روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

بسم الله الرحمن الرحيم
روضة الطالبين - كتاب (1) الطهارة (2)
باب الماء الطاهر قال الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (3). المطهر للحدث والخبث من المائعات، الماء المطلق خاصة، وهو العاري عن الاضافة اللازمة. وقيل: الباقي على وصف خلقته. وأما المستعمل في رفع حدث (4)، فطاهر، وليس بطهور على المذهب. وقيل: طهور في القديم. والمستعمل في نقل الطهارة، كتجديد الوضوء، والاغسال المسنونة (5)،

(1/115)


والغسلة الثانية، والثالثة، وماء المضمضة، طهور على الاصح. وأما ما اغتسلت به كتابية عن حيض لتحل لمسلم (1)، فإن قلنا: لا يجب إعادة الغسل إذا أسلمت، فليس بطهور. وإن أوجبناها - وهو الاصح - فوجهان، الاصح أنه ليس بطهور، وما تطهر به لصلاة النفل، فمستعمل، وكذا ما تطهر به الصبي على الصحيح. والمستعمل الذي لا يرفع الحدث، لا يزيل النجس على الصحيح. والمستعمل في النجس إذا قلنا: إنه طاهر، لا يرفع الحدث على الصحيح. ولو جمع المستعمل فبلغ قلتين، عاد طهورا في الاصح، كما لو انغمس جنب في قلتين، فإنه طهور بلا خلاف (2). ولو انغمس جنب فيما دون قلتين حتى عم جميع بدنه، ثم نوى (3)، ارتفعت جنابته بلا خلاف، وصار الماء في الحال مستعملا بالنسبة إلى غيره على

(1/116)


الصحيح. ومقتضى كلام الاصحاب أنه لا يصير مستعملا بالنسبة إلى المنغمس حتى يخرج منه، وهو مشكل. وينبغي أن يصير مستعملا لارتفاع الحدث. ولو انغمس فيه جنبان، ونويا معا بعد تمام الانغماس، ارتفعت جنابتهما بلا خلاف، ولو نوى الجنب قبل تمام الانغماس، إما في أول الملاقاة، وإما بعد غمس بعض البدن، ارتفعت جنابة الجزء الملاقي بلا خلاف، ولا يصير الماء مستعملا، بل له أن يتم الانغماس ويرتفع عن الباقي (1) على الصحيح المنصوص. وقال الخضري (2): يصير مستعملا، (3) فلا ترتفع عن الباقي. قلت: ولو انغمس جنبان، ونوى أحدهما قبل صاحبه، ارتفعت جنابة الناوي، وصار مستعملا بالنسبة إلى الآخر على الصحيح. وإن (4) نويا معا بعد غمس جزء منهما، ارتفع عن جزءيهما، وصار مستعملا بالنسبة إلى باقيهما على الصحيح. والله أعلم. وما دام الماء مترددا على العضو، لا يثبت له حكم الاستعمال. قلت: وإذا جرى الماء من عضو المتوضئ إلى عضو، صار مستعملا، حتى لو انتقل من إحدى اليدين إلى الاخرى، صار مستعملا، وفي هذه الصورة وجه شاذ محكي في باب التيمم. من (البيان) أنه لا يصير، لان اليدين كعضو. ولو انفصل من بعض أعضاء الجنب إلى بعضها، فوجهان، الاصح عند صاحبي (الحاوي) و (البحر): لا يصير. والراجح عند الخراسانيين (5) يصير، وبه قطع جماعة منهم. وقال إمام الحرمين (6): إن نقله قصدا، صار، وإلا،

(1/117)


فلا (1). ولو غمس المتوضئ يده في الاناء قبل الفراغ من غسل الوجه، لم يصر مستعملا. وإن غمسها بعد فراغه من الوجه بنية رفع الحدث، صار مستعملا. وإن نوى الاغتراف، لم يصر، وإن لم ينو شيئا، فالصحيح أنه يصير، وقطع البغوي (2) بأنه لا يصير. والجنب بعد النية، كالمحدث (3) بعد غسل الوجه. وأما الماء الذي يتوضأ به الحنفي وغيره ممن لا يعتقد وجوب نية الوضوء، فالاصح أنه يصير (4). والثاني: لا يصير. والثالث: إن نوى، صار، وإلا، فلا، ولو [ نوى ] (5) غسل رأسه بدل مسحه، فالاصح أنه مستعمل، كما لو استعمل في طهارته أكثر من قدر حاجته (6)، والله أعلم.

(1/118)


فصل فيما يطرأ على الماء 6 وضابط الفصل: أن ما يسلب اسم الماء المطلق، يمنع الطهارة به، وما لا، فلا. فمن ذلك المتغير تغيرا يسيرا بما يستغنى عنه، كالزعفران، فالاصح أنه طهور، والمتغير كثيرا بما يجاوره ولا يختلط به، كعود، ودهن، وشمع (1)، طهور على الاظهر. والكافور نوعان. أحدهما: يذوب في الماء ويختلط به. والثاني: لا يذوب. فالاول يمنع، والثاني كالعود. وأما المتغير بما لا يمكن صون الماء عنه، كالطين، والطحلب (2)، والكبريت، والنورة (3)، والزرنيخ (4)، في مقر الماء وممره، والتراب الذي يثور وينبث في الماء، والمتغير بطول المكث، والمسخن، فطهور. قلت: ولا كراهة في استعمال شئ من هذه المتغيرات بما لا يصان عنه، ولا في ماء البحر وماء زمزم (5)، ولا في المسخن ولو بالنجاسة. ويكره شديد الحرارة والبرودة. والله أعلم. والمشمس في الحياض والبرك غير مكروه بالاتفاق، وفي الاواني مكروه على الاصح، بشرط أن يكون في البلاد الحارة، والاواني المنطبعة كالنحاس إلا الذهب والفضة على الاصح. وعلى الثاني (6) يكره مطلقا (7).

(1/119)


قلت: الراجح من حيث الدليل أنه لا يكره مطلقا، وهو مذهب أكثر العلماء، وليس للكراهة دليل يعتمد. وإذا قلنا بالكراهة، فهي كراهة تنزيه، لا تمنع صحة الطهارة، وتختص باستعماله في البدن، وتزول بتبريده على أصح الوجوه (1)، وفي الثالث: يراجع الاطباء، والله أعلم. وأما المتغير بما يستغنى عنه، كالزعفران، والجص، تغيرا كثيرا، بحيث يسلب اسم الماء المطلق، فليس بطهور. ولو حلف لا يشرب ماء، لم يحنث بشربه. ويكفي تغير الطعم أو اللون أو الرائحة على المشهور، وعلى القول الغريب الضعيف يشترط اجتماعها، وعلى قول ثالث اللون وحده يسلب، وكذا الطعم مع الرائحة. وفي الجص، والنورة، وغيرهما من أجزاء الارض وجه شاذ أنها لا تضر. وأما المتغير بالتراب المطروح قصدا، فطهور على الصحيح، وقيل: على المشهور. والمتغير بالملح فيه أوجه، أصحها يسلب الجبلي منه دون المائي. والثاني: يسلبان. والثالث: لا يسلبان. والمتغير بورق الاشجار المتناثرة بنفسها إن لم تتفتت في الماء، فهي كالعود، فيكون طهورا على الاظهر، وإن تفتتت واختلطت، فثلاثة أوجه. الاصح: لا يضر. والثاني: يضر. والثالث: يضر الربيعي دون الخريفي. قاله الشيخ أبو زيد (2). وإن طرحت الاوراق قصدا، ضر.

(1/120)


وقيل: على الاوجه (1). فرع إذا اختلط بالماء الكثير أو القليل مائع يوافقه في الصفات، كماء الورد المنقطع الرائحة، وماء الشجر، والماء المستعمل، فوجهان. أصحهما: إن كان المائع قدرا لو خالف الماء في طعم أو لون أو ريح لتغير التغير المؤثر، سلب (2) الطهورية، وإن كان لا يؤثر مع تقدير المخالفة، لم يسلب (3). والثاني: إن كان المائع أقل من الماء، لم يسلب. وإن كان أكثر منه أو مثله، سلب. وحيث لم يسلب، فالصحيح أنه يستعمل الجميع. وقيل: يجب أن يبقى قدر المائع. وقيل: إن كان الماء وحده يكفي لواجب الطهارة، فله استعمال الجميع، وإلا بقي. فإن جوزنا الجميع، ومعه من الماء ما لا يكفيه وحده، ولو كمله بمائع يهلك فيه لكفاه - لزمه ذلك، إذا لم يزيد قيمة المائع (4) على ثمن ماء الطهارة (5). ويجري الخلاف في

(1/121)


استعمال الجميع فيما إذا استهلكت النجاسة المائعة في الماء الكثير. وفيما إذا استهلك الخليط الطاهر في الماء، لقلته مع مخالفة أوصافه أوصاف الماء. قال الاصحاب: فإن لم يتغير الماء الكثير، لموافقة النجاسة له في الاوصاف، فالاعتبار بتقدير المخالفة بلا خلاف، لغلظ النجاسة، واعتبروا في النجاسة بالمخالف أشده صفة، وفي الطاهر اعتبروا الوسط المعتدل، فلا يعتبر في الطعم حدة الخل، ولا في الرائحة ذكاء المسك. قلت: المتغير بالمني ليس بطهور على الاصح. ولو تطهر بالماء الذي ينعقد منه الملح قبل أن يجمد، جاز على المذهب (1). ولا فرق في جميع مسائل الفصل بين القلتين، وفوقهما، ودونهما. ولو أغلي الماء، فارتفع من غليانه بخار، وتولد منه رشح، فوجهان. المختار منهما عند صاحب (البحر) أنه طهور (2). والثاني: طاهر ليس بطهور. ولو رشح من مائع آخر، فليس بطهور بلا خلاف، كالعرق. والله أعلم.
باب بيان النجاسات (3) والماء النجس الاعيان (4): جماد، وحيوان. فالجماد: ما ليس بحيوان، ولا كان حيوانا، ولا جزءا من حيوان، ولا خرج من حيوان، وكله (5) طاهر، إلا الخمر، وكل نبيذ مسكر. وفي النبيذ وجه شاذ

(1/122)


مذكور في (البيان) أنه طاهر، لاختلاف العلماء في إباحته (1). وفي الخمر المحترمة وجه شاذ، وكذا في باطن العنقود المستحيل خمرا وجه أنه طاهر. وأما الحيوانات، فطاهرة، إلا الكلب، والخنزير، وما تولد من أحدهما. ولنا وجه شاذ، أن الدود المتولد من الميتة نجس العين، كولد الكلب، وهذا الوجه غلط، والصواب: الجزم بطهارته. وأما الميتات، فكلها نجسة، إلا السمك والجراد، فإنهما طاهران بالاجماع، وإلا الآدمي، فإنه طاهر على الاظهر، وإلا الجنين الذي يوجد ميتا بعد ذكاة أمه، والصيد الذي لا تدرك ذكاته، فإنهما طاهران بلا خلاف. وأما الميتة التي لا نفس لها سائلة، كالذباب وغيره. فهل تنجس الماء وغيره من المائعات إذا ماتت فيها ؟ فيه قولان. الاظهر لا تنجسه، وهذا في حيوان الاجنبي (2) من المائع، أما ما منشؤه فيه، فلا ينجسه بلا خلاف. فلو أخرج منه وطرح في غيره، أو رد إليه، عاد القولان. فإن قلنا: تنجس المائع، فهي [ أيضا ] (3) نجسة، وإن قلنا: لا تنجسه (4)، فهي أيضا نجسة على قول الجمهور وهو المذهب. وقال القفال (5): ليست بنجسة. ثم لا فرق في الحكم بنجاسة هذا الحيوان بين ما تولد من الطعام، كدود الخل، والتفاح، وما [ لا ] (6) يتولد منه، كالذباب، والخنفساء، لكن يختلفان في

(1/123)


تنجيس ما ماتا فيه، وفي جواز أكله، فإن غير المتولد، لا يحل أكله، وفي المتولد أوجه. الاصح: يحل أكله مع ما تولد منه، ولا يحل منفردا. والثاني: يحل مطلقا. والثالث: يحرم مطلقا (1). والاوجه جارية، سواء قلنا بطهارة هذا الحيوان على قول القفال (2)، أو بنجاسته على قول الجمهور. قلت: ولو كثرت الميتة التي لا نفس لها سائلة، فغيرت الماء أو المائع، وقلنا: لا تنجسه من غير تغير، فوجهان مشهوران. الاصح تنجسه، لانه متغير بالنجاسة. والثاني: لا تنجسه، ويكون الماء طاهرا غير مطهر، كالمتغير بالزعفران. وقال إمام الحرمين: هو كالمتغير بورق الشجر (3). والله أعلم. فرع في أجزاء الحيوان: الاصل أن ما انفصل من حي فهو نجس، ويستثنى الشعر المجزوز من مأكول اللحم في الحياة، والصوف، والوبر، والريش، فكلها طاهرة بالاجماع (4). والمتناثر والمنتوف طاهر على الصحيح، ويستثنى أيضا شعر الآدمي، والعضو المبان منه، ومن السمك، والجراد، ومشيمة (5) الآدمي، فهذه كلها طاهرة على المذهب وهذا الذي ذكرناه في الشعور

(1/124)


تفريع على المذهب في نجاسة الشعر بالموت. فرع في المنفصل عن باطن الحيوان: هو قسمان: أحدهما: ليس له اجتماع، واستحالة في الباطن، وإنما يرشح رشحا. والثاني: يستحيل ويجتمع في الباطن ثم يخرج. فالاول، كاللعاب، والدمع، والعرق، والمخاط، فله حكم الحيوان المترشح منه، إن كان نجسا فنجس، وإلا، فطاهر. والثاني: كالدم (1)، والبول، والعذرة (2)، والروث (3)، والقئ (4). وهذه كلها نجسة من جميع الحيوان (5)، أي (6) مأكول اللحم وغيره. ولنا وجه: أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران. وهو أحد قولي أبي سعيد الاصطخري (7) من أصحابنا، واختاره الروياني (8) وهو مذهب مالك (9) وأحمد (10).

(1/125)


والمعروف من المذهب النجاسة. وهل يحكم بنجاسة هذه الفضلات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وجهان. قال الجمهور: نعم (1). وفي بول السمك، والجراد، ودمهما وروثهما، وروث ما ليس له نفس سائلة، والدم المتحلب من الكبد، والطحال، وجهان. الاصح: النجاسة (2). وأما اللبن، فطاهر من مأكول اللحم (3) بالاجماع، ونجس من الحيوان النجس، وطاهر من الآدمي على الصحيح، وقيل: نجس (4). ولكن يربى (5) به

(1/126)


الصبي للضرورة. وأما غير الآدمي مما لا يؤكل، فلبنه نجس على الصحيح. وقال الاصطخري: طاهر. وأما الانفحة، فإن أخذت من السخلة بعد موتها، أو بعد أكلها غير اللبن، فنجسة بلا خلاف (1) وإن أخذت من السخلة المذبوحة قبل أن يأكل غير اللبن، فوجهان، الصحيح الذي قطع به كثيرون طهارتها. وأما المني، فمن الآدمي طاهر، وقيل: فيه قولان. وقيل: القولان في مني المرأة خاصة (2)، والمذهب الاول. لكن إن قلنا: رطوبة فرج المرأة نجسة، نجس منيها بملاقاتها، كما لو بال (3) الرجل ولم يغسل ذكره بالماء، فإن منيه ينجس بملاقاة (4) المحل النجس. وأما مني غير الآدمي، فمن الكلب والخنزير وفرع أحدهما نجس،

(1/127)


ومن غيرهما فيه أوجه، أصحها نجس. والثاني: طاهر. والثالث: طاهر من مأكول اللحم، نجس من غيره، كاللبن. قلت: الاصح عند المحققين والاكثرين، الوجه الثاني، والله أعلم. وأما البيض، فطاهر من المأكول، وفي غيره الوجهان في منيه، ويجريان في بزر القز، فإنه أصل الدود، كالبيض. وأما دود القز، فطاهر بلا خلاف، كسائر الحيوان، وأما المسك فطاهر، وفي فأرته المنفصلة في حياة الظبية وجهان. الاصح: الطهارة، كالجنين. فإن انفصلت بعد موتها، فنجسة على الصحيح، كاللبن. وطاهرة في وجه، كالبيض المتصلب، وأما الزرع النابت على السرجين. فقال الاصحاب: ليس هو نجس العين، لكن ينجس بملاقاة النجاسة. فإذا غسل، طهر، وإذا سنبل، فحباته الخارجة طاهرة. قلت: القيح نجس، وكذا ماء القروح إن كان متغيرا، وإلا فلا على المذهب. ودخان النجاسة نجس في الاصح، وهو مذكور في باب: ما يكره لبسه. وليست رطوبة فرج المرأة، والعلقة، بنجس في الاصح (1)، ولا المضغة على الصحيح، والمرة نجسة، وكذا جرة البعير. وأما الماء الذي يسيل من فم النائم، فقال المتولي (2): إن كان متغيرا، فنجس. وإلا فطاهر. وقال غيره: إن كان من اللهوات، فطاهر، أو من المعدة، فنجس. ويعرف كونه من اللهوات بأن ينقطع إذا طال نومه. وإذا شك، فالاصل عدم النجاسة، والاحتياط غسله. وإذا حكم بنجاسته، وعمت بلوى شخص به، لكثرته منه، فالظاهر أنه يلتحق بدم البراغيث، وسلس البول، ونظائره.

(1/128)


قال القاضي حسين (1) والمتولي والبغوي وآخرون: لو أكلت بهيمة حبا ثم ألقته صحيحا، فإن كانت صلابته باقية، بحيث لو زرع نبت، فعينه طاهرة، ويجب غسل ظاهره، لانه وإن صار غذاء لها فما تغير إلى فساد، فصار كما لو ابتلع نواة. وإن زالت صلابته، بحيث لا ينبت، فنجس العين. قال المتولي: والوسخ المنفصل من الآدمي في حمام وغيره، له حكم ميتته، وكذا الوسخ المنفصل عن سائر الحيوان له حكم ميتته. وفيما قاله نظر. وينبغي أن يكون طاهرا قطعا، كالعرق. والله أعلم. فصل في الماء الراكد: إعلم أن الراكد: قليل، وكثير، فالكثير: قلتان، والقليل: دونه. والقلتان: خمس قرب. وفي قدرها بالارطال أوجه. الصحيح المنصوص: خمسمائة رطل بالبغدادي (2). والثاني: ستمائة. قاله أبو عبد الله الزبيري (3). واختاره القفال، والغزالي (4). والثالث: ألف رطل. قاله أبو زيد. والاصح أن هذا التقدير تقريب، فلا يضر نقصان القدر الذي لا يظهر بنقصانه

(1/129)


تفاوت في التغير بالقدر المعين من الاشياء المغيرة (1). والثاني: أنه تحديد: فيضر أي شئ نقص. قلت: الاشهر (2) - تفريعا على التقريب - أنه يعفى عن نقص رطلين، وقيل: ثلاثة ونحوها، وقيل: مائة رطل (3). وإذا وقعت في الماء القليل نجاسة وشك: هل هو قلتان، أم لا ؟ فالذي جزم به صاحب (الحاوي) وآخرون: أنه نجس (4)، لتحقق النجاسة. ولامام الحرمين فيه احتمالان، والمختار، بل الصواب: الجزم بطهارته، لان الاصل طهارته، وشككنا في نجاسة (5) منجسة، ولا يلزم من النجاسة التنجيس (6). وقدر القلتين بالمساحة: ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا (7). والله أعلم. ثم الماء القليل ينجس بملاقاة النجاسة المؤثرة، تغير أم لا. وأما غير المؤثرة، كالميتة التي لا نفس لها سائلة، ونجاسة لا يدركها طرف، وولوغ هرة تنجس فمها ثم غابت واحتمل طهارته، فلا ينجس على المذهب، كما سبق في الصورة الاولى، وسيأتي الاخريان إن شاء الله تعالى. واختار الروياني من أصحابنا: أنه لا ينجس إلا بالتغير، والصحيح المعروف، الاول. وأما الكثير، فينجس بالتغير بالنجاسة للاجماع (8)، سواء قل التغير أم كثر،

(1/130)


وسواء تغير الطعم أو اللون أو الرائحة، وكل هذا متفق عليه ها هنا، بخلاف ما تقدم في الطاهر. وسواء كانت النجاسة الملاقية مخالطة أم مجاورة، وفي المجاورة وجه شاذ: أنها لا تنجسه. وأما إذا تروح الماء بجيفة ملقاة على شط النهر، فلا ينجس، لعدم الملاقاة، وإن لاقى الكثير النجاسة ولم يتغير لقلة النجاسة واستهلاكها، لم ينجس، ويستعمل جميعه على الصحيح. وعلى وجه يبقى قدر النجاسة. وإن لم يتغير لموافقتها الماء في الاوصاف، قدر بما يخالف، كما سبق في (باب الطاهر). وأما إذا تغير بعضه، فالاصح نجاسة جميع الماء، وهو المذكور في (المهذب) وغيره. وفي وجه لا ينجس إلا المتغير. قلت: الاصح ما قاله القفال، وصاحب التتمة وآخرون: أن المتغير، كنجاسة جامدة. فإن كان الباقي دون قلتين، فنجس وإلا، فطاهر. والله أعلم. ثم إن زال تغير المتغير بالنجاسة (1) بنفسه، طهر على الصحيح. وقال الاصطخري: لا يطهر. وهو شاذ. وإن لم يوجد رائحة النجاسة، لطرح المسك فيه، أو طعمها، لطرح الخل، أو لونها، لطرح الزعفران، لم يطهر بالاتفاق (2). وإن ذهب التغير بطرح التراب، فقولان: أظهرهما لا يطهر، للشك في زوال التغير. وإن ذهب بالجص والنورة وغيرهما مما لا يغلب وصف التغير، فهو كالتراب على الصحيح، وقيل: كالمسك. ثم قال بعضهم: الخلاف في مسألة التراب إذا كان التغير بالرائحة. وأما تغير اللون، فلا يؤثر فيه التراب قطعا. والاصول المعتمدة ساكتة عن هذا التفصيل. قلت: بل قد صرح المحاملي (3)، والفوراني (4)، وآخرون: بجريان

(1/131)


الخلاف في التغير بالصفات الثلاث، وقد أوضحت ذلك في شرح المهذب) (1). والله أعلم. فرع النجاسة التي لا يدركها الطرف (2)، كنقطة خمر، وبول يسيرة، لا تبصر لقلتها وكذبابة تقع على نجاسة، ثم تطير عنها، هل ينجس الماء والثوب كالنجاسة المدركة، أم يعفى عنها ؟ فيه سبع طرق: أحدها: يعفى عنها فيهما. والثاني: لا. والثالث: فيهما قولان. والرابع: تنجس الماء، وفي الثوب قولان، والخامس: ينجس الثوب، وفي الماء قولان، والسادس: ينجس الماء دون الثوب. والسابع: عكسه. واختار الغزالي العفو فيهما، وظاهر المذهب - عند المعظم - خلافه. قلت: المختار عن جماعة من المحققين ما اختاره الغزالي، وهو الاصح، والله أعلم. فرع الماء القليل النجس إذا كوثر فبلغ قلتين، نظر، إن كوثر بغير الماء، لم يطهر، بل لو كمل الطاهر الناقص عن قلتين بماء ورد بلغهما به وصار مستهلكا، ثم وقع فيه نجاسة، نجس، وإن لم يتغير. وإنما لا تقبل النجاسة قلتان من الماء المحض. وإن كوثر بالماء المستعمل، عاد مطهرا على الاصح. وعلى الثاني: هو كماء الورد. وإن كوثر بماء غير مستعمل، طاهر أو نجس، عاد مطهرا بلا خلاف، وهل يشترط أن لا يكون فيه نجاسة جامدة ؟ فيه خلاف التباعد، هذا كله إذا بلغ قلتين ولا تغير فيه. أما إذا كوثر فلم يبلغهما، فالاصح أنه باق على نجاسته.

(1/132)


والثاني: أنه طاهر غير طهور، بشرط أن يكون المكاثر به مطهرا، وأن يكون أكثر من المورود عليه، وأن يورده على النجس، وأن لا يكون فيه نجاسة جامدة فإن اختل أحد هذه (1) الشروط، فنجس بلا خلاف. ولا يشترط شئ من هذه الشروط الاربعة فيما إذا كوثر فبلغ قلتين. قلت: هذا الذي صححه هو الاصح، وعند الخراسانيين: وهو الاصح. والاصح عند العراقيين: الثاني. والله أعلم. والمعتبر في المكاثرة الضم والجمع، دون الخلط، حتى لو كان أحد البعضين صافيا، والآخر كدرا، وانضما، زالت النجاسة من غير توقف على الاختلاط المانع من التمييز. ومتى حكمنا بالطهارة في هذه الصور ففرق، لم يضر، وهو باق على طهوريته. فرع: إذا وقع في الماء الكثير الراكد نجاسة جامدة، فقولان: أظهرهما وهو القديم، أنه يجوز الاغتراف من أي موضع شاء، ولا يجب التباعد لانه طاهر كله. والثاني: الجديد: يجب أن يبعد عن النجاسة بقدر قلتين، فعلى هذا لا يكفي في البحر التباعد بشبر نظرا إلى العمق، بل يتباعد قدرا لو حسب مثله في العمق وسائر الجوانب لبلغ قلتين. فلو كان الماء منبسطا بلا عمق، تباعد طولا وعرضا قدرا يبلغ قلتين في ذلك العمق. وقال محمد بن يحيى (2): في هذه الصورة يجب أن يبعد إلى موضع يعلم أن النجاسة لم تنتشر إليه. أما إذا كان الماء قلتين فقط، فعلى الجديد: لا يجوز الاغتراف منه. وعلى القديم: يجوز على الاصح. ثم في المسألة الاولى يحتمل أن يكون الخلاف في جواز استعمال الماء عن (3) غير تباعد، مع القطع بطهارة الجميع، ويحتمل أن يكون في الاستعمال مبنيا على خلاف في نجاسته، وقد نقل

(1/133)


عن الشيخ أبي محمد (1)، نقل الاتفاق على الاحتمال الاول (2). قلت: هذا التوقف من الامام الرافعي عجب، فقد جزم وصرح بالاحتمال الاول جماعات من كبار أصحابنا، منهم الشيخ أبو حامد الاسفراييني (3)، والقاضي أبو الطيب (4)، وصاحب (الحاوي) والمحاملي، وصاحبا (الشامل) و (البيان) وآخرون من العراقيين والخراسانيين. وقطع جماعة من الخراسانيين على قول التباعد بأن يكون المجتنب نجسا، كذا قاله القاضي حسين، وإمام الحرمين، والبغوي، وغيرهم. حتى قال هؤلاء الثلاثة: لو كان قلتين فقط، كان نجسا على هذا القول. والصواب: الاول. والله أعلم. إذا غمس كوز ممتلئ ماء نجسا في ماء كثير طاهر، فإن كان واسع الرأس، فالاصح أنه يعود طهورا، وإن كان ضيقه، فالاصح أنه لا يطهر. وإذا حكمنا بأنه

(1/134)


طهور في الصورتين، فهل يصلح ذلك على الفور، أم لا بد من زمان يزول فيه التغير لو كان متغيرا ؟ فيه وجهان. الاصح: الثاني. ويكون الزمان في الضيق أكثر منه في الواسع. فإن كان ماء الكوز متغيرا، فلا بد من زوال تغيره، ولو كان الكوز غير ممتلئ، فما دام يدخل فيه الماء، فلا اتصال، وهو على نجاسته. قلت: إلا أن يدخل فيه أكثر من الذي فيه، فيكون حكمه ما سبق في المكاثرة. قال القاضي حسين، وصاحب (التتمة): ولو كان ماء الكوز طاهرا، فغمسه في ماء (1) نجس ينقص عن القلتين بقدر ماء الكوز، فهل يحكم بطهارة النجس ؟ فيه الوجهان (2). والله أعلم. فرع: ماء البئر كغيره في قبول النجاسة وزوالها، فإن كان قليلا وتنجس بوقوع نجاسة، فلا ينبغي أن ينزح لينبع الماء الطهور بعده، لانه وإن نزح، فقعر البئر يبقى نجسا، وقد تنجس جدران البئر أيضا، بالنزح، بل ينبغي أن يترك ليزداد (3) فيبلغ حد الكثرة. وإن كان نبعها قليلا لا تتوقع كثرته، صب فيها ماء ليبلغ الكثرة، ويزول التغير إن كان تغير. وطريق زواله على ما تقدم من الاتفاق والخلاف. وإن كان الماء كثيرا طاهرا، وتفتت فيه شئ نجس، كفأرة تمعط شعرها، فقد يبقى على طهوريته لكثرته، وعدم التغير، لكن يتعذر استعماله، لانه لا ينزح دلوا إلا وفيه شئ من النجاسة، فينبغي أن يستقى الماء كله، ليخرج الشعر منه. فإن كانت العين فوارة، وتعذر نزح الجميع، نزح ما يغلب على الظن أن الشعر [ خرج كله ] (4) معه، فما بقي بعد ذلك في البئر وما يحدث، طهور، لانه غير مستيقن النجاسة، ولا مظنونها، ولا يضر احتمال بقاء الشعر. فان تحقق شعرا بعد ذلك، حكم به. فأما قبل النزح إلى الحد المذكور، إذا غلب على ظنه أنه لا يخلو كل دلو عن شئ من النجاسة، لكن لم يتيقنه، ففي جواز

(1/135)


استعماله القولان في تقابل الاصل والظاهر. وهذا الذي ذكرناه في الشعر تفريع على نجاسته بالموت. فان لم تنجسه، فرضت المسألة في غيره من الاجزاء. فصل في الماء الجاري: هو ضربان: ماء الانهار المعتدلة، وماء الانهار العظيمة، أما الاول: فالنجاسة الواقعة فيه مائعة وجامدة، والمائعة: مغيرة وغيرها. فالمغيرة: تنجس المتغير. وحكم غيره معه كحكمه مع النجاسة الجامدة. وغير المغيرة: إن كان عدم التغير للموافقة في الاوصاف، فحكمه ما سبق في الراكد. إن كان لقلة النجاسة وأمحاقها فيه، فظاهر المذهب، وقول الجمهور: أنه كالراكد. وإن كان قليلا ينجس. وإن كان كثيرا فلا. وقال الغزالي: هو طاهر (1) مطلقا، وفي القديم: لا ينجس الجاري إلا بالتغير. [ قلت: واختار جماعة الطهارة، منهم إمام الحرمين وصاحب (التهذيب) ] (2). والله أعلم. وأما النجاسة الجامدة، كالميتة، فإن غيرت الماء، نجسته، وإن لم تغيره، فتارة تقف، وتارة تجري مع الماء، فان جرت جرية (3)، فما قبلها وما بعدها طاهران. وما على يمينها وشمالها وفوقها وتحتها، إن وإن كان قليلا، فنجس، وإن كان قلتين، فقيل: طاهر، وقيل: على قولي التباعد. وإن وقفت النجاسة، وجرى الماء عليها، فحكمه حكم الجارية، ويزيد ها هنا أن الجاري على النجاسة وهو قليل، ينجس بملاقاتها، ولا يجوز استعماله إلا أن يجتمع في موضع قلتان منه، وفيه وجه أنه إذا تباعد واغترف من موضع بينه وبين النجاسة قلتان، جاز استعماله، والصحيح الاول. وعليه يقال: ماء هو ألف قلة، نجس بلا تغير، فهذه صورته. أما النهر العظيم، فلا يجتنب فيه شئ، ولا حريم النجاسة، ولا يجئ فيه

(1/136)


الخلاف في التباعد عما حوالي النجاسة. وفيه وجه شاذ أنه يجزئ، ووجه أنه يجب اجتناب الحريم خاصة، وبه قطع الغزالي، وطرده في حريم الراكد أيضا. والمذهب: القطع بأنه لا يجب اجتناب الحريم في الجاري، ولا في الراكد. ثم العظيم: ما أمكن التباعد فيه عن جوانب النجاسة كلها بقلتين. والمعتدل: ما لا يمكن ذلك فيه. ومن المعتدل: النهر الذي بين حافتيه قلتان فقط. وقال إمام الحرمين: المعتدل: ما يمكن تغيره بالنجاسات المعتادة. والعظيم: ما لا يمكن تغيره بها. وأما الحريم: فما ينسب إلى النجاسة بتحريكه إياها، وانعطافه عليها، والتفافه بها. قلت: غير الماء من المائعات ينجس بملاقاة النجاسة وإن كثر. وإنما لا ينجس الماء لقوته (1). ولو توضأ من بئر، ثم أخرج منها دجاجة منتفخة، لم يلزمه أن يعيد من صلاته إلا ما تيقن أنه صلاها بالماء النجس. ذكره صاحب (العدة) (2). والله أعلم.
باب إزالة النجاسة
النجس ضربان: نجس العين، وغيره، فنجس العين: لا يطهر بحال، إلا الخمر، فتطهر بالتخلل، وجلد الميتة بالدباغ. والعلقة والمضغة والدم الذي هو حشو البيضة، إذا نجسنا الثلاثة فاستحالت حيوانات (3). وأما غير نجس العين، فضربان: نجاسة عينية، وحكمية، فالحكمية: هي التي تيقن وجودها ولا تحس، كالبول إذا جف على المحل ولم يوجد له رائحة ولا أثر، فيكفي إجراء الماء على محلها مرة، ويسن ثانية،

(1/137)


وثالثة. وأما العينية: فلا بد من محاولة إزالة ما وجد منها من طعم، ولون، وريح، فان فعل ذلك فبقي (1) طعم، لم يطهر، وإن بقي اللون وحده وهو سهل الازالة، لم يطهر. وإن كان عسرها، كدم الحيض يصيب الثوب، وربما لا يزول بعد المبالغة، والاستعانة بالحت والقرص، طهر. وفيه وجه شاذ أنه لا يطهر، والحت والقرص ليسا بشرط، بل مستحبان عند الجمهور، وقيل: هما شرط، وإن بقيت الرائحة وحدها وهي عسرة الازالة، كرائحة الخمر، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما يطهر. وإن بقي اللون والرائحة معا، لم يطهر على الصحيح، ثم الصحيح الذي قاله الجمهور، إن ما (2) حكمنا بطهارته مع بقاء لون أو رائحة، فهو طاهر حقيقة، ويحتمل أنه نجس معفو عنه. وقد أشار إليه في (التتمة) ثم بعد زوال العين يسن غسله، ثانية، وثالثة، ولا يشترط في حصول الطهارة عصر الثوب على الاصح، بناء على طهارة الغسالة. وإن قلنا بالضعيف: إن العصر شرط، قام مقامه الجفاف على الاصح، لانه أبلغ في زوال الماء. فرع: ما ذكرناه من طهارة المحل بالعصر أو دونه: هو فيما إذا ورد الماء على المحل، أما إذا ورد الماء المحل النجس، كالثوب يغمس في إجانة فيها ماء ويغسل فيها، ففيه وجهان: الصحيح الذي قاله الاكثرون: لا يطهر، وقال ابن سريج (3): يطهر، ولو ألقته الريح فيه والماء دون قلتين، نجس الماء أيضا بلا خلاف. فرع: إذا أصاب الارض بول فصب عليها ماء غمره واستهلك فيه، طهرت بعد نضوب الماء، وقبله وجهان. إن قلنا: العصر لا يجب، طهرت. وإن قلنا:

(1/138)


واجب، لم يطهر. فعلى هذا لا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف، بل يكفي أن يغيض الماء كالثوب المعصور. ويكفي أن يكون الماء المصبوب غامرا للنجاسة على الصحيح، وقيل: يشترط أن يكون سبعة أضعاف البول، وقيل: يشترط أن يصب على بول الواحد ذنوب، وعلى بول الاثنين ذنوبان، وعلى هذا أبدا، ثم الخمر، وسائر النجاسات المائعة كالبول، يطهر الارض عنها بغمر الماء بلا تقدير على المذهب. فرع: اللبن النجس: ضربان. مختلط بنجاسة جامدة، كالروث وعظام الميتة، وغير مختلط. فالاول: نجس لا طريق إلى تطهيره، لعين النجاسة. فان طبخ، فالمذهب - وهو الجديد - أنه على نجاسته. وفي القديم قول: أن الارض النجسة تطهر بزوال أكثر (1) النجاسة، بالشمس، والريح، ومرور الزمن. فخرج أبو زيد، والخضري، وآخرون منه قولا: ان النار تؤثر، فيطهر ظاهره بالطبخ. فعلى الجديد: لو غسل، لم يطهر على الصحيح المنصوص. وقال ابن المرزبان (2) والقفال: يطهر ظاهره. وأما غير المختلط كالمعجون بماء نجس، أو بول، فيطهر ظاهره بإفاضة الماء عليه، ويطهر باطنه بأن ينقع في الماء حتى يصل إلى جميع أجزائه، كالعجين بمائع نجس. هذا إن لم يطبخ، فإن طبخ، طهر - على تخريج أبي زيد - ظاهره، وكذا باطنه، على الاظهر، وأما على الجديد، فهو على نجاسته، ويطهر بالغسل ظاهره دون باطنه، وإنما يطهر باطنه بأن يدق حتى يصير ترابا، ثم يفاض الماء عليه، فلو كان بعد الطبخ رخوا لا يمنع نفوذ الماء، فهو كما قبل الطبخ. قلت: إذا أصابت النجاسة شيئا صقيلا، كسيف، وسكين، ومرآة، لم يطهر

(1/139)


بالمسح عندنا، بل لابد من غسلها. ولو سقيت سكين ماء نجسا، ثم غسلها، طهر ظاهرها. وهل يطهر باطنها بمجرد الغسل، أم لا يطهر حتى يسقيها مرة ثانية بماء طهور ؟ وجهان. ولو طبخ لحم بماء نجس، صار ظاهره وباطنه نجسا، وفي كيفية طهارته وجهان. أحدهما: يغسل ثم يعصر (1)، كالبساط. والثاني: يشترط أن يغلى بماء طهور. وقطع القاضي حسين (2)، والمتولي، في مسألتي السكين واللحم: بأنه يجب سقيها مرة ثانية وإغلاؤه. واختار الشاشي الاكتفاء بالغسل، وهو المنصوص. قال الشافعي (3) رحمه الله (4) في (الام) في (باب صلاة الخوف): لو أحمى حديدة ثم صب عليها سما نجسا، أو غمسها فيه فشربته، ثم غسلت بالماء، طهرت، لان الطهارات كلها إنما جعلت ما يظهر، ليس على الاجواف. هذا نصه بحروفه. قال المتولي: وإذا شرطنا سقي السكين، جاز أن يقطع بها الاشياء الرطبة قبل السقي، كما يقطع اليابسة (5). ولو أصابت الزئبق نجاسة، فإن لم يتقطع، طهر

(1/140)


بصب الماء عليه، وإن تقطع، كالدهن، لا يمكن تطهيره على الاصح، ذكره المحاملي، والبغوي. وإزالة النجاسة التي لم يعص بالتلطخ بها في بدنه، ليست على الفور، وإنما يجب عند إرادة الصلاة ونحوها. ويستحب المبادرة بها. قال المتولي، وغيره: للماء قوة عند الورود على النجاسة، فلا ينجس بملاقاتها، بل يبقى مطهرا، فلو صبه على موضع النجاسة من ثوب فانتشرت الرطوبة في الثوب، لا يحكم بنجاسة موضع الرطوبة، ولو صب الماء في إناء نجس، ولم يتغير بالنجاسة، فهو طهور. فإذا أداره على جوانبه، طهرت الجوانب كلها. قال: ولو غسل ثوب عن نجاسة، فوقعت عليه نجاسة عقب عصره. هل يجب غسل جميع الثوب، أم يكفي غسل موضع النجاسة ؟ وجهان: الصحيح: الثاني (1). والله أعلم. فرع: الواجب في إزالة النجاسة الغسل، إلا في بول صبي لم يطعم، ولم يشرب سوى اللبن، فيكفي فيه الرش (2)، ولا بد فيه من إصابة الماء جميع موضع البول. ثم لايراده ثلاث درجات، الاولى: النضج المجرد. الثانية: النضح مع الغلبة والمكاثرة. الثالثة: أن ينضم إلى ذلك السيلان، فلا حاجة في الرش إلى الثالثة قطعا، ويكفي الاولى على وجه، ويحتاج إلى الثانية على الاصح. ولا يلحق ببول الصبي، بول الصبية ؟ بل يتعين غسله على الصحيح. قلت: وفي (التتمة) وجه شاذ: أن الصبي، كالصبية، فيجب الغسل. قال البغوي: وبول الخنثى كالانثى من أي فرجيه خرج. والله أعلم. فصل: طهارة ما ولغ فيه الكلب أو تنجس بدمه، أو بوله، أو عرقه، أو شعره، أو غيرها من أجزائه وفضلاته، أن يغسل سبع مرات، إحداهن بتراب، وفيما سوى الولوغ وجه شاذ أنه يكفي غسله مرة، كسائر النجاسات. والخنزير،

(1/141)


كالكلب على الجديد، وفي القديم: يكفي مرة كغيره، وقيل: القديم كالنجاسات (1)، ولا يقوم الصابون والاشنان ونحوهما مقام التراب على الاظهر (2)، كالتيمم. ويقوم في الثاني: كالدباغ والاستنجاء. والثالث: إن وجد ترابا، لم يقم. وإلا، قام. وقيل: يقوم فيما يفسده التراب، كالثياب، دون الاواني. أما إذا اقتصر على الماء وغسله ثماني مرات، ففيه أوجه. الاصح: لا يطهر. والثاني: يطهر. والثالث: يطهر عند عدم التراب دون وجوده. ولا يكفي غمس الاناء والثوب في الماء الكثير (3) على الاصح. ولا يكفي التراب النجس على الاصح، كالتيمم (4). ولو تنجست أرض ترابية بنجاسة الكلب، كفى الماء وحده على الاصح، إذ لا معنى لتعفير التراب، ولا يكفي في استعمال التراب ذره على المحل، بل لا بد من مائع يمزجه (5) به، ليصل التراب بواسطته إلى جميع أجزاء المحل. فإن كان المائع ماء، حصل الغرض، وإن كان غيره، كالخل وماء الورد، وغسله ستا بالماء (6)، لم يكف على الصحيح، كما لو غسل السبع بالخل والتراب.

(1/142)


قلت: لو ولغ في الاناء كلاب، أو كلب مرات، فثلاثة أوجه. الصحيح يكفيه للجميع سبع. والثاني: يجب لكل ولغة سبع. والثالث: يكفي لولغات الكلب الواحد سبع، ويجب لكل كلب سبع. ولو وقعت نجاسة أخرى في الاناء الذي ولغ فيه الكلب (1)، كفى سبع، ولو كانت نجاسة الكلب عينية، كدمه، فلم تزل إلا بست غسلات مثلا، فهل يحسب ذلك ستا أم واحدة، أم لا يحسب شيئا ؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: واحدة (2). ويستحب أن يكون التراب في غير السابعة. والاولى أولى. ولو ولغ في ماء لم ينقص بولوغه عن قلتين، فهو باق على طهوريته، ولا يجب غسل الاناء. ولو ولغ في شئ نجسه، فأصاب ذلك الشئ آخر، وجب غسله سبعا. ولو ولغ في طعام جامد، ألقى ما أصابه وما حوله، وبقي الباقي على طهارته، وإذا لم يرد استعمال الاناء الذي ولغ فيه، لا يجب إراقته على الصحيح التي قطع به الجمهور. وفي (الحاوي) وجه أنه يجب إراقته على الفور، للحديث الصحيح (3) بالامر بإراقته. ولو ولغ في ماء كثير متغير بالنجاسة، ثم أصاب ذلك الماء ثوبا، قال الروياني: قال القاضي حسين: يجب غسله سبعا إحداهن بالتراب، لان الماء المتغير بالنجاسة، كخل تنجس. ولو ولغ حيوان تولد من كلب، أو خنزير وغيره، أو من كلب وخنزير، فقد نقل فيه صاحب (العدة) الخلاف في الخنزير لانه ليس كلبا. والله أعلم. فرع: سؤر الهرة طاهر، لطهارة عينها، ولا يكره، فلو تنجس فمها، ثم

(1/143)


ولغت في ماء قليل فثلاثة أوجه. الاصح أنها إن غابت واحتمل ولوغها في ماء يطهر فمها، ثم ولغت، لم تنجسه، وإلا نجسته. والثاني: تنجسه مطلقا. والثالث: عكسه. قلت: وغير الماء من المائعات، كالماء. والله أعلم. فصل في غسالة النجاسة إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة، فنجسة. وإلا فإن كان قلتين، فطاهرة بلا خلاف. قلت: ومطهرة على المذهب (1). والله أعلم. وإن كان (2) دونهما، فثلاثة أقوال. وقيل: أوجه. أظهرها: وهو الجديد، أن حكمها حكم المحل بعد الغسل، إن كان نجسا بعد، فنجسة. وإلا، فطاهرة غير مطهرة. والثاني: - وهو القديم - حكمها حكمها قبل الغسل، فيكون مطهرة. والثالث: وهو مخرج من رفع الحدث، حكمها حكم المحل قبل الغسل، فيكون نجسة. ويخرج على هذا الخلاف غسالة ولوغ الكلب، فإذا وقع من الغسلة الاولى شئ على ثوب، أو غيره، لم يحتج إلى غسله على القديم. ويغسل لحصول المرة وطهورية الباقي ستا على الجديد، وسبعا على المخرج. ولو وقع من السابعة، لم يغسل على الاول والثاني. ويغسل على الثالث مرة. ومتى وجب الغسل عنها، فإن سبق التعفير، لم يجب لطهوريته، وإلا وجب. وفي وجه، لكل غسلة سبع، حكم المحل، فيغسل منها مرة، وهذا يتضمن التسوية بين غسلة التعفير وغيرها.

(1/144)


فرع: إذا لم تتغير الغسالة، ولكن زاد وزنها، فطريقان. أصحهما القطع بالنجاسة. والثاني على الاقوال (1)، واعلم أن الخلاف المذكور هو في المستعمل، في واجب الطهارة. أما المستعمل في مندوبها، كالغسلة الثانية، فطهور على المذهب. وقيل: على القولين الاولين دون الثالث.
باب الاجتهاد (2) في الماء المشتبه
إذا اشتبه إناءان: طاهر، ونجس، فثلاثة أوجه. الصحيح: أنه لا يجوز استعمال أحدهما إلا بالاجتهاد، وظهور علامة تغلب على الظن طهارته، ونجاسة المتروك. والثاني: يكفي ظن الطهارة بلا علامة. والثالث: يستعمل أحدهما بلا اجتهاد ولا ظن، وسواء علم نجاسة أحدهما بمشاهدتها، أو ظنها بإخبار من تقبل روايته من حر، أو عبد، أو امرأة. وفي الصبي المميز وجهان. قلت: الاصح عند الجمهور لا يقبل قول المميز، ويقبل قول (3) الاعمى بلا خلاف (4). والله أعلم. ويشترط أن يعلم من حال المخبر، أنه لا يخبر (5) عن حقيقة (6)، وسواء أخبره

(1/145)


بنجاسة أحدهما على الابهام، أم بعينه، ثم اشتبه، فيجتهد في الجميع. ولو انصب أحدهما، أو صبه، فثلاثة أوجه. أصحها: يجتهد في الباقي. والثاني: لا يجوز الاجتهاد، بل يتيمم. والثالث: يستعمله بلا اجتهاد عملا بالاصل. قلت: الاصح عند المحققين والاكثرين - أو الكثيرين -: أنه لا يجوز الاجتهاد، بل يتيمم ويصلي ولا يعيد وإن لم يرقه. والله أعلم. وللاجتهاد شروط. الاول: أن يكون للعلامة مجال، كالاواني، والثياب. أما إذا اختلط بعض محارمه بأجنبية، أو أجنبيات محصورات، فلا يجوز نكاح واحدة منهن بالاجتهاد. الثاني: أن يتأيد الاجتهاد باستصحاب الطهارة. فلو اشتبه ماء ببول، أو بماء ورد، أو ميتة بمذكاة، أو لبن بقر بلبن أتان. لم يجتهد على الصحيح، بل يتيمم في مسألة البول. وفي مسألة ماء الورد، يتوضأ بكل واحدة مرة. وقيل: يجتهد. ولا بد من ظهور علامة بلا خلاف، ولا يجئ فيه الوجه الثاني في أول الباب. الثالث: مختلف فيه، وهو العجز عن اليقين، فلو تمكن منه، جاز الاجتهاد على الاصح، فيجوز في المشتبهين، وإن كان معه ثالث طاهر بيقين، أو كان على شط نهر أو اشتبه ثوبان ومعه ثالث طاهر بيقين، أو قلتان: طاهرة، ونجسة، وأمكن خلطهما بلا تغير، أو اشتبه ماء مطلق بمستعمل، أو بماء ورد، قلنا: يجوز الاجتهاد فيه على الاصح في الجميع. الرابع: أن تظهر علامة، وقد تقدم أن الصحيح، اشتراط العلامة، فلو لم تظهر، تيمم بعد إراقة الماءين، أو صب أحدهما في الآخر، فلا إعادة عليه. فإن تيمم قبل ذلك، وجبت إعادة الصلاة. وأما الاعمى، فيجتهد على الاظهر. فإن لم يغلب على ظنه شئ، قلد على الاصح. قلت: فان قلنا: لا يقلد، أو لم يجد من يقلده، فوجهان. الصحيح أنه يتيمم، ويصلي، وتجب الاعادة. والثاني: يخمن ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه، وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه، واختاره القاضي أبو الطيب قال: ويعيد. والله أعلم.

(1/146)


فرع إذا غلب على ظنه طهارة إناء، استحب أن يريق الآخر، فلو لم يفعل وصلى بالاول الصبح، فحضرت الظهر، فإن لم يبق من الاول شئ، لم يجب الاجتهاد للظهر. فلو اجتهد فظن طهارة الباقي، فالصحيح المنصوص أنه يتيمم ولا يستعمله، وخرج ابن سريج أنه يستعمله، ولا يتيمم فيغسل جميع ما أصابه الماء الاول، ثم يتوضأ، وعلى هذا لا يعيد واحدة من الصلاتين. وعلى المنصوص: لا يعيد الاولى، ولا الثانية أيضا على الاصح. أما إذا بقي من الاول شئ، فان كان يكفي طهارته، فهو كما إذا لم يبق شئ، إلا أنه يجب الاجتهاد للصلاة الثانية. وإذا صلاها بالتيمم، وجب قضاؤها على الصحيح المنصوص. وإن كان الباقي لا يكفي، فإن قلنا: يجب استعماله، كان كالكافي، وإلا كان كما إذا لم يبق من الاول شئ. ولو صب الماء الباقي مع بقية الاول، أو الباقي إذا كان وحده، ثم صلى بالتيمم، فلا إعادة عليه بلا خلاف. فرع الشئ الذي لا يتيقن نجاسته ولا طهارته، والغالب في مثله النجاسة، فيه قولان، لتعارض الاصل (1). والظاهر: أظهرهما: الطهارة، عملا بالاصل، فمن ذلك ثياب مدمني الخمر وأوانيهم، وثياب القصابين، والصبيان

(1/147)


الذين لا يتوقون النجاسة، وطين الشوارع حيث لا يستيقن، ومقبرة شك في نبشها، وأواني الكفار المتدينين باستعمال النجاسة كالمجوس، وثياب المنهمكين في الخمر، والتلوث بالخنزير من اليهود والنصارى. ولا يلحق بهؤلاء الذين لا يتدينون باستعمال النجاسة، كاليهود، والنصارى. فإن ألحقنا غلبة الظن باليقين، واشتبه إناء طاهر بإناء الغالب في مثله النجاسة، اجتهد فيهما. وإن رجحنا الاصل، فهما طاهران، وربما أطلق الاصحاب القولين فيما إذا غلب على الظن النجاسة، لكن له شرط، وهو أن تكون غلبة الظن مستندة إلى كون الغالب في مثله النجاسة. فان لم يكن كذلك، لم يلزم طرد القولين، حتى لو رأى ظبيه تبول في ماء كثير وهو بعيد منه، فجاءه، فوجده متغيرا، وشك، هل تغير بالبول، أم بغيره ؟، فهو نجس، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، والاصحاب رحمهم الله. قلت: الجمهور حكموا بالنجاسة مطلقا، وبعضهم قال: إن كان عهده عن قرب غير متغير، فهو النجس. وإن لم يعهده أصلا، أو طال عهده، فهو طاهر، لاحتمال التغير بطول المكث. واعلم أن الامام الرافعي اختصر هذا الباب جدا، وترك أكثر مسائله. وأنا إن شاء الله تعالى (1) أشير إلى معظم ما تركه. قال أصحابنا: يجوز الاجتهاد في المشتبهين من الطعامين، والدهنين، ونحوهما، في الجنس، والجنسين، كلبن وخل تنجس أحدهما، وثوب وتراب، وطعام وماء، ولنا وجه منكر أنه لا يجوز في الجنسين. حكاه الشيخ أبو حامد وغلطه، ولو اشتبه لبنان ومعه ثالث متيقن الطهارة، إن لم يكن مضطرا إلى شربه، جاز الاجتهاد فيهما، وإن اضطر، فعلى الوجهين في الماءين ومعه ثالث. ولو أخبره بنجاسة أحد المشتبهين بعينه من يقبل خبره، عمل به، ولم يجز الاجتهاد، فإن كان معه إناءان، فقال عدل: ولغ الكلب في هذا دون ذاك، وقال آخر: في ذاك دون هذا، حكم بنجاستهما، لاحتمال الولوغ في وقتين، فإن عينا وقتا بعينه، عمل بقول أوثقهما عنده على المختار الذي قطع به إمام الحرمين. فإن استويا، فالمذهب

(1/148)


أنه يسقط خبرهما، وتجوز الطهارة بهما (1)، وفيه طرق للاصحاب، وتفريعات طويلة أوضحتها في شرحي (المهذب) (2) و (التنبيه) ولو قال عدل: ولغ في هذا الاناء، هذا الكلب في وقت كذا، فقال آخر: كان هذا الكلب في ذلك الوقت ببلد آخر، فالاصح طهارة الاناء، للتعارض، والثاني: النجاسة لاشتباه الكلاب. ولو أدخل الكلب رأسه في الاناء، وأخرجه ولم يعلم ولوغه، فان كان فمه يابسا، فالماء على طهارته، وإن كان رطبا، فالاصح، الطهارة للاصل. والثاني: النجاسة، للظاهر. وإذا توضأ بالمظنون طهارته، ثم تيقن أنه كان نجسا، أو أخبره عدل، لزمه إعادة الصلاة، وغسل ما أصابه الماء من بدنه وثوبه. ويكفيه الغسلة الواحدة عن النجاسة والحدث جميعا إذا نوى الحدث، على أصح الوجهين عند العراقيين، وهو المختار، خلاف ما جزم به الرافعي وجماعة من الخراسانيين: أنه لا بد من غسلتين. ولنا قول شاذ في (الوسيط) وغيره: أنه لا تجب إعادة هذه الصلاة، كنظيره من القبلة. ولو توضأ بأحد المشتبهين من غير اجتهاد، وصلى، وقلنا بالصحيح: أنه لا يجوز، فبان أن الذي توضأ به هو الطاهر، لم تصح صلاته قطعا، ولا وضوؤه على الاصح، لتلاعبه، وكنظيره في القبلة والوقت. ولو اشتبه الاناءان على رجلين، فظن كل واحد طهارة إناء باجتهاده، لم يقتد أحدهما بالآخر. فلو كانت الآنية ثلاثة، نجس، وطاهران، فاجتهد فيها ثلاثة رجال، وتوضأ كل باناء، وأمهما واحد في الصبح، وآخر في الظهر، وآخر في العصر، فثلاثة أوجه. الصحيح الاشهر: قول ابن الحداد (3): يصح لكل واحد التي أم فيها. والاقتداء

(1/149)


الاول، ويتعين الثاني للبطلان. والثاني: قول ابن القاص (1): لا يصح له إلا التي أم فيها. والثالث: قول أبي إسحق المروزي (2): تصح التي أم فيها. والاقتداء الاول إن اقتصر عليه. فان اقتدى ثانيا، بطلا جميعا. وإن زادت الآنية والمجتهدون، أو سمع من الرجال صوت حدث، فتناكروه، فحكم كله خارج على ما ذكرته، وقد أوضحت كل هذا بأمثلته وأدلته في شرحي (المهذب) و (التنبيه). وقد ذكر الرافعي رحمه الله المسألة في باب (صفة الائمة) وهذا الموضع أنسب. ولو وجد قطعة لحم ملقاة، فان كان في البلد مجوس ومسلمون، فنجسة، فإن تمحض المسلمون، فان كانت في خرقة، أو مكتل، فطاهرة، وإن كانت ملقاة مكشوفة، فنجسة. ولو اشتبهت ميتة بمذكيات بلد، أو إناء بول بأواني بلد، فله أخذ بعضها بالاجتهاد بلا خلاف، وإلى أي حد ينتهي ؟ فيه وجهان مذكوران في (البحر) أصحهما إلى أن يبقى واحد. والثاني: إلى أن يبقى قدر لو كان الاختلاط به ابتداء، منع الجواز (3). ولو كان له دنان فيهما مائع، فاغترف منهما في إناء، فرأى فيه فأرة لا يدرى من أيهما هي، تحرى، فان ظهر له أنها من أحدهما بعينه، فإن كان اغترف بمغرفتين، فالآخر طاهر، وإن كان بمغرفة، فإن ظهر بالاجتهاد أن الفأرة في الثاني، فالاول على طهارته، وإلا، فهما نجسان. وقد أكثرت الزيادة في هذا الباب لمسيس الحاجة إليها، فبقيت منه بقايا حذفتها كراهة كثرة الاطالة. والله أعلم.

(1/150)


باب الاواني هي ثلاثة أقسام. الاول: المتخذ من جلد والجلد يحكم بطهارته في حالين. أحدهما: إذا ذكي مأكول اللحم، فجلده باق على طهارته كلحمه، ولو ذكي غير مأكول، فجلده نجس كلحمه. قلت: ولو ذبح حمارا زمنا، أو غيره مما لا يؤكل، للتوصل إلى دبغ جلده، لم يجز عندنا. والله أعلم. والثاني: أن يدبغ جلد الميتة، فيطهر بالدباغ من مأكول اللحم وغيره، إلا جلد كلب، أو خنزير، وفرعهما، فانه لا يطهر قطعا، وإذا قلنا بالقديم: إن الآدمي ينجس بالموت، طهر جلده بالدباغ على الاصح، ولنا وجه شاذ منكر في (التتمة) أن جلد الميتة لا ينجس، وإنما أمر بالدبغ لازالة الزهومة (1)، ثم قال الاصحاب: يعتبر في الدباغ ثلاثة أشياء نزع الفضول، وتطييب الجلد، وصيرورته بحيث لو وقع (2) في الماء، لم يعد الفساد والنتن. ومن الاصحاب من يقتصر على نزع الفضول، لاستلزامه الطيب والصيرورة. قالوا: ويكون الدباغ بالاشياء الحريفة، كالشب (3)، والقرظ (4)، وقشور الرمان، والعفص. وفي وجه: لا يحصل إلا بشب أو قرظ، وهو غلط، ويحصل بمتنجس، وبنجس العين، كذرق حمام على الاصح فيها، ولا يكفي التجميد بالتراب، أو الشمس على الصحيح. ولا يجب استعمال الماء في أثناء الدباغ على الاصح، ويجب الغسل بعده إن دبغ بنجس قطعا، وكذا إن دبغ بطاهر على الاصح، فعلى هذا إذا لم يغسله، يكون طاهر العين، كثوب نجس، بخلاف ما إذا أوجبنا الماء في

(1/151)


أثناء الدباغ فلم يستعمله، فانه يكون نجس العين، وهل يطهر بمجرد نقعه في الماء، أم لا بد من استعمال الادوية ثانيا ؟ وجهان. قلت: أصحهما الثاني. وبه قطع الشيخ أبو محمد، والآخر: احتمال لامام الحرمين، والمراد نقعه في ماء كثير. والله أعلم. وإذا أوجبنا الغسل بعد الدباغ، اشترط سلامته من التغير بأدوية الدباغ، ولا يشترط ذلك إذا أوجبنا استعمال الماء في أثناء الدباغ. فرع: يطهر بالدباغ ظاهر الجلد قطعا، وباطنه على المشهور الجديد. فيجوز بيعه، ويستعمل في المائعات، ويصلى فيه. ومنع القديم: طهارة الباطن، والصلاة، والبيع، واستعماله في المائع. قلت: أنكر جماهير العراقيين، وكثيرون من الخراسانيين هذا القديم، وقطعوا بطهارة الباطن، وما يترتب عليه (1). وهذا هو الصواب. والله أعلم. ويجوز أكل المدبوغ على الجديد، إن كان مأكول اللحم، وإلا، فلا، على المذهب. قلت: الاظهر عند الاكثرين، تحريم أكل جلد المأكول (2)، وقد بقي من هذا القسم مسائل منها: الدباغ بالملح. نص الشافعي رحمه الله: أنه لا يحصل، وبه قطع أبو علي الطبري (3)،

(1/152)


وصاحب (الشامل) وقطع إمام الحرمين بالحصول، ولا يفتقر الدباغ إلى فعل. فلو ألقت الريح الجلد في مدبغة، فاندبغ، طهر، ويجوز استعمال جلد الميتة قبل الدباغ في اليابسات، لكن يكره، ويجوز هبته (2)، كما تجوز الوصية. وإذا قلنا: لا يجوز بيعه بعد الدباغ، ففي إجارته وجهان. الصحيح: المنع. والله أعلم. القسم الثاني: الشعر والعظم، أما الشعر، والصوف، والوبر، والريش، فينجس بالموت على الاظهر، وكذا العظم على المذهب، وقيل: كالشعر. فإن نجسنا الشعر، ففي شعر الآدمي قولان. أو وجهان. بناء على نجاسته بالموت. والاصح أنه لا ينجس شعره بالموت، ولا بالابانة. فإن نجسنا، عفي عن شعرة وشعرتين. فإن كثر، لم يعف. قلت: قال أصحابنا: يعفى عن اليسير من الشعر النجس في الماء، والثوب الذي يصلى فيه، وضبط اليسير: العرف. وقال إمام الحرمين: لعل القليل ما يغلب انتتافه مع اعتدال الحال. واختلف أصحابنا في هذا العفو، هل يختص بشعر الآدمي، أم يعم الجميع ؟ والاصح: التعميم (3). والله أعلم.

(1/153)


وإذا نجسنا شعر الآدمي، فالصحيح: طهارة شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا نجسنا شعر غير الآدمي، فدبغ الجلد وعليه شعر، لم يطهر الشعر على الاظهر، وإذا لم تنجس الشعور، ففي شعر الكلب والخنزير وفرعهما وجهان. الصحيح: النجاسة. سواء انفصل في حياته أو بعد موته. وأما الاناء من العظم، فإن كان طاهرا، جاز استعماله، وإلا فلا. وطهارته لا تحصل إلا بالذكاة في مأكول اللحم، إلا إذا قلنا (بالضعيف): إن عظام الميتة طاهرة. قلت: قال أصحابنا: ويجوز استعمال الاناء من العظم النجس في الاشياء اليابسة، لكن يكره (1)، كما قلنا في جلد الميتة قبل الدباغ، ويجوز إيقاد عظام الميتة. ولو رأى شعرا لم يعلم طهارته، فإن علم أنه من مأكول اللحم، فطاهر، أو من غيره، فنجس. أو لم يعلم، فوجهان. أصحهما: الطهارة، ولو باع جلد ميتة بعد دباغه وعليه شعر، وقلنا: يجوز بيع الجلد، ولا يطهر الشعر بالدباغ، فإن قال: بعتك الجلد دون شعره، صح، ولو قال: الجلد مع شعره، ففي صحة بيع الجلد القولان في تفريق الصفقة. وإن قال: بعتك هذا وأطلق صح. وقيل: وجهان. والله أعلم. القسم الثالث: إناء الذهب والفضة، يكره استعماله كراهة تنزيه في (القديم) وكراهة تحريم في (الجديد) وهو المشهور (2)، وقطع به جماعة. وعليه التفريع، ويستوي في التحريم الرجال والنساء، وسواء استعماله في الاكل، والشرب، والوضوء، والاكل بملعقة الفضة، والتطيب بماء الورد من قارورة

(1/154)


الفضة، والتجمر بمجمرة الفضة إذا احتوى عليها. ولا حرج في إتيان الرائحة من بعد، ويحرم إتخاذ الاناء من غير استعمال على الاصح، فلا يستحق صانعه أجرة، ولا أرش على كاسره. وعلى الثاني: لا يحرم، فتجب الاجرة والارش، ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت والمجالس بها على الصحيح. ويحرم الاناء الصغير، كالمكحلة، وظرف الغالية من الفضة على الصحيح، ولا يحرم الاواني من الجواهر النفيسة، كالفيروزج، والياقوت، والزبرجد، ونحوها على الاظهر (1). ولا خلاف أنه: لا يحرم ما نفاسته لصنعته، ولا يكره لو اتخذ إناء من حديد، أو غيره، وموهه بذهب، أو فضة، إن كان يحصل منه شئ بالعرض على النار، حرم استعماله، وإلا، فوجهان. ولو اتخذه من ذهب، أو فضة، وموهه بنحاس أو غيره، فعلى الوجهين. ولو غشي ظاهره وباطنه بالنحاس، فطريقان. قال إمام الحرمين: لا يحرم. وقال غيره: على الوجهين. قلت: الاصح من الوجهين: لا يحرم. والله أعلم. فرع المضبب بالفضة، فيه أوجه. أحدها: إن كانت الضبة صغيرة وعلى قدر الحاجة، لا يحرم استعماله، ولا يكره. وإن كانت كبيرة فوق الحاجة، حرم. وإن كانت صغيرة فوق الحاجة أو كبيرة قدر الحاجة، فوجهان. الاصح: يكره. والثاني: يحرم. والوجه الثاني: إن كانت الضبة تلقى فم الشارب، حرم، وإلا، فلا. والثالث: يكره، ولا يحرم بحال. والرابع: يحرم في جميع الاحوال. قلت: أصح الاوجه وأشهرها، الاول، وبه قطع أكثر العراقيين. والله أعلم. ومعنى الحاجة: غرض إصلاح موضع الكسر، ولا يعتبر العجز عن التضبيب بغير الفضة، فان الاضطرار يبيح استعمال أصل إناء الذهب والفضة، وفي ضبط الصغر والكبر أوجه. أحدها: يرجع فيه إلى العرف. والثاني: ما يلمع على بعد كبير، وما لا،

(1/155)


فصغير. والثالث: ما استوعب جزءا من الاناء، كأسفله، أو عروته، أو شفته، كبير، وما لا، فصغير. قلت: الثالث: أشهر. والاول: أصح. والله أعلم. وأما المضبب بذهب، فقطع الشيخ أبو إسحاق (1) بتحريمه بكل حال. وقال الجمهور: هو كالفضة. قلت: قد قطع بتحريم المضبب بالذهب - بكل حال - جماعات غير الشيخ أبي إسحاق، منهم صاحب (الحاوي) وأبو العباس الجرجاني (2) والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي (3) والعبدري (4) ونقله صاحب (التهذيب) عن العراقيين مطلقا. وهذا

(1/156)


هو الصحيح. والله أعلم. وهل يسوى بين الذهب والفضة في الصغر والكبر ؟ قياس الباب: نعم. وعن الشيخ أبي محمد: لا، فإن قليل الذهب، ككثير الفضة، فيقوم ضبة الفضة المباحة، ويباح قدرها من الذهب، ولو اتخذ للاناء حلقة فضة، أو سلسلة، أو رأسا. قال في (التهذيب): يجوز، وفيه نظر واحتمال. قلت: قد وافق صاحب (التهذيب) جماعة، ولا نعلم فيه خلافا. قال أصحابنا: لو شرب بكفيه وفي أصبعه خاتم، أو في فمه دراهم، أو في الاناء الذي شرب منه، لم يكره. ولو أثبت الدراهم في الاناء بالمسامير، فهو كالضبة. وقطع القاضي حسين بجوازه. ولو باع إناء الذهب أو الفضة، صح بيعه. ولو توضأ منه، صح وضوؤه، وعصى بالفعل. ولو أكل، أو شرب، عصى بالفعل، وكان الطعام والشراب حلالا. وطريقه في اجتناب المعصية، أن يصب الطعام وغيره في إناء آخر، ويستعمل المصبوب فيه. والله أعلم.
باب صفة الوضوء (1) له فروض وسنن. فالفروض ستة. الاول: النية (2): وهي فرض في طهارات الاحداث (3)، ولا تجب في إزالة النجاسة على الصحيح. ولا يصح وضوء كافر أصلي، ولا غسله على الصحيح، ويصحان على وجه. ويصح الغسل دون الوضوء على وجه فيصلي به إذا أسلم.

(1/157)


والكتابية المغتسلة من الحيض لحل وطئها لزوج مسلم، كغيرها على الصحيح (1)، ولا يصح طهارة المرتد بلا خلاف (2). ولو توضأ مسلم أو تيمم، ثم ارتد، فثلاثة أوجه. الصحيح: يبطل تيممه دون الوضوء. والثاني: يبطلان. والثالث: لا يبطلان. ولا يبطل الغسل بالردة، وقيل: هو كالوضوء، وليس بشئ. أما وقت النية: فلا يجوز أن يتأخر عن غسل أول جزء من الوجه (3). فإن قارنت الجزء المذكور ولم يتقدم ولم تبق بعده، صح وضوؤه، لكن لا يثاب على سنن الوضوء المتقدمة. قلت: وفي (الحاوي) وجه أنه يثاب عليها. والله أعلم. وإن تقدمت النية من أول الوضوء واستصحبها إلى غسل جزء من الوجه، صح، وحصل ثواب السنن، وإن اقترنت بسنة من سننه المتقدمة، وهي التسمية، والسواك، وغسل الكف، والمضمضة، والاستنشاق، ثم عزبت قبل الوجه، فثلاثة أوجه. أصحها: لا يصح وضوؤه. والثاني: يصح. والثالث: يصح إن اقترنت بالمضمضة أو الاستنشاق دون ما قبلهما. ولنا وجه ضعيف أن ما قبلهما ليس من سنن الوضوء، بل مندوبة في أوله، لا منه. والصواب: أنها من سننه. قلت: هذا (4) المذكور في المضمضة والاستنشاق، هو فيما إذا لم ينغسل معهما شئ من الوجه، فإن انغسل بنية الوجه، أجزأه ولا يضر العزوب بعده. وإن

(1/158)


لم ينو بالمغسول الوجه، أجزأه أيضا على الصحيح، وقول الجمهور، فعلى هذا يحتاج إلى إعادة غسل ذلك الجزء مع الوجه، على الاصح. والله أعلم. أما كيفية النية، فالوضوء ضربان: وضوء رفاهية، ووضوء ضرورة. أما الاول: فينوي أحد ثلاثة أمور. أحدها: رفع الحدث، أو الطهارة عن الحدث. ويجزئه ذلك. وفيه وجه: أنه إن كان ماسح خف، لم يجزئه نية رفع الحدث، بل تتعين نية الاستباحة، ولو نوى رفع بعض الاحداث، فأوجه. أصحها: يصح وضوؤه مطلقا. والثاني: لا. والثالث: إن لم ينف ما عداه صح، وإلا، فلا، والرابع: إن نوى رفع الاول، صح، وإلا، فلا. والخامس: إن نوى الاخير، صح، وإلا، فلا. هذا إذا كان الحدث المنوي واقعا منه. فان لم يكن، بأن بال ولم ينم، فنوى حدث النوم، فان كان غالطا، صح وضوؤه قطعا. وإن تعمد، لم يصح على الاصح. الامر الثاني: استباحة الصلاة، أو غيرها مما لا تباح إلا بالطهارة، كالطواف، وسجود التلاوة، والشكر. فإذا نوى أحدها، ارتفع حدثه، ولنا وجه: أنه لا يصح الوضوء بنية الاستباحة، وهو غلط. وإن نوى استباحة صلاة بعينها، ولم ينف غيرها، صح الوضوء لها ولغيرها. وإن نفى أيضا، صح، على الاصح. ولا يصح في الثاني، ويصح في الثالث، لما نوى فقط، ولو نوى ما يستحب له الوضوء، كقراءة القرآن، والجلوس في المسجد، وسماع الحديث وروايته، لم يصح على الاصح. ولو نوى تجديد الوضوء. فعلى الوجهين. وقيل: لا يصح قطعا. ولو شك في الحدث فتوضأ محتاطا فتيقن الحدث، لم يعتد به على الاصح، لانه توضأ مترددا وقد زالت الضرورة بالتيقن. ولو تيقن الحدث، وشك في الطهارة فتوضأ، ثم بان محدثا، أجزأه قطعا، لان الاصل بقاء الحدث فلا يضر التردد معه. ولو نوى ما لا يستحب له الوضوء، كدخول السوق، لم يصح. الامر الثالث: فرض الوضوء، أو أداء الوضوء، وذلك كاف قطعا وإن كان الناوي صبيا. فرع: إذا نوى أحد الامور الثلاثة، وقصد ما يحصل معه بلا قصد، بأن نوى رفع الحدث والتبرد، أو رفع الجنابة والتبرد، فالصحيح: صحة طهارته. ولو اغتسل جنب يوم الجمعة بنية الجمعة والجنابة، حصلا على الصحيح. ولو اقتصر على نية الجنابة، حصلت الجمعة أيضا في الاظهر.

(1/159)


قلت: الاظهر عند الاكثرين: لا تحصل. والله أعلم. ولو نوى بصلاته الفرض، وتحية المسجد، حصلا قطعا، ولو نوى رفع الحدث، ثم نوى في أثناء طهارته التبرد. فان كان ذاكر النية، رفع الحدث، فهو كمن نواهما ابتداء، فيصح على الصحيح. وإن كان غافلا، لم يصح ما أتى به بعد ذلك على الصحيح. أما وضوء الضرورة، فهو وضوء المستحاضة، وسلس البول ونحوهما ممن به حدث دائم، والافضل: أن ينوي رفع الحدث واستباحة الصلاة. وفي الواجب أوجه. الصحيح: أنه يجب نية الاستباحة دون رفع الحدث (1). والثاني: يجب الجمع بينهما. والثالث: يجوز الاقتصار على أيهما شاءت. ثم إن نوت فريضة واحدة، صح قطعا، لانه مقتضى طهارتها. وإن نوت نافلة معينة ونفت غيرها، فعلى الاوجه الثلاثة المتقدمة في غيرها. فرع: لو كان يتوضأ ثلاثا، فنسي لمعة في المرة الاولى، فانغسلت في الثانية أو الثالثة، وهو يقصد التنفل، أو انغسلت في تجديد الوضوء، فوجهان. الاصح: في الصورة الاولى يجزئه، وفي مسألة التجديد لا يجزئه. قلت: ولو نسي اللمعة في وضوئه أو غسله، ثم نسي أنه توضأ، أو اغتسل، فأعاد الوضوء أو الغسل بنية الحدث، أجزأه، وتكمل طهارته بلا خلاف. والله أعلم. ولو فرق النية على اعضائه، فنوى عند الوجه رفع الحدث عنه، وعند اليد والرأس والرجل كذلك، صح وضوؤه على الاصح. والخلاف في مطلق التفريق على الصحيح المعروف. وقيل: هو فيمن نوى رفع الحدث عن كل عضو، ونفى غيره، دون من اقتصر عليه، وإذا قلنا في مسألة اللمعة: لا يعتد بالمغسول في

(1/160)


الثانية، فهل يبطل ما مضى، أم يبني عليه ؟ فيوجها تفريق النية، إن جوزنا التفريق، جاز البناء، وإلا، فلا. ولا يشترط إضافة الوضوء إلى الله تعالى على الاصح. قلت: قال أصحابنا: يستحب أن ينوي بقلبه، ويتلفظ بلسانه، كما سيأتي في سنن الوضوء. فإن اقتصر على القلب، أجزأه، أو اللسان، فلا. وإن جرى على لسانه حدث، أو تبرد، وفي قلبه خلافه، فالاعتبار بالقلب، ولو نوى الطهارة ولم يقل: عن الحدث، لم يجزئه على الصحيح المنصوص (1). ولو نوت المغتسلة عن الحيض تمكين زوج من وطئها، فأوجه. الاصح: تستبيح الوطئ والصلاة وكل شئ يقف على الغسل. والثاني: لا تستبيح شيئا. والثالث: تستبيح الوطئ وحده. ولو نوى أن يصلي بوضوئه صلاة، وأن لا يصليها، لم يصح، لتلاعبه وتناقضه. ولو ألقي انسان في نهر مكرها فنوى فيه رفع الحدث، صح وضوؤه. ولو غسل المتوضئ أعضاءه إلا رجليه، ثم سقط في نهر فانغسلتا وهو ذاكر النية، صح، وإلا، لم يحصل غسل رجليه على الاصح. ولو أحرم بالصلاة، ونوى الصلاة ودفع غريمه، صحت صلاته. قاله في (الشامل) ولو نوى قطع الوضوء بعد الفراغ منه، لم يبطل على الصحيح. وكذا في أثنائه على الاصح. ويستأنف النية لما بقي إن جوزنا تفريقها وإلا استأنف الوضوء. والله أعلم. الفرض الثاني: غسل الوجه، ويجب استيعابه بالغسل وحده، من مبدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الاذن إلى الاذن عرضا، وتدخل الغايتان في حد الطول، ولا تدخلان في العرض، فليست النزعتان من الوجه، وهما: البياضان المكتنفان للناصية أعلى الجبينين، ولا موضع الصلع، وهو: ما انحسر عنه

(1/161)


الشعر فوق ابتداء التسطيح. وأما الصدغان وهما: في جانبي الاذن يتصلان بالعذارين (1) من فوق، فالاصح (2): أنهما ليسا من الوجه. ولو نزل الشعر فعم الجبهة أو بعضها، وجب غسل ما دخل في الحد المذكور، وفي وجه ضعيف: لا (3) يجب إلا إذا عمها. وموضع التحذيف: من الرأس، لا من الوجه على الاصح. وهو الذي ينبت عليه الشعر الخفيف بين ابتداء العذار والنزعة (4). وأما شعور الوجه فقسمان: حاصلة في حد الوجه، وخارجة عنه. والحاصلة نادرة الكثافة وغيرها. فالنادرة: كالحاجبين، والاهداب، والشاربين، والعذارين، وهما: المحاذيان للاذنين بين الصدغ والعارض، فيجب غسل ظاهر هذه الشعور وباطنها مع البشرة تحتها وإن كثفت. ولنا وجه شاذ: أنه لا يجب غسل منبت كثيفها، وغير النادرة، شعر الذقن والعارضين، وهما: الشعران المنحطان عن محاذاة الاذنين. فان كان خفيفا، وجب غسل ظاهره وباطنه مع البشرة، وإن كان كثيفا، وجب غسل ظاهر الشعر فقط، وحكي قول قديم، وقيل وجه: إنه يجب غسل البشرة أيضا، وليس بشئ. ولو خف بعضه وكثف بعضه، فالاصح أن للخفيف حكم الخفيف المتمحض، وللكثيف حكم الكثيف المتمحض. والثاني: للجميع حكم الخفيف. وأما ضبط الخفيف والكثيف، فالصحيح الذي عليه الاكثرون، وهو ظاهر النص، أن الخفيف: ما تتراءى البشرة تحته في مجلس التخاطب. والكثيف: ما يمنع الرؤية. والثاني: أن الخفيف: ما يصل الماء إلى منبته من غير مبالغة. والكثيف: ما لا يصله إلا بمبالغة، ويلحق بالنادر في حكمه المذكور، لحية امرأة، وخنثى مشكل، وكذا عنفقة الرجل الكثيفة على الاصح. وعلى الثاني: هي كشعر الذقن.

(1/162)


القسم الثاني: الخارجة عن حد الوجه من اللحية، والعارض، والعذار، والسبال طولا وعرضا، والاظهر وجوب إفاضة الماء عليها، وهو غسل ظاهرها (1). والثاني: لا يجب شئ. وقيل: يجب غسل الوجه الباطن من الطبقة العليا، وقيل: يجب غسل السبال قطعا. والمذهب الاول. قلت: قال أصحابنا: يجب غسل جزء من رأسه، ورقبته، وما تحت ذقنه مع الوجه، ليتحقق استيعابه. ولو قطع أنفه، أو شفته، لزمه غسل ما ظهر بالقطع في الوضوء، والغسل على الاصح. ولو خرج من وجهه سلعة (2) ونزلت عن حد الوجه، لزمه غسل جميعها على المذهب. وقيل: في النازل قولان. ويجب غسل ما ظهر من حمرة الشفتين، ويستحب غسل النزعتين. ولو خلق له وجهان، وجب غسلهما، ويستحب أن يأخذ الماء بيديه جميعا. والله أعلم. الفرض الثالث: غسل اليدين مع المرفقين، فإن قطع من فوق المرفق، فلا فرض عليه، ويستحب غسل باقي العضد، لئلا يخلو العضو من طهارة. وإن قطع من تحت المرفق، وجب غسل باقي محل الفرض. وإن قطع من مفصل المرفق، وجب غسل رأس العظم الباقي على المذهب، وقيل: فيه قولان. ولو كان له يدان من جانب، فتارة تتميز الزائدة عن الاصلية، وتارة لا. فإن تميزت وخرجت من محل الفرض، إما من الساعد، وإما من المرفق، وجب غسلها مع الاصلية، كالاصبع الزائدة، والسلعة، سواء جاوز طولها الاصلية، أم لا. وإن خرجت من فوق محل الفرض ولم تحاذ محل الفرض، لم يجب غسل شئ منها. وإن حاذته، وجب غسل المحاذي وحده على الصحيح المنصوص. وإن لم تتميز، وجب غسلهما

(1/163)


معا. سواء خرجتا من المنكب، أو الكوع، أو الذراع. ومن أمارات الزائدة، أن تكون فاحشة القصر، والاخرى معتدلة. ومنها نقص الاصابع، ومنها فقد البطش وضعفه. قلت: ولو طالت أظفاره وخرجت عن رؤوس الاصابع، وجب غسل الخارج على المذهب. وقيل: قولان، كالشعر النازل من اللحية. ولو نبت على ذراعه، أو رجله، شعر كثيف، وجب غسل ظاهره وباطنه مع البشرة تحته، لندوره. ولو توضأ، ثم قطعت يده، أو رجله، أو حلق رأسه، لم يلزمه تطهير ما انكشف. فإن توضأ، لزمه غسل ما ظهر. وإن حصل في يده ثقب، لزمه غسل باطنه، لانه صار ظاهرا. وإن لم يقدر الاقطع والمريض على الوضوء، لزمه تحصيل من يوضئه، إما متبرعا، وإما بأجرة المثل إذا وجدها. فإن لم يجد من يوضئه، أو وجده ولم يجد الاجرة، أو وجدها فطلب أكثر من أجرة المثل، لزمه أن يصلي بالتيمم، ويعيد، لندوره. فان لم يقدر على التيمم، صلى على حاله وأعاد. والله أعلم. الفرض الرابع: مسح الرأس، والواجب منه: ما ينطلق عليه الاسم، ولو بعض شعرة، أو قدره من البشرة (1). وفي وجه شاذ: يشترط ثلاث شعرات. وعلى هذا الشاذ: لا يشترط قدرها من البشرة إذا اقتصر عليها. وقيل: يشترط. وحيث اقتصر على البشرة يجوز، وإن كانت مستورة بالشعر على الصحيح. وشرط الشعر الممسوح، أن لا يخرج عن حد الرأس لو مد، سبطا كان أو جعدا، ولا يضر مجاوزته منبته على الصحيح. ولو غسل رأسه بدل مسحه، أو ألقى عليه قطرة ولم تسل عليه، أو وضع يده التي عليها الماء، على رأسه ولم يمرها، أجزأه على الصحيح. ولا يستحب غسل الرأس قطعا، ولا يكره على الاصح، بخلاف الخف، فإن غسله تعييب. قلت: ولا تتعين اليد للمسح، بل يجوز بأصبع، أو خشبة، أو خرقة، أو

(1/164)


غيرها. ويجزئه مسح غيره له. والمرأة كالرجل في المسح. ولو كان له رأسان أجزأه مسح أحدهما. وقيل: يجب مسح جزء من كل رأس. والله أعلم. الفرض الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين. وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. وحكي وجه: أنه الذي فوق مشط القدم. قلت: هذا الوجه شاذ منكر، بل غلط. والله أعلم. وحكم الرجل الزائدة ما سبق في اليد. ومراد الاصحاب بقولهم: غسل الرجلين فرض، إذا لم يمسح على الخف، أو أن الاصل الغسل والمسح بدل. فرع: من اجتمع عليه حدثان: أصغر. وأكبر. فيه أوجه. الصحيح: يكفيه غسل جميع البدن بنية الغسل وحده، ولا ترتيب عليه. والثاني: يجب نية الحدثين إن اقتصر على الغسل. والثالث: يجب وضوء مرتب، وغسل جميع البدن. فإن شاء قدم الوضوء، وإن شاء أخره. والرابع: يجب وضوء مرتب، وغسل باقي البدن (1). هذا كله إذا وقع الحدثان معا، أو سبق الاصغر، وإما إذا سبق الاكبر، فطريقان. أصحهما: طرد الخلاف. والثاني: القطع بالاكتفاء بالغسل. ولو غسل جميع بدنه إلا رجليه، ثم أحدث، فإن قلنا بالوجه الثالث، وجب وضوء كامل للحدث، وغسل الرجلين للجنابة، يقدم أيهما شاء، فتكون الرجل مغسولة مرتين. وإن قلنا بالرابع، وجب غسل الرجلين بعد أعضاء الوضوء، ويكون غسلهما واقعا عن الحدث والجنابة جميعا. وإن قلنا بالصحيح الاول، فعليه غسل الرجلين عن الجنابة، وغسل سائر أعضاء الوضوء عن الحدث، فان شاء قدم الرجلين، وإن شاء أخرهما، أو وسطهما. وعلى هذا يكون المأتي به وضوء خاليا عن غسل الرجلين، فإنهما يغسلان عن الجنابة خاصة، ولا يختص هذا بالرجلين،

(1/165)


بل لو غسل الجنب من بدنه ما سوى الرأس والرجلين، أو اليدين والرأس والرجلين، كان حكمه ما ذكرنا. قلت: الصحيح في الصورة المذكورة، أنه يجب الترتيب في أعضاء الوضوء الثلاثة. وهو مخير في الرجلين، كما ذكرنا. وقيل: هو مخير في الجميع، وقيل: يجب الترتيب في الجميع، فيجب غسل الرجلين بعد الاعضاء الثلاثة. والله أعلم. الفرض السادس: الترتيب (1): فلو تركه عمدا لم يصح وضوؤه، لكن يعتد بالوجه وما غسله بعده على الترتيب. ولو تركه ناسيا، فقولان: المشهور الجديد لا يجزئه. ولو غسل أربعة أنفس أعضاءه دفعة باذنه، لم يحصل إلا الوجه على الاصح (2). وعلى الثاني يحصل الجميع. أما إذا غسل المحدث جميع بدنه، فإن أمكن حصول الترتيب، بأن انغمس في الماء ومكث زمانا يتأتى فيه الترتيب أجزأه على الصحيح. وإن لم يتأت، بأن انغمس ولم يمكث، أو غسل أسافله قبل أعاليه، لم يجزه على الاصح. ولا خلاف في الاعتداد بغسل الوجه في الصورتين إذا قارنته النية، هذا كله إذا نوى رفع الحدث. فان نوى الجنابة، فالاصح أنه كنية رفع الحدث. والثاني لا يجزئه بحال إلا الوجه. قلت: الاصح عند المحققين في مسألة الانغماس بلا مكث الاجزاء (3). والله أعلم. فرع: إذا خرج منه بلل يجوز أن يكون منيا ومذيا، واشتبه، ففيه أوجه. أحدها: يجب الوضوء فقط، فلو عدل إلى الغسل، كان كمحدث يغتسل. والثاني: يجب الوضوء، وغسل سائر البدن، وغسل ما أصابه البلل. والثالث، وهو الاصح: يتخير بين التزام حكم المني، وحكم المذي. فإن اختار الوضوء وجب الترتيب فيه، وغسل ما أصابه. وقيل: لا يجبان وليس بشئ، ويجري هذا

(1/166)


الخلاف فيما إذا أولج خنثى مشكل في دبر رجل، فهما بتقدير ذكورة الخنثى جنبان، وإلا فمحدثان. وإذا توضآ، وجب عليهما الترتيب، وفيه الوجه المتقدم، وليس بشئ. فصل: وأما سنن الوضوء، فكثيرة: إحداها: السواك. وهو: سنة مطلقا (1)، ولا يكره إلا بعد الزوال لصائم (2). وفي غير هذه الحالة مستحب في كل وقت. ويتأكد استحبابه في أحوال عند الصلاة وإن لم يكن متغير الفم، وعند الوضوء وإن لم يصل، وعند قراءة القرآن، وعند اصفرار الاسنان وإن لم يتغير الفم، وعند تغير الفم بنوم، أو طول سكوت، أو ترك أكل، أو أكل ما له رائحة كريهة، أو غير ذلك. ويحصل السواك بخرقة، وكل خشن مزيل، لكن العود أولى، والاراك منه أولى، والافضل أن يكون بيابس ندي بالماء، ولا يحصل بأصبع خشنة على أصح الاوجه. والثالث: يحصل عند عدم العود، ونحوه. ويستحب أن يستاك عرضا. قلت: كره جماعة من أصحابنا الاستياك طولا. ولنا قول غريب: أنه لا يكره السواك لصائم بعد الزوال. ويستحب أن يبدأ بجانب فمه الايمن، وأن يعود الصبي السواك ليألفه. ولا بأس أن يستاك بسواك غيره بإذنه. ويستحب أن يمر السواك على سقف حلقه إمرارا لطيفا، وعلى كراسي أضراسه. وينوي بالسواك السنة. ويسن السواك أيضا عند دخوله بيته، واستيقاظه من نومه، للحديث الصحيح فيهما (3). والله أعلم.

(1/167)


والثانية: أن يقول في ابتداء وضوئه: بسم الله (1)، فلو نسيها في الابتداء، أتى بها متى ذكرها قبل الفراغ، كما في الطعام. فان تركها عمدا فهل يشرع التدارك ؟ فيه احتمال. قلت: قول الامام الرافعي فيه احتمال عجيب، فقد صرح أصحابنا بأنه يتدارك في العمد، وممن صرح به المحاملي في (المجموع) والجرجاني في (التحرير) وغيرهما، وقد أوضحته في (شرح المهذب) (2) قال أصحابنا: ويستحب التسمية في ابتداء كل أمر ذي بال من العبادات وغيرها حتى عند الجماع. والله أعلم. الثالثة: غسل الكفين قبل الوجه. سواء قام من النوم وشك في نجاسة اليد وأراد غمس يده في الاناء، أم لم يكن شئ من ذلك، لكن إن أراد غمس يديه في إناء قبل غسلهما، كره إن لم يتيقن طهارتهما (3). فإن تيقنها، فوجهان. الاصح لا يكره الغمس. قلت: ولا تزول الكراهة إلا بغسلهما ثلاثا قبل الغمس. نص عليه البويطي (4)، وصرح به الاصحاب للحديث الصحيح (5). وقال أصحابنا: إذا كان

(1/168)


الماء في إناء كبير، أو صخرة مجوفة، بحيث لا يمكن أن يصب منه على يده، وليس معه ما يغترف به، استعان بغيره، أو أخذ الماء بفمه، أو طرف ثوب نظيف ونحوه. والله أعلم. الرابعة: المضمضة، والاستنشاق، ثم أصل هذه السنة يحصل بوصول الماء إلى الفم، والانف. سواء كان بغرفة، أو أكثر. وفي الافضل طريقان. الصحيح: أن فيه قولين: أظهرهما: الفصل بين المضمضة والاستنشاق أفضل. والثاني: الجمع بينهما أفضل، والطريق الثاني: الفصل أفضل قطعا. وفي كيفيته وجهان. أصحهما: يتمضمض من غرفة ثلاثا، ويستنشق من أخرى ثلاثا. والثاني: بست غرفات، وتقديم المضمضة على الاستنشاق شرط على الاصح. وقيل: مستحب. وفي كيفية الجمع وجهان، الاصح: بثلاث غرفات، يتمضمض من كل غرفة، ويستنشق. والثاني: بغرفة يتمضمض منها ثلاثا، ثم يستنشق منها ثلاثا، وقيل (1): يتمضمض منها ثم يستنشق مرة، ثم كذلك ثانية وثالثة. قلت: المذهب من هذا الخلاف، أن الجمع بثلاث أفضل، كذا قاله جماعة من المحققين، والاحاديث الصحيحة مصرحة به (2) وقد أوضحته في (شرح المهذب) (3). والله أعلم. الخامسة: المبالغة في المضمضة والاستنشاق، فيبلغ ماء المضمضة أقصى الحنك، ووجهي الاسنان، وتمر الاصبع عليها، ويصعد ماء الاستنشاق بنفسه إلى الخيشوم مع إدخال الاصبع اليسرى، وإزالة ما هناك من أذى. فإن كان صائما لم يبالغ فيهما. قلت: ولو جعل الماء في فيه ولم يدره، حصلت المضمضة على الصحيح. والله أعلم.

(1/169)


السادسة: التكرار ثلاثا في المغسول (1) والممسوح المفروض والمسنون (2)، ولنا قول شاذ: أنه لا يكرر مسح الرأس، ووجه أشذ منه: أنه لا يكرره، ولا مسح الاذنين. ولو شك هل غسل أو مسح مرة، أو مرتين، أم ثلاثا ؟ أخذ بالاقل على الصحيح، وقيل: بالاكثر. قلت: تكره الزيادة على ثلاث، وقيل: تحرم، وقيل: هي خلاف الاولى، والصحيح: الاول، وإنما تجب الغسلة مرة، وإذا استوعبت العضو. والله أعلم. السابعة: تخليل ما لا يجب إيصال الماء إلى منابته (3)، من شعور الوجه، بالاصابع. ولنا وجه شاذ: أنه يجب التخليل. قلت: مراد قائله، وجوب إيصال الماء إلى المنبت، وليس بشئ، وقد نقلوا الاجماع على خلافه. والله أعلم. الثامنة: تقديم اليمين على اليسار في يديه ورجليه. وأما الاذنان والخدان، فيطهران دفعة. فان كان أقطع، قدم اليمين. قلت: والكفان، كالاذنين وفي البحر وجه شاذ: أنه يستحب تقديم الاذن اليمنى. ولو قدم مسح الاذن على مسح الرأس، لم يحصل على الصحيح. والله أعلم.

(1/170)


التاسعة: تطويل الغرة (1) والتحجيل. فالغرة: غسل مقدمات الرأس وصفحة العنق مع الوجه. والتحجيل: غسل بعض العضدين مع الذراعين، وبعض الساقين مع الرجلين. وغايته: استيعاب العضد والساق (2)، وقال كثيرون: الغرة: غسل بعض العضد والساق فقط. والصحيح: الاول. العاشرة: استيعاب الرأس بالمسح. والسنة في كيفيته: أن يضع يديه على مقدم رأسه، ويلصق سبابته بالاخرى، وإبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المبتدأ، فالذهاب والرد مسحة واحدة. وهذا الاستحباب لمن له شعر ينقلب بالذهاب والرد، ويصله البلل. أما من لا شعر له أو له شعر لا ينقلب، لصغره (3)، أو طوله، فيقتصر على الذهاب. فلو رد، لم يحسب ثانية، ولو لم يرد نزع ما على رأسه من عمامة أو غيرها، مسح ما يجب من الرأس. ويسن تتميم المسح على العمامة، والافضل أن لا يقتصر على أقل من الناصية. ولا يكفي الاقتصار على العمامة قطعا. الحادية عشرة: مسح الاذنين ظاهرهما وباطنهما بماء جديد. ولو أخذ بأصابعه ماء لرأسه، ثم أمسك بعض أصابعه فلم يمسحه بها، فمسح الاذن بمائها، كفى لانه جديد، ويمسح الصماخين بماء جديد على المشهور. وفي قول شاذ: يكفي مسحهما ببقية بلل الاذن. قلت: ويمسح الصماخين ثلاثا، ونقلوا: أن ابن سريج رحمه الله، كان يغسل أذنيه مع وجهه، ويمسحهما مع رأسه ومنفردتين احتياطا في العمل بمذاهب

(1/171)


العلماء فيهما، وفعله هذا حسن. وقد غلط من غلطه فيه زاعما أن الجمع بينهما لم يقل به أحد. ودليل ابن سريج، نص الشافعي والاصحاب على استحباب غسل النزعتين مع الوجه، مع أنهما يمسحان في الرأس. والله أعلم. الثانية عشرة: مسح الرقبة. وهل هو سنة، أم أدب ؟ فيه وجهان. والسنة والادب يشتركان في أصل الاستحباب، لكن السنة يتأكد شأنها، والادب دون ذلك. ثم الاكثرون، على أنه يمسح بباقي بلل الرأس، أو الاذن، وقيل: بماء جديد. قلت: وذهب كثيرون من أصحابنا، إلى أنها لا تمسح، لانه لم يثبت فيها شئ أصلا، ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدمو الاصحاب. وهذا هو الصواب. والله أعلم. الثالثة عشرة: تخليل أصابع الرجلين بخنصر يده اليسرى من أسفل الرجل، مبتدئا بخنصر الرجل اليمنى، خاتما بخنصر اليسرى (1). وقيل: يخلل ما بين كل أصبعين من أصابع رجليه بأصبع من أصابع يده، ولم يذكر الجمهور تخليل أصابع اليدين، واستحبه القاضي ابن كج (2) من أصحابنا، وورد فيه حديث. قال الترمذي (3): إنه حسن. فعلى هذا تخليلها بالتشبيك بينها. ولو كانت أصابع رجليه ملتفة لا يصل الماء ما بينهما إلا بالتخليل، وجب الايصال. وإن كانت ملتحمة، لم يجب فتقها، ولا يستحب. قلت: بل لا يجوز. والله أعلم.

(1/172)


الرابعة عشرة: الدعوات على أعضاء الوضوء، فيقول عند الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وعند اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني، وحاسبني حسابا يسيرا. وعند اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري. وعند الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار. وعند الاذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وعند الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الاقدام. قلت: هذا الدعاء، لا أصل له، ولم يذكره الشافعي، والجمهور (1). والله أعلم. الخامسة عشرة: ترك الاستعانة، وهل تكره الاستعانة ؟ وجهان. قلت: الوجهان فيما إذا استعان بمن يصب عليه الماء، وأصحهما: لا يكره. أما إذا استعان بمن يغسل له الاعضاء، فمكروه قطعا. وإن استعان به في إحضار الماء، فلا بأس به، ولا يقال: إنه خلاف الاولى، وحيث كان له عذر، فلا بأس بالاستعانة مطلقا. والله أعلم. السادسة عشرة: الاصح أنه يستحب ترك التنشيف. والثاني: لا يستحب، ولا يكره. والثالث: يكره (2) والرابع: يكره في الصيف دون الشتاء. والخامس: يستحب. السابعة عشرة: أن لا ينفض يده والنفض: مكروه. قلت: في النفض أوجه. الارجح: أنه مباح، تركه وفعله سواء. والثاني: مكروه. والثالث: تركه أولى. والله أعلم. الثامنة عشرة: في مندوبات أخر، منها: أن يقول بعد التسمية: الحمد لله

(1/173)


الذي جعل الماء طهورا، وأن يستصحب النية في جميع الافعال، وأن يجمع في النية بين القلب واللسان، وأن يتعهد الموقين (1) بالسبابتين (2)، ويحرك الخاتم، ويتعهد ما يحتاج إلى الاحتياط، ويبدأ في الوجه بأعلاه، وفي الرأس بمقدمه، وفي اليد والرجل بأطراف الاصابع، إن صبه على نفسه. وإن صب عليه غيره، بدأ بالمرفق والكعب. وأن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وأن لا يسرف، ولا يزيد على ثلاث مرات، ولا يتكلم في أثناء الوضوء، ولا يلطم وجهه بالماء، ولا يتوضأ في موضع يرجع إليه رشاش الماء، وأن يمر يده على الاعضاء، وأن يقول بعد الفراغ: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين (3) سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. واعلم أن معظم هذه السنن يجئ مثلها في الغسل، وفي التسمية وجه: أنها لا تستحب في الغسل. فرع: التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء، لا يضر بلا خلاف، وكذا الكثير، على الجديد المشهور. والكثير: هو أن يمضي زمن يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص. والقليل: دون ذلك. وقيل: تؤخذ القلة والكثرة من العرف. وقيل: الكثير: مضي زمن يمكن فيه إتمام الطهارة. ومدة التفريق تعتبر من آخر المأتي به من أفعال الوضوء. ولو فرق بعذر، كنفاد الماء، لم يضر على المذهب، وقيل: فيه القولان. والنسيان عذر على الاصح. وحيث جاز التفريق، فبنى، لا يحتاج إلى تجديد النية في الاصح. والموالاة في الغسل، كهي في الوضوء على المذهب. وقيل: لا يجب مطلقا بلا خلاف. قلت: بقيت مسائل مهمة من صفة الوضوء. منها: غسل العينين. فيه

(1/174)


أوجه. أحدها: سنة. والثاني: مستحب. والثالث: لا يفعل، وهو الاصح عند الاصحاب. ولو لم يكن لرجله كعب، أو ليده مرفق، اعتبر قدره، ولو تشققت رجله، فجعل في شقوقها شمعا أو حناء، وجب إزالة عينه، فإن بقي لون الحناء، لم يضر، وإن كان على العضو دهن مائع، فجرى، الماء على العضو، ولم يثبت، صح وضوؤه، ولو كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء، لم يصح وضوؤه على الاصح. ولو قدم المضمضة والاستنشاق على غسل الكف، لم يحسب الكف على الاصح. ولو شك في غسل بعض أعضائه في أثناء الطهارة، لم يحسب له، وبعد الفراغ لا يضره الشك على الاصح. ويشترط في غسل الاعضاء: جريان الماء على العضو بلا خلاف. ويرتفع الحدث عن كل عضو بمجرد غسله. وقال إمام الحرمين: يتوقف على فراغ الاعضاء، والصواب: الاول. وبه قطع الاصحاب. ويستحب لمن يتوضأ أن يصلي عقبه ركعتين في أي وقت كان. والله أعلم (1).
باب الاستنجاء (2) الاستنجاء واجب. ولقضاء الحاجة آداب. منها: أن يستر عورته عن العيون بشجرة، أو بقية جدار، ونحوهما، فإن كان في بناء يمكن تسقيفه، كفى، ولو جلس في وسط عرصة دار واسعة، أو بستان، فليستر بقدر مؤخرة الرحل، وليكن بينه وبينها ثلاثة أذرع فما دونها. ولو أناخ راحلته وتستر بها، أو جلس في وهدة، أو نهر، أو أرخى ذيله، حصل الغرض. ومنها: أن لا يستقبل الشمس، ولا القمر بفرجه، لا في الصحراء ولا في البنيان. وهو نهي تنزيه (3).

(1/175)


قال جماعة: ويجتنب الاستدبار أيضا. والجمهور: اقتصروا على النهي عن الاستقبال. ومنها: إن كان في بناء، أو بين يديه ساتر، فالادب أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. فإن كان في صحراء ولم يستتر بشئ، حرم استقبالها واستدبارها، ولا يحرم ذلك في البناء (1). ومنها: أن لا يتخلى في متحدث الناس (2)، وأن لا يبول في الماء الراكد الكثير، والنهي عن القليل أشد (3)، وفي الليل أشد. وأن لا يبول في ثقب (4)، وأن لا يجلس تحت شجرة مثمرة لغائط، ولا بول، ولا يبول في مهب ريح. وأن يعتمد في جلوسه على رجله اليسرى، وأن يعد أحجار الاستنجاء عنده قبل جلوسه، وأن لا يستنجي بالماء، موضع قضاء الحاجة، بل ينتقل عنه. فإن كان يستنجي بالحجر، لم ينتقل. قلت: هذا في غير الا خلية المتخذة لذلك. أما الا خلية، فلا ينتقل منها للمشقة، ولانه لا يناله رشاش. والله أعلم. وأن لا يستصحب (5) ما فيه شئ من القرآن، أو ذكر الله سبحانه وتعالى، أو

(1/176)


رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كخاتم ودرهم ونحوهما، ولا يختص هذا الادب بالبنيان، بل يعم الصحراء على الصحيح. فلو غفل عن نزع الخاتم حتى اشتغل بقضاء الحاجة، ضم كفه عليه. وأن يقدم في الدخول رجله اليسرى، وفي الخروج اليمنى (1)، وسواء في هذا الادب، الصحراء والبنيان على الصحيح، فيقدم اليسرى إذا بلغ مقعده في الصحراء، ويقدم اليمنى في انصرافه، وقيل: يختص بالبنيان. وأن يستبرئ بتنحنح، ونتر ذكره عند انقطاع البول، ويكره حشو الاحليل بقطن ونحوه. قلت: يكره استقبال بيت المقدس، واستدباره، ببول أو غائط، ولا يحرم، ولا يكره الجماع مستقبل القبلة، ولا مستدبرها، لا في بناء ولا في صحراء عندنا. واستصحاب ما عليه ذكر الله تعالى. على الخلاء مكروه، لا حرام. والسنة أن يقول عند دخول الخلاء: (باسم الله (2)، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (3). ويقول إذا خرج: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الاذى وعافاني) (4). وسواء في هذا البنيان والصحراء، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الارض، ويسبله عليه إذا قام قبل انتصابه. ويكره أن يذكر الله تعالى، أو يتكلم بشئ قبل خروجه، إلا لضرورة. فإن عطس حمد الله تعالى بقلبه، ولا يحرك لسانه، وكذا يفعل في حال الجماع، والسنة أن يبعد عن الناس، وأن يبول في مكان لين لا يرتد عليه فيه بوله. ويكره في قارعة الطريق، (5) وعند القبور، ويحرم البول على القبر. وفي المسجد

(1/177)


فلو بال في إناء في المسجد فهو حرام على الاصح. ويستحب أن لا يدخل الخلاء حافيا ولا مكشوف الرأس، وأن لا ينظر إلى ما يخرج منه، ولا إلى فرجه، ولا إلى السماء، ولا يعبث بيده، ولا يكره البول في الاناء، ويكره قائما بلا عذر، ويكره إطالة القعود على الخلاء. والله أعلم (1). فصل فيما يستنجى منه إذا خرج من البدن نجس لا ينقض الطهر، لم يجزئ فيه الحجر. وأما الخارج الذي ينقض الطهر، فإن كان ريحا، لم يجب الاستنجاء. وإن كان غيره، وخرج من منفتح غير السبيلين، ففي إجزاء الحجر فيه خلاف، يأتي في الباب الآتي إن شاء الله تعالى وإن كان خارجا من السبيلين، يوجب الطهارة الكبرى، كالمني، والحيض، وجب الغسل، ولا يمكن الاقتصار على الحجر. قلت: قد صرح (2) صاحب (الحاوي) وغيره: بجواز الاستنجاء بالحجر من دم الحيض. وفائدته فيمن انقطع حيضها واستنجت بالحجر، ثم تيممت لسفر أو مرض، صلت ولا إعادة. والله أعلم. وإن أوجب الصغرى، فإن لم يكن ملوثا كدود، وحصاة بلا رطوبة، لم يجب الاستنجاء على الاظهر. قلت: والبعرة اليابسة، كالحصاة، وصرح به صاحب (الشامل) وآخرون. والله أعلم.

(1/178)


وإن كان ملوثا نادرا، كالدم، والقيح، والمذي، فثلاثة طرق (1). الصحيح قولان. أظهرهما: يجزئه الحجر. والثاني: يتعين الماء. والثاني: يجزئ الحجر قطعا. والثالث: إن خرج النادر مختلطا بالمعتاد، كفى الحجر. وإن تمحض النادر، تعين الماء. وإن كان الخارج ملوثا معتادا ولم يجاوز المخرج، فله الاقتصار على الحجر قطعا. وكذا إن جاوز المخرج، ولم يجاوز المعتاد على المذهب، وشذ بل غلط من قال: فيه قول آخر: أنه يتعين الماء. فإن جاوز المعتاد، ولم يخرج الغائط عن الاليتين، أجزأ الحجر أيضا على الاظهر. وقيل: قطعا. وقيل: يتعين الماء قطعا. والبول: كالغائط، والحشفة: كالاليتين. وقال أبو إسحاق المروزي: إذا جاوز البول الثقب، تعين الماء قطعا. والمذهب: الاول. ولو جاوز الغائط الاليتين، والبول الحشفة، تعين الماء قطعا لندوره، سواء المجاوز، وغيره. وقيل في غير المجاوز: الخلاف، وليس بشئ. وحيث اقتصر على الحجر فشرطه: أن لا تنتقل النجاسة عن الموضع الذي أصابته عند الخروج، وأن لا يجف ما على المخرج. فإن فقد أحدهما، تعين الماء قطعا (2). وقيل: إن كان الجاف بحيث يقلعه الحجر، أجزأ الحجر. فصل فيما يستنجى به غير الماء وله شروط. أحدها: أن يكون طاهرا، فلو استنجى بنجس، تعين بعده الماء، على الصحيح. وعلى الثاني: يجزئه الحجر إن كان النجس جامدا. الشرط الثاني: أن يكون منشفا قالعا للنجاسة، فلا يجزئ زجاج، وقصب، وحديد أملس، وفحم رخو، وتراب متناثر، ويجزئ فحم وتراب صلبان. وقيل في التراب والفحم: قولان مطلقا، وليس بشئ. وإن استنجى بما لا يقلع، لم يجزئه وإن أنقى. فإن نقل النجاسة، تعين الماء، وإلا أجزأ الحجر. ولو استنجى برطب من

(1/179)


حجر، أو غيره، لم يجزئه على الصحيح. الشرط الثالث: أن لا يكون محترما، فلا يجوز الاستنجاء بمطعوم، كالخبز، والعظم. ولا بما كتب عليه علم، كحديث، وفقه، وفي جزء الحيوان المتصل به، كاليد والعقب، وذنب حمار، وجهان. الصحيح: لا يجوز. وقيل: يجوز بيد نفسه، دون يد غيره. وقيل: عكسه. ويجوز بقطعة ذهب، وفضة، وجوهر نفيس خشنة على الصحيح، كما يجوز بالديباج قطعا (1). وإن استنجى بمحترم، عصى، ولا يجزئه على الصحيح، لكن يجزئه الحجر بعده، إلا أن ينقل النجاسة، وأما الجلد الطاهر، فالاظهر: أنه إن كان مدبوغا، جاز الاستنجاء به. وإلا، فلا. والثاني: يجوز مطلقا. والثالث: لا يجوز مطلقا. ولو استنجى بحجر، ثم غسله ويبس، جاز الاستنجاء به، وإن استنجى بحجر، فلم يبق على المحل شئ، فاستعمل الثاني والثالث ولم يتلوثا، جاز استعمالهما من غير غسل على الصحيح. فصل في كيفية الاستنجاء: إذا استنجى بجامد، وجب الانقاء، واستيفاء بثلاث مسحات بأحرف حجر، أو ما في معناه، أو بأحجار. ولو حصل الانقاء بدون الثلاث، وجب ثلاث. وفي وجه: يكفي الانقاء، وهو شاذ، أو غلط. وإذا لم يحصل الانقاء بثلاث، وجبت الزيادة. فإن حصل برابع، استحب الاتيان بخامس ولا يجب. وفي كيفية الاستنجاء أوجه، أصحها: يمسح بكل حجر جميع المحل، فيضعه على مقدم الصفحة اليمنى، ويديره على الصفحتين إلى أن يصل موضع ابتدائه، ويضع الثاني على مقدم الصفحة اليسرى، ويفعل مثل ذلك، ويمسح بالثالث الصفحتين والمسربة. والوجه الثاني: يمسح بحجر الصفحة اليمنى، وبالثاني اليسرى، وبالثالث الوسط. والوجه الثالث أن يمسح بالاول من مقدم المسربة إلى آخرها. وبالثاني، من آخرها إلى أولها، ويحلق بالثالث، وهذا الخلاف في الافضل على الصحيح. فيجوز عند كل قائل العدول إلى الكيفية الاخرى، وقيل: لا يجوز. قلت: وقيل: يجوز العدول من الكيفية الثانية إلى الاولى دون عكسه. والله أعلم.

(1/180)


وينبغي أن يضع الحجر على موضع طاهر بقرب النجاسة، ثم يمره على المحل، ويديره قليلا قليلا. فإن أمره ونقل النجاسة من موضع إلى موضع، تعين الماء، فإن أمر ولم يدره ولم ينقل، فالصحيح: أنه يجزئه. والثاني: لا بد من الادارة. فرع: المستحب أن يستنجي باليسار. فإن استنجى بماء، صبه باليمنى، ومسح باليسرى. وإن استنجت امرأة من بول، أو غائط، أو رجل من غائط بالحجر، مسح بيساره، ولم يستعن بيمينه في شئ. وإذا استنجى الرجل من البول بجدار أو صخرة عظيمة ونحو ذلك، أمسك الذكر بيساره ومسحه على ثلاث مواضع (1). وإذا استنجى بحجر صغير، أمسكه بين عقبيه، أو إبهامي رجليه، أو تحامل عليه إن أمكنه، والذكر في يساره. فإن لم يتمكن واضطر إلى إمساك الحجر بيده، أمسكه باليمنى، وأخذ الذكر باليسرى، وحرك اليسار وحدها. فإن حرك اليمنى، أو حركهما جميعا، كان مستنجيا باليمين. وقيل: يأخذ الذكر باليمين، والحجر باليسار ويحركها، وليس بشئ. فرع: الافضل: أن يجمع في الاستنجاء بين الماء والجامد، ويقدم الجامد. فإن اقتصر، فالماء أفضل. فرع: الخنثى المشكل في الاستنجاء من الغائط، كغيره، وليس له الاقتصار على الحجر في البول، إلا إذا قلنا: من انفتح له دون المعدة مخرج، مع انفتاح الاصلي، ينتقض وضوؤه بالخارج منه، ويجوز له الاقتصار على الحجر. أما الرجل، فمخير في فرجيه، بين الماء والحجر، وكذا المرأة البكر، وكذا الثيب (2). فإن مخرج بولها، فوق مدخل الذكر. والغالب أنها إذا بالت، نزل البول

(1/181)


إلى مدخل الذكر. فإن تحققت ذلك، تعين الماء، وإلا، جاز الحجر على الصحيح. والواجب على المرأة، غسل ما يظهر إذا جلست على القدمين. وفي وجه ضعيف: يجب على الثيب غسل باطن فرجها. قلت: ينبغي أن يستنجي قبل الوضوء والتيمم، فإن قدمهما على الاستنجاء، صح الوضوء، دون التيمم، على أظهر الاقوال. والثاني: يصحان. والثالث: لا يصحان. ولو تيمم وعلى يديه نجاسة، فهو كالتيمم قبل الاستنجاء، وقيل: يصح قطعا، كما لو تيمم مكشوف العورة (1). وإذا أوجبناه في الدودة، والحصاة، والبعرة، أجزأه الحجر على المذهب. وقيل: فيه القولان في الدم وغيره من النادر، وهذا أشهر، وقول الجمهور، ولكن الصواب: الاول. ولو وقع الخارج من الانسان على الارض، ثم ترشش منه شئ فارتفع إلى المحل، أو أصابته نجاسة أخرى، تعين الماء، لخروجه عما يعم به البلوى. ويستحب أن يبدأ المستنجي بالماء (2) بقبله، ويدلك يده بعد غسل الدبر، وينضح فرجه، أو سراويله بعد الاستنجاء دفعا للوسواس. ويعتمد في غسل الدبر على أصبعه الوسطى، ويستعمل من الماء ما يغلب على الظن زوال النجاسة به، ولا يتعرض للباطن، ولو غلب على ظنه زوال النجاسة، ثم شم من يده ريحها، فهل يدل على بقاء النجاسة في المحل كما هي في اليد، أم لا ؟ فيه وجهان، أصحهما: لا (3). والله أعلم.
باب الأحداث (4)
الحدث (5) يطلق على ما يوجب الوضوء، وعلى ما يوجب الغسل. فيقال:

(1/182)


حدث أكبر، وحدث أصغر، وإذا أطلق، كان المراد الاصغر غالبا، وهو مرادنا هنا (1). ولا ينتقض الوضوء عندنا بخارج من غير السبيلين، ولا بقهقهة المصلي، ولا بأكل لحم الجزور، ولا بأكل ما مسته النار، وفي لحم الجزور قول قديم شاذ. قلت: هذا القديم وإن كان شاذا في المذهب، فهو قوي في الدليل، فإن فيه حديثين صحيحين ليس عنهما جواب شاف. وقد اختاره جماعة من محققي أصحابنا المحدثين، وقد أوضحت كل ذلك مبسوطا في شرح (المهذب) (2) وهذا القديم مما اعتقد رجحانه. والله أعلم. وإنما ينتقض بأحد أربعة (3) أمور. الاول: الخارج من أحد السبيلين، عينا كان، أو ريحا، من قبل الرجل والمرأة، أو دبرهما، نادرا كان، كالدم والحصى، أو معتادا نجس العين، أو طاهرها، كالدود والحصى، إلا المني (4)، فلا ينقض الوضوء بخروجه، وإنما

(1/183)


يوجب الغسل. ولنا وجه شاذ: أنه يوجب الوضوء أيضا، ودبر الخنثى المشكل، كغيره. فإن خرج (1) شئ من قبليه (2)، نقض. وإن خرج من أحدهما، فله حكم المنفتح تحت المعدة. فرع: إذا انسد السبيل المعتاد وانفتح ثقبه تحت المعدة، وخرج منه المعتاد، وهو البول والغائط، نقض قطعا، وإن خرج نادر، كدم ودود وريح، نقض على الاظهر. وإن انفتح فوق المعدة مع انسداد المعتاد، أو تحتها مع انفتاحه، لم ينقض الخارج المعتاد منه، على الاظهر فإن نقض، ففي النادر القولان، وإن انفتح فوقها مع انفتاح الاصلي، لم ينقض قطعا. قلت: ذهب كثيرون من الاصحاب إلى أن فيه طريقين. الثاني: على قولين. والمذهب: أن الريح، من الخارج المعتاد، ومرادهم بتحت المعدة: ما تحت السرة، وبفوقها: السرة، ومحاذاتها، وما فوقها. والله أعلم. وحيث نقضنا، فهل يجوز الاقتصار في الخارج منه على الحجر ؟ فيه ثلاثة أقوال. وقيل: أوجه، الاظهر: لا. والثالث: يجوز في المعتاد دون النادر، والاصح: أنه لا يجب الوضوء بمسه، ولا الغسل بالايلاج فيه، ولا يحرم النظر إليه إذا كان فوق السرة، أو محاذيا لها، ولا يثبت بالايلاج فيه شئ من أحكام الوطئ قطعا، سوى الغسل على وجه. وقيل: يثبت المهر وسائر أحكام الوطئ. قلت: لو أخرجت دودة رأسها من فرجه، ثم رجعت، انتقض على الاصح (3)، والخنثى الواضح: إذا خرج من فرجه الزائد شئ، فله حكم منفتح تحت المعدة. ولو خرج من أحد قبلي مشكل، فكذلك على المذهب. و: ينتقض قطعا وقيل: عكسه. ومن له ذكران، ينتقض بكل منهما. والله أعلم. الناقض الثاني: زوال العقل، فإن كان بالجنون والاغماء والسكر، نقض بكل

(1/184)


حال. والسكر الناقض: ما لا شعور معه دون أوائل النشوة. وحكي وجه: أن السكر لا ينقض بحال، وهو غلط. وأما النوم، فحقيقته: استرخاء البدن، وزوال الاستشعار، وخفاء كلام من عنده. وليس في معناه النعاس، وحديث النفس، فإنهما لا ينقضان بحال، فإن نام ممكنا مقعده من مقره، لم ينقض. وقيل: إن استند إلى ما يسقط بسقوطه، نقض، وليس بشئ، وإن نام غير ممكن مقعده، نقض. وفي قول: لا ينقض النوم على هيئة من هيئات الصلاة، وإن لم يكن في صلاة. وفي قول: لا ينقض في الصلاة كيف كان. وفي قول: لا ينقض النوم قائما. وفي قول: ينقض وإن كان ممكنا مقعده. وهذه أقوال شاذة. قلت: لا فرق عندنا بين قليل النوم وكثيره. ولو نام محتبيا، فثلاثة أوجه. أصحها: لا ينتقض. والثالث: ينتقض وضوء نحيف الاليين دون غيره. ولو نام ممكنا مقعدته (1) فزالت إحدى أليتيه عن الارض، فإن كان قبل الانتباه، انتقض، وإن كان بعده، أو معه، أو شك، لم ينتقض. ولو شك، هل نام أم نعس ؟ أو هل نام ممكنا أم لا ؟ لم ينتقض. ولو نام على قفاه ملصقا مقعده بالارض، انتقض، ولو كان مستثفرا بشئ، انتقض أيضا على المذهب. قال الشافعي، والاصحاب: يستحب الوضوء من النوم ممكنا للخروج من الخلاف (2). والله أعلم. الناقض الثالث: لمس بشرة امرأة مشتهاة، فإن لمس شعرا، أو سنا، أو ظفرا، أو عضوا مبانا من امرأة، أو بشرة صغيرة لم تبلغ حد الشهوة، لم ينتقض وضوؤه، على الاصح. وإن لمس محرما بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة، لم ينتقض على الاظهر. وإن لمس ميتة، أو عجوزا لا تشتهى، أو عضوا أشل، أو

(1/185)


زائدا، أو لمس بغير شهوة، أو عن غير قصد، انتقض على الصحيح (1) في جميع ذلك، وينتقض وضوء الملموس على الاظهر. والمرأة كالرجل في انتقاض طهرها بلمسها من الرجل ما ينقضه منها. ولنا وجه شاذ: أنها لا تزال ملموسة، فإذا لمست رجلا، كان في انتقاضها القولان، وليس بشئ. قلت: ولو التقت بشرتا رجل وامرأة بحركة منهما، انتقضتا قطعا وليس فيهما ملموس. ولو لمس الشيخ الفاقد للشهوة شابة، أو لمست الفاقدة للشهوة شابا، أو الشابة شيخا لا يشتهى، انتقض على الاصح. والمراهق، والخصي، والعنين، ينقضون وينتقضون. ولو لمس الرجل أمرد حسن الصورة بشهوة، لم ينتقض على الصحيح. ولو شك هل هو لامس أو ملموس ؟ فهو ملموس، أو هل لمس محرما، أو أجنبية ؟ فمحرم. ولو لمس محرما بشهوة، فكلمسها بغير شهوة. ولمس اللسان، ولحم الاسنان، واللمس به، ينتقض قطعا. والله أعلم. الناقض الرابع: مس فرج الآدمي، فينتقض الوضوء إذا مس ببطن كفه فرج آدمي، من نفسه، أو غيره، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، حي أو ميت، قبلا كان الممسوس، أو دبرا. وفي فرج الصغير، والميت، وجه ضعيف، وفي الدبر قول شاذ: أنه لا ينتقض. والمراد بالدبر: ملتقى المنفذ، ومس محل الجب ينقض قطعا إن بقي شئ شاخص، فإن لم يبق شئ، نقض أيضا على الصحيح، ومس الذكر المقطوع (2) والاشل، والمس باليد الشلاء، وناسيا، ناقض على الصحيح. ولو مس بباطن أصبع زائدة، إن كانت على استواء الاصابع، نقضت على الاصح، وإلا، فلا، على الاصح. ولو كان له كفان عاملتان، نقض كل واحدة منهما (3). وإن كانت إحداهما عاملة، نقضت، دون الاخرى. وقيل: في الزائدة خلاف مطلقا. ولا ينقض مس دبر البهيمة قطعا، ولا قبلها، على الجديد المشهور. قلت: أطلق الاصحاب الخلاف في فرج البهيمة، ولم يخصوا به القبل. فإن

(1/186)


قلنا: لا ينقض مسه، فأدخل يده في فرجها، لم ينقض على الاصح. والله أعلم. هذا كله في المس ببطن كفه، فإن مس برؤوس الاصابع، أو بما بينها، أو بحرفها، أو حرف الكف، لم ينتقض على الاصح. ومن نقض برؤوس الاصابع قال: باطن الكف: ما بين الاظفار والزند طولا. ومن لم ينقض به يقول: هو القدر المنطبق إذا وضعت إحدى اليدين على الاخرى، مع تحامل يسير. وأما الممسوس فرجه، فلا ينتقض قطعا. قلت: وقيل: فيه قولان، كالملموس. والله أعلم. فرع: إذا مس الخنثى المشكل فرج واضح، فحكمه ما سبق، وإن مس فرجي نفسه، انتقض، أو أحدهما، فلا. وإن مس أحدهما، ثم صلى الصبح، ثم توضأ، ثم مس الآخر، ثم صلى الظهر، فالاصح: أنه لا يجب قضاء واحدة منهما. والثاني: يجب قضاؤهما، ولو مس أحدهما وصلى الصبح، ثم مس الآخر، وصلى الظهر من غير وضوء، أعاد الظهر قطعا فقط، أما إذا مس الواضح خنثى، فإن مس منه ما له مثله، انتقض، وإلا، فلا ينتقض (1) وضوء الرجل بمس ذكر الخنثى والمرأة بفرجه، ولا عكس. هذا إذا لم يكن بين الماس والخنثى محرمية، أو غيرها مما يمنع النقض، وحيث نقضنا الواضح، فالخنثى ممسوس لا ملموس، ولو مس المشكل فرجي مشكل، أو فرج نفسه، وذكر مشكل، انتقض. ولو مس أحد فرجي مشكل، لم ينتقض. ولو مس أحد المشكلين فرج صاحبه، ومس الآخر ذكر الاول، انتقض أحدهما لا بعينه، لكن لكل واحد منهما أن يصلي، لان الاصل: الطهارة. من القواعد التي يبنى عليها كثير من الاحكام، استصحاب حكم اليقين، والاعراض عن الشك (2)، فلو تيقن الطهارة، وشك في الحدث، أو

(1/187)


عكسه، عمل باليقين فيهما. ولو ظن الحدث بعد يقين الطهارة، فكالشك، فله الصلاة. ولنا وجه: أنه إذا شك في الحدث خارج الصلاة، وجب الوضوء، وهذا شاذ، بل غلط. ومن هذا الباب ما إذا مس الخنثى فرجه مرتين، وشك، هل الممسوس ثانيا الاول، أم الآخر ؟ أو شك من نام قاعدا، ثم تمايل وانتبه، أيهما كان أسبق ؟ أو شك هل ما رآه، رؤيا، أم حديث نفس ؟ أو هل لمس البشرة، أم الشعر ؟ فلا يلزمه الوضوء في جميع هذا. وكذا الشك في الحدث الاكبر. ولو تيقن بعد طلوع الشمس حدثا، وطهارة، ولم يعلم اسبقهما، فثلاثة أوجه. أصحها، وقول الاكثرين: أنه إن كان قبل طلوع الشمس محدثا، فهو الآن متطهرا، وإن كان متطهر فالآن محدث إن كان ممن يعتاد تجديد الوضوء، وإلا فمتطهر أيضا، وإن لم يعلم ما كان قبل طلوع الشمس، وجب الوضوء. والوجه الثاني: أنه على ما كان قبل طلوع الشمس، ولا نظر إلى ما بعده، فإن لم يعلم ما كان قبله، وجب الوضوء. والثالث: لا نظر إلى ما قبل الطلوع، بل يجب الوضوء بكل حال. قلت: الوجه الثاني: غلط صريح، وكيف يؤمر بالعمل بما تيقن بطلانه ؟ ! والوجه الثالث: هو الصحيح عند جماعات من محققي أصحابنا. وفيه وجه رابع: يعمل بغلبة الظن، وقد أوضحت دلائله في شرح (المهذب) (1). والله أعلم. فرع في بيان الخنثى المشكل لزوال إشكاله صور. منها: خروج البول. فإن بال بفرج الرجال وحده، فهو رجل، أو بفرج النساء، فامرأة. فإن بال بهما، فوجهان. أحدهما: لا دلالة فيه. وأصحهما: يدل للسابق إن اتفق انقطاعهما، وللمتأخر إن اتفق ابتداؤهما، فإن سبق واحد وتأخر آخر، فللسابق، فإن اتفقا فيهما وزاد أحدهما، أو زرق بهما، أو

(1/188)


رشش، فلا دلالة على الاصح، وعلى الثاني: يعمل بالكثرة، ويجعل بالتزريق رجلا، وبالترشيش امرأة. فإن استوى قدرهما، أو زرق بواحد ورشش بآخر، فلا دلالة. ومنها خروج المني والحيض في وقتهما. فإن أمنى بفرج الرجال، فرجل، أو بفرج النساء، أو حاض، فامرأة بشرط تكرره. فإن أمنى منهما، فوجهان: أحدهما: لا دلالة. والاصح أنه إن أمنى منهما بصفة مني الرجال، فرجل، أو بصفة مني النساء، فامرأة. فإن أمنى من أحدهما بصفة، ومن الآخر بالصفة الاخرى، فلا دلالة. وحكي وجه: أنه لا دلالة في المني (1) مطلقا وهو شاذ. ومنها خروج الولد، وهو يفيد القطع بالانوثة، فيقدم على جميع العلامات. ولو تعارض البول بالحيض، أو المني، فالاصح: لا دلالة. والثاني يقدم البول. ومنها نبات اللحية، ونهود الثدي، وتفاوت الاضلاع. والصحيح أنه لا دلالة فيها. والثاني: تدل اللحية (2)، أو نقصان ضلع من الجانب الايسر للذكورة، والنهود وتساوي الاضلاع للانوثة. ولا يدل عدم اللحية والنهود في وقتهما على الانوثة والذكورة بلا خلاف. ومنها الميل. فإذا قال: أميل إلى النساء، فرجل، أو إلى الرجال، فامرأة، بشرط العجز عن الامارات السابقة، فإنها مقدمة على الميل. ولا يرجع إليه إلا بعد بلوغه وعقله. وفي وجه: يقبل قول المميز ثم يتعلق باختياره. فروع أحدها: إذا بلغ ووجد من نفسه أحد الميلين، لزمه أن يخبر به. فإن أخر، عصى.

(1/189)


الثاني: يحرم عليه أن يخبر بالتشهي، وإنما يخبر عما يجده. الثالث: إذا قال: أميل إليهما، أو لا أميل إلى واحد منهما، استمر الاشكال. الرابع: إذا أخبر بميل، لزمه، ولا يقبل رجوعه إلا أن يخبر بالذكورة، ثم يلد، أو يظهر به حمل، فيبطل قوله، كما لو حكم بشئ من العلامات الظاهرة، ثم ظهر الحمل، فإن ذلك يبطل. الخامس: لو حكمنا بقوله، ثم ظهرت علامة غير الحمل، فيحتمل أن يرجع إليها، ويحتمل أن يبقى على قوله. قلت: الاحتمال الثاني، هو الصواب، وظاهر كلام الاصحاب. قال أصحابنا: وإذا أخبر بميله، عملنا به فيما له وعليه، ولا نرده لتهمة، كما لو أخبر صبي ببلوغه للامكان. والله أعلم. فصل يحرم على المحدث جميع أنواع الصلاة، والسجود، والطواف، ومس المصحف، وحمله، ويحرم مس حاشية المصحف، وما بين سطوره، وحمله بالعلاقة قطعا ويحرم مس الجلد على الصحيح، [ والغلاف، والصندوق ] (1) والخريطة، إذا كان فيهن المصحف، على الاصح. ولو قلب أوراقه بعود، حرم على الاصح. قلت: قطع العراقيون بالجواز، وهو: الراجح، فإنه غير حامل ولا ماس (2). ولو لف كمه على يده، وقلب به الورق، حرم عند الجمهور، وهو الصواب. وقيل: وجهان. والله أعلم.

(1/190)


ولا يحرم حمل المصحف في جملة متاع، على الاصح. وكتابة القرآن على شئ بين يديه من غير مس، ولا حمل جائزة على الاصح، ويجوز مس التوراة، والانجيل، وما نسخت (1) تلاوته من القرآن، وحملها على الصحيح. ولا يحرم مس حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمله، ولكن الاولى، التطهر له. وأما ما كتب عليه شئ من القرآن، لا للدراسة، كالدراهم الاحدية، والثياب، والعمامة، والطعام، والحيطان، وكتب الفقه، والاصول، فلا يحرم مسه، ولا حمله على الصحيح. وكذا لا يحرم كتب التفسير على الاصح. وقيل: إن كان القرآن أكثر، حرم قطعا. وقيل: إن كان القرآن بخط متميز، حرم الحمل قطعا. قلت: مقتضى هذا الكلام، أن الاصح: أنه لا يحرم إذا كان القرآن أكثر، وهذا منكر. بل الصواب: القطع بالتحريم، لانه، وإن لم يسم مصحفا، ففي معناه. وقد صرح بهذا صاحب (الحاوي) وآخرون. ونقله صاحب (البحر) عن

(1/191)


الاصحاب. والله أعلم. ويحرم على البالغ مس، وحمل اللوح المكتوب فيه قرآن، للدراسة على الصحيح، ولا يجب على الولي والمعلم منع الصبي المميز من مس المصحف واللوح اللذين يتعلم منهما، وحملهما على الاصح. ولا يحرم أكل الطعام، وهدم الحائط المنقوش بالقرآن. قلت: ويكره إحراق الخشبة المنقوشة به (1). ويكره كتابته على الحيطان، سواء المسجد وغيره، وعلى الثياب، ويحرم كتابته بشئ نجس. ولو كان على بعض بدن المتطهر نجاسة، حرم مس المصحف بموضعها، ولا يحرم بغيره على المذهب. ومن لم يجد ماء، ولا ترابا، يصلي لحرمة الوقت، ويحرم عليه مس المصحف وحمله. ولو خاف على المصحف من غرق، أو حرق، أو نجاسة، أو كافر، ولم يتمكن من الطهارة، أخذه مع الحدث للضرورة (2). والله أعلم (3).
باب الغسل (4)
موجباته أربعة.

(1/192)


الاول: الموت. ويأتي في الجنائز إن شاء الله تعالى (1). والثاني: الحيض. ثم وجوبه بخروج الدم، أم بانقطاعه ؟ أم الخروج موجب عند الانقطاع ؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث (2). والنفاس، كالحيض في الغسل ومعظم الاحكام. والثالث: إذا ألقت الحامل ولدا، أو علقة، أو مضغة، ولم تر دما، ولا بللا، لزمها الغسل على الاصح. والرابع: الجنابة، وهي بأمرين: الجماع، والانزال. أما الجماع، فتغييب قدر الحشفة في أي فرج كان، سواء غيب في قبل (3) امرأة، أو بهيمة، أو دبرهما، أو دبر رجل، أو خنثى صغير، أو كبير حي، أو ميت. ويجب على المرأة بأي ذكر دخل فرجها، حتى ذكر البهيمة، والميت، والصبي. وعلى الرجل المولج في دبره. ولا يجب إعادة غسل الميت المولج فيه على الاصح. قلت: ويصير الصبي والمجنون المولجان، [ و ] (4) المولج فيهما، جنبين بلا

(1/193)


خلاف. فإن اغتسل الصبي وهو مميز، صح غسله، ولا يجب إعادته إذا بلغ. ومن كمل منهما قبل الاغتسال، وجب عليه الغسل. وعلى الولي أن يأمر الصبي المميز بالغسل في الحال، كما يأمره بالوضوء. والله أعلم. هذا كله إذا غيب قدر الحشفة، فإن غيب دونها، لم يتعلق به حكم على الصحيح. ولنا وجه: أن تغييب قدر الحشفة من مقطوعها لا يوجب الغسل، وإنما يوجبه تغييب جميع الباقي، إن كان قدر الحشفة فصاعدا. قلت: هذا الوجه مشهور، وهو الراجح عند كثير من العراقيين، ونقله صاحب (الحاوي) عن نص الشافعي رحمه الله، ولكن الاول: أصح. والله أعلم. ولو لف على ذكره خرقة فأولجه، وجب الغسل على أصح الاوجه، ولا يجب في الثاني. والثالث إن كانت الخرقة خشنة، وهي التي تمنع وصول بلل الفرج إلى الذكر، وتمنع وصول الحرارة من أحدهما إلى الآخر، لم يجب، وإلا، وجب. قلت: قال صاحب (البحر): وتجري هذه الاوجه في إفساد الحج به، وينبغي أن تجري في جميع الاحكام. والله أعلم. فرع: ولو أولج خنثى في فرج خنثى أو دبره، أو أولج كل واحد منهما في فرج صاحبه، أو دبره، فلا غسل، ولا وضوء على أحد، إلا من نزع الذكر من دبره، فعليه الوضوء، لخروج خارج من دبره. قلت: وكذا إذا نزع من قبله. وقلنا: المنفتح تحت المعدة ينتقض الخارج منه مع انفتاح الاصلي. والله أعلم. ولو أولج الخنثى في بهيمة، أو امرأة، أو دبر رجل، فلا غسل على أحد. وعلى المرأة الوضوء بالنزع منها. وكذلك الوضوء على الخنثى، والرجل المولج فيه (1). ولو أولج رجل في فرج خنثى، فلا غسل، ولا وضوء عليهما، لاحتمال أنه

(1/194)


رجل. ولو أولج رجل في فرج خنثى، والخنثى في فرج امرأة، فالخنثى جنب، والرجل والمرأة غير جنبين، وعلى المرأة الوضوء بالنزع (1). قلت: إذا أولج ذكرا أشل، وجب عليهما الغسل على المذهب. ولو استدخلت ذكرا مقطوعا، فوجهان، كمسه. ولو كان لرجل ذكران يبول بهما، فأولج أحدهما، وجب الغسل، ولو كان يبول بأحدهما، وجب الغسل لو كان بإيلاجه، ولا يتعلق بالآخر حكم في نقض الطهارة (2). والله أعلم. الامر الثاني: الجنابة بإنزال المني. وسواء خرج من المخرج المعتاد، أو ثقبة في الصلب، أو الخصية على المذهب. وقيل: الخارج من غير المعتاد، له حكم المنفتح المذكور في باب الاحداث (3)، فيعود فيه الخلاف والتفصيل. والصلب هنا كالمعدة هناك. ثم للمني خواص ثلاث. أحدها: رائحة، كرائحة العجين، والطلع رطبا، وكرائحة بياض البيض يابسا. الثانية: التدفق بدفعات. الثالثة: التلذذ بخروجه، واستعقابه فتور الذكر، وانكسار الشهوة. ولا يشترط اجتماع الخواص، بل واحدة منهن تكفي في كونه منيا بلا خلاف. وله صفات أخر، كالبياض والثخانة في مني الرجل، والرقة والاصفرار في مني المرأة في حال الاعتدال. وليست هذه الصفات من خواصه، فعدمها لا ينفيه، ووجودها لا يقتضيه. فلو زالت الثخانة والبياض لمرض، أو خرج على لون الدم لكثرة الجماع،

(1/195)


وجب الغسل اعتمادا على بعض الخواص. وحكي وجه: أنه لا يجب بها على لون الدم، وهو شاذ. ولو تنبه من نومه، فلم ير إلا الثخانة والبياض، فلا غسل، لان الودي يشارك المني فيهما، بل يتخير بين جعله منيا ومذيا على ظاهر المذهب، وفيه الخلاف السابق في آخر صفة الوضوء. فإن قلنا بالمذهب، فغلب على ظنه المني، لكون المذي لا يليق بحاله، أو لتذكر جماع، قال إمام الحرمين: يحتمل أن تستصحب الطهارة، وأن يحمل على الظن. والاحتمال الاول مقتضى كلام معظم الاصحاب. ولو أنزل فاغتسل، ثم خرجت بقية المني، وجب الغسل ثانيا قطعا. سواء خرجت قبل البول، أو بعده. فرع: المرأة، كالرجل في وجوب الغسل بخروج منيها. قال إمام الحرمين والغزالي: لا تعرف منيها إلا بالتلذذ. وقال الاكثرون تصريحا وتعريضا: يطرد في معرفة منيها الخواص الثلاث، كالرجل. ولو اغتسلت من جماع، ثم خرج منها مني الرجل، لزمها الغسل على المذهب بشرطين. أحدهما: أن تكون ذات شهوة دون الصغيرة. والثاني: أن تقضي شهوتها بذلك الجماع، كنائمة ومكرهة. فإن اختل شرط، لم يجب الغسل قطعا. فرع: إذا استدخلت منيا في قبلها أو دبرها، لم يلزمها الغسل على المذهب. فرع: لا يجب الغسل من غسل الميت على الجديد المشهور، ولا بجنون وإغماء على المذهب. قلت: لو رأى المني في ثوبه، أو فراش لا ينام فيه غيره، ولم يذكر احتلاما، لزمه الغسل، على الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور. قال أصحابنا: ويجب إعادة كل صلاة لا يحتمل حدوث المني بعدها. ويستحب إعادة كل صلاة يحتمل كونه فيها. ثم إن الشافعي والاصحاب أطلقوا المسألة. وقال الماوردي (1):

(1/196)


هذا إذا رأى المني في باطن الثوب، فإن رآه في ظاهره، فلا غسل، لاحتمال إصابته من غيره. وإن كان ينام معه في الفراش من يجوز كون المني منه، لم يلزمه الغسل، ويستحب أن يغتسلا، ولو أحس بانتقال المني ونزوله، فأمسك ذكره، فلم يخرج منه شئ في الحال، ولا علم خروجه بعده، فلا غسل عندنا. والله أعلم. فصل: يحرم على الجنب ما يحرم على المحدث (1)، وشيئآن: قراءة القرآن، واللبث في المسجد. فأما القرآن، فيحرم، وإن كان بعض آية على قصد القرآن (2)، فلو لم يجد الجنب ماء ولا ترابا، فهل يباح له قراءة الفاتحة في صلاته ؟ وجهان. الاصح: يحرم كما يحرم ما زاد عليها قطعا، ويأتي بالتسبيح الذي يأتي به من لا يحسن القراءة، لانه عاجز شرعا. قلت: الاصح (3) الذي قطع به جماهير العراقيين: أنه يجب عليه قراءة الفاتحة، لانه مضطر إليها. والله أعلم. ولو قرأ شيئا منه ولم يقصد القرآن، جاز، كقوله: بسم الله، والحمد لله، أو قال: * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) (4) * على قصد سنة الركوب. ولو جرى هذا على لسانه ولم يقصد قرآنا ولا ذكرا، جاز. ويحرم على الحائض والنفساء ما يحرم على الجنب من القراءة على المذهب، وأثبت جماعة من المحققين قولا قديما أنها لا تحرم. قلت: ولو كان فم غير الجنب والحائض نجسا، ففي تحريم القراءة عليه

(1/197)


وجهان، الاصح يكره ولا يحرم. ولا تكره القراءة في الحمام. ويجوز للحائض والجنب قراءة ما يستحب تلاوته. والله أعلم. وأما اللبث في المسجد، فحرام على الجنب، ولا يحرم عليه العبور، لكن يكره إلا لغرض (1)، بأن يكون المسجد طريقه إلى مقصده، أو أقرب الطريقين إليه، وفي وجه: إنما يجوز العبور إذا لم يكن طريق سواه، وليس بشئ. ويحرم التردد في جوانبه، فإنه كالمكث. ويجوز المكث للضرورة، بأن نام في المسجد، فاحتلم ولم يمكن الخروج، لاغلاق الباب، أو خوف العسس، أو غيره على النفس، أو المال. ويجب أن يتيمم إن وجد غير تراب المسجد، ولا يتيمم بترابه (2). قلت: يجوز لغير الجنب (3) والحائض النوم في المسجد (4)، نص عليه الشافعي في (الام) والاصحاب رحمهم الله. ولو احتلم في مسجد له بابان، أحدهما أقرب، فالاولى أن يخرج منه، فإن عدل إلى آخر لغرض، لم يكره، وإن لم يكن غرض، لم يكره على الاصح. والله أعلم. فرع: فضل ماء الجنب والحائض طهور لا كراهة في استعماله. ويجوز للجنب أن يجامع، وأن ينام، ويأكل، ويشرب، لكن يسن أن لا يفعل شيئا من ذلك إلا بعد غسل فرجه والوضوء. قلت: قال أصحابنا: لا يستحب هذا الوضوء، و (كذا) غسل الفرض للحائض والنفساء، لانه لا يفيد، فإذا انقطع دمها، صارت كالجنب. والله أعلم. فصل في كيفية الغسل: أقله شيئان: أحدهما: النية، وهي واجبة، وتقدم ذكر فروعها في صفة الوضوء. ولا يجوز أن يتأخر عن أول الغسل المفروض، فإن اقترنت به، كفى، ولا ثواب له في

(1/198)


السنن المتقدمة. وإن تقدمت على المفروض وعزبت قبله، فوجهان، كما في الوضوء، ثم إن نوى رفع الجنابة، أو رفع الحدث عن جميع البدن، أو نوت الحائض رفع حدث الحيض، صح الغسل (1). وإن نوى رفع الحدث، ولم يتعرض للجنابة ولا غيرها، صح غسله على الاصح (2)، ولو نوى رفع الحدث الاصغر متعمدا، لم يصح غسله على الاصح، وإن غلط، فظن حدثه الاصغر، لم ترتفع الجنابة عن غير أعضاء الوضوء. وفي أعضاء الوضوء وجهان، أحدهما: لا يرتفع، وأصحهما: يرتفع عن الوجه واليدين والرجلين، دون الرأس على الاصح، ولو نوى استباحة ما يتوقف عن الغسل، كالصلاة، والطواف، وقراءة القرآن، أجزأه. ولو نوت الحائض استباحة الوطئ، صح على الاصح. وإن نوى ما لا يستحب له الغسل، لم يصح. وإن نوى ما يستحب له، كالعبور في المسجد، والاذان، وغسل الجمعة، والعيد، لم يجزه على الاصح، كما سبق في الوضوء. ولو نوى الغسل المفروض، أو فريضة الغسل، أجزأه قطعا. الثاني: استيعاب جميع البدن بالغسل، ومن ذلك ما ظهر من صماخي الاذنين، والشقوق في البدن، وكذا ما تحت القلفة (3) من الاقلف، وما ظهر من أنف المجدوع على الاصح فيهما، وكذا ما يبدو، من الثيب إذا قعدت لقضاء الحاجة، على أصح الاوجه، وعلى الثاني: لا يجب غسل ما وراء ملتقى الشفرين، وعلى الثالث: يجب في غسل الحيض والنفاس خاصة، لازالة دمهما، ولا يجب ما وراء ما ذكرناه قطعا، ولا المضمضة، والاستنشاق. ويجب إيصال الماء (4) جميع الشعور التي (5) على البشرة، وإلى منابتها، وإن كثفت، ولا يجب غسل شعر نبت في

(1/199)


العين، ويسامح ببطن العقد التي على الشعرات على الاصح، وعلى وجه، يجب قطعها. [ قلت: هذا الذي صححه، هو الذي صححه صاحب (البحر) والصحيح: أنه لا يعفى عنه، لانه يمكن قطعها بلا خلاف، وهو ظاهر نص الشافعي والجمهور، وقد أوضحته في شرح (المهذب). والله أعلم ] (1). ويجب نقض الظفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض، ولا يجب إن وصل. أما أكمل الغسل فيحصل بأمور. الاول: أن يغسل ما على بدنه من أذى أولا، كالمني ونحوه من القذر الطاهر، وكذا النجس. وتقديم إزالة النجاسة شرط لصحة الغسل. فلو غسل غسلة واحدة بنية الحدث والنجس، طهر عن النجس. ولا يطهر عن الحدث على المذهب (2).

(1/200)


قلت: الاصح أنه يطهر عن الحدث أيضا، وقد تقدم. والله أعلم. وإذا قلنا: الغسلة الواحدة تكفي عن الحدث والنجس، كان تقديم إزالة النجاسة من الكمال. وإن قلنا: لا يكفي، لم تكن الازالة من الكمال، ولا من الاركان، بل تكون شرطا، خلافا لكثير من أصحابنا، حيث قالوا: واجبات الغسل ثلاثة: غسل النجاسة إن كانت، والنية، والاستيعاب. الثاني: أن يتوضأ، كما يتوضأ للصلاة. وتحصل سنة الوضوء سواء أخر غسل القدمين إلى الفراغ، أو فعله بعد مسح الرأس والاذن. وأيهما أفضل، قولان. المشهور أنه لا يؤخر. ثم إن تجردت الجنابة عن الحدث، فالوضوء مندوب. وإن اجتمعا، فقد قدمنا في آخر باب صفة الوضوء الخلاف في اندراجه في الغسل، فإن قلنا بالمذهب: أنه يندرج، فالوضوء مندوب، ويعد من سنن الغسل. وإن أوجبنا الوضوء، امتنع عده من سنن الغسل، فإنه لا صائر إلى أن (1) يأتي بوضوءين، بل يقتصر على وضوء. فإن شاء قدمه على الغسل، وإن شاء أخره. وعلى هذا لا بد من إفراد الوضوء بالنية. وإذا قلنا بالاندراج، لا يحتاج إلى إفراده بنية. قلت: المختار أنه إن تجردت الجنابة، نوى بوضوئه سنة الغسل، وإن اجتمعا، نوى به رفع الحدث الاصغر. والله أعلم. واعلم أنه يتصور تجرد الجنابة في صور. منها أن يولج في بهيمة أو دبر رجل. ومنها أن يلف على ذكره خرقة ويولجه، وإذا قلنا: إنه يجب الغسل. ومنها إذا أنزل المتوضئ المني بنظر، أو فكر، أو في النوم قاعدا. وأما جماع المرأة بلا حائل، فيقع به الحدثان على الصحيح، وقيل: تقتضي الجنابة فقط، ويكون اللمس مغمورا.

(1/201)


الثالث: أن تتعهد مواضع الانعطاف، والالتواء، كالاذنين، وغضون البطن، ومنابت الشعر. ويخلل أصول الشعر بالماء قبل إفاضته. الرابع: يفيض الماء على رأسه، ثم على شقه الايمن، ثم الايسر، ويكون غسل جميع البدن ثلاثا، كالوضوء، فإن اغتسل في نهر ونحوه، انغمس ثلاث مرات، ويدلك في كل مرة ما يصل يده. ولا يستحب تجديد الغسل على الصحيح. الخامس: إذا اغتسلت عن حيض، أو نفاس، يسن لها أن تأخذ طيبا وتجعله في قطنة، أو نحوها، وتدخلها فرجها (1)، والمسك أولى من غيره. فإن لم تجده، فطيبا آخر، فإن لم تجد، فطينا، فإن لم تفعل، فالماء كاف (2). السادس: ماء الوضوء والغسل غير مقدر، ويستحب أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وماء الغسل عن صاع تقريبا. قلت: الاصح المد هنا: رطل وثلث بالبغدادي على المذهب. وقيل: رطلان. والصاع أربعة أمداد. والله أعلم. السابع: يستحب أن يستصحب النية إلى آخر الغسل، وأن لا يغتسل في الماء الراكد، وأن يقول بعد الفراغ: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) وقد تقدم في باب صفة الوضوء سنن كثيرة تدخل هنا. قلت: لا يجوز الغسل بحضرة الناس إلا مستور العورة (3). ويجوز في الخلوة

(1/202)


مكشوفها، والستر أفضل. ولو ترك المغتسل المضمضة والاستنشاق، أو الوضوء، قال الشافعي والاصحاب رحمهم الله: فقد أساء، ويستحب أن يتدارك ذلك، ولا يجب ترتيب في أعضاء المغتسل، لكن يستحب البداءة بأعضاء الوضوء ثم بالرأس وأعالي البدن. ولو أحدث في أثناء غسله، جاز أن يتمه، ولا يمنع الحدث صحته، لكن لا يصلي حتى يتوضأ (1). ويجوز الغسل من إنزال المني قبل البول، والافضل بعده لئلا يخرج بعده مني. ولا يجب غسل داخل العين، وحكم استحبابه على ما سبق في الوضوء. ولو غسل بدنه إلا شعرة أو شعرات ثم نتفها، قال الماوردي: إن كان الماء وصل أصلها، أجزأه، وإلا لزمه إيصاله إليه. وفي فتاوى ابن الصباغ: يجب غسل ما ظهر، وهو الاصح. وفي (البيان) وجهان (2). أحدهما: يجب. والثاني: لا لفوات ما يجب غسله، كمن توضأ وترك رجله فقطعت. والله أعلم.

(1/203)