ فيهم وَاسْتثنى بِالنِّيَّةِ فَوَجْهَانِ أَحدهمَا أَنه لَا يَحْنَث كالسلام وَالثَّانِي أَنه يَحْنَث لِأَن الْعُمُوم يقبل الْخُصُوص وَأما الْفِعْل فَلَا يقبل وَإِن كَانَ هُوَ وَحده فِي الْبَيْت وَلَكِن دخل لشغل آخر فَهُوَ أَيْضا على الْوَجْهَيْنِ وَلَو دخل وَلم يعلم أَنه فِيهِ فَظَاهر النَّص أَنه لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ لَا يكون دَاخِلا عَلَيْهِ إِذا لم يُعلمهُ وَلم يَقْصِدهُ وَخرج الرّبيع أَن هَذَا كالناسي وَصحح مُعظم الْأَصْحَاب تَخْرِيجه وَالله أعلم

(7/256)