جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود

كتاب الضَّمَان وَالْكَفَالَة

وَمَا يتَعَلَّق بهما من الْأَحْكَام
الأَصْل فِي وجوب الضَّمَان: الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
أما الْكتاب: فَقَوله تَعَالَى: {قَالُوا نفقد صواع الْملك وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير وَأَنا بِهِ زعيم} قَالَ ابْن عَبَّاس: (الزعيم الْكَفِيل)
وَأما السّنة: فروى أَبُو أُمَامَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطب يَوْم فتح مَكَّة
فَقَالَ: (إِن الله تَعَالَى قد أعْطى كل ذِي حق حَقه
فَلَا وَصِيَّة لوَارث
وَلَا تنْفق امْرَأَة شَيْئا من بَيتهَا إِلَّا بِإِذن زَوجهَا
وَالْعَارِية مُؤَدَّاة
والمنحة مَرْدُودَة
وَالدّين مقضي
والزعيم غَارِم والزعيم الضمين)
وروى قبيصَة بن الْمخَارِق: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تحل الصَّدَقَة إِلَّا لثَلَاثَة
فَذكر رجلا تحمل بحمالة فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُؤَدِّيهَا ثمَّ يمسك)
فأباح لَهُ الصَّدَقَة حَتَّى يُؤَدِّي ثمَّ يمسك فَدلَّ على أَن الْحمالَة قد لَزِمته
وَأما الْإِجْمَاع: فَإِن أحدا من الْعلمَاء لم يُخَالف فِي صِحَة الضَّمَان وَإِن اخْتلفُوا فِي فروع مِنْهُ
وَيُقَال فِيهِ: زعيم وضمين وحميل وكفيل وقبيل
وَالْكل بِمَعْنى وَاحِد
وَالضَّمان على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: ضَمَان النَّفس
وَالثَّانِي: ضَمَان المَال
فَأَما ضَمَان النَّفس: فعلى ضَرْبَيْنِ
أَحدهمَا: فِي الْحُدُود
وَذَلِكَ بَاطِل
وَالثَّانِي: فِي غير الْحُدُود
فعلى قَوْلَيْنِ: يجوز
وَلَا يجوز
وَأما ضَمَان المَال: فَإِنَّهُ يجوز بِثَلَاثَة شَرَائِط: أَن يعلم لمن هُوَ وَكم هُوَ وعَلى من هُوَ وَأما ضَمَان الْمَجْهُول وَمَا لم يجب: فعلى قَوْلَيْنِ

(1/146)


أصَحهمَا: أَنه لَا يجوز
وَأما الْأَعْيَان: فَغير جَائِز
وَضَمان دَرك الْمَبِيع يلْزم البَائِع وَإِن لم يَشْتَرِطه المُشْتَرِي
فَأَما إِذا ضمنه غَيره: فعلى قَوْلَيْنِ
وَأما ضَمَان تَسْلِيم الْمَبِيع: فَفِيهِ وَجْهَان

الْخلاف الْمَذْكُور فِي مسَائِل الْبَاب: اتّفق الْأَئِمَّة على جَوَاز الضَّمَان
وَأَنه لَا ينْتَقل الْحق عَن الْمَضْمُون عَنهُ الْحَيّ بِنَفس الضَّمَان بل الدّين بَاقٍ فِي ذمَّته لَا يسْقط عَن ذمَّته إِلَّا بِالْأَدَاءِ
وَهل تَبرأ ذمَّة الْمَيِّت الْمَضْمُون عَنهُ بِنَفس الضَّمَان فَعِنْدَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: لَا كالحي
وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ
وَضَمان الْمَجْهُول: جَائِز عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد
ومثاله: أَنا ضَامِن لَك مَا على زيد وَهُوَ لَا يعرف قدره
وَكَذَلِكَ يجوز عِنْدهم ضَمَان مَا لم يجب
مِثَاله: داين زيدا فَمَا حصل لَك عَلَيْهِ فَهُوَ عَليّ أَو فَأَنا ضَامِن لَهُ
وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي: أَن ذَلِك لَا يجوز وَلَا الْإِبْرَاء من الْمَجْهُول
وَإِذا مَاتَ إِنْسَان وَعَلِيهِ دين وَلم يخلف وَفَاء فَهَل يَصح ضَمَان الدّين عَنهُ أم لَا فمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد: أَنه يجوز
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا لم يخلف وَفَاء لم يجز الضَّمَان عَلَيْهِ
وَيصِح الضَّمَان من غير قبُول الطَّالِب عِنْد الثَّلَاثَة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَصح إِلَّا فِي مَوضِع وَاحِد وَهُوَ أَن يَقُول الْمَرِيض لبَعض ورثته: اضمن عني ديني فَيضمنهُ والغرماء غيب
فَيجوز وَإِن لم يسم الدّين
فَإِن كَانَ فِي الصِّحَّة لم يلْزم الْكَفِيل شَيْئا

فصل: وكفالة الْبدن صَحِيحَة عَن كل من وَجب عَلَيْهِ الْحُضُور إِلَى مجْلِس الحكم الْعَزِيز بالِاتِّفَاقِ

لإطباق النَّاس عَلَيْهَا ومسيس الْحَاجة إِلَيْهَا
وَتَصِح كَفَالَة الْبدن عَمَّن ادّعى عَلَيْهِ إِلَّا عِنْد أبي حنيفَة
وَتَصِح ببدن ميت ليحضره لأَدَاء الشَّهَادَة وَيخرج الْكَفِيل عَن الْعهْدَة بِتَسْلِيمِهِ فِي الْمَكَان الَّذِي شَرطه أَرَادَهُ الْمُسْتَحق أَو أَبَاهُ بالِاتِّفَاقِ إِلَّا أَن يكون دونه يَد عَادِية مَانِعَة
فَلَا يكون تَسْلِيمًا
فَلَو مَاتَ الْكَفِيل بطلت الْكفَالَة إِلَّا عِنْد مَالك
وَإِن تغيب الْمَكْفُول أَو هرب
قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَيْسَ عَلَيْهِ غير إِحْضَاره
وَلَا يلْزمه المَال
وَإِذا تعذر عَلَيْهِ إِحْضَاره لغيبة أمْهل عِنْد أبي حنيفَة مُدَّة الْمسير وَالرُّجُوع بكفيل إِلَى أَن يَأْتِي بِهِ فَإِن لم يَأْتِ بِهِ حبس حَتَّى يَأْتِي بِهِ
وَقَالَ مَالك وَأحمد: إِن لم يحضرهُ وَإِلَّا غرم
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يغرم المَال مُطلقًا
وَلَو لم يعلم مَكَانَهُ لم يُطَالب بالِاتِّفَاقِ
وَلَو قَالَ: إِن لم أحضر بِهِ غَدا فَأَنا ضَامِن لما عَلَيْهِ فَلم يحضر أَو مَاتَ الْمَطْلُوب ضمن مَا عَلَيْهِ إِلَّا عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك

(1/147)


وَلَو ادّعى رجل على آخر بِمِائَة دِرْهَم
فَقَالَ رجل: إِن لم يواف بهَا غَدا فعلي الْمِائَة فَلم يواف
لزمَه الْمِائَة إِلَّا عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمّد بن الْحسن
وَضَمان الدَّرك فِي البيع: جَائِز صَحِيح عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد
وَهُوَ الرَّاجِح من قولي الشَّافِعِي بعد قبض الثّمن لإطباق جَمِيع النَّاس عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَعْصَار
وَله قَول: إِنَّه لَا يَصح ضَمَان مَا لم يجب
انْتهى

المصطلح: وتشتمل صُورَة على أَنْوَاع
مِنْهَا: صُورَة ضَمَان مُتَّفق عَلَيْهِ
وَقد سبق ذكرهَا فِي الْإِقْرَار
صُورَة الضَّمَان عَن ذمَّة الْمَيِّت
وَقد صَححهُ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة إِذا خلف وَفَاء
وَمنعه أَبُو حنيفَة إِذا كَانَ الْمَيِّت مُفلسًا
وَصَححهُ الْبَاقُونَ وَإِن كَانَ مُفلسًا: حضر إِلَى شُهُوده فِي يَوْم تَارِيخه فلَان وَأشْهد عَلَيْهِ شُهُوده أَنه ضمن وكفل عَن ذمَّة فلَان الْمُتَوفَّى إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى قبل تَارِيخه لفُلَان مَا مبلغه كَذَا حَالا أَو مقسطا أَو إِلَى أجل ضمانا شَرْعِيًّا فِي ذمَّته وَمَاله
أقرّ بالملاءة وَالْقُدْرَة على ذَلِك وبمعرفة معنى هَذَا الضَّمَان وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شرعا
وَهَذِه الصُّورَة تكون عَارِية عَن الْإِذْن لتعذره بِمَوْت الْمَضْمُون عَنهُ
وَإِن حضر الْمَضْمُون لَهُ كتب قبُوله لذَلِك قبولا شَرْعِيًّا
وَصُورَة الضَّمَان عَن ذمَّة شخص لآخر بِغَيْر طلب الْمَضْمُون لَهُ وَلَا إِذن الْمَضْمُون عَنهُ: حضر إِلَى شُهُوده فِي يَوْم تَارِيخه فلَان
وَأشْهد عَلَيْهِ شُهُوده: أَنه ضمن وكفل مبلغ الدّين الْمعِين أَعْلَاهُ إِن كَانَت الْكِتَابَة فِي مسطور الدّين على حكمه الْمعِين فِيهِ بِغَيْر إِذْنه لَهُ فِي الضَّمَان
وَإِن كَانَت الْكِتَابَة مقتضبة فَيَقُول: إِنَّه ضمن وكفل لفُلَان مبلغ كَذَا وَكَذَا
وَهُوَ الَّذِي فِي ذمَّته بِمُقْتَضى المسطور المؤرخ بِكَذَا بِغَيْر إدن لَهُ فِي الضَّمَان ضمانا شَرْعِيًّا
وَأقر بالملاءة وَالْقُدْرَة على ذَلِك وَذَلِكَ على حكم الْحُلُول أَو التقسيط أَو التَّأْجِيل فِي الْعسر واليسر وَالْمَوْت والحياة والغيبة والحضور
ويكمل
وَهَذِه الْكفَالَة صَحِيحَة لَازِمَة عِنْد مَالك وَفِي رِوَايَة عَن أَحْمد
صُورَة كَفَالَة الْأَعْيَان وَهِي مُتَّفق عَلَيْهَا إِلَّا فِي أحد الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيّ: حضر إِلَى شُهُوده فِي يَوْم تَارِيخه فلَان وَأشْهد عَلَيْهِ شُهُوده: أَنه ضمن وكفل عَن فلَان مَا غصبه من فلَان وَهُوَ كَذَا وَكَذَا أَو ضمن وكفل مَا أودعهُ فلَان عِنْد فلَان من الْوَدِيعَة
وَهُوَ كَذَا وَكَذَا أَو ضمن وكفل مَا أَعَارَهُ لفُلَان
وَهُوَ كَذَا وَكَذَا ضمانا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ إِن الْمُودع أَو الْمُسْتَعِير إِذا خَان فِي الْوَدِيعَة أَو فرط فِي حفظهَا يلْزم الْكَفِيل مَا يلْزمهُمَا أَو أَحدهمَا

(1/148)


بِمُقْتَضى مَا يلْزم الْمُودع بتفريطه أَو الْمُسْتَعِير
وَأقر بالملاءة وَالْقُدْرَة على ذَلِك
واعتراف بِمَعْرِِفَة معنى كَفَالَة الْأَعْيَان ومقتضاها وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا شرعا
ويكمل
وَصُورَة كَفَالَة الْوَجْه وَالْبدن تقدّمت فِي الْإِقْرَار
وَفِيه صُورَة ثَانِيَة: حضر إِلَى شُهُوده فلَان وكفل لفُلَان وَجه فلَان على أَنه مَتى طَالبه بإحضاره إِلَيْهِ فِي ليل أَو نَهَار أحضرهُ وَسلمهُ إِلَيْهِ بِحَيْثُ يقدر على الانتصاف مِنْهُ ويتمكن من مُطَالبَته بِالْوَاجِبِ لَهُ عَلَيْهِ
وَإِن لم يقدر على تَسْلِيمه إِلَيْهِ فَعَلَيهِ لفُلَان الْمَكْفُول لَهُ جَمِيع مَا يثبت لَهُ على فلَان من الْحق الشَّرْعِيّ من دِرْهَم إِلَى ألف دِرْهَم وَأكْثر وَأَقل مِنْهُ بَالغا مَا بلغ كَفَالَة شَرْعِيَّة أُذُنه لَهُ فِي ذَلِك
وَقبل الْمَكْفُول لَهُ من الْكَفِيل هَذِه الْكفَالَة بمخاطبته إِيَّاه على ذَلِك
وَإِن اخْتَار أَن يكْتب: أَنه إِذا عجز عَن إِحْضَاره كَانَ عَلَيْهِ الْقيام بِالدّينِ كتب: وَإِن عجز عَن إِحْضَاره كَانَ عَلَيْهِ الْقيام بِمَا عَلَيْهِ من الدّين الشَّرْعِيّ للمكفول لَهُ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا يُؤَدِّيه من مَاله وصلب حَاله
وَأقر بالملاءة وَالْقُدْرَة على ذَلِك
وتصادقا على أَن حَاكما من حكام الْمُسلمين جَائِز الْقَضَاء نَافِذ الْأَحْكَام حكم على الْكَفِيل بِصِحَّة الْكفَالَة ولزومها وَوُجُوب المَال عَلَيْهِ عِنْد الْعَجز عَن إِحْضَار الْمَكْفُول حكما شَرْعِيًّا لَازِما
ويكمل
وَالله أعلم

(1/149)