روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الصيام
يجب صوم رمضان باستكمال شعبان ثلاثين، أو رؤية هلاله، فمن رأى الهلال بنفسه لزمه الصوم. ومن لم يره وشهد بالرؤية عدلان، لزمه. وكذا إن شهد

(2/207)


عدل على الاظهر المنصوص في أكثر كتبه. وقيل: يلزم بقول الواحد قطعا. والثاني: لا بد من اثنين. فإن قلنا: لا بد من اثنين، فلا مدخل لشهادة النساء والعبيد فيه. ولا بد من لفظ الشهادة، ويختص بمجلس القضاء، ولكنها شهادة حسية، لا ارتباط لها بالدعوى، وإن قبلنا الواحد، فهل هو بطريق الرواية، أم الشهادة ؟ وجهان. أصحهما: شهادة، فلا يقبل قول العبد والمرأة. نص عليه في الام: وإذا قلنا: رواية، قبلا. وهل يشترط لفظ الشهادة ؟ قال الجمهور: هو على الوجهين في كونه رواية أو شهادة. وقيل: يشترط قطعا. وإذا قلنا: رواية، ففي الصبي المميز الموثوق به طريقان. أحدهما: أنه على الوجهين في قبول رواية الصبي، والثاني: وهو المذهب الذي قطع به الاكثرون: القطع بأنه لا تقبل. وقال الامام، وابن الصباغ تفريعا على أنه رواية: إذا أخبره موثوق به بالرؤية، لزم قبوله وإن لم يذكره عند القاضي، وقالت طائفة: يجب الصوم بذلك إذا اعتقد صدقه.

(2/208)


ولم يفرعوه على شئ. ومن هؤلاء، ابن عبدان، والغزالي في الاحياء وصاحب التهذيب. واتفقوا على أنه لا يقبل قول الفاسق على القولين جميعا. ولكن إن اعتبرنا العدد، اشترطنا العدالة الباطنة، وإلا فوجهان جاريان في رواية المستور. ولا فرق على القولين بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة. فرع إذا صمنا بقول واحد تفريعا على الاظهر، ولم نر الهلال بعد ثلاثين، فهل نفطر ؟ فيه وجهان. أصحهما عند الجمهور: نفطر، وهو نصه في الام. ثم الوجهان جاريان، سواء كانت السماء مصحية، أو مغيمة. هذا مقتضى كلام الجمهور. وقال صاحب العدة وحكاه صاحب التهذيب: الوجهان إذا كانت السماء مصحية، فإن كانت مغيمة، أفطرنا قطعا. ولو صمنا بقول عدلين، ولم نر الهلال بعد ثلاثيل، فإن كانت مغيمة، أفطرنا قطعا، وإن كانت مصحية، أفطرنا أيضا على المذهب الذي قطع به الجماهير، ونص عليه في الام وحرملة. وقال ابن الحداد: لا نفطر، ونقل عن ابن سريج أيضا. وفرع بعضهم على قول ابن الحداد فقال: لو شهد اثنان على هلال شوال، ولم نر الهلال، والسماء مصحية بعد ثلاثين، قضينا أول يوم أفطرناه، لانه بان كونه من رمضان، لكن لا كفارة على من جامع فيه، لان الكفارة تسقط بالشبهة، وعلى المذهب: لا قضاء.

(2/209)


فرع هل يثبت هلال رمضان بالشهادة على الشهادة ؟ فيه طريقان. أحدهما: على قولين كالحدود، لانه من حقوق الله تعالى، وأصحهما: القطع بثبوته كالزكاة وإتلاف حصر المسجد، وإنما القولان في الحدود المبنية على الاسقاط. فعلى هذا عدد الفروع مبني على الاصول، فإن اعتبرنا العدد في الاصول، فحكم الفروع حكمهم في سائر الشهادات، ولا مدخل فيه للنساء والعبيد، وإن لم نعتبر العدد، فإن قلنا: طريقه الرواية، فوجهان. أحدهما: يكفي واحد كرواية الاخبار، والثاني: لا بد من اثنين. قال في التهذيب: وهو الاصح، لانه ليس بخبر من كل وجه، بدليل أنه لا يكفي أن يقول: أخبرني فلان عن فلان أنه رأى الهلال، فعلى هذا، هل يشترط إخبار حرين ذكرين، أم يكفي امرأتان أو عبدان ؟ وجهان. أصحهما: الاول، ونازع الامام في أنه لا يكفي قوله: أخبرني فلان عن فلان على قولنا: رواية. وإذا قلنا: طريقه الشهادة، فهل يكفي واحد، أم يشترط اثنان ؟ وجهان. وقطع في التهذيب باشتراط اثنين. فرع لا يجب مما يقتضيه حساب المنجم، الصوم عليه، ولا على

(2/210)


غيره. قال الروياني: وكذا من عرف منازل القمر، لا يلزمه الصوم به على الاصح. وأما الجواز، فقال في التهذيب: لا يجوز تقليد المنجم في حسابه، لا في الصوم، ولا في الفطر، وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه ؟ وجها. وجعل الروياني الوجهين فيما إذا عرف منازل القمر وعلم به وجود الهلال. وذكر أن الجواز اختيار ابن سريج، والقفال، والقاضي الطبري. قال: فلو عرف بالنجوم، لم يجز الصوم به قطعا. ورأيت في بعض المسودات، تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجم. فرع إذا قبلنا قول الواحد في الصوم، قال في التهذيب: لا نوقع به الطلاق والعتق المعلقين بهلال رمضان، ولا نحكم بحلول الدين المؤجل إليه.

(2/211)


فرع لا يثبت هلال شوال، إلا بعدلين، وقال أبو ثور: يقبل فيه قول واحد. قال صاحب التقريب: ولو قلت به لم أكن مبعدا. فرع إذا رئي هلال رمضان في بلد، ولم ير في الآخر، فان تقارب البلدان، فحكمها حكم البلد الواحد، وإن تباعدا، فوجهان. أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر. وفي ضبط البعد ثلاثة أوجه. أحدها وبه قطع العراقيون والصيدلاني وغيرهم: أن التباعد: أن تختلف المطالع، كالحجاز، والعراق، وخراسان. والتقارب: أن لا تختلف، كبغداد، والكوفة، والري، وقزوين. والثاني: اعتباره باتحاد الاقليم واختلافه. والثالث: التباعد مسافة القصر. وبهذا قطع إمام الحرمين، والغزالي، وصاحب التهذيب وادعى الامام الاتفاق عليه. قلت: الاصح: هو الاول، فإن شك في اتفاق المطالع، لم يجب الصوم على الذين لم يروا، لان الاصل عدم الوجوب. والله أعلم. ولو شرع في الصوم في بلد، ثم سافر إلى بلد بعيد لم ير فيه الهلال في يومه الاول، واستكمل ثلاثين، فان قلنا: لكل بلد حكم نفسه، لزمه أن يصوم معهم على الاصح، لانه صار من جملتهم، والثاني: يفطر، لانه التزم حكم الاول. وإن قلنا: يعم الحكم جميع البلاد، لزم أهل البلد المنتقل إليه موافقته إن ثبت عندهم

(2/212)


حال البلد الاول بقوله، أو بطريق آخر، وعليهم قضاء اليوم الاول. ولو سافر من البلد الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد رئي فيه، فعيدوا اليوم التاسع والعشرين من صومه، فإن عممنا الحكم، أو قلنا: له حكم البلد المنتقل إليه، عيد معهم، وقضى يوما. وإن لم نعم الحكم وقلنا: له حكم المنتقل منه، فليس له الفطر. ولو رأى الهلال في بلد فأصبح معيدا، فسارت به السفينة إلى بلد في حد البعد، فصادف أهلها صائمين، فقال الشيخ أبو محمد: يلزم إمساك بقية النهار إذا قلنا: لكل بلد حكمه. واستبعد الامام والغزالي إيجابه. وتتصور هذه المسألة في صورتين: إحداهما: أن يكون ذلك اليوم يوم الثلاثين من صوم أهل البلدين، لكن المنتقل إليهم لم يروه. والثانية: أن يكون التاسع والعشرين للمنتقل إليهم لتأخر صومهم بيوم. وإمساك بقية اليوم في الصورتين، إن لم نعمم الحكم كما ذكرنا. وجواب الشيخ أبي محمد، كما أنه مبني على أن لكل بلد حكمه، فهو مبني أيضا على أن للمنتقل حكم المنتقل إليه. وإن عممنا الحكم، فأهل البلد المنتقل إليه إذا عرفوا في أثناء اليوم أنه العيد، فهو شبيه بما إذا شهد الشهود على رؤية الهلال يوم الثلاثين. وقد سبق بيانه في صلاة العيد. وإن اتفق هذا السفر لعدلين وقد رأيا الهلال بأنفسهما، وشهدا في المنتقل إليه، فهذا عين الشهادة برؤية الهلال في اليوم الثلاثين في الصورة الاولى. وأما الثانية، فإن عممنا الحكم جميع البلاد، لم يبعد أن يكون الاصغاء إلى كلامهما على ذلك التفصيل، فإن قبلوا قضوا يوما. وإن لم نعمم الحكم، لم يلتفت إلى قولهما. ولو كان الامر بالعكس، فأصبح صائما، فسارت به السفينة إلى قوم عيدوا، فإن عممنا الحكم، وقلنا: له حكم المنتقل إليه، أفطر، وإلا، لم يفطر.

(2/213)


وإذا أفطر، قضى يوما، إذ لم يصم إلا ثمانية وعشرين يوما. فرع إذا رأى الهلال بالنهار يوم الثلاثين، فهو لليلة المستقبلة، سواء كان قبل الزوال، أو بعده.
فصل لا يصح الصوم إلا بالنية، ومحلها القلب. ولا يشترط النطق بلا خلاف. وتجب النية لكل يوم. فلو نوى صوم الشهر كله، فهل يصح صوم اليوم الاول بهذه النية ؟ المذهب: أنه يصح، وبه قطع ابن عبدان، وتردد فيه الشيخ أبو محمد. ويجب تعيين النية في صوم الفرض، سواء فيه صوم رمضان، والنذر، والكفارة، وغيرها. ولنا وجه حكاه صاحب التتمة عن الحليمي: أنه يصح صوم رمضان بنية مطلقة، وهو شاذ. وكمال النية في رمضان: أن ينوي صمم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى. فأما الصوم وكونه عن رمضان، فلا بد منهما بلا خلاف، إلا وجه الحليمي. وأما الاداء والفرضية والاضافة إلى الله تعالى، ففيها الخلاف المذكور في الصلاة. وأما رمضان هذه السنة، فالمذهب: أنه لا يشترط. وحكى الامام في اشتراطه وجها وزيفه، وحكى صاحب التهذيب وجهين في أنه يجب أن ينوي من فرض هذا الشهر، أم يكفي فرض رمضان ؟ والصواب ما تقدم. فإنه لو وقع التعرض لليوم، لم يضر الخطأ في أوصافه. فلو نوى ليلة الثلاثاء صوم الغد وهو

(2/214)


يعتقد أنه يوم الاثنين، أو نوى رمضان السنة التي هو فيها وهو يعتقدها سنة ثلاث، وكانت سنة أربع، صح صومه، بخلاف ما لو نوى صوم يوم الثلاثاء ليلة الاثنين، أو رمضان سنة ثلاث في سنة أربع، فإنه لا يصح، لانه لا يعين الوقت. ثم إن لفظ الغد، أشهر في كلام الاصحاب في تفسير التعيين، وهو في الحقيقة ليس من حد التعيين، وإنما وقع ذلك من نظرهم إلى التبييت. ولا يخفى مما ذكرناه قياس التعيين في القضاء، والكفارة. وأما صوم التطوع، فيصح بنية مطلق الصوم، كما في الصلاة. فرع قال القاضي أبو المكارم في العدة: لو قال: أتسحر لاقوى على الصوم، لم يكف هذا في النية. ونقل بعضهم عن نوادر الاحكام لابي العباس الروياني: أنه لو قال: أتسحر للصوم، أو شرب لدفع العطش نهارا، أو امتنع من الاكل والشرب والجماع مخافة الفجر. كان ذلك نية للصوم. وهذا هو الحق إن خطر بباله الصوم بالصفات التي يشترط التعرض لها، لانه إذا تسحر ليصوم صوم كذا، فقد قصده. فرع تبييت النية شرط في صوم الفرض، فلو نوى قبل غروب الشمس صوم الغد، لم يصح. ولو نوى مع طلوع الفجر لم يصح على الاصح. ولا تختص النية بالنصف الاخير من الليل على الصحيح، ولا تبطل بالاكل والجماع بعدها على المذهب. وحكي عن أبي إسحق بطلانها، ووجوب تجديدها. وأنكر ابن الصباغ نسبة هذا إلى أبي إسحق، وقال الامام: رجع أبو

(2/215)


إسحاق عن هذا عام حج، وأشهد على نفسه. فإن ثبت أحد هذين، فلا خلاف في المسألة. ولو نوى ونام وانتبه والليل باق، لم يجب تجديد النية على الصحيح. قال الامام: وفي كلام العراقيين تردد في كون الغفلة، كالنوم، وكل ذلك مطرح. فرع يصح صوم النفل بنية قبل الزوال. وقال المزني وأبو يحيى البلخي: لا يصح إلا من الليل، وهل يصح بعد الزوال ؟ قولان. أظهرهما وهو المنصوص في معظم كتبه: لا يصح. وفي حرملة: أنه يصح. قلت: وعلى نصه في حرملة: يصح في جميع ساعات النهار. والله أعلم. ثم إذا نوى قبل الزوال أو بعده، وصححناه، فهل هو صائم من أول النهار حتى ينال ثواب جميعه، أم من وقت النية ؟ وجهان. أصحهما عند الاكثرين: أنه صائم من أول النهار. كما إذا أدرك الامام في الركوع، يكون مدركا لثواب جميع الركعة. فإذا قلنا بهذا، اشترط جميع شروط الصوم من أول النهار، وإذا قلنا: يثاب من حين النية، ففي اشتراط خلو الاول عن الاكل والجماع وجهان. الصحيح: الاشتراط، والثاني: لا، وينسب إلى ابن سريج، وأبي زيد، ومحمد بن جرير الطبري. وهل يشترط خلو أوله عن الكفر والحيض والجنون، أم يصح صوم من أسلم، أو أفاق، أو طهرت من الحيض ضحوة ؟ وجهان. أصحهما: الاشتراط. فرع ينبغي أن تكون النية جازمة، فلو نوى ليلة الثلاثين من شعبان أن يصوم غدا إن كان من رمضان، فله حالان.

(2/216)


الاول: أن لا يعتقده من رمضان، فينظر، إن ردد نيته فقال: أصوم غدا عن رمضان إن كان منه، وإلا، فأنا مفطر، أو فأنا متطوع، لم يقع صومه عن رمضان إذا بان منه، لجنه صام شاكا. وقال المزني: يقع عن رمضان. ولو نوى ليلة الثلاثين من رمضان صوم غد إن كان من رمضان، وإلا فهو مفطر، أجزأه، لان الاصل بقاء رمضان. ولو قال: أصوم غدا من رمضان، أو تطوعا، أو أصوم، أو أفطر، لم يصح صومه لا في الاول ولا في الآخر. أما إذا لم يردد نيته، بل جزم بالصوم عن رمضان، فلا يصح صومه، لانه ذا لم يعتقده من رمضان، لم يتأت منه الجزم بصوم رمضان حقيقة، وإنما يحصل حديث نفس لا اعتبار به. وعن صاحب التقريب حكاية وجه: أنه يصح. الحال الثاني: أن يعتقد كونه من رمضان، فإن لم يستند اعتقاده إلى ما يثير ظنا، فلا اعتبار به، وإن استند إليه، بأن اعتمد قول من يثق به، من حر، أو عبد، أو امرأة، أو صبيين ذوي رشد، ونوى صومه عن رمضان، أجزأه إذا بان من رمضان. فإن قال في نيته والحالة هذه: أصوم عن رمضان، فإن لم يكن من رمضان، فهو تطوع، فظاهر النص: أنه لا يصح صومه إذا بان من رمضان، للتردد. وفيه وجه: أنه يصح، لاستناده إلى أصل. ورأى الامام طرد هذا الخلاف فيما إذا جزم. ويدخل في قسم استناد الاعتقاد إلى ما يثير ظنا، بناء الامر على الحساب حيث جوزناه على التفصيل السابق. ومنها: إذا حكم الحاكم بشهادة عدلين، أو واحد، إذا جوزناه، وجب الصوم، ولا يضر ما قد تبقى من الارتياب. ومنها: المحبوس إذا اشتبه عليه رمضان، فاجتهد، صام شهرا بالاجتهاد.

(2/217)


ولا يكفيه صوم شهر بلا اجتهاد وإن وافق رمضان. ثم إذا اجتهد فصام شهرا، فإن وافق رمضان، فذاك، وإن تأخر عنه، أجزأه قطعا، ويكون قضاء على الاصح، وعلى الثاني: أداء. ويتفرع على الوجهين ما إذا كان ذلك الشهر ناقصا، ورمضان تاما. إن قلنا: قضاء، لزمه يوم آخر، وإن قلنا: أداء، فلا، كما لو كان رمضان ناقصا. وإن كان الامر بالعكس، فإن قلنا: قضاء، فله إفطار اليوم الآخر. وإن قلنا: أداء، فلا، وإن وافق صومه شوالا، حصل منه تسعة وعشرون إن كمل، أو ثمانية وعشرون إن نقص، فإن جعلناه قضاء، وكان رمضان ناقصا، فلا شئ عليه على التقدير الاول، ويقضي يوما على التقدير الثاني. وإن كان رمضان كاملا، قضى يوما على التقدير الاول، ويومين على التقدير الثاني. وإن جعلناه أداء، فعليه قضاء يوم بكل حال. وإن وافق ذا الحجة، حصل منه ستة وعشرون يوما إن كمل، وخمسة وعشرون إن نقص. فإن جعلناه قضاء، وكان رمضان ناقصا، قضى ثلاثة أيام على التقدير الاول، وأربعة على التقدير الثاني. وإن كان كاملا، قضى أربعة على التقدير الاول، وخمسة على التقدير الثاني. وإن جعلناه أداء، قضى أربعة بكل حال. وهذا مبني على أن صوم أيام التشريق لا يصح بحال، فإن صححنا صومها لغير المتمتع، فذو الحجة كشوال. أما إذا اجتهد فوافق صيامه ما قبل رمضان،

(2/218)


فينظر، إن أدرك رمضان بعد بيان الحال، لزمه صومه بلا خلاف. وإن لم يبن الحال إلا بعد مضي رمضان، فطريقان. أشهرهما: على قولين. الجديد الاظهر: وجوب القضاء، والقديم: لا قضاء، والطريق الثاني: القطع بوجوب القضاء. فإن بان الحال في بعض رمضان، فطريقان. أحدهما: القطع بوجوب قضاء ما مضى. وأصحهما: أن في إجزائه الخلاف فيما إذا بان بعد مضي جميع رمضان. فرع إذا نوت الحائض صوم الغد قبل انقطاع دمها، ثم انقطع في الليل، فإن كانت مبتدأة يتم لها بالليل أكثر الحيض، أو معتادة عادتها أكثر الحيض، وهو يتم بالليل، صح صومها. وإن كانت عادتها دون أكثره، ويتم بالليل، فوجهان. أصحهما: يصح، لان الظاهر استمرار عادتها. وإن لم يكن لها عادة، ولا يتم أكثر الحيض في الليل، أو كان لها عادات مختلفة، لم يصح. فرع إذا نوى الانتقال من صوم إلى صوم، لم ينتقل إليه، وهل يبطل صومه، أم يبقى نفلا ؟ وجهان. وكذا لو رفض نية الفرض عن الصوم الذي هو فيه. قلت: الاصح: بقاؤه على ما كان. واعلم أن انقلابه نفلا على أحد الوجهين، إنما يصح في غير رمضان، وإلا، فرمضان لا يقبل النفل عندنا ممن هو من أهل الفرض بحال. والله أعلم. فرع لو قال: إذا جاء فلان، خرجت من صومي، فهل يخرج عند مجيئه ؟ وجهان. فإن قلنا: يخرج، فهل يخرج في الحال ؟ وجهان. والمذهب: لا يبطل في الحالين، كما سبق بيانه في صفة الصلاة.
فصل لا بد للصائم من الامساك عن المفطرات، وهي أنواع. منها: الجماع، وهو مفطر بالاجماع.

(2/219)


ومنها: الاستمناء، وهو مفطر. ومنها: الاستقاءة، فمن تقيأ عمدا، أفطر. ومن ذرعه القئ، لم يفطر. ثم اختلفوا في سبب الفطر إذا تقيأ عمدا، فالاصح: أن نفس الاستقاءة مفطرة كالانزال، والثاني: أن المفطر رجوع شئ مما خرج وإن قل. فلو تقيأ منكوسا، أو تحفظ، فاستيقن أنه لم يرجع شئ إلى جوفه، ففي فطره الوجهان. قال الامام: فلو استقاء عمدا، أو تحفظ جهده، فغلبه القيئ ورجع شئ، فإن قلنا: الاستقاءة مفطرة بنفسها، فهنا أولى، وإلا فهو كالمبالغة في المضمضة إذا سبق الماء إلى جوفه. فرع من المفطرات دخول شئ في جوفه - وقد ضبطوا الداخل المفطر بالعين الواصلة - الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم. وفيه قيود: منها الباطن الواصل إليه. وفيما يعتبر به وجهان. أحدهما: أنه ما يقع عليه اسم الجوف، والثاني: يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء. والاول هو الموافق لكلام الاكثرين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويدل

(2/220)


عليه أنهم جعلوا الحلق كالجوف في بطلان الصوم بوصول الواصل إليه. وقال الامام: إذا جاوز الشئ الحلقوم، أفطر. وعلى الوجهين جميعا باطن الدماغ والبطن والامعاء والمثانة، مما يفطر الوصول إليه، حتى لو كان على بطنه جائفة، أو برأسه مأمومة، فوضع عليها دواء فوصل جوفه أو خريطة دماغه، أفطر وإن لم يصل باطن الامعاء أو باطن الخريطة، وسواء كان الدواء رطبا أو يابسا. ولنا وجه: أن الوصول إلى المثانة لا يفطر، وهو شاذ. والحقنة تفطر على الصحيح. وقال القاضي حسين: لا تفطر، وهو غذيب. والسعوط إن وصل الدماغ، فطر. وما جاوز الخيشوم في الاسعاط، فقد حصل في حد الباطن وداخل الفم والانف إلى منتهى الغلصمة. والخيشوم له حكم الظاهر من بعض الوجوه، حتى لو خرج إليه القيئ وابتلع منه نخامة، أفطر، ولو أمسك فيه شيئا، لم يفطر، ولو نجس، وجب غسله، وله حكم الباطن من حيث أنه لو ابتلع منه الريق لا يفطر، ولا يجب غسله على الجنب. فرع لا بأس بالاكتحال للصائم، سواء وجد في حلقه منه طعما، أم لا، لان العين ليست بجوف، ولا منفذ منها إلى الحلق. ولو قطر في أذنه شيئا فوصل إلى

(2/221)


الباطن، أفطر على الاصح عن الاكثرين، كالسعوط، والثاني: لا يفطر كالاكتحال، قاله الشيخ أبو علي، والقاضي حسين، والفوراني. ولو قطر في إحليله شيئا لم يصل إلى المثانة، فأوجه. أصحها: يفطر، والثاني: لا، والثالث: إن جاوز الحشفة، أفطر، وإلا، فلا. ولا يفطر الفصد والحجامة، لكن يكرهان للصائم. وقال ابن المنذر وابن خزيمة من أصحابنا: يفطر بالحجامة. فرع لو أوصل الدواء إلى داخل لحم الساق، أو غرز فيه السكين فوصلت مخه، لم يفطر، لانه لم يعد عضوا مجوفا. ولو طلى رأسه أو بطنه بالدهن فوصل جوفه بشرب المسام، لم يفطر، لانه لم يصل من منفذ مفتوح، كما لا يفطر بالاغتسال والانغماس في الماء وإن وجد له أثرا في باطنه. ولو طعن نفسه، أو طعنه غيره بإذنه، فوصل السكين جوفه، أفطر، سواء كان بعض السكين خارجا، أو لم يكن. وكذا لو ابتلع طرف خيط وطرفها لآخر بارز، أفطر بوصول الطرف الواصل، ولا يعتبر الانفصال من الظاهر. وحكى الحناطي وجها فيمن أدخل طرف خيط في دبره أو جوفه، وبعضه خارج: أنه لا يفطر. فرع لو ابتلع طرف خيط بالليل، وطرفه الآخر خارج، فأصبح كذلك، فإن تركه لم تصح صلاته، وإن نزعه أو ابتلعه لم يصح صومه. فينبغي أن يبادر غيره إلى نزعه وهو غافل، فإن لم يتفق ذلك، فالاصح: أن يحافظ على الصلاة فينزعه أو يبتلعه، والثاني: يتركه محافظة على الصوم، ويصلي على حاله. قلت: ويجب إعادة الصلاة على الصحيح. والله أعلم.

(2/222)


فرع من قيود المفطر وصوله بقصد، فلو طارت ذبابة إلى حلقه، أو وصل غبار الطريق، أو غربلة الدقيق إلى جوفه، لم يفطر. فلو فتح فاه عمدا حتى دخل الغبار جوفه، قال في التهذيب: لم يفطر على الاصح. ولو ربطت المرأة ووطئت، أو طعن أو أوجر بغير اختياره، لم يفطر. ونقل الحناطي وجهين فيما إذا أوجر بغير اختياره، وهذا غريب. فلو كان مغمى عليه فأوجر معالجة وإصلاحا له، وقلنا: لا يبطل الصوم بمجرد الاغماء، ففي بطلانه بهذا الايجار وجهان. أصحهما: لا يفطر. ونظير الخلاف إذا عولج المحرم المغمى عليه بدواء فيه طيب، هل تجب الفدية ؟. فرع ابتلاع الريق لا يفطر بشروط. أحدها: أن يتمحض الريق، فلو اختلط بغيره وتغير به، أفطر بابتلاعه، سواء كان الغير طاهرا، كمن فتل خيطا مصبوغا تغير به ريقه، أو نجسا كمن دميت لثته وتغير ريقه، فلو ذهب الدم، وابيض الريق، ولم يبق تغير، هل يفطر بابتلاعه ؟

(2/223)


وجهان. أصحهما عند الاكثرين: يفطر، لانه نجس لا يجوز ابتلاعه. وعلى هذا، لو تناول بالليل شيئا نجسا، ولم يغسل فمه حتى أصبح، فابتلع الريق، أفطر. الشرط الثاني: أن يبتلعه من معدته، فلو خرج عن فيه ثم رده بلسانه أو بغيره وابتلعه، أفطر. ولو أخرج لسانه وعليه الريق، ثم رده وابتلع ما عليه، لم يفطر على الاصح. ولو بل الخياط الخيط بالريق، ثم رده إلى فيه على ما يعتاد عند الفتل، فإن لم يكن عليه رطوبة تنفصل، فلا بأس، وإن كانت وابتلعها، فوجهان. قال الشيخ أبو محمد: لا يفطر، كما لا يفطر بالباقي من ماء المضمضة. وقال الجمهور: يفطر، لانه لا ضرورة إليه، وقد ابتلعه بعد مفارقته معدته. وخص صاحب التتمة الوجهين بما إذا كان جاهلا تحريم ذلك، قال: فإن كان عالما، أفطر بلا خلاف. الشرط الثالث: أن يبتلعه على هيئته المعتادة، فان جمعه ثم ابتلعه، فوجهان. أصحهما: لا يفطر. فرع النخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم، فلا تضر، وإن حصلت فيه بانصبابها من الدماغ في الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم، نظر، إن لم يقدر على صرفها ومجها حتى نزلت إلى الجوف. لم تضر، وإن ردها إلى فضاء الفم، أو ارتدت إليه ثم ابتلعها، أفطر. وإن قدر على قطعها من مجراها، فتركها حتى جرت بنفسها، فوجهان حكاهما الامام، أوفقهما

(2/224)


لكلام الائمة: أنه يفطر لتقصيره. فرع إذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه، أو استنشق فسبق إلى دماغه، فالمذهب: أنه إن بالغ فيهما، أفطر، وإلا، فلا. وقيل: يفطر مطلقا، وقيل: عكسه. هذا إذا كان ذاكرا للصوم، فإن كان ناسيا، لم يفطر بحال. وسبق الماء عند غسل الفم لنجاسة، كسبقه في المضمضة، والمبالغة هنا للحاجة ينبغي أن تكون كالمضمضة بلا مبالغة. ولو سبق الماء عند غسل تبرد، أو من المضمضة في المرة الرابعة قال في التهذيب: إن بالغ، أفطر، وإلا فهو مرتب على المضمضة، وأولى بالافطار، لانه غير مأمور به. قلت: المختار في المرة الرابعة، الجزم بالافطار كالمبالغة، لانها منهي عنها. ولو جعل الماء في فمه لا لغرض، فسبق، فقيل: يفطر. وقيل بالقولين. ولو أصبح ولم ينو صوما، فتمضمض ولم يبالغ، فسبق الماء إلى جوفه ثم نوى صوم تطوع، صح على الاصح. قال القاضي حسين في فتاويه: إن قلنا: هذا السبق لا يفطر، صح، وإلا، فلا. قال: والاصح: الصحة في الموضعين. والله أعلم. فرع: إذا بقي طعام في خلل أسنانه، فابتلعه عمدا، أفطر. وإن جرى به الريق بغير قصد، فنقل المزني: أنه لا يفطر. والربيع: أنه يفطر. وقيل: قولان. والاصح حملها على حالتين، فحيث قال: لا يفطر، أراد به ما إذا لم يقدر على تمييزه ومجه. وحيث قال: يفطر، أراد به ما إذا قدر فلم يفعل وابتلعه. وقال إمام الحرمين والغزالي: إن نقى اسنانه بالخلال على العادة، (فهو) كغبار

(2/225)


الطريق، وإلا، أفطر لتقصيره، كالمبالغة في المضمضة. ولقائل أن ينازعهما في إلحاقه بالمبالغة التي ورد النص بكراهتها، ولان ماء المبالغة أقرب إلى الجوف. فرع المني إذا خرج بالاستمناء، أفطر، وإن خرج بمجرد فكر ونظر بشهوة، لم يفطر، وإن خرج بمباشرة فيما دون الفرج، أو لمس أو قبلة، أفطر. هذا هو المذهب، وبه قال الجمهور. وحكى إمام الحرمين عن شيخه: أنه حكى وجهين فيما إذا ضم امرأة إلى نفسه وبينهما حائل، فأنزل. قال: وهو عندي كسبق ماء المضمضة، فإن ضاجعها متجردا، فكالمبالغة في المضمضة. فرع تكره القبلة لمن حركت شهوته ولا يأمن على نفسه، وهي كراهة تحريم على الاصح، والثاني: كراهة تنزيه، ولا تكره لغيره، ولكن الاولى تركها. فرع لو اقتلع نخامة من باطنه ولفظها، لم يفطر على المذهب الذي قطع به الحناطي وكثيرون. وحكى الشيخ أبو محمد فيه وجهين. ثم إن الغزالي جعل مخرج الحاء المهملة من الباطن، والخاء المعجمة من الظاهر. ووجهه لائح، فإن المهملة تخرج من الحلق، والحلق باطن، والمعجمة تخرج مما قبل الغلصمة،

(2/226)


لكن يشبه أن يكون قدر مما بعد مخرج المهملة من الظاهر أيضا. قلت: المختار أن المهملة أيضا من الظاهر، وعجب كونه ضبطه بالمهملة التي هي من وسط الحلق، ولم يضبطه بالهاء أو الهمزة، فإنهما من أقصى الحلق. وأما المعجمة، فمن أدنى الحلق، وهذا معروف مشهور لاهل العربية. والله أعلم. فرع قدمنا أنه لا يفطر بالايجار مكرها على المذهب، فلو أكره على الاكل، لم يفطر على الاظهر. ويجري الوجهان فيما لو أكرهت على الوطئ، أو أكره الرجل، وقلنا: يتصور إكراهه، ولكن لا كفارة وإن حكمنا بالفطر للشبه. وإن قلنا: لا يتصور الاكراه، أفطر، ولزمته الكفارة. وإن أكل ناسيا، فإن كان قليلا، لم يفطر قطعا، وإن كثر، فوجهان كالوجهين في الكلام الكثير في الصلاة ناسيا. قلت: الاصح هنا: أنه لا يفطر. والله أعلم. وإن أكل جاهلا بكونه مفطرا، فإن كان قريب عهد بالاسلام، أو نشأ ببادية وكان يجهل مثل ذلك، لم يفطر، وإلا أفطر. ولو جامع ناسيا، لم يفطر على المذهب. وقيل قولان: كجماع المحرم ناسيا. ولو أكل ظانا غروب الشمس،

(2/227)


فبانت طالعة، أو ظن أن الفجر لم يطلع، فبان طالعا، أفطر على الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور. وقيل: لا يفطر فيهما، قاله المزني وابن خزيمة من أصحابنا. وقيل: يفطر في الاولى دون الثانية لتقصيره في الاولى. فرع الاحوط للصائم، أن لا يأكل حتى يتيقن غروب الشمس، فلو غلب على ظنه الغروب باجتهاد بورد أو غيره، جاز له الاكل على الصحيح. وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: لا يجوز، لقدرته على اليقين بالصبر. وأما في آخر الليل، فيجوز الاكل بالاجتهاد دون الظن. فلو هجم في الطرفين، فأكل بلا ظن، فإن تبين الخطأ، فحكمه ما سبق في الفرع قبله، وإن تبين الصواب. استمرت صحة الصوم، وإن لم يبن الخطأ ولا الصواب، فإن كان ذلك في آخر النهار، وجب القضاء، وإن كان في أوله، فلا قضاء، استصحابا للاصل فيهما. ولو أكل في آخر النهار بالاجتهاد، وقلنا: لا يجوز الاكل، كان كمن أكل بالاجتهاد. قلت: والاكل هجوما بلا ظن حرام في آخر النهار قطعا، وجائز في أوله. وقال الغزالي في الوسيط: لا يجوز، ومثله في التتمة، وهو محمول على أنه ليس مباحا مستوي الطرفين، بل الاولى تركه. وقد صرح به الماوردي والدارمي وخلائق بأنه لا يحرم على الشاك الاكل وغيره، ولا خلاف في هذا القول، لقول الله تعالى: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض...) *. [ البقرة 187 ]

(2/228)


وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما كل ما شككت حتى يتبين لك. والله أعلم. فرع إذا طلع الفجر وفي فيه طعام، فليلفظه، ويصح صومه، فإن ابتلعه، أفطر. فلو لفظ في الحال، فسبق شئ إلى جوفه بغير اختياره، فوجهان مخرجان من سبق الماء في المضمضة. قلت: الصحيح: لا يفطر. والله أعلم. ولو طلع وهو مجامع، فنزع في الحال، صح صومه، نص عليه في

(2/229)


المختصر ولهذه المسألة ثلاثة صور. أحدها: أن يحس بالفجر وهو مجامع، فنزع بحيث يوافق آخر نزعه الطلوع. والثانية: يطلع الفجر وهو مجامع، ويعلم بالطلوع في أوله، فينزع في الحال. والثالثة: أن يمضي زمن بعد الطلوع، ثم يعلم بن. أما هذه الثالثة، فليست مرادة بالنص، بل يبطل فيها الصوم على المذهب، ويجئ فيها الخلاف السابق فيمن أكل ظانا أن الصبح لم يطلع، فبان خلافه، فعلى المذهب: لو مكث في هذه الصورة، فلا كفارة عليه، لان مكثه مسبوق ببطلان الصوم. وأما الصورتان الاوليان، فمرادتان بالنص، فلا يبطلان الصوم فيهما. وفي الثانية منهما وجه شاذ: أنه يبطل. وأما إذا طلع الفجر وعلم بمجرد الطلوع، فمكث، فيبطل صومه قطعا، ويلزمه الكفارة على المذهب. وقيل: فيهما قولان. ولو جامع ناسيا ثم تذكر فاستدام، فهو كالماكث بعد الطلوع. فإن قيل: كيف يعلم الفجر بمجرد طلوعه وطلوعه الحقيقي يتقدم على علمنا به ؟ فأجاب الشيخ أبو محمد بجوابين. أحدهما: أنها مسألة علمية على التقدير، ولا يلزم وقوعها. والثاني: أنا تعبدنا بما نطلع عليه، ولا معنى للصبح إلا ظهور الضوء للناظر، وما قبله لا حكم له. فإذا كان الشخص عارفا بالاوقات ومنازل القمر، فترصده بحيث لا حائل، فهو أول الصبح المعتبر. قلت: هذا الثاني هو الصحيح، بل إنكار تصوره غلط. والله أعلم. فصل في شروط الصوم وهي أربعة. الاول: النقاء من الحيض والنفاس، فلا يصح صوم الحائض ولا النفساء.

(2/230)


الثاني: الاسلام، فلا يصح صوم كافر أصليا كان أو مرتدا، ويعتبر الشرطان في جميع النهار. فلو طرأ الحيض أو ردة، بطل صومه. والثالث: العقل، فلا يصح صوم المجنون. فلو جن في أثناء النهار، بطل صومه على المذهب. وقيل: هو كالاغماء. ولو نام جميع النهار، صح صومه على الصحيح المعروف. وقال أبو الطيب بن سلمة، والاصطخري: لا يصح صومه. ولو نوى من الليل، ثم أغمي عليه، فالمذهب: أنه إن كان مفيقا في جزء من النهار، صح صومه، وإلا، فلا، وهذا هو المنصوص في المختصر في باب الصيام. وفيه قول: أنه تشترط الافاقة من أول النهار. وفي قول: يبطل بالاغماء ولو لحظة في النهار كالحيض، ومنهم من أنكر هذا القول. وفي قول مخرج: أنه لا يبطل بالاغماء وإن استغرق كالنوم. وفي قول خرجه ابن سريج: تشترط الافاقة في طرف النهار، ومنهم من قطع بالمذهب، ومنهم من قطع بالقول الثاني. ولو نوى بالليل، ثم شرب دواء فزال عقله نهارا، فقال في التهذيب إن قلنا: لا يصح الصوم في الاغماء، فهنا أولى، وإلا فوجهان. والاصح: أنه لا يصح، لانه بفعله. قال في التتمة: ولو شرب المسكر ليلا

(2/231)


وبقي سكره جميع النهار، لزمه القضاء، وإن صحا في بعضه، فهو كالاغماء في بعض النهار. وأما الغفلة، فلا أثر لها في الصوم بالاتفاق. الشرط الرابع: الوقت قابل للصوم. وأيام السنة كلها - غير يومي العيدين، وأيام الشريق، ويوم الشك - قابلة للصوم مطلقا. فأما يوما العيدين، فلا يقبلانه. وأما أيام التشريق، فلا تقبل على الجديد. وقال في القديم: يجوز للمتمتع، وللعادم للهدي، صومها عن الثلاثة الواجبة في الحج. فعلى هذا، هل يجوز لغير المتمتع صومها ؟ وجهان. الصحيح وبه قال الاكثرون: لا يجوز. قلت: وإذا جوزنا لغير المتمتع، فهو مختص بصوم له سبب من واجب أو نفل. فأما ما لا سبب له، فلا يجوز عند الجمهور ممن ذكر هذا الوجه وقال إمام الحرمين: هو كيوم الشك، وهذا القديم هو الراجح دليلا، وإن كان مرجوحا عند الاصحاب. والله أعلم. وأما يوم الشك، فلا يصح صومه عن رمضان، ويجوز صومه عن قضاء، أو نذر، أو كفارة. ويجوز إذا وافق وردا صومه تطوعا بلا كراهة. وقال القاضي أبو الطيب: يكره صومه عما عليه (من) فرض. قال ابن الصباغ: هذا خلاف القياس، لانه إذا لم يكره فيه ماله سبب من التطوع، فالفرض أولى. ويحرم أن يصوم فيه تطوعا لا سبب له، فإن صامه، لم يصح على الاصح. وإن نذر صومه، ففي صحة نذره هذان الوجهان. فإن صححنا، فليصم يوما غيره، فإن صامه، خرج عن نذره.

(2/232)


ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا وقع في الالسن أنه رئي ولم يقل عدل: أنا رأيته، أو قاله ولم يقبل الواحد، أو قاله عدد من النساء أو العبيد أو الفساق وظن صدقهم. وأما إذا لم يتحدث برؤيته أحد، فليس بيوم شك، سواء كانت السماء مصحية، أو طبق الغيم، هذا هو الصحيح المعروف. وفي وجه لابي محمد البافي - بالباء الموحدة وبالفاء - إن كانت السماء مصحية ولم ير الهلال، فهو شك. وفي وجه لابي طاهر: يوم الشك: ما تردد بين الجائزين من غير ترجيح، فإن شهد عبد، أو صبي، أو امرأة، فقد ترجح أحد الجانبين، فليس بشك. ولو كان في السماء قطع سحاب يمكن أن يرى الهلال من خللها، وأن يخفى تحتها ولم يتحدث برؤيته. فقال الشيخ أبو محمد: هو يوم شك. وقال غيره: ليس بشك. وقال إمام الحرمين: إن كان في بلد يستقل أهله بطلب الهلال، فليس بشك، وإن كانوا في سفر، ولم تبعد رؤية أهل القرى، فيحتمل أن يجعل يوم الشك. قلت: الاصح: ليس بشك. والله أعلم.
فصل في سنن الصوم
من سنن الصوم، تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس، وأن يفطر على تمر، فإن لم يجد، فعلى الماء وقال الروياني: يفطر على تمر، فإن لم يجد، فعلى حلاوة أخرى، فإن لم يجد، فعلى الماء. وقال القاضي حسين: الاولى في زماننا أن يفطر على ما يأخذه بكفه من النهر ليكون أبعد عن الشبهة. ويسن السحور وأن يؤخره ما لم

(2/233)


يقع في مظنة الشك. والوصال مكروه كراهة تحريم على الصحيح، وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله، والثاني: كراهة تنزيه. وحقيقة الوصال: أن يصوم يومين فصاعدا ولا يتناول شيئا بالليل. والجود والافضال مستحب في جميع الاوقات، وفي رمضان آكد. والسنة كثرة تلاوة القرآن فيه، والمدارسة به، وهو أن يقرأ على غيره، ويقرأ غيره عليه. ويسن الاعتكاف فيه، لا سيما في العشر الاواخر لطلب ليلة القدر. ويصون الصائم لسانه عن الكذب والغيبة والمشاتمة ونحوها، ويكف نفسه عن الشهوات، فهو سر الصوم والمقصود الاعظم منه. وأن يترك السواك بعد الزوال، وإذا استاك فلا فرق بين الرطب واليابس، بشرط أن يحترز عن ابتلاع شئ منه أو من رطوبته. ولنا وجه: أنه لا يكره السواك بعد الزوال في النفل، ليكون أبعد من الرياء، قاله القاضي حسين، وهو شاذ. ويستحب تقديم غسل الجنابة عن الجماع، والاحتلام على الصبح. ولو طهرت الحائض ليلا، ونوت الصوم، ثم اغتسلت في النهار، صح صومها. والسنة أن يقول عند فطره: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت وأن يفطر الصائمين معه، فإن عجز عن عشائهم، أعطاهم ما يفطرون به من شربة أو تمرة أو غيرهما. ويستحب أن يحترز عن الحجامة، والعلك، والقبلة، والمعانقة، إذا لم نحرمهما. وذوق الشئ، ومضغ الطعام للطفل، وكل ذلك لا يبطل الصوم.
فصل في مبيحات الفطر في رمضان وأحكامه فالمرض والسفر، مبيحان بالنص والاجماع، وكذلك من غلبه الجوع أو العطش، فخاف الهلاك، فله الفطر وإن كان مقيما صحيح البدن. ثم شرط كون المرض مبيحا، أن يجهده

(2/234)


الصوم معه، فيلحقه ضرر يشق احتماله على ما ذكرنا من وجوه المضار في التيمم. ثم المرض إن كان مطبقا، فله ترك النية بالليل، وإن كان يحم وينقطع، نظر، إن كان محموما وقت الشروع، فله ترك النية، وإلا، فعليه أن ينوي من الليل، ثم إن عاد واحتاج إلى الافطار، أفطر. وشرط كون السفر مبيحا، كونه طويلا ومباحا. ولو أصبح صائما، ثم مرض في أثناء النهار، فله الفطر. ولو أصبح مقيما صائما ثم سافر، لم يجز له فطر ذلك اليوم. وقال المزني: يجوز، وبه قال غيره من أصحابنا. فعلى الصحيح: لو أفطر بالجماع، لزمته الكفارة. ولو نوى المقيم بالليل، ثم سافر ليلا، فإن فارق العمران قبل الفجر، فله الفطر، وإلا، فلا. ولو أصبح المسافر صائما، ثم أقام في أثناء النهار، لم يجز له الفطر على الصحيح. ونقل صاحب الحاوي عن حرملة: أن له الفطر. ولو أصبح المريض صائما، ثم برأ في النهار، فقطع كثيرون بتحريم الفطر عليه. وطرد صاحب المهذب فيه الوجهين، ولعله الاولى. ولو أصبح صائما في السفر، ثم أراد الفطر، جاز. وفيه احتمال لامام الحرمين وصاحب المهذب: أنه لا يجوز. وإذا قلنا بالمذهب، ففي كراهة الفطر وجهان. قلت: هذا الاحتمال الذي ذكراه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه في البويطي لكن قال: لا يجوز الفطر إن لم يصح الحديث بالفطر. وقد صح الحديث. والله أعلم. واعلم، أن للمسافر الصوم والفطر. ثم إن كان لا يتضرر بالصوم، فهو

(2/235)


أفضل، وإلا، فالفطر أفضل. وذكر في التتمة: أنه لو لم يتضرر في الحال، لكن يخاف الضعف لو صام، أو كان سفر حج، أو غزو، فالفطر أولى. وقد تقدم أصل هذه المسألة في صلاة المسافر. فرع في أحكام الفطر كل من ترك النية الواجبة عمدا أو سهوا، فعليه القضاء. وكذا كل من أفطر، لكن لو كان إفطاره يوجب الكفارة، ففيه خلاف نذكره إن شاء الله تعالى. وما فات بسبب الكفر الاصلي، لا قضاء فيه، ويجب القضاء على المرتد. والمسافر، والمريض إذا أفطرا، قضيا. وما فات بالاغماء، يجب قضاؤه، سواء استغرق جميع الشهر، أم لا، لانه نوع مرض، بخلاف الجنون. ولهذا يجوز الاغماء على الانبياء عليهم السلام، ولا يجوز عليهم الجنون. وعن ابن سريج: أن الاغماء إذا استغرق، فلا قضاء. وم فات بالحيض والنفاس، وجب قضاؤه، ولا يجب على الصبي والمجنون صوم، ولا قضاء، سواء استغرق الجنون النهار، أو الشهر، أم لا. وحكي قول شاذ: أن الجنون كالاغماء، فيجب القضاء. وقول: أنه إذا أفاق في أثناء الشهر، لزمه قضاء ما مضى من الشهر. هذا في الجنون المطلق، أما إذا ارتد ثم جن، أو سكر ثم جن، ففي وجوب القضاء وجهان. ولعل الظاهر: الفرق بين اتصاله بالردة، وبين اتصاله بالسكر كما سبق في الصلاة. فرع لا يجب التتابع في قضاء رمضان، لكن يستحب.
فصل في الامساك تشبها بالصائمين وهو من خواص رمضان، كالكفارة، فلا إمساك على متعد بالفطر في نذر أو قضاء. ثم من أمسك تشبها، ليس في صوم، بخلاف المحرم إذا أفسد إحرامه، ويظهر أثره في أن المحرم لو ارتكب محظورا، لزمه الفدية، ولو ارتكب الممسك محظورا، لا شئ عليه سوى الاثم. ثم الامساك يجب على كل متعد بالفطر في رمضان، سواء أكل أو ارتد، أو نوى

(2/236)


الخروج من الصوم وقلنا: يخرج. ويجب على من نسي النية من الليل. فرع لو أقام المسافر أو برأ المريض اللذان يباح لهما الفطر في أثناء النهار، فلهما ثلاثة أحوال. أحدها: أن يصبحا صائمين وداما عليه إلى زوال العذر، فقد تقدم في الفصل السابق أن المذهب: لزوم اتمام الصوم. الثاني: أن يزول بعدما أفطرا، فلا يجب الامساك، لكن يستحب. فإن أكلا، أخفياه لئلا يتعرضا للتهمة وعقوبة السلطان، ولهما الجماع بعد زوال العذر إذا لم تكن المرأة صائمة، بأن كانت صغيرة، أو طهرت من الحيض ذلك اليوم. وحكى صاحب الحاوي وجهين، في أن المريض إذا أفطر، ثم برأ، هل يلزمه الامساك ؟ قال: أوجبه البغداديون دون البصريين. والمذهب: ما قدمنا. الثالث: أن يصبحا غير ناويين، ويزول العذر قبل أن يأكلا، فان قلنا في الحال الاول: يجوز الاكل، فهنا أولى، وإلا، ففي لزوم الامساك وجهان. الاصح: لا يلزم. فرع إذا أصبح يوم الشك مفطرا، ثم ثبت أنه من رمضان، فقضاؤه واجب، ويجب إمساكه على الاظهر. قال في التتمة: القولان، فيما إذا بان أنه من رمضان قبل الاكل، فإن بان بعده، فإن قلنا: هناك لا يجب الامساك، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. أصحهما: الوجوب. فرع إذا بلغ صبي، أو أفاق مجنون، أو أسلم كافر، في أثناء يوم من رمضان، فهل يلزمهم إمساك بقية النهار ؟ فيه أوجه. أصحها: لا، والثاني: نعم، والثالث: يلزم الكافر دونهما، لتقصيره، والرابع: يلزم الكافر والصبي،

(2/237)


لتقصيرهما دون المجنون. وهل يلزمهم قضاء اليوم الذي زال العذر في أثنائه ؟. أما الصبي فينظر، إن بلغ صائما، فالصحيح: أنه يلزمه إتمامه ولا قضاء. فلو جامع بعد البلوغ فيه، لزمته الكفارة. وفيه وجه حكي عن ابن سريج: أنه يستحب إتمامه، ويجب القضاء، لانه لم ينو الفرض. وإن أصبح مفطرا، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا قضاء، لعدم تمكنه، والثاني: يلزمه القضاء، كمن أدرك جزءا من وقت الصلاة. وأما المجنون إذا أفاق، والكافر إذا أسلم، فالمذهب: أنهما كالصبي المفطر، فلا قضاء على الاصح. وقيل: يقضي الكافر دون المجنون، وصححه صاحب التهذيب. قال الاصحاب: الخلاف في القضاء في هؤلاء الثلاثة، متعلق بالخلاف في إمساكهم تشبها. ثم اختلفوا في كيفية تعلقه، فقال الصيدلاني: من أوجب التشبه، لم يوجب القضاء، ومن يوجب القضاء، لا يوجب التشبه. وقال غيره: من أوجب القضاء، أوجب الامساك، ومن لا، فلا. وقال آخرون: من أوجب الامساك، أوجب القضاء، ومن لا، فلا. فرع الحائض والنفساء، إذا طهرتا في أثناء النهار، المذهب: أنه لا يلزمهما الامساك. ونقل الامام الاتفاق عليه. وحكى صاحب المعتمد: طرد الخلاف فيهما.
فصل أيام رمضان متعينة لصومه، فللمريض والمسافر، الترخص بالفطر، ولهما الصيام عن رمضان، وليس لهما الصوم فيه عن فرض آخر، ولا تطوعا. وهكذا قطع به الاصحاب، وحكى إمام الحرمين خلافا فيمن أصبح في يوم من رمضان غير ناو، فنوى التطوع قبل الزوال، قال: قال الجماهير: لا يصح. وقال أبو إسحق: يصح. قال: فعلى قياسه يجوز للمسافر التطوع به. فصل تجب الكفارة على من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع تام

(2/238)


أثم به لاجل الصوم، وفي الضابط قيود. منها: الافساد، فمن جامع ناسيا، لا يفطر على المذهب، فلا كفارة. وإن قلنا: يفطر، ففي لزوم الكفارة وجهان. أصحهما: لا تلزم، لعدم الاثم. ومنها: كونه من رمضان، فلا كفارة بافساد التطوع، والنذر، والقضاء، والكفارة. وأما المرأة الموطوءة، فإن كانت مفطرة بحيض أو غيره، أو صائمة، ولم يبطل صومها، لكونها نائمة مثلا، فلا كفارة عليها، وإن مكنت طائعة صائمة، فقولان. أحدهما: يلزمها كفارة، كما يلزم الزوج، لانها عقوبة، فاشتركا فيها كحد الزنا. وأظهرهما: لا يلزمها، بل تجب على الزوج. فعلى الاول: لو لم تجب الكفارة على الزوج لكونه مفطرا، أو لم يبطل صومه لكونه ناسيا، أو استدخلت ذكره نائما، لزمتها الكفارة، ويعتبر في كل واحد منهما حاله في اليسار والاعسار. وإذا قلنا بالاظهر، فهل الكفارة التي يخرجها عنه خاصة، ولا يلاقيها الوجوب، أو هي عنه وعنها ويتحملها عنها فيه قولان مستنبطان من كلام الشافعي رضي الله عنه، وربما قيل: وجهان. أصحهما: الاول.

(2/239)


ويتفرع عليهما صور. إحداها: إذا أفطرت بزنا، أو وطئ شبهة، فإن قلنا بالاول، فلا شئ عليها، وإلا، فعليها الكفارة، لان التحمل بالزوجية. وقيل: تلزمها قطعا. الثانية: إذا كان الزوج مجنونا، فعلى الاول: لا شئ عليها، وعلى الثاني: وجهان. أصحهما: تلزمها، لانه ليس أهلا للتحمل، كما لا يكفر عن نفسه، والثاني: يجب في ماله الكفارة عنها، لان ماله صالح للتحمل. وإن كان مراهقا، فكالمجنون. وقيل: هو كالبالغ تخريجا من قولنا: عمده عمد، وإن كان ناسيا أو نائما، فاستدخلت ذكره، فكالمجنون. الثالثة: إذا كان مسافرا والزوجة حاضرة، فإن أفطر بالجماع بنية الترخص، فلا كفارة عليه. وكذا إن لم يقصد الترخص على الاصح. وكذا حكم المريض الذي يباح له الفطر إذا أصبح صائما ثم جامع. وكذا الصحيح، إذا مرض في أثناء النهار ثم جامع، فحيث قلنا بوجوب الكفارة، فهو كغيره. وحكم التحمل، كما سبق. وحيث قلنا: لا كفارة، فهو كالمجنون. وذكر أصحابنا العراقيون: فيما لو قدم المسافر مفطرا، فأخبرته بفطرها وكانت صائمة، أن الكفارة عليها، إذا قلنا: الوجوب يلاقيها، لانها غرته، وهو معذور، ويشبه أن يكون هذا تفريعا على قولنا: لا يتحمل المجنون، وإلا، فليس العذر هنا أوضح منه في المجنون. قلت: قال صاحب المعاياة: فيمن وطئ زوجته ثلاثة أقوال. أحدها: تلزمه الكفارة دونها، والثاني: تلزمه كفارة عنهما، والثالث: تلزم كل واحد كفارة، ويتحمل الزوج ما دخله التحمل من العتق والاطعام. فإذا وطئ أربع زوجات في يوم، لزمه على القول الاول كفارة فقط عن الوطئ الاول، ولا يلزمه شئ بسبب باقي

(2/240)


الوطآت، ويلزمه على الثاني، أربع كفارات، كفارة عن وطئه الاول عنه وعنها، وثلاث عنهن لا تتبعض، إلا في موضع يوجد تحمل الباقي، ويلزمه على الثالث خمس كفارات، كفارتان عنه وعنها بالوطئ الاول، وثلاث عنهن. قال: ولو كان له زوجتان، مسلمة وذمية، فوطئهما في يوم، فعلى الاول: عليه كفارة واحدة بكل حال. وعلى الثاني: إن قدم وطئ المسلمة، فعليه كفارة، وإلا، فكفارتان، وعلى الثالث: كفارتان بكل حال، لانه إن قدم المسلمة، لزمه كفارتان عنه وعنها، ولا يلزمه للذمية شئ. وإن قدم الذمية، لزمه لنفسه كفارة، ثم للمسلمة أخرى. هذا كلامه، وفيه نظر. والله أعلم. الرابعة: إذا قلنا: الوجوب يلاقيها، اعتبرنا حالهما جميعا، وقد تتفق، وقد تختلف. فإن اتفق، نظر، إن كانا من أهل الاعتاق أو الاطعام، أجزأ المخرج عنها، وإن كان من أهل الصيام لكونهما معسرين أو مملوكين، لزم كل واحد صوم شهرين، لان العبادة البدنية لاتتحمل. وإن اختلف حالهما، فإن كان أعلى حالا منها، نظر، إن كان من أهل العتق وهي من أهل الصيام أو الاطعام، فوجهان. الصحيح وبه قطع العراقيون: أنه يجزئ الاعتاق عنهما، لان من فرضه الصوم أو الاطعام، يجزئه العتق، إلا أن تكون أمة، فعليها الصوم، لان العتق لا يجزئ عنها. قال في المهذب: إلا إذا قلنا: العبد يملك بالتمليك، فإن الامة كالحرة المعسرة. قلت: هذا الذي قاله في المهذب غريب، والمعروف، أنه لا يجزئ العتق عن الامة. وقد قال في المهذب في باب العبد المأذون: لا يصح اعتاق العبد، سواء قلنا: يملك، أم لا، لانه يتضمن الولاء، وليس هو من أهله. والله أعلم. والوجه الثاني: لا يجزئ عنها، لاختلاف الجنس. فظلى هذا، يلزمها الصوم إن كانت من أهله. وفيمن يلزمه الاطعام إن كانت من أهله، وجهان.

(2/241)


أصحهما: على الزوج. فإن عجز، ثبت في ذمته إلى أن يقدر، لان الكفارة على هذا القول، معدودة من مؤن الزوجة الواجبة على الزوج، والثاني: يلزمها وإن كان من أهل الصيام وهي من أهل الاطعام. قال الاصحاب: يصوم عن نفسه ويطعم عنها. ومقتضى قول من قال في الصورة السابقة: يجزئ العتق عن الصيام، أن يجزئ هنا الصيام عن الاطعام. أما إذا كانت أعلى حالا منه، فينظر، إن كانت من أهل الاعتاق، وهو من أهل الصيام، صام عن نفسه وأعتق عنها إذا قدر، وإن كانت من أهل الصيام، وهو من أهل الاطعام، صامت عن نفسها وأطعم عن نفسه. واعلم أن جماع المرأة إذا قلنا: لا شئ عليها والوجوب لا يلاقيها، مستثنى عن الضابط. فرع تجب الكفارة بالزنا، وجماع أمته، واللواط، وإتيان البهيمة، وسواء أنزل أم لا، وفي البهيمة والاتيان في الدبر وجه، وهو شاذ منكر. ولو أفسد صومه بغير الجماع، كالاكل، والشرب، والاستمناء، والمباشرات المفضية إلى الانزال، فلا كفارة، لان النص ورد في الجماع، وما عداه ليس في معناه، هذا هو المذهب الصحيح المعروف. وفي وجه قاله أبو خلف الطبري وهو من تلامذة القفال: تجب الكفارة بكل ما يأثم بالافطار به. وفي وجه حكاه في الحاوي عن ابن أبي هريرة: أنه يجب بالاكل والشرب، كفارة فوق كفارة الحامل والمرضع، ودون كفارة المجامع. وهذان الوجهان غلط. وذكر الحناطي، أن ابن عبد الحكم، روي

(2/242)


عنه وجوب الكفارة فيما إذا جامع فيما دون الفرج وأنزل، وهذا شاذ. فرع: إذا ظن أن الصبح لم يطلع، فجامع، ثم بان خلافه، فحكم الافطار سبق، ولا كفارة لعدم الاثم. قال الامام: ومن أوجب الكفارة على الناسي بالجماع، يقول مثله هنا لتقصيره في البحث. ولو ظن غروب الشمس، فجامع، فبان خلافه، ففي التهذيب وغيره: أنه لا كفارة، لانها تسقط بالشبهة. وهذا ينبغي أن يكون مفرعا على تجويز الافطار والحالة هذه، وإلا فتجب الكفارة وفاء بالضابط المذكور لوجوب الكفارة. ولو أكل الصائم ناسيا، فظن بطلان صومه، فجامع، فهل يفطر ؟ وجهان. أحدهما: لا، كما لو سلم من الظهر ناسيا وتكلم عامدا، لا تبطل صلاته. وأصحهما وبه قطع الجمهور: يفطر، كما لو جامع وهو يظن أن الفجر لم يطلع فبان خلافه. وعلى هذا، لا كفارة لانه وطئ وهو يعتقد أنه غير صائم، وعن القاضي أبي الطيب: أنه يحتمل وجوبها، لانه ظن لا يبيح الوطئ. ولو أفطر المسافر بالزنا مترخصا، فلا كفارة، لانه وإن أثم بهذا الوطئ، لكنه لم يأثم به بسبب الصوم، فان الافطار جائز له. ولو زنا المقيم ناسيا للصوم، وقلنا: الصوم يفسد بالجماع ناسيا، فلا كفارة على الاصح، لانه لم يأثم بسبب الصوم، لانه ناس له. فرع من رأى هلال رمضان وحده، لزمه صومه. فان صامه فأفطر بالجماع، فعليه الكفارة. ولو رأى هلال شوال وحده، لزمه الفطر، ويخفيه لئلا يتهم، وإذا رؤي رجل يأكل يوم الثلاثين من رمضان بلا عذر، عزر. فلو شهد أنه رأى الهلال، لم يقبل، لانه متهم في إسقاط التعزير، بخلاف ما لو شهد أولا فردت شهادته، ثم أكل، لم يعزر. فرع لو أفطر بجماع، ثم جامع ثانيا في ذلك اليوم، فلا كفارة للجماع الثاني، لانه لم يفسد صوما. فلو جامع في يومين أو أيام، فعليه لكل يوم كفارة، سواء كفر عن الاول، أم لا. فرع لو أفسد صومه بجماع، ثم أنشأ سفرا طويلا في يومه، لم تسقط

(2/243)


الكفارة على المذهب. وقيل: كما لو طرأ المرض. ولو جامع، ثم مرض، فقولان. أظهرهما: لا تسقط الكفارة. وقيل: لا تسقط قطعا. ولو طرأ بعد الجماع جنون، أو موت، أو حيض، فقولان. أظهرهما: السقوط. والمسألة في الحيض مفرعة على أن المرأة إذا أفطرت بالجماع، لزمتها الكفارة. فرع كمال صفة الكفارة، مستقصى في كتاب الكفارات. والقول الجملي، أن هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار، فيجب عتق رقبة. فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين. فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكينا. وهل يلزمه مع الكفارة قضاء صوم اليوم الذي أفسده بالجماع ؟ فيه ثلاثة أوجه. وقيل: قولان، ووجه. أصحهما: يلزم. والثاني: لا، والثالث: إن كفر بالصيام، لم يلزم، وإلا لزم. قال الامام: ولا خلاف أن المرأة يلزمها القضاء إذا لم تلزمها كفارة. وهل تكون شدة الغلمة عذرا في العدول عن الصيام إلى الاطعام ؟ وجهان. أصحهما: أنها عذر، وبه قطع صاحب التهذيب، وهو مقتضى كلام الاكثرين، ورجح الغزالي المنع. فرع لو كان من لزمته هذه الكفارة فقيرا، فهل له صرفها إلى أهله وأولاده ؟ وجهان. أحدهما: يجوز، لحديث الاعرابي المشهور. وأصحهما: لا يجوز، كالزكاة وسائر الكفارات. وأما قصة الاعرابي، فلم يدفع إلى أهله عن الكفارة.

(2/244)


فرع إذا عجز عن جميع خصال الكفارة، فهل تستقر في ذمته ؟ قال الاصحاب: الحقوق المالية الواجبة لله تعالى، ثلاثة أضرب. ضرب يجب لا بسبب مباشرة من العبد، كزكاة الفطر. فإذا عجز وقت الوجوب، لم تثبت في ذمته. وضرب يجب بسبب على جهة البدل، كجزاء الصيد، فإذا عجز وقت وجوبه، ثبت

(2/245)


في ذمته تغليبا لمعنى الغرامة. وضرب يجب بسبب لا على جهة البدل، ككفارة الجماع، واليمين، والقتل، والظهار، ففيها قولان. أظهرهما: يثبت في الذمة عند العجز، فمتى قدر على إحدى الخصال، لزمته. والثاني: لا يثبت.
فصل في الفدية وهي مد من الطعام، لكل يوم من أيام رمضان. وجنسه جنس زكاة الفطر. فيعتبر غالب قوت البلد على الاصح. ولا يجزئ الدقيق والسويق، كما سبق. ومصرفها، الفقراء أو المساكين. وكل مد منها ككفارة تامة. فيجوز صرف عدد منها إلى مسكين واحد، بخلاف أمداد الكفارة، فإنه يجب صرف كل مد منها إلى مسكين، وتجب الفدية بثلاثة طرق. الاول: فوات نفس الصوم، فمن فاته صوم يوم من رمضان ومات قبل قضائه فله حالان. أحدهما: أن يموت بعد تمكنه من القضاء، سواء ترك الاداء بعذر أم بغيره، فلا بد من تداركه بعد موته. وفي صفة التدارك قولان. الجديد: أنه يطعم من تركته عن كل يوم مد. والقديم: أنه يجوز لوليه أن يصوم عنه، ولا يلزمه. فعلى القديم: لو أمر الولي أجنبيا فصام عنه بأجرة أو بغيرها، جاز كالحج. ولو استقل به الاجنبي، لم يجزه على الاصح. وهل المعتبر على القديم الولاية، أم مطلق القرابة، أم تشترط العصوبة، أم الارث ؟ توقف فيه الامام وقال: لا نقل فيه عندي. قال الرافعي: وإذا فحصت عن نظائره، وجدت الاشبه اعتبار الارث. قلت: المختار، أن المراد مطلق القرابة. وفي صحيح مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لامرأة تصوم عن أمها وهذا يبطل احتمال العصوبة. والله أعلم. ولو مات وعليه صلاة أو اعتكاف، لم يقض عنه وليه، ولا يسقط عنه

(2/246)


بالفدية. ونقل البويطي: أن الشافعي رحمه الله قال في الاعتكاف: يعتكف عنه وليه. وفي رواية: يطعم عنه. قال صاحب التهذيب: ولا يبعد تخريج هذا في الصلاة، فيطعم عن كل صلاة مد. وإذا قلنا بالاطعام في الاعتكاف، فالقدر المقابل بالمد اعتكاف يوم بليلته. هكذا ذكره الامام عن رواية شيخه قال: وهو مشكل، فإن اعتكاف لحظة، عبادة تامة. قلت: لم يصحح الامام الرافعي واحدا من الجديد والقديم في صوم الولي، وكأنه تركه لاضطراب الاصحاب فيه، فإن المشهور في المذهب: تصحيح الجديد. وذهب جماعة من محققي أصحابنا، إلى تصحيح القديم. وهذا هو الصواب. بل ينبغي أن يجزم بالقديم، فإن الاحاديث الصحيحة ثبتت فيه. وليس للجديد حجة من السنة. والحديث الوارد بالاطعام، ضعيف، فيتعين القول بالقديم. ثم من جوز الصيام، جوز الاطعام. والله أعلم. وحكم صوم الكفارة والنذر، حكم صوم رمضان. الحال الثاني: أن يكون موته قبل التمكن من القضاء، بأن لا يزال مريضا، أو مسافرا من أول شوال حتى يموت، فلا شئ في تركته ولا على ورثته. قلت: قال أصحابنا: ولا يصح الصيام من أحد في حياته بلا خلاف، سواء

(2/247)


كان عاجزا أو غيره. والله أعلم. فرع الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم، أو تلحقه به مشقة شديدة، لا صوم عليه. وفي وجوب الفدية عليه، قولان. أظهرهما: الوجوب. ويجري القولان في المريض الذي لا يرجى برؤه. ولو نذر في خلال العجز صوما، ففي انعقاده وجهان. قلت: أصحهما: لا ينعقد. والله أعلم. وإذا أوجبنا الفدية على الشيخ، فكان معسرا، هل تلزمه إذا قدر ؟ قولان، كالكفارة. ولو كان رقيقا فعتق، ففيه خلاف مرتب على المعسر، والاولى: بأن لا تجب، لانه لم يكن أهلا. ولو قدر الشيخ على الصوم بعدما أفطر، فهل يلزمه الصوم قضاء ؟ نقل صاحب التهذيب: أنه لا يلزمه، لانه لم يكن مخاطبا بالصوم، بل كان مخاطبا بالفدية، بخلاف المعضوب إذا حج عنه غيره، ثم قدر، يلزمه الحج في قول، لانه كان مخاطبا به. ثم قال صاحب التهذيب من عند نفسه: إذا قدر قبل أن يفدي، فعليه أن يصوم، وإن قدر بعد الفدية، فيحتمل أن يكون كالحج، لانه كان مخاطبا بالفدية على توهم أن عذره غير زائل، وقد بان خلافه. واعلم أن صاحب التتمة في آخرين نقلوا خلافا في أن الشيخ يتوجه عليه الخطاب بالصوم، ثم ينتقل إلى الفدية بالعجز، أم يخاطب بالفدية ابتداء ؟ وبنوا عليه الوجهين في انعقاد نذره. الطريق الثاني: لوجوب الفدية ما يجب لفضيلة الوقت، وذلك في صور. فالحامل والمرضع، إن خافتا على أنفسهما، أفطرتا وقضتا، ولا

(2/248)


فدية كالمريض. وإن لم تخافا من الصوم، إلا على الولد، فلهما الفطر وعليهما القضاء. وفي الفدية أقوال. أظهرها: تجب، والثاني: تستحب، والثالث: تجب على المرضع دون الحامل. فعلى الاظهر: لا تتعدد الفدية بتعدد الاولاد على الاصح، وبه قطع في التهذيب. وهل يفرق بين المرضع ولدها، أو غيره، بإجارة أو غيرها ؟ قال في التتمة: لا فرق، فتفطر المستأجرة وتفدي. كما أن السفر لما أفاد الفطر، يستوي فيه المسافر لغرض نفسه وغيره. وقال الغزالي في الفتاوى: المستأجرة لا تفطر، ولا خيار لاهل الصبي. قلت: الصحيح قول صاحب التتمة وقطع به القاضي حسين في فتاويه فقال: يحل لها الافطار، بل يجب إن أضر الصوم بالرضيع. وفدية الفطر، على من تجب ؟ قال: يحتمل وجهين، بناء على ما لو استأجر للتمتع، فعلى من يجب دمه ؟ فيه وجهان. قال: ولو كان هناك مراضع، فأرادت أن ترضع صبيا، تقربا إلى الله تعالى، جاز الفطر لها. والله أعلم. ولو كانت الحامل أو المرضع، مسافرة أو مريضة، فأفطرت بنية الترخص بالمرض أو السفر، فلا فدية عليها. وإن لم تقصد الترخص، ففي وجوب الفدية وجهان، كالوجهين في فطر المسافر بالجماع. فرع إذا أفطر بغير الجماع عمدا في نهار رمضان، هل تلزمه الفدية مع القضاء ؟ وجهان. أصحهما: لا. فرع لو رأى مشرفا على الهلاك بغرق أو غيره، وافتقر في تخليصه إلى

(2/249)


الفطر، فله ذلك، ويلزمه القضاء، وتلزمه الفدية على الاصح أيضا، كالمرضع. قلت: قوله: فله ذلك، فيه تساهل. ومراده: أنه يجب عليه ذلك، وقد صرح به أصحابنا. والله أعلم. الطريق الثالث: ما يجب لتأخير القضاء، فمن عليه قضاء رمضان، وأخره حتى دخل رمضان السنة القابلة، نظر، إن كان مسافرا أو مريضا، فلا شئ عليه، فإن تأخير الاداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى. وإن لم يكن، فعليه مع القضاء لكل يوم مد. وقال المزني: لا تجب الفدية. ولو أخر حتى مضى رمضانان فصاعدا، فهل تكرر الفدية ؟ وجهان. قال في النهاية: الاصح، التكرر. ولو أفطر عدوانا، وألزمناه الفدية، فأخر القضاء، فعليه لكل يوم فديتان، واحدة للافطار، وأخرى للتأخير. هذا هو المذهب. وقال إبرهيم المروذي: إن عددنا الفدية بتعدد رمضان، فهنا أولى، وإلا فوجهان. وإذا أخر القضاء مع الامكان، فمات قبل أن يقضي وقلنا: الميت يطعم عنه، فوجهان. أصحهما: يخرج لكل يوم من تركته مدان. والثاني قاله ابن سريج: يكفي مد واحد. وأما إذا قلنا: يصام عنه، فصام الولي، فيحصل تدارك أصل الصوم، ويفدي للتأخير. وإذا قلنا بالاصح وهو التكرر، فكان عليه عشرة أيام، فمات، ولم يبق من شعبان إلا خمسة أيام، أخرج من تركته خمسة عشر مدا، عشرة لاصل الصوم، وخمسة للتأخير، لانه لو عاش لم يمكنه إلا قضاء خمسة. ولو أفطر بلا عذر، وأوجبنا به الفدية فأخر حتى دخل رمضان آخر، ومات قبل القضاء، فالمذهب وجوب ثلاثة أمداد. فإن تكررت السنون، زادت الامداد. وإذا لم يبق بينه وبين رمضان السنة الثانية ما يتأتى فيه قضاء جميع الفائت، فهل يلزمه في الحال الفدية عما لا يسعه الوقت، أم لا يلزمه إلا بعد دخول رمضان ؟ فيه وجهان كالوجهين فيمن حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا، فتلف

(2/250)


قبل الغد، هل يحنث في الحال، أم بعد مجئ الغد ؟ ولو أراد تعجيل فدية التأخير قبل مجئ رمضان الثاني ليؤخر القضاء مع الامكان، ففي جوازه وجهان كالوجهين في تعجيل الكفارة عن الحنث المحرم. قلت: إذا أخر الشيخ الهرم المد عن السنة الاولى، فالمذهب أنه لا شئ عليه. وقال الغزالي في الوسيط: في تكرر مد آخر للتأخير وجهان. وهذا شاذ ضعيف. وإذا أراد الشيخ الهرم إخراج الفدية قبل دخول رمضان، لم يجز، وإن أخرجها بعد طلوع الفجر من يوم من رمضان، أجزأه عن ذلك اليوم. وإن أداها قبل الفجر، ففيه احتمالان حكاهما في البحر عن والده، وقطع الدارمي بالجواز، وهو الصواب. قال الامام الزيادي: ويجوز للحامل تقديم الفدية على الفطر، ولا يقدم إلا فدية يوم واحد. وقد تقدم بعض هذه المسائل في باب تعجيل الزكاة. والله أعلم. باب صوم التطوع
من شرع في صوم تطوع، أو صلاة تطوع، لم يلزمه الاتمام، لكن يستحب. فلو خرج منهما، فلا يجب القضاء، لكن يستحب، ثم إن خرج لعذر، لم يكره، وإلا كره على الاصح. ومن العذر، أن يعز على من ضيفه امتناعه من الاكل. ولو شرع في صوم القضاء الواجب، فإن كان على الفور، لم يجز الخروج منه، وإلا فوجهان. أحدهما: يجوز، قاله القفال، وقطع به الغزالي، وصاحب التهذيب وطائفة. وأصحهما: لا يجوز، وهو المنصوص في الام وبه قطع الروياني في الحلية وهو مقتضى كلام الاكثرين، لانه صار متلبسا بالفرض ولا عذر، فلزمه إتمامه، كما لو شرع في الصلاة أول الوقت. وأما صوم الكفارة، فما لزم منه بسبب

(2/251)


محرم، فهو كالقضاء الذي على الفور. وما لزم بسبب غير محرم، كقتل الخطأ، فهو كالقضاء الذي على التراخي. وكذا النذر المطلق. وهذا كله مبني على المذهب، وهو انقسام القضاء إلى واجب على الفور، وعلى التراخي. فالاول: ما تعدى فيه بالافطار، فيحرم تأخير قضائه. قال في التهذيب: حتى يحرم عليه التأخير بعذر السفر. وأما الثاني: فما لم يتعد به، كالفطر بالحيض والسفر والمرض، فقضاؤه على التراخي ما لم يحضر رمضان السنة المقبلة. وقال بعض أصحابنا العراقيين: القضاء على التراخي في المتعدي وغيره. فصل صوم التطوع، منه ما يتكرر بتكرر السنين، ومنه ما يتكرر بتكرر الشهور، ومنه ما يتكرر بتكرر الاسبوع. فمن الاول، يوم عرفة، فيستحب صومه لغير الحجيج، وينبغي للحجيج فطره. وأطلق كثيرون كراهة صومه لهم. فإن كان شخص لا يضعف بالصوم عن الدعاء وأعمال الحج، ففي التتمة أن الاولى له الصوم. وقال غيره: الاولى أن لا يصوم بحال. قلت: قال البغوي وغيره: يوم عرفة، أفضل أيام السنة. وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الطلاق التصريح بذلك مع غيره، في تعليق الطلاق على أفضل الايام. والله أعلم. ومنه يوم عاشوراء، وهو عاشر المحرم، ويستحب أن يصوم معه تاسوعاء، وهو التاسع. وفيه معنيان. أحدهما: الاحتياط حذرا من الغلط في العاشر. والثاني: مخالفة اليهود فإنهم يصومون العاشر فقط. فعلى هذا، لو لم يصم التاسع معه، استحب أن يصوم الحادي عشر. ومنه ستة أيام من شوال، والافضل، أن يصومها متتابعة متصلة بالعيد.

(2/252)


ومن الثاني: أيام البيض، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. قلت: هذا هو المعروف فيها. ولنا وجه غريب حكاه الصيمري، والماوردي، والبغوي، وصاحب البيان: أن الثاني عشر، بدل الخامس عشر، فالاحتياط صومهما. والله أعلم. ومن الثالث: يوم الاثنين والخميس. ويكره إفراد الجمعة بالصوم، وإفراد السبت. فرع أطلق صاحب التهذيب في آخرين أن صوم الدهر مكروه. وقال الغزالي: هو مسنون، وقال الاكثرون: إن خاف منه ضررا، أو فوت به حقا، كره. وإلا، فلا. والمراد: إذا أفطر أيام العيد والتشريق. ولو نذر صوم الدهر، لزم وكانت الاعياد و (أيام) التشريق وشهر رمضان وقضاؤه مستثناة. فإن فرض فوات بعذر أو بغيره، فهل تجب الفدية لما أخل به من النذر بسبب القضاء ؟ قال أبو القاسم الكرخي: فيه وجهان، وقطع به في التهذيب: بأنه لا فدية. ولو نذر صوما آخر بعد هذا النذر، لم ينعقد. ولو لزمه صوم كفارة، صام عنها وفدى عن النذر. ولو أفطر يوما من الدهر، لم يمكن قضاؤه، ولا فدية إن كان بعذر، وإلا فتجب الفدية. ولو نذرت المرأة صوم الدهر، فللزوج منعها، ولا قضاء ولا فدية، وإن أذن لها، أو

(2/253)


مات فلم تصم، لزمها الفدية. قلت: ومن المسنون، صوم عشر ذي الحجة، غير العيد، والصوم من آخر كل شهر. وأفضل الاشهر للصوم بعد رمضان، الاشهر الحرم، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وأفضلها: المحرم، ويلي المحرم في الفضيلة، شعبان. وقال صاحب البحر: رجب أفضل من المحرم، وليس كما قال. قال أصحابنا: لا يجوز للمرأة صوم تطوع وزوجها حاضر، إلا بإذنه. وممن صرح به: صاحبا المهذب والتهذيب. والله أعلم.

(2/254)