روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب صلاة الكسوف (1)
يطلق الكسوف والخسوف على الشمس والقمر جميعا (2). وصلاة كسوف الشمس والقمر سنة مؤكدة، وتسن في أوقات الكراهة وغيرها. وأقلها أن يحرم بنية صلاة الكسوف، ويقرأ الفاتحة، ويركع ثم يرفع، فيقرأ الفاتحة ثم يركع ثانيا، ثم يرفع ويطمئن، ثم يسجد، فهذه ركعة، ثم يصلي ركعة ثانية كذلك (3)، فهي ركعتان، في كل ركعة قيامان وركوعان، ويقرأ الفاتحة في كل

(1/591)


قيام (1). فلو تمادى الكسوف، فهل يزيد ركوعا ثالثا ؟ وجهان. أحدهما: يزيد ثالثا ورابعا وخامسا، حتى ينجلي الكسوف، قاله ابن خزيمة، والخطابي، وأبو بكر الضبعي من أصحابنا، للاحاديث الواردة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين، في كل ركعة أربع ركوعات، وروي خمس ركوعات، ولا محمل له إلا التمادي، وأصحهما: لا تجوز الزيادة، كسائر الصلوات. روايات الركوعين أشهر وأصح، فيؤخذ بها، كذا قاله الائمة، ولو كان في القيام الاول، فانجلى الكسوف، لم تبطل صلاته. وهل له أن يقتصر على قومة واحدة، وركوع واحد في كل ركعة ؟ وجهان بناء على الزيادة عند التمادي، إن جوزنا الزيادة، جاز النقصان بحسب مدة الكسوف، وإلا فلا. ولو سلم من الصلاة والكسوف باق، فهل له أن يستفتح صلاة الكسوف مرة أخرى ؟ وجهان خرجوهما على جواز زيادة عدد الركوع، والمذهب المتبع. وأكملها أن يقرأ في القيام الاول بعد الفاتحة وسوابقها سورة (البقرة) أو مقدارها إن لم يحسنها، وفي الثاني: (آل عمران) أو مقدارها. وفي الثالث: (النساء) أو قدرها. وفي الرابع: (المائدة) أو قدرها. وكل ذلك بعد الفاتحة. هذه رواية البويطي، ونقل المزني في (المختصر): أنه يقرأ في الاول (البقرة) أو قدرها إن لم يحفظها. وفي الثاني قدر مائتي آية من سورة (البقرة). وفي الثالث: قدر مائة (2) آية وخمسين آية منها، وفي الرابع: قدر مائة آية منها، وهذه الرواية هي التي قطع بها الاكثرون، وليستا على الاختلاف المحقق،

(1/592)


بل الامر فيه على التقريب، وهما متقاربتان. قلت: وفي استحباب التعوذ في ابتداء القراءة في القومة الثانية، وجهان حكاهما في (الحاوي)، وهما الوجهان في الركعة الثانية. والله أعلم. وأما قدر مكثه في الركوع، فينبغي أن يسبح في الركوع الاول قدر مائة آية من (البقرة) وفي الثاني: قدر ثمانين منها، وفي الثالث: قدر سبعين. وفي الرابع: قدر خمسين (1)، والامر فيه على التقريب. ويقول في الاعتدال من (2) كل ركوع: (سمع الله لمن حمده) و (ربنا لك الحمد) (3) وهل يطول السجود في هذه

(1/593)


الصلاة ؟ قولان. أظهرهما: لا يطوله كما لا يطول التشهد، ولا الجلوس بين السجدتين. والثاني: يطول. نقله البويطي، والترمذي، والمزني، عن الشافعي (1). قلت: الصحيح المختار (2)، أنه يطول السجود (3) وقد ثبت في إطالته أحاديث كثيرة في (الصحيحين) عن جماعة من الصحابة. ولو قيل: إنه يتعين الجزم به، لكان قولا صحيحا، لان الشافعي رضي الله عنه قال: ما صح فيه الحديث، فهو قولي ومذهبي. فإذا قلنا بإطالته، فالمختار فيها ما قاله صاحب (التهذيب) (4) أن السجود الاول كالركوع الاول، والسجود الثاني، كالركوع الثاني. وقال الشافعي رحمه الله في البويطي: إنه نحو الركوع الذي قبله. وأما الجلسة بين السجدتين، فقد قطع (5) الرافعي بأنه لا يطولها. ونقل الغزالي الاتفاق على أنه لا يطولها. وقد صح في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم فعل في الركعة الاخرى مثل ذلك (6). وأما الاعتدال بعد الركوع الثاني،

(1/594)


فلا يطول بلا خلاف، وكذا التشهد. والله أعلم.
فصل : يستحب الجماعة في صلاة الكسوفين. ولنا وجه: أن الجماعة فيها شرط، ووجه: أنها لا تقام إلا في جماعة واحدة كالجمعة، وهما شاذان (1). ويستحب أن ينادي لها: الصلاة جامعة. وأن يصلي في الجامع، وأن يخطب بعد الصلاة خطبتين كخطبتي الجمعة (2) في الاركان والشرائط (3)، سواء صلوها جماعة في مصر، أو صلاها المسافرون في الصحراء. ويحث الامام الناس في هذه الخطبة على التوبة من المعاصي وعلى فعل الخير. قلت: ويحرضهم على الاعتاق والصدقة، ويحذرهم الغفلة والاغترار. ففي (صحيح البخاري) (4) عن أسماء رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالعتاقة في كسوف الشمس. والله أعلم. ومن صلى منفردا، لم يخطب. ويستحب الجهر بالقراءة في كسوف القمر، والاسرار في الشمس، هذا هو المعروف. وقال الخطابي: الذي يجئ على مذهب الشافعي رحمه الله: أنه يجهر في الشمس. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام في الركوع الاول من الركعة الاولى، فقد أدرك الصلاة، وإن أدركه في الركوع الاول من الركعة الثانية، فقد أدرك الركعة، فإذا سلم الامام، قام فصلى ركعة بركوعين. ولو أدركه في الركوع الثاني من إحدى الركعتين، فالمذهب الذي نص عليه في البويطي، واتفق الاصحاب على تصحيحه، أنه لا يكون مدركا لشئ من الركعة. وحكى صاحب (التقريب) قولا آخر أنه بإدراك الركوع الثاني يكون مدركا للقومة التي قبله، فعلى هذا لو أدرك الركوع الثاني من الاول، وسلم الامام، قام وقرأ وركع واعتدل وجلس وتشهد

(1/595)


وسلم، ولا يسجد، لان إدراك الركوع إذا حصل القيام الذي قبله، كان السجود بعده محسوبا لا محالة. وعلى المذهب: لو أدركه في القيام الثاني لا يكون مدركا لشئ من الركعة أيضا.
فصل : تفوت صلاة كسوف الشمس بأمرين. أحدهما: انجلاء جميعها، فإن انجلى البعض فله الشروع في الصلاة للباقي، كما لو لم ينكسف إلا ذلك القدر. ولو حال سحاب وشك في الانجلاء، صلى. ولو كانت الشمس تحت غمام، فظن الكسوف، لم يصل حتى يستيقن. قلت: قال الدارمي وغيره: ولا يعمل في كسوفها بقول المنجمين. والله أعلم. الثاني: أن تغرب كاسفة، فلا يصلي. وتفوت صلاة خسوف القمر بأمرين. أحدهما: الانجلاء كما سبق. والثاني: طلوع الشمس. فإذا طلعت وهو بعد خاسف، لم يصل. ولو غاب في الليل خاسفا، صلى كما لو استتر بغمام. ولو طلع الفجر وهو خاسف، أو خسف بعد الفجر، صلى على الجديد. وعلى هذا لو شرع في الصلاة بعد الفجر، فطلعت الشمس في أثنائها، لم تبطل صلاته، كما لو انجلى الكسوف في الاثناء (1). وقال القاضي ابن كج: هذان القولان فيما إذا غاب خاسفا بين الفجر وطلوع الشمس، فأما إذا لم يغب وبقي خاسفا، فيجوز الشروع في الصلاة بلا خلاف. قلت: صرح الدارمي وغيره بجريان القولين في الحالين. قال صاحب (البحر): ولو ابتدأ الخسوف بعد طلوع الشمس، لم يصل قطعا. والله أعلم. فصل: إذا اجتمعت صلاتان في وقت، قدم ما يخاف فوته (2)، ثم الاوكد.

(1/596)


فلو اجتمع عيد وكسوف، أو جمعة وكسوف، وخيف فوت العيد أو الجمعة لضيق وقتها، قدمت، وإن لم يخف، فالاظهر: يقدم الكسوف. والثاني: العيد والجمعة، لتأكدهما، وباقي الفرائض كالجمعة. ولو اجتمع كسوف ووتر أو تراويح، قدم الكسوف (1) مطلقا، لانها أفضل. ولو اجتمع جنازة وكسوف أو عيد، قدم الجنازة (2)، ويشتغل الامام بعدها بغيرها، ولا يشيعها، فلو لم تحضر الجنازة، أو حضرت ولم يحضر الولي، أفرد الامام جماعة ينتظرون الجنازة واشتغل هو بغيرها. ولو حضرت جنازة وجمعة ولم يضق الوقت، قدمت الجنازة. وإن ضاق الوقت، قدمت الجمعة على المذهب. وقال الشيخ أبو محمد: تقدم الجنازة، لان الجمعة لها بدل. فرع: إذا اجتمع العيد والكسوف، خطب لهما بعد الصلاتين خطبتين يذكر فيهما العيد والكسوف (3). ولو اجتمع جمعة وكسوف، واقتضى الحال تقديم الجمعة، خطب لها، ثم صلى الجمعة، ثم الكسوف، ثم خطب لها. وإن اقتضى تقديم الكسوف، بدأ بها، ثم خطب للجمعة خطبتين يذكر فيهما شأن الكسوف، ولا تحتاج إلى أربع خطب، ويقصد بالخطبتين الجمعة خاصة. ولا يجوز أن يقصد الجمعة والكسوف، لانه تشريك بين فرض ونفل، بخلاف العيد والكسوف، فإنه يقصدهما جميعا بالخطبتين، لانهما سنتان (4).

(1/597)


فرع: اعترضت طائفة على قول الشافعي: اجتمع عيد وكسوف، وقالت: هذا محال، فإن الكسوف لا يقع إلا في الثامن والعشرين، أو التاسع والعشرين فأجاب الاصحاب بأجوبة. أحدها: أن هذا قول المنجمين، وأما نحن، فنجوز الكسوف في غيرهما، فإن الله تعالى على كل شئ قدير. وقد نقل مثل ذلك، فقد صح أن الشمس كسفت يوم مات إبرهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى الزبير بن بكار (2) في (الانساب): أنه توفي في العاشر من شهر ربيع الاول. وروى البيهقي مثله عن الواقدي (3). وكذا اشتهر أن قتل الحسين رضي الله عنه كان يوم عاشوراء. وروى البيهقي عن أبي قبيل (4) أنه لما قتل الحسين، كسفت الشمس. الثاني: أن وقوع العيد في الثامن والعشرين يتصور بأن يشهد شاهدان على

(1/598)


نقصان رجب، وآخران على نقصان شعبان ورمضان، وكانت في الحقيقة كاملة، فيقع العيد في الثامن والعشرين. الثالث: لو لم يقع ذلك، لكان تصوير الفقيه له حسنا، ليتدرب باستخراج الفروع الدقيقة (1). فصل ما سوى الكسوفين من الآيات، كالزلازل والصواعق والرياح الشديدة، لا يصلى لها جماعة، لكن يستحب الدعاء والتضرع. ويستحب لكل أحد أن يصلي منفردا لئلا يكون غافلا. وروى الشافعي: أن عليا كرم الله وجهه، صلى في زلزلة جماعة، قال الشافعي: إن صح قلت به، فمن الاصحاب من قال: هذا قول آخر له، في الزلزلة وحدها، ومنهم من عممه في جميع الآيات. قلت: لم يصح ذلك عن علي رضي الله عنه، قال الشافعي والاصحاب: يستحب للنساء غير ذوات الهيئات صلاة الكسوف مع الامام، وأما ذوات الهيئات، فيصلين في البيوت منفردات. قال الشافعي: فإن اجتمعن، فلا بأس، إلا أنهن لا يخطبن، فإن قامت واحدة وعظتهن وذكرتهن، فلا بأس. والله أعلم.

(1/599)