تحفة المحتاج بشرح المنهاج ط العلمية

ج /1 ص -9-           بسم الله الرحمن الرحيم
قال المؤلف رحمه الله تعالى "بسم" أي أؤلف أو أفتتح تأليفي. والباء للمصاحبة، ويصح كونها للاستعانة نظرا إلى أن ذلك الأمر المبدوء باسمه تعالى لا يتم شرعا بدونه، وأصل اسم سمو من السمو، وهو الارتفاع حذف عجزه وعوض عنه همزة الوصل فوزنه افع وقيل افل من السيما وقيل اعل من الوسم وطولت الباء لتكون. عوضا عن حذفها، وهو إن أريد به اللفظ غير المسمى إجماعا أو الذات عينه كما لو أطلق لأن من قواعدهم أن كل حكم ورد على اسم فهو على مدلوله أو الصفة كان تارة غيرا كالخالق وتارة عينا. كالله وتارة لا ولا كالعالم، ولم يقل بالله حذرا من إيهام القسم وليعم جميع أسمائه تعالى.
"الله" هو على علم الذات الواجب الوجود المستحق لجميع الكمالات لذاته. ولم يسم به غيره تعالى ولو تعنتا في الكفر بخلاف الرحمن على نزاع فيه، وأصله إله حذفت همزته وعوض عنها أل وهو اسم جنس لكل معبود، ثم استعمل في المعبود بحق فقط فوصف ولم يوصف به وعليه فمفهوم الجلالة بالنظر لأصله كلي. وبالنظر إليه جزئي ومن ثم كان من الأعلام الخاصة من حيث إنه لم يسم به غيره تعالى ومن الغالبة من حيث إن أصله الإله بالنظر لاستعماله في المعبود بحق فقط، وكان قول لا إله إلا الله كلمة توحيد أي لا معبود بحق إلا ذلك الواحد الحق ومن زعم أنه اسم لمفهوم الواجب الوجود لذاته أو المستحق للمعبودية، وكل منهما كلي انحصر في فرد فلا يكون علما لأن مفهوم العلم جزئي فقد سها ولزمه أن لا إله إلا الله لا تفيد توحيدا كما بينته في شرح الإرشاد من أله بكسر عينه إذا تحير لتحير الخلق في معرفته أو بفتحها إذا عبد أو من لاه إذا ارتفع أو إذا احتجب، وهذا لكونه نظرا لأصله قبل العلمية لا ينافي علميته وهو عربي ووروده في غير العربية من توافق اللغات كما أن الحق وفاقا للشافعي والأكثرين أن كل ما قيل في القرآن من غير الأعلام أنه معرب ليس كذلك بل عربي توافقت فيه اللغات ولا بدع أن يخفى على مثل ابن عباس كونه عربيا كما خفي عليه معنى فاطر وفاتح، وقد قال الشافعي رضي الله عنه لا يحيط باللغة إلا نبي ومشتق عند الأكثرين وقول أبي حيان في نهره ليس مشتقا عند الأكثرين لعله أراد من النحاة وأعرف المعارف وإن كان علما "الرحمن" هو صفة في الأصل بمعنى كثير الرحمة جدا. ثم غلب على البالغ في الرحمة والإنعام بحيث لم يسم به غيره تعالى وغلبة علميته المقتضية لإعرابه بدلا هنا لا تمنع اعتبار وصفيته فيجوز كونه نعتا باعتبارها لوقوعه صفة ولكونه بإزاء المعنى ومجيئه غير تابع للعلم بحذف موصوفه، ويجوز صرفه وعدمه لتعارض سببيهما "الرحيم" أي ذي الرحمة الكثيرة. فالرحمن أبلغ منه بشهادة الاستعمال ولا يعارضه الحديث الصحيح يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما والقياس لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى غالبا وجعل كالتتمة لما دل على جلائل الرحمة الذي هو المقصود

 

ج /1 ص -10-         الأعظم لئلا يغفل عما دل عليه من دقائقها فلا يسأل ولا يعطي ومن حيز التدلي لأن الأول صار كالعلم كما تقرر وكلاهما صفة مشبهة من رحم بكسر عينه بعد نقله إلى رحم بضمها. أو تنزيله منزلته والرحمة ميل نفساني أريد بها لاستحالتها في حقه تعالى غايتها من الإنعام أو إرادته وكذا كل صفة استحال معناها في حقه تعالى.
"الحمد" الذي هو لغة الوصف بالجميل. وعرفا فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لإنعامه وهذا هو الشكر لغة، وأما اصطلاحا فهو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله فهو أخص مطلقا من الثلاثة - قبله أي ماهيته إن جعلت أل للجنس وهو الأصل أو جميع أفراده إن جعلت للاستغراق وهو أبلغ. مملوك أو مستحق "لله" أي لذاته وإن انتقم فلا مرد منه لغيره تعالى بالحقيقة والجملة خبرية لفظا إنشائية معنى إذ القصد بها الثناء على الله تعالى بمضمونها المذكور من اتصافه تعالى بصفات ذاته وأفعاله الجميلة وملكه واستحقاقه لجميع الحمد من الخلق. قيل ويرادفه المدح، ورجح واعترض وقيل بينهما فرق وفي تحقيقه أقوال وجمع بين الابتداءين الحقيقي بالبسملة والإضافي بالحمدلة. اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بالخبر الصحيح "كل أمر ذي بال" أي حال يهتم به أي وليس بمحرم ولا مكروه وقد يخرجان بذي البال؛ لأن الظاهر أن المراد ذووه شرعا لا عرفا ولا ذكر محض ولا جعل الشارع له ابتداء بغير البسملة كالصلاة بالتكبير
"لا يبدأ فيه بالحمد لله". وفي رواية بحمد الله فهو أجذم بجيم فمعجمة وفي رواية "أقطع" وفي أخرى "أبتر" أي قليل البركة، وقيل مقطوعها وفي رواية "ببسم الله الرحمن الرحيم" وفي أخرى "بذكر الله" وهي مبنية للمراد وعدم التعارض بفرض إرادة الابتداء الحقيقي فيهما وفي أخرى سندها ضعيف "لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أبتر ممحوق من كل بركة".
ثم لما كان عادة البلغاء تحسين ما يكسب الكلام رونقا وطلاوة لا سيما الابتداء ثنى بما فيه براعة الاستهلال. إشارة إلى أن تيسير هذا الكتاب الذي له هو نعمة أي نعمة إنما هو من محض بر الله وتوفيقه له وجوده عليه ولطفه به. فقال "البر" أي المحسن كما يدل عليه اشتقاقه من البر بسائر مواده لأنها ترجع إلى الإحسان كبر في يمينه أي صدق لأن الصدق إحسان في ذاته، ويلزمه الإحسان للغير وأبر الله حجه أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة، وأبر فلان على أصحابه أي علاهم لأنه غالبا ينشأ عن الإحسان لهم فتفسيره باللطيف أو العالي في صفاته أو خالق البر أو الصادق فيما وعد أولياءه بعيد إلا أن يراد بعض ماصدقات أو غايات ذلك البر "الجواد" بالتخفيف أي كثير الجود أي العطاء واعترض بأنه ليس فيه توقيف أي وأسماؤه تعالى توقيفية على الأصح فلا يجوز اختراع اسم أو صفة له تعالى إلا بقرآن أو خبر صحيح وإن لم يتواتر كما صححه المصنف في الجميل بل صوبه خلافا لجمع لأن هذا من العمليات التي يكفي فيها الظن لا الاعتقاديات مصرح به لا بأصله الذي اشتق منه فحسب أي وبشرط أن لا يكون ذكره لمقابلة كما هو ظاهر نحو
{أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] {وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. وقول الحليمي يستحب لمن ألقى بذرا في أرض أن يقول الله الزارع والمنبت والمبلغ إنما يأتي في الثلاثة على المرجوح أنه لا يشترط

 

ج /1 ص -11-         فيما صح معناه توقيف فإن قلت الجميل ذكر للمقابلة. أيضا إذ لفظ الحديث إن الله جميل يحب الجمال فجعل المصنف له من التوقيفي يلغي اعتبار قيد المقابلة. قلت المقابلة إنما يصار إليها عند استحالة المعنى الموضوع له اللفظ في حقه تعالى وليس الجمال كذلك لأنه بمعنى إبداع الشيء على آنق وجه وأحسنه وسيأتي في الردة زيادة على ذلك، وأجيب عنه بأن فيه مرسلا اعتضد بمسند بل روى أحمد والترمذي وابن ماجه حديثا طويلا فيه ذلك بأني جواد ماجد ولا فرق بين المنكر والمعرف لأن تعريف المنكر لا يغير معناه كما يأتي في الله الأكبر وبالإجماع النطقي المستلزم لتلقي ذلك المرسل بالقبول ولإشعار العاطف بالتغاير الحقيقي أو المنزل منزلته حذف هنا كقوله تعالى {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ}[الحشر:23] {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم:5] {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة:112] الآيات وأتي به في نحو {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد:3] {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:5] {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:112].
"الذي" لكثرة بره وسعة جوده فلذا أخر عن ذينك "جلت" عظمت ولاستقرار هذه الصلة في النفوس وإذعانها لها. عدل لذلك عن الجليلة نعمه عن الإحصاء وإن كان صحيحا فاندفع ما قيل إنه إنما أتي بالموصول هنا لقاعدة هي أنه يتوصل بالذي لوصفه تعالى بما ثبت له ولم يرد به توقيف وكان قائله فهم أن هذا لا يؤدى إلا بوصف له تعالى وقد علمت تأديته بوصف النعم بما ذكر وهو لا يحتاج لتوقيف "نعمه" فيه إيهام أن سبب عدم حصرها جمعها المنافي
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله} [النحل:18] أي تريدوا عد أو تشرعوا في عد كل فرد فرد من أفراد نعمه كما يعلم من أن مدلول العام كالمفرد المضاف هنا كلية لا تحصوها أي {لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] فتعين أنه جمع نعمة بمعنى أنعام وجمعه لا إيهام فيه أي جلت أنعماته أي باعتبار كل أثر من آثارها عن أن تحد فيشمل القليل أيضا. ومع هذا التعبير بنعمة موافقة للفظ الآية أولى ومن ثم أصلح في نسخة وكل نعمة وإن سلم حصرها هو باعتبار ذاتها لا متعلقاتها مع دوامها معاشا ومعادا وهي أي حقيقة كل ملائم تحمد عاقبته. ومن ثم قالوا لا نعمة لله على كافر، وإنما ملاذه استدراج فإن قلت هذا لا يوافق تفسير النعمة لغة من أنها مطلق الملائم وهو الموافق للاستعمال في أكثر النصوص فما حكمته قلت شأن المصطلحات العرفية مخالفتها للحقائق اللغوية وكونها أخص منها كالحمد والصلاة عرفا ويأتي في تفسير العبد ما يوضح ذلك وفائدتها هنا بيان ما هو نعمة بالحقيقة لا بالصورة التي اكتفى بها أهل اللغة والرزق أعم منها لأنه ما ينتفع به ولو حراما خلافا للمعتزلة "عن الإحصاء" بكسر أوله وبالمد أي الضبط وهو الحصر وفسر بالعد، وهو الفعل فهو غير العدد في "بالإعداد" أي بكل فرد فرد منها لا بقيد القلة التي أوهمتها العبارة كما دل عليه الجمع المحلى بأل بقرينة المقام أي عظمت عن أن تحصر أو تعد بعدد كما دلت عليه الآية ومعنى {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن:28] علمه من جهة العدد. ومن أسمائه تعالى المحصي أي العالم أو القوي أو العاد أقوال نعم في الأخير إيهام أن علمه بكل شيء متوقف على عده، وليس كذلك.

 

ج /1 ص -12-         "المان" من المنة وهي النعمة مطلقا أو بقيد كونها ثقيلة مبتدأة من غير مقابل يوجبها فنعمه تعالى من محض فضله إذ لا يجب لأحد عليه شيء خلافا لزعم المعتزلة وجوب الأصلح عليه تعالى الله عن ذلك "باللطف" وهو ما يقع به صلاح العبد آخره ويساويه التوفيق الذي هو خلق قدرة الطاعة في العبد ماصدقا لا مفهوما ولعزته لم يذكر في القرآن إلا مرة في هود وليس منه إلا إحسانا وتوفيقا يوفق الله بينهما لأنهما من الوفاق الذي هو ضد الخلاف وقد يطلق التوفيق على أخص من ذلك. ومن ثم قال المتكلمون اللطف ما يحمل المكلف على الطاعة ثم إن حمل على فعل المطلوب سمي توفيقا أو ترك القبيح سمي عصمة، وصرح أهل السنة في بحث خلق الأفعال بأن لله تعالى لطفا لو فعله بالكفار لآمنوا اختيارا غير أنه لم يفعله وهو في فعله متفضل وفي تركه عادل "والإرشاد" أي الدلالة على سبيل الخير أو الإيصال إليها.
"الهادي" أي الدال أو الموصل "إلى سبيل" أي طريق "الرشاد". وهو كالرشد ضد الغي ومن أعظم طرقه وأفضلها التفقه فلذا أعقبه بقوله "الموفق" أي المقدر وهو جري على من يجيز غير التوقيفية إذا لو يوهم نقصا "للتفقه" أي التفهم وأخذ الفقه تدريجا وهو أعني الفقه لغة الفهم من فقه بكسر عينه فإن صار الفقه سجية له قيل فقه بضمها، واصطلاحا العلم بالأحكام الشرعية العملية الناشئة عن الاجتهاد وموضوعه فعل المكلف من حيث تعاور تلك الأحكام عليه واستمداده من الأدلة المجمع عليها الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمختلف فيها كالاستصحاب ومسائله كل مطلوب خبري يبرهن عليه في العلم وفائدته امتثال الأوامر واجتناب النواهي وغايته انتظام أمر المعاش والمعاد مع الفوز بكل خير دنيوي وأخروي "في الدين" وهو عرفا وضع إلهي. سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات، وقد يفسر بما شرع من الأحكام ويساويه الملة ماصدقا كالشريعة لأنها من حيث إنها يدان أي يخضع لها تسمى دينا ومن حيث إنها يجتمع عليها وتملى أحكامها تسمى ملة ومن حيث إنها تقصد لإنقاذ النفوس من مهلكاتها تسمى شريعة "من" مفعول أول للموفق المتعدي للثاني باللام "لطف به" أي أراد له الخير وسهله عليه لكونه من عليه بفهم تام ومعلم ناصح وشدة الاعتناء بالطلب ودوامه "واختاره" أي انتقاه للطفه وتوفيقه "من العباد" يصح أن يكون بيانا لمن فأل فيه للعهد والمعهود
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وشاهد ذلك الحديث الصحيح من يرد الله به خيرا أي عظيما يفقهه في الدين وفي رواية ويلهمه رشده ومفعولا ثانيا لاختار فأل فيه للجنس والعبد لغة الإنسان واصطلاحا المكلف ولو ملكا أو جنيا.
"أحمده" أي أصفه بجميع صفاته إذ كل منها جميل ورعاية جميعها أبلغ في التعظيم ومع هذا التحقيق أن الحمد الأول أبلغ وأفضل ومن ثم قدم. بل أخذ البلقيني من إيثار القرآن الحمد لله رب العالمين بالابتداء به أنه أبلغ صيغ الحمد وجمع بينهما تأسيا بحديث إن الحمد لله نحمده وليجمع بين ما يدل على دوامه واستمراره، وهو الأول وعلى تجدده وحدوثه وهو الثاني "أبلغ حمد" أي أنهاه من حيث الإجمال لا التفصيل لعجز الخلق عنه

 

ج /1 ص -13-         حتى الرسل حتى أكملهم نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "وأكمله" أي أتمه ورد بأنه إطناب فقط كالذي بعده وبأن التمام غير الكمال كما يومئ إليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، فالإتمام لإزالة نقص الأصل والإكمال لإزالة نقص العوارض مع تمام الأصل. ومن ثم قال تعالى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]، لأن التمام في العدد قد علم وإنما بقي احتمال نقص بعض صفاته ويرد بأن هذا إنما يتصور في الماهيات الحسية لا الاعتبارية كماهية الحمد وبأن الإكمال في الآية للدين والإتمام للنعمة التي من جملتها ذلك الإكمال والنصر العام على كل منافق ومعاند فلم يتعاورا على شيء واحد فاتجه أنهما فيه بمعنى واحد. وبأن التمام يشعر بسبق نقص بخلاف الكمال، ويرد بفرض تسليمه بنحو ما قبله "وأزكاه" أنماه "وأشمله" أعمه "وأشهد" أعلم أتي به للخبر الصحيح كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء أي القليلة البركة "أن لا إله" أي لا معبود بحق "إلا الله" وفي نسخة زيادة وحده لا شريك له وحينئذ فوحده تأكيد لتوحيد الذات وما بعده تأكيد لتوحيد الأفعال ردا على نحو المعتزلة "الواحد" في ذاته فلا تعدد له بوجه وصفاته فلا نظير له بوجه وأفعاله فلا شريك له بوجه ولما نظر إلى حقائقها وما يليق بها حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى قال ليس في الإمكان أبدع مما كان أي كل كائن إلى الأبد متى دخل في حيز كان لا أبدع. منه من حيث إن العلم أتقنه والإرادة خصصته والقدرة أبرزته ولا نقص في هذه الثلاثة فكان بروزه على أبدع وجه وأكمله ولم يتفاوت بالنسبة لبارئه {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3]، بل لذواته باعتبار الأحكام فاعتراضه باستلزام ذلك عجز المحدث لهذا العالم عن إيجاد أبدع منه أو بخله به أو وجوب فعل الأصلح عليه أو أنه موجب بالذات هو عين الحمق والجهل على أنه لو أمكن أبدع منه بأن تتعلق القدرة بإعدامه حال وجوده لزم اجتماع الضدين وهو محال لا تتعلق به القدرة فلم يناف ذلك صلوح القدرة للطرفين على البدلية بأن تتعلق بكل منهما بدلا عن الآخر ثم الاعتراض إنما يتوهم حيث لم تجعل ما مصدرية كما هو ظاهر "الغفار" أي الستار لذنوب من شاء من عباده المؤمنين فلا يؤاخذهم بها ولما كان من شأن الواحد القهر آثره على القهار لئلا تنزعج القلوب من تواليهما وليتم له ما بينهما من الطباق المعنوي لإشارة الأول لمقام الخوف والثاني لضده.
تنبيه: فرقوا بين الواحد والأحد وأصله وحد. بأن أحدا يختص بأولي العلم وبالنفي إلا إن أريد به الواحد أو الأول كما في الآية ووصفا بالله دون واحد ووحد وبأن نفيه نفي للماهية بخلاف في الواحد إذ لا ينفي الاثنين فأكثر، وبأنه يستعمل للمؤنث أيضا نحو
{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32]، والمفرد والجمع نحو {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47]، وبأن له جمعا من لفظه وهو الأحدون والآحاد وقول أبي عبيد بترادفهما ولكن الغالب استعمال أحد بعد النفي اختيار له.
"وأشهد أن محمدا" علم منقول من اسم مفعول المضعف سمي به نبينا صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يؤلف قبل أو أن ظهوره بإلهام من الله لجده عبد المطلب إشارة إلى كثرة خصاله المحمودة

 

ج /1 ص -14-         ورجاء أن يحمده أهل السماء والأرض لا سيما إن صح ما نقل عن جده أنه رأى سلسلة بيضاء خرجت منه أضاء لها العالم فأولت بولد يخرج منه يكون كذلك "عبده" قدم لأن وصف العبودية أشرف الأوصاف ومن ثم ذكر في أفخم مقاماته {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} [النجم:10] "ورسوله" لكافة الثقلين الإنس والجن إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر منكره وكذا الملائكة كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه وردوا على من خالف ذلك وصريح آية {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]، إذ العالم ما سوى الله وخبر مسلم "وأرسلت إلى الخلق كافة" يؤيد ذلك بل. قال البارزي أنه أرسل حتى للجمادات بعد جعلها مدركة وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا له على سائر المرسلين والرسول من البشر ذكر حر أكمل معاصريه غير الأنبياء عقلا وفطنة وقوة رأي. وخلقا بالفتح وعقدة موسى أزيلت بدعوته عند الإرسال كما في الآية معصوم ولو من صغيرة سهوا قبل النبوة على الأصح سليم من دناءة أب وخنى أم وإن عليا ومن منفر كعمى وبرص وجذام ولا يرد علينا نحو بلاء أيوب وعمى نحو يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروه بعد الأنباء والكلام فيما قارنه والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته ومن قلة مروءة كأكل بطريق ومن دناءة صنعة كحجامة أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه وإن لم يكن له كتاب ولا نسخ كيوشع فإن لم يؤمر فنبي فحسب وهو أفضل من النبي إجماعا لتميزه بالرسالة التي هي على الأصح خلافا لابن عبد السلام أفضل من النبوة فيه وزعم تعلقها بالحق يرده أن الرسالة فيها ذلك مع التعلق بالخلق فهو زيادة كمال فيها، وصح خبر أن عدد الأنبياء مائة وألف وأربعة وعشرون ألفا وخبر أن عدد الرسل ثلثمائة وخمسة عشر. وأما الحديث المشتمل على عدهما ففي سند له ضعيف وفي آخر مختلط لكنه انجبر بتعدده فصار حسنا لغيره وهو حجة، ومما يقويه تكرر رواية أحمد له في مسنده وقد قرروا أن ما فيه من الضعيف في مرتبة الحسن وبما ذكر الصريح في تغاير النبي والرسول يتبين غلط من زعم اتحادهما في اشتراط التبليغ واسترواح ابن الهمام مع تحقيقه في نسبته ذلك الغلط للمحققين. وقد صرح قبل بأن الخبر إن صح بعددهما المذكور وجب ظنا اعتقاده على أن الذي في كلام محققي أئمة الأصلين وغيرهما خلاف ذلك الاتحاد، وأي محققين خلاف هؤلاء ثم رأيت تلميذه الكمال بن أبي شريف أشار للرد عليه ببعض ما ذكرته ووقع في بعض كتب التواريخ والتفسير ما ينافي ما ذكرناه من الشروط، وهو تقول لا أصل له فوجب اعتقاد خلافه "المصطفى" أي المستخلص من الصفوة "المختار" من العالمين لدعائهم إلى ربهم فهو أفضلهم بنص {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، إذ كمال الأمة تابع لكمال نبيها {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] إذ لا يكون ممتثلا له إلا إن حوى جميع كمالاتهم "أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم" ومن دونه تحت لوائي ونهيه عن التفضيل بين الأنبياء وعن تفضيله عليهم محله لقوله تعالى {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] فيما يؤدي لخصومة أو تنقيص بعضهم أو هو تواضع أو قبل علمه بأنه الأفضل "صلى الله عليه وسلم" من الصلاة وهي من الله الرحمة المقرونة بالتعظيم وخص

 

ج /1 ص -15-         الأنبياء بلفظها فلا تستعمل في غيرهم إلا تبعا تمييزا لمراتبهم الرفيعة وألحق بهم الملائكة لمشاركتهم لهم في العصمة وإن كان الأنبياء أفضل من جميعهم ومن عداهم من الصلحاء أفضل من غير خواصهم والسلام وهو التسليم من الآفات المنافية لغايات الكمالات وجمع بينهما لنقله عن العلماء كراهية إفراد أحدهما عن الآخر أي لفظا لا خطا خلافا لمن عمم قيل والإفراد إنما يتحقق إن اختلف المجلس أو الكتاب أي بناء على التعميم، وكان ينبغي وعلى آله لأنها مستحبة عليهم بالنص وصحبه. لأنهم ملحقون بهم بقياس أولى لأنهم أفضل من آل لا صحبة لهم والنظر لما فيهم من البضعة الكريمة إنما يقتضي الشرف من حيث الذات. وكلامنا في وصف يقتضي أكثرية العلوم والمعارف "وزاده فضلا وشرفا" الظاهر ترادفهما فالجمع للإطناب، ويحتمل الفرق بأن الأول لطلب زيادة العلوم والمعارف الباطنة والثاني لطلب زيادة الأخلاق الكريمة الظاهرة ثم رأيت من فرق بأن الأول ضد النقص والثاني علو المجد، وهو أميل إلى الترادف "لديه" أي عنده وسؤال الزيادة لا يشعر بسبق نقص؛ لأن الكامل يقبل زيادة الترقي في غايات الكمال فاندفع زعم جمع امتناع الدعاء له صلى الله عليه وسلم عقب نحو ختم القرآن باللهم اجعل ثواب ذلك زيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم على أن جميع أعمال أمته يتضاعف له نظيرها؛ لأنه السبب فيها أضعافا مضاعفة لا تحصى فهي زيادة في شرفه وإن لم يسأل له ذلك فسؤاله تصريح بالمعلوم.
"أما بعد" بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه فإن لم ينو شيء نونت وإن نوي لفظه نصبت على الظرفية أو جرت بمن وهي للانتقال من أسلوب إلى آخر. وكان صلى الله عليه وسلم يأتي بها في خطبه فهي سنة قيل وأول من قالها داود صلى الله عليه وسلم، ورجح ويرد بأنه لم يثبت عنه تكلم بغير لغته وفصل الخطاب الذي أوتيه هو فصل الخصومة أو غيرها بكلام مستوعب لجميع المعتبرات من غير إخلال منها بشيء وفي خبر ضعيف أن يعقوب قالها وتلزم الفاء في حيزها غالبا لتضمن أما معنى الشرط مع مزيد تأكيد ومن ثم أفاد أما زيد فذاهب ما لم يفده زيد ذاهب من أنه لا محالة ذاهب، وأنه منه عزيمة ومن ثم كان الأصل. هنا كما أشار إليه سيبويه في تفسيره مهما يكن من شيء بعدما ذكر.
"فإن الاشتغال" افتعال من الشغل بفتح أوله وضمه "بالعلم" المعهود شرعا وهو التفسير والحديث والفقه وآلاتها واختصاصه بالثلاثة الأول عرف خاص بنحو الوصية "من أفضل الطاعات" ففرض عينه أفضل الفروض العينية لتفرعها عليه وأفضله معرفة الله تعالى لأن العلم يشرف بشرف معلومه وهي واجبة إجماعا وكذا النظر المؤدي إليها ووجوبهما بالشرع عند أكثر الأشاعرة إذ لا حكم قبل الشرع وعند بعض منا والمعتزلة بالعقل وبسط ذلك يطول قيل وكل منهما يلزمه دور لا محيد عنه ا هـ. وليس كذلك، وفرض الكفاية منه أفضل فروض الكفايات ونفله أفضل من بقية النوافل وكون معرفة الله تعالى أفضل مطلقا ثم بقية العلوم على ما تقرر من التفصيل لا ينافي. عد ذلك من الأفضل إذ بعض الأفضل قد يكون أفضل بقية أفراده، وقد لا فزعم خروج المعرفة أو إيرادها غير صحيح وحينئذ فأولى معطوف على أفضل كما يأتي، ويصح عطفه على من أفضل لما تقرر أن كونه أفضل لا ينافي

 

ج /1 ص -16-         أنه من الأفضل ويؤيده ما صح عن أنس كان صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا فأتى هنا بمن مع أنه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا إجماعا فنتج أن كون الشيء من الأفضل لا ينافي كونه أفضل بنص كلام أنس هذا الذي هو أقوى حجة في مثل ذلك، وقالت عائشة رضي الله عنها كما صح عنها أيضا فإذا انتهك من محارم الله تعالى شيء كان من أشدهم في ذلك غضبا فأتت بمن مع أنه أشدهم وزعم بعض من لا تحقيق عنده أن من هنا زائدة بخلافها في كلام أنس. فإن قلت إذا تقرر أن الاشتغال بالعلم أفضل الطاعات فما فائدة من الموهمة خلاف ذلك كما هو المتبادر منها قلت فائدتها الإشارة إلى التفصيل الذي ذكرته وهو أن كلا من العلوم الثلاثة أفضل بقية أفراد نوعه. ومفضول بالنسبة لنوع آخر أعلى منه ألا ترى أن فرض الكفاية منه وإن كان أفضل بقية فروض الكفايات والنوافل وعليه حمل قول الشافعي رضي الله تعالى عنه الاشتغال بالعلم أي الذي هو فرض كفاية أفضل من صلاة النافلة هو مفضول بالنسبة للفروض العينية غير العلم ونفله أفضل النوافل كما هو ظاهر كلام الشافعي إذ حمله المذكور بعيد؛ لأن فرض الكفاية من العلم وغيره أفضل من نفل الصلاة فلا خصوصية للعلم حينئذ ولا بدع أن يخص قولهم أفضل عبادة البدن الصلاة بغير ذلك ومفضول بالنسبة لفروض الكفاية والعين من غير العلم فلم يصح حذف من لهذا الاعتبار لئلا يوهم أنه أفضل من غيره وإن اختلف الجنس فتأمله ثم فضله الوارد فيه من الآيات والأخبار ما يحمل من له أدنى نظر إلى كمال استفراغ الوسع في تحصيله مع الإخلاص فيه إنما هو لمن عمل بما علم حتى يتحقق فيه وراثة الأنبياء وحيازة فضيلة الصالحين القائمين بما تحتم عليهم من حقوق الله تعالى وحقوق خلقه. ويظهر حصول أدنى مراتب ذلك بالاتصاف بوصف العدالة الآتي في باب الشهادات "و" من "أولى ما أنفقت". آثره لأنه لا يقال إلا فيما صرف في خير وما عداه ولو في مكروه يقال فيه ضيع وخسر وغرم وبناه للمجهول للعلم بفاعله ولكون عينه غير منظور إليها بخصوصها وليعم "فيه" تعلما وتعليما "نفائس الأوقات" من إضافة الأعم إلى الأخص أو الصفة إلى الموصوف أو هي بيانية ومفرد نفائس نفيسة لا نفيس كما أفاده قوله الآتي من النفائس المستجادات إذ فعائل إنما تكون جمعا لفعيلة فإضافتها للأوقات التي هي جمع مذكر لتأويلها بالساعات شبه شغل الأوقات بالعلوم بصرف المال في الخبر المكنى عنه بالإنفاق، ووصفها بالنفاسة المقتضية لخطر القدر وعزة النظير إشارة إلى أن فائتها بلا خير لا يمكن تعويضه ومن ثم قيل الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.
"وقد" للتحقيق هنا "أكثر أصحابنا" الذين نظمنا وإياهم سلك اتباع الشافعي رضي الله عنه تشبيها بالمجتمعين في العشرة بجامع الموافقة وشدة الارتباط وهو جمع صحب الذي هو اسم جمع لصاحب لأن أفعالا لا يكون جمعا لفاعل "رحمهم الله" تعالى أبلغ من اللهم ارحمهم لإشعاره. بتحقق الوقوع تفاؤلا وفيه اقتداء بمن أثنى الله عليهم بقوله عز قائلا
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] الآية فإن قلت لم لم يعبر بما في الآية قلت إشارة إلى حصول المقصود بكل دعاء أخروي على أن في إيثار لفظ الرحمة تأسيا

 

ج /1 ص -17-         بقوله صلى الله عليه وسلم "رحم الله أخي موسى" "من" الظاهر أنها زائدة لصحة المعنى بدونها وقيل من بمعنى في {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] وفيه تعسف والفرق ظاهر وقيل للمجاوزة كما في زيد أفضل من عمرو أي جاوزه في الفضل كما أنهم هنا جاوزوا الإكثار في "التصنيف" وهو جعل الشيء أصنافا متميزة وأخص منه التأليف لاستدعائه زيادة هي إيقاع الألفة بين الأنواع المتميزة وكتب الأصحاب من ذلك فالتصنيف هنا بمعنى التأليف وهو في العلوم الواجبة لا المندوبة كالعروض خلافا لمن عده من جملة فروض الكفاية من البدع الواجبة التي حدثت بعد عصر الصحابة واختلفوا في أول من اخترعه فقيل عبد الملك بن جريج شيخ شيخ الشافعي وقيل غيره وكتابة العلم مستحبة وقيل واجبة وهو وجيه في الأزمنة المتأخرة وإلا لضاع العلم وإذا وجبت كتابة الوثائق لحفظ الحقوق فالعلم أولى "من" قيل بيانية وفيه إن لم يجعل المصدر بمعنى اسم مفعول نظر لأن التصنيف غير المبسوط والمختصر فالوجه أنه بدل اشتمال بإعادة الجار، والأصل وقد أكثر أصحابنا المصنفات "المبسوطات" هي ما كثر لفظها ومعناها. "والمختصرات" هي ما قل لفظها وكثر معناها قيل والإيجاز لكونه حذف طول الكلام وهو الإطناب غير الاختصار؛ لأنه حذف تكريره مع اتحاد المعنى ويشهد له {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51] وفيه تحكم واستدلال بما لا يدل إذ ليس في الآية حذف ذلك العرض فضلا عن تسميته فالحق ترادفهما كما في الصحاح "وأتقن" أحكم كل "مختصر" من المختصرات ففيه تفضيل مسوغ للابتداء بالنكرة وهذا مبني على مذهب سيبويه أنه يستثنى من قاعدة إذا اجتمعت معرفة ونكرة تعيين كون المعرفة المبتدأ عند الجمهور، وقال سيبويه محلها في نكرة غير اسم استفهام نحو كم مالك وغير أفعل التفضيل نحو خير منك زيد ففي هذين يتعين عنده أن المبتدأ النكرة وقال ابن هشام يجوز كل من الوجهين لتعارض دليلي الجمهور وسيبويه. وذكر السيد في شرح المفتاح أن كون النكرة المبتدأ أي في غير صورتي سيبويه كثير في كلام الفصحاء ولا يرد على الجمهور؛ لأنه من باب القلب المجوز للحكم على كل منهما بما للآخر وعليه فهو لا يخالف قول ابن هشام إلا من حيث المسوغ فهو عند ابن هشام تعارض الدليلين وعلى ما ذكره السيد اعتبار القلب فإن قلت خص الرضي ومن تبعه كون أفعل المبتدأ عند سيبويه بما إذا وقع جزءا لجملة وقعت صفة لنكرة كمررت برجل أفضل منه أبوه قلت هذا استرواح توهموه من هذا المثال وغفلوا عن كون سيبويه مثل بخير منك زيد كما رأيته في كتابه وهذا يبطل ما اشترطوه ولما كان المحققون كابن هشام وغيره مستحضرين لكلامه مثلوا بمثاله هذا وأعرضوا عن ذلك الاشتراط الذي زعمه هؤلاء، وقد سمعنا من محققي مشايخنا أن نقل هؤلاء مقدم على نقل العجم لاسترواحهم فيه كثيرا وتعويلهم على التقييد بالمعقول أكثر من المنقول فإن قلت المناسب للسياق المقصود منه مدح المحرر وصلة لمدح كتابه كون المحرر هو المحكوم عليه بالأتقنية فلم عكسته. قلت؛ لأن تخريجه على أنه من أسلوب الحكيم الأبلغ اقتضى ذلك والتقدير إذا أكثروا من المختصرات فلا حاجة للمحرر ولا لكتابك فأجاب بأنها مع كثرتها متفاوتة في

 

ج /1 ص -18-         الأتقنية وأتقنها هو المحرر فاحتيج إليه لهذه الأتقنية المحصورة فيه دون غيره وحينئذ تعين ذلك الإعراب لهذا الغرض العارض؛ لأن غرض الأبلغية يحوج لذلك كما يعرف من أساليب البلغاء "المحرر" المهذب المنقى. ولا مانع من كون الوصف في الأصل يجعل علم جنس أو شخص أو بالغلبة، وقد يجتمعان بأن يسمى به أشياء ثم يغلب على بعضها وتسميته مختصرا لقلة لفظه لا لكونه ملخصا من كتاب بعينه.
تنبيه: التحقيق أن أسماء الكتب من حيز علم الجنس لا اسمه وإن صح اعتباره ولا علم الشخص خلافا لمن زعمه وإن ألف فيه بما يحتاج رده إلى بسط ليس هذا محله، وأن أسماء العلوم من حيز علم الشخص. "للإمام" هو من يقتدى به في الدين "أبي القاسم" إمام الدين عبد الكريم قيل وهذه التكنية لا توافق ما صححه من حرمتها مطلقا بل ما اختاره من تخصيص المنع بزمنه صلى الله عليه وسلم أو ما صححه الرافعي من حرمتها فيمن اسمه محمد فقط ا هـ ويرد بأن من الواضح أن محل الخلاف إنما هو وضعها أولا، وأما إذا وضعت لإنسان واشتهر بها فلا يحرم ذلك؛ لأن النهي لا يشمله وللحاجة كما اغتفروا التلقيب بنحو الأعمش لذلك ثم رأيت بعضهم أشار إلى ذلك ويرد الأخيرين القاعدة المقررة في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ في "لا تكنوا بكنيتي" لا بخصوص السبب نعم صح خبر "من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي ومن اكتنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي" وهو صريح في الأخير إلا أن يجاب بأن الأول أصح فقدم لذلك. ثم رأيت بعضهم أشار لذلك "الرافعي" نسبة لرافع بن خديج الصحابي رضي الله عنه كما حكي عن خط الرافعي نفسه وقول المصنف لرافعان بلدة من بلاد قزوين اعترضوه "رحمه الله" نظير ما مر "ذي" أي صاحب. وآثرها على صاحب لاقتضائها تعظيم المضاف إليها والموصوف بها بخلافه ومن ثم قال تعالى في معرض مدح يونس
{وَذَا النُّونِ} [الأنبياء:87] والنهي عن اتباعه كصاحب الحوت إذ النون لكونه جعل فاتحة سورة أفخم وأشرف من لفظ الحوت، ويأتي في الجمعة صحة إضافتها للمعرفة بما فيه "التحقيقات" في العلم جمع تحقيقة وهي المرة من التحقيق وهو إثبات المسألة بدليلها أو علتها مع رد قوادحها وحقيقة الشيء وماهيته ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان، وقد يفترقان اعتبارا وكون الحيوان الناطق ماهية حقيقية جعلية خارجية هو الصواب بناء على أن الماهية بجعل الجاعل كما هو مذهب المتكلمين وعلى أنها لا بشرط شيء موجود خارجا كما هو المشهور عندهم، والتدقيق إثبات الدليل بدليل آخر.
فإن قلت جمع السلامة للقلة باتفاق النحاة ومدلول جموع القلة العشرة فما دونها ولا مدح في ذلك؟ قلت أل في مثل هذا تفيد العموم إذ الأصح أن الجمع المعرف بالألف واللام أو الإضافة للعموم ما لم يتحقق عهد ولا منافاة بين هذا وما ذكر عن النحاة، إما لأن كلامهم في جمع السلامة المنكر وكلام الأصوليين في المعرف كما قاله إمام الحرمين وتوضيحه أن مفيد العموم كأل لما دخل على الجمع فإن قلنا بما عليه أكثر العلماء من

 

ج /1 ص -19-         الأصوليين وغيرهم إن أفراده التي عمها وحدان فقد ذهب اعتبار الجمعية من أصلها المستلزم للنظر إلى كون آحاده عشرة فأقل، وإن قلنا بما عليه جمع من المحققين إن أفراده جموع فلا تنافي بين استغراق كل جمع جمع وكون تلك الجموع لكل جمع منها عدد معين، وأما لأنه لا مانع من أن يكون أصل وضع جمع السلامة للقلة وغلب استعماله في العموم لعرف أو شرع فنظر النحاة لأصل الوضع والأصوليين لغلبة الاستعمال فيه.
توفي سنة ثلاث أو أربع وعشرين وستمائة عن نيف وستين سنة، وله كرامات منها أن شجرة عنب أضاءت له لفقد ما يسرجه وقت التصنيف، وولد المصنف بعد وفاته بنحو سبع سنين بنوى من قرى دمشق ومات بها سنة ست وسبعين وستمائة عن نحو ست وأربعين سنة. وذكر تلميذه الإمام ابن العطار أن بعض الصالحين رأى أنه قطب، وأن الشيخ كاشفه بذلك واستكتمه وكشف لبعض الصالحين عنه بعد موته أنه وقع له حظ وافر من تجلي الله عليه برضاه وعطفه فسأل الله عود بعضه على كتبه فعاد فعم النفع بها شرقا وغربا للشافعية وغيرهم كما هو مشاهد.
"وهو" أي المحرر ومدحه بما يأتي مدح لكتابه لاشتماله عليه مع ما تميز به، وليس مدح الأئمة لكتبهم فخرا بل هو حث على تحري الأولى والأكمل مبالغة في النصح للمسلمين "كثير الفوائد" التي ابتدعها مؤلفه ولم يعثر عليها من قبله جمع فائدة وهي ما يرغب في استفادته. من الفؤاد؛ لأنها تعقل به فترد عليه استفادة، ومنه إفادة وعرفت بكل نافع ديني أو دنيوي من فاد أتى بنفع "عمدة في تحقيق المذهب" أي بيان الراجح وإيضاح المشتبه منه، وأصله مكان الذهاب ثم استعير لما يذهب إليه من الأحكام تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم غلب على الراجح ومنه قولهم المذهب في المسألة كذا "معتمد" ترق؛ لأنه أبلغ من عمدة فهو مغن عنه لولا غرض الإطناب في المدح "للمفتي" أي المجيب في الحوادث بما يستنبطه أو يرجحه ولحدوث جوابه وقوته شبه بالفتى في السن من فتي يفتى كعلم يعلم ثم استعير له لفظا الفتوى بالفتح أو الفتيا بالضم "وغيره" وهو المستفيد لنفسه أو لإفادة غيره "من" بيانية "أولى" أصحاب "الرغبات" بفتح الغين جمع رغبة بسكونها وهي الانهماك على الخير طلبا لحيازة معاليه.
تنبيه: ما أفهمه كلامه من جواز النقل من الكتب المعتمدة ونسبة ما فيها لمؤلفيها. مجمع عليه وإن لم يتصل سند الناقل بمؤلفيها نعم النقل من نسخة كتاب لا يجوز إلا إن وثق بصحتها أو تعددت تعددا يغلب على الظن صحتها أو رأى لفظها منتظما وهو خبير فطن يدرك السقط والتحريف فإن انتفى ذلك قال وجدت كذا أو نحوه ومن جواز اعتماد المفتي ما يراه في كتاب معتمد فيه تفصيل لا بد منه، ودل عليه كلام المجموع وغيره وهو أن الكتب المتقدمة على الشيخين لا يعتمد شيء منها إلا بعد مزيد الفحص والتحري حتى يغلب على الظن أنه المذهب ولا يغتر بتتابع كتب متعددة على حكم واحد فإن هذه الكثرة قد تنتهي إلى واحد ألا ترى أن أصحاب القفال أو الشيخ أبي حامد مع كثرتهم لا يفرعون

 

ج /1 ص -20-         ويؤصلون إلا على طريقته غالبا، وإن خالفت سائر الأصحاب فتعين سبر كتبهم هذا كله في حكم لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما، وإلا فالذي أطبق عليه محققو المتأخرين ولم تزل مشايخنا يوصون به وينقلونه عن مشايخهم وهم عمن قبلهم. وهكذا أن المعتمد ما اتفقا عليه أي ما لم يجمع متعقبو كلامهما على أنه سهو وأنى به ألا ترى أنهم كادوا يجمعون عليه في إيجابهما النفقة بفرض القاضي ومع ذلك بالغت في الرد عليهم كبعض المحققين في شرح الإرشاد فإن اختلفا فالمصنف فإن وجد للرافعي ترجيح دونه فهو، وقد بينت سبب إيثارهما وإن خالفا الأكثرين في خطبة شرح العباب بما لا يستغنى عن مراجعته ومن أن هذا الكتاب مقدم على بقية كتبه ليس على إطلاقه أيضا بل الغالب تقديم ما هو متتبع فيه كالتحقيق فالمجموع فالتنقيح ثم ما هو مختصر فيه كالروضة فالمنهاج ونحو فتاواه فشرح مسلم فتصحيح التنبيه ونكته من أوائل تأليفه فهي مؤخرة عما ذكر وهذا تقريب، وإلا فالواجب في الحقيقة عند تعارض هذه الكتب مراجعة كلام معتمدي المتأخرين واتباع ما رجحوه منها.
"وقد التزم" استئناف أو حال فقد حينئذ واجبة الذكر أو التقدير عند البصريين لتقرب الماضي من الحال واعترضهم السيد الجرجاني ومن تبعه بما رددته عليهم في شرح الهمزية فانظره فإنه مهم. "مصنفة رحمه الله" بحسب ما يظهر من قوله في خطبته ناص على ما عليه المعظم. فقول السبكي أن هذا لا يفهم التزاما مراده أنه لا يصرح به "أن ينص" فيما فيه خلافا أي غالبا "على ما صححه" فيه "معظم الأصحاب"؛ لأن الخطأ إلى القليل أقرب منه إلى الكثير، وهذا حيث لا دليل يعضد ما عليه الأقلون وإلا اتبعوا ومن ثم وقع لهما أعني الشيخين ترجيح ما عليه الأقل ولو واحدا في مقابلة الأصحاب واعترضهما المتأخرون بما رددته عليهم في خطبة شرح العباب وأشرت إليه فيما مر آنفا، وبما قررته يندفع الاعتراض على الرافعي بأنه قد يجزم ببحث للإمام أو غيره. والجواب عنه بأنه إنما يفعل ذلك فيما فيه تقييد لما أطلقوه ورده بأن هذا لا يطرد في كلامه على أن الذي في المجموع وغيره أن ما دخل في إطلاق الأصحاب منزل منزلة تصريحهم به فلعل الرافعي فهم فيما انفرد به واحد أنه موافق لإطلاقهم فنزله منزلة تصريحهم به "ووفى" بالتخفيف والتشديد أي الرافعي ويصح على. بعد عوده للمحرر "بما التزمه" حسبما ظهر له أو اطلع عليه في ذلك الوقت فلا ينافي استدراكه عليه فيما يأتي "وهو" أي ما التزمه "من أهم" المطلوبات "أو" أي بل هو "أهم" وجره مفسد للمعنى "المطلوبات" لمن يريد معرفة الراجح من المذهب، ويصح كون أو للترديد إبهاما على السامع وتنشيطا له إلى البحث عن ذلك وللتنويع إشارة إلى أن معرفة الراجح مذهبا من الأهم بالنسبة لمن يريد الإحاطة بالمدارك وهي الأهم لمن يريد مجرد الإفتاء أو العمل، ومدركا بالعكس بل في الحقيقة هي الأهم مطلقا وإن قل نائلوها ومن ثم خالف الشافعي وأصحابه في مسائل كثيرة أكثر العلماء "لكن" جواب عما يقال إذا كان بهذه الكمالات فلم اختصرته واعترضته بإبداء عذرين ثانيهما يعلم من قوله منها التنبيه إلى آخره وأولهما هو أنه وقع "في حجمه" وحجم الشيء جرمه الناتئ من الأرض "كبر"

 

ج /1 ص -21-         اقتضى بعده "عن حفظ أكثر أهل" أي جماعة "العصر" الراغبين فيما هو الأحرى للمتفقه من حفظ مختصر في الفقه عن ظهر قلب والعصر بفتح أو ضم فسكون وبضمتين وأل فيه للعهد الذهني وهو هنا الزمن الحاضر وفي الآية كل الزمن "إلا بعض أهل" أي أصحاب "العنايات" منهم وهو من أتحف بخارق العادة في حفظه فلا يكبر أي يعظم عليهم حفظ أبسط منه فضلا عنه، ثم الاستثناء إن كان من أهل لزم أنه مستدرك؛ لأنه مستغنى عنه فإنه علم من مفهوم أكثر إلا أن يكون صرح به. لإفادة وصف الأقل الذين يحفظونه بكونهم من ذوي العنايات، وإن كان من أكثر لزم ذلك أيضا إلا أن يقال إن فيه فائدة هي إفادة أن الأقلين لا يعظم عليهم حفظه لتحملهم مشقته. وبعض الأكثر لا يعظم عليهم حفظه لكونهم من أهل العنايات فالمفاد من مفهوم الأكثر غير المفاد بالاستثناء فتأمله.
"فرأيت" من الرأي في الأمور المهمة أي فبسبب عجز الأكثر عن حفظه أردت بعد التروي واتضاح طريق الإقدام "اختصاره" مستوعبا لمقاصده بحسب الإمكان أو غالبا فلا يرد ما حذفه منه سهوا أو لأخذه من نظيره "في نحو نصف" بتثليث أوله "حجمه" أي قربه بزيادة أو نقص فلا ينافي زيادته على النصف؛ لأنه مع ما زاده عليه لم يبلغ ثلاثة أرباعه "ليسهل" علة لما مهده من تقليله لفظ المحرر إلى أن صار في ذلك الحجم "حفظه" أي المختصر لمن يرغب في حفظ مختصر "مع ما" حال من المجرور أي مصحوبا بما "أضمه إليه إن شاء الله تعالى" للتبرك راجع لما بعد رأيت امتثالا لقوله تعالى
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ}[الكهف:23] الآية. والإسناد لفعل الغير كهو لفعل النفس "من" بيان لما "النفائس المستجادات" أي المعدات جيادا لبلوغها أقصى الحسن "منها" أي تلك النفائس "التنبيه" من النبه بضم فسكون وهي الفطنة "على قيود" جمع قيد وهو اصطلاحا ما جيء به لجمع أو منع أو بيان واقع أذكرها "في بعض المسائل" أي قليل منها كما أشعر به ذكر بعض قيل وهي عشر. وسيأتي تعريف المسألة "هي من الأصل" أي المحرر "محذوفات" سهوا أو اتكالا على المطولات أو اختصارا مع كونها مرادة قيل وفي إيثار الحذف على الترك ما يرجح الأخير وفيه ما فيه "ومنها مواضع يسيرة" نحو الخمسين "ذكرها" أي أثبتها "في المحرر" لم يعبر عنه بالأصل هنا تفننا، ولئلا يثقل لقربه "على خلاف المختار" أي الراجح "في المذهب" أذكره فيها كما دل عليه قوله "كما ستراها" نفسه لتأخر الرؤية قليلا عن هذا المحل "إن شاء الله تعالى" احتاج إليه مع إسناده فعل الرؤية لغيره لما مر أنه كفعله إذ لا يدري هل يراها أو لا أو لتضمنه فعلا لنفسه هو إتيانه بها كذلك، وكما نعت لذكر المحذوف أو حال والتقدير أذكر الراجح فيها ذكرا واضحا مثل الوضوح الذي ستراها عليه وتخالف الشيء الواحد باعتبارين سائغ كما في [رجز]:

أنا أبو النجم وشعري شعري.

تنبيه: زعم في الكشاف أن هذه السين تفيد القطع بوقوع مدخولها كما في {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة:137] {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله} [التوبة:71] سأنتقم منك ويرد بأن القطع هنا لقرينة

 

ج /1 ص -22-         المقام لا من موضوع السين على أنه وطأ به لمذهبه الفاسد من تحتم الجزاء فتوجيه بعض المحققين له غفلة عن هذه الدسيسة الاعتزالية.
"واضحات" مفعول ثان لترى العلمية وكونه وفى بالتزامه النص على ما صححه المعظم لا ينافي ترجيح خلافه لما مر أنهم قد يرجحون ما عليه الأقل "ومنها إبدال ما" هي من صيغ العموم. ومع ذلك لا يعترض بقوله ده يازده خلافا لمن زعمه؛ لأن وقوعها في ألسنة السلف ثم الخلف كما يأتي أخرجها عن الغرابة "كان من ألفاظه غريبا" لا يؤلف كالباغ "أو موهما" أي موقعا في الوهم. أي الذهن "خلاف الصواب" بأن كان معناه المتبادر منه غير مراد أو استوى معنياه فلا يدري المراد، وإن كان ذلك اللفظ مما يؤلف فلا يتحد هذا مع الغريب؛ لأن ذاك فيه عدم إلف ولو بلا إيهام وهذا فيه إيهام ولو مع إلف فبينهما عموم وخصوص من وجه وما هما كذلك لا يغني أحدهما عن الآخر وبفرض إغناء الخفي عنهما كأن يقول إبداله الخفي بالأوضح والأخصر لا يكفي في التنصيص على أن المحرر ارتكب هذين الأمرين الحقيقين بالترك والطرح "بأوضح" منه لإلف الناس له وسلامته من الإيهام "و" مع ذلك يكون بلفظ "أخصر منه بعبارات" بدل مما قبله بإعادة الجار جمع عبارة وعبرة بفتح أوله وهي ما يعبر به عما في الضمير أي يعرب به عنه "جليات" في أداء المراد لخلوها عن الغرابة والإيهام واشتمالها على حسن السبك ورصانة المعنى أي غالبا أو بحسب ظنه فلا ينافي الاعتراض عليه في بعضها، وإدخال الباء في حيز الإبدال على المأخوذ وفي حيز بدل، والتبدل والاستبدال على المتروك هو الفصيح وخفي هذا التفصيل على من اعترض المتن بآية
{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ:16] {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ} [البقرة:108] وقد تدخل في حيز بدل ونحوه على المأخوذ كما في قوله: 

وبدل طالعي نحسي بسعدي

على أن الشيء قد يتعاور عليه الأخذ والترك باعتبارين فيتعاور عليه أبدل ومقابله رعاية لهما.
"ومنها بيان القولين" أو الأقوال للشافعي رضي الله عنه قيل ذكر المجتهد لها لإفادة إبطال. ما زاد لا للعمل بكل انتهى، ولا ينحصر في ذلك بل من فوائده بيان المدرك، وأن من رجح أحدها من مجتهدي المذهب لا يعد خارجا عنه وأن الخلاف لم ينحصر فيها حتى يمنع الزائد بمعونة ما هو مقرر في الأصول أنهم إذا أجمعوا على قولين لم يجز إحداث ثالث إلا إن كان مركبا منهما بأن يكون مفصلا، وكل من شقيه قال به أحدهما ثم الراجح منهما ما تأخر إن علم، وإلا فما نص على رجحانه وإلا فما فرع عليه وحده وإلا فما قال عن مقابله مدخول أو يلزمه فساد، وإلا فما أفرده في محل أو جواب وإلا فما وافق مذهب مجتهد لتقويه به فإن خلا عن ذلك كله. فهو لتكافؤ نظريه وهو يدل على سعة العلم ودقة الورع حذر من ورطة هجوم على ترجيح من غير اتضاح دليل، وزعم أن صدور قولين معا في مسألة واحدة كفيها قولان لا يجوز إجماعا غلط أفرد رده وإن الإجماع على جوازه

 

ج /1 ص -23-         ووقوعه من الصحابة فمن بعدهم بتأليف حسن قال الإمام ووقع ذلك للشافعي رضي الله عنه في ثمانية عشر موضعا. ونقل القرافي الإجماع على تخيير المقلد بين قولي إمامه أي على جهة البدل لا الجمع إذا لم يظهر ترجيح أحدهما، وكأنه أراد إجماع أئمة مذهبه كيف ومقتضى مذهبنا كما قاله السبكي. منع ذلك في القضاء والإفتاء دون العمل لنفسه وبه يجمع بين قول الماوردي يجوز عندنا وانتصر له الغزالي كما يجوز لمن أداه اجتهاده إلى تساوي جهتين أن يصلي إلى أيهما شاء إجماعا وقول الإمام يمتنع إن كانا في حكمين متضادين كإيجاب وتحريم بخلاف نحو خصال الكفارة. وأجرى السبكي ذلك وتبعوه في العمل بخلاف المذاهب الأربعة أي مما علمت نسبته لمن يجوز تقليده، وجميع شروطه عنده وحمل على ذلك قول ابن الصلاح لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة أي في قضاء أو إفتاء ومحل ذلك وغيره من سائر صور التقليد ما لم يتتبع الرخص بحيث تنحل ربقة التكليف من عنقه، وإلا أثم به بل قيل فسق وهو وجيه قيل ومحل ضعفه أن تتبعها من المذاهب المدونة وإلا فسق قطعا ولا ينافي ذلك قول ابن الحاجب كالآمدي من عمل في مسألة بقول إمام لا يجوز له العمل فيها بقول غيره اتفاقا لتعين حمله على ما إذا بقي من آثار العمل الأول ما يلزم عليه مع الثاني تركب حقيقة لا يقول بها كل من الإمامين كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة. ثم رأيت السبكي في الصلاة من فتاويه ذكر نحو ذلك مع زيادة بسط فيه وتبعه عليه جمع فقالوا إنما يمتنع تقليد الغير بعد العمل في تلك الحادثة نفسها لا مثلها خلافا للجلال المحلي كأن أفتى ببينونة زوجته في نحو تعليق فنكح أختها، ثم أفتى بأن لا بينونة فأراد أن يرجع للأولى ويعرض عن الثانية من غير إبانتها، وكان أخذ بشفعة الجوار تقليدا لأبي حنيفة ثم استحقت عليه فأراد تقليد الشافعي في تركها. فيمتنع فيهما؛ لأن كلا من الإمامين لا يقول به حينئذ فاعلم ذلك فإنه مهم ولا تغتر بمن أخذ بظاهر ما مر.
"والوجهين" أو الأوجه للأصحاب خرجوها على قواعده أو نصوصه، وقد يشذون عنهما كالمزني وأبي ثور فتنسب لهما ولا تعد وجوها في المذهب "والطريقين" أو الطرق وهي اختلافهم في حكاية المذهب فيحكي بعضهم نصين وبعضهم نصوصا وبعضهم بعضها أو مغايرها حقيقة كأوجه بدل أقوال أو عكسه أو باعتبار كتفصيل في مقابلة إطلاق وعكسه فلهذا كثرت الطرق في كثير من المسائل "والنص" أي المنصوص للشافعي رضي الله عنه من نص الشيء رفعه وأظهره؛ لأنه لما نسب إليه من غير معارض كان ظاهرا مرفوع الرتبة على غيره "ومراتب الخلاف" قوة وضعفا حيث ذكر "في جميع الحالات" غالبا. لما يأتي والمحرر قد يبين وقد لا ولا ينافيه جزمه بمسائل فيها خلاف؛ لأنه لم يلتزم ذكر كل خلاف فيما ذكر بل إنه حيث ذكر خلافا بين مرتبته أو فيها نص من غير ذكر له؛ لأن قضية سياقه الآتي أنه إنما يذكر نصا يقابله وجه أو تخريج، وأنه لا يذكر كل نص كذلك بل إن ما ذكره لا يكون إلا كذلك فتأمله.
"فحيث" بالضم ويجوز الفتح والكسر مع إبدال يائه واوا أو ألفا وهي دالة على المكان

 

ج /1 ص -24-         حقيقة أو مجازا كما في {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] بتضمين أعلم معنى ما يتعدى إلى الظرف أي الله أنفذ علما حيث يجعل أي هو نافذ العلم في هذا الموضع فاندفع ما قيل يتعين أنها مفعول به على السعة؛ لأن أفعل التفضيل لا ينصبه لا ظرف لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان، ولأن المعنى أنه يعلم نفس المكان المستحق لوضع الرسالة لا شيئا في المكان قيل وكما هنا وهو عجيب إذ التقدير فكل مكان من هذا الكتاب "أقول" فيه. وزعم الأخفش أنها ترد للزمان "الأظهر أو المشهور. فمن" متعلق بالأظهر أو المشهور لكونه كالوصف له أي فأحدهما كائن من جملة "القولين أو الأقوال فإن قوي الخلاف" لقوة مدرك غير الراجح منه بظهور دليله وعدم شذوذه وتكافؤ دليلهما في أصل الظهور، ويمتاز الراجح بأن عليه المعظم أو بكون دليله أوضح، وقد لا يقع تمييز "قلت الأظهر" لإشعاره بظهور مقابله "وإلا" يقو مدركه "فالمشهور" هو الذي أعبر به لإشعاره بخفاء مقابله، ويقع للمؤلف تناقض بين كتبه في الترجيح ينشأ عن تغير اجتهاده فليعتن بتحرير ذلك من يريد تحقيق الأشياء على وجهها "وحيث أقول الأصح أو الصحيح فمن الوجهين أو الأوجه" ثم إن كانت من واحد فالترجيح بما مر في الأقوال أو من أكثر فهو بترجيح مجتهد آخر "فإن قوي الخلاف" بنظير ما مر في الأقوال "قلت الأصح" لإشعاره بصحة مقابله وكان المراد بصحته مع الحكم عليه بالضعف ومع استحالة اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد في آن واحد أن مدركه له حظ من النظر بحيث يحتاج في رده إلى غوص على المعاني الدقيقة والأدلة الخفية بخلاف مقابل الصحيح الآتي فإنه ليس كذلك بل يرده الناظر ويستهجنه من أول وهلة. فكان ذلك صحيحا بالاعتبار المذكور، وإن كان ضعيفا بالحقيقة لا يجوز العمل به فلم يجتمع حكمان كما ذكر فتأمل ذلك وأعرض عما وقع هنا من إشكالات وأجوبة لا ترضي. وقد يقع للمصنف أنه في بعض كتبه يعبر بالأظهر وفي بعضها يعبر عن ذلك بالأصح فإن عرف أن الخلاف أقوال أو أوجه فواضح، والأرجح الدال على أنه أقوال؛ لأن مع قائله زيادة علم بنقله عن الشافعي رضي الله عنه بخلاف نافيه عنه "وإلا" يقو "فالصحيح" هو الذي أعبر به لإشعاره بانتفاء اعتبارات الصحة عن مقابله، وأنه فاسد ولم يعبر بنظيره في الأقوال بل أثبت لنظيره الخفاء، وأن القصور في فهمه إنما هو منا فحسب تأدبا مع الإمام الشافعي كما قال وفرقا بين مقام المجتهد المطلق والمقيد فإن قلت إطباقهم هنا على أن التعبير بالصحيح قاض بفساد مقابله يقتضي أن كل ما عبر فيه به لا يسن الخروج من خلافه لأن شرط الخروج ومنه عدم فساده كما صرحوا به وقد صرحوا في مسائل عبروا فيها بالصحيح بسن الخروج من الخلاف فيها قلت يجاب بأن الفساد قد يكون من حيث الاستدلال الذي استدل به لا مطلقا فهو فساد اعتباري وبفرض أنه حقيقي قد يكون بالنسبة لقواعدنا دون قواعد غيرنا ولما ظهر للمصنف مثلا والذي ظهر لغيره قوته فندب الخروج منه "وحيث أقول المذهب فمن الطريقين أو الطرق" كأن يحكي بعض القطع أي أنه لا نص سواه وبعض قولا أو وجها أو أكثر، وبعض ذلك أو بعضه أو غيره مطلقا أو باعتبار كما مر ثم الراجح المعبر عنه

 

ج /1 ص -25-         بالمذهب قد يكون طريق القطع. أو موافقها من طريق الخلاف أو مخالفها، لكن قيل الغالب أنه الموافق والاستقراء الناقص المفيد للظن يؤيده. وربما وقع للمجموع كالعزيز استعمال الطريقين موضع الوجهين وعكسه.
"وحيث أقول النص فهو نص" الإمام القرشي المطلبي الملتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده الرابع عبد مناف محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف "الشافعي" نسبة لشافع المذكور، وشافع هذا أسلم هو وأبوه السائب صاحب راية قريش يوم بدر "رضي الله تعالى عنه" إمام الأئمة علما وعملا وورعا وزهدا ومعرفة وذكاء وحفظا ونسبا فإنه برع في كل مما ذكر وفاق فيه أكثر من سبقه لا سيما مشايخه كمالك وسفيان بن عيينة ومشايخهم، واجتمع له من تلك الأنواع وكثرة الأتباع في أكثر أقطار الأرض. وتقدم مذهبه وأهله فيها لا سيما في الحرمين والأرض المقدسة، وهذه الثلاثة وأهلها أفضل الأرض وأهلها ما لم يجتمع لغيره وهذا هو حكمة تخصيصه في الحديث المعمول به في مثل ذلك، وزعم وضعه حسد أو غلط فاحش وهو قوله صلى الله عليه وسلم "
عالم قريش يملأ طباق الأرض علما" قال أحمد وغيره من أئمة الحديث والفقه نراه الشافعي أي لأنه لم يجتمع لقرشي من الشهرة كما ذكر ما اجتمع له فلم ينزل الحديث إلا عليه وكاشف أصحابه بوقائع وقعت بعد موته كما أخبر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعطاه ميزانا فأولت له بأن مذهبه أعدل المذاهب وأوفقها للسنة الغراء التي هي أعدل الملل وأوفقها للحكمة العلمية والعملية ولد بغزة على الأصح سنة خمسين ومائة ثم أجيز بالإفتاء وهو ابن نحو خمس عشرة سنة، ثم رحل لمالك فأقام عنده مدة. ثم لبغداد ولقب ناصر السنة لما ناظر أكابرها وظفر عليهم كمحمد بن الحسن وكان أبو يوسف إذ ذاك ميتا ثم بعد عامين رجع لمكة ثم لبغداد سنة ثمان وتسعين ثم بعد سنة لمصر فأقام بها كهفا لأهلها إلى أن تقطب. ومن الخوارق التي لم يقع نظيرها لمجتهد غيره استنباطه وتحريره لمذهبه الجديد على سعته المفرطة في نحو أربع سنين وتوفي سنة أربع ومائتين بها، وأريد بعد أزمنة نقله منها لبغداد فظهر من قبره لما فتح روائح طيبة عطلت الحاضرين عن إحساسهم فتركوه، وقد أكثر الناس التصانيف في ترجمته حتى بلغت نحو أربعين مصنفا ذكرت خلاصتها في شرح المشكاة وليتنبه لكثير مما في رحلته للرازي كالبيهقي فإن فيها موضوعات كثيرة.
"ويكون هناك وجه" مقابل له "ضعيف" لا يعتمد وإن كان في مدركه قوة بالاعتبار السابق "أو قول" له بناء على أن المخرج ينسب إليه وفيه خلاف الأصح لا لأنه لو عرض عليه لربما أبدى فارقا إلا مقيدا كما أفاده قوله "مخرج" من نصه في نظير المسألة على حكم مخالف بأن ينقل بعض أصحابه نص كل إلى الأخرى فيجتمع في كل منصوص ومخرج، ثم الراجح إما المخرج وإما المنصوص وإما تقرير النصين والفرق وهو الأغلب ومنه النص في مضغة قال القوابل لو بقيت لتصورت على انقضاء العدة بها؛ لأن مدارها على تيقن براءة الرحم، وقد وجد وعدم حصول أمية الولد بها؛ لأن مدارها على وجود اسم الولد، ولم يوجد.

 

ج /1 ص -26-         "وحيث أقول الجديد" وهو ما قاله الشافعي رضي الله عنه بمصر ومنه المختصر والبويطي والأم خلافا لمن شذ. وقيل ما قاله بعد خروجه من بغداد إلى مصر "فالقديم". وهو ما قاله قبل دخولها "خلافه" ومنه كتابه الحجة "أو" أقول "القديم أو في قول قديم" لا ينافيه عدم وقوع هذه في كلامه؛ لأنه لم يذكر أنه قالها بل إن صدرت فهي كسابقها "فالجديد خلافه" والعمل عليه إلا في نحو عشرين، وعبر بعضهم بنيف وثلاثين مسألة يأتي بيان كثير منها، وأنه لنحو صحة الحديث به عملا بما تواتر عن وصية الشافعي أنه إذا صح الحديث من غير معارض فهو مذهبه، ولو نص فيه على ما لم ينص عليه في الجديد، وجب اعتماده؛ لأنه لم يثبت رجوعه عن هذا بخصوصه "وحيث أقول وقيل كذا" فهو وجه ضعيف "والصحيح أو الأصح خلافه وحيث أقول وفي قول كذا فالراجح خلافه" وكان تركه لبيان قوة الخلاف وضعفه فيهما لعدم ظهوره له أو لإغراء الطالب على تأمله والبحث عنه ليقوى نظره في المدارك والمآخذ ووصف الوجه بالضعف دون القول تأدبا "ومنها مسائل" جمع مسألة وهي ما يبرهن على إثبات محموله لموضوعه في العلم ومن شأن ذلك أن يطلب ويسأل عنه فلذا يسمى مطلوبا ومسألة "نفيسة" لعموم نفعها ومس الحاجة إليها، ووصف الجمع بالمفرد رعاية لمفرده سائغ "أضمها إليه" أي المختصر في مظانها اللائقة بها غالبا "ينبغي" أي يطلب ومن ثم كان. الأغلب فيها استعمالها في المندوب تارة والوجوب أخرى، وقد تستعمل للجواز أو الترجيح ولا ينبغي قد تكون للتحريم أو الكراهة "أن لا يخلي الكتاب" المذكور وهو المختصر وما ضم إليه وقد سماه في ظهر خطبته بخطة المنهاج وهو كالمنهج والنهج بفتح فسكون الطريق الواضح من نهج كذا أوضحه، وقد يستعمل بمعنى سلك فقط "منها" لنفاستها ووصفها بالنفاسة، والضم أفاده كلامه السابق لكن أعادهما هنا بزيادة ينبغي ومعموله إظهار السبب زيادتها مع خلوها عن التنكيت بخلاف سابقها "وأقول" غالبا فلا يرد عليه نحو قوله في فصل الخلاء ولا يتكلم وإن كان زيادة مسألة برأسها وسيعلم من قوله وفي إلحاق قيد إلخ أن له زيادات من غير تمييز ومن الاستقراء أنه يقول ذلك أيضا في استدراك التصحيح عليه "في أولها قلت وفي آخرها والله أعلم" أي من كل عالم وزعم بعض الحنفية أنه لا ينبغي أن يقال ذلك قيل مطلقا. وقيل للإعلام بختم الدرس ويرد بأنه لا إيهام فيه بل فيه غاية التفويض المطلوب بل في حديث البخاري في باب العلم في قصة موسى مع الخضر صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ما يدل له وهو قوله فيه فعتب الله على موسى أي حيث سئل عن أعلم الناس فقال أنا إذ لم يرد العلم إليه إذ رده إليه صادق بأن يقول الله أعلم بل القرآن دال له وهو {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] وقد قال علي كرم الله وجهه وأبردها على كبدي إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم ولا ينافيه ما في البخاري أن عمر سأل الصحابة رضي الله عنهم عن سورة النصر فقالوا الله أعلم فغضب وقال قولوا نعلم أو لا نعلم. وفي رواية أنه قال لمن قاله مرة قد تيقنا إن كنا لا نعلم أن الله يعلم لتعين حمله على أنه فيمن جعل الجواب به ذريعة إلى عدم إخباره عما سئل عنه، وهو يعلم وقد ذكر الأئمة في الله أكبر وأعلم ونحوهما ما يصرح بحسن ما فعله

 

ج /1 ص -27-         المصنف فعليك به، ومما يؤيده أيضا قولهم يسن لمن سئل عما لا يعلم أن يقول الله ورسوله أعلم ومنع نحو ما أحلم الله نظرا لتقدير النحاة في التعجب شيء صيره كذا مردود بأن فيه غاية الإجلال وبنحو {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26] أي ما أبصره وأسمعه. كما قاله ابن عطية وغيره. لقول قتادة لا أحد أبصر من الله ولا أسمع وتقدير النحاة المذكور غير لازم ولا مطرد؛ لأن كل مقام بما يناسبه كشيء وصفه بذلك أما نفسه أو من شاء من خلقه.
"وما وجدته" أيها الناظر في هذا المختصر "من زيادة لفظة" أي كلمة كظاهر وكثير في قوله في التيمم في عضو ظاهر بجرحه دم كثير "ونحوها" كالهمزة في أحق ما يقول العبد فإنها جزء كلمة لا كلمة "على ما في المحرر فاعتمدها فلا بد منها" أي لا غنى ولا عوض عنها لطالب العلم لتوقف صحة الحكم أو المعنى أو ظهوره عليها "وكذا ما وجدته" فيه "من الأذكار" جمع ذكر وهو لغة كل مذكور وشرعا قول سيق لثناء أو دعاء، وقد يستعمل شرعا أيضا لكل قول يثاب قائله "مخالفا لما في المحرر وغيره من كتب الفقه فاعتمده فإنى حققته" أي ذكرته وأثبته وأصله لغة صرت منه على يقين كتحققته "من كتب الحديث" وهو لغة ضد القديم واصطلاحا علم يعرف به أحوال ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وصفة "المعتمدة" في نقله لاعتناء أهله بلفظه، والفقهاء إنما يعتنون غالبا بمعناه دون غير المعتمدة ففيه حث على إيثار فعله؛ لأن كل أحد يؤثر المعتمد على غيره.
"وقد أقدم بعض مسائل الفصل لمناسبة" أي لوقوع النسبة بين الشيئين حتى يكون بينهما وجه مناسب "أو اختصار" قبل أحدهما كاف لاستلزامه الآخر انتهى. ويرد بمنع الاستلزام إذ قد توجد مناسبة بلا اختصار بل قد لا توجد إلا مع عدمه، وقد يوجد اختصار من حيث اللفظ من المناسبة من حيث المعنى، وذلك كما وقع له أول الجراح فإنه أخر بحث المكره عن بحث السبب الموجب للقود ليجمع أقسام المسألة بمحل واحد "وربما" للتقليل كما جرى عليه عرف الفقهاء وإن قيل إنها للتكثير أكثر، وقد قيل بهما في
{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2]. "قدمت فصلا" وهو لغة الحاجز بين الشيئين وهو في الكتب كذلك لفصله بين أجناس المسائل وأنواعها "للمناسبة" كفصل كفارات محرمات الإحرام على الإحصار "وأرجو" من الرجاء ضد اليأس فهو تجويز وقوع محبوب على قرب واستعماله في غيره كما في {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] أي لا تخافون عظمته مجاز يحتاج لقرينة "إن" عبر بها مع أن المناسب للرجاء إذا إشارة إلى أنه مع رجائه ملاحظ لمقام الخوف المقتضي للتردد في التمام اللازم للمرجو "تم هذا المختصر" الحاضر ذهنا وإن تقدم على وضع الخطبة كما هو مبين في أول شرحي للإرشاد وتقدمها يدل عليه صنيعه في مواضع، وقد تم ولله الحمد "أن يكون في معنى الشرح" من شرح كشف وبين "للمحرر" لقيامه بأكثر وظائف الشراح من إبدال الغريب والموهم وذكر قيود المسألة وبيان أصل الخلاف ومراتبه وضم زيادات نفيسة. إليه ولم يبق إلا ذكر نحو الدليل والتعليق فلذا لم يقل شرحا ثم علل ذلك بقوله "فإني لا أحذف" بإعجام الذال

 

ج /1 ص -28-         أسقط "منه شيئا" بحسب ما عزمت عليه "من الأحكام" التي في نسختي، ولم يكن فيما ذكرته ما يفهم ما حذفته فلا يرد عليه شيء مما اعترض عليه بحذفه له من أصله. والحكم الشرعي خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف والشيء لغة عند أكثر أئمتنا ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وعليه أكثر الاستعمال في القرآن وغيره وعند آخرين كالبيضاوي حقيقة في الموجود مجاز في المعدوم ولم تختلف الأشاعرة والمعتزلة في إطلاقه على الموجود، وإنما النزاع بينهما في شيئية المعلوم بمعنى ثبوته في الخارج وعدم ثبوته فيه فعند الأشاعرة لا وعند المعتزلة نعم قال المصنف وغيره ووافقونا على أن المحال لا يسمى شيئا ومحل بسط ذلك كتب الكلام "أصلا" هي عرفا للمبالغة في النفي مصدرا أو حالا مؤكدة للا أحذف أي مستأصلا أي قاطعا للحذف من أصله من قولهم استأصله قطعه من أصله "ولا" أحذف منه شيئا بالمعنى السابق "من الخلاف ولو كان واهيا" أي ضعيفا جدا مجاز عن الساقط "مع ما" أي آتي بجميع ذلك مصحوبا بما "أشرت إليه من النفائس" المتقدمة.
"وقد" للتحقيق "شرعت" بعد شروعي في ذلك المختصر كما أفاده السياق أو مع شروعي فيه عرفا ولا ينافيه ذلك السياق والتعبير بالتمام لاحتمال أنه باعتبار ما في الذهن "في جمع جزء" أي كتاب صغير الحجم تشبيها بمعنى الجزء لغة وهو بعض الشيء "لطيف" حجمه جدا "على صورة الشرح" صفة ثانية لجزء "لدقائق" جمع دقيقة وهي ما خفي إدراكه إلا بعد مزيد تأمل "هذا المختصر" من حيث اختصاره لعبارة المحرر لا لكل دقائق الكتاب كما أشار إليه لفظ المختصر، وصرح به قوله "ومقصودي به التنبيه على الحكمة" أي السبب والتحقيق أنها في نحو
{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} [البقرة:269] العلم والعمل المتوفر فيهما سائر شروط الكمال ومتمماته "في العدول عن عبارة المحرر وفي إلحاق" الزائد على المحرر بلا تمييز من "قيد" للمسألة "أو حرف" في الكلام كالهمزة في أحق "أو شرط للمسألة" وهو بالسكون لغة تعليق أمر مستقبل بمثله، واصطلاحا ما يأتي أول شروط الصلاة واختلفوا هل الشرط يرادف القيد، ورجح أن مآلهما لشيء واحد ويرد بأن من أقسام القيد ما جيء به لبيان الواقع كما مر، وهو نقيض الشرط "ونحو" مبتدأ "ذلك" وهو التنبيه على المقاصد وما قد يخفى ومنه بيان شمول عبارته لما لم تشمله عبارة أصله، ويصح جر نحو وهو ظاهر "وأكثر ذلك" المذكور "من الضروريات" وهي ما لا مندوحة عنه، وتفسيرها بما يحتاج إليه قاصر فمن ثم فسرها بقوله "التي لا بد منها" لمريد الكمال بمعرفة الأشياء على وجهها، قال الشراح واحترز بذلك عما ليس بضروري بل حسن كزيادة لفظ الطلاق في قوله فإن انقطع لم يحل قبل الغسل غير الصوم والطلاق مع أنه لم يذكره في المحرمات ومع ذكر أصل له في الطلاق ووجه حسنه التنبيه على ما لعله يخفى في محل احتيج إليه فيه. وفي صحته نظر؛ لأن المشار إليه بقوله ذلك ليس فيه زيادة مسألة مستقلة وهذا الذي أخرجوه به مسألة مستقلة نظير ولا يتكلم السابقة فلا يصح إخراجه به فالوجه أنه إنما احترز بذلك عن إلحاق الحرف فإنه بعض المشار إليه وهو غير ضروري،

 

ج /1 ص -29-         لكن بقيد كونه لا يتوقف صحة المعنى عليه نعم إن كانت الإشارة لجميع ما مر من النفائس أو المراد بالحرف مطلق الكلمة. ولو بالمعنى اللغوي اتجه ما قالوه كما أنه متجه على جر نحو "وعلى الله" لا غيره "الكريم" بالنوال قبل السؤال أو مطلقا ومن ثم فسر بأنه الذي عم عطاؤه جميع خلقه بلا سبب منهم وتفسيره بالعفو أو العلي بعيد "اعتمادي" بأن يقدرني على إتمامه كما أقدرني على الشروع فيه فإنه لا يرد من اعتمد عليه، وفي هذا كالذي سبق إيذان بسبق وضع الخطبة "وإليه" لا إلى غيره "تفويضي" من فوض أمره إليه إذا رده رضا بفعله واعتقادا لكماله "واستنادي" في ذلك وغيره فإنه لا يخيب من استند إليه والاعتماد والاستناد يصح أن يدعى ترادفهما، وأن الاعتماد أخص.
ولما تم رجاؤه بإجابة سؤاله قدر وقوع مطلوبه. فقال "وأسأله النفع به" أي بتأليفه بنية صالحة "لي" في الآخرة إذ لا معول إلا على نفعها "ولسائر المسلمين" أي باقيهم أو جميعهم من السؤر أو سور البلد بأن يلهمهم الاعتناء به ولو بمجرد كتابة ونقل ووقف، ونفعهم يستلزم نفعه؛ لأنه السبب فيه "ورضوانه عني وعن أحبائي" بالتشديد والهمز أي من يحبوني وأحبهم وإن لم يأت زمنهم؛ لأنه ينبغي أن يحب في الله كل من اتصف بكمال سابقا ولاحقا
"وجميع المؤمنين" فيه تكرير الدعاء للبعض الذي هو منهم والإسلام والإيمان طال فيما بينهما من النسب الكلام. والحق أنهما متحدان ماصدقا إذ لا يوجد شرعا مؤمن غير مسلم ولا عكسه ومن آمن بقلبه وترك التلفظ بلسانه مع قدرته عليه نقل المصنف الإجماع على تخليده في النار لكن اعترض بأن كثيرين بل المحققين على خلافه مختلفان مفهوما إذ مفهوم الإسلام الاستسلام والانقياد ومفهوم الإيمان التصديق الجازم بكل ما علم مجيئه صلى الله عليه وسلم به بالضرورة إجمالا في الإجمالي وتفصيلا في التفصيلي.