جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود

كتاب اللّقطَة

وَمَا يتَعَلَّق بهَا من الْأَحْكَام
(اللّقطَة) بِسُكُون الْقَاف هِيَ: المَال الملقوط
وَأما (اللّقطَة) بِفَتْح الْقَاف فَاخْتلف أهل اللُّغَة فِيهَا
فَقَالَ الْأَصْمَعِي وَابْن الْأَعرَابِي وَالْفراء: هُوَ اسْم المَال الملقوط
وَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ اسْم الرجل الْمُلْتَقط لِأَن مَا جَاءَ على وزن فعله
فَهُوَ اسْم الْفَاعِل كَقَوْلِهِم: غمزه وَلَمزه وضحكه
فعلى هَذَا: إِذا وجد الْحر الرشيد لقطَة فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يجدهَا فِي مَوضِع مَمْلُوك فَهِيَ لمَالِك ذَلِك الْموضع لِأَن يَده ثَابِتَة على الْموضع وعَلى مَا فِيهِ
إِلَّا أَن يَقُول مَالك الْموضع: لَيست بِملك لي
وَإِن وجدهَا فِي مَوضِع مُبَاح فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون حَيَوَانا أَو غير حَيَوَان
فَإِن كَانَ غير حَيَوَان نظرت
فَإِن كَانَت يسيرَة بِحَيْثُ يعلم أَن صَاحبهَا لَو علم أَنَّهَا ضَاعَت مِنْهُ لم يطْلبهَا كزبيبة وَتَمْرَة وَمَا أشبههما لم يجب تَعْرِيفهَا وَله أَن ينْتَفع بهَا فِي الْحَال لما روى أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بتمرة مطروحة فِي الطَّرِيق فَقَالَ: (لَوْلَا أَنِّي أخْشَى أَن تكون من تمر الصَّدَقَة لأكلتها) وروى جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: (رخص لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي العصى وَالسَّوْط وَالْحَبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينْتَفع بِهِ) وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ رأى رجلا يعرف زبيبة فَقَالَ: (إِن من الْوَرع مَا يمقته الله)
وَإِن كَانَت اللّقطَة شَيْئا كثيرا بِحَيْثُ يطْلبهَا من ضَاعَت مِنْهُ كالذهب وَالْفِضَّة وَالثيَاب والجواهر وَغَيرهَا
فَإِن وجدهَا فِي غير الْحرم جَازَ التقاطها للمتملك
لما روى زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة فَقَالَ: (اعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ عرفهَا سنة
فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وَإِلَّا فشأنك بهَا) وَرُوِيَ (وَإِلَّا فاستنفع

(1/321)


بهَا) وَسُئِلَ عَن ضَالَّة الْغنم فَقَالَ: (خُذْهَا فه لَك أَو لأخيك أَو للذئب) وَسُئِلَ عَن ضَالَّة الْإِبِل فَغَضب حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه أَو وَجهه وَقَالَ: (مَالك وَلها مَعهَا حذاؤها وسقاؤها ترد المَاء وتأكل الشّجر حَتَّى يَجِيء صَاحبهَا فيأخذها)
وَرُوِيَ أَبُو ثَعْلَبَة الْخُشَنِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قلت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَفْتِنِي فِي اللّقطَة فَقَالَ: (مَا وجدته فِي طَرِيق مَيتا أَو قَرْيَة عامرة فعرفها سنة
فَإِن وجدت صَاحبهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَك وَمَا وجدته فِي طَرِيق غير مَيتا أَو قَرْيَة غير عامرة فَفِيهَا وَفِي الرِّكَاز الْخمس) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: والميتا: الطَّرِيق العامر المسلوك
وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما توفّي ابْنه إِبْرَاهِيم
فَبكى عَلَيْهِ وَقَالَ: (لَوْلَا أَنه وعد حق وَقَول صدق وَطَرِيق مَيتا لحزنا عَلَيْك يَا إِبْرَاهِيم أَشد من حزننا) قَالَ: وَبَعْضهمْ يَقُول: مأتي يَأْتِي عَليّ النَّاس
وَكِلَاهُمَا جائزان
وَإِن وجدهَا فِي الْحرم لم يجز التقاطها للتَّمَلُّك
وَمن النَّاس من قَالَ: يجوز التقاطها للتَّمَلُّك وَبِه قَالَ بعض أَصْحَابنَا والالتقاط سنة لواثق بِنَفسِهِ
فَمن أَخذهَا للْحِفْظ فَهِيَ أَمَانَة وَلَا يجب التَّعْرِيف وَلَا يضمن بترك التَّعْرِيف
وَإِن قصد الْخِيَانَة صَارَت مَضْمُونَة
وَإِن لم يقْصد الْخِيَانَة وَلَا الْأَمَانَة أَو أَخذهَا وَنسي الْقَصْد فَلَا ضَمَان: وَله التَّمَلُّك بِشَرْطِهِ
وَإِذا أَخذهَا للتَّمَلُّك فالمؤنة عَلَيْهِ
وَإِذا عرف يعرف سنة على الْعَادة وَله أَن يتملكها بعد التَّعْرِيف وَأَنه لَا يتَمَلَّك إِلَّا بِلَفْظ: كتملكته وَنَحْوه
وَالصَّحِيح: أَنه لَا يجوز أَخذ لقطَة مَكَّة وحرمها للتَّمَلُّك بل للْحِفْظ أبدا
وَلَو وجد خمرًا مُحرمَة أراقها صَاحبهَا لم يلْزمه تَعْرِيفهَا
وَإِن صَارَت عِنْده خلا فَهِيَ لَهُ أم للمريق وَجْهَان وَلَو ضَاعَت من صَاحبهَا فَيُشبه أَن تعرف

(1/322)


الْخلاف الْمَذْكُور فِي مسَائِل الْبَاب
: أجمع الْأَئِمَّة على أَن اللّقطَة تعرف حولا كَامِلا إِذا لم يكن شَيْئا تافها يَسِيرا أَو شَيْئا لإبقاء لَهُ
وَأَن صَاحبهَا إِذا جَاءَ أَحَق بهَا من ملتقطها
وَأَنه إِذا أكلهَا بعد الْحول وَأَرَادَ صَاحبهَا أَن يضمنهُ: كَانَ لَهُ ذَلِك
وَأَنه إِن تصدق بهَا ملتقطها بعد الْحول فصاحبها مُخَيّر بَين التَّضْمِين وَبَين الرضى وبالأجر

فصل: وَأَجْمعُوا على جَوَاز الِالْتِقَاط فِي الْجُمْلَة

ثمَّ اخْتلفُوا
هَل الْأَفْضَل ترك اللّقطَة أَو أَخذهَا فَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ
إِحْدَاهمَا: الْأَخْذ أفضل
وَالثَّانيَِة: تَركه أفضل
وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ
أَحدهمَا: أَخذهَا أفضل
وَالثَّانِي: وجوب الْأَخْذ وَالأَصَح: اسْتِحْبَابه لواثق بأمانة نَفسه
وَقَالَ أَحْمد: تَركهَا أفضل
فَلَو أَخذهَا ثمَّ ردهَا إِلَى مَكَانهَا
قَالَ حنيفَة: إِن كَانَ أَخذهَا ليردها إِلَى صَاحبهَا
فَلَا ضَمَان وَإِلَّا ضمن
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: يضمن على كل حَال
وَقَالَ مَالك: إِن أَخذهَا بنية الْحِفْظ ثمَّ ردهَا ضمن
وَإِن أَخذهَا مترددا بَين أَخذهَا وَتركهَا ثمَّ ردهَا فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ

فصل: وَمن وجد شَاة فِي فلاة
حَيْثُ لَا يُوجد من يضمها إِلَيْهِ وَلم يكن بقربها من يضمها إِلَيْهِ وَلم يكن بقربها شَيْء من الْعمرَان وَخَافَ عَلَيْهَا فَلهُ الْخِيَار عِنْد مَالك فِي تَركهَا أَو أكلهَا وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ
قَالَ: وَالْبَقَرَة إِذا خَافَ عَلَيْهَا السبَاع كالشاة
قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: مَتى أكلهَا لزمَه الضَّمَان إِذا حضر صَاحبهَا

فصل: وَحكم اللّقطَة فِي الْحرم وَغَيره
سَوَاء عِنْد مَالك
فللملتقط أَن يَأْخُذهَا على حكم اللّقطَة ويتملكها بعد ذَلِك وَله أَن يَأْخُذهَا ليحفظها على صَاحبهَا فَقَط وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَهُ أَن يَأْخُذهَا ليحفظها على صَاحبهَا فَقَط ويعرفها مَا دَامَ مُقيما فِي الْحرم
وَإِذا خرج سلمهَا إِلَى الْحَاكِم وَلَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذهَا للتَّمَلُّك

فصل: وَإِذا عرف اللّقطَة سنة وَلم يحضر مَالِكهَا

فَعِنْدَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: للملتقط أَن يحبسها أبدا وَله التَّصَدُّق بهَا وَله أَن يأكلها غَنِيا كَانَ أَو فَقِيرا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ فَقِيرا: جَازَ لَهُ أَن يتملكها وَإِن كَانَ غَنِيا: لم يجز
وَيجوز لَهُ عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك: أَن يتَصَدَّق بهَا قبل أَن يتملكها على شَرط إِن جَاءَ صَاحبهَا فَأجَاز ذَلِك: مضى
وَإِن لم يجزه: ضمنه الْمُلْتَقط لَهُ
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَا يجوز ذَلِك لِأَنَّهُمَا صَدَقَة مَوْقُوفَة
وَإِذا وجد بَعِيرًا ببادية وَحده: لم يجز لَهُ عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ أَخذه
فَلَو أَخذه ثمَّ أرْسلهُ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ عِنْد أبي حنيفَة
وَمَالك وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: عَلَيْهِ الضَّمَان

(1/323)


فصل: وَإِذا مضى على اللّقطَة حول وَتصرف فِيهَا
الْمُلْتَقط بِبيع أَو نَفَقَة أَو صَدَقَة
فلصاحبها إِذا جَاءَ أَن يَأْخُذ قيمتهَا يَوْم تَملكهَا عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَقَالَ دَاوُد: لَيْسَ لَهُ شَيْء
وَإِذا جَاءَ صَاحب اللّقطَة وَأعْطى علامتها ووصفها: وَجب على الْمُلْتَقط عِنْد مَالك وَأحمد أَن يَدْفَعهَا إِلَيْهِ وَلَا يكلفه بَيِّنَة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا يلْزمه ذَلِك إِلَّا بِبَيِّنَة

المصطلح: ويشتمل على صور مِنْهَا: صُورَة مَا إِذا الْتقط رجل مَالا وَخَافَ الْمَوْت وَأشْهد بِهِ: أقرّ فلَان أَنه كَانَ فِي الْيَوْم الْفُلَانِيّ من شهر كَذَا وَكَذَا الْتقط فِي الْموضع الْفُلَانِيّ كيسا ضمنه كَذَا وَكَذَا
وَأَنه عرفه لوقته وساعته ونادى عَلَيْهِ فِي مَوْضِعه وَفِي الْأَسْوَاق والشوارع والأزقة والمساجد والجوامع أَيَّامًا مُتَوَالِيَة وجمعا متتابعة وأشهرا مترادفة مَا يزِيد على سنة كَامِلَة فَلم يحضر لَهَا طَالب
وَلما خشِي على نَفسه الْمَوْت أشهد عَلَيْهِ شُهُوده أَنه وجدهَا فالتقطها وَأَنَّهَا تَحت يَده وَفِي حيازته
فَإِن حضر من يدعيها ووصفها وَثَبت ملكه لَهَا أَخذهَا وبرىء الْمُلْتَقط الْمَذْكُور من عهدتها وخلت يَده مِنْهَا بِتَسْلِيمِهِ إِيَّاهَا لمَالِكهَا بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيّ ويؤرخ
وَصُورَة أُخْرَى فِي ذَلِك: أشهد عَلَيْهِ فلَان أَنه فِي الْوَقْت الْفُلَانِيّ اجتاز فِي الْمَكَان الْفُلَانِيّ فَوجدَ كَذَا وَكَذَا ويصف اللّقطَة بجنسها ونوعها وقدرها ووكائها وعفاصها حَتَّى يُخرجهَا عَن الْجَهَالَة وَأَنه عرف ذَلِك سنة كَامِلَة آخرهَا كَذَا وَكَذَا وَلم يحضر لَهَا صَاحب وَلَا طَالب
وَجَمِيع مَال اللّقطَة بَاقٍ بِعَيْنِه ويشخصه للشُّهُود فيشهدوا بتشخيصه ومعاينته إِن أمكن
ثمَّ يَقُول: وَأَنه خَافَ على نَفسه فرَاغ الْأَجَل المحتوم واشتغال الذِّمَّة والمطالبة فِي الْآخِرَة يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم
فَأشْهد عَلَيْهِ بذلك
ويؤرخ

(1/324)