حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
رب يسر وَبِه نستعين
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الأوحد فغر الْإِسْلَام وجماله أَبُو بكر بن أَحْمد الْحُسَيْن الشَّاشِي رَحمَه الله تَعَالَى قدره الْحَمد لله الَّذِي أيد الْإِسْلَام فِي كل عصر بِإِمَام وأقامه مقَام نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حفظ شَرعه ونصرة دينه وإمضاء حكمه وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين وَآله الطيبين الطاهرين
أما بعد فَإِنَّهُ لما انْتَهَت الْإِمَامَة المعظمة والخلافة المكرمة إِلَى سيدنَا ومولانا أَمِير الْمُؤمنِينَ المستظهر بِاللَّه أعز الله أنصاره ذِي الهمة الْعليا فِي أَمر الدّين وَالدُّنْيَا استخرت الله تَعَالَى فِي كتاب جَامع لأقاويل الْعلمَاء تقربا إِلَى الله تَعَالَى فِي اطِّلَاعه عَلَيْهِ رَجَاء أَن

(1/53)


يكون مَا يصدر عَنهُ غير خَارج عَن مَذْهَب من الْمذَاهب وَينْتَفع بِهِ كل نَاظر فِيهِ فأرزق الْأجر فِيهِ وَالثَّوَاب عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَعلم الشَّرْع منقسم فمتفق عَلَيْهِ ومختلف فِيهِ وَالِاخْتِلَاف منتشر جدا وَمن شَأْن الْمُجْتَهد أَن يكون عَارِفًا بمذاهب الْعلمَاء فَذكرت مَذْهَب صَاحب كل مقَالَة وطريقته فِي مذْهبه كالقولين للشَّافِعِيّ رَحمَه الله والروايتين وَالرِّوَايَات لمن سواهُ وَذكرت طَرِيقَته فِي مذْهبه وَاخْتِلَاف أَصْحَاب كل وَاحِد مِنْهُم فِيمَا فرعوه على اصله من الْمُتَأَخِّرين والمتقدمين وَمَا انْفَرد بِهِ الْوَاحِد مِنْهُم بِاخْتِيَار عَن صَاحب الْمَذْهَب وَالله الْمُوفق لحسن الْقَصْد فِيهِ وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل

فصل لَا يجوز للْعَالم تَقْلِيد الْعَالم
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ إِذا خَافَ الْمُجْتَهد فَوت الْعِبَادَة المؤقتة إِذا اشْتغل بِالِاجْتِهَادِ جَازَ لَهُ تَقْلِيد من يعرف ذَلِك
وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن يجوز للْعَالم تَقْلِيد من هُوَ أعلم مِنْهُ
وَفرض الْعَاميّ التَّقْلِيد فِي أَحْكَام الشَّرْع ويقلد الأعلم الأروع من أهل الِاجْتِهَاد فِي الْعلم
وَقيل يُقَلّد من شَاءَ مِنْهُم
فَإِن اخْتلف عَلَيْهِ اجْتِهَاد اثْنَيْنِ

(1/54)


فَظَاهر كَلَام الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه يُقَلّد آمنهما عِنْده فَإِن اسْتَويَا فِي ذَلِك أَخذ بقول أَيهمَا شَاءَ
وَقيل يلْزمه الْأَخْذ بالأشق من قَوْلهمَا
وَقيل يَأْخُذ بالأخف
وَفِي تَقْلِيد الْمَيِّت من الْعلمَاء فِيمَا ثَبت من قَوْله وَجْهَان أظهرهمَا جَوَازه

(1/55)


= كتاب الطَّهَارَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب مَا تجوز بِهِ الطَّهَارَة من الْمِيَاه وَمَا لَا تجوز
تجوز طَهَارَة الْحَدث وَالنَّجس بِالْمَاءِ الْمُطلق على أَي صفة كَانَ من أصل الْخلقَة وَحكي عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الله

(1/56)


ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا التَّيَمُّم أعجب إِلَيْنَا من التوضىء بِمَاء الْبَحْر
وَعَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ إِذا ألجئت إِلَيْهِ فَتَوَضَّأ بِهِ
فَأَما المَاء الَّذِي ينْعَقد مِنْهُ الْملح كأعين الْملح الَّتِي يَنْبع مِنْهَا المَاء مالحا فَإِنَّهُ يجوز الْوضُوء بِهِ

(1/57)


وَحكي عَن الْقفال أَنه قَالَ لَا يجوز
وَلَا يكره من ذَلِك إِلَّا مَا قصد إِلَى تشميسه وَقيل لَا يكره وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأحمد وَمَالك

(1/58)


وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يخْتَص النَّهْي بِمَاء مشمس بتهامة والحجاز
وَمِنْهُم من قَالَ يرجع إِلَى عدُول أهل الطِّبّ هَل يُورث البرص أم لَا
وَمِنْهُم من قَالَ يكره اسْتِعْمَاله فِي الْبدن وَلَا يكره غسل الثَّوْب والإناء بِهِ وَالْمذهب الأول

وَحكي عَن مُجَاهِد أَنه كره المَاء المسخن بالنَّار

(1/59)


وَكره أَحْمد المَاء المسخن بِالنَّجَاسَةِ زَاد فِي الْمُعْتَمد فِي هَذَا الْوَجْه وَأَن يكون فِي آنِية الصفر والنحاس وَأَن تكون مغطاة الرَّأْس
وَمَا عدا المَاء الْمُطلق من الْمَائِعَات كالخل وَمَاء الْورْد والنبيذ وَمَا اعتصر من شجر أَو ثَمَر فَلَا تجوز بِهِ طَهَارَة الْحَدث وَلَا طَهَارَة النَّجس وَهُوَ قَول مَالك غير أَنه قَالَ فِي السَّيْف إِذا أَصَابَهُ دم يجزىء مَسحه
وَقَالَ الْأَصَم وَابْن أبي ليلى يجوز رفع الْحَدث وَإِزَالَة النَّجس بِسَائِر الْمَائِعَات

(1/60)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف يجوز إِزَالَة النَّجَاسَة بِكُل مَائِع طَاهِر مزيل للعين وَلَا يجوز رفع الْحَدث إِلَّا بِالْمَاءِ
وَأما النَّبِيذ فنجس
وَقَالَ أَبُو حنيفَة هُوَ طَاهِر وَعنهُ فِي جَوَاز الطَّهَارَة بِهِ ثَلَاث رِوَايَات
إِحْدَاهَا نَحْو قَوْلنَا وَهِي أَي أَنه لَا يرفع الْحَدث وَلَا

(1/61)


الْخبث قَول أبي يُوسُف
وَالثَّانيَِة أَنه يتَوَضَّأ بِهِ ويضيف إِلَيْهِ التَّيَمُّم وَهُوَ قَول مُحَمَّد

(1/62)


وَالثَّالِثَة أَنه يجوز التَّوَضُّؤ بنبيذ التَّمْر فِي السّفر عِنْد عدم المَاء
وَاخْتلف أَصْحَابه فِي النَّبِيذ الَّذِي يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ
فَقَالَ أَبُو طَاهِر الدباس يجوز التَّوَضُّؤ بالنبيذ النيء الحلو
وَقَالَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي لَا يجوز التَّوَضُّؤ إِلَّا بالمطبوخ المشتد
وَفِي الفتوحات المكية الَّذِي أَقُول بِهِ منع التطهر بالنبيذ لعدم صِحَة الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِيهِ وَلَو أَن الحَدِيث صَحَّ لم يكن نصا فِي الْوضُوء بِهِ فَإِن الْوَارِد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ثَمَرَة طيبَة وَمَاء طهُور أَي قَلِيل الامتزاج والتغير عَن وصف المَاء وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى مَا شرع لنا الطَّهَارَة عِنْد فقد المَاء إِلَّا بِالتَّيَمُّمِ خَاصَّة
فَإِن كَانَ يحْتَاج فِي طَهَارَته إِلَى خَمْسَة أَرْطَال وَمَعَهُ أقل من ذَلِك فكمله بمائع لم يتَغَيَّر بِهِ لقلته وَتَوَضَّأ بِهِ صحت طَهَارَته فِي أظهر الْوَجْهَيْنِ

(1/63)


وَذكر أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ فِي الإفصاح أَنه لَا يَصح
فَإِن طرح فِي مَا يَكْفِيهِ مَائِعا وَلم يتَغَيَّر بِهِ لموافقته المَاء فِي الطّعْم واللون والرائحة فَفِيهِ وَجْهَان
أظهرهمَا أَنه إِن كَانَت الْغَلَبَة للْمَاء جَازَت الطَّهَارَة بِهِ وَإِن لم تكن الْغَلَبَة لَهُ لم يجز
وَالثَّانِي أَنه يعْتَبر تغيره بِمَا يُغير فَإِن كَانَ قدرا لَو كَانَ مُخَالفا للْمَاء فِي صِفَاته غَيره منع الطَّهَارَة بِهِ
وَالشَّيْخ ابو نصر رَحمَه الله قَالَ يقدر من جِهَة الْعَادة أَن لَا يُخَالِفهُ فِي صفة من صِفَاته
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام فَخر الْإِسْلَام رَحمَه الله تَعَالَى وأيده الله وَوجدت

(1/64)


القَاضِي أَبَا الطّيب رَحمَه الله قد ذكر هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فِي المَاء الْمُسْتَعْمل إِذا طرح على مَاء مُطلق
وَإِن طرح فِيهِ تُرَاب فَتغير بِهِ جَازَت الطَّهَارَة بِهِ
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز
وَمِنْهُم من حكى فِيهِ قَوْلَيْنِ
وَإِن طرح فِي المَاء ملح مائي فَتغير بِهِ جَازَ الطَّهَارَة بِهِ
وَحكي عَن صَاحب التَّلْخِيص أَنه قَالَ يمْنَع من التطهر بِهِ
وَإِن تغير المَاء بِعُود أَو دهن طيب فقد نقل الْمُزنِيّ أَنه يجوز الْوضُوء بِهِ
وَنقل الْبُوَيْطِيّ أَنه لَا يجوز

(1/65)


وَإِن وَقع فِي المَاء قَلِيل كافور فَتغير بِهِ رِيحه فَفِيهِ وَجْهَان
وَإِن تغير بمخالطة شَيْء سوى ذَلِك مِمَّا يَسْتَغْنِي المَاء عَنهُ لم تجز الطَّهَارَة بِهِ وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد
وَمن أَصْحَابنَا من حكى فِي الْحِنْطَة وَالشعِير إِذا طبخا فِي المَاء فَتغير من غير انحلال أَجزَاء وَجْهَيْن
قَالَ الإِمَام ابو بكر وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن التَّغَيُّر بذلك لَا يكون إِلَّا بانحلال أَجزَاء
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه تغير المَاء بالطاهر لَا يمْنَع الطَّهَارَة بِهِ مَا لم يطْبخ بِهِ أَو يغلب على أَجْزَائِهِ بِأَن يثخن إِن كَانَ رَقِيقا أَو فَقَالَ حل فِيهِ مَاء إِن كَانَ مَائِعا

(1/66)


فَإِن وَقع فِي المَاء قطران فَغَيره فقد قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي الْأُم لَا يجوز اسْتِعْمَاله وَقَالَ بعده بأسطر يجوز وَالْمَسْأَلَة على اخْتِلَاف حَالين لِأَن القطران على ضَرْبَيْنِ ضرب فِيهِ دهنية فَلَا يخْتَلط بِالْمَاءِ وَضرب لَا دهنية فِيهِ فيختلط بِهِ
وَإِن تغير المَاء بطول الْمكْث لم يمْنَع من الطَّهَارَة بِهِ
وَحكي عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ يمْنَع
وَلَا يكره الِاغْتِسَال وَالْوُضُوء فِي مَاء زَمْزَم

(1/67)


وَقَالَ أَحْمد يكره فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ

(1/68)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب مَا يفْسد المَاء من النَّجَاسَة وَمَا لَا يُفْسِدهُ
إِذا وَقعت فِي المَاء الراكد نَجَاسَة يُدْرِكهَا الطّرف من خمر أَو بَوْل أَو ميتَة لَهَا نفس سَائِلَة وَهُوَ أقل من قُلَّتَيْنِ نجس وَإِن كَانَ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدا فَتغير فِيهِ أحد أَوْصَافه من طعم أَو لون أَو رَائِحَة نجس وَإِن لم يتَغَيَّر لم ينجس
والقلتان خَمْسمِائَة رَطْل بالبغدادي وَهل ذَلِك تقريب أَو تَحْدِيد فِيهِ وَجْهَان
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ القلتان خَمْسمِائَة منا

(1/69)


وَقَالَ أَبُو عبد الله الزبيرِي القلتان ثَلَاثمِائَة منا وَاخْتَارَهُ الْقفال وبقولنا قَالَ أَحْمد وَأَبُو ثَوْر وَاخْتَارَهُ الْمُزنِيّ
وَحكي عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قدر المَاء الْكثير بِأَرْبَعِينَ قلَّة وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر
وَمِنْهُم من قدره بكر وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين ووكيع

(1/70)


وَالْكر عِنْدهم أَرْبَعُونَ قَفِيزا والقفيز اثْنَان وَثَلَاثُونَ رطلا
وَقَالَ مَالك الِاعْتِبَار بِتَغَيُّر المَاء بِكُل حَال وَبِه قَالَ دَاوُد ويروى عَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ

(1/71)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه كل مَوضِع تَيَقنا وُصُول النَّجَاسَة إِلَيْهِ أَو غلب على ظننا وُصُول النَّجَاسَة إِلَيْهِ حكمنَا بِنَجَاسَتِهِ وَجعل حَرَكَة المَاء بِوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ عَلامَة على وصولها إِلَى حَيْثُ انْتَهَت الْحَرَكَة وَمَا لم تصل إِلَيْهِ طَاهِرَة من غير نظر إِلَى كَثْرَة وَلَا إِلَى تَغْيِير
وَحكي عَن دَاوُد تَفْرِيع عَجِيب على هَذَا الأَصْل بِدَلِيل خبر حمله عَلَيْهِ ترك الْقيَاس فَقَالَ إِذا بَال فِي مَاء راكد وَلم يتَغَيَّر لم ينجس وَلَا يجوز لَهُ أَن يتَوَضَّأ مِنْهُ وَيجوز لغيره أَن يتَوَضَّأ مِنْهُ
وَإِن بَال فِي إِنَاء ثمَّ طَرحه فِيهِ وَلم يتَغَيَّر لم ينجس وَجَاز لَهُ وَلغيره أَن يتَوَضَّأ مِنْهُ
وَإِن كَانَت النَّجَاسَة مِمَّا لَا يُدْرِكهَا الطّرف فَظَاهر مَا نَقله الْمُزنِيّ أَنه لَا ينجس
وَفِي الْبُوَيْطِيّ فِي الثَّوْب أَنه ينجس أدْركهُ الطّرف أَو لم يُدْرِكهُ

(1/72)


فَحصل فِي المَاء وَالثَّوْب سِتّ طرق
أَحدهَا أَنه ينجس المَاء وَالثَّوْب
وَالثَّانِي أَنه لَا ينجس المَاء وَلَا الثَّوْب وَهُوَ قَول أبي الطّيب بن سَلمَة
وَالثَّالِث فِيهِ قَولَانِ
وَالرَّابِع حمل النصين على ظَاهر هما وَالْفرق بَينهمَا
وَالْخَامِس عكس ذَلِك وَهُوَ أَن ينجس المَاء وَلَا ينجس الثَّوْب
وَقَالَ أَبُو عَليّ بن ابي هُرَيْرَة ينجس الثَّوْب وَفِي المَاء قَولَانِ
وَالشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق رَحمَه الله حصل من ذَلِك ثَلَاث طرق وَهِي

(1/73)


الأولى فِي المَاء وَالثَّوْب جَمِيعًا واسقط مَا زَاد على ذَلِك إِذا مَاتَ مَا لَيْسَ لَهُ نفس سَائِلَة من ذُبَاب أَو زنبور فِي مَاء قَلِيل أَو طَعَام لم يُنجسهُ فِي أحد الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الْأَصَح للنَّاس

(1/74)


وينجسه فِي الآخر وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر وَيحيى بن ابي كثير فَإِن كثر فِيهِ مَا غير المَاء نجسه فِي أظهر الْوَجْهَيْنِ
وَمَا يعِيش فِي المَاء مِمَّا لَا يحل أكله كالضفدع وَغَيره إِذا مَاتَ فِي المَاء الْقَلِيل نجسه
وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يُنجسهُ
فصل إِذا أَرَادَ تَطْهِير المَاء الَّذِي حكمنَا بِنَجَاسَتِهِ
فَإِنَّهُ إِن كَانَت نَجَاسَته بالتغير وَكَانَ أَكثر من قُلَّتَيْنِ طهر بِزَوَال التَّغْيِير بِنَفسِهِ أَو بِأخذ بعضه وَذَلِكَ فِي الْبِئْر إِذا كَانَ يَنْبع مِنْهَا المَاء فَإِن نزح المَاء مِنْهَا ونبع مَا يبلغ قُلَّتَيْنِ وَزَالَ التَّغَيُّر طهرت الْبِئْر وَالْمَاء وَإِن لم يبلغ قُلَّتَيْنِ طهر مَا ورد عَلَيْهِ المَاء من الْبِئْر وَالْمَاء الْمُسْتَعْمل فِي إِزَالَة النَّجَاسَة فَيكون طَاهِرا على مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله ونجسا على قَول الْأنمَاطِي

(1/75)


وَقد ذكر أَصْحَابنَا فِيهِ إِذا كَانَ الثَّوْب جَمِيعه نجسا فَغسل نصفه ثمَّ غسل النّصْف الآخر لم يطهر ونبع المَاء لشَيْء بعد شَيْء من الْبِئْر بِمَنْزِلَتِهِ ويطهر أَيْضا بِأَن يطْرَح عَلَيْهِ مَاء آخر حَتَّى يَزُول التَّغَيُّر
وَإِن طرح فِيهِ تُرَاب أَو جص فَزَالَ التَّغَيُّر طهر فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ
وَذكر الشَّيْخ ابو حَامِد رَحمَه الله فِي التَّعْلِيق أَن الْقَوْلَيْنِ فِي التُّرَاب وَمَا سواهُ لَا يظْهر قولا وَاحِدًا وَلَيْسَ بِشَيْء
وَإِن كَانَ المَاء أقل من قُلَّتَيْنِ وَلم يتَغَيَّر طهر بالمكاثرة وَإِن لم يبلغ قُلَّتَيْنِ إِذا لم تكن عين النَّجَاسَة فِيهِ قَائِمَة
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يطهر بالمكاثرة من غير أَن يبلغ قُلَّتَيْنِ وَالْمذهب الأول
فَإِن كَانَ قلتان من المَاء النَّجس فِي إناءين من غير تغير فَجمع بَينهمَا فِي إِنَاء وَاحِد طهرتا

(1/76)


وَقَالَ اصحاب أَحْمد لَا يحكم بِالطَّهَارَةِ فيهمَا
وَحكم المَاء فِي الْبِئْر حكم المَاء فِي الصنع فِي التَّطْهِير حكم الغدير الَّذِي لَا يَتَحَرَّك أحد الطَّرفَيْنِ فِي تَحْرِيك الطّرف الآخر
وَقَالَ أَبُو حنيفَة مَاء الْبِئْر يُخَالف مَاء الغدير فَإِذا مَاتَ فِي الْبِئْر فَأْرَة أَو عُصْفُور نزح مِنْهَا عشرُون دلوا وطهرت وَإِن وَقع فِيهَا دَمهَا نزح جَمِيعهَا وَكَذَا إِن وَقع فِيهَا بَوْل أَو دم
وَإِن مَاتَ فِيهَا هرة أَو دجَاجَة نزح مِنْهَا اربعون دلوا وطهر الْبَاقِي وَإِن مَاتَ فِيهَا شَاة نزح جَمِيعهَا
فَإِن أَرَادَ الطَّهَارَة من المَاء الَّذِي وَقعت فِيهِ نَجَاسَة وَحكم بِطَهَارَتِهِ فَإِنَّهُ إِن كَانَ دون الْقلَّتَيْنِ وطهر بالمكاثرة وَلم يبلغ قُلَّتَيْنِ لم تجز الطَّهَارَة بِهِ وَإِن كَانَ أَكثر من قُلَّتَيْنِ جَازَ الطَّهَارَة مِنْهُ

(1/77)


وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق وَابْن الْقَاص إِن كَانَ فِيهِ نَجَاسَة جامدة لم يجز أَن يتَوَضَّأ من مَوضِع يكون بَينه وَبَين النَّجَاسَة أقل من قُلَّتَيْنِ وَالْمذهب الأول
وَإِن كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ وَفِيه نَجَاسَة جامدة فَالْمَذْهَب أَنه يجوز أَن يغترف مِنْهُ بِإِنَاء وَيتَوَضَّأ بِهِ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق لَا يجوز فَإِن أخرج النَّجَاسَة مِنْهُ جَازَ أَن يتَوَضَّأ بِهِ وَجها وَاحِدًا وَإِن كَانَت النَّجَاسَة فِي الْقلَّتَيْنِ مائعة وَقد طهر المَاء جَازَ الطَّهَارَة بِجَمِيعِهِ
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يبْقى فِيهِ قدر النَّجَاسَة وَلَيْسَ بِشَيْء
فَأَما الْجَارِي إِذا كَانَ فِيهِ النَّجَاسَة جَارِيَة فَإِنَّهُ إِن كَانَ المَاء الَّذِي يُحِيط

(1/78)


بِالنَّجَاسَةِ يبلغ قُلَّتَيْنِ وَلم يتَغَيَّر فَهُوَ طَاهِر وَإِن نقص عَن قُلَّتَيْنِ فَهُوَ نجس وَلَا يجوز التَّوَضُّؤ مِنْهُ حَتَّى يجْتَمع فِي مَوضِع ويبلغ قُلَّتَيْنِ وَهُوَ غير متغير
وَقَالَ ابْن الْقَاص للشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ قَول فِي الْقَدِيم إِن المَاء الْجَارِي لَا ينجس إِلَّا بالتغيير وَإِن كَانَ قَلِيلا وَكَذَا حكم النَّجَاسَة الْوَاقِعَة فِي النَّهر وَالْمَاء يجْرِي عَلَيْهَا على مَا ذَكرْنَاهُ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق وَابْن الْقَاص وَالْقَاضِي أَبُو حَامِد يجوز أَن يتَوَضَّأ من مَوضِع يكون بَينه وَبَين النَّجَاسَة قلتان فِي طول النَّهر
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ تعْتَبر القلتان فِي المَاء الَّذِي يلاقي جَمِيعه النَّجَاسَة من الْجَارِي فَأَما إِذا كَانَت النَّجَاسَة راسية فِي أَسْفَل المَاء وقراره وَالْمَاء يجْرِي عَلَيْهَا فَالَّذِي يلقاها الطَّبَقَة السُّفْلى من المَاء وَهِي أقل من قُلَّتَيْنِ فَهِيَ نَجِسَة

(1/79)


وَفِي الطَّبَقَة الْعليا وَجْهَان
أَحدهمَا أَنَّهَا طَاهِرَة
وَالثَّانِي أَنَّهَا نَجِسَة
وَإِن كَانَت النَّجَاسَة طافية على رَأس المَاء وَالَّذِي يلاقيها مِنْهُ أقل من قُلَّتَيْنِ فَهُوَ نجس وَمَا فِي الْقَرار فِيهِ وَجْهَان
وَقد ذكر الشَّيْخ ابو نصر رَحمَه الله فِيهِ إِذا تغير أحد جَانِبي النَّهر أَن قِيَاس الْمَذْهَب أَن ينجس مَا يحاذيه من الْجَانِب الآخر وَإِن لم يتَغَيَّر حَتَّى ينْفَصل عَن محاذاته فيطهر وَيَجِيء فِيهِ تَخْرِيج الْوَجْه الآخر فَإِنَّهُ مثله
ذكر القَاضِي حُسَيْن رَحمَه الله أَنه إِذا وَقعت فِي قُلَّتَيْنِ من المَاء نَجَاسَة لَا تخَالف المَاء فِي صِفَاته فَإِنَّهُ يعْتَبر بِالنَّجَاسَةِ الَّتِي تخَالف المَاء فِي الصّفة فَيُقَال هَذَا الْقدر من النَّجَاسَة لَو كَانَ مُخَالفا للْمَاء فِي صفته هَل كَانَ يطهر عَلَيْهِ فَيقْضى فِيهِ بِحكمِهِ

(1/80)


قَالَ الإِمَام أَبُو بكر وَهَذَا أشبه بِمَا ذَكرْنَاهُ من الطَّاهِر الْمُوَافق للْمَاء فِي صِفَاته فَلَا يتَغَيَّر بِهِ وَقد استبعد الشَّيْخ أَبُو نصر رَحمَه الله وجود ذَلِك هُنَاكَ فالنجالسة بالاستبعاد أولى
فصل أما المَاء الْمُسْتَعْمل
فَإِنَّهُ إِن كَانَ مُسْتَعْملا فِي رفع حدث فَهُوَ طَاهِر
وروى الْحسن بن زِيَاد عَن ابي حنيفَة أَنه قَالَ هُوَ نجس وَهُوَ قَول أبي يُوسُف
وَلَا يجوز التطهر بِهِ على الْمَشْهُور من الْمَذْهَب وَهُوَ قَول أَحْمد وَالْمَشْهُور عَن ابي حنيفَة وَقَول مُحَمَّد بن الْحسن

(1/81)


وَحكى عِيسَى بن أبان عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله جَوَاز التطهر بِهِ وَهُوَ قَول مَالك وَدَاوُد
فَمن اصحابنا من لم يثبت هَذِه الرِّوَايَة مذهبا لَهُ فَإِذا قُلْنَا لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ فَهَل تجوز إِزَالَة النَّجَاسَة بِهِ فِيهِ وَجْهَان
أظهرهمَا أَنه لَا يجوز
فَإِن اسْتعْمل المَاء فِي نفل الطَّهَارَة كتجديد الْوضُوء جَازَ التَّوَضُّؤ بِهِ فِي أظهر الْوَجْهَيْنِ
ذكر بعض أَصْحَابنَا أَن المَاء إِذا انْفَصل من عُضْو إِلَى عُضْو صَار مُسْتَعْملا فِي طَهَارَة الْحَدث وَفِي غسل الْجَنَابَة وَجْهَان
أصَحهمَا أَنه لَا يصير مُسْتَعْملا حَتَّى ينْفَصل من جَمِيع الْبدن
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام فَخر الْإِسْلَام أيده الله وَعِنْدِي أَنه لَا اعْتِبَار

(1/82)


بالعضو والعضوين وَلَا يخْتَلف باخْتلَاف الطهارتين وَإِنَّمَا الِاعْتِبَار بالانفصال عَن الْمحل فَإِنَّهُ يصير مُسْتَعْملا وَإِن كَانَ فِي عُضْو وَاحِد وَمثله فِي الْجَنَابَة وَمَا دَامَ يجْرِي مُتَّصِلا با الْمحل فَإِنَّهُ لَا يصير مُسْتَعْملا غير أَن أَعْضَاء الْبدن يتَّصل بَعْضهَا بِبَعْض فينحدر المَاء من عُضْو إِلَى عُضْو مُتَّصِلا
فَإِن غسل رَأسه مَكَان الْمسْح فَهَل يصير المَاء مُسْتَعْملا
حكى أَبُو عَليّ بن ابي هُرَيْرَة فِيهِ وَجْهَيْن
أصَحهمَا أَنه يصير مُسْتَعْملا وَيسْتَحب تَجْدِيد الْوضُوء إِذا كَانَ قد صلى بِهِ فَرِيضَة
وَإِن كَانَ قد صلى بِهِ نَافِلَة فَهَل يسْتَحبّ التَّجْدِيد
حكى فِيهِ بعض أَصْحَابنَا وَجْهَيْن وبناه على أَن المَاء الْمُسْتَعْمل فِي نفل الطَّهَارَة هَل يصير مُسْتَعْملا أم لَا وَفرع عَلَيْهِ تَفْصِيلًا عجيبا
وَالصَّحِيح فِي ذَلِك أَن يكون قد فعل بِالطَّهَارَةِ مَا ترَاد لَهُ الطَّهَارَة شرعا فترتفع كَرَاهَة التَّجْدِيد
فَإِن جمع المَاء الْمُسْتَعْمل حَتَّى يبلغ قُلَّتَيْنِ زَالَ حكم الِاسْتِعْمَال فِي أظهر الْوَجْهَيْنِ

(1/83)


فَأَما المَاء الْمُسْتَعْمل فِي إِزَالَة النَّجَاسَة إِذا لم يتَغَيَّر فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أظهرها أَنه طَاهِر وَهُوَ قَول أبي إِسْحَاق
وَالثَّانِي أَنه نجس وَهُوَ قَول ابي الْقَاسِم الْأنمَاطِي وَقَول ابي حنيفَة
وَالثَّالِث أَنه إِن انْفَصل وَالْمحل طَاهِر فَهُوَ طَاهِر وَإِن انْفَصل وَالْمحل نجس فَهُوَ نجس وَهُوَ قَول ابْن الْقَاص
فَإِذا قُلْنَا إِنَّه طَاهِر فَهَل يجوز الْوضُوء بِهِ فِيهِ وَجْهَان

(1/84)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الشَّك فِي نَجَاسَة المَاء والتحري فِيهِ
إِذا أكلت الْهِرَّة نَجَاسَة وولغت فِي مَاء قَلِيل فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه نجس
وَالثَّانِي أَنَّهَا إِن غَابَتْ ثمَّ عَادَتْ وولغت فِيهِ لم ينجس
وَالثَّالِث أَنه لَا ينجس بذلك بِحَال
وَإِذا ورد على مَاء فَأخْبرهُ رجل بِنَجَاسَتِهِ قبل خَبره وَلم يجْتَهد

(1/85)


فَإِن أخبرهُ رجل أَن الْكَلْب ولغَ فِي هَذَا الْإِنَاء فِي وَقت عينه دون الآخر وَقَالَ آخر بل ولغَ فِي الْإِنَاء الآخر فِي ذَلِك الْوَقْت بِعَيْنِه دون هَذَا الْإِنَاء ذَاته فَإِنَّهُ يَبْنِي على الْقَوْلَيْنِ بتعارض الْبَيِّنَتَيْنِ
فَإِن قُلْنَا إنَّهُمَا يسقطان سقط خبرهما وَتَوَضَّأ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا وَإِن قُلْنَا إنَّهُمَا يستعملان أراقهما أَو صب أَحدهمَا فِي الآخر وَتيَمّم
ذكر فِي الْحَاوِي أَنه إِذا أخبرهُ رجل أَن هَذَا الْكَلْب ولغَ فِي هَذَا الْإِنَاء فِي وَقت عينه وَقَالَ آخر هَذَا الْكَلْب فِي ذَلِك الْوَقْت لم يكن فِي ذَلِك الْمَكَان فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه طَاهِر لتعارض الْخَبَرَيْنِ وسقوطهما
وَالثَّانِي أَنه نجس لِأَن الْكَلْب تشتبه وَهَذَا الْوَجْه لَيْسَ بِشَيْء
فَإِن اشْتبهَ عَلَيْهِ مَاء طَاهِر وَمَاء نجس تحرى فيهمَا فَمَا أَدَاء اجْتِهَاده إِلَى طَهَارَته تَوَضَّأ بِهِ

(1/86)


وَقَالَ الْمُزنِيّ وَأَبُو ثَوْر لَا يتحَرَّى فِي الْأَوَانِي وَيتَيَمَّم وَيُصلي وَبِه قَالَ أَحْمد وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ فِي وجوب إراقتهما قبل التَّيَمُّم
وَقَالَ عبد الْملك بن الْمَاجشون لَا يتحَرَّى فِي الْأَوَانِي وَلكنه يتَوَضَّأ بِأَحَدِهِمَا وَيُصلي ثمَّ يتَوَضَّأ بِالْآخرِ وَيُعِيد الصَّلَاة الَّتِي صلاهَا
وَقَالَ مُحَمَّد بن مسلمة يتَوَضَّأ بِأَحَدِهِمَا وَيُصلي ثمَّ يغسل مَا أَصَابَهُ من المَاء الأول وَيتَوَضَّأ بِالْآخرِ وَيُعِيد الصَّلَاة

(1/87)


وَقَالَ غَيرهمَا من أَصْحَاب مَالك مثل قَوْلنَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِن كَانَ عدد الطَّاهِر أَكثر جَازَ التَّحَرِّي وَإِن لم يكن كَذَلِك لم يجز
فَإِن تَوَضَّأ بِأحد الإناءين من غير تحر ثمَّ بَان لَهُ أَنه الطَّاهِر وَأَن الآخر نجس لم تصح طَهَارَته فِي اخْتِيَار الشَّيْخ الإِمَام أبي إِسْحَاق رَحمَه الله
وَاخْتَارَ الشَّيْخ أَبُو نصر بن الصّباغ رَحمَه الله أَنه تصح طَهَارَته
فَإِن انْقَلب أحد الإناءين قبل التَّحَرِّي فَهَل يجوز التَّحَرِّي فِي الآخر فِيهِ وَجْهَان
أظهرهمَا أَنه لَا يجوز وَمَا الَّذِي يصنع فِيهِ وَجْهَان
قَالَ أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ يتَوَضَّأ بِهِ
وَقَالَ القَاضِي أَبُو حَامِد يتَيَمَّم
فَإِن اشْتبهَ عَلَيْهِ إناءان وَهُنَاكَ إِنَاء ثَالِث طَاهِر فَهَل يجوز لَهُ التَّحَرِّي فيهمَا فِيهِ وَجْهَان
أظهرهمَا أَنه لَا يجوز وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو نصر رَحمَه الله
وَإِن اشْتبهَ عَلَيْهِ مَاء مُسْتَعْمل وَمَاء مُطلق فَهَل يجوز لَهُ التَّحَرِّي فِيهِ وَجْهَان

(1/88)


أَحدهمَا يتحَرَّى
وَالثَّانِي لَا يتحَرَّى وَيتَوَضَّأ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا
وَمن أَصْحَابنَا من بنى جَوَاز التَّحَرِّي بَين المَاء الْمُسْتَعْمل وَالْمُطلق على زَوَال حكم الِاسْتِعْمَال ببلوغ الْقلَّتَيْنِ فِيهِ فَإِن قُلْنَا لَا يَزُول لم يجز التَّحَرِّي وَهَذَا عِنْدِي بِنَاء فَاسد
فَإِن اشْتبهَ عَلَيْهِ مَاء وَبَوْل أَو مَاء وَمَاء ورد لم يتحر بَينهمَا وأراق المَاء وَالْبَوْل وَتيَمّم وَتَوَضَّأ بِالْمَاءِ وَمَاء الْورْد
وَقَالَ أَبُو زيد المالقي يتحَرَّى فيهمَا
وَذكر فِي الْحَاوِي إِنَّه إِذا اشْتبهَ المَاء وَمَاء الْورْد وَاحْتَاجَ إِلَى الشّرْب تحرى بَينهمَا لأجل الشّرْب فيجتهد أَيهمَا مَاء الْورْد ليشربه فَيخرج الآخر بِالِاجْتِهَادِ ان يكون مَاء الْورْد وَهَذَا عِنْدِي بِنَاء فَاسد لِأَن الشّرْب لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى التَّحَرِّي فيشرب مَا شَاءَ مِنْهُمَا وَيتَوَضَّأ بِالْآخرِ وَيتَيَمَّم
وَقَالَ ابو حنيفَة إِن كَانَ عدد الطَّاهِر المطهر أَكثر جَازَ التَّحَرِّي كَمَا يجوز فِي الْمِيَاه

(1/89)


وَإِن اشْتبهَ عَلَيْهِ طَعَام طَاهِر وَطَعَام نجس تحرى بَينهمَا
وَذكر الشَّيْخ أَبُو حَامِد إِن ذَلِك يَنْبَنِي على الْوَجْهَيْنِ فِي اشْتِبَاه الإناءين
وَهُنَاكَ ثَالِث ظَاهر فِي جَوَاز التَّحَرِّي
قَالَ الشَّيْخ أَبُو نصر رَحمَه الله وَهَذَا لَا معنى لَهُ إِلَّا أَن يعْتَبر فِي التَّحَرِّي الضَّرُورَة وَهَا هُنَا لَا يلْزمه أكل وَاحِد مِنْهُمَا وَهَذَا الَّذِي ذكره فِيهِ نظر
وَاخْتلف فِي المَاء لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ فِي الطَّهَارَة للصَّلَاة
فَإِن اشْتبهَ عَلَيْهِ إناءان فتحرى فيهمَا فأداه اجْتِهَاده إِلَى طَهَارَة أَحدهمَا فَتَوَضَّأ بِهِ وَصلى وَلم يرق الآخر حَتَّى حضرت الصَّلَاة الثَّانِيَة أعَاد الِاجْتِهَاد
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يلْزمه ذَلِك فَإِن أعَاد الِاجْتِهَاد وَأَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى طَهَارَة الثَّانِي لَا نَجَاسَة الأول
فالمنصوص أَنه يتركهما وَيتَيَمَّم وَيُعِيد كل صَلَاة صلاهَا بِالتَّيَمُّمِ فِي أحد الْوُجُوه مَعَ بَقَاء شَيْء من الْإِنَاء الأول
وَفِي الثَّانِي لَا يُعِيد
وَفِي الثَّالِث وَهُوَ قَول أبي الطّيب بن سَلمَة أَنه إِن كَانَ قد بَقِي من الْإِنَاء الأول شَيْء أعَاد الصَّلَاة وَإِن لم يبْق مِنْهُ شَيْء لم يعد

(1/90)


وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج يتَوَضَّأ بِالثَّانِي وَلَا يتَيَمَّم وَيغسل مَا أَصَابَهُ من المَاء الأول وَلَا يُعِيد الصَّلَاة
وَذكر القَاضِي حُسَيْن رَحمَه الله فَقَالَ هَل يعْتَبر فِي التَّحَرِّي نوع دَلِيل أم يَكْفِي مُجَرّد الظَّن فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يَكْفِيهِ ظن يَقع لَهُ من غير أَمارَة وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء يذكر
فَإِن اشْتبهَ إناءان على أعمى فَهَل يجوز لَهُ التَّحَرِّي فِيهِ قَولَانِ
فَإِن قُلْنَا يتحَرَّى فتحرى فَلم يَقع لَهُ الطَّاهِر مِنْهُمَا فَهَل يجوز لَهُ التَّقْلِيد فِيهِ وَجْهَان
أظهرهمَا أَنه يجوز

(1/91)


فَإِن اخْتلف اجْتِهَاد رجلَيْنِ فِي إناءين تَوَضَّأ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى طَهَارَته وَلم يأتم أَحدهمَا بِالْآخرِ
وَقَالَ أَبُو ثَوْر يجوز أَن يأتم بِهِ

(1/92)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْآنِية
كل بَهِيمَة نجست بِالْمَوْتِ طهر جلدهَا بالدباغ وَذَلِكَ مَا عدا الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَمَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهَا
قَالَ أَبُو يُوسُف وَدَاوُد رحمهمَا الله يطهر جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير أَيْضا بالدباغ
وَقَالَ ابو حنيفَة رَحمَه الله يطهر جلد الْكَلْب بالدباغ وَلَا يطهر جلد الْخِنْزِير
وَقَالَ أَبُو ثَوْر رَحمَه الله يطهر جلد مَا يُؤْكَل بالدباغ دون مَا لَا يُؤْكَل وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ

(1/93)


وَقَالَ الزُّهْرِيّ لَا أعرف الدّباغ
ويستمتع بجلود الميتات من غير دباغ
وَقَالَ أَحْمد رَحمَه الله لَا يطهر شَيْء من جُلُود الميتات بالدباغ ويروى ذَلِك عَن مَالك
وَهل يجب غسله بعد الدّباغ بِالْمَاءِ فِيهِ وَجْهَان
قَالَ أَبُو إِسْحَاق لَا يطهر حَتَّى يغسل بِالْمَاءِ
وَقَالَ ابْن الْقَاص لَا يحْتَاج إِلَى غسل فَإِن دبغ الْجلد بِشَيْء نجس فَلَا بُد من غسله وَجها وَاحِدًا ويطهر ويحكي فِيهِ وَجه آخر أَنه لَا يطهر وَلَيْسَ بِشَيْء
وَلَا يندبغ بالتجفيف فِي الشَّمْس
وَحكي عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ يصير مدبوغا
قَالَ الشَّيْخ أَبُو نصر رَحمَه الله سَمِعت بعض أَصْحَابه يَقُول إِنَّمَا يطهر إِذا عملت الشَّمْس فِيهِ عمل الدّباغ
قَالَ الشَّيْخ أَبُو نصر رَحمَه الله وَهَذَا يرفع الْخلاف لِأَنَّهُ يعلم أَنَّهَا لَا تعْمل عمله

(1/94)


وَفِي جَوَاز بيع الْجلد بعد الدّباغ قَولَانِ
أصَحهمَا وَهُوَ قَوْله الْجَدِيد أَنه يجوز وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَقَوله الْقَدِيم لَا يجوز وَهُوَ قَول مَالك
وَفِي جَوَاز أكله إِذا كَانَ من حَيَوَان مَأْكُول قَولَانِ
قَالَ فِي الْقَدِيم لَا يجوز
وَقَالَ فِي الْجَدِيد يجوز
وَإِن كَانَ من حَيَوَان لَا يُؤْكَل لم يحل أكله قولا وَاحِدًا
وَحكى الشَّيْخ ابو حَاتِم الْقزْوِينِي عَن القَاضِي أبي الْقَاسِم بن كج أَنه على الْقَوْلَيْنِ

(1/95)


فَأَما الشّعْر وَالصُّوف والوبر فَيحل بِالْحَيَاةِ وينجس بِالْمَوْتِ على الْمَنْصُوص للشَّافِعِيّ رَحمَه الله فِي عَامَّة كتبه فعلى هَذَا إِذا دبغ جلد الْميتَة وَعَلِيهِ شعر فَهَل يطهر الشّعْر فِيهِ قَولَانِ
أصَحهمَا أَنه لَا يطهر
فَإِن نتف شعر الْمَأْكُول فِي حَال حَيَاته كَانَ طَاهِرا
وَحكي فِيهِ وَجه آخر أَنه ينجس وَلَيْسَ بِشَيْء
وَأما شعر الْآدَمِيّ فطاهر إِذا قُلْنَا لَا ينجس بِالْمَوْتِ فِي أصح الْقَوْلَيْنِ وَإِن قُلْنَا إِنَّه ينجس بِالْمَوْتِ فقد روى إِبْرَاهِيم الْبَلَدِي عَن الْمُزنِيّ رَحمَه الله عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن الشَّافِعِي رَحمَه الله رَجَعَ عَن تنجيس شعر الْآدَمِيّ

(1/96)


فَمن أَصْحَابنَا من جعل ذَلِك خَاصّا فِي حق الْآدَمِيّ كَرَامَة لَهُ
وَمِنْهُم من جعله رُجُوعا عَن تنجيس جَمِيع الشُّعُور فَجعل فِي الشُّعُور قولا آخر أَنَّهَا لَا تنجس بِالْمَوْتِ
وَأما شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قُلْنَا شعر غَيره نجس فَفِي شعره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجْهَان
قَالَ أَبُو جَعْفَر التِّرْمِذِيّ هُوَ طَاهِر
وَقَالَ غَيره هُوَ نجس
وروى عَن عَطاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَن الشّعْر ينجس بِالْمَوْتِ ويطهر بِالْغسْلِ بعده

(1/97)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد لَا حَيَاة فِي الشّعْر وَلَا ينجس بِالْمَوْتِ فِي الْحَيَوَان وَاخْتَارَهُ الْمُزنِيّ فَأَما الْعظم وَالظفر والظلف والقرن فَفِيهِ طَرِيقَانِ
أَحدهمَا أَن فِيهَا حَيَاة وتنجس بِالْمَوْتِ قولا وَاحِدًا وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَاخْتَارَهُ الْمُزنِيّ
وَالثَّانِي أَن حكمه حكم الشّعْر وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالثَّوْري

(1/98)


وَحكي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ طَهَارَة العاج خرطه
وَحكي عَن اللَّيْث بن سعد أَنه إِذا طبخ الْعظم حَتَّى خرج دهنه طهر
إِذا وجد شعرًا وَلم يدر أَنه شعر حَيَوَان مَأْكُول أَو غير مَأْكُول من أَصْحَابنَا من حكى فِيهِ وَجْهَيْن وبناهما على أَن حكم الْأَشْيَاء هُوَ فِي الأَصْل الْحَظْر أَو الْإِبَاحَة وَهَذَا بِنَاء فَاسد وَالْحكم فِي ذَلِك أَنه إِذا كَانَ ذَلِك فِي مَحل الشَّك فَلَا يجوز الِانْتِفَاع بِهِ وَجها وَاحِدًا
فَأَما اللَّبن فِي ضرع الشَّاة الْميتَة فَإِنَّهُ نجس وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله هُوَ طَاهِر يحل شربه وَهُوَ قَول دَاوُد

(1/99)


والبيضة فِي جَوف الدَّجَاجَة الْميتَة إِذا كَانَ قد تصلب قشرها طَاهِرَة يحل أكلهَا
وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لَا يحل أكلهَا بِحَال وَحكي عَن ذَلِك عَن مَالك
ويحكى ذَلِك وَجها لبَعض أَصْحَابنَا ويحكى فِيهَا وَجه ثَالِث أَنَّهَا لَا تنجس بِحَال وَإِن لم يتصلب قشرها وَهُوَ قَول أبي حنيفَة

(1/100)


فَإِن ذبح مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه نجس بذَبْحه كَمَا ينجس بِمَوْتِهِ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك يطهر بِالذبْحِ إِلَّا الْخِنْزِير والآدمي

فصل يحرم اسْتِعْمَال أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة
وَقَالَ فِي الْقَدِيم النَّهْي عَن ذَلِك على سَبِيل الْكَرَاهَة
وَقَالَ دَاوُد محرم الشّرْب خَاصَّة
وَفِي جَوَاز اتخاذها لَا للاستعمال قَولَانِ
أصَحهمَا أَنه لَا يجوز
وَمن اصحابنا من حكى أَن تَحْرِيمهَا لعينها لَا لِمَعْنى يعقل وَفرع عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِشَيْء

(1/101)


وَفِي اسْتِعْمَال الْأَوَانِي المتخذة من الْجَوَاهِر المثمنة كالياقوت وَنَحْوه قَولَانِ
أظهرهمَا أَنه يجوز
وَفرع بعض أَصْحَابنَا على هَذِه الْأَوَانِي المتخذة من الطّيب كالعود الْمُرْتَفع والكافور المصاعد والعنبر وَفِي جَوَاز اسْتِعْمَاله قَولَانِ
وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي التضبيب بِالْفِضَّةِ
فَمنهمْ من قَالَ إِن كَانَ قَلِيلا فِي مَوضِع حَاجَة وَإِن قَامَ غَيره مقَامه لم يكره وَإِن كَانَ فِي غير مَوضِع حَاجَة كره وَإِن

(1/102)


كَانَ كثيرا فِي غير مَوضِع حَاجَة حرم وَإِن كَانَ كثيرا فِي مَوضِع حَاجَة كره
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يحرم التضبيب بِالْفِضَّةِ قَالَ اَوْ اكثر وَهُوَ قَول ابو حنيفَة
وَقَالَ ابو اسحاق يحرم التضبيب بِهِ فِي مَوضِع الشّرْب من الْإِنَاء وَلَا يحرم فِي غَيره
وَفِي اسْتِعْمَال أواني الْمُشْركين وثيابهم من غير غسل إِذا كَانُوا مِمَّن يتدين بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَة وَجْهَان
أَحدهمَا يجوز

(1/103)


وَالثَّانِي لَا يجوز وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي طين الطرقات
وَقَالَ احْمَد وَدَاوُد لَا يجوز اسْتِعْمَالهَا إِلَّا بعد الْغسْل بِكُل حَال

(1/104)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب السِّوَاك
السِّوَاك سنة مُؤَكدَة
وَحكى عَن دَاوُد أَنه قَالَ هُوَ وَاجِب وَلَا يمْنَع تَركه صِحَة الصَّلَاة
وَقَالَ إِسْحَاق إِن تَركه عَامِدًا بطلت صلَاته
وَلَا يكره إِلَّا فِي حَالَة وَاحِدَة وَهِي فِي حق الصَّائِم بعد الزَّوَال

(1/105)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يكره فِي الصَّوْم ايضا

(1/106)


وَيسْتَحب أَن يقص الشَّارِب ويقلم الْأَظْفَار وَيغسل البراجم وينتف الْإِبِط ويحلق الْعَانَة وَيجب الْخِتَان
وَقَالَ أَبُو حنيفَة الْخِتَان مُسْتَحبّ

(1/107)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب نِيَّة الطَّهَارَة
لَا تجب النِّيَّة فِي طَهَارَة النَّجس وَحكي فِيهَا وَجه آخر أَنَّهَا تفْتَقر إِلَى النِّيَّة وَلَيْسَ بمذهبه وَلَا تصح طَهَارَة الْحَدث بِغَيْر نِيَّة وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَدَاوُد وابو ثَوْر
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري لَا تجب النِّيَّة فِي الطَّهَارَة بِالْمَاءِ وَتجب فِي التَّيَمُّم

(1/108)


وَقَالَ الْحسن بن صَالح بن حَيّ يَصح التَّيَمُّم أَيْضا نِيَّة
وَعَن الأزاعي رِوَايَتَانِ
إِحْدَاهمَا كَقَوْل الْحسن
وَالثَّانيَِة كَقَوْل أبي حنيفَة
فَأَما وَقت النِّيَّة للإجزاء وَالصِّحَّة فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه إِذا نوى عِنْد غسل أول جُزْء من وَجهه أَجزَأَهُ وَلَا يضرّهُ إِذا عزبت بعد ذَلِك
وَإِن نوى عِنْد الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من غير أَن يغسل جُزْءا من وَجهه

(1/109)


وعزبت نِيَّته عِنْد غسل وَجهه لم يجزه وَهُوَ قَول أبي الْعَبَّاس بن سُرَيج وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ الإِمَام ابو إِسْحَاق رَحمَه الله
وَالثَّانِي أَنه إِذا نوى عِنْد الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق أَجزَأَهُ وَإِن لم يغسل جُزْءا من وَجهه وعزبت النِّيَّة عِنْده وَهُوَ قَول ابي إِسْحَاق وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو نصر رَحمَه الله وَلَا يُجزئهُ إِذا نوى عِنْد غسل كفيه ثمَّ عزبت بعد ذَلِك
وَالثَّالِث وَهُوَ قَول أبي الطّيب بن سَلمَة أَنه إِذا نوى عِنْد غسل كفيه فِي أول الطَّهَارَة أَجزَأَهُ وَإِن عزبت بعده وَله وَجه جيد
فَأَما صفة النِّيَّة فَأن يَنْوِي رفع الْحَدث أَو الطَّهَارَة عَن الْحَدث فَإِن نوى رفع حدث بِعَيْنِه ارْتَفع جَمِيع الْأَحْدَاث فِي أظهر الْوُجُوه
وَالثَّانِي أَنه لَا يرْتَفع حَدثهُ
وَالثَّالِث أَنه إِن نوى رفع أول الْأَحْدَاث لم يرْتَفع حَدثهُ وَإِن نوى رفع آخرهَا ارْتَفع جَمِيعهَا وَذكر هَذَا الْوَجْه بِالْعَكْسِ من ذَلِك
وَإِن نوى رفع حدث وَكَانَ لَا يرفع غَيره حُكيَ فِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا أَنه لَا يرْتَفع حَدثهُ

(1/110)


وَالثَّانِي يرْتَفع وَيَنْبَغِي أَن يكون الْوَجْهَانِ على الْوَجْه الأول فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا
فَإِن نوى رفع حدث الْغَائِط وَبَان أَن حَدثهُ كَانَ بولا صحت طَهَارَته
وَذكر فِيهِ وَجه آخر أَنه لَا يَصح وَلَيْسَ بِشَيْء
فَإِن اجْتمع عَلَيْهِ الْحَدث الْأَكْبَر والأصغر فَنوى رفع الحدثين مُطلقًا
فقد ذكر بعض أَصْحَابنَا أَنا إِذا قُلْنَا يدْخل الْوضُوء فِي الْغسْل أَجزَأَهُ لَهما وَإِن قُلْنَا لَا يدْخل لم يَصح لوَاحِد مِنْهُمَا
قَالَ الإِمَام أَبُو بكر وَعِنْدِي أَنه يجب أَن يَصح للْغسْل من الْجَنَابَة على الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا
وَإِن نوى بِطَهَارَتِهِ اسْتِبَاحَة الصَّلَاة ارْتَفع حَدثهُ وَإِن نوى اسْتِبَاحَة صَلَاة بِعَينهَا وَأَن لَا يُصَلِّي غَيرهَا صحت طَهَارَته لجَمِيع الصَّلَوَات فِي أصح الْوُجُوه
وَالثَّانِي أَنه لَا تصح طَهَارَته
وَالثَّالِث انها تصح للصَّلَاة الَّتِي عينهَا دون غَيرهَا
وَإِن نوى الْوضُوء أَو الطَّهَارَة مُطلقًا لم تصح طَهَارَته فِي أصح الْوَجْهَيْنِ

(1/111)


وَإِن نوى الطَّهَارَة لما يسْتَحبّ لَهُ الطَّهَارَة صحت طَهَارَته فِي اصح الْوَجْهَيْنِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو نصر رَحمَه الله
وَالثَّانِي لايصح وَاخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو الطّيب رَحمَه الله وَهُوَ قَول مَالك
وَفِيه وَجه ثَالِث أَنه إِن كَانَ ذَلِك مِمَّا يسْتَحبّ لَهُ الطَّهَارَة لأجل الْحَدث كَقِرَاءَة الْقُرْآن واللبث فِي الْمَسْجِد وَسَمَاع الحَدِيث وَنَحْو ذَلِك ارْتَفع حَدثهُ وَإِن كَانَ مِمَّا يسْتَحبّ لَهُ الطَّهَارَة لَا لأجل الْحَدث كتجديد الْوضُوء وَغسل الْجُمُعَة لم يرْتَفع حَدثهُ بنيته وَله وَجه جيد
فَإِن تَوَضَّأ الْكَافِر أَو اغْتسل عَن الْجَنَابَة ثمَّ أسلم لم يعْتد بذلك
وَقَالَ أَبُو حنيفَة يَصح وَيُصلي بِهِ وَهُوَ وَجه لِأَصْحَابِنَا
فَإِن تيَمّم فِي حَال صغره لصَلَاة الْوَقْت ثمَّ بلغ
ذكر بعض اصحابنا أَنه لَا يجوز أَن يُصَلِّي بِهِ الْفَرْض وَفِي هَذَا نظر
وَإِن اسْلَمْ الْكَافِر قبل أَن يغْتَسل عَن الْجَنَابَة لزمَه الْغسْل وَقيل إِنَّه يسْقط عَنهُ فرض الْغسْل وَلَيْسَ بِشَيْء
فَإِن نوى بِغسْل أَعْضَائِهِ الطَّهَارَة للصَّلَاة والتبرد والتنظف أَجزَأَهُ

(1/112)


وَقيل فِيهِ وَجه آخر أَنه لَا يُجزئهُ وَلَيْسَ بِشَيْء
فَإِن فرق النِّيَّة على أَعْضَاء الطَّهَارَة صحت طَهَارَته فِي أصح الْوَجْهَيْنِ وَإِن نوى إبِْطَال الطَّهَارَة فِي أَثْنَائِهَا لم يبطل مَا تقدم مِنْهَا فِي أصح الْوَجْهَيْنِ كَمَا لَا يبطل بذلك بعد الْفَرَاغ مِنْهَا

(1/113)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب صفة الْوضُوء
إِذا امْر غَيره حَتَّى وضأه وَنوى هُوَ أَجزَأَهُ
وَحكي عَن دَاوُد أَنه قَالَ لَا يُجزئهُ حَتَّى يغسل أعضاءه بِنَفسِهِ
وَيسْتَحب أَن يُسَمِّي الله عز وَجل على وضوئِهِ

(1/114)


وَقَالَ أَحْمد التَّسْمِيَة وَاجِبَة على الطَّهَارَة غير أَنه إِذا تَركهَا نَاسِيا لم تبطل طَهَارَته
وَقَالَ أهل الظَّاهِر تبطل بِكُل حَال
ثمَّ يغسل كفيه ثَلَاثًا قبل إدخالهما الْإِنَاء إِن كَانَ على شكّ من نجاستهما فَإِن غمس يَده فِي الْإِنَاء لم يفْسد المَاء
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ غسل الْكَفَّيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء مُسْتَحبّ بِكُل حَال وَإِن تَيَقّن طَهَارَة يَده وَالْمذهب الأول
وَقَالَ دَاوُد إِذا قَامَ من نوم اللَّيْل لم يجز لَهُ أَن يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا وَلَيْسَ ذَلِك وَاجِبا حَتَّى لَو صب المَاء على يَده وَتَوَضَّأ بِهِ جَازَ وَإِن لم يغسل يَده
وَقَالَ أَحْمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِذا قَامَ من نوم اللَّيْل وَجب عَلَيْهِ غسل كفيه فَإِن غمس يَده فِي المَاء قبل الْغسْل أراقه وَحكي ذَلِك عَن الْحسن الْبَصْرِيّ

(1/115)


فصل ثمَّ يتمضمض ويستنشق ثَلَاثًا
وَذَلِكَ سنة وَبِه قَالَ مَالك وَالزهْرِيّ
وَقَالَ أَحْمد هما واجبان فِي الطهارتين
وَقَالَ أَبُو ثَوْر الِاسْتِنْشَاق وَاجِب فِي الطهارتين دون الْمَضْمَضَة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَمُحَمّد وَأَبُو يُوسُف هما واجبتان فِي الْغسْل دون الْوضُوء

(1/116)


وَهل الْأَفْضَل الْجمع بَينهمَا أم الْفَصْل فِيهِ قَولَانِ قَالَ فِي الْأُم يجمع بَينهمَا
وَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيّ يفصل وَفِي كَيْفيَّة الْجمع والفصل طَرِيقَانِ أَحدهمَا أَنه على القَوْل الأول يجمع بَينهمَا بغرفة وَاحِدَة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا ويستنشق مِنْهَا ثَلَاثًا وعَلى القَوْل الثَّانِي يفصل بَينهمَا بغرفتين يتمضمض بإحداها ثَلَاثًا ويستنشق بِالْأُخْرَى ثَلَاثًا
وَالطَّرِيق الثَّانِي أَنه يجمع بَينهمَا على القَوْل الأول ثَلَاث غرفات وعَلى القَوْل الثَّانِي يفصل بَينهمَا بست غرفات والفصل ابلغ
وَلَا يغسل الْعين وَقيل يسْتَحبّ غسلهَا وَلَيْسَ بِمذهب