روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الجنائز (1)
يستحب لكل واحد ذكر الموت. قلت: ويستحب الاكثار منه. والله أعلم. ويستعد له بالتوبة، ورد المظالم إلى أهلها، والمريض آكد. ويستحب له الصبر على المرض، وترك الانين ما أطاق، ويستحب التداوي، ويستحب لغيره عيادته إن كان مسلما، فإن كان ذميا له قرابة أو جوار أو نحوهما، استحبت، وإلا جازت، فإن رأى العائد علامة البرء، دعا (2) وانصرف، وإن رأى خلاف ذلك، رغبه في التوبة والوصية. قلت: ويستحب للعائد أن يطيب نفس المريض ولا يطول القعود، ولا يواصل العيادة، بل تكون غبا (3)، ولا تكره العيادة في وقت إلا أن يشق على المريض. والله أعلم.

(1/609)


فصل في آداب المحتضر: يستقبل به القبلة. وفي كيفيته وجهان. أحدهما: يلقاه (1) على قفاه وأخمصاه إلى القبلة. والثاني وهو الصحيح المنصوص وبه قطع العراقيون (2) وصححه الاكثرون (3): يضجع على جنبه الايمن مستقبل القبلة كالموضوع في اللحد، فإن لم يمكن لضيق الموضع، أو سبب آخر، فعلى قفاه (4)، ووجهه وأخمصاه إلى القبلة. ويستحب أن يلقن كلمة الشهادة (5)، ولا يلح الملقن ولا يواجهه بقول: قل: (لا إله إلا الله) بل يذكرها بين يديه ليذكر. أو يقول: ذكر الله تعالى مبارك، فنذكر الله تعالى جميعا [ ويقول: ] (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فإذا (6) قالها مرة لا تعاد عليه ما لم يتكلم بعدها (7)، ويستحب أن يلقنه غير الورثة، فإن لم يحضر غيرهم، لقنه أشفقهم عليه. قلت: هكذا قال الجمهور، يلقنه كلمة الشهادة (لا إله إلا الله). وذهب جماعات من أصحابنا إلى أنه يلقن أيضا: محمدا رسول الله. ممن صرح به، القاضي أبو الطيب، والماوردي، وسليم الرازي (8)، ونصر المقدسي، وأبو العباس

(1/610)


الجرجاني، والشاشي في (المعتمد) والاول أصح. والله أعلم. ويستحب أن يقرأ عنده (1) (يس). واستحب جعض التابعين سورة (الرعد) أيضا. وينبغي له أن يحسن ظنه بالله تعالى، ويستحب لمن عنده، تحسين ظنه وتطميعه في رحمة الله تعالى. فإذا مات غمضت عيناه، وشد لحياه بعصابة عريضة، ويربطها فوق رأسه، ويلين مفاصله، فيمد ساعده إلى عضده ويرده، ويرد ساقه إلى فخذه، وفخذه إلى بطنه، ويردهما ويلين أصابعه، وينزع ثيابه التي مات فيها، ويستر جميع بدنه بثوب خفيف، ولا يجمع عليه أطباق الثياب، ويجعل أطراف الثوب الساتر تحت رأسه ورجليه لئلا ينكشف، ويوضع على بطنه شئ ثقيل، كسيف، أو مرآة، أو نحوهما. فإن لم يكن، فطين رطب، ويصان المصحف عنه، ويستقبل به القبلة كالمحتضر، ويوضع على شئ مرتفع، كسرير ونحوه، ويتولى هذه الامور أرفق محارمه بأسهل ما يقدر عليه. قلت: يتولاه الرجال من الرجال، والنساء من النساء، فإن تولاه الرجال من النساء (2) المحارم، أو النساء من الرجال (3) المحارم، جاز. والله أعلم. ويبادر إلى قضاء دينه وتنفيذ وصيته إن تيسر في الحال. قلت: يكره تمني الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا، فليقل: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) (4). فإن

(1/611)


كان تمنيه مخافة فتنة في دينه فلا بأس. ويكره للمريض كثرة الشكوى، وتكره الكراهة (1) على تناول الدواء. ويستحب للناس أن يقولوا عند الميت خيرا. ويجوز لاهل الميت وأصدقائه تقبيل وجهه، ثبتت فيه الاحاديث (2)، وصرح به الدارمي. ويكره نعيه بنعي الجاهلية، ولا بأس بالاعلام بموته للصلاة عليه وغيرها. والله أعلم.
باب غسل الميت
يستحب المبادرة إلى غسله وتجهيزه إذا تحقق موته، بأن يموت بعلة، أو تظهر أمارات الموت، بأن يسترخي قدماه، فلا (3) ينتصبا، أو يميل أنفه، أو ينخسف صدغاه، أو تمتد جلدة وجهه، أو ينخلع كفاه من ذراعيه، أو تتقلص خصيتاه إلى فوق مع تدلي الجلدة، وإن (4) شك بأن لا يكون به علة، واحتمل أن يكون به سكتة، أو أظهرت أمارات فزع أو غيره، أخر إلى التيقين (5) بتغيير الرائحة أو غيره (6). فصل: غسل الميت فرض كفاية (7)، وكذا التكفين والصلاة عليه والدفن

(1/612)


بالاجماع. وأقل الغسل: استيعاب البدن مرة بعد إزالة النجاسة إن كانت (1). وفي اشتراط نية الغسل على الغاسل وجهان. أصحهما فيما ذكره الروياني وغيره: لا يشترط. قلت: صححه الاكثرون، وهو ظاهر نص الشافعي. والله أعلم. ولو غسل الكافر مسلما، فالصحيح المنصوص: أنه يكفي. ولو غرق إنسان، ثم ظفرنا به، لميكف ما سبق، بل يجب غسله على الصحيح المنصوص (2). أما أكمل الغسل، فيستحب أن يحمل (3) الميت إلى موضع خال مستور لا يدخله إلا الغاسل، ومن لا بد من معونته عند الغسل. وذكر الروياني وغيره: أن للولي أن يدخل إن شاء، وإن لم يغسل ولم يعن، ويوضع على لوح أو سرير هيئ له، ويكون موضع رأسه أعلى لينحدر الماء، ويغسل في قميص يلبسه عند إرادته (4) غسله. ولنا وجه: أن الاولى أن يجرد. والصحيح المعروف: هو الاول. وليكن القميص باليا أو سخيفا. ثم إن كان القميص واسعا، أدخل يده في كمه، وغسل (5) من تحته، وإن كان ضيقا، فتق رأس الدخاريض (6) وأدخل يده فيه (7). ولو لم يوجد

(1/613)


قميص، أو لم يتأت غسله فيه، ستر منه ما بين السرة والركبة، وحرم النظر إليه. ويكره للغاسل أن ينظر إلى شئ من بدنه إلا لحاجة بأن يريد معرفة المغسول. وأما المعين، فلا ينظر إلا لضرورة، ويحضر ماء باردا في إناء كبير ليغسل به، وهو أولى من المسخن، إلا أن يحتاج إلى المسخن لشدة البرد (1)، أو لوسخ، أو غيره. وينبغي أن يبعد الاناء الذي فيه الماء عن المغتسل، بحيث لا يصيبه رشاش الماء عند الغسل. فرع: ويعد الغاسل قبل الغسل خرقتين نظيفتين، وأول ما يبدأ به بعد وضعه على المغتسل، أن يجلسه إجلاسا رفيقا، بحيث لا يعتدل، ويكون مائلا إلى ورائه، ويضع يده اليمنى على كتفه، وإبهامه في نقرة قفاه، لئلا يميل رأسه، ويسند ظهره إلى ركبته اليمنى، ويمر يده اليسرى على بطنه إمرارا بليغا لتخرج الفضلات، ويكون عنده مجمرة فائحة بالطيب، ويصب عليه المعين ماء كثيرا لئلا تظهر رائحة ما يخرج، ثم يرده إلى هيئة الاستلقاء، ويغسل بيساره - وهي ملفوفة بإحدى الخرقتين - دبره ومذاكره (2) (3) وعانته، كما يستنجي الحي، ثم يلقي تلك الخرقة، ويغسل يده بماء وإشنان. كذا قال الجمهور: إنه يغسل السوءتين معا بخرقة (4) واحدة. وفي (النهاية) و (الوسيط): أنه يغسل كل سوءة بخرقة، ولا شك

(1/614)


أنه أبلغ في النظافة، ثم يتعهد ما على بدنه من قذر ونحوه. فرع: فإذا فرغ مما قدمناه، لف الخرقة الاخرى على اليد، وأدخل أصبعه في فيه، وأمرها على أسنانه بشئ من الماء، ولا يفتح أسنانه، ويدخل أصبعه في منخريه بشئ من الماء ليزيل ما فيهما من أذى. ثم يوضئه كوضوء الحي ثلاثا ثلاثا مع المضمضة والاستنشاق، ولا يكفي ما قدمناه من إدخال الاصبعين عن المضمضة والاستنشاق، بل ذاك كالسواك. هذا مقتضى كلام الجمهور. وفي (الشامل) وغيره: ما يقتضي الاكتفاء. والاول أصح. ويميل رأسه في المضمضة والاستنشاق، لئلا يصل الماء باطنه. وهل يكفي وصول الماء مقاديم الشفتين (1) والمنخرين، أم يوصله إلى الداخل ؟ حكى إمام الحرمين فيه ترددا، لخوف الفساد، وقطع بأن أسنانه لو كانت متراصة لا تفتح. فرع: فإذا فرغ من وضوئه، غسل رأسه، ثم لحيته، بالسدر والخطمي، وسرحهما بمشط واسع الاسنان إن كانا متلبدين، ويرفق لئلا ينتف شعر، فإن انتتف رده إليه (2). ثم يغسل شقه الايمن المقبل من عنقه، وصدره، وفخذه، وساقه، وقدمه. ثم يغسل شقه الايسر كذلك، ثم يحوله إلى جنبه الايسر، فيغسل شقه الايمن مما يلي القفا والظهر من الكتفين إلى القدم، ثم يحوله إلى جنبه الايمن، فيغسل شقه الايسر كذلك. هذا نص الشافعي في (المختصر). وبه قال أكثر الاصحاب، وحكى العراقيون وغيرهم قولا آخر: أنه يغسل جانبه الايمن من مقدمه، ثم يحوله فيغسل جانب ظهره الايمن، ثم يلقيه على ظهره فيغسل جانبه الايسر من مقدمه، ثم يحوله فيغسل جانب ظهره الايسر. قالوا: وكل واحد من هذين الطريقين سائغ، والاول أولى. وقال إمام الحرمين، والغزالي في آخرين: يضجع أولا على جنبه الايسر، فيصب الماء على شقه الايمن من رأسه إلى قدمه، ثم

(1/615)


يضجع على جنبه الايمن، فيصب على شقه الايسر. والجمهور على ما قدمناه، وعلى أن غسل الرأس لا يعاد، بل يبدأ بصفحة العنق فما تحتها، وقد حصل غسل الرأس أولا. ويجب الاحتراز عن كبه على الوجه. ثم جميع ما ذكرناه غسلة واحدة. وهذه الغسلة تكون بالماء والسدر والخطمي، ثم يصب عليه الماء القراح، من قرنه إلى قدمه. ويستحب أن يغسله ثلاثا، فإن لم تحصل النظافة، زاد حتى تحصل، فإن حصل بشفع، استحب الايتار، وهل يسقط الفرض بالغسلة المتغيرة بالسدر والخطمي ؟ فيه وجهان. أصحهما: لا. فعلى هذا، لا تحسب هذه الغسلة من الثلاث قطعا. وهل تحسب الواقعة بعدها ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان الماء إذا أصاب المحل اختلط بما عليه من السدر وتغير به. فعلى هذا، المحسوب ما يصب عليه من الماء القراح بعد زوال السدر، فيغسل بعد زوال السدر ثلاثا بالقراح. ويستحب أن يجعل في كل ماء قراح كافورا (1)، وهو في الغسلة الاخيرة آكد. وليكن قليلا لا يتفاحش التغير به، وقد يكون صلبا لا يقدح التغير به، وإن كان فاحشا على المشهور. ويعيد تليين مفاصله بعد الغسل. ونقل المزني إعادة التليين في أول وضعه على المغتسل. وأنكره أكثر الاصحاب، ثم ينشفه تنشيفا بليغا. فرع: يتعهد الغاسل مسح بطن الميت في كل مرة بأرفق مما قبلها، فإن خرجت منه نجاسة في آخر الغسلات، أو بعدها، وجب غسل النجاسة قطعا بكل حال. وهل يجب غيرها ؟ فيه أوجه. أصحها: لا. والثاني: يجب إعادة غسله. والثالث: يجب وضوؤه. فعلى الاصح، لا فرق بين النجاسة الخارجة من السبيلين (2) وغيرهما. وإن أوجبنا الوضوء (3)، [ اختص بالخارجة من السبيلين. وإن أوجبنا الغسل ] (4)، ففي إعادة الغسل كسائر النجاسات احتمال، لامام الحرمين. قلت: الصحيح، الجزم بأنه لا يجب إعادة الغسل كسائر النجاسات والله أعلم.

(1/616)


ولم يتعرض الجمهور للفرق بين أن تخرج النجاسة قبل الادراج في الكفن، أو بعده، وأشار صاحب (العدة) إلى تخصيص الخلاف في وجوب الغسل والوضوء بما قبل الادراج. قلت: قد توافق صاحب (العدة) والقاضي أبو الطيب، والمحاملي، والسرخسي صاحب (الامالي): فجزموا بالاكتفاء بغسل النجاسة بعد الادراج. والله أعلم. ولو لمس رجل (1) امرأة ميتة بعد غسلها، فإن قلنا: يحب إعادة الغسل أو الوضوء بخروج النجاسة، وجبا هنا. كذا أطلقه في (التهذيب). وذكر غيره: أنه تفريع على نقض طهر الملموس (2). وأما إذا قلنا: لا يجب إلا غسل المحل، فلا يجب هنا شئ، ولو وطئت بعد الغسل، فإن قلنا بإعادة الغسل، أو الوضوء للنجاسة، وجب هنا الغسل. وإن قلنا بالاصح، لم يجب هنا شئ. قلت: كذا أطلقه الاصحاب، وينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على نجاسة باطن فرجها، فإنها خرجت على الذكر، وتنجس بها ظاهر الفرج. والله أعلم. فصل فيمن يغسل الميت: الاصل أن يغسل الرجال الرجال، والنساء النساء. وأولى الرجال بالرجل (3)، أولاهم بالصلاة عليه. وسيأتي ترتيبهم إن شاء الله تعالى. والنساء أولى بغسل المرأة بكل حال، وليس للرجل غسل المرأة إلا لاحد أسباب ثلاثة. أحدها: الزوجية، فله غسل زوجته المسلمة والذمية (4)، ولها غسله وإن تزوج اختها أو أربعا سواها على الصحيح. الثاني: المحرمية، وظاهر كلام الغزالي، تجويز الغسل للرجال المحارم مع وجود النساء، لكن لم أر لعامة

(1/617)


الاصحاب تصريحا بذلك، وإنما يتكلمون في الترتيب، ويقولون: المحارم بعد النساء أولى (1). الثالث: ملك اليمين، فللسيد غسل أمته، ومدبرته، وأم ولده، ومكاتبته، لان كتابتها ترتفع بموتها. فإن كن مزوجات، أو معتدات، لم يكن له غسلهن. قلت: والمستبرأة كالمعتدة (2). والله أعلم. فرع: للمرأة غسل زوجها، فإن طلقها رجعيا ومات أحدهما في العدة، لم يكن للآخر غسله، لتحريم النظر في الحياة. وإلى متى تغسل زوجها ؟ فيه أوجه. أصحها: أبدا. والثاني: ما لم تنقض عدتها بأن تضع حملا عقيب موته. والثالث: ما لم يتزوج. وإذا غسل أحد الزوجين صاحبه، لف على يده خرقة ولا يمسه، فإن خالف، قال القاضي حسين: يصح الغسل ولا يبنى على الخلاف في انتقاض طهر الملموس. قلت: وأما وضوء الغاسل، فينتقض، قاله القاضي حسين (3). والله أعلم.

(1/618)


فرع: هل للامة، والمدبرة، وأم الولد، غسل السيد ؟ وجهان. أصحهما: لا يجوز. وليس للمكاتبة غسله بلا خلاف، لانها كانت محرمة عليه. قلت: والمزوجة، والمعتدة، والمستبرأة، كالمكاتبة. صرح به في (التهذيب) وغيره. والله أعلم. فرع: لو مات رجل وليس هناك إلا امرأة أجنبية، أو ماتت امرأة وليس هناك إلا رجل أجنبي، فوجهان. أصحهما عند العراقيين، والروياني، والاكثرين: لا يغسل، بل ييمم ويدفن. والثاني وهو قول القفال، ورجحه إمام الحرمين، والغزالي: يغسل في ثيابه، ويلف الغاسل خرقة على يده، ويغض طرفه ما أمكنه، فإن اضطر للنظر، نظر للضرورة. قلت: حكى صاحب (الحاوي) هذا الثاني عن نص الشافعي رضي الله عنه، وصححه. وحكى صاحب (البيان) وغيره وجها ثالثا: أنه يدفن، ولا يغسل، ولا ييمم، وهو ضعيف جدا. والله أعلم. فرع: إذا مات الخنثى المشكل وليس هناك محرم له من الرجال أو النساء، فإن كان صغيرا، جاز للرجال والنساء غسله، وكذا واضح الحال من الاطفال، يجوز للفريقين غسله، كما يجوز مسه والنظر إليه، وإن كان الخنثى كبيرا، فوجهان، كمسألة الاجنبي (1)، أحدهما: ييمم ويدفن. والثاني: يغسل. وفيمن يغسله أوجه. أصحها وبه قال أبو زيد: يجوز للرجال والنساء جميعا غسله للضرورة، واستصحابا لحكم الصغر. والثاني: أنه في حق الرجال كالمرأة، وفي حق النساء كالرجل، أخذا بالاحوط. والثالث: يشترى من تركته جارية لتغسله، فإن لم يكن تركة، اشتريت من بيت المال. قال الائمة: وهذا ضعيف، لان إثبات الملك ابتداء لشخص بعد موته مستبعد، ولو ثبت، فالاصح أن الامة لا تغسل سيدها. والمراد

(1/619)


بالصغير: من لم يبلغ حدا يشتهى مثله، وبالكبير من بلغه. فصل: إذا ازدحم الصالحون للغسل، فإن كان الميت رجلا، غسله أقاربه على ترتيب صلاتهم عليه. وهل تقدم الزوجة عليهم ؟ (1) وجهان. قلت: وفيه ثلاثة أوجه. أصحها: يقدم رجال العصبات، ثم الرجال الاجانب، ثم الزوجة (2) (3)، والثاني: يقدم الرجال الاقارب، ثم الزوجة، ثم الرجال الاجانب، ثم النساء المحارم. والثالث: تقدم الزوجة على الجميع. والله أعلم. وإن كان الميت امرأة، قدم النساء في غسلها، وأولاهن نساء القرابة، والاولى منهن، ذات رحم محرم (4)، فإن استوت اثنتان في المحرمية، فالتي في محل العصوبة أولى، كالعمة مع الخالة، واللواتي لا محرمية لهن، يقدم منهن الاقرب فالاقرب، وبعد نساء القرابة، تقدم الاجنبيات، ثم رجال القرابة، وترتيبهم كالصلاة. وهل يقدم الزوج على نساء القرابة ؟ وجهان. الاصح المنصوص: يقدمن عليه، لانهن أليق. والثاني: يقدم، لانه كان ينظر إلى ما لا ينظرن، ويقدم الزوج على الرجال الاقارب على الاصح، وكل من قدمناه، فشرطه الاسلام، فإن كان كافرا، فكالمعدوم، ويقدم من بعده حتى يقدم المسلم الاجنبي على القريب الكافر. ويشترط أيضا أن لا يكون قاتلا، فإن قتل بحق، بني على إرثه منه، ولو أن المقدم في الغسل سلمه لمن بعده، فله تعاطيه بشرط اتحاد الجنس، فليس للرجال

(1/620)


كلهم التفويض إلى النساء، ولا العكس. فصل: إذا مات المحرم لا يقرب طيبا، ولا يؤخذ شعره وظفره، ولا يلبس الرجل مخيطا، ولا يستر رأسه، ولا وجه المرأة. ولا بأس بالتخمير عند غسله، كما لا بأس بجلوس المحرم عند العطار (1)، ولو ماتت معتدة محدة، جاز تطييبها على الاصح. قلت: قال أصحابنا: فلو طيب المحرم إنسان، أو ألبسه مخيطا، عصى ولا فدية، كما لو قطع عضوا من ميت. والله أعلم. فصل: غير المحرم من الموتى، هل يقلم ظفره، ويؤخذ شعر إبطه، وعانته، وشاربه ؟ قولان. القديم: لا يفعل، كما لا يختن. والجديد: يفعل. والقولان في الكراهة، ولا خلاف أن هذه الامور لا تستحب. قلت: قلد الامام الرافعي الروياني في قوله: لا تستحب بلا خلاف، وإنما الخلاف في إثبات الكراهة وعدمها. وكذا قاله أيضا الشيخ أبو حامد، والمحاملي، ولكن صرح الاكثرون، أو الكثيرون بخلافه، فقالوا: الجديد: أنه يستحب. والقديم: يكره. ممن صرح بهذا، صاحب (الحاوي) والقاضي أبو الطيب، والغزالي في (الوسيط) وغيرهم. وقطع أبو العباس الجرجاني بالاستحباب، وقال صاحب (الحاوي): القول الجديد: أنه مستحب، وتركه مكروه. وعجب عن الرافعي كيف يقول ما قال، وهذه الكتب مشهورة، لا سيما (الوسيط). وأما الاصح من القولين، فقال جماعة: القديم هنا أصح، وهو المختار، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة فيه شئ معتمد، وأجزاء الميت محترمة، فلا تنتهك بهذا. وأما قوله: كما لا يختن، فهذا هو المذهب الذي قطع به الجمهور. وفيه وجه: أنه يختن. ووجه ثالث: يختن البالغ دون الصبي. والله أعلم. فإذا قلنا بالجديد، يخير الغاسل في شعر الابطين والعانة [ بين الاخذ بالموسى

(1/621)


أو بالنورة، وقيل: تتعين النورة في العانة ] (1). قلت: المذهب: أنه مخير في الجميع، فأما الشارب فيقصه كالحياة. قال المحاملي وغيره: يكره حلقه في الحي والميت. قال أصحابنا: ويفعل هذه الامور قبل الغسل. ممن صرح به المحاملي، وصاحب (الشامل) وغيرهما، ولم يتعرض الجمهور لدفن هذه الاجزاء معه. وقال صاحب (العدة): ما يأخذه منها، يصر في كفنه. ووافقه القاضي حسين، وصاحب (التهذيب) في الشعر المنتتف في تسريح الرأس واللحية كما تقدم، وقال به غيرهم. وقال صاحب (الحاوي): الاختيار عندنا: أنه لا يدفن معه، إذ لا أصل له. والله أعلم. ولا يحلق رأسه بحال، وقيل: إن كان له عادة بحلقه، ففيه الخلاف كالشارب، وجميع ما ذكرناه في صفة الغسل، هو في غير الشهيد، وسيأتي حكم الشهيد إن شاء الله تعالى. فرع: لو تحرق مسلم، بحيث لو غسل لتهرأ، لم يغسل، بل ييمم، ولو كان به قروح، وخيف (2) عليه من غسله تسارع البلى إليه بعد الدفن، غسل، فالجميع صائرون إلى البلى. قلت: يجوز للجنب والحائض غسل الميت بلا كراهة. ولو ماتا غسلا غسلا واحدا. وإذا رأى الغاسل من الميت ما يعجبه، استحب أن يتحدث به، وإن رأى ما يكره، حرم عليه ذكره إلا لمصلحة (3)، وإذا (4) كان للميتة شعر، فالسنة أن يجعل ثلاث ذوائب، وتلقى خلفها، وينبغي أن يكون الغاسل (5) مأمونا. ولو كان له زوجتان أو أكثر، وتنازعن في غسله، أقرع بينهن. ولو مات له (6) زوجات في وقت

(1/622)


بهدم، أو غرق، أو غيره، أقرع بينهن، فقدم من خرجت قرعتها. قال الدارمي: قال الشافعي رحمه الله: لو مات رجل وهناك نساء مسلمات، ورجال كفار، أمرت الكفار بغسله، وصلين عليه. وهذا تفريع على صحة غسل الكافر. قال الدارمي: وإذا نشف المغسول بثوب، قال أبو إسحاق: لا ينجس الثوب، سواء قلنا بنجاسة الميت، أم لا. قال الدارمي: وفيه نظر. والله أعلم.
باب التكفين
تقدم أنه فرض كفاية. ويستحب في لون الكفن البياض، وجنسه في حق كل ميت، ما يجوز له لبسه في الحياة، فيجوز تكفين المرأة في الحرير، لكن يكره، ويحرم تكفين الرجل به (1). قلت: ولنا وجه شاذ منكر: أنه يحرم تكفين المرأة في الحرير. وأما المزعفر، والمعصفر، فلا يحرم تكفينها فيه، لكن يكره على المذهب. وفي وجه: لا يكره. قال أصحابنا: يعتبر في الاكفان المباحة حال الميت، فإن كان مكثرا، فمن جياد الثياب، وإن كان متوسطا، فأوسطها، وإن كان مقلا، فخشنها. قالوا: وتكره المغالاة فيه (2). قال القاضي حسين، وصاحب (التهذيب): والمغسول أولى من الجديد. واتفقوا على استحباب تحسين الكفن في البياض، والنظافة، وسبوغه، وكثافته، لا في ارتفاعه. والله أعلم. فصل: أقل الكفن ثوب، وأكمله للرجال ثلاثة، وفي قدر الثوب الواجب، وجهان. أحدهما: ما يستر العورة، ويختلف باختلاف عورة المكفن في الذكورة والانوثة. والثاني: ما يستر جميع بدنه إلا رأس المحرم، ووجه المحرمة.

(1/623)


قلت: أصحهما: الاول. وصححه الجمهور، وهو ظاهر النص (1). والله أعلم. وإذا كفن فيما لا يعم الرأس والرجلين، ستر الرأس. والثوب الواجب حق لله تعالى لا تنفذ (2) وصية الميت بإسقاطه. [ والثاني والثالث حق للميت تنفذ وصيته بإسقاطهما ] (3). ولو لم يوص فقال بعض الورثة: يكفن بثوب، وبعضهم: بثلاثة، فالمذهب يكفن بثلاثة. وقيل: وجهان. أحدهما: بثوب. وأصحهما: بثلاثة، ولو اتفقت الورثة على ثوب، قال في (التهذيب): يجوز. وفي (التتمة): انه على الخلاف. قلت: قول (التتمة) أقيس. والله أعلم. ولو كان عليه ديون مستغرقة، فقال الغرماء: ثوب، فثوب على الاصح. فرع: محل الكفن: رأس مال التركة، يقدم على الديون والوصايا والميراث، لكن لا يباع المرهون في الكفن، ولا الجاني، ولا ما وجبت فيه الزكاة. قلت: ويلحق بالثلاثة، المال الذي ثبت فيه حق الرجوع بإفلاس الميت. وقد ذكره الرافعي في أول الفرائض. والله أعلم. فإن لم يترك مالا، فكفنه على من هو في نفقته، فعلى القريب كفن قريبه، وعلى السيد كفن عبده، وأم ولده، ومكاتبه، وسواء في أولاده كانوا صغارا (4)، أو

(1/624)


كبارا، تجب عليه أكفانهم، لانهم عاجزون بالموت، ونفقة عاجزهم واجبة. ويجب على الزوج كفنها، ومؤنة تجهيزها على الاصح (1). فعلى هذا، لو لم يكن للزوج مال، ففي مالها. أما إذا لم يترك الميت مالا، ولا كان له من تلزمه نفقته، فيجب كفنه ومؤنة تجهيزه في بيت المال، كنفقته. وهل يكفن منه بثوب واحد، أم بثلاثة ؟ وجهان. أصحهما: بثوب. فإن قلنا: ثوب، فلو ترك ثوبا لم يزد من بيت مال، وإن قلنا: ثلاثة، كمت على الاصح. وإذا لم يكن في بيت المال مال، فعلى عامة المسلمين الكفن ومؤنة التجهيز (2). قلت: قال القاضي حسين: إذا مات وهو في نفقة غيره، هل يلزمه تكفينه بثلاثة أثواب، أم بثوب ؟ وجهان. أصحهما: ثوب. وقطع هو وصاحب (التهذيب) بأنه إذا لم يكن في بيت المال مال، ولزم المسلمين تكفينه، لا يجب أكثر من ثوب. والله أعلم. فرع: قدمنا أن الافضل في كفن الرجل ثلاثة أثواب. فلو زيد إلى خمسة (3)، جاز، ولا يستحب. ويستحب تكفين المرأة في خمسة، والخنثى

(1/625)


كالمرأة، والزيادة على الخمسة مكروهة على الاطلاق. قلت: قال إمام الحرمين: قال الشيخ أبو علي: وليست الخمسة في حق المرأة كالثلاثة للرجل، حتى (1): يجبر الورثة عليها، كما يجبرون على الثلاثة. قال الامام: وهذا متفق عليه. والله أعلم. ثم إن كفن الرجل والمرأة في ثلاثة، فالمستحب ثلاث لفائف. وإن كفن الرجل في خمسة، فثلاث لفائف، وقميص، وعمامة، وتجعلان تحت اللفائف. وإن كفنت المرأة في خمسة، فقولان. الجديد: إزار وخمار، وثلاث لفائف. والقديم وهو الاظهر عند الاكثرين: إزار وخمار وقميص ولفافتان. وهذه المسألة مما يفتى فيه على القديم. قلت: قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: المعروف للشافعي في عامة كتبه، أنه يكون فيها قميص. قالا: والقول الآخر: لا يعرف إلا عن المزني، فعلى هذا الذي نقلا، لا يكون إثبات القميص مختصا بالقديم. والله أعلم. ثم قال الشافعي رحمه الله: يشد على صدرها ثوب، لئلا تنتشر أكفانها، واختلف فيه. فقال أبو إسحاق: هو ثوب سادس، ويحل عنها إذا وضعت في القبر. وقال ابن سريج: يشد عليها ثوب من الخمسة ويترك، والاول أصح عند الاصحاب. وأما ترتيب الخمسة، فقال المحاملي وغيره: على قول أبي إسحاق: إن قلنا: تقمص، شد عليها المئزر، ثم القميص، ثم الخمار، ثم تلف في ثوبين، ثم يشد السادس، وإن قلنا: لا تقمص، شد المئزر، ثم الخمار، ثم تلف في اللفائف، ثم يشد عليها خرقة. وعلى قول ابن سريج: إن قلنا: تقمص، شد المئزر، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم يشد عليها الخرقة، ثم تلف في ثوب. وإن قلنا: لا تقمص، شد المئزر، ثم الخمار، ثم تلف في ثوب، ثم يشد عليها آخر، ثم تلف في الخامس. وإذا وقع التكفين في اللفائف الثلاث، ففيها وجهان.

(1/626)


أحدهما: تكون متفاوتة فالاسفل (1)، يأخذ ما بين سرته وركبتيه. والثاني: من عنقه إلى كعبه. والثالث: يستر جميع بدنه. وأصحهما: تكون متساوية في الطول والعرض، يأخذ كل واحد منهما جميع بدنه. ولا فرق في التكفين في الثلاث، بين الرجل والمرأة، وإنما يفترقان في الخمسة كما تقدم. فرع: يستحب تبخير الكفن بالعود، إن لم يكن الميت محرما، فتنصب مبخرة، وتوضع الاكفان عليها ليصيبها دخان العود، ثم تبسط أحسن اللفائف وأوسعها، ويذر عليها حنوط (2)، وتبسط الثانية فوقها، ويذر عليها حنوط (3)، وتبسط الثالثة التي تلي الميت فوقها، ويذر عليها حنوط وكافور، ثم يوضع الميت فوقها مستلقيا، ويؤخذ قدر من القطن المحلوج، ويجعل عليه حنوط وكافور، ويدس بين أليتيه حتى يتصل بالحلقة ليرد شيئا يتعرض للخروج، ولا يدخله في باطنه، وفيه وجه ضعيف: أنه لا بأس به، ثم يسد أليتيه ويستوثق بأن يأخذ خرقة، ويشق رأسها، ويجعل وسطها عن أليتيه وعانته، ويشدها فوق السرة بأن يرد ما يلي ظهره إلى سرته، ويعطف الشقين الآخرين عليه. ولو شد شقا من كل رأس على فخذه، ومثله على الفخذ الثانية، جاز. وقيل: يشدها عليه بالخيط، ولا يشق طرفيها، ثم يأخذ شيئا من القطن ويضع عليه قدرا من الكافور والحنوط، ويجعل على منافذ البدن (4) من المنخرين، والاذنين، والعينين، والجراحات النافذة، دفعا للهوام، ويجعل الطيب على مساجده، وهي الجبهة، والانف، وباطن الكفين، والركبتان، والقدمان، فيجعل الطيب على قطن، ويجعل على هذه المواضع. وقيل: يجعل عليها بلا قطن. ثم يلقى الكفن عليه بأن يثني من الثوب الذي يلي

(1/627)


الميت طرفه الذي يلي شقه الايسر، على شقه الايمن، والذي يلي الايمن على الايسر، كما يفعل الحي بالقباء، ثم يلف الثاني والثالث كذلك. وفيه قول آخر: أنه يبدأ بالطرف الذي يلي شقه الايمن. والاول أصح عند الجمهور، ومنهم من قطع به. وإذا لف الكفن عليه، جمع الفاضل عند رأسه جمع العمامة، ورد على وجهه وصدره إلى حيث بلغ، وما فضل عند رجليه يجعل على القدمين والساقين. وينبغي أن يوضع الميت على الاكفان أولا، بحيث إذا (1) لف عليه كان الفاضل عند رأسه أكثر، ثم تشد الاكفان عليه بشداد، خيفة انتشارها عند الحمل، فإذا وضع في القبر. نزع. وفي كون الحنوط مستحبا، أو واجبا، وجهان. أصحهما: مستحب. قلت: مذهبنا أن الصبي الصغير كالكبير في استحباب تكفينه في ثلاثة أثواب. وقال الصيمري: لا يستحب أن يعد لنفسه كفنا لئلا يحاسب عليه. وهذا الذي قاله صحيح، إلا إذا كان من جهة يقطع بحلها، أو من أثر بعض أهل الخير من العلماء، أو العباد ونحو ذلك، فإن ادخاره حسن. وقد صح عن بعض الصحابة فعله (2). والله أعلم.

(1/628)


باب حمل الجنازة
ليس في حملها (1) دناءة وسقوط مروءة، بل هو بر وإكرام للميت، ولا يتولاه إلا الرجال، ذكرا كان الميت، أو أنثى، ولا يجوز الحمل على الهيآت [ المزرية، ولا على الهيئة ] (2) التي يخشى منها السقوط. وللحمل كيفيتان. إحداهما: بين العمودين، وهو أن يتقدم رجل فيضع الخشبتين الشاخصتين، وهما العمودان على عاتقيه، والخشبة المعترضة بينهما على كتفه، ويحل مؤخر النعش رجلان، أحدهما من الجانب الايمن، والآخر من الايسر، ولا يتوسط الخشبتين المؤخرتين واحد، فإنه لا يرى موضع قدميه، فإن لم يستقل المقدم بالحمل، أعانه رجلان خارج العمودين، يضع كل واحد منهما واحدا على عاتقه، فتكون الجنازة محمولة على خمسة. والكيفية الثانية: التربيع، وهو أن يتقدم رجلان، فيضع أحدهما العمود الايمن على عاتقه الايسر، والآخر العمود الايسر على عاتقه الايمن، وكذلك يحمل العمودين من آخرهما رجلان، فتكون الجنازة محمولة بأربعة. قال الشافعي رضي الله عنه: من أراد التبرك بحمل الجنازة من جوانبها الاربعة، بدأ بالعمود الايسر من مقدمها، فحمله على عاتقه الايمن أيضا (3)، ثم يسلمه إلى غيره، ويأخذ العمود الايسر من مؤخرها، فيحمله على عاتقه الايمن أيضا، ثم يتقدم فيعرض بين يديها لئلا يكون ماشيا خلفها، فيأخذ العمود الايمن من مقدمها على عاتقه الايسر، ثم يأخذ العمود الايمن من مؤخرها، ولا شك أن هذا إنما يتأتى إذا حمل الجنازة على هيئة التربيع. وكل واحدة من الكيفيتين جائزة. قال بعض الاصحاب: والافضل أن يجمع بينهما، بأن يحمل تارة كذا، وتارة كذا، فإن اقتصر فأيهما أفضل ؟ فيه ثلاثة أوجه. الصحيح المعروف: الحمل بين العمودين أفضل. والثاني: التربيع. والثالث: هما سواء. فصل: المشي أمام الجنازة أفضل للراكب (4)، والماشي، والافضل أن

(1/629)


يكون قريبا منها، بحيث لو التفت رآها (1)، ولا يتقدمها إلى المقبرة، فلو تقدم لم يكره، وهو بالخيار، إن شاء قام منتظرا لها، وإن شاء قعد. والسنة الاسراع بالجنازة، إلا أن يخاف من الاسراع تغير الميت، فيتأنى. والمراد بالاسراع: فوق المشي المعتاد دون الخبب، فإن خيف عليه تغير، أو انفجار، أو انتفاخ، زيد في الاسراع. قلت: ينبغي أن لا يركب في ذهابه مع الجنازة إلا لعذر (2)، ولا بأس به في الرجوع. وقد تقدم بيانه في الجمعة. قال أصحابنا: وإن كان الميت امرأة، استحب أن يتخذ لها ما يسترها، كالخيمة، والقبة. قالوا: وإتباع الجنائز سنة متأكدة في حق الرجال، وأما النساء فلا يتبعن. ثم قيل: الاتباع حرام عليهن، والصحيح أنه مكروه إذا لم يتضمن حراما. قال أصحابنا: ولا يكره للمسلم اتباع جنازة قريبه الكافر (3). قال الشافعي، وأصحابنا رحمهم الله: يكره أن تتبع الجنازة بنار في مجمرة أو غيرها، ونقل ابن المنذر وغيره الاجماع عليه. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز ذلك. والمذهب: الكراهة. وكذا يكره أن يكون عند القبر مجمرة. وأما النياحة والصياح وراء الجنازة، فحرام شديد التحريم. ويكره اللغط في المشي معها، والحديث في أمور الدنيا، بل المستحب الفكر في الموت وما بعده، وفناء الدنيا، ونحو ذلك. قال الشافعي وأصحابنا: وإذا مرت به جنازة ولم يرد الذهاب معها، لم يقم لها، بل نص أكثر أصحابنا على كراهة القيام. ونقل المحاملي إجماع الفقهاء عليه، وانفرد صاحب (التتمة) باستحباب القيام للاحاديث الصحيحة فيه، قال الجمهور: الاحاديث منسوخة. وقد أوضحت ذلك في (شرح المهذب) (4). والله أعلم.

(1/630)


باب الصلاة على الميت
تقدم أنها فرض كفاية، ويشترط فيمن يصلى عليه ثلاثة أمور، أن يكون ميتا مسلما غير شهيد، فلو وجد بعض مسلم ولم يعلم موته، لم يصل عليه. وإن علم موته، صلي عليه وإن قل الموجود. هذا في غير الشعر والظفر ونحوهما، وفي هذه الاجزاء وجهان. أقربهما إلى إطلاق الاكثرين أنها كغيرها (1)، لكن قال في (العدة): إن لم يوجد إلا شعرة واحدة، لم يصل عليها في ظاهر المذهب. ومتى شرعت الصلاة، فلا بد من الغسل والمواراة بخرقة (2). وأما الدفن، فلا يختص بما إذا علم موت صاحبه، بل ما ينفصل من الحي من شعر وظفر وغيرهما يستحب له دفنه، وكذلك يوارى دم الفصد، والحجامة. والعلقة والمضغة تلقيهما المرأة. ولو وجد بعض ميت أو كله، ولم يعلم أنه مسلم، فإن كان في دار الاسلام، صلي عليه، لان الغالب فيها الاسلام. ثم متى صلى على العضو، ينوي الصلاة على جملة الميت، لا على العضو وحده. فرع: السقط (3) له حالان. أحدهما: أن يستهل أو يبكي ثم يموت، فهو

(1/631)


كالكبير. الثاني: أن لا تتيقن حياته باستهلال ولا غيره، فتارة يعرى عن أمارة، كالاختلاج ونحوه، وتارة لا يعرى، فإن عري، نظر، إن لم يبلغ حدا ينفخ فيه الروح، وهو أربعة أشهر فصاعدا، لم يصل عليه قطعا، ولا يغسل على المذهب. وقيل: في غسله قولان. وإن بلغ أربعة أشهر، صلي عليه في القديم، ولم يصل في الجديد، ويغسل على المذهب. وقيل: قولان. والفرق أن الغسل أوسع، فإن الذمي يغسل بلا صلاة. أما إن اختلج، أو تحرك، فيصلى عليه على الاظهر (1). وقيل: قطعا. ويغسل على المذهب، وقيل: فيه القولان. وما لم يظهر فيه خلقة آدمي يكفي فيه المواراة كيف كانت، وبعدها (2) حكم التكفين حكم الغسل. فصل لا تجوز الصلاة على كافر، حربيا كان، أو ذميا، ولا يجب على المسلمين غسلة، ذميا كان، أو حربيا، لكن يجوز، وأقاربه الكفار أولى بغسله من أقاربه المسلمين. وأما تكفينه ودفنه، فإن كان ذميا، وجب على المسلمين على الاصح (3)، وفاء بذمته، كما يجب إطعامه وكسوته في حياته، وإن كان حربيا، لم يجب تكفينه قطعا، ولا دفنه على المذهب (4). وقيل: وجهان. أحدهما: يجب. والثاني: لا، بل يجوز إغراء الكلب عليه، فإن دفن فلئلا يتأذى الناس بريحه، والمرتد كالحربي، ولو اختلط موتى المسلمين بالكفار ولم يتميزوا، وجب غسل جميعهم والصلاة عليهم، فإن صلى عليهم دفعة (5)، جاز، [ ويقصد المسلمين منهم. وإن صلى عليهم واحدا واحدا، جاز ] (6)، وينوي الصلاة عليه إن كان

(1/632)


مسلما ويقول: (اللهم اغفر له إن كان مسلما). قلت: الصلاة عليهم دفعة أفضل، واقتصر عليها الشافعي وجماعة من الاصحاب. واختلاط الشهداء بغيرهم كاختلاط الكفار. والله أعلم. فصل: الشهيد لا يغسل، ولا يصلى عليه (1). وقال المزني: يصلى عليه ولا فرق عندنا بين الرجل والمرأة، والحر والعبد، والبالغ والصبي. ثم المراد بترك الصلاة، أنها حرام على الصحيح. وعلى الثاني: لا تجب، لكن تجوز. وأما الغسل، فإن أدى إلى إزالة دم الشهادة، فحرام قطعا، وإلا فحرام على المذهب. وقيل كالصلاة. واسم الشهيد قد يخصص في الفقه بمن لا يغسل ولا يصلى عليه، وقد يسمى كل مقتول ظلما شهيدا وهو أظهر، وهو الذي (2) نص عليه الشافعي رحمه الله في (المختصر) وعلى هذا، الشهيد نوعان. أحدهما: من لا يغسل ولا يصلى عليه، وهو من مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال، سواء قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاحه، أو سقط عن فرسه، أو رمحته دابة فمات، أو وجد قتيلا عند انكشاف الحرب، ولم يعلم سبب موته، سواء كان عليه أثر دم، أم لا. أما إذا مات في معترك الكفار لا بسبب القتال، بل بمرض، أو فجأة، فالمذهب أنه ليس بشهيد، وقيل: على وجهين. ولو جرح في القتال ومات بعد انقضائه، فإن قطع بموته من تلك الجراحة وبقي فيه بعد انقضاء الحرب حياة مستقرة، فقولان. أظهرهما: ليس بشهيد، وسواء في جريان القولين أكل وتكلم وصلى، أم لا، طال الزمان أم قصر. وقيل: إن مات عن قرب، فقولان، وإن بقي أياما، فليس بشهيد قطعا. وأما إذا انقضت

(1/633)


الحرب وليس فيه إلا حركة مذبوح، فشهيد بلا خلاف. وإن انقضت وهو متوقع البقاء، فليس بشهيد بلا خلاف. ولو دخل الحربي دار الاسلام فقتل مسلما اغتيالا، فليس بشهيد على الصحيح. ولو قتل أهل البغي رجلا من أهل العدل، غسل وصلي عليه على الاظهر. ويغسل الباغي المقتول، ويصلى عليه قطعا. ومن قتله قطاع الطريق، قيل. ليس بشهيد قطعا. وقيل: كالعادل (1). النوع الثاني: الشهداء العارون عن جميع الاوصاف المذكورة، كالمبطون، والمطعون، والغريق، والغريب، والميت عشقا، والميتة في الطلق، ومن قتله مسلم، أو ذمي، أو باغ، في غير القتال، فهم كسائر الموت يغسلون ويصلى عليهم، وإن ورد فيهم لفظ الشهادة، وكذا المقتول قصاصا أو حدا ليس بشهيد. وإذا قتل تارك الصلاة، غسل وكفن وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين، ورفع قبره كغيره، كما يفعل بسائر أصحاب الكبائر، هذا هو الصحيح. وفي وجه: لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يكفن، ويطمس قبره تغليطا عليه. وأما قاطع الطريق، فيبنى أمره على صفة قتله وصلبه، وفيه قولان. أظهرهما: يقتل، ثم يغسل ويصلى عليه، ثم يصلب مكفنا. والثاني: يصلب، ثم يقتل. وهل ينزل بعد ثلاثة أيام، أم يبقى حتى يتهرأ ؟ وجهان. إن قلنا بالاول، أنزل فغسل وصلي عليه. وعلى الثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه. قال إمام الحرمين: وكان لا يمتنع أن يقتل مصلوبا، وينزل، فيغسل ويصلى عليه، ثم يرد، ولكن لم يذهب إليه أحد. وقال بعض أصحابنا: لا يغسل ولا يصلى عليه على كل قول. فرع: لو استشهد جنب، لم يغسل على الاصح (2)، ولا يصلى عليه قطعا.

(1/634)


قلت: ولو استشهدت حائض، فإن قلنا: الجنب لا يغسل، فهي أولى، وإلا فوجهان حكاهما صاحب (البحر) بناء على أن غسل الحائض يتعلق برؤية الدم، أم بانقطاعه، أم بهما ؟ إن قلنا: برؤيته، فكالجنب. والله أعلم. ولو أصابته نجاسة لا بسبب الشهادة، فالاصح أنها تغسل. والثاني: لا. والثالث: إن أدى غسلها إلى إزالة أثر الشهادة، لم تغسل، وإلا غسلت. فرع: والاولى أن يكفن الشهيد في ثيابه الملطخة بالدم (1)، فإن لم يكن ما عليه سابغا، تمم، وإن أراد الورثة نزع ما عليه من الثياب وتكفينه في غيرها، جاز. أما الدرع، والجلد، والفراء، والخفاف، فتنزع. فصل فيمن هو أولى بالصلاة على الميت: وفي الولي والوالي قولان. القديم: الوالي أولى، كما في سائر الصلوات، ثم إمام المسجد، ثم الولي. والجديد: الولي أولى. قلت: وهو الاظهر. والله أعلم. والمراد بالولي: القريب، فلا يقدم غيره، إلا أن يكون القريب أنثى، وهناك ذكر أجنبي، فهو أولى، حتى يقدم الصبي المراهق على المرأة القريبة. وكذا الرجل أولى من المرأة بإمامة النساء في سائر الصلوات. وأولى الاقارب: الاب، ثم الجد أب الاب وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الاخ. وهل يقدم الاخ من الابوين على الاخ من الاب ؟ فيه طريقان. المذهب: تقديمه. والثاني: على قولين كولاية النكاح (2). أظهرهما: يقدم. والثاني: سواء، فعلى المذهب: المقدم

(1/635)


بعدهما ابن الاخ من الابوين، ثم من الاب، ثم (1) من العم للابوين، ثم للاب، ثم ابن العم للابوين، ثم عم الاب، ثم بنوه (2)، ثم عم الجد، ثم بنوه على ترتيب الارث. قلت: قال أصحابنا: لو اجتمع ابناء عم، أحدهما أخ لام، فعلى الطريقين. والله أعلم. فإن لم يكن عصبة، قدم المعتق. قال إمام الحرمين: ولعل الظاهر تقديمه على ذوي الارحام (3). وله حق في هذا الباب، فإذا لم يكن هناك عصبة بالنسب، ولا بالولاء، قدم أبو الأم، ثم الاخ للام، ثم الخال، ثم العم للام. ولو أوصى أن يصلي عليه أجنبي، فطريقان. المذهب، وبه قطع الجمهور: يقدم القريب. والثاني: وجهان. أحدهما: هذا. والثاني: يقدم الموصى له، كالوجهين فيمن أوصى أجنبيا على أولاده ولهم جد. فرع: إذا اجتمع اثنان في درجة، كابنين أو أخوين، وتنازعا، نص في (المختصر): أن الاسن أولى - وقال: في سائر الصلوات الافقه أولى. قال الجمهور: المسألتان على ما نص عليه، وهذا هو المذهب. وقيل: فيهما قولان بالتخريج. والمراد بالاسن: الاكبر - وإن كانا شابين، وإنما يقدم الاسن إذا حمدت حاله. أما الفاسق والمبتدع، فلا. ويشترط بمضي السن في الاسلام كما سبق في سائر الصلوات. ولو استوى اثنان في درجة وأحدهما رقيق، والآخر حر، فالحر أولى، فإن كان أحدهما رقيقا فقيها، والآخر حرا غير فقيه، فوجهان. وقال في (الوسيط): لعل التسوية أولى (4).

(1/636)


قلت: الاصح، تقديم الحر. والله أعلم. ولو كان الاقرب رقيقا، والابعد حرا، كأخ رقيق، وعم حر، فالاصح عند الجمهور: العم أولى. والثاني: الاخ. وقيل: سواء، ولو استووا في كل شئ، فإن رضوا بتقدم واحد، فذاك، وإلا أقرع (1). فصل: السنة أن يقف الامام عند عجيزة المرأة قطعا، وعند رأس الرجل على الصحيح الذي قطع به الجمهور. والثاني: عند صدره. ولو تقدم على الجنازة الحاضرة، أو القبر، لم يصح على المذهب. فرع: إذا حضرت جنائز، جاز أن يصلي على كل واحدة صلاة، وهو الاولى، وجاز أن يصلي على الجميع صلاة واحدة، سواء كانوا ذكورا وإناثا، فإن كانوا نوعا واحدا، ففي كيفية وضعهم وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يوضع بين يدي الامام في جهة القبلة بعضها خلف بعض ليحاذي الامام الجميع. والثاني: يوضع الجميع صفا واحدا. رأس كل إنسان عند رجل الآخر، ويجعل الامام جميعهم عن يمينه، ويقف في محاذاة الآخر. [ وإن اختلف النوع، تعين الوجه الاول. ومتى وضعوا كذلك، فمن يقدم إلى الامام ؟ ينظر، إن جاؤوا دفعة واحدة، نظر ] (2)، إن اختلف النوع، قدم إليه الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة. ولو حضر جماعة من الخناثى، وضعت صفا واحدا، لئلا تتقدم امرأة رجلا. وإن اتحد النوع، قدم إليه أفضلهم، والمعتبر فيه الورع، والخصال التي ترغب في الصلاة عليه، ويغلب على الظن كونه أقرب رحمة من الله تعالى، ولا يقدم بالحرية. وإن استووا في جميع الخصال، وتنازع الاولياء في التقديم، أقرع بينهم، وإن رضوا بتقديم واحد، فذاك. وأما إذا جاءت الجنائز متعاقبة، فيقدم إلى

(1/637)


الامام أسبقها وإن كان المتأخر أفضل، هذا إن اتحد النوع. فلو وضعت امرأة. ثم حضر رجل، أو صبي، نحيت ووضع الرجل أو الصبي بين يدي الامام، ولو وضع صبي، ثم حضر رجل، فالصحيح أنه لا ينحى الصبي، بل يقال لولي الرجل: إما أن تجعل جنازتك وراء الصبي، وإما أن تنقله إلى موضع آخر. وعلى الشاذ: الصبي كالمرأة. فإن قيل: ولي كل ميت أولى بالصلاة عليه، فمن يصلي على الجنائز صلاة واحدة، قلنا: من لم يرض بصلاة غيره، صلى على ميته، وإن رضوا جميعا بصلاة واحدة، صلى ولي السابقة، رجلا كان ميته أو امرأة، وإن حضروا معا، أقرع. فصل في كيفية الصلاة أما أقلها، فأركانها سبعة. أحدها (1): النية، ووقتها ما سبق في سائر الصلوات. وفي اشتراط الفرضية الخلاف المتقدم (2)، وهل يشترط التعرض لكونها فرض كفاية، أم يكفي مطلق الفرض ؟ وجهان. أصحهما الثاني. ثم إن كان الميت واحدا، نوى الصلاة عليه، وإن حضر موتى، نوى الصلاة عليهم، ولا حاجة إلى تعيين الميت ومعرفته، بل لو نوى الصلاة على من يصلي عليه الامام، جاز، ولو عين الميت وأخطأ، لم تصح. قلت: هذا إذا لم يشر إلى الميت المعين، فإن أشار، صح في الاصح. والله أعلم. ويجب على المقتدي نية الاقتداء. الركن الثاني: القيام، ولا يجزئ عنه القعود مع القدرة على المذهب، كما سبق في التيمم.

(1/638)


الثالث: التكبيرات الاربع (1)، ولو كبر خمسا ساهيا، لم تبطل صلاته، ولا مدخل لسجود السهو في هذه الصلاة. وإن كان عامدا لم تبطل أيضا على الاصح الذي قاله الاكثرون. وقال ابن سريج: الاحاديث الواردة في تكبير الجنازة أربعا، وخمسا هي من الاختلاف المباح، والجميع سائغ. ولو كبر إمامه خمسا، فإن قلنا: الزيادة مبطلة، فارقه (2)، وإلا فلا، ولكن لا يتابعه فيها على الاظهر، وهل يسلم في الحال، أم له انتظاره ليسلم معه ؟ وجهان. أصحهما الثاني. الرابع: السلام، وفي وجوب نية الخروج معه، ما سبق في سائر الصلوات، ولا يكفي: السلام عليك، على المذهب، وفيه تردد جواب عن الشيخ أبي علي. الخامس: قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الاولى، فظاهر كلام الغزالي، أنه ينبغي أن تكون الفاتحة عقب الاولى متقدمة على الثانية، لكن حكى الروياني وغيره عن نصه: أنه لو أخر قراءتها إلى التكبيرة الثانية، جاز. السادس: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الثانية، وفي وجوب الصلاة على الآل، قولان أو وجهان كسائر الصلوات، وهذه أولى بالمنع (3).

(1/639)


السابع: الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة، وفيه وجه (1): أنه لا يجب تخصيص الميت بالدعاء، بل يكفي إرساله للمؤمنين (2) وقدر الواجب من الدعاء، ما ينطلق عليه الاسم. وأما الافضل، فسيأتي إن شاء الله تعالى. وأما أكمل هذه الصلاة، فلها سنن. منها رفع اليدين في تكبيراتها الاربع، ويجمع يديه عقب كل تكبيرة، ويضعهما تحت صدره كباقي الصلوات، ويؤمن عقب الفاتحة، ولا يقرأ السورة على المذهب، ولا دعاء الاستفتاح على الصحيح، ويتعوذ على الاصح، ويسر بالقراءة في النهار قطعا، وكذا في الليل على الصحيح. ونقل المزني في (المختصر): أنه عقب التكبيرة الثانية يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، فهذه ثلاثة أشياء، أوسطها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي ركن كما تقدم. وأولها، الحمد ولا خلاف أنه لا يجب، وفي استحبابه وجهان. أحدهما وهو مقتضى كلام الاكثرين: لا يستحب. والثاني: يستحب، وجزم به صاحبا (التتمة) و (التهذيب). قلت: نقل إمام الحرمين اتفاق الاصحاب على الاول، وأن ما نقله المزني غير سديد، وكذا قال جمهور أصحابنا المصنفين، ولكن جزم جماعة بالاستحباب، وهو الارجح. والله أعلم. وأما ثالثها، وهو الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فمستحب عند الجمهور، وحكى إمام الحرمين فيه ترددا للائمة. قلت: ولا يشترط ترتيب هذه الثلاثة، لكنه أولى. والله أعلم. ومن المسنونات: إكثار الدعاء للميت في الثالثة، ويقول: (اللهم هذا عبدك، وابن عبديك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحبائه فيها، إلى ظلمة

(1/640)


القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا (1) أنت، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم أنه (2) نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك، شفعاء له، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الارض عن جنبيه، ولقه برحمتك الامن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين). هذا نص الشافعي في (المختصر) (3). وفيها دعاء آخر، وعليه أكثر أهل خراسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى على جنازة قال: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الاسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الايمان) (4) فإن كان الميت امرأة، قال: (اللهم هذه أمتك وبنت عبديك) ويؤنث الكنايات. قلت: ولو ذكرها على إرادة الشخص، لم يضر. قال البخاري، وسائر الحفاظ: أصح دعاء الجنازة، حديث عوف بن مالك في (صحيح مسلم) (5) وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة فقال: (اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا

(1/641)


كما نقيت الثوب الابيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وفتنته، ومن عذاب النار). والله أعلم. وإن كان طفلا، اقتصر على رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ويضم إليه: (اللهم اجعله فرطا لابويه، وسلفا، وذخرا، وعظة، واعتبارا، وشفيعا، وثقل به موازينهما، وافرغ الصبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، ولا تحرمهما أجره) (1). وأما التكبيرة الرابعة، فلم يتعرض الشافعي في معظم كتبه لذكر عقبها، ونقل البويطي عنه أنه يقول بعدها (2): اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده) كذا نقل الجمهور عنه، وهذا الذكر ليس بواجب قطعا، وهو مستحب على المذهب. وقيل: في استحبابه وجهان. أحدهما: لا يستحب، بل إن شاء قاله، وإن شاء تركه. قلت: يسن تطويل الدعاء عقب الرابعة، وصح ذلك عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). والله أعلم. وأما السلام، فالاظهر أنه يستحب تسليمتان. وقال في (الاملاء): تسليمة يبدأ بها إلى يمينه، ويختمها ملتفتا إلى يساره، فيدير وجهه وهو فيها، هذا نصه. وقيل: يأتي بها تلقاء وجهه بغير التفات. قال إمام الحرمين: ولا شك أن هذا الخلاف في صفة الالتفات يجري في سائر الصلوات إذا قلنا: يقتصر على تسليمة.

(1/642)


ثم قيل: القولان هنا في الاقتصار على تسليمة، هما القولان في الاقتصار في سائر الصلوات. والاصح: أنهما مرتبان عليهما، إن قلنا هناك بالاقتصار، فهنا أولى، وإلا فقولان، فإن الاقتصار هناك قول قديم، وهنا هو قوله في (الاملاء)، وهو جديد. وإذا اقتصر على تسليمة، فهل يقتصر على (السلام عليكم) أم يزيد (ورحمة الله ؟) فيه تردد حكاه أبو علي. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام في أثناء هذه الصلاة، كبر ولم ينتظر تكبيرة الامام المستقبلة. ثم يشتغل عقب تكبيره بالفاتحة، ثم يراعي في الاذكار ترتيب نفسه، فلو كبر المسبوق، فكبر الامام الثانية مع فراغه من الاولى، كبر مع الثانية، وسقطت عنه القراءة، كما لو ركع الامام في سائر الصلوات عقب تكبيره (1). ولو كبر الامام الثانية والمسبوق في أثناء الفاتحة، فهل يقطع القراءة ويوافقه، أم يتمها ؟ وجهان كالوجهين فيما إذا ركع الامام والمسبوق في أثناء الفاتحة، أصحهما عند الاكثرين: يقطع ويتابعه. وعلى هذا، هل يتم القراءة بعد التكبيرة لانه محل القراءة بخلاف الركوع، أم لا يتم ؟ فيه احتمالان لصاحب (الشامل). أصحهما: الثاني. ومن فاته بعض التكبيرات، تداركها بعد سلام الامام، وهل يقتصر على التكبيرات نسقا بلا ذكر، أم يأتي بالذكر والدعاء ؟ قولان. أظهرهما: الثاني (2). قلت: القولان في الوجوب وعدمه، صرح به صاحب (البيان) وهو ظاهر. والله أعلم.

(1/643)


ويستحب أن لا ترفع الجنازة، حتى يتم المسبوقون ما عليهم، فلو رفعت، لم تبطل صلاتهم وإن حولت عن القبلة، بخلاف ابتداء عقد الصلاة، لا يحتمل فيه ذلك والجنازة حاضرة. فرع: لو تخلف المقتدي فلم يكبر مع الامام الثانية أو الثالثة حتى كبر الامام التكبيرة المستقبلة من غير عذر، بطلت صلاته كتخلفه بركعة. فصل: الشرائط المعتبرة في سائر الصلوات، كالطهارة، وستر العورة، والاستقبال، وغيرها، تعتبر في هذه الصلاة أيضا، ويشترط فيها تقديم غسل الميت، حتى لو مات في بئر، أو معدن انهدم عليه، وتعذر إخراجه وغسله، لم يصل عليه، ذكره في (التتمة). قلت: ويجوز قبل التكفين مع الكراهة. والله أعلم. ولا يشترط فيها الجماعة، لكن يستحب، وفي أقل ما يسقط فرض الكفاية في هذه الصلاة، قولان ووجهان. أحد القولين: بثلاثة. والثاني: بواحد. وأحد الوجهين باثنين. والثاني: بأربعة. والاظهر عند الروياني وغيره: سقوطه بواحد. ومن اعتبر العدد قال: سواء صلوا فرادى أو جماعة، وإن بان حدث الامام، أو بعض المأمومين. فإن بقي العدد المعتبر، سقط الفرض، وإلا، فلا. ويسقط بصلاة الصبيان المميزين على الاصح (1). ولا يسقط بالنساء على الصحيح. وقال كثيرون: لا يسقط بهن قطعا وإن كثرن. والخلاف فيما إذا كان هناك رجال، فإن لم يكن رجل، صلين منفردات وسقط الفرض بهن. قال في (العدة): وظاهر المذهب: أنه لا يستحب لهن الجماعة في جنازة الرجل والمرأة. وقيل: يستحب في جنازة المرأة.

(1/644)


قلت: إذا لم يحضر إلا النساء، توجه الفرض عليهن، وإذا حضرن مع الرجال، لم يتوجه الفرض عليهن، فلو لم يحضر إلا رجل ونساء، وقلنا: لا يسقط الفرض إلا بثلاثة، توجه التيمم عليهن، والظاهر أن الخنثى في هذا الفصل كالمرأة (1). والله أعلم. فصل: تجوز الصلاة على الغائب بالنية وإن كان في غير جهة القبلة والمصلي يستقبل القبلة، وسواء كان بينهما مسافة القصر، أم لا ؟ بشرط أن يكون خارج البلد، فإن كان المصلي والميت في بلد، فهل يجوز أن يصلي إذا لم يكن بين يديه ؟ وجهان. أصحهما: لا يجوز. قال الشيخ أبو محمد: وإذا شرطنا حضور الميت، اشترط أن لا يكون بينهما أكثر من ثلاثمائة ذراع تقريبا. فصل: إذا صلى على الجنازة جماعة، ثم حضر آخرون، فلهم أن يصلوا عليها جماعة وفرادى، وصلاتهم تقع فرضا. كالاولين. وأما من صلى منفردا، فلا يستحب له إعادتها في جماعة على الاصح (2)، وسواء حضر الذين لم يصلوا قبل الدفن، أو بعده، فإن الصلاة على القبر عندنا جائزة، ولو دفن بلا صلاة، أثم الدافنون، فإن تقديم الصلاة على الدفن واجب (3)، لكن لا ينبش، بل يصلون على قبره. وحكي أنه لا يسقط الفرض بالصلاة على القبر، وهو منكر، بل غلط. وإلى متى تجوز الصلاة عليه (4) ؟ فيه أوجه. أصحها: يصلي عليه من كان من أهل فرض

(1/645)


الصلاة عليه يوم موته، ولا يصلي غيره. هذا قول الشيخ أبي زيد. وقال المحاملي وطائفة: هذا الوجه بعبارة أخرى، فقالوا: يصلي من كان من أهل الصلاة يوم موته. فعلى العبارة الاولى لا يصلي من كان صبيا مميزا، وعلى الثانية يصلي، والاولى أشهر، والثانية عند الروياني أصح. والوجه الثاني: يصلى عليه إلى ثلاثة أيام فقط. والثالث: إلى شهر فقط. والرابع: يصلى عليه ما بقي منه شئ في القبر. فإن انمحقت الاجزاء كلها، فلا. فإن شك في الانمحاق، فالاصل البقاء. وفيه احتمال لامام الحرمين. والخامس: يصلي أبدا. هذا كله في غير قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تجوز الصلاة على قبره - صلى الله عليه وسلم - على الاوجه الاربعة قطعا، ولا على الخامس على الصحيح. وقال أبو الوليد النيسابوري (1): يجوز فرادى، لا جماعة. قلت: [ بقي من الباب بقايا، منها: أنه ] (2) لا تكره الصلاة على الميت في المسجد. قال أصحابنا: بل الصلاة فيه أفضل (3)، للحديث الصحيح في قصة سهل بن بيضاء في (صحيح مسلم) (4). وأما الحديث الذي رواه أبو داود (5) وغيره (من صلى على جنازة في المسجد، فلا شي له) فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: ضعفه (6). والثاني: الموجود في (سنن أبي داود) (فلا شي عليه). هكذا هو في أصول سماعنا على كثرتها، وفي غيرها من الاصول المعتمدة (7). والثالث: حمله

(1/646)


على نقصان أجره إذا لم يتبعها للدفن (1). ويستحب أن تجعل صفوف الجنازة ثلاثة فأكثر، للحديث الصحيح فيه. واختلاف نية الامام والمأموم لا تضر. فلو نوى الامام الصلاة على حاضر، والمأموم على غائب أو عكسه، جاز. ومن قتل نفسه غسل وصلي عليه، [ وإذا صلى على الجنازة مرة ] (2) لا تؤخر لزيادة المصلين، ولا لانتظار أحد غير الولي، ولا بأس بانتظار وليها إن لم يخف تغيرها. قال صاحب (البحر): لو صلى على الاموات الذين ماتوا في يومه، وغسلوا في البلد الفلاني، ولا يعرف عددهم، جاز. وقوله صحيح، لكن لا يختص ببلد. والله أعلم.
باب الدفن
قد تقدم أنه فرض كفاية. ويجوز في غير المقبرة، لكن فيها أفضل. فلو قال بعض الورثة: يدفن في ملكه، وبعضهم: في المقبرة المسبلة، دفن في المسبلة. ولو بادر بعضهم فدفنه في الملك، كان للباقين نقله إلى المسبلة، والاولى أن لا يفعلوا. ولو أراد بعضهم دفنه في ملك نفسه، لم يلزم الباقين قبوله. فلو بادر إليه، قال ابن الصباغ: لم يذكره الاصحاب، وعندي: أنه لا ينقل، فإنه هتك، وليس في بقائه إبطال حق الغير. قلت: وفي (التتمة) القطع بما قاله صاحب (الشامل). والله أعلم. ولو اتفقوا على دفنه في ملكه، ثم باعوه، لم يكن للمشتري نقله، وله الخيار في فسخ البيع إن كان جاهلا. ثم إذا بلي، أو اتفق نقله، فذلك الموضع للبائعين، أم للمشتري ؟ فيه وجهان سيأتي نظائرهما في البيع إن شاء الله تعالى. فصل: أقل ما يجزئ في الدفن حفرة تكتم رائحة الميت، وتحرسه عن السباع لعسر نبش مثلها غالبا (3). أما الاكمل، فيستحب توسيع القبر، وتعميقه قدر

(1/647)


قامة وبسطة (1)، والمراد قامة رجل معتدل يقوم ويبسط يده مرفوعة. والقامة والبسطة: ثلاثة أذرع ونصف، وفيه وجه: أنه قامة فقط، وهي ثلاثة أذرع، والمعروف الاول. قلت: وكذا قال المحاملي (2): إن القامة والبسطة ثلاثة أذرع ونصف. وقال الجمهور: أربعة أذرع ونصف، وهو الصواب (3). والله أعلم. فرع: يجوز الدفن في الشق واللحد فاللحد: أن يحفر حائط القبر مائلا عن استوائه من أسفله قدر ما يوضع فيه الميت، وليكن من جهة القبلة. والشق: أن يحفر وسطه كالنهر، ويبنى جانباه باللبن أو غيره، ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت ويسقف. وأيهما أفضل ؟ فإن كانت الارض صلبة، فاللحد أفضل، وإلا، فالشق. فرع: السنة أن يوضع الميت عند أسفل القبر، بحيث يكون رأسه عند رجل القبر. ثم يسل من جهة رأسه سلا رفيقا. ولا يدخل القبر إلا الرجال متى وجدوا،

(1/648)


رجلا كان الميت أو امرأة (1). وأولاهم بالدفن أولاهم بالصلاة، إلا أن الزوج أحق بدفن زوجته، ثم بعده المحارم، الاب، ثم الجد (2)، ثم الابن، ثم ابن الابن ثم الاخ، ثم ابن الاخ، ثم العم، فإن لم يكن أحد منهم، فعبيدها وهم أحق من بني العم، لانهم كالمحارم في جواز النظر ونحوه على الاصح (3). فإن قلنا: إنهم كالاجانب، لم يتوجه تقديمهم، فإن لم يكن عبيدها، فالخصيان أولى، لضعف شهوتهم (4). فإن لم يكونوا، فذوو الارحام الذين لا محرمية لهم، فإن لم يكونوا، فأهل الصلاح من الاجانب. قال إمام الحرمين: وما رأى تقديم ذوي الارحام محتوما، بخلاف المحارم، لانهم كالاجانب في وجوب الاحتجاب عنهم. وقدم

(1/649)


صاحب (العدة) نساء القرابة على الرجال الاجانب، وهو خلاف النص، وخلاف المذهب المعروف. فرع: إن استقل بوضع الميت في القبر واحد، بأن كان طفلا، فذاك، وإلا، فالمستحب أن يكون عددهم وترا، ثلاثة، أو خمسة، على حسب الحاجة، وكذا عدد الغاسلين. ويستحب أن يستر القبر عند الدفن بثوب، رجلا كان أو امرأة، والمرأة آكد. واختار أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا: أن الاستحباب مختص بالمرأة، والمذهب الاول. ويستحب لمن يدخله القبر أن يقول: باسم الله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم يقول: اللهم أسلمه إليك الاشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه، وفارقه من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك وأنت خير منزول به، إن عاقبته فبذنبه، وإن عفوت عنه، فأهل العفو أنت، أنت غني عن عذابه، وهو فقير إلى رحمتك، اللهم تقبل حسنته، واغفر سيئته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له برحمتك الامن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، اللهم واخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين. وهذا الدعاء نص عليه الشافعي رحمه الله في (المختصر) (1). فرع: إذا وضع في اللحد، اضجع على جنبه الايمن مستقبل القبلة (2)، بحيث لا ينكب ولا يستلقي، بأن يدنى من جدار اللحد، ويسند ظهره بلبنة ونحوها، ووضعه مستقبل القبلة واجب، كذا قطع به الجمهور. قالوا: فلو دفن مستدبرا أو مستلقيا، نبش ووجه إلى القبلة ما لم يتغير، فإن تغير، لم ينبش. وقال القاضي أبو الطيب في كتابه (المجرد): التوجيه إلى القبلة سنة، فلو ترك استحب أن ينبش ويوجه، ولا يجب (3). وأما الاضجاع على اليمين، فليس بواجب. فلو وضع على اليسار مستقبل القبلة، كره ولم ينبش، ولو ماتت ذمية في بطنها جنين

(1/650)


مسلم ميت، جعل ظهرها إلى القبلة ليتوجه الجنين إلى القبلة، لان وجه الجنين على ما ذكر إلى ظهر الام. ثم قيل: تدفن هذه المرأة بين مقابر المسلمين والكفار. قيل: في مقابر المسلمين، فتنزل منزلة صندوق الولد. وقيل: تدفن في مقابر الكفار. قلت: الصحيح من هذه الاوجه الاول، وبه قطع الاكثرون (1)، منهم صاحب (الشامل)، والمستظهري، وصاحب (البيان). ونقله صاحب (الحاوي) عن أصحابنا قال (2): وكذلك إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين. قال: وحكي عن الشافعي أنها تدفع إلى أهل دينها ليتولوا غسلها ودفنها. وقطع صاحب (التتمة) بأنها تدفن على طرف مقابر المسلمين، وهذا وجه رابع. والله أعلم. فرع: ويجعل تحت رأس الميت لبنة أو حجر، ويفضى بخده الايمن إليه، أو إلى التراب، ولا يوضع تحت رأسه مخدة. ولا يفرش تحته فراش. حكى العراقيون (3) كراهة ذلك عن نص الشافعي رحمه الله، وقال في (التهذيب): لا بأس به (4)، ويكره أن يجعل في تابوت، إلا إذا كانت الارض رخوة، أو ندية، ولا تنفذ

(1/651)


وصيته به إلا في مثل هذه الحالة، ثم يكون التابوت من رأس المال. فرع: إذا فرغ من وضعه في اللحد، نصب اللبن على فتح اللحد، وتسد الفرج بقطع اللبن مع الطين، أو بالآجر ونحوه (1)، ثم يحثي كل من دنا ثلاث حثيات من التراب (2) بيديه جميعا، ويستحب أن يقول مع الاولى: (منها خلقناكم) ومع الثانية (وفيها نعيدكم) ومع الثالثة (ومنها نخرجكم تارة أخرى) (3) ثم يهال بالمساحي. فرع: المستحب أن لا يزاد في القبر على ترابه الذي خرج منه، ولا يرفع إلا قدر شبر ليعرف فيزار ويحترم. قال في (التتمة): إلا إذا مات مسلم في بلاد الكفار، فلا يرفع قبره، بل يخفى لئلا يتعرضوا له إذا رجع المسلمون. ويكره تجصيص القبر، والكتابة، والبناء عليه (4). ولو بني عليه، هدم إن كانت المقبرة

(1/652)


مسبلة، وإن كان القبر في ملكه، فلا. وأما تطيين القبر، فقال إمام الحرمين، والغزالي: لا يطين، ولم يذكر ذلك جماهير الاصحاب. ونقل الترمذي عن الشافعي: أنه لا بأس بالتطيين ويستحب أن يرش الماء على القبر، ويوضع عليه حصى، وأن يوضع عند رأسه صخرة، أو خشبة ونحوها. قلت: قال صاحب (التهذيب): يكره أن يرش على القبر ماء الورد، ويكره أن يضرب عليه مظلة، ولا بأس بالمشي بالنعل بين القبور. والله أعلم. فرع: المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أصحابنا: أن تسطيح القبر أفضل من تسنيمه. وقال ابن أبي هريرة: الافضل الآن التسنيم، وتابعه الشيخ أبو محمد، والغزالي، والروياني، وهو شاذ ضعيف. فرع: الانصراف عن الجنازة أربعة أقسام. أحدها: ينصرف عقيب الصلاة، فله من الاجر قيراط. الثاني: أن يتبعها حتى توارى ويرجع قبل إهالة التراب. الثالث: يقف إلى الفراغ من القبر وينصرف من غير دعاء.

(1/653)


الرابع: يقف بعده عند القبر ويستغفر الله تعالى للميت، وهذا أقصى الدرجات في الفضيلة. وحيازة القيراط الثاني، تحصل لصاحب القسم الثالث، وهل تحصل للثاني ؟ حكى الامام، فيه ترددا، واختار الحصول. قلت: وحكى صاحب (الحاوي) في هذا التردد وجهين (1)، وقال: أصحهما: لا تحصل إلا بالفراغ من دفنه، وهذا هو المختار، ويحتج له برواية البخاري (حتى يفرغ من دفنها). ويحتج للآخر برواية مسلم في (صحيحه): (حتى توضع في اللحد). والله أعلم. فرع: ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن، فيقال: يا عبد الله ابن أمة الله، أذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا. ورد به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).

(1/654)


قلت: هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا، منهم: القاضي حسين، وصاحب (التتمة) والشيخ نصر المقدسي في كتابه (التهذيب) وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا. والحديث الوارد فيه ضعيف (1)، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم. وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الاحاديث الصحيحة، كحديث (اسألوا الله (2) له التثبيت) ووصية عمرو بن العاص (أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي) رواه مسلم في (صحيحه) ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين من العصر الاول، وفي زمن من يقتدى به. قال أصحابنا: ويقعد الملقن عند رأس القبر، وأما الطفل ونحوه، فلا يلقن (3). والله أعلم. فرع: المستحب في حال الاختيار، أن يدفن كل ميت في قبر فإن كثر الموتى، وعثر إفراد كل ميت بقبر، دفن الاثنان والثلاثة في قبر (4)، ويقدم إلى

(1/655)


القبلة أفضلهم، ويقدم الاب على الابن وإن كان الابن (1) أفضل منه، لحرمة الابوة، وكذا تقدم الام على البنت، ولا يجمع بين النساء والرجال إلا عند تأكد الضرورة، ويجعل بينهما حاجز من تراب، ويقدم الرجل وإن كان ابنا، فإن اجتمع رجل وامرأة وخنثى وصبي، قدم الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة. وهل يجعل حاجز التراب بين الرجلين، وكذا بين المرأتين، أم يختص باختلاف النوع ؟ قال العراقيون: لا يختص، بل يعم الجميع، وأشار جماعة إلى الاختصاص. قلت: الصحيح قول العراقيين. وقد نص عليه الشافعي في (الام). والله أعلم. فصل: القبر محترم توقيرا للميت (2)، فيكره الجلوس عليه، والاتكاء، ووطؤه إلا لحاجة بأن لا يصل إلى قبر ميته إلا بوطئه. قلت: وكذا يكره الاستناد إليه، قال أصحابنا. والله أعلم. فرع: يستحب للرجال زيارة القبور (3)، وهل يكره للنساء ؟ وجهان. أحدهما، وبه قطع الاكثرون: يكره (4). والثاني، وهو الاصح عند الروياني: لا

(1/656)


يكره إذا أمنت من الفتنة (1). والسنة أن يقول الزائر: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله (2) بكم لاحقون (3)، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم. وينبغي للزائر، أن يدنو من القبر بقدر ما كان يدنو من صاحبه في الحياة لو زاره. وسئل القاضي أبو الطيب عن قراءة القرآن في المقابر فقال: الثواب للقارئ، ويكون الميت كالحاضر، ترجى له الرحمة والبركة، فيستحب قراءة القرآن في المقابر لهذا المعنى، وأيضا فالدعاء عقيب القراءة أقرب إلى الاجابة (4)، والدعاء ينفع الميت.

(1/657)


فرع: لا يجوز نبش القبر إلا في مواضع. منها: أن يبلى الميت ويصير ترابا، فيجوز نبشه ودفن غيره، ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة، وتختلف باختلاف البلاد والارض، وإذا بلي الميت، لم يجز عمارة قبره وتسوية التراب عليه في المقابر المسبلة، لئلا يتصور بصورة القبر الجديد فيمتنع الناس من الدفن فيه. ومنها: أن يدفن إلى غير القبلة، وقد سبق. ومنها: أن يدفن من يجب غسله بلا غسل. فالمذهب: أنه يجب النبش ليغسل، وحكي قول: أنه لا يجب، بل يكره لما فيه من الهتك، فعلى المذهب وجهان، الصحيح المقطوع به في (النهاية) و (التهذيب): ينبش ما لم يتغير الميت. والثاني: ينبش ما دام فيه جزء من عظم وغيره. ومنها: إذا دفن في أرض مغصوبة، يستحب لصاحبها تركه، فان أبى، فله إخراجه وإن تغير وكان فيه هتك (1). ومنها: لو كفن بثوب مغصوب أو مسروق، ففيه أوجه، أصحها (2): ينبش لرد الثوب، كما ينبش لرد الارض. والثاني: لا يجوز نبشه، وينتقل صاحب الثوب إلى القيمة، لانه كالتالف (3). والثالث: إن تغير الميت وكان في النبش هتك، لم ينبش، وإلا نبش (4). ولو دفن في ثوب حرير، ففي نبشه هذا الخلاف (5).

(1/658)


قلت: وفي هذا نظر، وينبغي أن يقطع بأنه لا ينبش. والله أعلم. ومنها: لو دفن بلا كفن، هل ينبش ليكفن، أم يترك حفظا لحرمته، واكتفاء بستر القبر ؟ وجهان. أصحهما: يترك. ومنها: لو وقع في القبر خاتم، أو غيره، نبش ورد (1). ولو ابتلع في حياته مالا، ثم مات، وطلب صاحبه الرد، شق جوفه ويرد. قال في (العدة): إلا أن يضمن الورثة مثله أو قيمته، فلا ينبش على الاصح (2). وقال القاضي أبو الطيب: لا ينبش بكل حال، ويجب الغرم في تركته. ولو ابتلع مال نفسه ومات، فهل يخرج ؟ وجهان. قال الجرجاني (3): الاصح يخرج. قلت: وصححه أيضا العبدري، وصحح الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب في كتابه (المجرد) عدم الاخراج، وقطع به المحاملي في (المقنع) وهو مفهوم كلام صاحب (التنبيه) وهو الاصح. والله أعلم. وحيث قلنا: يشق جوفه ويخرج، فلو دفن قبل الشق، نبش كذلك (4). قلت: قال (5) الماوردي في (الاحكام السلطانية): إذا لحق الارض المدفون فيها سيل أو نداوة، فقد جوز الزبيري نقله منها، وأباه غيره، وقول الزبيري أصح. والله أعلم. فرع: إذا مات في سفينة، إن كان بقرب الساحل، أو بقرب جزيرة،

(1/659)


انتظروا ليدفنوه في البر، وإلا شدوه بين لوحين لئلا ينتفخ وألقوه في البحر ليلقيه البحر إلى الساحل لعله يع إلى قوم يدفنونه، فإن كان أهل الساحل كفارا، ثقل بشئ ليرسب. قلت: العجب من الامام الرافعي مع جلالته، كيف حكى هذه المسألة على هذا الوجه، وكأنه قلد فيه صاحبي (المهذب) و (المستظهري) في قولهما: إن كان أهل الساحل كفارا، ثقل ليرسب، وهذا خلاف نص الشافعي، وإنما هو مذهب المزني، لان الشافعي رحمه الله قال: يلقى بين لوحين ليقذفه البحر. قال المزني: هذا الذي قاله الشافعي، إذا كان أهل الساحل مسلمين، فإن كانوا كفارا، ثقل بشئ لينزل إلى القرار. قال أصحابنا: الذي قاله الشافعي أولى، لانه يحتمل أن يجده مسلم فيدفنه إلى القبلة. وعلى قول المزني: يتيقن ترك الدفن. هذا الذي ذكرته هو المشهور في كتب الاصحاب، وذكر الشيخ أبو حامد، وصاحب (الشامل) وغيرهما: أن المزني ذكرها في (جامعه) الكبير، وأنكر القاضي أبو الطيب عليهم وقال: إنما ذكرها المزني في (جامعه) كما قالها الشافعي في (الام). قال الشافعي: فان لم يجعلوه بين لوحتين ليقذفه الساحل، بل ثقلوه وألقوه في البحر، رجوت أن يسعهم، كذا رأيته في (الام). ونقل الاصحاب أنه قال: لم يأثموا، وهو بمعناه. وإذا ألقوه بين لوحين، أو في البحر، وجب عليهم قبل ذلك غسله وتكفينه، والصلاة عليه بلا خلاف، [ وقد أوضحت المسألة في (شرح المهذب) (1)

(1/660)


بأبسط من هذا، وقد بقيت من باب الدفن بقايا ] (1). قال الشافعي والاصحاب رحمهم الله: يستحب أن يجمع الاقارب في موضع واحد من المقبرة. ومن سبق إلى موضع من المقبرة المسبلة ليحفره، فهو أحق من غيره. قال أصحابنا: ويحرم أن يدفن في موضع فيه ميت حتى يبلى ولا يبقى عظم ولا غيره. قالوا: فإن حفر فوجد عظامه، أعاد القبر ولم يتم الحفر. قال الشافعي رحمه الله: فان فرغ من القبر فظهر شئ من العظام، جاز أن تجعل في جانب القبر ويدفن الثاني معه. قال الشافعي والاصحاب: ولو مات له أقارب دفعة، وأمكنه دفن كل واحد في قبر، بدأ بمن يخشى تغيره، ثم الذي يليه في التغير. فإن لم يخش تغير، بدأ بأبيه، ثم أمه، ثم الاقرب فالاقرب. فإن كانا أخوين، فأكبرهما. فإن كانتا زوجتين، أقرع بينهما. ولا يدفن مسلم في مقبرة الكفار، ولا كافر في مقبرة المسلمين. قال أصحابنا: ولا يكره الدفن بالليل. قالوا: وهو مذهب العلماء كافة، إلا الحسن البصري. قالوا: لكن المستحب، أن يدفن نهارا (2). قال الشافعي في (الام) والاصحاب: ولا يكره الدفن في الاوقات التي نهي عن الصلاة فيها. ونقل الشيخ أبو حامد، وصاحب (الحاوي)، والشيخ نصر، وغيرهم، الاجماع عليه، وبه أجابوا عن حديث

(1/661)


عقبة بن عامر (1) في (صحيح مسلم) (2): (ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا) وذكر وقت الاستواء، والطلوع، والغروب. وأجاب القاضي أبو الطيب، ثم صاحب (التتمة)، بأن الحديث محمول على تحري ذلك وقصده. ويكره المبيت في المقبرة. وأما نقل الميت من بلد إلى بلد قبل دفنه، فقال صاحب (الحاوي) قال الشافعي: لا أحبه إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة، أو بيت المقدس، فنختار أن ينقل إليها لفضل الدفن فيها. وقال صاحب (التهذيب)، والشيخ أبو نصر البندنيجي من العراقيين: يكره نقله. وقال القاضي حسين، وأبو الفرج الدارمي، وصاحب (التتمة): يحرم نقله. قال القاضي وصاحب (التتمة): ولو أوصى به، لم تنفذ وصيته، وهذا أصح، فإن في نقله تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته من وجوه. ولو ماتت امرأة في جوفها جنين حي، قال أصحابنا: إن كان يرجى حياته، شق جوفها وأخرج ثم دفنت، وإلا فثلاثة أوجه. الصحيح: لا يشق جوفها، بل يترك حتى يموت الجنين ثم تدفن. والثاني: يشق. والثالث: يوضع عليه شئ ليموت ثم تدفن، وهذا غلط (3) وإن كان قد حكاه

(1/662)


جماعة، وإنما ذكرته لابين بطلانه. قال صاحب (الحاوي): قال الشافعي رحمه الله: لو أن رفقة في سفر مات أحدهم فلم يدفنوه، نظر، إن كان بطريق يخترقه (1) المارة، أو بقرب قرية للمسلمين، فقد أساؤوا، وعلى من بقربه من المسلمين دفنه. وإن كان بصحراء، أو موضع لا يمر به أحد، أثموا وعلى السلطان معاقبتهم، إلا أن يخافوا - لو اشتغلوا به - عدوا، فيختار أن يواروه ما أمكنهم. فإن تركوه، لم يأثموا، لانه موضع ضرورة. قال الشافعي: لو أن مجتازين مروا بميت في صحراء، لزمهم القيام به رجلا كان أو امرأة. فإن تركوه أثموا. ثم إن كان بثيابه ليس عليه أثر غسل ولا تكفين، وجب عليهم غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه. وإن كان عليه أثر الغسل والكفن والحنوط، دفنوه. فإن أرادوا الصلاة عليه، صلوا بعد دفنه على قبره، لان الظاهر أنه صلي عليه [ وقد ألحقت في هذا الباب أشياء كثيرة، وبقيت منها نفائس ومتممات استقصيتها في (شرح المهذب) تركتها لكثرة الاطالة ] (2). والله أعلم.
باب التعزية
هي سنة، ويكره الجلوس لها (3). ويستحب أن يعزي جميع أهل الميت، الكبير والصغير، والرجل والمرأة، لكن لا يعزي الشابة إلا محارمها، وسواء في أصل شرعيتها، ما قبل الصلاة والدفن، وبعدهما، لكن تأخيرها إلى ما بعد الدفن أحسن، لاشتغال أهل الميت بتجهيزه. قلت: قال أصحابنا: إلا أن يرى من أهل الميت جزعا شديدا، فيختار تقديم

(1/663)


التعزية ليصبرهم. والله أعلم. ثم تمتد التعزية إلى ثلاثة أيام، ولا يعزى بعدها إلا أن يكون المعزي، أو المعزى غائبا. وفي وجه: يعزيه أبدا (1)، وهو شاذ. والصحيح المعروف، الاول. ثم الثانية للتقريب. فرع: معنى التعزية: الامر بالصبر والحمل عليه بوعد الاجر، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت بالمغفرة، وللمصاب بجبر المصيبة، فيقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك (2)، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك. وفي تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأخلف عليك، أو ألهمك الصبر، أو جبر مصيبتك ونحوه. وفي تعزية الكافر بالمسلم (3): غفر الله لميتك، وأحسن عزاك. ويجوز للمسلم أن يعزي الذمي بقريبه الذمي (4)، فيقول: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك.

(1/664)


فصل: يستحب لجيران الميت، والاباعد من قرابته، تهيئة طعام لاهل الميت، يشبعهم في يومهم وليلتهم، ويستحب أن يلح عليهم في الاكل. قلت: قال صاحب (الشامل) وأما إصلاح أهل الميت طعاما، وجمعهم الناس عليه، فلم ينقل فيه شئ، قال: وهو بدعة غير مستحبة، وهو كما قال. قال غيره: ولو كان الميت في بلد، وأهله في غيره، يستحب لجيران أهله اتخاذ الطعام لهم. ولو قال الامام الرافعي: يستحب لجيران أهل الميت، لكان أحسن، لتدخل فيه هذه الصورة. والله أعلم. [ ولو اجتمع نساء ينحن، لم يجز أن يتخذ لهن طعاما، فإنه إعانة على معصية ] (1). فصل: البكاء على الميت جائز قبل الموت وبعده، وقبله أولى (2). والندب حرام، وهو أن يعد شمائل (3) الميت، فيقال: واكهفاه، واجبلاه، ونحو ذلك.

(1/665)


والنياحة حرام، والجزع (1)، بضرب الخد، وشق الثوب، ونشر الشعر، حرام، وإذا فعل أهل الميت شيئا من ذلك، لا يعذب الميت، والحديث فيه (2) متأول على من أوصى (3) بالنياحة عليه.
باب تارك الصلاة (4)
وهو ضربان. أحدهما: تركها جحدا لوجوبها (5)، فهو مرتد (6) تجري عليه أحكام

(1/666)


المرتدين، إلا أن يكون قريب عهد بالاسلام، يجوز أن يخفى عليه وجوبها، ويجري هذا الحكم في جحود كل حكم مجمع عليه. قلت: أطلق الامام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعا عليه فيه نص (1)، وهو من أمور الاسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام، كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو تحريم الخمر، أو الزنا، ونحو ذلك، فهو كافر. ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة، فليس بكافر، للعذر، بل يعرف الصواب ليعتقده. ومن جحد مجمعا عليه، ظاهرا، لا نص فيه. ففي الحكم بتكفيره خلاف يأتي إن شاء الله تعالى بيانه في باب الردة، وقد أوضح صاحب (التهذيب) القسمين الاولين في خطبة كتابه. والله أعلم. الضرب الثاني: من تركها غير جاحد، وهو قسمان. أحدهما: ترك لعذر، كالنوم، والنسيان، فعليه القضاء فقط، ووقته موسع. والثاني: ترك بلا عذر تكاسلا، فلا يكفر على الصحيح. وعلى الشاذ: يكون مرتدا كالاول، فعلى

(1/667)


الصحيح: يقتل حدا. وقال المزني: يحبس ويؤدب ولا يقتل. ومتى يقتل ؟ فيه أوجه. الصحيح: بترك صلاة واحدة إذا ضاق وقتها، والثاني: إذا ضاق وقت الثانية. والثالث: إذا ضاق وقت الرابعة. والرابع: إذا ترك أربع صلوات. والخامس: إذا ترك من الصلوات قدرا يظهر لنا به اعتياده الترك وتهاونه بالصلاة. والمذهب: الاول. والاعتبار بإخراج الصلاة عن وقت الضرورة (1). فإذا ترك الظهر، لم يقتل حتى تغرب الشمس، وإذا ترك المغرب، لم يقتل حتى يطلع الفجر (2) (3)، حكاه الصيدلاني وتابعه الائمة عليه. وعلى الاوجه كلها: لا يقتل حتى يستتاب (4). وهل يكفي الاستتابة في الحال، أم يمهل ثلاثة أيام ؟ قولان. قال في (العدة): المذهب أنه لا يمهل. والقولان في الاستحباب: على المذهب. وقيل: في الايجاب. فرع: الصحيح: أنه يقتل بالسيف ضربا كالمرتد. وفي وجه: ينخس بحديدة ويقال: صل، فإن صلى، وإلا كرر عليه [ النخس ] حتى يموت. وفي وجه: يضرب بالخشب حتى يصلي أو يموت (5). وأما غسل المقتول لترك الصلاة ودفنه والصلاة عليه، فتقدم بيانها في الصلاة على الميت. فرع: إذا أراد السلطان قتله فقال: صليت في بيتي، ترك (6). فرع: تارك الوضوء يقتل على الصحيح (7). ولو امتنع من صلاة الجمعة وقال: أصليها ظهرا، بلا عذر، لم يقتل، قاله الغزالي في فتاويه، لانه لا يقتل بترك الصوم، فالجمعة أولى، لان لها بدلا وتسقط بأعذار كثيرة.

(1/668)


قلت: قد جزم الامام الشاشي في فتاويه بأنه يقتل بترك الجمعة وإن كان يصليها ظهرا، لانه لا يتصور قضاؤها، وليست الظهر قضاء عنها. وقد اختار هذا غير الشاشي (1)، واستقصيت الكلام عليه في أول كتاب الصلاة، من شرح (المهذب). ولو قتل إنسان تارك الصلاة في مدة الامهال، قال صاحب (البيان): بأثم ولا ضمان عليه كقاتل المرتد (2). وسيأتي كلام الرافعي فيه في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى. وإن ترك الصلاة وقال: تركتها ناسيا، أو للبرد، أو عدم الماء، أو لنجاسة كانت علي، ونحو ذلك من الاعذار، صحيحة كانت أو باطلة، قال صاحب (التتمة): يقال له: صل، فان امتنع، لم يقتل على المذهب، لان القتل بسبب تعمد تأخيرها عن الوقت، ولم يتحقق ذلك، وفي وجه: أنه يقتل لعناده. قال: ولو قال: تعمدت تركها، ولا أريد أن أصليها، قتل قطعا. وإن قال: تعمدت تركها بلا عذر،. ولم يقل: ولا أصليها، قتل أيضا على المذهب، لتحقق جنايته. وفيه وجه: أنه لا يقتل ما لم يصرح بالامتناع من القضاء. واعلم أن قضاء من ترك الصلاة بعذر، على التراخي على المذهب، ومن ترك بغير عذر، فيه وجهان: أصحهما عند العراقيين: على التراخي، والصواب ما قاله الخراسانيون: أنه على الفور. وستأتي المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى كما قدمنا الوعد به في آخر صفة الصلاة (3). والله أعلم.
تم الجزء الأول من كتاب روضة الطالبين ويليه الجزء الثاني وأوله كتاب الزكاة

(1/669)