الوسيط في المذهب

= كتاب أدب الْقَضَاء =
وَفِيه أَرْبَعَة أَبْوَاب

(7/285)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الأول فِي التَّوْلِيَة والعزل وَفِيه فصلان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْفَصْل الأول فِي التَّوْلِيَة

وَفِيه سِتّ مسَائِل
الأولى فِي فَضِيلَة الْقَضَاء وَالْقِيَام بمصالح الْمُسلمين
والإنتصاف للمظلومين من أفضل القربات وَهُوَ من فروض الكفايات وَهُوَ أفضل من الْجِهَاد وأهم مِنْهُ لِأَن الْجِهَاد لطلب الزِّيَادَة وَالْقَضَاء لحفظ الْمَوْجُود وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَوْم وَاحِد من إِمَام عَادل أفضل من عبَادَة سِتِّينَ سنة وحد يُقَام فِي أَرض بِحقِّهِ أزكى من مطر أَرْبَعِينَ خَرِيفًا فلأجل فَضِيلَة الْولَايَة وَكَونهَا مهما لنظام الدّين وَالدُّنْيَا تجب الْإِجَابَة على من دعِي إِلَى الحكم وَالْمُسْتَحب أَن يَقُول إِذا دعِي سمعا وَطَاعَة
الثَّانِيَة فِي جَوَاز طلب الْقَضَاء والولايات
وَقد ورد فِيهِ التحذير مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ من الْفضل فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ولي الْقَضَاء فقد ذبح بِغَيْر سكين وَقَالَ لعبد الرحمن بن سَمُرَة لَا تسْأَل الْإِمَارَة فَإنَّك إِن أعطيتهَا عَن

(7/287)


مَسْأَلَة وكلت إِلَيْهَا وَإِن أعطيتهَا من غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ مَا من أَمِير وَلَا وَال إِلَّا وَيُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة مغلولة يَدَاهُ إِلَى عُنُقه أطلقهُ عدله أَو أوبقه جوره
وَإِنَّمَا هَذِه التحذيرات لِأَن هَذِه الْولَايَة تستخرج من النَّفس خفايا الْخبث حَتَّى يمِيل على الْعَدو وينتقم مِنْهُ وَينظر للصديق وَيتبع الْأَغْرَاض وَقد يظنّ بِنَفسِهِ التَّقْوَى فَإِذا ولي تغير فَنَقُول للطَّالِب أَرْبَعَة أَحْوَال
إِحْدَاهَا أَن يكون مُتَعَيّنا بِأَن لَا يُوجد غَيره مِمَّن يصلح فالطب فرض عَلَيْهِ وَإِن كَانَ خاملا فَعَلَيهِ أَن يشهر نَفسه عِنْد الإِمَام حَتَّى يُولى ثمَّ إِن كَانَ يخَاف على نَفسه الْخِيَانَة والميل لم يكن هَذَا عذارا بل عَلَيْهِ أَن يُجَاهد نَفسه ويلازم سمت التَّقْوَى فَإِن تولى وَمَال عصى وَإِن امْتنع من الْقبُول خوفًا من الْميل عصى وَهُوَ مُتَرَدّد بَين إِحْدَى معصيتين لَا محَالة
الثَّانِيَة أَن يكون فِي النَّاحِيَة من هُوَ أصلح مِنْهُ فَفِي انْعِقَاد إِمَامَة الْمَفْضُول خلاف

(7/288)


فَإِن منعنَا فَفِي انْعِقَاد قَضَاء الْمَفْضُول وتوليته خلاف وَالأَصَح أَنه ينْعَقد لِأَن مَا يفوت من مزية الْإِمَامَة لَا جبر لَهَا ونقصان القَاضِي يجْبرهُ نظر الإِمَام من وَرَائه فَإِن قُلْنَا لَا ينْعَقد حرم عَلَيْهِ الْقبُول وَحرم على الإِمَام التَّوْلِيَة فَإِن قُلْنَا ينْعَقد جَازَ للمفضول الْقبُول إِن ولي بِغَيْر مسأله وَأولى أَن لَا يقبل وَأما الطّلب فمكروه وَلَا يَنْتَهِي إِلَى التَّحْرِيم وَقيل إِنَّه يحرم وَهَذَا كُله فِي الواثق بِنَفسِهِ الَّذِي اختبر ورعها وتقواها فَإِن كَانَ مَعَه استشعار خِيَانَة فَيحرم الطّلب
الثَّالِثَة أَن يكون فِي الْبَلَد من هُوَ دونه فَإِن قُلْنَا لَا تَنْعَقِد ولَايَة الْمَفْضُول الْتحق بالصورة الأولى وَإِن قُلْنَا تَنْعَقِد جَازَ الْقبُول بل هُوَ الأولى لتَحْصِيل تِلْكَ المزية للْمُسلمين وَأما الطّلب فَهُوَ جَائِز وَإِن قلد بِغَيْر سُؤال فَهَل يلْزمه الْقبُول فِيهِ وَجْهَان وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ واثقا بِنَفسِهِ فَإِن كَانَ خَائفًا فَهَذَا لَا يوازيه مزية الْفَضِيلَة فليمتنع
الرَّابِعَة أَن يكون فِي النَّاحِيَة مثله فالقبول جَائِز وَإِن ولي بِغَيْر سُؤال فَلَا يجب الْقبُول على الْأَظْهر لِأَنَّهُ غير مُتَعَيّن لَكِن الأولى الْقبُول لِأَنَّهُ أَتَاهُ من غير مَسْأَلَة فيعان عَلَيْهِ وَأما الطّلب فَيحْتَمل أَن يكره للخطر وَيحْتَمل أَن يسْتَحبّ للفضيلة وكل هَذَا إِذا لم يخف على نَفسه فَإِن خَافَ خوفًا ظَاهرا فَعَلَيهِ الحذر
وَإِن كَانَ لَا يستشعر ميلًا وَلكنه لم يجرب نَفسه فِي الولايات فَإِن كَانَ لَهُ حَاجَة لطلب رزق وكفاية فَلَا تطلق لَهُ الْكَرَاهِيَة بالتوهم مَعَ الْحَاجة فَلهُ الطّلب وَإِن لم تكن حَاجَة فَيكْرَه لَهُ الطّلب بِمُجَرَّد هَذَا الإستشعار وَلَا يَنْتَهِي إِلَى التَّحْرِيم
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي صِفَات الْقُضَاة وَلَا بُد أَن يكون حرا ذكرا مفتيا بَصيرًا إِذْ لَا ولَايَة للْعَبد وَلَا للْمَرْأَة وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يجوز تَوْلِيَة الْمَرْأَة فِيمَا لَهَا فِيهِ شَهَادَة

(7/289)


وَقَوْلنَا مفتي أردنَا الْمُجْتَهد الَّذِي تقبل فتواه وَيخرج عَنهُ الصَّبِي وَالْفَاسِق إِذْ لَا تقبل فتواهما نعم الفاص مفت فِي حق نَفسه حَتَّى لَا يجوز لَهُ تَقْلِيد غَيره وَلَكِن لَا يوثق بفتواه ونعني الْمُجْتَهد المتمكن من دَرك أَحْكَام الشَّرْع اسْتِقْلَالا من غير تَقْلِيد غَيره ويستقصى تَفْصِيل ذَلِك فِي علم الْوُصُول أما الْمُقَلّد فَلَا يصلح للْقَضَاء وَأما من بلغ مبلغ الإجتهاد فِي مَذْهَب إِمَام لَا فِي أصل الشَّرْع فَفِي جَوَاز الْفَتْوَى لَهُ خلاف مَبْنِيّ على أَن من قَلّدهُ كَانَ قد قلد إِمَامه الْمَيِّت أم قَلّدهُ فِي نَفسه فَمن جوز تَقْلِيد الْمَيِّت وَهُوَ الصَّحِيح جوز لَهُ

(7/290)


الْفَتْوَى وَمَعَ هَذَا فَلَا تجوز تَوليته مَعَ الْقُدْرَة على مُجْتَهد مُسْتَقل وَإِذا لم يُوجد غَيره وَجب تَقْدِيمه على الْجَاهِل وَالَّذِي لم يبلغ مبلغ الإجتهاد فِي الْمَذْهَب
وَيَنْبَغِي أَن يعْتَبر مَعَ هَذِه الْخِصَال الْكَفَاءَة اللائقة بِالْقضَاءِ فمجرد الْعلم لَا يَكْفِي لهَذِهِ الْأُمُور
وَفِي تَوْلِيَة الْأُمِّي الَّذِي لَا يحسن الْكِتَابَة وَجْهَان أصَحهمَا الْجَوَاز إِذْ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمِّيا وَأما الْعَمى فمينع الْقَضَاء لِأَنَّهُ لَا يُمَيّز بَين الْخُصُوم وَالشُّهُود
ثمَّ هَذِه الشُّرُوط أطلقها أَصْحَابنَا وَقد تعذر فِي عصرنا لِأَن مصدر الولايات خَال عَن هَذِه الصِّفَات وَقد خلا الْعَصْر أَيْضا عَن الْمُجْتَهد المستقل وَالْوَجْه الْقطع بتنفيذ قَضَاء من ولاه السُّلْطَان ذُو الشَّوْكَة كَيْلا تتعطل مصَالح الْخلق فَإنَّا ننفذ قَضَاء أهل الْبَغي للْحَاجة فَكيف يجوز تَعْطِيل الْقَضَاء الْآن نعم يَعْصِي السُّلْطَان بتفويضه إِلَى الْفَاسِق وَالْجَاهِل وَلَكِن بعد أَن ولاه فَلَا بُد من تَنْفِيذ أَحْكَامه للضَّرُورَة
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة فِي الإستخلاف وَالْأولَى بِالْإِمَامِ أَن يُصَرح بِالْإِذْنِ فِيهِ فَإِن نهى

(7/291)


امْتنع وَإِن أطلق فَثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه يمْتَنع لِأَنَّهُ لم يُفَوض إِلَيْهِ وَولَايَة الْقَضَاء عِنْد الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ تتجزأ حَتَّى لَو فوض إِلَيْهِ قَضَاء الرِّجَال دون النِّسَاء أَو قَضَاء الْأَمْوَال دون النُّفُوس أَو اسْتثْنى شخصا وَاحِدًا عَن ولَايَته نفذ عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله فَكَذَلِك إِذا لم يُفَوض إِلَيْهِ الإستخلاف
وَالثَّانِي أَن الْمُطلق ينزل على الْمُعْتَاد فَيجوز لَهُ الإستخلاف
وَالثَّالِث أَنه إِن اتسعت خطة الْولَايَة بِحَيْثُ لَا يقدر على الْقيام بِنَفسِهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا
وتشترط صِفَات الْقُضَاة فِي النَّائِب إِلَّا إِذا لم يُفَوض إِلَيْهِ إِلَّا تعْيين الشُّهُود أَو التَّزْكِيَة فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط من الْعلم إِلَّا مَا يَلِيق بِهِ وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد نَائِب القَاضِي فِي الْقرى إِذا لم يُفَوض إِلَيْهِ إِمْضَاء الحكم بل سَماع الْبَيِّنَة ونقلها فَلَا يشْتَرط منصب الإجتهاد بل الْعلم اللَّائِق بِأَحْكَام الْبَينَات

فرع
لَيْسَ لَهُ أَن يشْتَرط على النَّائِب الحكم بِخِلَاف اجْتِهَاده أَو بِخِلَاف اعْتِقَاده حَيْثُ يجوز تَوْلِيَة الْمُقَلّد للضَّرُورَة بل اعْتِقَاد الْمُقَلّد فِي حَقه كالإجتهاد فِي حق الْمُجْتَهد فَإِن شَرط حَنَفِيّ على نَائِبه الشَّافِعِي الحكم بِمذهب أبي حنيفَة رَحمَه الله جَازَ لَهُ الحكم فِي كل مَسْأَلَة توَافق فِيهَا المذهبان وَمَا فِيهِ خلاف لَا يحكم فِيهِ أصلا لَا بِمذهب أبي حنيفَة رَحمَه

(7/292)


الله فَإِنَّهُ خلاف اعْتِقَاده وَلَا بِمذهب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ لم يُفَوض إِلَيْهِ
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة إِذا نصب فِي بَلْدَة قاضيين على أَن لَا يسْتَقلّ أَحدهمَا دون الآخر لم يجز لِأَن الإختلاف يكثر فِي الإجتهاد فَيُؤَدِّي إِلَى بَقَاء الْخُصُومَات ناشئة وَلَو خصص كل قَاض بِطرف من أَطْرَاف الْبَلَد جَازَ كَمَا يعْتَاد فِي بَغْدَاد وَإِن أثبت لكل وَاحِد الإستقلال فِي جَمِيع الْبَلَد فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا لَا إِذْ يتنازع الخصمان فِي اخْتِيَار أَحدهمَا وَكَذَلِكَ فِي إِجَابَة داعيهما بِخِلَاف دَاعِي الإِمَام وَالْقَاضِي أَو خَلِيفَته فَإِن دَاعِي الأَصْل يقدم وَكَذَلِكَ من اخْتَارَهُ
وَالثَّانِي أَنه يجوز وَيحكم عِنْد النزاع بِالْقُرْعَةِ فِي التَّقْدِيم
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي التَّحْكِيم
إِذا حكم رجلَانِ اخْتَصمَا فِي مَال هَل ينفذ حكمه عَلَيْهِمَا فِيهِ قَولَانِ وَالنِّكَاح مُرَتّب على المَال وَأولى بِأَن لَا ينفذ والعقوبات مرتبَة على النِّكَاح وَأولى بِأَن لَا تنفذ ثمَّ اخْتلف فِي مَحل الْقَوْلَيْنِ قيل إِنَّه إِذا لم يكن فِي الْبَلَد قَاض فَإِن كَانَ لم يجز وَقيل إِن لم

(7/293)


يكن فَهُوَ جَائِز وَإِن كَانَ فَقَوْلَانِ وَقيل بطرد الْقَوْلَيْنِ مُطلقًا وَالأَصَح الْمَنْع بِكُل حَال وَقد ذكرنَا تَوْجِيه ذَلِك فِي مَسْأَلَة مُفْردَة التمس بعضه الْفُقَهَاء بِالشَّام

التَّفْرِيع
إِن جَوَّزنَا ذَلِك فَلْيَكُن الْمُحكم على صفة تجوز للْقَاضِي تَوليته ثمَّ لَا ينفذ إِلَّا على من رَضِي فَلَو تعلق بثالث كَمَا إِذا كَانَ فِي قتل الْخَطَأ لم يضْرب الدِّيَة على الْعَاقِلَة إِذا لم يرْضوا بِحكمِهِ وَفِيه وَجه أَن رضَا الْقَاتِل كَاف فِيهِ لأَنهم تبع لَهُ وَهُوَ بعيد لِأَن إِقْرَار الْقَاتِل لَا يلْزمهُم فَكيف يلْزمهُم رِضَاهُ وَالْمذهب أَنه لَا يحكم فِي الإستيفاء بل لَيْسَ إِلَيْهِ إِلَّا الْإِثْبَات وَفِيه وَجه
وَلَا شكّ أَنه مَمْنُوع من اسْتِيفَاء الْعُقُوبَات لِأَنَّهُ يخرم أبهة الْولَايَة ثمَّ للمحكم أَن يرجع عَن التَّحْكِيم قبل تَمام الحكم وَبعده فَلَا ينفع وَإِن لم يجدد رضَا بعد الحكم فَهَل يلْزم بِمُجَرَّد الرِّضَا السَّابِق ذكر الْعِرَاقِيُّونَ وَجْهَيْن

(7/294)


الْفَصْل الثَّانِي فِي الْعَزْل وَحكمه

وَفِيه خمس مسَائِل
الأولى فِي الإنعزال وينعزل بِكُل صفة لَو قارنت التَّوْلِيَة لامتنع كالعمى وَالْجُنُون وَالنِّسْيَان أما الْفسق فالإمام الْأَعْظَم لَا يَنْعَزِل بطرآنه إِذْ فِيهِ خطر ويجر ذَلِك فَسَادًا أما القَاضِي إِذا فسق وَجب على الإِمَام عَزله وَقطع الْفُقَهَاء المعتبرون بانعزاله وَقَالَ بعض الْأُصُولِيِّينَ لَا يَنْعَزِل إِلَّا أَن يعْزل

فرع
لَو جنالقاضي ثمَّ أَفَاق فَهَل يعود قَضَاؤُهُ فِيهِ وَجْهَان وَالأَصَح أَنه لَا يعود كَالْوكَالَةِ لِأَن الْقَضَاء أَيْضا جَائِز إِذْ للْقَاضِي أَن يعْزل نَفسه
الثَّانِيَة فِي جَوَاز الْعَزْل فللإمام عزل القَاضِي إِذا رابه مِنْهُ أَمر وَيَكْفِي غَلَبَة الظَّن فَإِن لم يظْهر سَبَب فَعَزله بِمن هُوَ أفضل نفذ وَإِن عَزله بِمن هُوَ دونه لم ينفذ على الْأَظْهر وَإِن عَزله بِمثلِهِ فَوَجْهَانِ وَاخْتَارَ الإِمَام نُفُوذ عَزله بِكُل حَال إِذْ رُبمَا يرى من هُوَ دونه أصلح لَهُم مِنْهُ نعم عَلَيْهِ فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى أَن لَا يعْزل إِلَّا لمصْلحَة الْمُسلمين فَإِن خَالف الْمصلحَة عصى وَلَكِن يَنْبَغِي أَن ينفذ عَزله فَإِن ذَلِك يجر فَسَادًا فِي الْأَقْضِيَة

فرع
حَيْثُ ينفذ الْعَزْل فَهَل يقف على بُلُوغ الْخَبَر إِلَيْهِ طَرِيقَانِ
أَحدهمَا أَنه على قَوْلَيْنِ كَالْوَكِيلِ
وَالثَّانِي الْقطع بِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِل لما فِيهِ من الضَّرَر

(7/295)


أما إِذا كتب إِذا قَرَأت كتابي هَذَا فينعزل عِنْد الْقِرَاءَة وَكَذَلِكَ إِذا قرىء عَلَيْهِ بِخِلَاف الطَّلَاق فَإِن ذَلِك يَنْبَنِي على اللَّفْظ وَهَذَا يَنْبَنِي على الْمَقْصُود وَلَا يقْصد الإِمَام الجاد فِي الْعَزْل قِرَاءَته بِنَفسِهِ وَفِيه وَجه أَن هَذَا كَالطَّلَاقِ
الثَّالِثَة إِذا انْعَزل الإِمَام لم يَنْعَزِل الْقُضَاة وَكَذَا إِذا مَاتَ إِذْ يعظم الضَّرَر فِي خلو الخطة عَن الْقُضَاة وَلَو انْعَزل القَاضِي بعزل أَو موت أَو غَيره انْعَزل كل من فوض إِلَيْهِ شغلا معينا كمن يصغي إِلَى شَهَادَة مُعينَة وَأما خَلِيفَته ونوابه فِي الْقرى وقيم الْأَطْفَال فَفِي انعزالهم ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنهم لَا ينعزلون كَمَا لَا يَنْعَزِل القَاضِي بِمَوْت الإِمَام
الثَّانِي ينعزلون كَمَا يَنْعَزِل الْوَكِيل
وَالثَّالِث أَنه إِن اسْتخْلف بِالْإِذْنِ الصَّرِيح لم ينعزلوا وَإِن اسْتَقل بالإستخلاف انعزلوا
الرَّابِعَة إِذا قَالَ القَاضِي بعد الْعَزْل كنت قضيت لفُلَان لم يقبل قَوْله كَالْوَكِيلِ بعد الْعَزْل وَيقبل بِمُجَرَّد قَوْله قبل الْعَزْل وَإِن لم تكن بَيِّنَة وَإِن قضينا بِأَنَّهُ لَا يحكم بِمُجَرَّد علمه وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أهل الْإِنْشَاء فِي الْحَال وَلَو شهد عَدْلَانِ بعد الْعَزْل على قَضَائِهِ ثَبت وَإِن كَانَ هُوَ أحد العدلين وَقَالَ أشهد أَنِّي قضيت لم يقبل وَلَو قَالَ أشهد أَن قَاضِيا قضى فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا تقبل كَمَا تقبل شَهَادَة الْمُرضعَة كَذَلِك

(7/296)


وَالثَّانِي لَا لِأَن نِسْبَة الْقَضَاء إِلَيْهِ ظَاهر فَكَأَنَّهُ صرح بِهِ
الْخَامِسَة من ادّعى على قَاض مَعْزُول أَنه أَخذ مِنْهُ رشوة حمله إِلَى القَاضِي الْمَنْصُوب ليفصل بَينهمَا الْخُصُومَة بطريقها
وَإِن ادّعى أَنه أَخذ مني المَال بِشَهَادَة عَبْدَيْنِ أَو معلنين بِالْفِسْقِ فَكَذَلِك وَإِن ادّعى مُجَرّد الحكم دون أَخذ المَال فَفِي قبُول الدَّعْوَى وَجْهَان ينبنيان على أَن القَاضِي إِذا أقرّ على نَفسه بذلك هَل يغرم أم يخْتَص الْغرم بالشهود
لَو حاسب الصَّارِف الْأُمَنَاء فَادّعى وَاحِد مِنْهُم أَنه أَخذ مِنْهُ أُجْرَة قدرهَا لَهُ الْمَعْزُول فَلَا أثر لتصديق الْمَعْزُول وَلَكِن الزَّائِد على أُجْرَة الْمثل يسْتَردّ وَهل تصدق يَمِينه فِي قدر أُجْرَة الْمثل فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا لِأَنَّهُ مُدع
وَالثَّانِي نعم لِأَن الظَّاهِر أَنه لَا يعْمل مجَّانا وَقد فَاتَت مَنَافِعه فَلَا بُد من عوض

(7/297)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّانِي فِي جَامع آدَاب الْقَضَاء وَفِيه فُصُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْفَصْل الأول فِي آدَاب مُتَفَرِّقَة

وَهِي عشرَة
الأول أَن من قبل الْولَايَة فِي الحضرة فليقدم إِلَى الْبَلَد من يشيع ولَايَته فَإِن انْصَرف على الْفَوْر وَقدم فَجْأَة وَلم يستفض فَادّعى أَنه قَاض فَلهم الإمتناع من الطَّاعَة إِن لم يكن مَعَه كتاب وَإِن كَانَ كتاب من غير استفاضة وَلَا شَهَادَة عَدْلَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يجب اعْتِمَاد الْكتاب مَعَ مخايل الصدْق وَبعد الجرأة على التلبيس فِي مثل هَذَا على السُّلْطَان
وَالثَّانِي أَن ابْتِدَاء الْأُمُور الْعَظِيمَة لَا بُد من الإحتياط فِيهَا فَلَا بُد من عَدْلَيْنِ يخبران عَن التَّوْلِيَة وَإِن لم تكن على صِيغَة الشَّهَادَة فَإِنَّهُ لَيْسَ لذَلِك خصم معِين حَتَّى تُقَام عَلَيْهِ وَلَا ثمَّ قَاض آخر تثبت عِنْده وَإِن ظَهرت مخايل الْخِيَانَة فَلَا حرج على النَّاس فِي التَّوَقُّف أصلا
الْأَدَب الثَّانِي أَنه كَمَا قدم فَيَنْبَغِي أَن لَا يشْتَغل بِشَيْء حَتَّى يفتش عَن المحبوسين

(7/298)


فَمن كَانَ مَحْبُوسًا ظلما أَو فِي تَعْزِير أطلقهُ وَمن أقرّ بِأَنَّهُ مَحْبُوس بِحَق رده إِلَى الْحَبْس فَإِن لم يعْتَرف سَأَلَهُ عَن خَصمه فَإِن ذكر خصما حَاضرا أحضرهُ فطالبه بابتداء الْخُصُومَة فَإِن أَقَامَ الْحجَّة على أَن القَاضِي الأول حكم عَلَيْهِ رده إِلَى الْحَبْس وَإِلَّا خلاه حَتَّى يسْتَأْنف الْخُصُومَة فَإِن قَالَ الْمَحْبُوس حبست ظلما قَالَ بَعضهم يخلى فَإِن إمسكانه من غير حجَّة لَا وَجه لَهُ وخصمه يحْتَاج إِلَى ابْتِدَاء الْخُصُومَة لَا محَالة وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ لَا بُد أَن يحضر خَصمه أَولا وَيسْأل فَإِن لم يظْهر لَهُ خصم أطلق فَإِن قَالَ لَا أَدْرِي لم حبست يُنَادى عَلَيْهِ إِلَى حد الإشاعة فَإِن لم يظْهر لَهُ خصم أطلق وَفِي مُدَّة الإشاعة لَا يحبس وَلَا يخلى بل يراقب وَهل يُطَالب بكفيل بِبدنِهِ فِيهِ وَجْهَان وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه لَا يلْزمه ذَلِك فَإِن ذكر خصما غَائِبا وَقَالَ أَنا مظلوم فَمنهمْ من قطع بِأَنَّهُ يخلى وَمِنْهُم من ذكر وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَنه يكْتب إِلَى خَصمه حَتَّى يجْتَهد فِي التَّعْجِيل ويحضر فَإِن تخلف أطلق
وَالثَّانِي أَنه يُطلق لِأَن انْتِظَار الْغَائِب يطول بِخِلَاف الْحَاضِر
ثمَّ يَنْبَغِي أَن يُبَادر بعد الْفَرَاغ من المحبوسين إِلَى النّظر فِي أَمْوَال الْأَيْتَام والأوصياء ومحاسبتهم فَإِنَّهَا وقائع لَا رَافع لَهَا إِلَيْهِ فَإِن وَقعت حَادِثَة فِي أثْنَاء ذَلِك وَلم يتَفَرَّع لفصلها مَعَ شغل الأوصياء اسْتخْلف من يقوم بِأحد المهمين وَالْغَرَض مبادرة هَذِه الْأُمُور
الْأَدَب الثَّالِث أَن يتروى بعد ذَلِك فِي تَرْتِيب الْكتاب والمزكين والمترجمين أما الْكَاتِب

(7/299)


فَلْيَكُن عدلا عَاقِلا نزها عَن الطمع وَيَكْفِي كَاتب وَاحِد وَلَا أقل من مزكيين وَسَتَأْتِي صفاتهم
وَأما المترجم فَلَا بُد أَيْضا من عَددهمْ وَأما المسمع وَهُوَ الَّذِي يسمع القَاضِي الْأَصَم فَفِي اشْتِرَاط الْعدَد ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه يشْتَرط كالمترجم فَإِنَّهُ ينْقل عين اللَّفْظ كَمَا أَن ذَلِك ينْقل معنى اللَّفْظ
وَالثَّانِي لَا لِأَن المسمع لَو غير عرفه الخصمان والحاضرون بِخِلَاف التَّرْجَمَة
وَالثَّالِث أَن الْعدَد لَا يشْتَرط إِلَّا أَن يكون الخصمان أصمين فَإِن الْقَوْم قد يغفلون عَن تَغْيِيره والخصم هُوَ الَّذِي يعتني بِهِ

التَّفْرِيع
إِن لم نشترط الْعدَد فَلَا نرعى لفظ الشَّهَادَة
وَهل تشْتَرط الْحُرِّيَّة فِيهِ خلاف كَمَا فِي شَهَادَة رُؤْيَة الْهلَال لرمضان وَالصَّحِيح أَنه يسْلك بِهِ مَسْلَك الرِّوَايَة وَإِن شَرط الْعدَد فَفِي لفظ الشَّهَادَة وَجْهَان وعَلى الْجُمْلَة لَيست هَذِه شَهَادَة مُحَققَة وَلَكِن لَا يبعد الإستظهار فِيهَا بِالْعدَدِ وَاللَّفْظ
وَقد حصل أَن الْعدَد شَرط فِي الشَّاهِد والمزكى والمترجم والمقوم وَلَا يشْتَرط فِي الْقَائِف

(7/300)


للْخَبَر وَهل يشْتَرط فِي الخارص وَالقَاسِم والمسمع فِيهِ وَجْهَان
ثمَّ إِن شرطنا الْعدَد فِي المسمع فَلَا بُد من رجلَيْنِ وَإِن كَانَت الْخُصُومَة فِي مَال وَكَذَا فِي الشَّهَادَة على الْوكَالَة بِالْمَالِ لِأَن الْمَشْهُود عَلَيْهِ لَيْسَ بِمَال فِي نَفسه وَإِن كَانَ إِلَيْهِ يَئُول

فرع
إِذا طلب المسمع أُجْرَة فَهِيَ على صَاحب الْحق أم هِيَ من بَيت المَال على وَجْهَيْن
الْأَدَب الرَّابِع أَن يتَّخذ القَاضِي مَجْلِسا رفيقعا يكون مهب الرِّيَاح فِي الصَّيف وَفِي الشتَاء كَمَا كسا وَالْمَقْصُود أَن لَا يتسارع إِلَيْهِ الْملَل فيستضر الْخُصُوم وَلَا يَنْبَغِي أَن يتَّخذ الْمَسْجِد مَجْلِسا للْقَضَاء فَإِن فعل ذَلِك فَهُوَ مَكْرُوه وَلَيْسَ بِمحرم وَسبب الْكَرَاهَة إفضاؤه إِلَى رفع الْأَصْوَات وَدخُول النِّسَاء الْحيض وَالصبيان وَقَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِذا كنت

(7/301)


أكره ذَلِك فإقامة الْحُدُود أكره وَلَا بَأْس بفصل قَضِيَّة أَو قضايا فِي أَوْقَات مُتَفَرِّقَة وَقد فعل ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن لم يَتَّخِذهُ مَجْلِسا وَكَلَام الْمُزنِيّ يُشِير إِلَى أَن اتِّخَاذه مَجْلِسا لَا يكره لَكِن الأولى تَركه وَالصَّحِيح الْكَرَاهِيَة

فرع
ذكر الصيدلاني وَجْهَيْن فِي أَن القَاضِي هَل يتَّخذ حاجبا وبوابا وَالْوَجْه أَن يُقَال لَهُ ذَلِك إِن كَانَ فِي خلْوَة وَإِن جلس للْحكم وخشي الرَّحْمَة فَلهُ ذَلِك وَإِلَّا فَلْينْظر إِلَى الْمصلحَة نعم ينقدح التَّرَدُّد إِن لم يخمش الزحمة من حَيْثُ إِن فِيهِ توقفا لصَاحب الْحق إِلَى الإستئذان فَيجوز أَن يمْنَع مِنْهُ وَيجوز أَن يحْتَمل ذَلِك ليستعد القَاضِي وَيتْرك انبساطه فِي الْبَيْت ويتصدى لَهُ
الْأَدَب الْخَامِس أَن لَا يقْضِي فِي حَال غضب وحزن بَين وألم مبرح وجوع غَالب إِذْ يسوء خلقه فيمتد غَضَبه قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان وَفِي

(7/302)


مَعْنَاهُ كل مَا يمْنَع من التؤدة وَاسْتِيفَاء الْفِكر
الْأَدَب السَّادِس أَن لَا يخرج حَتَّى يجْتَمع عُلَمَاء الْفَرِيقَيْنِ ليشاورهم فَيكون أبعد من التُّهْمَة قَالَ تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مستغنيا عَن مشاورتهم وَلَكِن أَرَادَ أَن تصير سنة للحكام
الْأَدَب السَّابِع أَن لَا يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي بِنَفسِهِ وَلَا بوكيل مَعْرُوف لِأَنَّهُ يستحيا مِنْهُ أَو يخَاف فيحابى فَيكون مرتشيا بِقدر الْمُسَامحَة
الْأَدَب الثَّامِن إِذا أَسَاءَ وَاحِد أدبه فِي مَجْلِسه بمجاوزة حد الشَّرْع فِي الْخِصَام أَو مشافهة الشُّهُود بالتكذيب زَجره بِاللِّسَانِ فَإِن عَاد عزره وراعى التدريج فِيهِ فَإِن ظهر لَهُ شَهَادَة زور عزّر المزور على مَلأ من النَّاس ونادى عَلَيْهِ حَتَّى لَا يحمل الشَّهَادَة بعده
الْأَدَب التَّاسِع أَن لَا يقْضِي لوَلَده وَلَا على عدوه بِعِلْمِهِ وَإِن قُلْنَا يقْضِي بِالْعلمِ وَهل يقْضِي بِالْبَيِّنَةِ فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم لِأَنَّهُ أَسِير شَاهِدين فَلَيْسَ إِلَيْهِ شَيْء بِخِلَاف الشَّاهِد فَإِنَّهُ يقدر على الْكَذِب
وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَح أَنه لَا يقْضِي إِذْ إِلَيْهِ الإستقصاء فِي دقائق أَدَاء الشَّهَادَة وَالرَّدّ بالتهمة وَإِلَيْهِ التسامح فِيهِ فولده كنفسه فيرفع إِلَى الإِمَام فَإِن رفع إِلَى نَائِبه وَحكم بِهِ فَفِيهِ وَجْهَان يلتفتان على أَنه هَل يَنْعَزِل بِمَوْتِهِ فَإِنَّهُ إِن لم يَنْعَزِل يشابه قَاضِيا مُسْتقِلّا
ووصى الْيَتِيم إِذا ولي الْقَضَاء فَلَا يقْضِي لَهُ لِأَنَّهُ خصم فِي حَقه كَمَا فِي حق نَفسه

(7/303)


وَولده وَقَالَ الْقفال يقْضِي لِأَن كل قَاض فَهُوَ ولي الْأَيْتَام وَهُوَ الصَّحِيح
الْأَدَب الْعَاشِر أَن لَا ينْقض قَضَاء نَفسه وَلَا قَضَاء غَيره بِظَنّ واجتهاد يُقَارب ظَنّه الأول قضى عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِإِسْقَاط الْأَخ من الْأَب وَالأُم فِي مَسْأَلَة المشركة بعد أَن شرك فِي الْعَام الأول فروجع فِيهِ فَقَالَ ذَاك على مَا قضينا وَهَذَا على مَا نقضي وينقض فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع
الأول أَن يُخَالف نَص الْكتاب أَو سنة متواترة أَو إِجْمَاعًا وَهَذَا ظَاهر
الثَّانِي أَن يُخَالف قِيَاسه واجتهاده خبر الْوَاحِد الصَّحِيح الصَّرِيح الَّذِي لَا يحْتَمل إِلَّا تَأْوِيلا

(7/304)


بَعيدا ينبو الْفَهم عَن قبُوله فينقض قَضَاء الْحَنَفِيّ فِي مَسْأَلَة خِيَار الْمجْلس والعرايا وذكاة الْجَنِين وَألْحق الْأَصْحَاب بِهِ النِّكَاح بِلَا ولي وَالْحكم بِشَهَادَة الْفَاسِق وَبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَأَمْثَاله وَقَالُوا لَا نبالي بتنزيل الْمُتَبَايعين فِي خِيَار الْمجْلس على المتقاولين وتنزيل الْمَرْأَة فِي النِّكَاح بِلَا ولي على الْأمة وَالصَّغِيرَة فَإِنَّهُ جلي الْبطلَان
الثَّالِث أَن يُخَالف الْقيَاس الْجَلِيّ فينقض قَضَاء أَصْحَاب الظَّاهِر المعتقدين بطلَان

(7/305)


الْقيَاس لِأَنَّهُ بَاطِل بِدَلِيل أصولي قَاطع
وينقض قَضَاء الْحَنَفِيّ إِن قضى بالإستحسان الْمُخَالف للْقِيَاس الْجَلِيّ إِلَّا أَن يعْنى بِهِ اتِّبَاع الْخَبَر أَو الْقيَاس الْخَفي فَمن اسْتحْسنَ بِغَيْر ذَلِك فقد شرع نعم قد اسْتحْسنَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الْحلف بالمصحف وَلكنه مصلحَة من غير مُخَالفَة خبر وَقِيَاس فَهُوَ جَائِز
وينقض مَذْهَب الْحَنَفِيّ فِي مَسْأَلَة الْقَتْل بالمثقل ومعظم مسَائِل الْحُدُود وَالْغَصْب لِأَنَّهُ على خلاف القانون الْكُلِّي وَقَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أنقض قَضَاء من حكم لزوجة الْمَفْقُود بِأَن تنْكح بعد تربص أَربع سِنِين وَإِن كَانَ ذَلِك مَذْهَب عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
الرَّابِع أَن يُقَاوم الْقيَاس الْجَلِيّ قِيَاس خَفِي يسْتَند إِلَى وَاقعَة شَاذَّة لَا يُمكن تلفيقه إِلَّا بتكلف كَقَوْل أبي حنيفَة رَحمَه الله إِن الْمَأْذُون فِي التِّجَارَة لَا يقْتَصر على الْإِذْن بل يتَعَدَّى لقياس يتَكَلَّف استنباطه من مَسْأَلَة الْعهْدَة بالحيلة وَقَوْلنَا إِنَّه يتبع إِذن الْمَالِك قِيَاس جلي يعلم الأصولي سُقُوط خيالهم بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ
وعَلى الْجُمْلَة فَإِذا لم ينقدح عِنْده إِمْكَان الْإِصَابَة عِنْد الله عز وَجل بعد إِحَالَة وَقع فينقضه

(7/306)


وَهَذَا مِمَّا يخْتَلف بالمجتهدين والوقائع وَإِنَّمَا لَا ينْقض الْقَضَاء حِين يتقارب النظران تقاربا لَا يبعد وهم الْإِصَابَة أَو الْمصير إِلَى أَن كل وَاحِد مُصِيب
ثمَّ الْقَضَاء وَإِن لم ينْقض فَلَا يتَغَيَّر بِهِ الحكم بَاطِنا وَإِنَّمَا ينفذ الْقَضَاء عندنَا ظَاهرا وَإِن وَقع فِي مَحل الإجتهاد وَقَالَ الْقفال يحل بَاطِنا وَقطع الأصوليون بِأَنَّهُ لَا يتَغَيَّر أَمر الْبَاطِن وَهُوَ الصَّحِيح فَلَا يحل للشفعوي شُفْعَة الْجَار وَإِن قضى لَهُ الْحَنَفِيّ بهَا
وَهل يمنعهُ الْحَنَفِيّ عَن طلبه على خلاف اعْتِقَاده فِيهِ تردد وَالظَّاهِر أَنه لَا يمْنَع إِذْ القَاضِي لَا يلْتَفت إِلَى مَذْهَب غَيره
فرع لَو ظهر لَهُ خطأ فِي وَاقعَة فليتتبع وَإِن لم ترفع إِلَيْهِ وَإِن ظهر لَهُ خطأ القَاضِي الْمَعْزُول لَا يلْزمه التتبع مَا لم ترفع إِلَيْهِ

(7/307)


الْفَصْل الثَّانِي فِي مُسْتَند قَضَائِهِ

وَلَا يخفى استناده إِلَى الْحجَج وَالْغَرَض الْقَضَاء بِالْعلمِ والخط أما الْقَضَاء بِمَا ينْفَرد بِعِلْمِهِ فَفِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه يقْضِي بِهِ وَهُوَ أقوى من شَاهِدين
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ يتَعَرَّض للتُّهمَةِ ويوغر الصُّدُور وَلَا يَلِيق بالإيالة فتح هَذَا الْبَاب فَيصير أَيْضا وَسِيلَة لقضاة السوء وَفِي الْعُقُوبَات قَولَانِ مرتبان وَأولى بِأَن لَا يقْضِي وَالصَّحِيح أَنه لَا معنى للتَّرْتِيب مَعَ حُصُول حَقِيقَة الْعلم والعقوبات فِيهِ كَالْمَالِ
فَإِن قُلْنَا يقْضِي فَلَا خلاف أَنه لَا يقْضِي بظنه الَّذِي لَا يسْتَند إِلَى بَيِّنَة وَيَقْضِي بِعِلْمِهِ كَيفَ كَانَ وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يقْضِي إِلَّا بِعلم حصل فِي زمَان ولَايَته وَمَكَان ولَايَته وَإِن قُلْنَا لَا يقْضِي فيستثنى عَنهُ أَرْبَعَة أُمُور

(7/308)


الأول أَنه يتَوَقَّف عَن الْقَضَاء إِذا علم كذب الشُّهُود يَقِينا بل يجب عَلَيْهِ التَّوَقُّف عِنْد الرِّيبَة فَكيف يقْضِي على خلاف معلومه
الثَّانِي أَنه يقْضِي بِهِ فِي عَدَالَة الشُّهُود وَمِنْهُم من قَالَ يحْتَاج إِلَى مزكين على هَذَا القَوْل لِأَنَّهُ يتهم وَكَيف لَا وَالْعَدَالَة لَا تعلم يَقِينا
الثَّالِث يقْضِي على من أقرّ فِي مجْلِس الْقَضَاء وَإِن رَجَعَ الْمقر فَإِنَّهُ أقوى الْحجَج وَأما إِن أقرّ عِنْده سرا فَيخرج على الْقَوْلَيْنِ وَمِنْهُم من جوز أَيْضا على الْإِقْرَار سرا قولا وَاحِدًا
الرَّابِع أَنه لَو شهد شَاهد وَاحِد فَهَل يُغني علمه عَن الشَّاهِد الثَّانِي حَتَّى يكون هُوَ كشاهد آخر فِيهِ وَجْهَان وَالأَصَح أَنه
لَا يَكْفِي أما الْخط فَإِذا رأى القَاضِي خطه بِأَنِّي قضيت بِكَذَا لم يجز لَهُ إمضاؤه وَكَذَا الشَّاهِد

(7/309)


بل لَا بُد وَأَن يتَذَكَّر الْوَاقِعَة بِجَمِيعِ حُدُودهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُف يجوز الإعتماد على الْخط كَمَا فِي الْيَمين فَإِنَّهُ رأى خطّ أَبِيه جَازَ لَهُ أَن يحلف على الْبَتّ فِي طلب الْحُقُوق وإسقاطها إِذا وثق بِهِ وَقطع أَصْحَابنَا بِالْفرقِ لِأَن التزوير على الْخط بِحَيْثُ لَا يخْتَلف مُمكن وَفِي فتح هَذَا الْبَاب خطر عَام بِخِلَاف الْيَمين فَإِنَّهُ يُبَاح بغالب الظَّن وَلَا تُؤدِّي إِلَى ضَرَر عَام
فَإِذن الإعتماد على ثَلَاث دَرَجَات أوسعها الْحلف وأضيقها الْقَضَاء وَالشَّهَادَة فَإِنَّهُ لَا يعْتَمد فِيهِ مُجَرّد الْخط دون التَّذَكُّر وَبَينهمَا رِوَايَة الْأَحَادِيث فَإِنَّهُ لَا يعْتَمد فِيهِ مُجَرّد الْخط إِن أمكن التحريف لَكِن إِن صحت النُّسْخَة وحفظها بِنَفسِهِ وَأمن من التَّغَيُّر جَازَت الرِّوَايَة على الْأَظْهر وَعَلِيهِ عمل عُلَمَاء الْأَمْصَار وَسوى الصيدلاني بَينهمَا وَقَالَ لَا يحل للمحدث إِلَّا رِوَايَة مَا حفظ وتذكر فليرو كَذَلِك أَو ليترك الرِّوَايَة وَسوى الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد على الْعَكْس من هَذَا وَقَالَ الشَّاهِد إِذا نسخ الْوَاقِعَة وَحفظ النُّسْخَة فِي خزانَة ووثق بِأَنَّهُ لم تحرف جَازَ لَهُ الشَّهَادَة وَإِن لم يذكر وَالْمَشْهُور بَين الْأَصْحَاب الْفرق بَين دَرَجَة الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة فِي صُورَة حفظ النُّسْخَة وَمَا ذكره الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد أقرب مِمَّا ذكره الصيدلاني

(7/310)


فروع

الأول لَو شهد شَاهِدَانِ عِنْد القَاضِي بِأَنَّهُ قضى لم يجز لَهُ الحكم إِذا لم يتَذَكَّر ويشهدان عِنْد غَيره فَيثبت قَضَاؤُهُ وَإِن لم يذكرهُ وَلم يكذبهما وَلَكِن القَاضِي يَنْبَغِي أَن يطْلب من نَفسه الْيَقِين وَلَا يُمكنهُ طلب الْيَقِين من قَاض آخر وَيجوز هَذَا فِي الرِّوَايَة فَمن الْمَشَايِخ من كَانَ يَقُول حَدثنِي فلَان عني وَقَالَ أَبُو يُوسُف يقبل ذَلِك فِي الْقَضَاء أَيْضا
الثَّانِي أَنه لَو ادّعى خصم على قَاض أَنَّك قضيت لي فَأنْكر الْقَضَاء فَلَيْسَ لَهُ أَن يرفعهُ إِلَى قَاض آخر ويحلفه بل هُوَ كالشاهد لَا يحلف إِذا أنكر الشَّهَادَة وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن إِن قُلْنَا إِن الْيَمين الْمَرْدُودَة كَالْإِقْرَارِ فَلهُ ذَلِك حَتَّى إِن نكل حلف الْخصم وَكَانَ كإقرار القَاضِي وَهَذَا ضَعِيف
الثَّالِث إِذا التمس صَاحب الْحق من القَاضِي أَن يُعْطِيهِ خطه بِأَنَّهُ قضى لَهُ وَيسلم إِلَيْهِ محضرا ديوانيا هَل تجب الْإِجَابَة فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يجب إِذْ بِهِ إحكام الْأَمر وإتمامه
وَالثَّانِي لَا إِذْ لَا اعْتِمَاد على الْخط وَإِنَّمَا الْخط مُذَكّر فَقَط
فَإِن قُلْنَا يكْتب فالكاغد على الملتمس إِن لم يُطلق الإِمَام للقراطيس شَيْئا وَذَلِكَ مُسْتَحبّ إِطْلَاقه ثمَّ اعْلَم أَنا وَإِن لم نوجب كتبة الْمحْضر فَيُسْتَحَب للْقَاضِي اسْتِحْبَابا مؤكدا مهما جرت قَضِيَّة أَن يكْتب محضرا يذكر فِيهِ الْوَاقِعَة وَأَسْمَاء الْخَصْمَيْنِ فَإِن كَانَا غريبين كتب الْحِلْية ثمَّ يجمع محَاضِر كل أُسْبُوع فِي إضبارة ومحاضر الشَّهْر فِي قمطرة

(7/311)


ومحاضر السّنة فِي خريطة وَيكْتب عَلَيْهِ التواريخ وَيخْتم القَاضِي على الخريطة بِنَفسِهِ ويحفظه بِنَفسِهِ أَو بِعدْل لَا يتمارى فِيهِ وَيدْفَع نُسْخَة أُخْرَى إِلَى صَاحب الْحق حَتَّى إِن ضَاعَت وَاحِدَة سهل الرُّجُوع إِلَى الْأُخْرَى وَهَذَا هُوَ الْعَادة فَإِن التَّذَكُّر من غير خطّ بعيد وَمن جوز للأمي أَن يكون قَاضِيا فَلَا يُمكنهُ إِيجَاب الكتبة وَإِن التمس صَاحب الْحق

(7/312)


الْفَصْل الثَّالِث فِي التَّسْوِيَة بَين الْخَصْمَيْنِ

وَفِيه مسَائِل
الأولى أَن لَا يخصص أحد الْخَصْمَيْنِ بِالْإِذْنِ فِي الدُّخُول وَلَا بِجَوَاب السَّلَام وَلَا بمزيد الْبشر وَلَا بِالْقيامِ وَلَا بالبداية بالْكلَام وَلَا بِرَفْع الْمجْلس وَلَا بِالنّظرِ بل إِن نظر نظر إِلَيْهِمَا أَو أطرق وَقَالَ عَلَيْكُمَا السَّلَام
وَلَو بَادر أَحدهمَا بِالسَّلَامِ صَبر حَتَّى يسلم الثَّانِي فيجيب مَعًا إِلَّا أَن يظْهر التَّقَدُّم فيعذر فِي الْجَواب وَقيل يَنْبَغِي أَن يصبر قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي رَضِي الله عَنهُ سو بَين الْخَصْمَيْنِ فِي مجلسك ولحظك فيسوى بَين الشريف والوضيع فِي الْمجْلس إِلَّا أَن يكون أَحدهمَا ذِمِّيا فَيجوز أَن يرْتَفع عَلَيْهِ الْمُسلم على أحد الْوَجْهَيْنِ لما رُوِيَ أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ دخل مَعَ خصم ذمِّي لَهُ إِلَى شُرَيْح فَقَامَ لَهُ شُرَيْح فَقَالَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ هَذَا أول جورك ثمَّ أسْند عَليّ رَضِي الله عَنهُ ظَهره إِلَى الْجِدَار وَقَالَ أما إِن خصمي لَو كَانَ مُسلما لجلست بجنبه فَلَا بَأْس بِهَذَا الْقدر لأمر الْإِسْلَام أما التَّخْصِيص بِالْقيامِ فقد نهى عَنهُ ثمَّ لَا بَأْس أَن يَقُول القَاضِي من الْمُدَّعِي مِنْكُمَا فَإِذا

(7/313)


ابتدر أَحدهمَا بِدَعْوَى صَحِيحَة فَالظَّاهِر أَنه يَقُول للْآخر مَاذَا تَقول وَقيل إِنَّه يسكت حَتَّى يُجيب الآخر إِن شَاءَ ثمَّ إِن أقرّ ثَبت الْحق وَلم يفْتَقر إِلَى أَن يَقُول قضيت بِخِلَاف مَا لَو قَامَت بَيِّنَة لِأَن ذَلِك يتَعَلَّق بِاجْتِهَاد وَقيل يجب أَن يقْضِي أَيْضا فِي الْإِقْرَار
وَإِن أنكر قَالَ للْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَة وَقيل إِنَّه لَا يَقُول ذَلِك فَإِنَّهُ كالتلقين لإِظْهَار الْحجَّة وَلَيْسَ للْقَاضِي أَن يلقن إِقْرَارا وَإِنْكَارا وَحجَّة وَهُوَ بعيد لِأَنَّهُ سُؤال لَا تلقين فَإِن قَالَ لَا بَيِّنَة لي حَاضِرَة ثمَّ بعد ذَلِك أَقَامَ قبل وَإِن قَالَ لَا بَيِّنَة لي حَاضِرَة وَلَا غَائِبَة ثمَّ أَقَامَ بعد ذَلِك فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا تقبل لمناقضة قَوْله
وَالثَّانِي يقبل قَوْله فَلَعَلَّهُ تذكر وإصرار الْمُدعى عَلَيْهِ على السُّكُوت كإنكاره فِي جَوَاز إِقَامَة الْبَيِّنَة
الثَّانِيَة إِذا تساوق المدعون إِلَى مَجْلِسه فالسبق لمن سبق فَإِن لم يسْبق فالقرعة وَلَا يقدم لفضله إِلَّا أَن الْمُسَافِر يجوز تَقْدِيمه إِن رأى الْمصلحَة
ثمَّ من خرجت قرعته اقْتصر على خُصُومَة فَإِن أنشأ دَعْوَى أُخْرَى على ذَلِك الْخصم بِعَيْنِه فَالظَّاهِر الْمَنْع كشخص آخر وَمِنْهُم من جوز إِلَى ثَلَاث دعاوي وَيجوز تَقْدِيم الْمَرْأَة إِذا اقْتَضَت الْمصلحَة ذَلِك وَمِنْهُم من منع ذَلِك فِيهَا وَفِي الْمُسَافِر أصلا وَهُوَ بعيد وَكَذَلِكَ إِذا

(7/314)


ازدحموا على الْمُفْتِي والمدرس فليعول على الْقرعَة أَو السَّبق إِلَّا إِذا كَانَ مَا يطْلب مِنْهُ من الْعلم غير وَاجِب تَعْلِيمه فإليه الإختيار والإيثار

فرع
لَو سبق أَحدهمَا إِلَى الدَّعْوَى فَقَالَ الآخر كنت الْمُدَّعِي فَيُقَال لَهُ الْآن اخْرُج عَن مُوجب الدَّعْوَى فَإِنَّهُ سبق إِلَى الدَّعْوَى فَإِن ابتدءا مَعًا أَقرع بَينهمَا
الثَّالِثَة يَنْبَغِي أَن لَا يقبل الْهَدِيَّة لَا من الْخَصْمَيْنِ وَلَا من أَحدهمَا بل يتْرك قبُول الْهَدَايَا أصلا وَلَا بَأْس بقبولها مِمَّن اعْتَادَ ذَلِك قبل الْقَضَاء وَلَا خُصُومَة لَهُ
وَإِن كَانَ لَا يعْتَاد ذَلِك وَلَا خُصُومَة لَهُ فِي الْحَال جَازَ الْقبُول وَالْأولَى أَن يثيب أَو يضع فِي بَيت المَال وَأما من تكون لَهُ خُصُومَة فَيحرم قبُول هديته وَهل يملكهُ إِن قبله فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه لَا يملك لِأَنَّهُ حرَام
وَالثَّانِي أَنه يملك كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة تصح وَيحرم فعلهَا وَكَذَا الْخلاف فِيمَن وهب المَاء وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ لوضوئه من غير عطشان

(7/315)


الرَّابِعَة لَا يكره لَهُ حُضُور الولائم إِذا لم يخصص بالإجابة بَعضهم لِأَن فِي حُضُور الولائم أَخْبَارًا كَثِيرَة وَهَذَا فِي المأدبة الْعَامَّة أما مَا هيىء لأَجله فَلَا يحضرهُ فَإِنَّهُ كالهدية
وَلَا يحضر مأدبة الْخَصْمَيْنِ أصلا فَإِنَّهُ رُبمَا يتودد أَحدهمَا بِزِيَادَة تكلّف

(7/316)


الْفَصْل الرَّابِع فِي التَّزْكِيَة

وَفِيه مسَائِل
الأولى أَن الإستزكاء عندنَا حق الله تَعَالَى فَإِن سكت الْخصم وَجب على القَاضِي إِلَّا إِذا علم عدالتهما فَإِن الظَّاهِر أَنه يعول على الْعلم هَهُنَا وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِن سكت الْخصم قضى
وَلَو أقرّ الْخصم بعدالتهما وَلَكِن قَالَ قد زلا فِي هَذِه الْوَاقِعَة فَفِي وجوب الإستزكاء وَجْهَان وَالظَّاهِر أَنه يقْضِي مُؤَاخذَة لَهُ بقوله وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله
الثَّانِيَة فِي كَيْفيَّة الإستزكاء
وَهُوَ أَن يكْتب القَاضِي إِلَى الْمُزَكي اسْم الشَّاهِدين والخصمين وَقدر المَال فَلَعَلَّهُ يعرف

(7/317)


بَينهمَا عَدَاوَة وَرُبمَا يعدله فِي مِقْدَار يسير من المَال دون كثير وَمن الْأَصْحَاب من قَالَ الْعدْل فِي الْيَسِير عدل فِي الْكثير فَذكر قدر المَال لَا يجب وَهُوَ الْأَشْهر
وليكتب إِلَى الْمُزَكي سرا حَتَّى لَا يتوسل الشَّاهِد إِلَى الإستمالة والتعرف إِلَى الْمُزَكي بِحسن الْحَال ثمَّ يسْتَحبّ أَن يشافه القَاضِي الْمُزَكي ظَاهرا فِي آخر الْأَمر وَيسْتَحب أَن يكون لَهُ جمَاعَة من المزكين أخفياء لَا يعْرفُونَ
الثَّالِثَة صِفَات المزكين كصفات الشُّهُود وَيزِيد أَمْرَانِ
أَحدهمَا الْعلم بِالْجرْحِ وَالتَّعْدِيل
وَالْآخر خبرته ببواطن الشُّهُود فَلَا يجوز التَّعْدِيل بِنَاء على الظَّاهِر وَلَا بُد من الذُّكُورَة وَلَا بُد من الْعدَد إِلَّا إِذا كَانَ مَنْصُوبًا للْحكم بِالْجرْحِ وَالتَّعْدِيل وَسَمَاع الْبَيِّنَة فللقاضي أَن يعْتَمد قَوْله وَحده إِذا قَامَت الْبَيِّنَة عِنْده وَيجب على الْمُزَكي أَن يَقُول أشهد بِأَنَّهُ عدل إِن قُلْنَا تجب المشافهة وَإِن اكتفينا بالرقعة مَعَ الرَّسُول فَفِي اشْتِرَاط كتبه لفظ الشَّهَادَة خلاف كَمَا فِي المترجم

فرع
تركيته لوَلَده أَو وَالِده فِيهِ خلاف كَمَا فِي الْقَضَاء وَالْأَظْهَر أَنه كَالشَّهَادَةِ
الرَّابِعَة فِي مُسْتَند الْمُزَكي وَيَنْبَغِي أَن لَا يجرح إِلَّا بمعاينة سَبَب الْفسق أَو يَقِين وَعلم لِأَن ذَلِك يُمكن مَعْرفَته أما الْعَدَالَة فَلَا يُمكن مَعْرفَتهَا يَقِينا لِأَنَّهُ يرجع إِلَى أَنه لَيْسَ بفسق وَهُوَ نفي وَالْإِنْسَان يخفي عيوبه جهده وَإِنَّمَا يعدل إِذا خبر بَاطِنه بالصحبة مَعَه أَو شهد عِنْده

(7/318)


عَدْلَانِ بعدالته إِن كَانَ مَنْصُوبًا للْحكم بالتعديل وَالْأَصْل فِيهِ مَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ لمن عرف شَاهدا بالصلاح هَل كنت جارا لَهُ فتعرف إصباحه وإمساءه فَقَالَ لَا فَقَالَ هَل عاملته على الدِّينَار وَالدِّرْهَم فبهما تعرف الْأَمَانَات فَقَالَ لَا فَقَالَ هَل صحبته فِي السّفر فبه تعرف أَخْلَاق الرِّجَال فَقَالَ لَا فَقَالَ مَا أَرَاك إِلَّا رَأَيْته فِي الْمَسْجِد يهمهم فِي صلَاته يرفع رَأسه وَيخْفِضهُ هَات من يعرفك فَإِنَّهُ لَا يعرفك وَلِهَذَا يجب على القَاضِي أَن يعرف أَن الْمُزَكي هَل خبر بَاطِن الشَّاهِد أم لَا فِي كل مرّة إِلَّا إِذا علم من عَادَته أَنه لَا يُزكي إِلَّا بعد الْخِبْرَة
الْخَامِسَة كَيْفيَّة التَّعْدِيل أَن يَقُول هُوَ عدل عَليّ ولي أَو عدل مَقْبُول الشَّهَادَة فَإِن الْعدْل قد لَا تقبل شَهَادَته لكَون مغفلا
وَلَا يجب ذكر سَبَب الْعَدَالَة فَإِنَّهُ لَا ينْحَصر وَيجب ذكر سَبَب الْجرْح من شرب وزنا وَأكل حرَام وَغَيره وَهَذَا وَإِن كَانَ غيبَة فَهُوَ جَائِز لهَذِهِ الْحَاجة وَإِنَّمَا يجب الذّكر لِأَن للنَّاس مَذَاهِب فِي أَسبَاب الْجرْح فَمنهمْ من يفسق بِأَدْنَى خيال وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون الْمُزَكي من المتعصبين فِي الْمَذْهَب والأهواء
السَّادِسَة لَا تَكْفِي الرقعة إِلَى القَاضِي بالتعديل فَإِن الْخط لَا يعْتَمد وَالْأَظْهَر أَنه يجب المشافهة وَقَالَ الْإِصْطَخْرِي يَكْفِي رَسُولا عَدْلَانِ إِذْ تَكْلِيفه الْحُضُور شهرة

(7/319)


وَالْمُسْتَحب إخفاء الْمُزَكي
وَمن شَرط المشافهة أوجب لفظ الشَّهَادَة وَمن اكْتفى بالرسول ترددوا فِيهِ
السَّابِعَة إِذا زكى المزكون لَكِن ارتاب القَاضِي أَو توهم غَلطا فِي خُصُوص الْوَاقِعَة فليفرق الشُّهُود وليراجع أَنه كَيفَ رأى وَأي وَقت رأى فَرُبمَا عثر على تفَاوت بَين كلاميهما فَيكْشف بِهِ وَجه الْغَلَط والتهمة
فَإِذا كَانَ الشَّاهِد فَقِيها فَلهُ الْإِصْرَار على كلمة وَاحِدَة وَلَا يلْزمه التَّفْصِيل فَلَا يفصل وَلَا يزِيد على الْإِعَادَة وَلَيْسَ للْقَاضِي إِجْبَاره وَلَكِن ليبحث عَن جِهَات أخر
فَإِن أصر الشَّاهِد وَبحث وَلم تزل الرِّيبَة وَجب الْقَضَاء فَإِنَّهُ غَايَة الْإِمْكَان وَلَو قضى قبل الْبَحْث مَعَ بَقَاء الرِّيبَة لم يجز لَهُ ذَلِك لِأَن الْبَحْث حق الله تَعَالَى

(7/320)


فروع

الأول لَو عدل رجلَانِ وجرح رجن فالجرح أولى لِأَنَّهُ مُسْتَند إِلَى عيان وَلَو جرح رجل وَاحِد وَعدل رجلَانِ لم يقبل الْجرْح
الثَّانِي يتَوَقَّف القَاضِي إِذا توقف المزكون وَلَا يجوز للمزكي الْجرْح بِالتَّسَامُعِ فِي الْفسق بل التَّوَقُّف إِلَّا إِذا عاين أَو سمع أَو شهد عَدْلَانِ عِنْده على مُشَاهدَة الْفسق وَكَانَ حَاكما فِي التَّعْدِيل فَإِن عدل المزكون فللقاضي إِذا انْفَرد بتسامع الْفسق أَن يتَوَقَّف لِأَنَّهُ مَحل الرِّيبَة
الثَّالِث إِذا شهد الْمعدل مرّة أُخْرَى رُوجِعَ الْمُزَكي إِن طَال الزَّمَان إِذْ الْأَحْوَال تَتَغَيَّر وَإِن قرب الزَّمَان فَلَا وَلَو رَجَعَ الْمُزَكي فَفِي غرامته لِلْمَالِ وَجْهَان وَالله أعلم

(7/321)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّالِث فِي الْقَضَاء على الْغَائِب وَكتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَالْقَضَاء على الْغَائِب يجوز خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله وَالنَّظَر فِيهِ يتَعَلَّق بِسِتَّة أَرْكَان
الرُّكْن الأول الدَّعْوَى فَيشْتَرط فِيهَا ثَلَاثَة أُمُور
الأول الْإِعْلَام فَإِذا ادّعى دينا فليذكر قدره وجنسه وَهَذَا لَا يخْتَص بالغائب فَلَا يَكْفِيهِ أَن يَدعِي عشرَة دَنَانِير أَو دَرَاهِم مَا لم يذكر أَي نوع هِيَ وَلَا ينزل مُطلق الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير على الْغَالِب كَمَا لَا ينزل فِي الْإِقْرَار على الْغَالِب بِخِلَاف الْعُقُود إِذْ الْعَادة تُؤثر فِي الْمُعَامَلَات ثمَّ يعرض القَاضِي عَنهُ أَو يستفصله فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا يعرض حَتَّى لَا يكون كالتلقين وَكَذَلِكَ إِذا أدّى الشَّاهِد شَهَادَة مَجْهُولَة فَلَا يرشده القَاضِي بل يسكت وَكَذَلِكَ لَو شَبَّبَ الْمُدَّعِي بِمَا لَو ذكره كَانَ إِقْرَارا لم يزجره القَاضِي
وَالثَّانِي أَنه يستفصل وَهُوَ الْأَصَح لِأَن هَذَا سُؤال لَا تلقين
الثَّانِي صَرِيح الدَّعْوَى فَلَا يَكْفِيهِ أَن يَقُول لي على فلَان كَذَا مَا لم يقل إِنِّي الْآن مطَالب بِهِ فَلَو قَالَ لي عَلَيْهِ كَذَا وَيلْزمهُ التَّسْلِيم إِلَيّ فَهَذَا فِيهِ تردد لِأَنَّهُ لم يذكر

(7/322)


الطّلب وَالدّين لَازم قبل الطّلب فَلَعَلَّهُ لَيْسَ بِطَلَب
الثَّالِث أَن يكون مَعَه بَيِّنَة وَيَدعِي جحود الْغَائِب إِذْ لَا معنى للدعوى على الْغَائِب من غير بَيِّنَة وَلَا تسمع الْبَيِّنَة من غير جحود وَمِنْهُم من قَالَ لَا يشْتَرط ذكر الْجُحُود لِأَنَّهُ من أَيْن يعلم جحوده فِي الْغَيْبَة وَكَيف يعول على مُجَرّد قَوْله بل تجْعَل الْغَيْبَة كالسكوت وَالْبَيِّنَة تسمع على السَّاكِت فَلَو قَالَ هُوَ يعْتَرف وَإِنَّمَا أقيم الْبَيِّنَة استظهارا لم تسمع وَلَا خلاف أَنه لَو اشْترى شَيْئا فَخرج مُسْتَحقّا وَالْبَائِع غَائِب سَمِعت بَينته وَإِن لم يذكر الْجُحُود لِأَن تقدم البيع مِنْهُ كالجحود
الرُّكْن الثَّانِي الشُّهُود وَلَا بُد أَن يستقصي القَاضِي الْبَحْث وَلَا يخْتَلف ذَلِك عندنَا بالحضور والغيبة فَإِن الْبَحْث حق الله تَعَالَى
الرُّكْن الثَّالِث الْمُدَّعِي وَحكمه لَا يخْتَلف إِلَّا فِي دَعْوَى الْجُحُود وإحضار الْبَيِّنَة وَأمر ثَالِث وَهُوَ أَن القَاضِي يحلفهُ أَنه مَا أَبْرَأ عَنهُ وَلَا عَن شَيْء مِنْهُ وَلَا اعتضاض عَنهُ وَلَا عَن شَيْء مِنْهُ وَلَا اسْتَوْفَاهُ وَلَا شَيْئا مِنْهُ وَأَنه يلْزمه التَّسْلِيم إِلَيْهِ وَأَن الشُّهُود صدقُوا
ثمَّ هَذِه الْيَمين وَاجِبَة إِن كَانَت الدَّعْوَى على صبي أَو مَجْنُون أَو ميت فَإِن كَانَ على حَيّ عَاقل بَالغ فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَنه لَا يجب بل يحكم ثمَّ لَا ينحسم بَاب دَعْوَى الْإِبْرَاء والتوفية كَمَا على الْحَاضِر
وَالثَّانِي أَنه يجب إِذْ الْحَاضِر يُبَادر الدَّعْوَى والتسليط من غير استقصاء مِنْهُ محَال
ثمَّ على هَذَا لَا يجب التَّعَرُّض لصدق الشُّهُود وَإِنَّمَا يجب فِيمَن يحلف مَعَ شَاهد وَاحِد وَأما إِذا كملت الْبَيِّنَة فَلَا هَذَا إِذا ادّعى بِنَفسِهِ فَإِن ادّعى وَكيله وَهُوَ غَائِب فَلَا بُد

(7/323)


من تَسْلِيم الْحق بل لَو حضر الْمُدَّعِي عَلَيْهِ بِإِزَاءِ وَكيل الْمُدَّعِي فأقيمت الْبَيِّنَة عَلَيْهِ فَقَالَ إِن موكلك قد أبرأني فَأُرِيد يَمِينه توقف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فُقَهَاء الْفَرِيقَيْنِ بمرو فِي وَاقعَة فاستدرك الْقفال وَقَالَ يسلم الْحق إِذْ لَو فتح هَذَا الْبَاب تعذر طلب الْحُقُوق الغائبة بالوكلاء
الرُّكْن الرَّابِع فِي إنهاء الحكم إِلَى قَاض آخر وَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ أَو الْإِشْهَاد أَو المشافهة
أما مُجَرّد الْكِتَابَة فَلَا يعْتَمد إِذْ لَا تعويل على الْخط وَمُجَرَّد الْإِشْهَاد بعدلين دون الْكتاب كَاف وَإِن كتب فَهُوَ تذكرة للشاهدين وَلَا يعْتَمد حَتَّى لَو ضَاعَ لم يضر وَلَو شَهدا بِخِلَاف مَا فِي الْكتاب سمع لِأَن الإعتماد عل الْعلم وَيحصل علمهما بِأَن يجْرِي القَاضِي الْقَضَاء بَين يديهما ويشهدهما عَلَيْهِ وَلَا يَكْتَفِي أَن يسلم إِلَيْهِمَا الْكتاب وَيَقُول أشهد كَمَا أَن هَذَا خطي فَإِن قَالَ أشهد كَمَا أَن مَضْمُون الْكتاب قضائي قَالَ الْإِصْطَخْرِي يَكْفِي ذَلِك لِأَن هَذَا إِقْرَار بِمَجْهُول يُمكن مَعْرفَته وَقَالَ الْأَصْحَاب لَا يَكْفِي حَتَّى يذكر تَفْصِيل قَضَائِهِ للشاهدين وَيقرب من هَذَا مَا لَو سلم الْمقر القبالة إِلَى الشَّاهِد وَقَالَ أشهدك على مَا فِيهِ وَأَنا عَالم بِهِ وَلَعَلَّ الْأَصَح أَن هَذَا يَكْفِي لِأَنَّهُ مقرّ على نَفسه بِمَا لَا يتَعَلَّق بِحَق غَيره وَالْإِقْرَار بِالْمَجْهُولِ صَحِيح وَأما القَاضِي فمقر على نَفسه لَكِن بِمَا يرجع ضَرَره على غَيره فالإحتياط فِيهِ أهم

(7/324)


ثمَّ الأولى أَن يكْتب الْكتاب مَعَ الشُّهُود للتذكرة ويختمه وَيسلم إِلَيْهِمَا نُسْخَة غير مختومة للمطالعة وَيكْتب فِي الْكتاب اسْم الْخَصْمَيْنِ وَاسم أَبِيهِمَا وجدهما وحليتهما ومسكنهما إِلَى حَيْثُ يحصل التَّمْيِيز فَهُوَ الْمَقْصُود وَيذكر قدر المَال وتاريخ الدَّعْوَى وَيَقُول قَامَت عِنْدِي بذلك بَيِّنَة عادلة وحلفته مَعَ الْبَيِّنَة وَالْتمس مني الْقَضَاء والكتبة إِلَيْك لتستوفي فأجبته إِلَى ذَلِك وأشهدت عَلَيْهِ فلَانا وَفُلَانًا
وَلَا فَائِدَة فِي ذكر عَدَالَة شَاهِدي الْكتاب فَإِنَّهُ لَا تثبت عدالتهما بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا بِمُجَرَّد الْكتاب وهما يَشْهَدَانِ على الْكتاب بل يَنْبَغِي أَن تظهر عدالتهما للْقَاضِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ بطرِيق آخر فَإِن قيل إِذا لم يبْق إِلَّا اسْتِيفَاء الْحق فَلم لَا يُكَاتب واليا غير القَاضِي حَتَّى يَسْتَوْفِي قُلْنَا لِأَن الْكتاب لَا يثبت عِنْد الْوَالِي إِلَّا بِشَهَادَة الشُّهُود ومنصب سَماع الشَّهَادَة يخْتَص بالقضاة فَإِن شافه الْوَالِي جَازَ لَهُ الإستيفاء فِي بَلْدَة هِيَ من ولَايَة القَاضِي فَإِن كَانَت خَارِجَة عَن ولَايَته فَفِي وجوب اسْتِيفَائه نظر لِأَنَّهُ لَا ولَايَة لَهُ على تِلْكَ الْبقْعَة وَلَكِن الصَّحِيح وُجُوبه لِأَن سَماع الْوَالِي بالمشافهة كسماع قَاض آخر شَهَادَة الشُّهُود
أما المشافهة فَهِيَ أقوى لَكِن بِشَرْط أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي مَحل ولَايَته بِأَن يَكُونَا قاضيي بَلْدَة وَاحِدَة على الْعُمُوم أَو شقي بَلْدَة فيناديا فِي الطَّرفَيْنِ وَإِنَّمَا يَكْفِي ذَلِك إِذا

(7/325)


قَالَ قضيت فاستوف
أما إِذا قَالَ سَمِعت الْبَيِّنَة فاحكم فَلَا فَائِدَة لَهُ فِي خبْرَة الْبَيِّنَة لِأَن قَوْله فرع عَن الشُّهُود وَإِنَّمَا يُفِيد عِنْد الْعَجز عَنْهُم بِالْمَوْتِ أَو الْغَيْبَة هَذَا هُوَ الْأَظْهر وَفِيه وَجه سَيَأْتِي
أما إِذا اجْتمعَا فِي أحد الشقين فَقَالَ لَهُ صَاحب الْولَايَة إِذا رجعت إِلَى شقك فاستوف فَإِنِّي قد قضيت فَإِذا رَجَعَ جَازَ لَهُ الإستيفاء إِن جَوَّزنَا الْقَضَاء بِالْعلمِ لِأَنَّهُ علم حصل فِي غير مَحل ولَايَته وَإِن لم نجوز فقد أطلق بعض الْأَصْحَاب جَوَازه وَقَالَ الإِمَام لَا يجوز بل هُوَ كسماعه الشَّهَادَة فِي غير مَحل ولَايَته لِأَنَّهُ سمع حَيْثُ لم يكن أَهلا للسماع فَهُوَ كَمَا لَو قَالَ لَهُ سَمِعت الْبَيِّنَة وَلم يبْق إِلَّا الْقَضَاء فَإِنَّهُ لَا خلاف أَنه لَا يقْضِي إِذا رَجَعَ إِلَى شقَّه إِذْ قَول القَاضِي فرع لشهادة الشُّهُود فسماعه لَا يزِيد على سَماع الشَّهَادَة وَهَذَا يلْزمه أَن يَقُول الْوَالِي الَّذِي لَيْسَ بقاض لَا يَسْتَوْفِي لِأَن كَونه قَاضِيا لَا يُخرجهُ عَن كَونه واليا لَكِن يُمكن أَن يُجَاب بِأَن الْوَالِي لَا يقْضِي إِلَّا بِعِلْمِهِ ومستند علمه قَوْله قضيت فَكَذَلِك يجوز أَيْضا للْقَاضِي إِذا قُلْنَا إِنَّه يقْضِي بِعِلْمِهِ
أما إِذا قَالَ فِي غير مَحل ولَايَته لقاض آخر قضيت فِي ولايتي فاحكم أَو استوف فَلَا خلاف أَنه لَا يسمع إِذْ لَا حجَّة فِي قَوْله إِلَّا فِي مَحل ولَايَته

(7/326)


فروع

الأول إِذا كتب إِلَى قَاض فَمَاتَ الْكَاتِب أَو الْمَكْتُوب إِلَيْهِ جَازَ لكل من شهد عِنْده الشُّهُود من الْقُضَاة الحكم بِهِ لِأَن الْحجَّة فِي حكمه لَا فِي كِتَابه وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يجوز ذَلِك إِلَّا إِذا كتب إِلَى فلَان وَإِلَى كل من يصل إِلَيْهِ من الْقُضَاة وَكَأَنَّهُ يَجْعَل ذَلِك تفويضا
الثَّانِي إِذا قضى القَاضِي وَاقْتصر على قَوْله حكمت على أَحْمد بن مُحَمَّد فاعترف رجل فِي تِلْكَ الْبَلدة بِأَنَّهُ أَحْمد بن مُحَمَّد وَأَنه المعني بِالْكتاب وَأنكر الْحق فَلَا يلْزمه شَيْء لِأَن الحكم فِي نَفسه بَاطِل لِأَنَّهُ على مُتَّهم غير معِين لَا بِالْإِشَارَةِ وَلَا بِوَصْف مستقص كَامِل فَلَا يتم الحكم باعترافه بِأَنَّهُ المعني إِلَّا أَن يقر بِالْحَقِّ فَيُؤْخَذ الْحق بِإِقْرَارِهِ
أما إِذا استقصى فَذكر اسْم أَبِيه وجده وحليته ومسكنه ومحلته وأتى بالممكن فإمكان اشتراكه فِي جملَة هَذِه الصِّفَات على الندور لَا ينقدح فَإِن قَالَ الْمَأْخُوذ لست مُسَمّى بِهَذَا الإسم فعلى الْخصم إِن نقم بَيِّنَة على الإسم وَالنّسب فَإِن عجز حلفه فَإِن حلف انْصَرف عَنهُ الْقَضَاء وَإِن نكل توجه الْحق بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَة
فَلَو أَخذ يحلف على أَن الْحق لَا يلْزمه وَلَيْسَ يحلف على نفي الإسم فَلَا يسمع بِخِلَاف من ادعِي عَلَيْهِ قرض فَلم يُنكر وَلَكِن قَالَ لَا يلْزَمنِي تَسْلِيم شَيْء يقبل لِأَنَّهُ رُبمَا أخد ورد وَلَو اعْترف لطولب بِالْبَيِّنَةِ لِأَن مُجَرّد الدَّعْوَى لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ وَهَاهُنَا قد قَامَت الْبَيِّنَة على الإسم وَتوجه الْحق إِن ثَبت الإسم وَقَالَ الصيدلاني يقبل ذَلِك مِنْهُ كتلك الْمَسْأَلَة وَهُوَ ضَعِيف وَالْفرق أظهر

(7/327)


وَأما إِذا قَالَ أَنا مَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات وَلَكِن فِي الْبَلَد من يساويني فَإِذا أظهر ذَلِك وَلَو مَيتا انْصَرف الْقَضَاء عَنهُ وَهَذَا كُله إِذا قضى القَاضِي بِالْبَيِّنَةِ وَلم يبْق لَهُ إِلَّا الإستيفاء أما إِذا سمع الْبَيِّنَة وَكتب إِلَى قَاض آخر بِسَمَاع الْبَيِّنَة فَهَذَا جَائِز بالإتفاق وساعد عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله وَفِيه إِشْكَال لِأَنَّهُ إِن كَانَ تحملا كَالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة فَلَا يَكْتَفِي بِوَاحِد وَإِن كَانَ قَضَاء بِقِيَام الْبَيِّنَة وسماعها حَتَّى ينزل سَمَاعه منزلَة سَماع القَاضِي الثَّانِي فَلم يجب ذكر الشُّهُود فِي الْكتاب وصفتهم وَلَا يجب ذكر شُهُود الْوَاقِعَة إِذا تمم القَاضِي وَكَأن هَذَا قَضَاء مشوب بِالنَّقْلِ والأغلب عَلَيْهِ أَنه قَضَاء بأَدَاء الشَّهَادَة حَتَّى يقوم سَمَاعه مقَام سَماع الآخر وَلَكِن وَجب ذكر الشُّهُود لِأَن الآخر إِنَّمَا يقْضِي بقَوْلهمْ والمذاهب فِي الْحجَج مُخْتَلفَة فَرُبمَا لَا يرى القَاضِي الْقَضَاء بقَوْلهمْ
ثمَّ لَا خلاف أَنه لَو سمع وَلم يعدل وفوض التَّعْدِيل إِلَى الآخر جَازَ وَإِن كَانَ الأولى أَن يعدل لِأَن أهل بلدهم أعرف بهم وَلَو عدل القَاضِي وَأشْهد على التَّعْدِيل شُهُود الْكتاب جَازَ ذَلِك ثمَّ إِن ادّعى الْخصم جرحا فلظهر شَاهِدين عَدْلَيْنِ فَيقدم بَيِّنَة الْجرْح على التَّعْدِيل الَّذِي فِي الْكتاب فَإِن استمهل أمْهل ثَلَاثَة أَيَّام فَإِن قَالَ لَا أتمكن مِنْهُ إِلَّا فِي بلد الشُّهُود لم يُمْهل لِأَن ذَلِك يطول وَيصير ذَلِك ذَرِيعَة لَكِن يسلم المَال ثمَّ إِن أثبت الْجرْح اسْتردَّ قولا وَاحِدًا وَلم يخرج على مَا لَو كَانَ الْخصم حَاضرا وَأظْهر الْجرْح بعد الحكم فَإِن فِي نقض الْقَضَاء بِهِ قَوْلَيْنِ لِأَن الْحَاضِر مقصر وَهُوَ مَعْذُور
الثَّالِث لَو كَانَ للبلد قاضيان وجوزناه فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر سَمِعت الْبَيِّنَة فَاقْض فَلهُ ذَلِك إِن قُلْنَا الْغَالِب عَلَيْهِ الْقَضَاء وكأنهما تعاونا على حكم وَاحِد وَإِن قُلْنَا الْغَالِب النَّقْل لم يجز ذَلِك مَعَ حُضُور الشُّهُود فَإِن القَاضِي كالفرع للشُّهُود

(7/328)


الرُّكْن الْخَامِس فِي الْمَحْكُوم بِهِ
وَذَلِكَ إِن كَانَ دينا أَو عقارا يُمكن تحديده فَهُوَ سهل وَإِن كَانَ عينا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُمكن تَعْرِيفه بِالصّفةِ كالفرس وَالْجَارِيَة وَالْعَبْد أَو يكثر أَمْثَالهَا كالأمتعة والكرباس مثلا أما العَبْد وَأَمْثَاله فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه لَا ترتبط الدَّعْوَى وَالْقَضَاء بِعَيْنِه بل بِقِيمَتِه كالكرباس لِأَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ عرف بِالنّسَبِ وتعريف العَبْد وَالْفرس غير مُمكن
وَالثَّانِي أَنه يجوز أَن يقْضِي على عينه كالمحكوم عَلَيْهِ إِذا كَانَ خاملا
وَالثَّالِث أَنه يسمع الْبَيِّنَة على عينه وَلَا يقْضِي لِأَن إبراهم الحكم مَعَ هَذِه الْجَهَالَة صَعب
التَّفْرِيع إِن قُلْنَا إِنَّه يتَعَلَّق بِعَيْنِه فالمدعى عَلَيْهِ إِذا عين عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْبَلدة عبد فَيصْرف الْقَضَاء عَنهُ بِأَن يظْهر فِي الْبَلَد عبد آخر بِتِلْكَ الصّفة إِمَّا من ملكه أَو ملك غَيره فَإِن أظهر من ملكه لم يلْزمه تَسْلِيم أَحدهمَا بل صَار الْقَضَاء بَاطِلا لكَونه مُبْهما وَإِن لم يبين لزمَه تَسْلِيم العَبْد الْمَوْصُوف
وَإِن قُلْنَا إِنَّه يسمع الْبَيِّنَة فَقَط ففائدة الْمُدَّعِي أَن يُطَالب بِتَسْلِيم العَبْد إِلَيْهِ حَتَّى يُعينهُ

(7/329)


الشُّهُود فِي بَلَده ثمَّ فِي الإحتياط لملكه قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه يلْزم الْمُدَّعِي كَفِيلا بِالْبدنِ
وَالثَّانِي أَن الْكفَالَة بِالْبدنِ ضَعِيف فَلَا يلْزمه بل يلْزمه أَن يَشْتَرِي ويتكفل بِالْمَالِ ضَامِن حَتَّى إِن تلف تلف من ضَمَانه وَإِن ثَبت ملكه فِيهِ بَان بطلَان الشِّرَاء وَيحْتَمل هَذَا الْوَقْف للْحَاجة وَذكر الفوراني أَنه يلْزمه تَسْلِيم الْقيمَة إِلَيْهِ للْحَيْلُولَة فِي الْحَال من غير بَيِّنَة فَإِن ثَبت ملكه اسْتردَّ الْقيمَة وَهَذَا لَا بَأْس بِهِ إِذْ كَفَالَة الْبدن ضَعِيفَة الْفَائِدَة وَالْبيع رُبمَا لَا يرضى بِهِ صَاحب الْيَد
هَذَا فِي العَبْد أما الْجَارِيَة فتسلم إِلَى أَمِين لِأَن حفظ الْفروج وَاجِب وَمن يَدعِي الْملك لَا يمْتَنع من الْمُبَاشرَة وَإِن قُلْنَا إِنَّه كالكرباس فَلَا ترتبط الدَّعْوَى بِعَيْنِه بل ترتبط بِالْقيمَةِ فيذكر كرباسا أَو عبدا قِيمَته عشرَة مثلا وَلَا بَأْس بِذكر صِفَات الْعين وَلَا يجب كَمَا أَنه لَا بَأْس بِذكر قيمَة الْعقار وَقِيمَة العَبْد على قَوْلنَا تتَعَلَّق بِعَيْنِه وَلَكِن لَا يجب على الظَّاهِر
أما إِذا كَانَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ حَاضرا وَالْعَبْد والكرباس حاضرين وَلَكِن لم يحضرهُ مجْلِس الحكم فهاهنا يفْتَرق الكرباس وَالْعَبْد إِذْ الْمُنكر لَا يلْزمه إِحْضَار الكرباس لِأَنَّهُ يتماثل وَإِن أحضر وَأما العَبْد فَيحكم القَاضِي بِهِ وَإِن كَانَ غَائِبا إِذا عرفه القَاضِي بِعَيْنِه وَإِن لم يعرفهُ فَلَا بُد من إِحْضَاره للتعيين وَيجب ذَلِك على الْمُدعى عَلَيْهِ إِن اعْترف بِأَن فِي يَده عبدا هَذَا صفته وَإِن لم يعْتَرف حلف على أَنه لَيْسَ فِي يَده مثل هَذَا العَبْد فَإِن نكل فَحلف الْمُدَّعِي أَو أَقَامَ بَيِّنَة على أَن فِي يَده مثله حبس الْمُدعى عَلَيْهِ حَتَّى يحضر ويتأبد عَلَيْهِ الْحَبْس وَلَا يتَخَلَّص إِلَّا بالإحضار أَو بِدَعْوَى التّلف فَعِنْدَ ذَلِك يقبل قَوْله للضَّرُورَة ويقنع بِالْقيمَةِ ثمَّ إِن حضر فعلى الشُّهُود على الْوَصْف إِعَادَة الشَّهَادَة على الْعين
فَإِن علم الْمُدَّعِي حَيْثُ لَا بَينه لَهُ أَن الْمُدعى عَلَيْهِ لَا يُبَالِي بِالْحلف عل أَنه لَيْسَ فِي يَده فطريق الْجَزْم لَهُ أَن يصرف الدَّعْوَى إِلَى الْقيمَة وَيثبت الْمَالِيَّة بِالشَّهَادَةِ على الْوَصْف مهما لم يطْلب الْعين فَلَو قَالَ أَدعِي عبدا صفته كَذَا وَقِيمَته كَذَا فإمَّا أَن يرد الْعين أَو الْقيمَة فَهَذِهِ دَعْوَى غير مجزومة فَفِي سماعهَا وَجْهَان وَلَكِن اتّفق الْقُضَاة على سماعهَا للْحَاجة اصْطِلَاحا
فرع إِذا حضر العَبْد الْغَائِب وَلم يثبت ملك الْمُدَّعِي فعلى الْمُدَّعِي مئونة الْإِحْضَار

(7/330)


ومئونة الرَّد إِلَى مَكَانَهُ هَذَا مَا ذكره الْأَصْحَاب وَلم يتَعَرَّضُوا لأجرة منفعَته الَّتِي تعطلت وَلَا لمَنْفَعَة الْمَحْكُوم عَلَيْهِ إِذا تعطل بالحضور وَكَأن ذَلِك احتملوه لمصْلحَة الإيالة وَجعل ذَلِك وَاجِبا لإجابة القَاضِي فَلم يلْزمه بَدَلا أما مُؤنَة إِحْضَار العَبْد فَلم تحْتَمل
الرُّكْن السَّادِس الْمَحْكُوم عَلَيْهِ
وَشَرطه أَن يكون غَائِبا فَإِن كَانَ فِي الْبَلَد فَفِي جَوَاز سَماع الْبَيِّنَة قبل استحضاره وَجْهَان أَحدهمَا تسمع إِذْ إِنْكَاره غير مَشْرُوط وَإِنَّمَا الشَّرْط عدم إِقْرَاره وَهُوَ مَعْدُوم فِي الْحَال
وَالثَّانِي أَنه لَا يجوز لِأَن إِقْرَاره متوقع على قرب وسلوك أقرب الطّرق وَاجِب فِي الْقَضَاء
فَإِن قُلْنَا تسمع فَالْمَذْهَب أَنه لَا يقْضِي إِلَّا فِي حُضُوره فَلَعَلَّهُ يجد مطعنا ودفعا بِخِلَاف الْغَائِب فَإِن انْتِظَاره يطول وَفِيه وَجه بعيد أَنه يقْضِي كالغائب
أما إِذا حضر فَفِي جَوَاز سَماع الْبَيِّنَة من دون مُرَاجعَة الْخصم وَجْهَان مرتبان وَأولى بِالْمَنْعِ وَوجه الْجَوَاز أَنه قَادر على الدّفع وَالْكَلَام فَلْيَتَكَلَّمْ إِن أَرَادَ
أما إِذا توارى وَتعذر فَالْمَذْهَب أَنه يقْضِي عَلَيْهِ كالغائب وَذكر القَاضِي وَجها أَن الْمَنْع لَا يَجْعَل كالعجز كَمَا أَن منع الْمهْر وَالثمن لَا يلْحق بالإفلاس على وَجه واختتام الْبَاب بتنبيهات
الأول أَن فِي قبُول كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي وَالشَّهَادَة على الشَّهَادَة فِي الْحُدُود قَوْلَيْنِ وَفِي الْقصاص قَولَانِ مرتبان وَأولى بِالْقبُولِ

(7/331)


الثَّانِي أَن حد الْغَيْبَة مَا فَوق مَسَافَة الْعَدْوى وَهُوَ أَن يعدو من بَيته فَلَا يرجع إِلَيْهِ مسَاء فَإِن أمكن ذَلِك فَهُوَ كالحاضر فَيجب عَلَيْهِ إِجَابَة القَاضِي إِذا دَعَاهُ وَإِن دَعَاهُ صَاحب الْحق لم يجب الْحُضُور بل الْوَاجِب هُوَ الْحق إِن كَانَ صَادِقا وَإِلَّا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يجب الْحُضُور طَاعَة للْقَاضِي لأجل الْمصلحَة
الثَّالِث أَنه إِن لم يكن على مَسَافَة الْعَدْوى حَاكم فَيجوز للْقَاضِي إِحْضَاره وَلَكِن بعد إِقَامَة الْبَيِّنَة إِذْ تَكْلِيفه ذَلِك من غير حجَّة إِضْرَار وَلِهَذَا يجب على القَاضِي أَن لَا يخلي مثل هَذِه الْمسَافَة من حَاكم
الرَّابِع إِذا كَانَ للْغَائِب مَال فِي الْبَلَد وَجب على القَاضِي التوفية وَهل يُطَالب الْمُدَّعِي بكفيل فَرُبمَا توقع استدارك فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا إِذْ كل حكم يُمكن فِيهِ الإستدراك وَقد تمّ الحكم فِي الْحَال
وَالثَّانِي نعم لِأَن الْخصم غَائِب والإستدراك غَالب
الْخَامِس إِذا عزل القَاضِي بعد سَماع الْبَيِّنَة ثمَّ ولي يلْزمه استعادة الْبَيِّنَة إِذْ بَطل بِالْعَزْلِ سَمَاعه السَّابِق وَإِن خرج عَن مَحل ولَايَته ثمَّ رَجَعَ فَفِي الإستعادة وَجْهَان
السَّادِس المخدرة لَا تحضر مجْلِس القَاضِي لِأَن ضَرَر إبِْطَال الخدر أعظم من ضَرَر الْمَرَض بل يحضر القَاضِي أَو مَأْذُون من جِهَته فَكل من لَا تخرج أصلا إِلَّا لضَرُورَة مرهقة فَهِيَ مخدرة أما من لَا تخرج إِلَى العزايا والزيارات إِلَّا نَادرا قَالَ القَاضِي هِيَ أَيْضا مخدرة وَقيل بل هِيَ الَّتِي لَا تخرج إِلَّا لضَرُورَة وَقيل بل هِيَ الَّتِي لَا تصير مبتذلة بِكَثْرَة الْخُرُوج وَإِن كَانَت تخرج على الْجُمْلَة وَقَالَ الْقفال يجب إِحْضَار المخدرة لِأَن الْحُضُور بِهَذَا الْعذر لَا

(7/332)


يبطل التخدر وَخَالفهُ جَمِيع الْأَصْحَاب فِيهِ
السَّابِع للْقَاضِي أَن يتَصَرَّف فِي مَال حَاضر ليتيم خَارج عَن مَحل ولَايَته إِذا أشرف على الْهَلَاك كَمَا يتَصَرَّف فِي مَال كل غَائِب وَلَكِن هَل لَهُ نصب قيم للتَّصَرُّف فِيهِ تردد القَاضِي فِيهِ وَلم يبت جَوَابا فَإِنَّهُ نصب على الْيَتِيم وَفِي المَال أَيْضا
فَإِذا كَانَ الْيَتِيم فِي ولَايَته وَمَاله فِي ولَايَة أُخْرَى رُبمَا أدّى إِلَى أَن ينصب كل وَاحِد من القاضيين قيمًا وَلَعَلَّ الأولى أَن يُلَاحظ مَكَان الْيَتِيم لَا مَكَان المَال
وَأما إِذا زوج امْرَأَة خَارِجَة عَن مَحل ولَايَته من غَائِب خَارج عَن مَحل ولَايَته بِرِضَاهَا فَهَذَا يَنْبَغِي أَن لَا يَصح وَلَا يَكْفِي حُضُور الزَّوْج إِذْ لَا تعلق للولاية بِهِ بل حُضُور الْمَرْأَة مُعْتَبر لِأَنَّهُ ولي عَلَيْهَا بِخِلَاف المَال وَلَيْسَ ذَلِك كَمَا لَو حكم فِي مَحل ولَايَته على غَائِب خَارج عَن مَحل ولَايَته إِذْ الْمُدَّعِي حَاضر وَالْولَايَة مُتَعَلقَة بِهِ

(7/333)


الْبَاب الرَّابِع فِي الْقِسْمَة

وَفِيه ثَلَاثَة فُصُول
الْفَصْل الأول فِي القسام وأجرته

وَلَا يَنْبَغِي أَن يخلي الْحَاكِم النواحي عَن القسام لمسيس الْحَاجة إِلَيْهِ وَليكن لَهُم رزق من بَيت المَال وَكَذَا القَاضِي والمزكي أما الشَّاهِد فَلَا يعْطى كَيْلا يتهم مَعَ أَن الشُّهُود لَا ينحصرون
وَإِن لم يكن لَهُم رزق فَلَا يَنْبَغِي أَن يعين الْحَاكِم وَاحِدًا فيحسم على النَّاس اسْتِئْجَار غَيره وَفِي اشْتِرَاط الْعدَد فِي القسام قَولَانِ مأخذهما أَن منصبه منصب الْحَاكِم أَو الشَّاهِد
وَإِن نصب حَاكما للتقويم أَو للتزكية أَو للْقِسْمَة فَيثبت عِنْدهم بِشَاهِدين ثمَّ القَاضِي يعول على قَوْلهم على الإنفراد وَلَا يجوز أَن ينصب حَاكما ليحكم بالتقويم بِاجْتِهَادِهِ أَو ليزكي بِنَظَر نَفسه وَإِن فرعنا على أَن القَاضِي يقْضِي بِعِلْمِهِ نعم للْقَاضِي أَن يعْتَمد على مَا يعرفهُ من

(7/334)


عَدَالَة الشَّاهِد على رَأْي وَهل لَهُ أَن يَكْتَفِي ببصيرة نَفسه فِي التَّقْوِيم مِنْهُم من قطع بِالْمَنْعِ لِأَنَّهُ تخمين وَمِنْهُم من خرج على الْقَوْلَيْنِ
ثمَّ أُجْرَة القسام عِنْد تفَاوت الحصص تقسم على الرُّءُوس أَو على عدد قدر الحصص فِيهِ قَولَانِ كَمَا فِي الشُّفْعَة وَمِنْهُم من قطع بِأَنَّهُ على قدر الحصص لِأَن الْعَمَل فِي الْكثير بالمساحة أَكثر لَا محَالة
هَذَا إِذا أطلق الشُّرَكَاء العقد فَأَما إِذا انْفَرد كل وَاحِد بِذكر نصِيبه أتبع ذَلِك وَلَكِن لَيْسَ لوَاحِد أَن ينْفَرد بالإستئجار دون إِذن الشَّرِيك لِأَن تردده فِي الْملك الْمُشْتَرك مَمْنُوع دون الْإِذْن فَيكون الْعَمَل مَمْنُوعًا وَالْإِجَارَة فَاسِدَة بل يعْقد كل وَاحِد بِإِذن الآخرين أَو الْوَكِيل بِإِذن جَمِيعهم
فرع إِذا كَانَ أحد الشَّرِيكَيْنِ طفْلا وَطلب الْقيم الْقِسْمَة حَيْثُ لَا غِبْطَة رد القَاضِي عَلَيْهِ وَإِن كَانَ فِيهِ غِبْطَة فَعَلَيهِ حِصَّة من الْأُجْرَة
وَإِن طلب الشَّرِيك حَيْثُ لَا غِبْطَة فَفِي لُزُوم أُجْرَة لنصيب الطِّفْل وَجْهَان وَالظَّاهِر أَنه يجب إِذا لَزِمت الْإِجَابَة كَمَا فِي الْبَالِغ وَالْأُجْرَة تتبع لُزُوم الْقِسْمَة

(7/335)


الْفَصْل الثَّانِي فِي كَيْفيَّة الْقِسْمَة

فَإِن جرت فِي ذَوَات الْأَمْثَال جَازَت التَّسْوِيَة بِالْوَزْنِ والكيل وَكَذَا فِي الربويات إِن قُلْنَا إِنَّهَا إِفْرَاز حق وَإِن قُلْنَا إِنَّهَا بيع فَلَا يجوز فِي الْمكيل إِلَّا الْكَيْل فَإِن كَانَت فِي عَرصَة مُتَسَاوِيَة الْأَجْزَاء فالتسوية بالمساحة وتقسم الحصص وَتَكون الْأَجْزَاء على حسب أقل الحصص
بَيَانه عَرصَة لوَاحِد نصفهَا ولواحد ثلثهَا ولواحد سدسها فتجعل الأَرْض سِتَّة أَجزَاء مُتَسَاوِيَة بالمساحة وَإِن افْتقر إِلَى التَّعْدِيل بِالْقيمَةِ عدل كَذَلِك ثمَّ يكْتب أَسمَاء الْملاك على ثَلَاثَة رقاع لأَنهم ثَلَاثَة ويدرجها فِي بَنَادِق من شمع أَو طين مُتَسَاوِيَة وتسلم إِلَى من لم يشْهد ذَلِك حَتَّى يخرج وَاحِدًا وَيقف القسام على الطّرف فَإِن خرج اسْم صَاحب النّصْف أعطَاهُ الْجُزْء الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث على الإتصال حَتَّى لَا يتفرق نصِيبه ثمَّ يخرج الآخر فَإِن خرج اسْم صَاحب الثُّلُث أعطَاهُ الرَّابِع وَالْخَامِس وَيتَعَيَّن السَّادِس لصَاحب السُّدس
وَإِن خرج اسْم صَاحب السُّدس أعطَاهُ الرَّابِع وَتعين الْبَاقِي لصَاحب الثُّلُث وَتعين مَا مِنْهُ ابْتِدَاء التَّسْلِيم إِلَى تحكم القسام فيقف على أَي طرف شَاءَ
وَقد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِيمَن أعتق عبيدا لَا يملك غَيرهم أَنه يكْتب على الرقعة الْحُرِّيَّة وَالرّق لَا اسْم العبيد وَالْوَرَثَة وَهَا هُنَا لم يكْتب الثُّلُث وَالسُّدُس وَالنّصف فَمنهمْ من قَالَ قَولَانِ بِالنَّقْلِ والتخريج وَمِنْهُم من فرق بِأَن مُسْتَحقّ الْحُرِّيَّة هُوَ الله تَعَالَى دون العبيد فَيكْتب الْحُرِّيَّة ليندفع عَنْهَا الْوَرَثَة وَبَقِيَّة العبيد
وعَلى الْجُمْلَة هَذَا فِي الإستحباب إِذْ يجوز كتبة الْأَجْزَاء هَا هُنَا وكتبة الْأَسْمَاء ثمَّ

(7/336)


وَالْغَرَض يحصل فَإِن قُلْنَا يكْتب أَسمَاء الْملاك فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ يكْتب باسم صَاحب النّصْف ثَلَاث رقاع وباسم صَاحب الثُّلُث اثْنَتَيْنِ لِأَن صَاحب الْكثير أولى بِاسْتِحْقَاق الطّرف وَفِي تَكْثِير اسْمه مَا يُوجب التَّقْدِيم إِذْ الْغَالِب أَنه يسْبق وَاحِد من ثَلَاثَة وَالصَّحِيح أَنه لَا حق لَهُ إِلَّا فِي الْكَثْرَة فَيَكْفِي ثَلَاث رقاع

فرعان

الأول إِذا اسْتحق الْمَتَاع الْوَاقِع فِي حِصَّة أَحدهمَا أَو بعضه انتقضت الْقِسْمَة فَإِن اسْتحق عينا من يَد وَاحِد وَاسْتحق مثلهَا فِي الْقِسْمَة من يَد الآخر لم تبطل الْقِسْمَة وَفِيه وَجه أَنه تسْتَأْنف الْقِسْمَة ويلتفت على تَفْرِيق الصَّفْقَة وَإِن كَانَ المَال أَرضًا قسم بَينهمَا وَاسْتحق ثلث الْكل فقد بطلت الْقِسْمَة فِي ذَلِك الْقدر وَالْبَاقِي يخرج على تَفْرِيق الصَّفْقَة وَالأَصَح أَنه لَا ينْتَقض
أما إِذا ظهر دين أَو وَصِيَّة بعد الْقِسْمَة فَإِن قُلْنَا إِنَّهَا إِفْرَاز فالقسمة تبقى على الصِّحَّة إِن وفوا الدّين وَإِن قُلْنَا إِنَّهَا بيع فَفِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا الْبطلَان لِأَن الدّين إِمَّا أَن يمْنَع الْملك أَو يَجْعَل التَّرِكَة مَرْهُونَة
وَالثَّانِي أَنه يَصح بل التَّرِكَة كَالْعَبْدِ الْجَانِي فَينفذ بَيْعه إِلَّا أَن لَا يُوفي الدّين
الْفَرْع الثَّانِي إِذا ادّعى بعض الشُّرَكَاء غَلطا فِي الْقِسْمَة على قسام القَاضِي لم يكن لَهُ تَحْلِيفه لِأَنَّهُ حَاكم لَكِن لم تنقض الْقِسْمَة إِن أَقَامَ بَيِّنَة وَإِلَّا فَلهُ أَن يحلف شركاءه فَإِن حلف بَعضهم وَنكل بَعضهم فتفيد الْيَمين الْمَرْدُودَة نقض الْقِسْمَة فِي حق الناكلين دون الحالفين

(7/337)


هَذَا فِي قسْمَة القَاضِي بالإجبار أما إِذا كَانَ القسام مَنْصُوب الشُّرَكَاء بِالتَّرَاضِي أَو توَلّوا الْقِسْمَة بِأَنْفسِهِم فظهور الْغَلَط بعد تَمام الْقِسْمَة هَل يُوجب نقضهَا قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لَا تنقض لِأَنَّهُ رَضِي بِهِ فَصَارَ كَمَا إِذا اشْترى بِغَبن وَهَذَا يتَّجه على قَوْلنَا إِنَّهَا بيع فَإِن جعلناها إِفْرَاز حق فَلَا يُمكن ذَلِك مَعَ التَّفَاوُت وَكَذَا إِن جَعَلْنَاهُ بيعا وَلم يجر لفظ البيع أَو مَا يقوم مقَامه

(7/338)


الْفَصْل الثَّالِث فِي الْإِجْبَار

وَالْقِسْمَة ثَلَاثَة قسْمَة إِفْرَاز أَو تَعْدِيل أَو رد
أما قسْمَة الْإِفْرَاز فَهُوَ أَن يكون الشَّيْء متساوي الْأَجْزَاء كَالثَّوْبِ الْوَاحِد والعرصة المتساوية أَو المكيلات والموزونات فَيجْبر على هَذِه الْقِسْمَة من امْتنع قهرا بِشَرْط أَن تبقى الحصص بعد الْقِسْمَة منفعا بهَا الْمَنْفَعَة الَّتِي كَانَت فَلَا يجْبر على قسْمَة الطاحونة وَالْحمام الصَّغِير إِذا لم يُمكن الإنتفاع بِهِ بعده وَفِيه وَجه بعيد أَنه يجْبر إِذا كَانَ يبْقى أصل الإنتفاع وَإِن لم يبْق ذَلِك النَّوْع أما إِذا كَانَ الْحمام كَبِيرا تبقى بِهِ الْمَنْفَعَة عِنْد إِحْدَاث مستوقد آخر وبئر آخر وَمَا يجْرِي مجْرَاه فَفِي الْإِجْبَار تَفْرِيعا على الْمَشْهُور وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه لَا يجْبر لِأَنَّهُ تَعْطِيل إِلَّا بإحداث أَمر جَدِيد
وَالثَّانِي أَنه يجْبر لِأَن إبْقَاء أصل الْمَنْفَعَة بِأَمْر قريب مُمكن

فرع
إِذا ملك من دَار عشرهَا وَالْعشر الْمُفْرد لَا يصلح للمسكن فَالصَّحِيح أَن صَاحبه لَا يُجَاب إِلَى الْقِسْمَة لِأَنَّهُ متعنت وَهل يلْزمه الْإِجَابَة إِذا طلب شَرِيكه لصِحَّة غَرَضه فِيهِ وَجْهَان

(7/339)


أَحدهمَا نعم لتمييز ملكه
وَالثَّانِي لَا لِأَن فِيهِ تَعْطِيل الْمَنْفَعَة على الشَّرِيك فَكَأَنَّهُ فِي حَقه لَا يقبل الْقِسْمَة
وَإِن قُلْنَا لَا قسْمَة لوَاحِد مِنْهُمَا فَلَا شُفْعَة لوَاحِد مِنْهُمَا إِذا بَاعَ صَاحبه لِأَن الشُّفْعَة لدفع ضَرَر مُؤنَة الْقِسْمَة
أما إِذا كَانَ النّصْف لوَاحِد وَالنّصف الآخر لخمسة فَإِذا بَاعَ الْخَمْسَة النّصْف فَلصَاحِب النّصْف الآخر الشُّفْعَة لِأَن الْخَمْسَة لَو اجْتَمعُوا وطالبوه بِالْقِسْمَةِ أجبر وَإِنَّمَا لَا يجْبر إِذا كَانَ الطَّالِب وَاحِدًا وَفِيه وَجه أَيْضا أَن صَاحب الْعشْر يُجَاب إِذْ يَقُول لي أَن أعطل الْملك على نَفسِي فَلم لَا أجَاب وَهَذَا وَإِن كَانَ غير مَشْهُور فَهُوَ منقاس
الْقِسْمَة الثَّانِيَة قسْمَة التَّعْدِيل
وَهُوَ أَن يخلف الرجل على ثَلَاثَة بَنِينَ ثَلَاثَة عبيد متساوي الْقيمَة فَفِي الْإِجْبَار عَلَيْهِ خلاف مَشْهُور ذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنه يجْبر كَمَا فِي الْإِفْرَاز إِذْ لَا ضَرَر فِيهِ وَالثَّانِي أَنه لَا يجْبر إِذْ كل عبد يخْتَص بغرض وَصفَة لَا تُوجد فِي الْبَاقِي فَلَا يَكْفِي تَسَاوِي الْمَالِيَّة مَعَ تفَاوت الْأَغْرَاض وَذَلِكَ غير مَوْجُود فِي الأَرْض وَذَوَات الْأَمْثَال
وَإِن خلف بَين ثَلَاثَة بَنِينَ أَرْبَعَة أعبد قيمَة وَاحِد مائَة وَقِيمَة آخر مائَة وَقِيمَة الْإِثْنَيْنِ

(7/340)


الآخرين مائَة فَالْخِلَاف هَا هُنَا مُرَتّب وَأولى بِأَن لَا يجْبر لِأَن تفَاوت الْعدَد انْضَمَّ إِلَى تفَاوت الصّفة وَفِي الحمامات والطواحين الَّتِي لَا تقبل الْقِسْمَة وتتساوى قيمتهَا خلاف مُرَتّب وَأولى بِالْمَنْعِ إِذْ الْغَرَض يخْتَلف باخْتلَاف أماكنها اخْتِلَافا ظَاهرا
فَإِن خلف طاحونة وعبدا وحماما متساوي الْقيم فَالْخِلَاف مُرَتّب وَأولى بِالْمَنْعِ
أما إِذا خلف قطعا من الأَرْض متباينة وآحادها يقبل قسْمَة الْإِفْرَاز فَلَا يجْبر على قسْمَة التَّعْدِيل بِالْقيمَةِ لِأَن ذَلِك جوز ضَرُورَة للعجز عَن الْإِفْرَاز وميل نُصُوص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى منع الْإِجْبَار فِي هَذِه الْقِسْمَة

فروع

الأول دَار مُخْتَلفَة الجوانب فقسمتها من قسْمَة التَّعْدِيل إِلَّا إِذا كَانَ فِي كل جَانب بِنَاء يماثل الْجَانِب الآخر وَيُمكن قسْمَة الْعَرَصَة فَذَلِك كالأراضي فَإِن احْتِيجَ إِلَى التَّعْدِيل بِالْقيمَةِ مَعَ التَّفَاوُت فَلَا فرق بَينهمَا وَبَين الْأَمْتِعَة
الثَّانِي عَرصَة بَين شَرِيكَيْنِ وَقِيمَة أحد الْجَانِبَيْنِ تزيد لقُرْبه من المَاء حَتَّى يكون الثُّلُث بالمساحة نصفا بِالْقيمَةِ قَالَ الْأَصْحَاب يجْبر على هَذِه الْقِسْمَة وَلم يخرجوه على الْخلاف وَلم يكترثوا بِمثل هَذَا التَّفَاوُت النَّادِر
الثَّالِث قسْمَة اللبنات المتساوية القوالب من قبيل قسْمَة الْإِفْرَاز فَإِن تفاوتت القوالب فَهِيَ من قسْمَة التَّعْدِيل
الْقِسْمَة الثَّالِثَة قسْمَة الرَّد
وَهُوَ أَن يتْرك عَبْدَيْنِ قيمَة أَحدهمَا سِتّمائَة وَقِيمَة الآخر ألف فَلَو أَخذ أَحدهمَا

(7/341)


النفيس ورد مِائَتَيْنِ اسْتَويَا وَلَكِن هَذَا لَا يجْبر عَلَيْهِ قطعا لِأَن فِيهِ تَمْلِيكًا جَدِيدا
لَو قَالَ أَحدهمَا يخْتَص أَحَدنَا بالخسيس وَخمْس من النفيس فَهَذَا هَل يجْبر عَلَيْهِ ليتخلص فِي أحد الْعَبْدَيْنِ عَن الشّركَة فِيهِ خلاف وَالظَّاهِر أَنه لَا يجْبر لِأَن أصل الشّركَة لَيْسَ يَنْقَطِع
فَإِن قيل فَمَا حَقِيقَة الْقِسْمَة قُلْنَا أما قسْمَة الْإِفْرَاز فَفِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه إِفْرَاز إِذْ لَو كَانَ بيعا لما أجبر عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قد تبين بِالْقِسْمَةِ أَن مَا خصّه هُوَ الَّذِي ملكه
وَالثَّانِي أَنه بيع إِذْ يَسْتَحِيل أَن يُقَال إِنَّه لم يَرث من أَبِيه إِلَّا هَذِه الْحصَّة على الْخُصُوص
وَأما قسْمَة الرَّد فَهُوَ بيع فِي الْقدر الَّذِي يُقَابله الْعِوَض وَفِي قسْمَة الْبَاقِي وَفِي قسْمَة التَّعْدِيل بيع أَيْضا إِن قُلْنَا لَا يجْبر عَلَيْهِ وَإِن قُلْنَا إِنَّه يجْبر فطريقان مِنْهُم من خرج على الْقَوْلَيْنِ وَمِنْهُم من قطع بِأَنَّهُ بيع وَلَكِن يجْبر للْحَاجة
وَيخرج على الْقَوْلَيْنِ مسَائِل فِي الربويات وَالزَّكَاة وَالْوَقْف فَإِذا قُلْنَا إِنَّه بيع لم يجز فصل الْوَقْف عَن الْملك لِأَنَّهُ بيع أما فصل الْوَقْف من الْوَقْف فَلَا يجوز وَإِن قُلْنَا إِنَّه إِفْرَاز لِأَنَّهُ كالتغيير لشرط الْوَاقِف وَفِيه وَجه أَنه يجوز لِأَنَّهُ قد يشرف على الإنهدام فَيحْتَاج إِلَى الْقِسْمَة فَإِن قيل فَهَل يشْتَرط الرِّضَا قُلْنَا لَا يشْتَرط فِي قسْمَة الْإِجْبَار وَيشْتَرط فِي قسْمَة التَّرَاضِي وَلَا بُد من لفظ وَهُوَ قَوْله رضيت وَيجب تجديده بعد خُرُوج الْقرعَة فَيَقُول رضيت بِهَذَا وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ يَكْفِي السُّكُوت بعد الرِّضَا إِلَى خُرُوج الْقرعَة فَلَا يجب التَّجْدِيد
وَأَجْمعُوا على أَنه لَا يشْتَرط لفظ البيع وَإِن قُلْنَا إِنَّه بيع وَمِنْهُم من شَرط أَن يَقُول

(7/342)


قاسمتك على هَذَا الْوَجْه أَو رضيت بِالْقِسْمَةِ ليتلفظ بِالْقِسْمَةِ وَلَا يَكْفِي قَوْله رضيت بِهَذَا لِأَن الْقِسْمَة تُؤدِّي معنى التَّمْلِيك والتملك

فرعان

أَحدهمَا أَن الْقبَّة والقناة وَالْحمام وَمَا لَا يقبل الْقِسْمَة فَالصَّوَاب الْمُهَايَأَة فِيهَا بِالتَّرَاضِي وَمن رَجَعَ قبل اسْتِيفَاء نوبَته فَلهُ ذَلِك وَإِن استوفى ثمَّ رَجَعَ فَوَجْهَانِ أقيسهما أَنه يرجع وَيغرم مَا انْفَرد بِهِ
وَالثَّانِي لَا لِأَن هَذِه مُعَاملَة جرى عَلَيْهَا الْأَولونَ فَلَا تشوش وَقَالَ ابْن سُرَيج يجْبر على الْمُهَايَأَة لِأَن بعض من يَسْتَغْنِي عَنهُ لثروته قد يعطل على الشُّرَكَاء بِكَذَا وَالصَّحِيح أَنهم لَو تنازعوا وتناكدوا تركُوا إِلَى أَن يصطلحوا
الثَّانِي أَنه لَو تقدم جمَاعَة فالتمسوا من القَاضِي قسْمَة مَال بَينهم من غير إِقَامَة حجَّة على أَنه ملكهم فَالصَّحِيح أَن القَاضِي يقسم وَيكْتب فِي الْحجَّة إِنِّي قسمت بقَوْلهمْ وَكَذَلِكَ إِذا جَاءَ وَاحِد مِنْهُم وَطلب وَفِيه قَول آخر أَنه لَا يُجيب لِأَنَّهُ رُبمَا يكون متصرفا فِي مَال الْغَيْر من غير بَيِّنَة وَهُوَ بعيد لِأَن الْيَد لَهُم فِي الْحَال

(7/343)