روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الحج
لا يجب الحج بأصل الشرع إلا مرة واحدة. وقد يجب زيادة لعارض، كالنذر، أو القضاء، أو لدخول مكة على قول. ومن حج، ثم ارتد، ثم أسلم، لم يلزمه الحج، لان الردة إنما تحبط العمل إذا اتصل بها الموت.
فصل ينقسم الناس في الحج إلى من يصح له الحج، ومن يصح منه بالمباشرة، ومن يقع له عن حجة الاسلام، ومن يجب عليه. فأما الصحة المطلقة فشرطها: الاسلام فقط. فلا يصح حج كافر، ولا

(2/276)


يشترط التكليف. فيجوز للولي أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز وعن المجنون. وأما صحة المباشرة، فشرطها: الاسلام، والتمييز. فلا تصح مباشرة المجنون والصبي الذي لا يميز، وتصح من الصبي المميز والعبد. وسيأتي هذا كله في باب حج الصبي إن شاء الله تعالى. وأما وقوعه عن حجة الاسلام، فله شرطان زائدان: البلوغ، والحرية. ولو تكلف الفقير الحج، وقع عن الفرض. وأما وجوب حجة الاسلام، فشروطه خمسة: الاسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة.
فرع الاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرة بنفسه، واستطاعة تحصيله بغيره. فالاولى، تتعلق بخمسة أمور: الراحلة، والزاد، والطريق، والبدن، وإمكان السير.

(2/277)


فالاول: الراحلة. والناس فيها قسمان. أحدهما: من بينه وبين مكة مسافة القصر، فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة، سواء قدر على المشي، أم لا، لكن يستحب للقادر الحج. وهل الحج راكبا أفضل، أم ماشيا ؟ فيه قولان سنوضحهما في كتاب النذر إن شاء الله تعالى. قلت: المذهب: أن الركوب أفضل. اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولانه أعون له على المحافظة على مهمات العبادة. والله أعلم. ثم إن كان يستمسك على الراحلة من غير محمل، ولا يلحقه مشقة شديدة، لم يعتبر في حقه إلا وجدان الراحلة، وإلا فيعتبر معها وجدان المحمل. قال في الشامل: ولو لحقه مشقة عظيمة في ركوب المحمل، اعتبر في حقه

(2/278)


الكنيسة. وذكر المحاملي وغيره من العراقيين: أن المرأة يعتبر في حقها المحمل، وأطلقوا، لانه أستر لها. ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل، فإذا وجد مؤنة محمل، أو شق محمل، ووجد شريكا يركب في الشق الآخر، لزمه الحج. وإن لم يجد الشريك، فلا يلزمه، سواء وجد مؤنة المحمل، أو الشق، كذا قاله في الوسيط وكان لا يبعد تخريجه على الخلاف في لزوم أجرة البذرقة. وفي كلام الامام، إشارة إليه. القسم الثاني: من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر. فإن كان قويا على المشي، لزمه الحج، ولا تعتبر الراحلة، وإن كان ضعيفا لا يقوى للمشي، أو يناله به ضرر ظاهر، اشترطت الراحلة والمحمل أيضا إن لم يمكنه الركوب بدونه. ولنا وجه: أن القريب كالبعيد منه مطلقا، وهو شاذ منكر، ولا يؤمر بالزحف بحال، وإن أمكنه. قلت: وحكى الدارمي وجها ضعيفا عن حكاية ابن القطان: أنه يلزمه الحبو. والله أعلم. وحيث اعتبرنا وجود الراحلة والمحمل، فالمراد أن يملكهما أو يتمكن من تملكهما أو استئجارهما بثمن المثل، أو أجرة المثل، ويشترط أن يكون ما يصرفه فيهما من المال، فاضلا عما يشترط كون الزاد فاضلا عنه، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(2/279)


الامر الثاني: الزاد. فيشترط لوجوب الحج أن يجد الزاد، وأوعيته، وما يحتاج إليه في السفر. فإن كان له أهل، أو عشيرة، اشترط ذلك لذهابه ورجوعه، وإن لم يكونوا، فكذلك على الاصح. وعلى الثاني: لا يشترط للرجوع. ويجري الوجهان في اشتراط الراحلة للرجوع، وهل يخص الوجهان بما إذا لم يملك ببلده مسكنا، أم لا ؟ فيه احتمالان للامام. أصحهما عنده: التخصيص. وحكى الحناطي وجها: أنه لا يشترط للرجوع في حق من له عشيرة وأهل. وهذا شاذ منكر، وليس المعارف والاصدقاء كالعشيرة، لان الاستبدال بهم متيسر. فرع يشترط كون الزاد والراحلة، فاضلا عن نفقة من لزمه نفقتهم، وكسوتهم، مدة ذهابه ورجوعه. وفي دشتراط كونهما فاضلين عن مسكن وخادم يحتاج إلى خدمته، لزمانته أو منصبه، وجهان. أصحهما عند الاكثرين: يشترط كما يشترط في الكفارة، وكدست ثوب يليق بمنصبه وعلى هذا، لو كان معه نقد،

(2/280)


جاز صرفه إليهما. وهذا فيما إذا كانت الدار مستغرقة بحاجته، وكانت سكنى مثله، والعبد عبد مثله. فأما إذا أمكن بيع بعض الدار ووفى ثمنه بمؤنة الحج، أو كانا نفيسين لا يليقان بمثله، ولو أبدلهما لوفى التفاوت بمؤنة الحج، فإنه يلزمه ذلك. هكذا أطلقوه هنا. لكن في بيع الدار والعبد النفيسين المألوفين في الكفارة وجهان. ولا بد من جريانهما هنا. قلت: ليس جريانهما بلازم، والفرق ظاهر، فإن للكفارة بدلا. ولهذا، اتفقوا على ترك الخادم، والمسكن في الكفارة، واختلفوا فيهما هنا. والله أعلم. فرع لو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه، ولو نقص، بطلت تجارته، أو كانت له مستغلات يحصل منها نفقته، فهل يكلف بيعها ؟ وجهان: أصحهما: يكلف، كما يكلف بيعها في الدين، ويخالف المسكن والخادم، فإنه محتاج إليهما في الحال، وما نحن فيه يتخذه ذخيرة. فرع لو ملك فاضلا عن الوجوه المذكورة، واحتاج إلى النكاح لخوفه العنت، فصرف المال إلى النكاح أهم من صرفه إلى الحج. هذه عبارة الجمهور. وعللوه بأن حاجة النكاح ناجزة، والحج على التراخي. والسابق إلى الفهم منه:

(2/281)


أنه لا يجب الحج والحالة هذه، ويصرف ما معه في النكاح. وقد صرح الامام بهذا، ولكن كثير من العراقيين وغيرهم قالوا: يجب الحج على من أراد التزوج، لكن له أن يؤخره لوجوبه على التراخي. ثم إن لم يخف العنت، فتقديم الحج أفضل، وإلا، فالنكاح أفضل. قلت: هذا الذي نقله عن كثير من العراقيين وغيرهم، هو الصحيح في المذهب، وبه قطع الاكثرون. وقد بينت ذلك واضحا في شرح المهذب. والله أعلم. فرع لو لم يجد ما يصرفه إلى الزاد، لكنه كسوب يكسب ما يكفيه، ووجد نفقة أهله، فهل يلزمه الحج، تعويلا على الكسب ؟ حكى الامام عن أصحابنا العراقيين: أنه إن كان السفر طويلا أو قصيرا، ولا يكسب في كل يوم إلا كفاية يومه، لم يلزمه، لانه ينقطع عن الكسب في أيام الحج. وإن كان السفر قصيرا، ويكسب في يوم كفاية أيام، لزمه الخروج. قال الامام: وفيه احتمال، فإن القدرة على الكسب في يوم الفطر لا تجعل كملك الصاع. فرع ويعتبر أن يكون ماله مع ما ذكرنا فاضلا عن قضاء دين عليه، مؤجلا كان أم حالا. وفيه وجه: أنه إذا كان الاجل بحيث ينقضي بعد رجوعه من الحج، لزمه، وهو شاذ ضعيف. ولو كان ماله دينا يتيسر تحصيله في الحال، بأن كان حالا على ملئ مقر، أو عليه بينة، فهو كالحاصل في يده. وإن لم يتيسر، بأن كان مؤجلا أو على معسر، أو جاحد لا بينة عليه، فكالمعدوم. الامر الثالث: الطريق. فيشترط فيه الامن في ثلاثة أشياء: النفس، والبضع، والمال. قال

(2/282)


الامام: وليس الامن المطلوب قطعيا، ولا يشترط الامن الغالب في الحضر، بل الامن في كل مكان بحسب ما يليق به. فأحد الاشياء الثلاثة، النفس. فمن خاف على نفسه من سبع، أو عدو، لم يلزمه الحج، إن لم يجد طريقا آخر آمنا. فإن وجده، لزمه، سواء كان مثل مسافة طريقه أو أبعد، إذا وجد ما يقطعه به. وفيه وجه شاذ: أنه لا يلزمه سلوك الابعد. ولو كان في الطريق بحر، فإن كان في البر طريق أيضا، لزمه الحج قطعا، وإلا، فالمذهب: أنه إن كان الغالب منه الهلاك، إما لخصوص ذلك البحر، وإما لهيجان الامواج، لم يجب. وإن غلبت السلامة، وجب. وإن استويا، فوجهان. قلت: أصحهما: لا يجب. والله أعلم. وقيل: يجب مطلقا. وقيل: لا يجب. وقيل: قولان. وقيل: إن كانت عادته ركوبه، وجب، وإلا، فلا. وإذا قلنا: لا يجب، استحب على الاصح إن غلبت السلامة. وإن غلب الهلاك، حرم. وإن استويا، ففي التحريم وجهان. قلت: أصحهما: التحريم، وبه قطع الشيخ أبو محمد. والله أعلم. ولو توسط البحر وقلنا: لا يجب ركوبه، فهل يلزمه التمادي، أم يجوز له الرجوع ؟ نظر، إن كان ما بين يديه أكثر، فله الرجوع قطعا، وإن كان أقل، لزمه التمادي قطعا. وإن استويا، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يلزمه التمادي. والوجهان فيما إذا كان له في الرجوع طريق غير البحر. فإن لم يكن، فله الرجوع قطعا، لئلا يتحمل زيادة الاخطار. هذا كله في الرجل. فأما المرأة،

(2/283)


ففيها خلاف مرتب. وأولى بعدم الوجوب، لضعفها عن احتمال الاهوال، ولكونها عورة معرضة للانكشاف وغيره، لضيق المكان. فإن لم نوجب عليها، لم يستحب لها. وقيل بطرد الخلاف. وليست الانهار العظيمة كجيحون في حكم البحر، لان المقام فيها لا يطول، والخطر فيها لا يعظم. وفي وجه شاذ: أنها كالبحر. وأما البضع، فلا يجب على المرأة الحج حتى تأمن على نفسها بزوج، أو محرم بنسب، أو بغير نسب، أو نسوة ثقات. وهل يشترط أن يكون مع إحداهن محرم ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان الاطماع تنقطع بجماعتهن. فإن لم يكن أحد هذه الثلاثة، لم يلزمها الحج على المذهب. وفي قول: يلزمها إذا وجدت امرأة واحدة. وفي قول اختاره جماعة، ونقله الكرابيسي: أنه يلزمها أن تخرج وحدها إذا كان الطريق مسلوكا، كما يلزمها الخروج إذا أسلمت في دار الحرب إلى دار الاسلام وحدها. وجواب المذهب عن هذا، أن الخوف في دار الحرب أكثر من الطريق. هذا في حج الفرض، وهل لها الخروج إلى سائر الاسفار مع النساء الخلص ؟ فيه وجهان. الاصح: لا يجوز. أما المال، فلو خاف على ماله في الطريق من عدو، أو رصدي، لم يجب الحج وإن كان الرصدي يرضى بشئ يسير، إذا تعين ذلك الطريق، وسواء كان

(2/284)


الذي يخافه مسلمين أو كفارا. لكن إذا كانوا كفارا وأطاقوا مقاومتهم، يستحب لهم الخروج للحج، ويقاتلونهم لينالوا الحج والجهاد جميعا، وإن كانوا مسلمين، لم يستحب الخروج والقتال. ويكره بذل المال للرصديين، لانهم يحرصون على التعرض للناس بسبب ذلك. ولو بعثوا بأمان الحجيج، وكان أمانهم موثوقا، أو ضمن لهم ما يطلبونه، وأمن الحجيج، لزمهم الحج. ولو وجدوا من يخفرهم بأجرة ويغلب على الظن أمنهم به، ففي لزوم استئجاره وجهان. قال الامام: أصحهما: لزومه، لانه من أهب الطريق كالراحلة. ولو امتنع محرم المرأة من الخروج معها، إلا بأجرة، قال الامام: فهو مرتب على أجرة الخفير، واللزوم في المحرم، أظهر، لان الداعي إلى الاجرة معني في المرأة، فأشبه مؤنة المحمل في حق المحتاج إليه. فرع يشترط لوجوب الحج، وجود الزاد والماء في المواضع التي جرت العادة بحمل الزاد والماء منها. فإن كانت سنة جدت، وخلا بعض تلك المنازل من أهلها، أو انقطعت المياه، لم يجب الحج. وكذا لو كان يجد فيها الزاد والماء، لكن بأكثر من ثمن المثل، وهو القدر اللائق في ذلك الزمان والمكان. وإن وجدهما بثمن المثل، لزم التحصيل، سواء كانت الاسعار رخيصة أو غالية إذا وفى ماله به. ويجب حملها بقدر ما جرت العادة به في طريق مكة زادها الله تعالى شرفا، كحمل الزاد من الكوفة إلى مكة، وحمل الماء من مرحلتين أو ثلاثا إذا قدر عليه، ووجد آلات الحمل. أما علف الدابة، فيشترط وجوده في كل مرحلة، لان المؤنة تعظم بحمله

(2/285)


لكثرته. ذكره صاحبا التهذيب والتتمة وغيرهما. قلت: إذا ظن كون الطريق فيه مانع من عدو، أو عدم ماء، أو علف، أو غير ذلك، فترك الحج، ثم بان أن لا مانع، فقد لزمه الحج، صرح به الدارمي. ولو لم يعلم وجود المانع ولا عدمه، قال الدارمي: إن كان هناك أصل، عمل عليه، وإلا وجب الحج. والله أعلم. فرع قال صاحب التهذيب وغيره: يشترط أن يجد رفقة يخرج معهم في الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه. فإن خرجوا قبله، لم يلزمه الخروج معهم. وإن أخروا الخروج بحيث لا يبلغون إلا بأن يقطعوا في كل يوم أكثر من مرحلة، لم يلزمه أيضا. فإن كانت الطريق بحيث لا يخاف الواحد فيها، لزمه ولا حاجة إلى الرفقة. الامر الرابع: البدن. ويشترط فيه لاستطاعة المباشرة قوة يستمسك بها على الراحلة. والمراد: أن يثبت على الراحلة بلا مشقة شديدة، فإن وجد مشقة شديدة لمرض أو غيره، فليس مستطيعا. والاعمى إذا وجد مع الزاد والراحلة قائدا، لزمه الحج بنفسه. والقائد له، كالمحرم للمرأة. والمحجور عليه لسفه، كغيره في وجوب الحج عليه، لكن لا يدفع المال إليه، بل يصحبه الولي لينفق عليه في الطريق بالمعروف، أو ينصب قيما ينفق عليه من مال السفيه. قال في التهذيب: وإذا شرع السفيه في حج الفرض، أو حج نذره قبل الحجر بغير إذن الولي، لم يكن للولي تحليله، بل يلزمه الانفاق عليه لن مال السفيه إلى فراغه. ولو شرع في حج تطوع، ثم حجر عليه، فكذلك. ولو شرع فيه بعد الحجر، فللولي تحليله إن كان ما يحتاج إليه للحج يزيد على نفقته المعهودة، ولم يكن له كسب. فإن لم يزد، أو كان له كسب يفي مع قدر النفقة المعهودة، وجب إتمامه، ولم يكن للولي تحليلة.

(2/286)


الامر الخامس: إمكان السير. وهو أن يبقى من الزمان عند وجود الزاد والراحلة، ما يمكن السير فيه إلى الحج السير المعهود. فإن احتاج إلى أن يقطع في كل يوم أو في بعض الايام، أكثر من مرحلة، لم يلزمه الحج. وهذا الامر شرطه الائمة في وجوب الحج، وقد أهمله الغزالي. قلت: أنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على الامام الرافعي - رحمهما الله - [ تعالى ] اعتراضه على الغزالي، وجعله إمكان السير ركنا لوجوب الحج، وقال: إنما هو شرط استقرار الحج في ذمته، ليجب قضاؤه من تركته لو مات قبل الحج، وليس شرطا لاصل وجوب الحج. بل متى وجدت الاستطاعة من مسلم مكلف حر، لزمه الحج في الحال، كالصلاة تجب بأول الوقت قبل مضي زمن يسعها. ثم استقرارها في الذمة يتوقف على مضي الزمان والتمكن من فعلهما. والصواب: ما قاله الرافعي، وقد نص عليه الاصحاب كما نقل، لان الله تعالى قال: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * وهذا غير مستطيع، فلا حج عليه. وكيف يكون مستطيعا وهو عاجز حسا ؟ ! وأما الصلاة، فإنما تجب في أول الوقت لامكان تتميمها. والله أعلم. النوع الثاني: الاستطاعة بغيره. يجوز أن يحج عن الشخص غيره، إذا

(2/287)


عجز عن الحج، بموت، أو كسر، أو زمانة، أو مرض لا يرجى زواله، أو كان كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أصلا، أو لا يثبت إلا بمشقة شديدة. فمقطوع اليدين أو الرجلين، إذا أمكنه الثبوت على الراحلة من غير مشقة شديدة، لا يجوز له الاستنابة، ولا يجوز أيضا لمن لا يثبت على الراحلة لمرض يرجى زواله. وكذا من وجب عليه الحج ثم جن، ليس للولي أن يستنيب عنه، لانه قد يفيق فيحج بنفسه. فلو استناب عنه فمات قبل الافاقة، ففي إجزائه القولان في استنابة المريض الذي يرجى برؤه إذا مات. هذا كله في حجة الاسلام، والقضاء، والنذر. أما حج التطوع، فلا يجوز الاستنابة فيه عن القادر قطعا. وفي استنابة المعضوب عن نفسه، والوارث عن الميت، قولان. أظهرهما: الجواز، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد. ولو لم يكن الميت حج، ولا وجب عليه لعدم الاستطاعة، ففي جواز الاحجاج عنه طريقان. أحدهما: طرد القولين، لانه لا ضرورة إليه. والثاني: القطع بالجواز. لوقوعه عن حجة الاسلام، فإن استأجر للتطوع وجوزناه، فللاجير الاجرة المسماة. ويجوز أن يكون الاجير عبدا، أو صبيا، بخلاف حجة الاسلام، فإنه لا يجوز استئجارهما فيها، لانهما ليسا من أهلها. وفي المنذورة، الخلاف المشهور، في أنه يسلك بالنذر مسلك الواجبات، أم لا ؟ وإن لم نجوز الاسيئجار للتطوع، وقع الحج عن الاجير، ولم يستحق المسمى. وهل يستحق أجرة المثل ؟ قولان: أظهرهما: يستحق. قلت: قال المتولي: هذا الخلاف إذا جهل الاجير فساد الاجارة. فإن علم، لم يستحق شيئا بلا خلاف. قال: والمسألة مفروضة في المعضوب، فإن أوضي

(2/288)


الميت بحجة تطوع، وقلنا: لا تدخله النيابة، فحج الاجير، وقع عن نفسه، ولا أجرة له بلا خلاف، لا على الوصي، ولا على الوارث، ولا في التركة. والله أعلم. فرع من به علة يرجى زوالها، ليس له أن يستنيب من يحج عنه. فإن استناب فحج النائب فشفي، لم يجزئه قطعا. وإن مات، فقولان. أظهرهما: لا يجزئه، ولو كان غير مرجو الزوال، فأحج عنه ثم شفي، فطريقان. أصحهما: طرد القولين. والجاني: القطع بعدم الاجزاء. فإن قلنا في الصورتين: يجزئه، استحق الاجير الاجرة المسماة، وإلا، فهل يقع عن تطوع المستأجر، ويكون هذا عذرا في جواز وقوع التطوع قبل الفرض، كالرق، والصبا، أم لا يقع عنه أصلا ؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: الثاني، وصحح الغزالي الاول. فإن قلنا: لا يقع عنه أصلا، فهل يستحق الاجير أجرة ؟ قولان. أظهرهما: لا، لان المستأجر لم ينتفع بها. والثاني: نعم، لانه عمل له في اعتقاده فعلى هذا، هل يستحق المسمى، أم أجرة المثل ؟ وجهان. وإذا قلنا: يقع عن تطوعه، استحق الاجير الاجرة. وهل هي أجرة المثل، أم المسماة ؟ قال الشيخ أبو محمد: لا يبعد تخريجه على الوجهين. قلت: الاصح هنا: المسمى. والله أعلم. فرع لا يجزئ الحج عن المعضوب بغير إذنه، بخلاف قضاء الدين عن غيره، لان الحج يفتقر إلى النية، وهو أهل للاذن. وفيه وجه: أنه يجوز بغير إذنه، وهو شاذ ضعيف. ويجوز الحج عن الميت، ويجب عند استقراره عليه، سواء أوصى به، أم لا. ويستوي فيه الوارث والاجنبي كالدين. وسيأتي تفصيله في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى. وأما المعضوب، فتلزمه الاستنابة في الجملة، سواء طرأ العضب بعد الوجوب أو بلغ معضوبا واجدا للمال. ثم لوجوب الاستنابة عليه طريقان.

(2/289)


أحدهما: أن يجد مالا يستأجر به من يحج عنه. وشرطه: أن يكون فاضلا عن الحاجات المذكورة فيمن يحج بنفسه، إلا أنا اعتبرنا هناك، أن يكون المصروف إلى الزاد والراحلة فاضلا عن نفقة عياله إلى الرجوع. وهنا يعتبر كونه فاضلا عن نفقتهم وكسوتهم يوم الاستئجار، ولا يعتبر بعد فراغ الاجير من الحج. وهل تعتبر مدة الذهاب ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما في الفطرة والكفارة، بخلاف ما لو حج بنفسه، فإنه إذا لم يفارق أهله، أمكنه تحصيل نفقتهم. ثم إن وفى ما يجده بأجرة راكب، فذاك. وإن لم يف إلا بأجرة ماش، ففي وجوب الاستئجار وجهان. أصحهما: يجب، إذ لا مشقة عليه في مشي الاجير، بخلاف ما إذا حج بنفسه. ولو طلب الاجير أكثر من أجرة المثل، لم يجب الاستئجار، ولو رضي بأقل منها، وجب. ولو امتنع من الاستئجار، فهل يستأجر عنه الحاكم ؟ وجهان. أصحهما: لا. الطريق الثاني: أن لا يجد المال، لكن يجد من يحصل له الحج، وفيه صور. إحداها: أن يبذل له أجنبي مالا ليستأجر له، ففي لزوم قبوله وجهان. الصحيح: لا يلزم. الثانية: أن يبذل واحد من بنيه أو بناته أو أولادهم الطاعة في الحج، فيلزمه القبول والحج قطعا، بشرط أن يكون المطيع قد حج عن نفسه، وموثوقا به، وأن لا يكون معضوبا. قلت: وحكى السرخسي في الامالي وجها واهيا: أنه لا يلزمه. والله أعلم. ولو توسم أثر الطاعة فيه، فهل يلزمه الامر ؟ وجهان. الاصح المنصوص: يلزمه، لحصول الاستطاعة. ولو بذل المطيع الطاعة، فلم يأذن المطاع، فهل ينوب الحاكم عنه ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان مبنى الحج على التراخي، وإذا

(2/290)


اجتمعت الشرائط، فمات المطيع قبل أن يأذن له، فإن مضى وقت إمكان الحج، استقر الوجوب في ذمته، وإلا، فلا. ولو كان له من يطيع ولم يعلم بطاعته، فهو كما لو كان لن مال موروث ولم يعلم به. وشبهه صاحب الشامل بمن نسي الماء في رحله وتيمم، لا يسقط الفرض على المذهب. وشبهه صاحب المعتمد بالمال الضال في الزكاة. والمذهب: وجوبها فيه. ولك أن تقول: لا يجب الحج بحال، فإنه متعلق بالاستطاعة، ولا استطاعة مع عدم العلم بالمال والطاعة. ولو بذل الولد الطاعة، ثم أراد الرجوع، فإن كان بعد إحرامه، لم يجز، وإلا جاز على الاصح. قلت: وإذا كان رجوعه الجائز قبل أن يحج أهل بلده، تبينا أنه لم يجب على الاب، وقد ذكر الامام الرافعي في كتاب الرهن هذه المسألة في مسائل بيع العدل الرهن. والله أعلم. الثالثة: أن يبذل الاجنبي الطاعة، فيلزم قبولها على الاصح. والاخ كالاجنبي قطعا، لان استخدامه يثقل. وكذا الاب على المذهب الذي قطع به الجمهور. وحكي في بعض الحعاليق وجه: أنه كالابن، لاستوائهما في النفقة. الرابعة: أن يبذل الولد المال، فلا يلزم قبوله على الاصح لعظم المنة فيه. وبذل الاب المال، كبذل الابن، أو كبذل الاجنبي، فيه احتمالان ذكرهما الامام، أصحهما: الاول. فرع جميع المذكور في بذل الطاعة، هو فيما إذا كان الباذل راكبا. فلو بذل الابن الطاعة ليحج ماشيا، ففي لزوم القبول وجهان. قال الشيخ أبو محمد: هما مرتبان على الوجهين في لزوم استئجار الماشي، وهنا أولى بالمنع، لانه يشق عليه مشي ولده. وفي معناه، الوالد إذا أطاع وأوجبنا قبوله. ولا يجئ الترتيب إذا كان المطيع الاجنبي. قلت: الاصح: أنه لا يجب القبول، إذا كان الولد، أو الوالد ماشيا. والله أعلم.

(2/291)


وإذا أوجبنا القبول والمطيع ماش، فهو فيما إذا ملك الزاد. فإن عول على الكسب في الطريق، ففي وجوب القبول وجهان. لان الكسب قد ينقطع. فإن لم يكن مكتسبا، وعول على السؤال، فأولى بالمنع. فإن كان يركب مفازة ليس بها كسب ولا سؤال، لم يجب القبول بلا خلاف، لانه يحرم التغرير بالنفس. قلت: إذا أفسد الباذل حجه، انقلب إليه كما سيأتي في الاجير إن شاء الله تعالى. قال الدارمي: ولو بذل لابويه فقبلا، لزمه، ويبدأ بأيهما شاء، قال: وإذا قبل الاب البذل، لم يجز له الرجوع. وإذا كان على المعضوب حجة نذر، فهي كحجة الاسلام. والله أعلم.
فصل في العمرة
في العمرة قولان. الاظهر الجديد: أنها فرض كالحج. والقديم: سنة. وإذ أوجبناها، فهي في شرط مطلق الصحة. وصحة المباشرة والوجوب والاجزاء عن عمرة الاسلام، على ما ذكرنا في الحج، والاستطاعة الواحدة كافية لهما جميعا.
فصل في الاستئجار للحج
يجوز الاستئجار عليه، لدخول النيابة فيه كالزكاة. ويجوز بالرزق، كما يجوز بالاجارة. وذلك بأن يقول: حج عني

(2/292)


شرطنا التعيين، فسدت الاجارة بإهماله. لكن يقع الحج عن المستأجر، لوجود الاذن، ويلزمه أجرة المثل. وإن كانت الاجارة للحج والعمرة، فلا بد من بيان أنه يفرد، أو يقرن، أو يتمتع، لاختلاف الغرض بها. فرع نقل المزني عن نصه في المنثور: أنه لو قال المعضوب: من حج عني، فله مائة درهم، فحج عنه إنسان، استحق المائة. وللاصحاب فيه وجهان. أصحهما وإليه ميل الاكثرين: أن هذا النص على ظاهره. وتصح الجعالة على كل عمل يضح الاستئجار عليه، لان الجعالة تجوز على العمل المجهول، فعلى المعلوم أولى. والثاني: أن النص مخالف أو مؤول، ولا تجوز الجعالة على ما تجوز الاجارة عليه، إذ لا ضرورة إليها لامكان الاجارة. فعلى هذا لو حج عنه إنسان، وقع الحج عن المعضوب للاذن، وللعامل أجرة المثل لفساد العقد. وفيه وجه: أنه يفسد الاذن، لانه غير متوجه إلى إنسان بعينه. فهو كما لو قال: وكلت من أراد بيع داري، فلا يصح التوكيل، وهذا شاذ ضعيف. قلت: لو قال: من حج عني، أو أول من يحج عني، فله ألف درهم، فسمعه رجلان فأحرما عنه أحدهما بعد الآخر، وقع الاول عن القائل، وله الالف، ووقع حج الثاني عن نفسه، ولا شئ له. وإن وقعا معا وشك في وقوعهما معا، وقع حجهما عنهما ولا شئ لهما على القائل، لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر، صرح به القاضي حسين والاصحاب. والله أعلم. فرع مقتضى كلام إمام الحرمين والغزالي، تجويز تقديم الاجارة على خروج الناس للحج، وأن للاجير انتظار خروجهم، ويخرج مع أول رفقة. والذي ذكره جمهور الاصحاب على اختلاف طبقاتهم، ينازع فيه. ويقتضي اشتراط وقوع العقد في زمن خروج الناس من ذلك البلد. حتى قال صاحب التهذيب: لا تصح إجارة العين، إلا في وقت خروج القافلة من ذلك البلد، بحيث يشتغل عقيب العقد بالخروج أن بأسبابه من شراء الزاد ونحوه. فإن كان قبله، لم يصح. وبنوا

(2/293)


على ذلك، أنه لو كان الاستئجار بمكة، لم يجز إلا في أشهر الحج، ليمكنه الاشتغال بالعمل عقيب العقد. وعلى ما قاله الامام والغزالي: لو جرى العقد في وقت تراكم الانداء والثلوج، فوجهان. أحدهما: يجوز، وبقطع الغزالي في الوجيز، وصححه في الوسيط لان توقع زوالها مضبوط. والثاني: لا، لتعذر الاشتغال بالعمل في الحال، بخلاف انتظار خروج الرفقة، فإن خروجها في الحال غير متعذر، وهذا كله في إجارة العين. أما إجارة الذمة، فيجوز تقديمها على الخروج بلا شك. قلت: أنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على الامام الرافعي هذا النقل عن جمهور الاصحاب قال: وما ذكره عن صاحب التهذيب يمكن التوفيق بينه وبين كلام الامام، أو هو شذوذ من صاحب التهذيب لا ينبغي أن يضاف إلى جمهور الاصحاب، فإن الذي رأيناه في التتمة والشامل والبحر وغيرها، مقتضاه: أنه يصح العقد في وقت يمكن فيه الخروج والسير على العادة، أو الاشتغال بأسباب الخروج. قال صاحب البحر: أما عقدها في أشهر الحج، فيجوز في كل موضع، لامكان الاحرام في الحال، هذا كلام الشيخ أبي عمرو. والله أعلم. فرع إذا لم يشرع الاجير في الحج في السنة الاولى لعذر أو لغيره، فإن كانت الاجارة على العين، انفسخت. وإن كانت على الذمة، نظر، إن لم يعينا سنة، فقد سبق أنه كتعيين السنة الاولى. وذكر في التهذيب: أنه يجوز التأخير عن السنة الاولى والحالة هذه، لكن يثبت للمستأجر الخيار. وإن عينا الاولى أو غيرها، فأخر عنها، فطريقان. أصحهما: على قولين، كما لو انقطع المسلم فيه

(2/294)


وأعطيك نفقتك. ولو استأجر بالنفقة، لم تصح، لجهالتها. فرع الاستئجار في جميع الاعمال ضربان. استئجار عين الشخص، وإلزام ذمته العمل. مثال الاول من الحج، أن يقول المعضوب: استأجرتك لتحج عني، أو يقول الوارث: لتحج عن ميتي. ولو قال: لتحج بنفسك، كان تأكيدا. ومثال الثاني: ألزمت ذمتك تحصيل الحج. ويفترق الضربان، في أمور ستراها إن شاء تعالى. ثم لصحة الاستئجار شروط. وله آثار وأحكام، موضعها كتاب الاجارة والذي نذكر هنا، ما يتعلق بخصوص الحج. فكل واحد من ضربي الاجارة، قد يعين فيه زمن العمل، وقد لا يعين. وإذا عين، فقد يعين السنة الاولى. وقد يعين غيرها فأما في إجارة العين، فإن عينا السنة الاولى، جاز بشرط أن يكون الخروج والحج فيما بقي منها مقدورا للاجير. فلو كان مريضا لا يمكنه الخروج، أو كان الطريق مخوفا، أو كانت المسافة بحيث لا تنقطع في بقية السنة، لم يصح العقد، للعجز عن المنفعة. وإن عينا غير السنة الاولى، لم يصح العقد - كاستئجار الدار للشهر المسقبل - لكن لو كانت المسافة بعيدة لا يمكن قطعها في سنة، لم يضر التأخير. والمعتبر السنة الاولى من سني الامكان من ذلك البلد. وإن أطلقا ولم يعينا زمنا حمل على السنة الاولى. فيعتبر فيها ما سبق. وأما الاجارة الواردة على الذمة، فيجوز فيها تعيين السنة الاولى وغيرها. فإن أطلق، حمل على الاولى، ولا

(2/295)


يقدح فيها مرض الاجير، لامكان الاستنابة، ولا خوف الطريق، ولا ضيق الوقت، إن عين غير السنة الاولى. وليس للاجير أن يستنيب في إجارة العين بحال. وأما إجارة الذمة ففي التهذيب وغيره: أنه إن قال: ألزمت ذمتك تحصيل حجة لي، جاز أن يستنيب، وإن قال: لتحج بنفسك، لم يجز، لان الغرض يختلف باختلاف أعيان الاجراء. وهذا قد حكاه الامام عن الصيدلاني وخطأه فيه، وقال ببطلان الاجارة في الصورة الثانية، لان الدينية مع الربط بمعين تتناقضان. كمن أسلم في ثمرة بستان معين بعينه. وهذا إشكال قوي. فرع أعمال الحج معروفة، فإن علمها المتعاقدان عند العقد، فذاك. وإن جهلها أحدهما، لم يصح العقد. وهل يشترط تعيين الميقات الذي يحرم منه الاجير ؟ فيه طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: لا يشترط، ويحمل على ميقات تلك البلدة في العادة الغالبة. والثاني: يشترط. الطريق الثاني: إن كان للبلد طريقان مختلفا الميقات، أو طريق يفضي إلى ميقاتين كالعقيق، وذات عرق، اشترط. وان لم يكن له إلا ميقات واحد، لم يشترط. والطريق الثالث: إن كان الاستئجار عن حي، اشترط، وإلا، فلا. فإن

(2/296)


في محله. أظهرهما: لا تنفسخ. والثاني: تنفسخ. والطريق الثاني: القطع بأنه لا تنفسخ. فإذا قلنا: لا تنفسخ، فإن كان المستأجر هو المعضوب، فله الخيار، إن شاء فسخ، وإو شاء إخبر ليحج في السنة الاخرى. وإن كان الاستئجار عن منيت من ماله، قال أصحابنا العراقيون: لا خيار للمستأجر. وتوقف الامام في هذا. وذكر صاحب " التهذيب " وغيره: أن على الولي أن يراعي النظر للميت، فإن كانت المصلحة في فسخ العقد لخوف إفلاس الاجير أو هربه فلم يفعل، ضمن، وهذا هو الاصح. ويجوز أن يحمل المنسوب إلى العراقيين على أحد أمرين رأيتهما للائمة. أحدهما: صور بعضهم المنع، فيما إذا كان الميت أوصى بأن يحج عنه إنسان بمائة مثلا، ووجهه: بأن الوصية مستحقة الصرف إليه. الثاني: قال أبو إسحاق في الشرح: للمستأجر لميت، أن يرفع الامر إلى القاضى ليفسخ العقد إن كانت المصلحة تقتضيه، وإن كان لا يستقل به، فإذا نزل من ذكروه على المعنى الاول، ارتفع الخلاف. وإن نزل على الثاني، هان أمره. ولو استأجر المعضوب لنفسه، فمات وأخر الاجير الحج عن السنة، فلم نر هذه المسألة مسطورة، وظاهر كلام الغزالي: أنه ليس للوارث فسخ الاجارة. والقياس: ثبوت الخيار للوارث، كالرد بالعيب ونحوه. قلت: الظاهر المختار: أنه ليس له الفسخ، إذ لا ميراث في هذه الاجرة،

(2/297)


بخلاف الرد بالعيب. والله أعلم. فرع: لو استأجر إنسان عن الميت من مال نفسه تبرعا، فهو كاستئجار المعضوب لنفسه، فله الخيار. فرع: لو قدم الاجير الحج على السنة المعينة، جاز، وقد زاد خيرا فرع: إذا انتهى الاجير إلى الميقات المتعين، إما بشرطهما إن اعتبرناه، وإما بتعيين الشرع، فلم يحرم عن المستأجر، بل أحرم عن نفسه بعمرة، فلما فرغ منها، أحرم عن المستأجر بالحجج، فله حالان. أحدهما: أن لا يعود إلى الميقات، فيصح الحج عن المستأجر للاذان ويحط شئ من الاجرة المسماة لاخلاله بالاحرام من الميقات الملتزم. وفي قدر المحطوط، خلاف يتعلق بأصل، وهو أنه إذا سار الاجير من بلد الاجارة وحج، فالاجرة تقع في مقابلة أعمال الحج وحدها، أم تتوزع على اليسير والاعمال، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فإن خصصناها بالاعمال، وزعت الاجرة المسماة على حجة من الميقات، وحجة من مكة، لان المقابل بالاجرة على هذا، هو الحج من الميقات، فإذا كانت أجرة الحجة المنشأة من مكة دينارين، والمنشأة من الميقات خمسة، فالتفاوت ثلاثة أخماس، فتحط ثلاثة أخماس المسمى. فإن وزعنا الاجرة على السير والاعمال وهو المذهب، فقولان.

(2/298)


أحدهما: لا تحسب له المسافة هنا، لانه صرفها إلى غرض نفسه لاحرامه بالعمرة من الميقات. فعلى هذا، يوزع المسمى على حجة تنشأ من بلد الاجارة ويقع الاحرام بها من الميقات، وعلى حجة تنشأ من مكة، فيحط من المسمى بنسبته. فإذا كانت أجرة المنشأة من البلد مائة، والمنشأة من مكة عشرة، حط تسعة أعشار المسمى. و أظهرهما: يحتسب قطع المسافة إلى الميقات، لجواز أن يكون قصد الحج منه، إلا أنه عرض له العمرة. فعلى هذا يوزع المسمى على منشأة من بلد الاجارة إحرامها من الميقات، وعلى منشأة من البلد إحرامها من مكة، فإذا كانت أجرة الاولى: مائة، والثانية: تسعين، حط عشر المسمى، فحصل في الجملة ثلاثة أقوال. المذهب منها. هذا الاخير. ثم الاجير في مسألتنا: يلزمه دم لاحرامه بالحج بعد تجاوزه الميقات، وسنذكر إن شاء الله تعالى خلافا في غير صورة الاعتمار أن إساءة المجاوزة، هل تنجبر بإخراج الدم حتى لا يحط شئ من الاجرة، أم لا ؟ وذلك الخلاف يجئ هنا صرح به ابن عبدان وغيره، فإذا الخلاف في قدر المحظوظ. فرع للقول بإثبات أصل الحط ويجوز أن يفرق بين الصورتين، ويقطع بعدم الانجبار هنا، لانه ارتفق بالمجاوزة حيث أحرم بالعمرة لنفسه. الحال الثاني: أن يعود إلى الميقات بعد الفراغ من العمرة، فيحرم بالحج منه، فهل يحط شئ من الاجرة ؟ يبني على الخلاف المتقدم. إن قلنا: الاجرة موزعة على العمل والسير، ولم يحسب السير لانصرافه إلى عمرته، وزعت الاجرة المسماة على حجة منشأة من بلد الاجارة إحرامها من الميقات، وعلى منشأة من الميقات بغير قطع مسافة، ويحط بالنسبة من المسمى. وإن قلنا: الاجرة في مقابلة العمل فقط، أو وزعناها عليه وعلى السير، واحتسبنا المسافة، فلا حط، فتجب الاجرة كلها، وهذا هو المذهب، ولم يذكر كثيرون غيره.

(2/299)


فرع إذا جاوز الميقات المتعين بالشرط، أو الشرع، غير محرم، ثم أحرم بالحج عن المستأجر، نظر، إن عاد إليه وأحرم منه، فلا دم عليه، ولا يحط من الاجرة شئ، وإن أحرم من جوف مكة، أو بين الميقات ومكة ولم يعد، لزم دم الاساءة بالمجاوزة، وهل ينجبر به الخلل حتى لا يحط شئ من الاجرة ؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أحدهما: ينجبر، ويصير كأن لا مخالفة، فتجب جميع الاجرة. وأظهرهما وهو نصه في المختصر: يحط. والطريق الثاني: القطع بالحط. فإن قلنا بالانجبار فهل نعتبر قيمة الدم، ونقابلها بالتفاوت ؟ وجهان. أحدهما: نعم، فلا ينجبر ما زاد على قيمة الدم. وأصحهما: لا، لان المعول في هذا القول على جبر الخلل، والشرع قد حكم به من غير نظر إلى القيمة. وإذا قلنا بالمذهب وهو الحط، ففي قدره الوجهان بناء على الاصل السابق، وهو أن الاجرة في مقابلة ماذا ؟ فإن قلنا: في مقابلة العمل فقط، وزعنا المسمى على حجة من الميقات، وحجة من حيث أحرم. وإن وزعنا على العمل والسير وهو المذهب، وزعنا المسمى على حجة من بلدة إحرامها من الميقات، وعلى حجة من بلدة إحرامها من حيث أحرم. وعلى هذا، يقل المحطوط. ثم حكى الشيخ أبو محمد وجهين، في أن النظر إلى الفراسخ وحدها، أم يعتبر مع ذلك السهولة والخشونة ؟ والاصح: الثاني. ولو عدل الاجير عن طريق الميقات المعتبر إلى طريق آخر ميقاته مثل المعتبر،

(2/300)


فالمذهب: أنه لا شئ عليه، هذا كله في الميقات الشرعي. أما إذا عينا موضعا آخر، فإن كان أقرب إلى مكة من الشرعي، فالشرط فاسد مفسد الاجارة، إذا لا يجوز لمريد النسك مجاوزة الميقات غير محرم. وإن كان أبعد، بأن عينا الكوفة، فهل يلزم الاجير الدم لمجاوزتها غير محرم ؟ وجهان. الاصح المنصوص: نعم. فإن قلنا: لا يلزم السلام، حط قسط الاجرة قطعا، وإلا، ففي حصول الانجبار به الطريقان. وكذلك لو لزمه الدم لترك مأمور، كالرمي والمبيت. فإن لزمه بفعل مخطور كاللبس والقلم، لم يحط شئ من الاجرة، لانه لم ينقص العمل. ولو شرط الاحرام في أول شوال، فأخره، لزمه الدم، وفي الانجبار الخلاف. وكذا لو شرط أن يحج ماشيا فحج راكبا، لانه ترك مقصودا. هكذا نقلت المسألتان عن القاضي حسين، ويشبه أن تكونا مفرعتين على أن الميقات المشروط، كالشرعي، وإلا، فلا يلزم الدم، كما في مسألة تعيين الكوفة. فرع إذا استأجره للقرآن، فتارة يمتثل، وتارة يعدل إلى جهة أخرى، فإن امتثل فقرن، وجب دم القرآن. وعلى من يجب ؟ وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: على المستأجر. والثاني: على الاجير. فعلى الاول: لو شرط أن يكون على الاجير، فسدت الاجارة، لانه جمع بين إجارة وبيع مجهول، فإن الدم مجهول الصفة، فلو كان المستأجر معسرا، فالصوم على الاجير، لان بعض الصوم، ينبغي أن يكون في الحج. والذي منهما في الحج، هو الاجير. كذا

(2/301)


ذكره في التهذيب. وقال في التتمة: هو كالعاجز عن الهدي والصوم جميعا. وعلى الوجهين: يستحق الاجرة بكمالها. فأما إذ عدل، فينظر، إن عدل إلى الافراد فحج ثم اعتمر، فإن كانت الاجارة على العين، لزمه أن يرد من الاجرة حصة العمرة، نص عليه في المناسك الكبير لانه لا يجوز تأخير العمل في هذه الاجارة عن الوقت المعين. وإن كانت في الذمة، نظر إن عاد إلى الميقات للعمرة، فلا شئ عليه، لانه زاد خيرا، ولا شئ (عليه) ولا على المستأجر أيضا، لانه لم يقرن. وإن لم يعد، فعلى الاجير دم، لمجاوزته الميقات للعمرة. وهل يحط شئ من الاجرة، أم تنجبر الاساءة بالدم ؟ فيه الخلاف السابق. وإن عدل إلى التمتع، فقد أشار صاحب التتمة إلى أنه إن كانت إجارة عين، لم يقع الحج عن المستأجر، لوقوعه في غير الوقت المعين، وهذا هو قياس ما تقدم. وإن كانت على الذمة، نظر، إن عاد إلى الميقات للحج، فلا دم عليه ولا على المستأجر، وإلا، فوجهان. أحدهما: لا يجعل مخالفا لتقارب الجهتين، فيكون حكمه كما لو امتثل. وفي كون الدم على الاجير أو المستأجر، الوجهان. وأصحهما. يجعل مخالفا، فيجب الدم على الاجير، لاساءته. وفي حط شئ من الاجرة، الخلاف. وذكر أصحاب الشيخ أبي حامد: أنه يجب على الاجير دم لتركه الاحرام من الميقات، وعلى المستأجر دم آخر، لان القران الذي أمر به، يتضمنه. واستبعده ابن الصباغ وغيره. فرع إذا استأجره للتمتع فامتثل، فهو كما لو أمره بالقران فامتثل. وإن أفرد، نظر، إن قدم العمرة وعاد للحج إلى الميقات، فقد زاد خيرا. وإن أخر العمرة، فإن كانت إجارة عين، انفسخت في العمرة، لفوات وقتها المعين، فيرد حصتها من المسمى. وإن كانت على الذمة وعاد إلى الميقات للعمرة، لم يلزمه شئ، وإلا فعليه دم، لتركه الاحرام بالعمرة من الميقات، وفي حط شئ من الاجرة الخلاف، وإن قرن، فقد زاد خيرا، نص عليه، لانه قد أحرم بالنسكين من

(2/302)


الميقات، وكان مأمورا بأن يحرم بالحج من مكة. ثم إن عدد الافعال للنسكين، فلا شئ عليه، وإلا، فهل يحط شئ من الاجرة لاختصاره في الافعال ؟ وجهان. وكذا الوجهان في أن الدم على المستأجر، أم الاجير ؟. فرع لو استأجره للافراد فامتثل، فذاك. فلو قرن، نظر، إن كانت الاجارة على العين، فالعمرة واقعة في غير وقتها، فهو كما لو استأجره للحج وحده فقرن، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني من الفصلين الآتيين، وإن كانت في الذمة، وقعا عن المستأجر، وعلى الاجير الدم، وهل يحط شئ من الاجرة للخلل، أم يتخير بالدم ؟ فيه الخلاف. وإن تمتع، فإن كانت الاجارة على العين وقد أمره بتأخير العمرة، وفقد وقعت في غير وقتها، فيرد ما يخصها من الاجرة. وإن أمره بتقديمها، أو كانت على الذمة، وقعا عن المستأجر، ولزم الاجير دم إن لم يعد الحج إلى الميقات، وفي حط شئ من الاجرة الخلاف. فرع إذا جامع الاجير، فسد حجه وانقلب له، فيلزمه الكفارة، والمضي في فاسده، والقضاء. هذا هو المشهور، والذي قطع به الاصحاب. وحكي قول: أنه لا ينقلب، ولا قضاء، لان العبادة للمستأجر، فلا يفسد بفعل غيره. وحكي هذا عن المزني أيضا. فعلى المشهور، إن كان إجارة عين، انفسخت والقضاء الذي يأتي به الاجير يقع عنه. وإن كانت على الذمة، لم تنفسخ. وعمن يقع القضاء ؟ وجهان. وقيل: قولان. أحدهما: عن المتسأجر، لانه قضاء الاول. وأصحهما: عن

(2/303)


الاجير، لان الاداء وقع عنه، فعلى هذا يلزمه سوى القضاء حجة أخرى للمستأجر، فيقضي عنه نفسه، ثم يحج عن المستأجر في سنة أخرى، أو يستنيب من يحج عنه في تلك السنة. وإذا لم تنفسخ الاجارة، فللمستأجر خيار الفسخ، لتأخير المقصود. وفرق أصحابنا العراقيون بين أن يستأجر المعضوب، أو تكون الاجارة لميت في ثبوت الخيار. وقد سبق نظيره. فرع إذا أحرم الاجير عن المستأجر، ثم صرف الاحرام إلى نفسه ظنا منه أنه ينصرف، وأتم الحج على هذا الظن، فالحج للمستأجر. وفي استحقاق الاجير الاجرة قولان: أحدهما: لا، لاعراضه عنها. وأظهرهما: يستحق، لحصول الغرض فيستحق المسمى على الاصح. وقيل: أجرة المثل. فرع إذا مات الحاج عن نفسه في أثنائه، فهل يجوز البناء على حجه ؟ قولان. الاظهر الجديد: لا يجوز، كالصوم والصلاة. والقديم: يجوز. فعلى الجديد: يبطل المأتي به إلا في الثواب، ويجب الاحجاج عنه من تركته إن كان استقر في ذمته. وعلى القديم: تارة يموت وقد بقي وقت الاحرام، وتارة لا يبقى، فإن بقي، أحرم النائب بالحج، ويقف بعرفة إن لم يقف الميت، ولا يقف إن كان وقف ويأتي بباقي الاعمال، ولا بأس بوقوع إحرام النائب داخل الميقات، فإنه يبني على إحرام أشئ منه. وإن لم يبق وقت الاحرام، ففيما يحرم به النائب ؟ وجهان. أحدهما:

(2/304)


بعمرة، ثم يطوف ويسعى، فيجزئانه عن طواف الحج وسعيه. ولا يبيت، ولا يرمي، فإنهما ليسا من أعمال العمرة، ولكن يجبران بالدم. وأصحهما: يحرم بالحج، ويأتي ببقية الاعمال، وإنما يمتنع إنشاء الاحرام بعد أشهر الحج إذا ابتدأه، وهذا يبنى على ما سبق. وعلى هذا، لو مات بين التحللين، أحرم النائب إحراما لا يحرم اللبس والقلم، وإنما يحرم النساء كما لو بقي الميت. هذا كله، إذا مات قبل التحللين، فإن مات بعدهما، فلا خلاف أنه لا يجوز البناء، لانه يمكن جبر ما بقي بالدم. وأوهم بعضهم إجراء الخلاف فيه. فرع إذا مات الاجير في أثناء الحج، فله أحوال. أحدها: أن يكون بعد الشروع في الاركان، وقبل الفراغ منها، فهل يستحق شيئا من الاجرة ؟ قولان. أظهرهما: يستحق، وسواء مات بعد الوقوف بعرفة، أو قبله. هذا هو المذهب. وقيل: يستحق بعده قطعا، وهو شاذ. فإذا قلنا: يستحق، فهل يقسط الاجرة على الاعمال فقط، أم عليها مع السير ؟ قولان. أظهرهما: الثاني. وقال ابن سريج رحمه الله: إن قال: استأجرتك لتحج عني، قسط على العمل فقط. وإن قال: لتحج من بلد كذا، قسط عليهما، وحمل القولين على الحالين. ثم هل يبنى على ما فعله الاجير ؟ ينظر، إن كانت الاجارة على العين، انفسخت ولا بناء لورثة الاجير، كما لم يكن له أن ينتسب، وهل للمستأجر أن يستأجر من يبني ؟ فيه القولان في جواز البناء. وإن كانت على الذمة

(2/305)


فإن قلنا: لا يجوز البناء، فلورثة الاجير أن يستأجروا من يستأنف الحج عن المستأجر له. فإن أمكنهم في تلك السنة لبقاء الوقت، فذاك، وإن تأخر إلى السنة الثانية، ثبت الخيار كما سبق. وإن جوزنا البناء، فلورثة الاجير أن يبنوا. ثم القول فيما يحرم به النائب، وفي حكم إحرامه بين التحللين، على ما سبق. الحال الثاني: أن يموت بعد الاخذ في السير، وقبل الاحرام، فالصحيح المنصوص في كتب الشافعي رضي الله عنه، والذي قطع به الجماهير: لا يستحق شيئا من الاجرة. وقال الاصطخري، والصيرفي: يستحق بقسطه. وقال ابن عبدان: إن قال: استأجرتك لتحج عني، لم يستحق. وإن قال: لتحج من بلد كذا، استحق بقسطه. الحال الثالث: أن يموت بعد فراغ الاركان، وقبل فراغ باقي الاعمال، فينظر، إن فات وقتها، أو لم يفت، ولكن لم نجوز البناء، جبر بالدم من مال الاجير، وهل يرد شيئا من الاجرة ؟ فيه الخلاف السابق. وإن جوزنا البناء، فإن كانت الاجارة على العين، انفسخت في الاعمال الباقية، ووجب رد قسطها من الاجرة، ويستأجر المستأجر من يرمي ويبيت، ولا دم على الاجير. وإن كانت على الذمة، استأجر وارث الاجير من يرمي ويبيت، ولا حاجة إلى الاحرام، لانهما عملان يؤتى بهما بعد التحللين، ولا يلزم الدم، ولا رد شئ من الاجرة، ذكره في التتمة. فرع إذا أحصر الاجير، فله التحلل. فإن تحلل، فعمن يقع ما أتى به ؟ وجهان. أصحهما: عن المستأجر، كما لو مات، إذ لا تقصير. والثاني: عن الاجير كما لو أفسده. فعلى هذا، دم الاحصار على الاجير، وعلى الاول: هو على المستأجر. وفي استحقاقه شيئا من الاجرة، الخلاف المذكور في الموت. وإن لم يتحلل وأقام

(2/306)


على الاحرام حتى فاته الحج، انقلب إليه، كما في الافساد، ثم يتحلل بعمل عمرة، وعليه دم الفوات. ولو حصل الفوات بنوم، أو تأخر عن القافلة، أو غيرهما من غير إحصار، انقلب المأتي به إلى الاجير أيضا، كما في الافساد، ولا شئ للاجير على المذهب. وقيل: فيه الخلاف المذكور في الموت. فصل إذا اجتمعت شرائط وجوب الحج، وجب على التراخي. وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والمزني: على الفور. ثم عندنا يجوز لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره، أن يؤخره بعد سنة الامكان. فلو خشي العضب، وقد وجب عليه الحج بنفسه، لم يجز التأخير على الاصح. وإذا تأخر بعد الوجوب فمات قبل حج الناس، تبين عدم الوجوب لتبين عدم الامكان، وإن مات بعد حج الناس، استقر الوجوب ولزم الاحجاج من تركته. قال في التهذيب ورجوع القافلة ليس بشرط، حتى لو مات بعد انتصاف ليلة النحر، ومضي إمكان السير إلى منى والرمي بها، وإلى مكة والطواف بها، استقر الفرض عليه، وإن مات، أو جن قبل ذلك، لم يستقر عليه. وإن هلك ماله بعد رجوع الناس، أو مضي إمكان الرجوع، استقر الحج، وإن هلك بعد حجهم، وقبل الرجوع وإمكانه، فوجهان. أصحهما: لا يستقر. هذا حيث نشرط أن يملك نفقة الرجوع. فإن لم نشرطها، استقر قطعا. ولو أحصر الذين أمكنه الخروج معهم، فتحللوا، لم يستقر الحج عليه. فلو سلكوا طريقا آخر فحجوا، استقر، وكذا لو حجوا في السنة التي بعدها إذا عاش وبقي ماله. وإذا دامت الاستطاعة وتحقق الامكان فلم يحج حتى مات، فهل يموت عاصيا ؟ فيه أوجه. أصحهما: نعم. والثاني: لا، والثالث: يعصي الشيخ دون الشاب، والخلاف جار فيما لو كان صحيح البدن فلم يحج حتى صار زمنا. والاصح: العصيان أيضا. فإذا زمن وقلنا بالعصيان، فهل تجب عليه الاستنابة على الفور لخروجه بالتقصير عن استحقاق البر فيه، أم له تأخير الاستنابة كما لو بلغ

(2/307)


معضوبا ؟ فإن استنابته على التراخي، فيه وجهان. أصحهما: الاول. وعلى هذا لو امتنع وأخر، فهل يجبزه القاضي على الاستنابة، أو يستأجر عليه ؟ وجهان. أحدهما: نعم كزكاة الممتنع. وأصحهما: لا. وإذا قلنا: يموت عاصيا، فمن أي وقت يعصي ؟ فيه أوجه. أصحها: من السنة الآخرة من سني الامكان لجواز التأخير إليها. والثاني: من السنة الاولى، لاستقرار الفرض فيها. والثالث: يموت عاصيا، ولا يسند العصيان إلى سنة بعينها. ومن فوائد موته عاصيا، أنه لو شهد شهادة ولم يحكم بها حتى مات، لم يحكم، لبيان فسقه. ولو قضي بشهادته بين السنة الاولى والاخيرة من سني الامكان، فإن عصيناه من الاخيرة، لم ينقض ذلك الحكم بحال. وإن عصيناه من الاول، ففي نقضه القولان، فيما إذا بان فسق الشهود. فصل حجة الاسلام في حق من يتأهل لها، تقدم على حجة القضاء. وصورة اجتماعهما، أن يفسد العبد حجه، ثم يعتق، فعليه القضاء، ولا تجزئه عن حجة الاسلام. وتقدم أيضا حجة الاسلام على النذر. فلو اجتمعت حجة الاسلام، والقضاء، والنذر، قدمت حجة الاسلام، ثم القضاء، ثم النذر. وأشار الامام إلى تردد في تقديم القضاء على النذر. والمذهب: ما قدمناه. ومن عليه حجة الاسلام، أو قضاء، أو نذر، لا يجوز أن يحج عن غيره. فلو قدم ما يجب تأخيره، لغت نيته، ووقع على الترتيب المذكور. والعمرة، إذا أوجبناها، كالحج في جميع ذلك. ولو استأجر المعضوب من يحج عن نذره، وعليه حجة الاسلام، فنوى الاجير

(2/308)


النذر، وقع عن حجة الاسلام. ولو استأجر أجيرا لم يحج عن نفسه، فنوى الحج عن المستأجر، لغت نيته، ووقع الحج عن الاجير. ولو نذر من لم يحج أن يحج في هذه السنة، ففعل، وقع عن حجة الاسلام، وخرج عن نذره، وليس في نذره إلا تعجيل ما كان له تأخيره. ولو استؤجر من لم يحج للحج في الذمة، جاز، وطريقه: أن يحج عن نفسه، ثم عن المستأجر. وإجارة العين باطلة، لانها تتعين للسنة الاولى. فإذا بطلت، نظر، إن ظنه حج فبان أنه لم يحج، لم يستحق أجره، لتغريره، وإن علم أنه لم يحج وقال: يجوز في اعتقادي أن يحج عن غيره من لم يحج، فحج الاجير، وقع عن نفسه. وفي استحقاقه أجرة المثل قولان، أو وجهان تقدمت نظائرهما. أما إذا استأجر للحج من حج ولم يعتمر، أو للعمرة من اعتمر ولم يحج، فقرن الاجير وأحرم بالنسكين عن المستأجر، أو أحرم بما استؤجر له عن المستأجر، وبالآخر عن نفسه، فقولان. الجديد: أنهما يقعان عن الاجير، لان نسكي القران لا يفترقان، لاتحاد الاحرام، ولا يمكن صرف ما لم يأمر به المستأجر إليه. والثاني: أن ما استؤجر له يقع عن المستأجر، والآخر عن الاجير. ولو استأجر رجلان شخصا، أحدهما: ليحج عنه، والآخر ليعتمر عنه، فقرن عنهما، فعلى الجديد: يقعان عن الاجير. وعلى الثاني: يقع عن كل واحد ما استأجر له. ولو استأجر المعضوب رجلين ليحجا عنه في سنة واحدة، أحدهما: حجة الاسلام، والآخر: حجة قضاء أو نذر، فوجهان. أصحهما: يجوز، وهو المنصوص في الام، لان غير حجة الاسلام لم تتقدم عليها. والثاني: لا يجوز. فعلى الثاني: إن أحرم الاجيران معا، انصرف إحرامهما إلى أنفسهما. وإن سبق إحرام أحدهما، وقع ذلك عن حجة الاسلام عن المستأجر، وانصرف إحرام الآخر إلى نفسه.

(2/309)


فرع لو أحرم الاجير عن المستأجر، ثم نذر حجا، نظر، إن نذره بعد الوقوف، لم ينصرف حجه إليه، بل يقع عن المستأجر. وإن نذر قبله فوجهان. أصحهما: انصرافه إلى الاجير. ولو أحرم الرجل بحج تطوع، ثم نذر حجا بعد الوقوف، لم ينصرف إليه. وقبل الوقوف، على الوجهين. فرع لو استأجر المعضوب من يحج عنه تلك السنة، فأحرم الاجير عن نفسه تطوعا، فوجهان. قال الشيخ أبو محمد: ينصرف إلى المستأجر. وقال سائر الاصحاب: يقع تطوعا للاجير. قلت: لو حج بمال مغضوب أو نحوه، أجزأه الحج وإن كان عاصيا بالغصب. ولو كان يجن ويفيق، فإن كانت مدة إفاقته يتمكن فيها من الحج، ووجدت الشرائط الباقية، وجب عليه الحج، وإلا فلا. وإذا كان عليه دين حال لا يفضل عنه ما يحج به، فقال صاحب الدين، أمهلتك به إلى ما بعد الحج، لم يلزمه الحج. والله أعلم.
باب مواقيت الحج
ميقات الحج والعمرة، زماني ومكاني. أما الزماني، فوقت الاحرام بالحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، آخرها آخر ليلة

(2/310)


النحر، وفي وجه: لا يجوز الاحرام في ليلة النحر، وهو شاذ مردود. وحكى المحاملي قولا عن الاملاء أنه يصح الاحرام به في جميع ذي الحجة، وهذا أشذ وأبعد. وأما العمرة، فجميع السنة وقت للاحرام بها، ولا تكره في وقت منها، ويستحب الاكثار منها في العمر، وفي السنة الواحدة. وقد يمتنع الاحرام بالعمرة لا بسبب الوقت، بل لعارض، كالمحرم بالحج، لا يصح إحرامه بالعمرة على الاظهر كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه. وإذا تحلل عن الحج التحللين، وعكف بمنى للمبيت والرمي، لم ينعقد إحرامه بالعمرة، لعجزه عن التشاغل بعملها، نص عليه. فإن نفر النفر الاول، فله الاحرام بها، لسقوط بقية الرمي، والمبيت عنه. فرع لو أحرم بالحج في غير أشهره، لم ينعقد حجا. وهل ينعقد عمرة ؟ فيه طرق. المذهب: أنه ينعقد ويجزئه عن عمرة الاسلام. وعلى قول: يتحلل بعمل عمرة، ولا تحسب عمرة. ومنهم من قطع بهذا القول. وقيل: ينعقد إحرامه مبهما، فإن صرفه إلى عمرة، كان عمرة صحيحة، وإلا تحلل بعمل عمرة. ولو أحرم قبل أشهر الحج إحراما مطلقا، فالمذهب، والذي قطع به الجمهور: أنه لا ينعقد إحرامه بعمرة. وقيل: فيه وجهان: أحدهما: هذا.

(2/311)


والثاني: وهو محكي عن الخضري: ينعقد مبهما. فإذا دخلت أشهر الحج، صرفه إلى ما شاء، من حج، أو عمرة، أو قران. فصل في الميقات المكاني أما المقيم بمكة مكيا كان أو غيره، ففي ميقاته للحج وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: نفس مكة. والثاني: مكة وسائر الحرم. فعلى الاول: لو فارق بنيان مكة وأحرم في الحرم، فهو مسئ، يلزمه الدم وإن لم يعد كمجاوزة سائر المواقيت. وعلى الثاني: حيث أحرم في الحرم، فلا إساءة. أما إذا أحرم خارج الحرم، فمسئ قطعا، فيلزمه الدم، إلا أن يعود قبل الوقوف بعرفة إلى مكة على الاصح، أو الحرم على الثاني. ثم من أي موضع أحرم من مكة، جاز. وفي الافضل: قولان. أحدهما: أن يتهيأ للاحرام، ويحرم من المسجد قريبا من البيت. وأظهرهما: الافضل أن يحرم من باب داره، ويأتي المسجد محرما. وأما غير المقيم بمكة، فتارة يكون مسكنه فوق الميقات الشرعي، ويسمى هذا الافقي، وتارة يكون بينه وبين مكة. والمواقيت الشرعية خمسة. أحدها: ذو الحليفة، وهو ميقات من توجه من المدينة، وهو على نحو عشر مراحل من مكة. الثاني: الجحفة، ميقات المتوجهين من الشام ومصر والمغرب. الثالث: يلملم، وقيل: ألملم، ميقات المتوجهين من اليمن. الرابع: قرن، وهو ميقات المتوجهين من نجد اليمن، ونجد الحجاز.

(2/312)


والخامس: ذات عرق، ميقات المتوجهين من العراق وخراسان. والمراد بقولنا: يلملم ميقات اليمن، أي: ميقات تهامته، فإن اليمن يشمل نجدا وتهامة. والاربعة الاولى، نص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف. وفي ذات عرق وجهان. أحدهما وإليه مال الاكثرون: أنه منصوص كالاربعة. والثاني: أنه باجتهاد

(2/313)


عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والافضل في حق أهل العراق: أن يحرموا من العقيق، وهو واد وراء ذات عرق مما يلي المشرق. فرع إذا انتهى الافقي إلى الميقات وهو يريد الحج، والعمرة، أو القران، حرم عليه مجاوزته غير محرم. فإن جاوزه، فهو مسئ، ويأتي حكمه إن شاء الله تعالى وسواء كان من أهل تلك الناحية، أم من غيرها، كالشامي، يمر بميقات أهل المدينة. فرع إذا مر الافقي بالميقات غير مريد نسكا، فإن لم يكن على قصد التوجه إلى مكة، ثم عن له قصد النسك بعد مجاوزة الميقات، فميقاته حيث عن له. وإن كان على قصد التوجه إلى مكة لحاجة، فعن له النسك بعد المجاوزة، فإن قلنا: من أراد دخول الحرم لحاجة يلزمه الاحرام، فهذا يأثم بمجاوزته غير محرم، وهو كمن جاوزه غير محرم على قصد النسك. وإن قلنا: لا يلزمه، فهذا كمن جاوز غير قاصد دخول مكة. فرع من مسكنه بين الميقات ومكة، فميقاته القرية التي يسكنها، أو الحلة التي ينزلها البدوي. فرع يستحب لمن يحرم من ميقات شرعي، أو من قريته، أو حلته، أن يحرم من طرفه الابعد من مكة. فلو أحرم من الطرف الآخر، جاز لوقوع الاسم

(2/314)


عليه. والاعتبار بالمواقيت الشرعية، بتلك المواضع، لا بالقرى والابنية، فلا يتغير الحكم لو خرب بعضها، ونقلت العمارة إلى موضع قريب منه وسمي بذلك الاسم. فرع لو سلك البحر أو طريقا في البر لا ينتهي إلى شئ من المواقيت المعينة، فميقاته محاذاة المعين. فإن اشتبه، تحرى. وطريق الاحتياط لا يخفى. ولو حاذى ميقاتين طريقه بينهما، فإن تساويا في المسافة إلى مكة، فميقاته ما يحاذيهما. وإن تفاوتا فيها، وتساويا في المسافة إلى طريقه، فوجهان. أحدهما: يتخير، إن شاء أحرم من المحاذي لابعد الميقاتين، وإن شاء لاقربهما. وأصحهما: يتعين محاذاة أبعدهما. وقد يتصور في هذا القسم محاذاة ميقاتين دفعة واحدة، وذلك بانحراف أحد الطريقين والتوائه، أو لو عورة وغيرها، فيحرم من المحاذاة. وهل هو منسوب إلى أبعد الميقاتين، أم إلى أقربهما ؟ وجهان حكاهما الامام، قال: وفائدتهما، أنه لو جاوز موضع المحاذاة بغير إحرام، وانتهى إلى موضع يفضي إليه طريقا الميقاتين، وأراد العود لرفع الاساءة، ولم يعرف موضع المحاذاة، هل يرجع إلى هذا الميقات، أم إلى ذاك ؟ ولو تفاوت الميقاتان في المسافة إلى مكة، وإلى طريقه، فالاعتبار بالقرب إليه، أم إلى مكة ؟ وجهان. أصحهما: الاول.

(2/315)


فرع لو جاء من ناحية لا يحاذي في طريقها ميقاتا، لزمه أن يحرم إذا لم يبق بينه وبين مكة إلا مرحلتان. فصل إذا جاوز موضعا - وجب الاحرام منه - غير محرم، أثم، وعليه العود إليه، والاحرام منه إن لم يكن له عذر. فإن كان له عذر، كخوف الطريق، أو الانقطاع عن الرفقة، أو ضيق الوقت، أحرم ومضى، وعليه دم إذا لم يعد. فإن عاد، فله حالان. أحدهما: يعود قبل الاحرام فيحرم منه. فالمذهب والذي قطع به الجمهور: أنه لا دم عليه، سواء كان دخل مكة، أم لا. وقال إمام الحرمين والغزالي، إن عاد قبل أن يبعد عن الميقات بمسافة القصر، سقط الدم. وإن عاد بعد دخول مكة، وجب الدم. وإن عاد بعد مسافة القصر، فوجهان. أصحهما: يسقط، وهذا التفصيل شاذ. الحال الثاني: أن يحرم، ثم يعود إلى الميقات محرما. فمنهم من أطلق

(2/316)


في سقوط الدم وجهين. وقيل: قولان. والمذهب والذي قاله الجمهور: أنه يفصل. فإن عاد فبل التلبس بنسك، سقط الدم، وإلا فلا، سواء كان النسك ركنا، كالوقوف، أو سنة، كطواف القدوم. وقيل: لا أثر للتلبس بالسنة. ولا فرق في لزوم الدم في كل هذا بين المجاوز عامدا عالما، والجاهل والناسي. لكن يفترقون في الاثم، فلا إثم على الناس والجاهل. فصل هل الاحرام من الميقات أفضل، أم من فوقه ؟ نص في البويطي والجامع الكبير للمزني، أنه من الميقات أفضل، وقال في الاملاء: الافضل من دويرة أهله. وللاصحاب طرق. أصحهما: على قولين. أظهرهما: الافضل من دويرة أهله. والثاني: من الميقات. بل أطلق جماعة الكراهة على تقديم

(2/317)


الاحرام على الميقات. والطريق الثاني: القطع بدويرة أهله. والثالث: إن أمن على نفسه من ارتكاب محظورات الاحرام، فدويرة أهله، وإلا، فالميقات. قلت: الاظهر عند أكثر أصحابنا، وبه قطع كثيرون من محققيهم: أنه من الميقات أفضل، وهو المختار أو الصواب، للاحاديث الصحيحة فيه، ولم يثبت لها معارض. والله أعلم. فصل في ميقات العمرة إن كان المعتمر خارج الحرم، فميقات عمرته ميقات حجه بلا فرق. وإن كان في الحرم، مكيا كان أو مقيما بمكة، فله ميقا واجب، وأفضل. أما الواجب، فأن يخرج إلى أدنى الحل ولو خطوة من أي جانب شاء، فيحرم بها. فإن خالف وأحرم بها في الحرم، انعقد إحرامه. ثم له حالان. أحدهما: أن لا يخرج إلى الحل، بل يطوف ويسعى ويحلق بها، فهل يجزئه ذلك عن عمرته. قولان نص عليهما في الام، أظهرهما: يجزئه، ويلزمه دم، لتركه الاحرام من الميقات. والثاني: لا يجزئه ما أتى به، بل يشترط أن يجمع في عمرته بين الحل والحرم، كما في الحج. فعلى الاول: لو وطئ بعد الحلق، فلا

(2/318)


شئ عليه، لوقوعه بعد التحلل. وعلى الثاني: الوطئ واقع قبل التحلل، لكنه يعتقد أنه تحلل، فهو كوطئ الناسي. وفي كونه مفسدا، قولان. فإن جعلناه مفسدا، فعليه المضي في فاسده بأن يخرج إلى الحل ويعود، فيطوف ويسعى، ويحلق، ويلزمه القضاء وكفارة الافساد ودم الحلق لوقوعه قبل التحلل. الحال الثاني: أن يخرج إلى الحل ثم يعود، فيطوف ويسعى ويحلق، فيعتد بما أتى به قطعا. وهل يسقط عنه دم الاساءة ؟ فيه طريقان. المذهب وبه قطع الجماهير: سقوطه. والثاني: على طريقين. أصحهما: القطع بسقوطه، والثاني: تخريجه على الخلاف في عود من جاوز الميقات غير محرم. فإذا قلنا بالمذهب، فالواجب خروجه إلى الحل قبل الاعمال، إما في ابتداء الاحرام، وإما بعده. وإن قلنا: لا يسقط الدم، فالواجب هو الخروج في ابتداء الاحرام. فرع أفضل البقاع من أطراف الحل لاحرام العمرة: الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية.

(2/319)


قلت: هذا هو الصواب. وأما قول صاحب التنبيه: والافضل أن يحرم بها من التنعيم، فغلط. والله أعلم.
باب بيان وجوه الاحرام وما يتعلق بها
اتفقوا على جواز إفراد الحج عن العمرة، والتمتع، والقران. وأفضلها: الافراد، ثم التمتع، ثم القران، هذا هو المذهب، والمنصوص في عامة كتبه. وفي قول: التمتع أفضل، ثم الافراد. وحكي قول: أن الافضل: الافراد، ثم القران، ثم التمتع. وقال المزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي: أفضلها: القران. فأما الافراد، فمن صوره أن يحرم بالحج وحده ويفرغ منه، ثم يحرم بالعمرة. وسيأتي باقي صوره إن شاء الله تعالى في شروط التمتع. ثم تفضيل الافراد على التمتع والقران، شرطه أن يعتمر تلك السنة. فلو أخر العمرة عن سنته، فكل واحد من التمتع والقران أفضل منه، لان تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه. وأما القران، فصورته الاصلية، أن يحرم بالحج والعمرة معا. فتندرج أفعال العمرة في أعمال الحج، ويتحد الميقات والفعل. ولو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، نظر، إن أدخله في غير أشهر الحج، لغا إدخاله ولم يتغير إحرامه بالعمرة. وإن أدخله في أشهره، نظر، إن كان

(2/320)


أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، ففي صحة إدخاله وجهان. أحدهما، وهو اختيار الشيخ أبي علي، وحكاه عن عامة الاصحاب: لا يصح الادخال، لانه يؤدي إلى صحة الاحرام بالحج قبل أشهره. والثاني: يصح، وهو اختيار القفال، وبه قطع صاحب الشامل وغيره، لانه إنما يصير محرما بالحج وقت إدخاله، وهو وقت صالح للحج. قلت: هذا الثاني أصح. والله أعلم. وإن أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم أدخله عليها في أشهره، فإن لم يكن شرع في طوافها، صح وصار قارنا، وإلا لم يصح إدخاله. وفي علة عدم الصحة، أربعة معان. أحدها: لانه اشتغل بعمل من أعمال العمرة. والثاني: لانه أتى بفرض من فروضها. والثالث: لانه أتى بمعظم أفعالها. والرابع: لانه أخذ في التحلل، وهذا هو الذي ذكره أبو بكر الفارسي في عيون المسائل. وحيث جوزنا الادخال عليها، فذاك إذا كانت عمرة صحيحة. فإن أفسدها، ثم أدخل عليها الحج، ففيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. أما لو أحرم بالحج في وقته، ثم أدخل عليه لعمرة، فقولان. القديم: أنه يصح، ويصير قارنا. والجديد: لا يصح. فإذا قلنا بالقديم، فإلى متى يجوز الادخال ؟ فيه أربعة أوجه مفرعة على المعاني السابقة. أحدها: يجوز ما لم يشرع في طواف القدوم. وقال في التهذيب: هذا أصحها.

(2/321)


والثاني: يجوز بعد طواف القدوم ما لم يشرع في السعي أو غيره من فروض الحج، قاله الخضري. والثالث: يجوز وإن اشتغل بفرض ما لم يقف بعرفة. فعلى هذا، لو كان سعى، فعليه إعادة السعي ليقع عن النسكين جميعا، كذا قاله الشيخ أبو علي. والرابع: يجوز، وإن وقف ما لم يشتغل بشئ من أسباب التحلل من الرمي وغيره. وعلى هذا لو كان سعى، فعلى قياس ما ذكره الشيخ أبو علي: وجوب إعادته. وحكى الامام فيه وجهين، وقال: المذهب أنه لا يجب. فرع يجب على القارن دم كدم التمتع، وحكى الحناطي قولا قديما: أنه يجب بدنة. فصل أما المتمتع، فهو الذي يحرم بالعمرة من ميقات بلده، ويدخل مكة ويفرغ من أفعال العمرة، ثم ينشئ الحج من مكة، سمي متمتعا لاستمتاعه بمحظورات الاحرام بينهما، فإنه يحل له جميع المحظورات، إذا تحلل من العمرة، سواء ساق هديا، أم لا، ويجب عليه دم.
ولوجوب الدم شروط.
أحدها: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وهم من مسكنه دون مسافة القصر من الحرم. وقيل: من نفس مكة. فإن كان مسافة القصر، فليس بحاضره. فإن كان له مسكنان، أحدهما في حد القرب، والآخر بعيد، فإن كان مقامه بأحدهما أكثر، فالحكم له. فإن استوى مقامه بهما وكان أهله وماله في أحدهما

(2/322)


دائما أو أكثر، فالحكم له. فإن استويا في ذلك، وكان عزمه الرجوع إلى أحدهما، فالحكم له. فإن لم يكن له عزم، فالحكم للذي خرج منه. ولو استوطن غريب مكة، فهو حاضر. وإن استوطن مكي العراق، فغير حاضر. ولو قصد الغريب مكة فدخلها متمتعا ناويا الاقامة بها بعد الفراغ من النسكين، أو من العمرة، أو نوى الاقامة بها بعد ما اعتمر، فليس بحاضر، فلا يسقط عنه الدم. فرع ذكر الغزالي رحمه الله مسألة، وهي من مواضع التوقف، ولم أجدها لغيره بعد البحث. قال: والافقي إذا جاوز الميقات غير مريد النسك، فاعتمر عقب دخوله مكة، ثم حج، لم يكن متمتعا، إذ صار من الحاضرين، إذ ليس يشترط فيه قصد الاقامة، وهذه المسألة تتعلق بالخلاف في أن من قصد مكة هل يلزمه الاحرام بحج أو عمرة أم لا ؟ ثم ما ذكره من اعتبار اشتراط الاقامة، ينازعه فيه كلام الاصحاب ونقلهم عن نصه في الاملاء والقديم، فإنه ظاهر في اعتبار الاقامة، بل في اعتبار الاستيطان. وفي النهاية والوسيط حكاية وجهين في صورة تداني هذه. وهي أنه لو جاوز الغريب الميقات، وهو لا يريد نسكا، ولا دخول الحرم، ثم بدا له بقرب مكة أن يعتمر، فاعتمر منه وحج بعدها على صورة التقتع، هل يلزمه الدم ؟ أحد الوجهين: لا يلزمه لانه حين بدا له، كان على مسافة الحاضر. وأصحهما: يلزمه، لانه وجدت صورة التمتع، وهو غير معدود من الحاضرين.

(2/323)


قلت: المختار في الصورة التي ذكرها الغزالي أولا: أنه متمتع ليس بحاضر، بل يلزمه الدم. والله أعلم. فرع لا يجب على حاضر المسجد الحرام دم القران، كما لا يجب عليه دم التمتع. هذا هو المذهب. وحكى الحناطي وجها: أنه يلزمه. ويشبه أن يكون هذا الخلاف مبنيا على وجهين نقلهما صاحب العدة في أن دم القران، دم جبر، أم دم نسك ؟ المذهب المعروف: أنه دم جبر. فرع هل يجب على المكي إذا قرن، إنشاء الاحرام من أدنى الحل كما لو أفرد العمرة، أم يجوز أن يحرم من جوف مكة، إدرجا للعمرة تحت الحج ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. ويجريان في الافقي إذا كان بمكة وأراد القران. الشرط الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. فلو أحرم وفرغ منها قبل أشهره، ثم حج، لم يلزمه الدم. فلو أحرم بها قبل أشهره، وأتى بجميع أفعالها في أشهره، ثم حج، فقولان. أظهرهما: نصه في الام: لا دم. والثاني: نصه في القديم والاملاء: يجب الدم. وقال ابن سريج: ليست على قولين، بل على حالين. إن أقام بالميقات محرما بالعمرة حتى دخلت أشهر الحج، أو عاد إليه في الاشهر محرما بها، وجب الدم. وإن جاوزه قبل الاشهر ولم يعد إليه، فلا دم. ولو سبق الاحرام بها وبعض أعمالها في أشهره، فالخلاف مرتب إن لم نوجب إذا لم يتقدم إلا الاحرام، فهنا أولى، وإلا فوجهان. الاصح: لا يجب. وإذا لم نوجب دم المتمتع في هذه الصورة،

(2/324)


ففي وجوب دم الاساءة وجهان. أحدهما: يجب، لانه أحرم بالحج من مكة. وأصحهما: لا، لان المسئ من ينتهي إلى الميقات على قصد النسك ويجاوزه غير محرم، وهذا جاوز محرما. الشرط الثالث: أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة. فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة، فلا دم، سواء أقام بمكة إلى أن حج، أو رجع وعاد. الشرط الرابع: أن لا يعود إلى الميقات، بأن أحرم بالحج من نفس مكة واستمر. فلو عاد إلى الميقات الذي أحرم بالعمرة منه، أو إلى مسافة مثله وأحرم بالحج، فلا دم. ولو أحرم به من مكة، ثم ذهب إلى الميقات محرما، ففي سقوطه الخلاف السابق فيمن جاوز الميقات غير محرم ثم عاد إليه محرما. ولو عاد إلى ميقات أقرب منه إلى مكة من ميقات عمرته وأحرم منه، بأن كان ميقات عمرته الجحفة فعاد إلى ذات عرق، فهل هو كالعود إلى ميقات عمرته ؟ وجهان. أحدهما: لا، وعليه دم. وأصحهما: نعم، لانه أحرم من موضع ليس ساكنوه من حاضري المسجد الحرام، وهذا اختيار القفال والمعتبرين. فرع لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى الميقات، فالمذهب، أنه لا دم، نص عليه في الاملاء وصححه الحناطي. وقال الامام: إن قلنا: المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه، لا يسقط عنه الدم، فهنا أولى، وإلا، فوجهان والفرق، أن اسم القران لا يزول بالعود، بخلاف التمتع. الشرط الخامس: مختلف فيه، وهو أنه، هل يشترط وقوع النسكين عن شخص واحد ؟ وجهان. قال الخضري: يشترط. وقال الجمهور: لا يشترط.

(2/325)


ويتصور فوات هذا الشرط في صور. إحداها: أن يستأجره شخص لحج، وآخر لعمرة. الثانية: أن يكون أجيرا لعمرة، فيفرغ ثم يحج لنفسه. الثالثة: أن يكون أجيرا لحج، فيعتمر عن نفسه، ثم يحج للمستأجر. فإن قلنا بقول الجمهور، فقد ذكروا أن نصف دم التمتع على من يقع له الحج، ونصفه على من تقع له العمرة. وليس هذا الاطلاق على ظاهره، بل هو محمول على تفصيل ذكره صاحب التهذيب. أما في الصورة الاولى فقال: إن أذنا في التمتع، فالدم عليهما نصفان، وإلا فعلى الاجير. وعلى قياسه: إن أذن أحدهما فقط، فالنصف على الآذن، والنصف على الاجير. وأما في الصورتين الآخرتين، فقال: إن أذن له المستأجر في التمتع، فالدم عليهما نصفان، وإلا، فالجميع على الاجير. واعلم بعد هذا أمورا. أحدها: أن إيجاب الدم على المستأجرين، أو أحدهما، مفرع على الاصح، وهو أن دم التمتع والقران على المستأجر، وإلا فهو على الاجير بكل حال. الثاني: إذا لم يأذن المستأجران أو أحدهما في الصورة الاولى، أو المستأجر في الثالثة، وكان ميقات البلد معينا في الاجارة، أو نزلنا المطلق عليه، لزمه مع دم التمتع دم الاساءة لمجاوزة ميقات نسكه. الثالث: إذا أوجبنا الدم على المستأجرين فكانا معسرين، لزم كل واحد منهما خمسة أيام، لكن صوم التمتع، بعضه في الحج، وبعضه في الرجوع، وهما لم يباشرا حجا. وقد قدمنا - في فروع الاجارة، فيمن استأجره ليقرن فقرن أو ليتمتع فتمتع، وكان المستأجر معسرا، وقلنا: الدم عليه - خلافا بين صاحبي التهذيب والتتمة. فعلى قياس قول صاحب التهذيب: الصوم على

(2/326)


الاجير. وعلى قياس صاحب التتمة: هو كما لو عجز المتمتع عن الهدي والصوم جميعا. ويجوز أن يكون الحكم كما سيأتي في المتمتع إذا لم يصم في الحج، كيف يقضي ؟ فإذا أوجبنا التفريق، فتفريق الخمسة بنسبة الثلاثة والسبعة، يبعض القسمين فيكملان، ويصوم كل واحد منهما ستة أيام، وقس على هذا. أما إذا أوجبنا الدم في الصورتين الآخرتين على الاجير والمستأجر، وإذا فرعنا على قول الخضري، فإذا اعتمر عن المستأجر، ثم حج عن نفسه، ففي كونه مسيئا، الخلاف السابق فيمن اعتمر قبل أشهر الحج ثم حج من مكة، لكن الاصح هنا: أنه مسئ، لامكان الاحرام بالحج حين حضر الميقات. قال الامام: فإن لم يلزمه الدم، ففوات هذا الشرط لا يؤثر إلا في فوات فضيلة التمتع على قولنا: إنه أفضل من الافراد. وإن ألزمناه الدم، فله أثران. أحدهما: هذا. والثاني: أن المتمتع لا يلزمه العود إلى الميقات. وإن عاد وأحرم منه، سقط عنه الدم بلا خلاف. والمسئ، يلزمه العود. وإذا عاد، ففي سقوط الدم عنه، خلاف. وأيضا، فالدمان يختلف بدلهما. الشرط السادس: مختلف فيه، وهو نية التمتع. والاصح: أنها لا تشترط، كما لا تشترط نية القران. فإن شرطناها، ففي وقتها أوجه. أحدها: حالة الاحرام بالعمرة. والثاني: ما لم يفرغ من العمرة. والثالث: ما لم يشرع في الحج. الشرط السابع: أن يحرم بالعمرة من الميقات. فلو جاوزه مريدا للنسك، ثم أحرم بها، فالمنصوص: أنه ليس عليه دم التمتع، لكن يلزمه دم الاساءة، فأخذ

(2/327)


بإطلاق هذا النص آخرون. وقال الاكثرون: هذا إذا كان الباقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر. فإن بقيت مسافة القصر، فعليه الدمان جميعا. الشرط الثامن: مختلف فيه. حكي عن ابن خيران: اشتراط وقوع النسكين في شهر واحد، وخالفه عامة الاصحاب. فرع الشروط المذكورة معتبرة لوجوب الدم وفاقا وخلافا. وهل يعتبر في نفس التمتع ؟ فيها وجهان. أحدهما: نعم. فلو فات شرط، كان مفردا. وأشهرهما: لا تعتبر. ولهذا قال الاصحاب: يصح التمتع والقران من المكي، خلافا لابي حنيفة رحمه الله. فرع إذا اعتمر ولم يرد العود إلى الميقات، لزمه أن يحرم بالحج من مكة، وهي في حقه كهي في حق المكي. والكلام في الموضع الذي هو أفضل لاحرامه، وفيما لو خالف فأحرم خارج مكة في الحرم أو خارجه، ولم يعد إلى الميقات، ولا إلى مسافته على ما ذكرنا في المكي. وإذا اقتضى الحال وجوب دم الاساءة، وجب أيضا مع دم التمتع.
فصل المتمتع، يلزمه دم شاة بصفة الاضحية.
ويقوم مقامها سبع بدنة، أو سبع بقرة. ووقت وجوبه، الاحرام بالحج. وإذا وجب، جاز إراقته، ولم يتوقت بوقت كسائر دماء الجبرانات، لكن الافضل إراقته يوم النحر. وهل يجوز إراقته بعد التحلل من العمرة وقبل الاحرام بالحج ؟ قولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: الجواز. فعلى هذا، هل يجوز قبل التحلل من العمرة ؟ وجهان. أصحهما: لا، وقيل: لا يجوز قطعا، ولا يجوز قبل الشروع في العمرة بلا خلاف. فرع إذا عدم المتمتع الدم في موضعه، لزمه صوم عشرة أيام، سواء كان له مال غائب في بلده، أو غيره، أم لم يكن، بخلاف الكفارة، فإنه يعتبر في الانتقال إلى الصوم فيها العدم مطلقا.

(2/328)


والفرق أن بدل الدم موقت بكونه في الحج، ولا توقيت في الكفارة. ثم إن الصوم يقسم، ثلاثة أيام، وسبعة. فالثلاثة يصومها في الحج، ولا يجوز تقديمها على الاحرام بالحج، ولا يجوز صوم شئ منها في يوم النحر. وفي أيام التشريق قولان تقدما في كتاب الصيام. ويستحب أن يصوم جميع الثلاثة قبل يوم عرفة، لانه يستحب للحاج فطر يوم عرفة، وإنما يمكنه هذا إذا تقدم إحرامه بالحج على اليوم السادس من ذي الحجة. قال الاصحاب: المستحب للمتمتع الذي هو من أهل الصوم، أن يحرم بالحج قبل السادس. وحكى الحناطي وجها: أنه إذا لم يتوقع هديا، وجب تقديم الاحرام بالحج على السابع، ليمكنه صوم الثلاثة قبل يوم النحر. وأما واجد الهدي، فيستحب أن يحرم بالحج يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، ويتوجه بعد الزوال إلى منى. وإذا فات صوم الثلاثة في الحج، لزمه قضاؤها، ولا دم عليه. وعن ابن سريج، وأبي إسحق تخريج قول: أنه يسقط الصوم ويستقر الهدي في ذمته. واعلم أن فواتها يحصل بفوات يوم عرفة إن قلنا: إن أيام التشريق لا يجوز صومها، وإلا حصل الفوات بخروج أيام التشريق. ولا خلاف أنها تفوت بفوات أيام التشريق. حتى لو تأخر طواف الزيارة عن أيام التشريق، كان بعد في الحج، وكان صوم الثلاثة بعد التشريق قضاء وإن بقي الطواف، لان تأخره بعيد في العادة، فلا يقع مرادا من قول الله تعالى: * (ثلاثة أيام في الحج) * هكذا حكاه الامام وغيره. وفي التهذيب حكاية وجه ضعيف ينازع فيه. فرع وأما السبعة، فوقتها إذا رجع. وفي المراد بالرجوع، قولان. أظهرهما: الرجوع إلى الاهل والوطن، نص عليه في المختصر وحرملة. والثاني: أنه الفراغ من الحج. فإن قلنا بالاول، فإن توطن مكة بعد فراغه من

(2/329)


الحج، صام بها. وإن لم يتوطنها، لم يجز صومه بها. وهل يجوز في الطريق إذا توجه إلى وطنه ؟ فيه طريقان. المذهب: لا يجوز، وبه قطع العراقيون. والثاني: وجهان. أصحهما: لا يجوز. وإذا قلنا: إنه الفراغ، فلو أخره حتى يرجع إلى وطنه، جاز. وهل هو أفضل، أم التقديم ؟ قولان. أظهرهما: التأخير أفضل، للخروج من الخلاف. والثاني: التقديم مبادرة إلى الواجب. ولا يصح صوم شئ من السبعة في أيام التشريق بلا خلاف وإن قلنا: إنها قابلة للصوم، سواء قلنا: المراد بالرجوع الفراغ، أو الوطن، لانه بعد في الحج وإن حصل التحلل. وحكي قول: إن المراد بالرجوع، الرجوع إلى مكة من منى. وجعل إمام الحرمين والغزالي هذا قولا سوى قول الفراغ من الحج، ومقتضى كلام كثير من الائمة: أنهما شئ واحد، وهو الاشبه. وعلى تقدير كونه قولا آخر، يتفرع عليه، أنه لو رجع من منى إلى مكة، صح صومه وإن تأخر طواف الوداع. فرع إذا لم يصم الثلاثة في الحج، ورجع، لزمه صوم العشرة. وفي الثلاثة، القول المخرج الذي سبق. فعلى المذهب: هل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة والسبعة ؟ قولان. وقيل: وجهان. أصحهما عند الجمهور: يجب. والاصح عند الامام: لا يجب. فعلى الاول، هل يجب التفريق بقدر ما يقع تفريق الاداء ؟ قولان. أحدهما: لا، بل يكفي التفريق بيوم، نص عليه في الاملاء. وأظهرهما: يجب. وفي قدره أربعة أقول تتولد من أصلين سبقا، وهما صوم المتمتع أيام

(2/330)


التشريق، وأن الرجوع ماذا ؟ فإن قلنا: ليس للمتمتع صوم التشريق، وأن الرجوع إلى الوطن، فالتفريق بأربعة أيام. ومدة إمكان السير إلى أهله، على العادة الغالبة. وإن قلنا: ليس له صومها، وأن الرجوع، الفراغ، فالتفريق بأربعة فقط. وإن قلنا: له صومها، وأن الرجوع إلى الوطن، فالتفريق بمدة إمكان السير. وإن قلنا: له صومها، والرجوع، الفراغ، فوجهان. أصحهما: يجب التفريق. والثاني: لا بد من التفريق بيوم. فإن أردت حصر الاقوال التي تجئ فيمن لم يصم الثلاثة في الحج مختصرا، حصلت ستة. أحدها لا صوم، بل ينتقل إلى الهدي. والثاني: عليه صوم عشرة، متفرقة أو متتابعة. والثالث: عشرة، ويفرقبيوم فصاعدا. والرابع: يفرق بأربعة ومدة إمكان السير إلى الوطن. والخامس: يفرق بأربعة فقط. والسادس: بمدة إمكان السير فقط. قلت: المذهب منها: هو الرابع. والله أعلم. ولو صام عشرة متوالية، وقلنا بالمذهب، وهو وجوب قضاء الثلاثة، أجزأه إن لم نشترط التفريق. فإن شرطناه واكتفينا بيوم، لم يعتد باليوم الرابع، ويحسب ما بعده، فيصوم يوما آخر. هذا هو الصحيح المعروف. وفي وجه: لا يعتد بشئ سوى الثلاثة. وفي وجه للاصطخري: لا يعتد بالثلاثة أيضا إذا نوى التتابع، وهما شاذان. وإن شرطنا التفريق بأكثر من يوم، لم يعتد بذلك القدر.

(2/331)


فرع كل واحد من صوم الثلاثة، والسبعة، لا يجب فيه التتابع، لكن يستحب. وحكي في وجوب التتابع قول مخرج من كفارة اليمين، وهو شاذ ضعيف. فرع إذا شرع في صوم الثلاثة أو السبعة، ثم وجد الهدي، لم يلزمه الهدي، لكن يستحب. وقال المزني: يلزمه. ولو أحرم بالحج ولا هدي، ثم وجده قبل الشروع في الصوم، بني على أن المعتبر في الكفارة حال الوجوب، أم الاداء، أم أغلظهما ؟ إن اعتبرنا حال الوجوب، أجزأه الصوم، وإلا لزم الهدي، وهو نصه في هذه المسألة. فرع المتمتع الواجد للهدي، إذا مات قبل فراغ الحج، هل يسقط عنه الدم ؟ قولان. أظهرهما: لا يسقط، بل يخرج من تركته، لوجود سبب الوجوب. ولو مات بعد فراغ الحج، أخرج من تركته بلا خلاف. فأما الصوم، فإن مات قبل التمكن منه، فقولان. أظهرهما: يسقط، لعدم التمكن، كصوم رمضان. والثاني: يهدى عنه، وهذا القول يتصور فيما إذا لم يجد الهدي في موضعه، وله ببلده مال، أو وجده بثمن غال. وإن تمكن من الصوم، فلم يصم حتى مات، فهل هو كصوم رمضان ؟ فيه طريقان. أصحهما: نعم، فيصوم عنه وليه على القديم. وفي الجديد: يطعم عنه من تركته لكل يوم مد. فإن كان تمكن من الايام العشرة، فعشرة أمداد، وإلا فبالقسط. وهل يتعين صرفه إلى فقراء الحرم، أم

(2/332)


يجوز إلى غيرهم أيضا ؟ قولان. أظهرهما: الثاني. والطريق الثاني: لا يكون كصوم رمضان. فعلى هذا قولان. أظهرهما: الرجوع على الدم، لانه أقرب إلى هذا الصوم من الامداد، فيجب في ثلاثة أيام إلى العشرة شاة، وفي يوم ثلث شاة، وفي يومين ثلثاها. وعن أبي إسحق إشارة إلى أن اليوم واليومين، كإتلاف الشعرة والشعرتين من المحرم. وفي الشعرة، ثلاثة أقوال. أحدها: مد. والثاني: درهم. والثالث: ثلث شاة. والقول الثاني: لا يجب شئ أصلا. وأما التمكن المذكور، فصوم الثلاثة، يتمكن منه بأن يحرم بالحج لزمن يسع صومها قبل الفراغ، ولا يكون عارض من مرض وغيره. وذكر الامام: أنه لا يجب شئ في تركته ما لم ينته إلى الوطن، لان دوام السفر كدوام المرض، فلا يزيد تأكد الثلاثة على صوم رمضان. وهذا الذي قاله، غير واضح، لان صوم الثلاثة، يتعين إيقاعه في الحج بالنص. وإن كان مسافرا، فلا يكون السفر عذرا فيه، بخلاف رمضان. وأما السبعة، فإن قلنا: الرجوع إلى الوطن، فلا تمكن قبله. وإن قلنا: الفراغ من الحج، فلا تمكن قبله. ثم دوام السفر عذر على ما قاله الامام. وقال القاضي حسين: إذا استحببنا التأخير إلى أن يصل الوطن تفريعا على قول الفراغ، فهل يفدى عنه إذا مات ؟ وجهان.

(2/333)


باب الاحرام
ينبغي لمريد الاحرام، أن ينوي ويلبي. فإن لبى ولم ينو، فنص في رواية الربيع: أنه يلزمه ما لبى به. وقال في المختصر: وإن لم يرد حجا ولا عمرة، فليس بشئ. واختلف الاصحاب على طريقين. المذهب: القطع بأنه لا ينعقد إحرامه. وتأويل نقل الربيع، على ما إذا أحرم مطلقا، ثم تلفظ بنسك معين ولم ينوه، فيجعل لفظه تعيينا للاحرام المطلق. والطريق الثاني: على قولين. أظهرهما: لا ينعقد إحرامه، لان الاعمال بالنيات. والثاني: يلزمه ما سمى، لانه التزمه بقوله. وعلى هذا، لو أطلق التلبية، انعقد الاحرام مطلقا، يصرفه إلى ما شاء من كلا النسكين، أو أحدهما. قلت: هذا القول، ضعيف جدا، والتأويل المذكور، أضعف منه، لانا سنذكر قريبا - إن شاء الله تعالى - أن الاحرام المطلق، لا يصح صرفه إلا بنية القلب. والله أعلم. واعلم أن نصه في المختصر يحتاج إلى قيد آخر، يعني: لم يرد حجا ولا عمرة، ولا أصل الاحرام، هذا كله إذا لبى ولم ينو. فلو نوى ولم يلب، انعقد إحرامه على الصحيح الذي قاله الجمهور. وقال أبو علي بن خيران وابن أبي هريرة، وأبو عبد الله الزبيري: لا ينعقد إلا بالتلبية. وحكى الشيخ أبو محمد

(2/334)


وغيره قولا للشافعي رحمة الله عليه: أنه لا ينعقد إلا بالتلبية، لكن يقوم مقامها سوق الهدي، وتقليده، والتوجه معه. وحكى الحناطي هذا القول في الوجوب دون الاشتراط، وذكر تفريعا عليه: أنه لو ترك التلبية، لزمه دم. قلت: صفة النية: أن ينوي الدخول في الحج أو العمرة أو فيهما والتلبس به. والواجب: أن ينوي هذا بقلبه. فإن ضم إلى نية القلب التلفظ، كان أفضل. والله أعلم. فرع إذا قلنا بالمذهب: إن المتعبر هو النية، فلو لبى بالعمرة ونوى الحج، فهو حاج، وبالعكس معتمر. ولو تلفظ بأحدهما، ونوى القران، فقارن. ولو تلفظ بالقران، وونوى أحدهما، فهو لما نوى. فرع الاحرام حالان. أحدهما: ينعقد معينا، بأن ينوي أحد النسكين بعينه، أو كليهما. فلو أحرم بحجتين، أو عمرتين، انعقدة واحدة فقط، ولم يلزمه الاخرى. الثاني: ينعقد مطلقا، بأن ينوي نفس الاحرام، ولا يقصد القران، ولا أحد النسكين، وهذا جائز بلا خلاف. ثم ينظر، إن أحرم في أشهر الحج، فله صرفه إلى ما شاء، من حج، أو عمرة، أو قران، ويكون التعيين بالنية، لا باللفظ، ولا يجزئه العمل قبل النية. وإن أحرم قبل الاشهر، فإن صرفه إلى العمرة، صح، وإن صرفه إلى الحج بعد دخول الاشهر، فوجهان. الصحيح: لا يجوز، بل انعقد إحرامه. والثاني: ينعقد مبهما، وله صرفه بعد دخول الاشهر، إلى حج، أو قران. فإن صرفه إلى الحج قبل الاشهر، كان كمن أحرم بالحج قبل الاشهر، وقد سبق بيانه. فرع هل الافضل إطلاق الاحرام، أم تعيينه ؟ قولان. قال في الاملاء: الاطلاق أفضل. وفي الام: التعيين أفضل، وهو الاظهر.

(2/335)


فعلى هذا، هل يستحب التلفظ في تلبيته بما عينه ؟ وجهان. الصحيح المنصوص: لا، بل يقتصر على النية. والثاني: يستحب، لانه أبعد عن النسيان. فصل إذا أحرم عمرو بما أحرم به زيد، جاز. ثم لزيد أحوال. أحدها: أن يكون محرما، ويمكن معرفة ما أحرم به، فينعقد لعمرو مثل إحرامه، إن كان حجا، فحج. وإن كان عمرة، فعمرة. وإن كان قرانا، فقران. قلت: وإن كان زيد أحرم بعمرة بنية التمتع، كان عمرو محرما بعمرة، ولا يلزمه التمتع. والله أعلم. وإن كان مطلقا، انعقد إحرام عمرو مطلقا أيضا، ويتخير كما يتخير زيد، ولا يلزمه الصرف إلى ما يصرف إليه زيد. وحكي وجه: أنه يلزمه، وهو شاذ ضعيف. قال في التهذيب: إلا إذا أراد إحراما كإحرام زيد بعد تعيينه. وإن كان إحرام زيد فاسدا، فهل ينعقد إحرام عمرو مطلقا، أم لا ينعقد أصلا ؟ وجهان. قلت: الاصح: انعقاده. قال القاضي أبو الطيب: وهذان الوجهان كالوجهين فيمن نذر صلاة فاسدة، هل ينعقد نذره بصلاة صحيحة، أم لا. ينعقد ؟ والاصح: لا ينعقد. والله أعلم. وإن كان زيد أحرم مطلقا، ثم عينه قبل إحرام عمرو، فوجهان. أصحهما:

(2/336)


ينعقد إحرام عمرو مطلقا. والثاني: معينا، ويجري الوجهان فيما لو أحرم زيد بعمرة، ثم أدخل عليها الحج، فعلى الاول: يكون عمرو معتمرا، وعلى الثاني: قارنا، والوجهان فيما إذا لم يخطر له التشبيه بإحرام زيد في الحال، ولا في أوله، فإن خطر التشبيه بأوله، أو بالحال، فالاعتبار بما خطر بلا خلاف. ولو أخبره زيد بما أحرم به، ووقع في نفسه خلافه، فهل يعمل بخبره، أو بما وقع في نفسه ؟ وجهان. قلت: أصحهما: بخبره. والله أعلم. ولو قال له: أحرمت بالعمرة، فعمل بقوله، فبان أنه كان محرما بالحج، فقد بان أن إحرام عمرو كان منعقدا بحج. فإن فات الوقت، تحلل وأراق دما. وهل الدم في ماله، أو مال زيد، للتغرير ؟ وجهان. قلت: أصحهما: في ماله. والله أعلم. الحال الثاني: أن لا يكون زيد محرما أصلا، فينظر إن كان عمرو جاهلا به، انعقد إحرامه مطلقا، لانه جزم بالاحرام. وإن كان عالما بأنه غير محرم، بأن علم موته، فطريقان. المذهب الذي قطع به الجمهور: أنه ينعقد إحرام عمرو مطلقا. والثاني: على الوجهين. أصحهما: هذا. والثاني: لا ينعقد أصلا، كما لو قال: إن كان زيد محرما، فقد أجرمت، فلم يكن محرما. والصواب: الاول. ويخالف قوله: إن كان زيد محرما فإنه تعليق لاصل الاحرام. فلهذا يقول: إن كان زيد محرما، فهذا المعلق محرم، وإلا، فلا. وأما هنا، فأصل الاحرام محزوم به. واحججوا للمذهب بصورتين نص عليهما في الام.

(2/337)


أحدهما: لو استأجره رجلان ليحج عنهما، فأحرم عنهما، لم ينعقد عن واحد منهما، وانعقد عن الاجير، لان الجمع بينهما متعذر، فلغت الاضافة، وسواء كانت الاجارة في الذمة، أم على العين، لانه وإن كانت إحدى إجارتي العين فاسدة، إلا أن الاحرام عن غيره لا يتوقف على صحة الاجارة. الصورة الثانية: لو استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم عن نفسه وعن المستأجر، لغت الاضافتان، وبقي الاحرام للاجير. فلما لغت الاضافة في الصورتين، وبقي أصل الاحرام، جاز أن يلغو هنا التشبيه، ويبقى أصل الاحرام. الحال الثالث: أن يكون زيد محرما، وتتعذر مراجعته، لجنون، أو غيبة،

(2/338)


أو موت. ولهذه المسألة مقدمة، وهي لو أحرم بأحد النسكين، ثم نسيه، قال في القديم: أحب أن يقرن. وإن تحرى، رجوت أن يجزئه. وقال في الجديد: هو قارن. وللاصحاب فيه طريقان. أحدهما: القطع بجواز التحري. وتأويل الجديد على ما إذا شك، هل أحرم بأحد النسكين، أم قرن ؟ وأصحهما وبه قطع الجمهور: أن المسألة على قولين. القديم: جواز التحري، ويعمل بظنه. والجديد: لا يتحرى. فإن قلنا بالقديم، فتحرى، مضى فيما ظنه من النسكين، وأجزأه على الصحيح. وقيل: لا يجزئه الشك. وفائدة التحري: الخلاص من الاحرام، وهذا شاذ ضعيف. وإن قلنا بالجديد، فللشك صورتان. إحداهما: أن يعرض قبل الاتيان بشئ من الاعمال، فلفظ النص: أنه قارن. وقال الاصحاب: معناه: أن ينوي القران، ويجعل نفسه قارنا. وحكي قول أنه يصير قارنا بلا نية، وهو شاذ ضعيف. ثم إذا نوى القران وأتى بالاعمال، تحلل وبرئت ذمته عن الحج بيقين، وأجزأه عن حجة الاسلام، لانه إن كان محرما بالحج، لم يضر تجديد العمرة بعده، سواء قلنا: يصح إدخالها عليه، أم لا. وإن كان محرما بالعمرة، فإدخال الحج عليها قبل الشروع في أعمالها، جائز. وأما العمرة، فإن جوزنا إدخالها على الحج، أجزأته عن عمرة الاسلام، وإلا فوجهان. أصحهما: لا تجزئه، لاحتمال تأخر العمرة. والثاني: تجزئه، قاله أبو إسحق. ويكون الاشتباه عذرا في جواز تأخيرها. فإن قلنا: تجزئ، لزمه دم القران، فإن لم يجد، صام عشرة أيام، جلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع. وإن قلنا: لا تجزئه العمرة، لم يجب الدم على الاصح. وقولنا: يجعل نفسه قارنا، ليس على سبيل الالزام. قال الامام: لم يذكر الشافعي رحمة الله عليه القران على معنى أنه

(2/340)


لا بد منه، بل ذكره على أنه ليستفيد منه الشاك التحلل مع براءة الذمة من النسكين. فلو اقتصر بعد النسيان على الاحرام بالحج، وأتى بأعماله، حصل التحلل قطعا، وتبرأ ذمته عن الحج، ولا تبرأ عن العمرة، لاحتمال أنه أحرم ابتداء بعمرة بالحج. وعلى هذا القياس: لو اقتصر على الاحرام بالعمرة، وأتى بأعمال القران، حصل التحلل، وبرئت ذمته من العمرة إن جوزنا إدخالها على الحج، ولا تبرأ عن الحج، لاحتمال أنه أحرم ابتداء ولم يغيرها. ولو لم يجدد إحراما بعد النسيان، واقتصر على الاتيان بعمل الحج، حصل التحلل، ولا تبرأ ذمته عن واحد من النسكين، لشكه فيما أتى به. ولو اقتصر على عمل العمرة، لم يحصل التحلل، لاحتمال أنه أحرم بالحج ولم يتم أعماله. الصورة الثانية: أن يعرض الشك بعد الاتيان بشئ من الاعمال، وله أحوال. أحدها: أن يعرض بعد الوقوف بعرفة، وقبل الطواف، فإذا نوى القران، فيجزئه الحج، لانه إن كان محرما به، فذاك. وإن كان بالعمرة، فقد أدخله عليها قبل الطواف، وذلك جائز. ولا تجزئه العمرة إذا قلنا بالمذهب: إنه لا يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف وقبل الشروع في التحلل. وهذا الحال مفروض فيما إذا كان وقت الوقوف باقيا عند مصيره قارنا ثم وقف ثانيا، وإلا، فيحتمل أنه كان محرما بالعمرة، فلا يجزئه ذلك الوقوف عن الحج. الحال الثاني: أن يعرض بعد الطواف وقبل الوقوف، فإذا نوى القران، وأتى بأفعال القارن، لم يجزئه الحج، لاحتمال أنه كان محرما بالعمرة، فيمتنع إدخال الحج عليها بعد الطواف.

(2/341)


وأما العمرة، فإن قلنا بجواز إدخالها على الحج بعد الطواف، أجزأته، وإلا، فلا، وهو المذهب. وذكر ابن الحداد في هذه الحال أنه يتم أعمال العمرة، بأن يصلي ركعتي الطواف، ويسعى، ويحلق أو يقصر، ثم يحرم بالحج، ويأتي بأعماله. فإذا فعل هذا، صح حجه، لانه إن كان محرما بالحج، لم يضر تجديد إحرامه. وإن كان بالعمرة، فقد تمتع، ولا تصح عمرته، لاحتمال أنه كان محرما بالحج، ولا تدخل العمرة عليه إذا لم ينو القران. قال الشيخ أبو زيد، وصاحب التقريب والاكثرون: إن فعل هذا، فالجواب ما ذكره. لكن لو استفتانا، لم نفته به، لاحتمال أنه كان محرما بالحج وإن كان هذا الحلق يقع في غير أوانه. وهذا، كما لو ابتلعت دجاجة إنسان جوهرة لغيره، لا يفتى صاحب الجوهرة بذبحها وأخذ الجوهرة. فلو ذبح، لم يلزمه إلا قدر التفاوت بين قيمتها حية ومذبوحة، وكذا لو تقابلت دابتان لشخصين على شاهق، وتعذر مرورهما، لا يفتى أحدهما بإهلاك دابة الآخر، لكن لو فعل، خلص دابته، ولزمه قيمة دابة صاحبه، واختار الغزالي قول ابن الحداد. ووجهه الشيخ أبو علي: بأن الحلق في غير وقته، يباح بالعذر، كمن به أذى من رأسه، فضرر الاشتباه لو لم يحلق أكثر، فإنه يفوت الحج، وسواء أفتيناه بما قاله ابن الحداد، أم لم نفته، ففعل، لزمه دم، لانه إن كان محرما بحج، فقد حلق في غير وقته، وإن كان بعمرة، فقد تمتع، فيريق دما عن الواجب عليه، ولا يعين الجهة كما في الكفارة. فإن كان معسرا لا يجد دما ولا طعاما، صام عشرة أيام كصوم المتمتع. فإن كان الواجب دم المتمتع، فذاك، وإن كان دم الحلق، أجزأه ثلاثة أيام، الباقي تطوع. ولا يعنى الجهة في صوم الثلاثة، ويجوز تعيين التمتع في صوم السبعة. ولو اقتصر على صوم ثلاثة، هل تبرأ ذمته ؟ مقتضى كلام الشيخ أبي علي: أنه لا تبرأ. قال الامام: ويحتمل أن تبرأ، وعبر الغزالي في الوسيط عن هذين بوجهين. ويجزئه الصوم مع وجود

(2/342)


الطعام، لانه لا مدخل للطعام في التمتع. وفدية الحلق على التخيير. ولو أطعم، هل تبرأ ذمته ؟ فيه كلاما الشيخ والامام. هذا كله إذا استجمع الرجل شروط وجوب دم التمتع، فإن لم يستجمعها، كالمكي، لم يجب الدم، لان دم التمتع مفقود، والاصل، عدم الحلق. وإذا جوز أن يكون إحرامه أولا بالقران، فهل يلزمه دم آخر مع الدم الذي وصفناه ؟ فيه الوجهان السابقان. الحال الثالث: أن يعرض الشك بعد الطواف والوقوف. فإن أتى ببقية أعمال الحج، لم يحصل له حج ولا عمرة. أما الحج، فلجواز أنه كان محرما بعمرة، فلا ينفعه الوقوف. وأما العمرة، فلجواز أنه كان محرما بحج، ولم يدخل عليه العمرة. فإن نوى القران، ولبى، وأتى بأعمال القران، فإجزاء العمرة يبنى على أنها، هل تدخل على الحج بعد الوقوف ؟ ثم قياس المذكور في الحال السابق. ثم لو أتم أعمال العمرة، وأحرم بالحج، وأتى بأعماله مع الوقوف، أجزأه الحج، وعليه دم كما سبق. ولو أتم أعمال الحج، ثم أحرم بعمرة، وأتى بأعمالها، أجزأته العمرة. فرع لو تمتع بالعمرة إلى الحج، فطاف للحج طواف الافاضة، ثم بان له أنه كان محدثا في طواف العمرة، لم يصح طوافه ذلك، ولا سعيه بعده، وبان أن حلقه وقع في غير وقته، ويصير بإحرامه بالحج مدخلا الحج على العمرة قبل الطواف، فيصير قارنا، ويجزئه طوافه وسعيه في الحج عن الحج، وعليه دمان، دم القران، ودم الحلق. وإن بان أنه كان محدثا في طواف الحج، توضأ وأعاد الطواف والسعي، وليس عليه إلا دم التمتع إذا استجمعت شروطه. فلو شك في أي الطوافين كان حدثه، فعليه إعادة الطواف والسعي. فإذا أعادهما، صح حجه وعمرته، وعليه دم، لانه قارن أو متمتع، وينوي بإراقته

(2/343)


الواجب عليه، ولا تعين الجهة. وكذا لو لم يجد الدم فصام. والاحتياط: أن يريق دما آخر، لاحتمال أنه حالق قبل الوقت. فلو لم يحلق في العمرة، وقلنا: الحلق استباحة محظور، فلا حاجة إليه. وكذا لا يلزمه عند تبين الحدث في طواف العمرة، إلا دم واحد. ولو كانت المسألة بحالها، لكن جامع بعد العمرة، ثم أحرم بالحج، فهذه المسألة تفرع على أصلين. أحدهما: جماع الناسي، هل يفسد النسك ويجب الفدية كالعمد ؟ فيه قولان. الثاني: إذا أفسد العمرة بجماع، ثم أدخل الحج عليها، هل يدخل ويصير محرما بالحج ؟ وجهان. أصحهما عند الاكثرين: يصير محرما بالحج، وبه قال ابن سريج، والشيخ أبو زيد. فعلى هذا، هل يكون الحج صحيحا مجزءا ؟ وجهان. أحدهما: نعم، لان المفسد متقدم. وأصحهما: لا. فعلى هذا، هل ينعقد فاسدا، أو صحيحا ثم يفسد ؟ وجهان. أحدهما: ينعقد صحيحا ثم يفسد، كما لو أحرم مجامعا. وأصحهما: ينعقد فاسدا. ولو انعقد صحيحا، لم يفسد، إذ لم يوجد بعد انعقاده مفسد. فإن قلنا: ينعقد فاسدا، أو صحيحا ثم يفسد، مضى في النسكين وقضاهما. وإن قلنا: ينعقد صحيحا ولا يفسد، قضى العمرة دون الحج. وعلى الاوجه الثلاثة: يلزمه دم القران، ولا يجب للافساد إلا بدنة واحدة، كذا قاله الشيخ أبو علي. وحكى الامام: وجهين آخرين، إذا حكمنا بانعقاد حجه فاسدا. أحدهما: يلزمه بدنة أخرى، لفساد الحج. والثاني: يلزمه البدنة للعمرة، وشاة للحج، كما لو جامع، ثم جامع. إذا عرفت هذين الاصلين، فانظر، إن كان الحدث في طواف العمرة، فالطواف والسعي فاسدان، والجماع واقع قبل التحلل، لكن لا يعلم كونه قبل التحلل، فهل يكون كالناسي ؟ فيه طريقان. أحدهما: نعم، وبه قطع الشيخ أبو علي. والثاني: لا. فإن لم تفسد العمرة به، صار قارنا وعليه دم للقران، ودم للحلق قبل وقته إن كان حلق كما سبق. وإن أفسدنا العمرة، فعليه للافساد بدنة، وللحلق شاة. وإذا أحرم بالحج، فقد أدخله على عمرة فاسدة،

(2/344)


فإن لم يدخل، فهو في عمرته كما كان، فيتحلل منها ويقضيها. وإن دخل وقلنا بفساد الحج، فعليه بدنة للافساد، ودم للحلق قبل وقته، ودم للقران، ويمضي في فاسدهما ثم يقضيهما. وإن قال: كان الحدث قبل طواف الحج، فعليه إعادة الطواف والسعي، وقد صح نسكاه، وليس عليه إلا دم التمتع. وإن قال: لا أدري في أي الطوافين كان، أخذ في كل حكم باليقين، فلا يتحلل ما لم يعد الطواف والسعي، لاحتمال أن حدثه كان في طواف الحج، ولا يخرج عن عهدة الحج والعمرة، إن كانا واجبين عليه، لاحتمال كونه محدثا في طواف العمرة، وتأثير الجماع في إفساد النسكين على المذهب، فلا تبرأ ذمته بالشك. وإن كان متطوعا، فلا قضاء، لاحتمال أن لا فساد، وعليه دم إما للتمتع إن كان الحدث في طواف الحج. وإما للحلق إن كان في طواف العمرة. ولا تلزمه البدنة لاحتمال أنه لم يفسد العمرة، لكن الاحتياط ذبح بدنة وشاة إذا جوزنا إدخال الحج على العمرة الفاسدة، لاحتمال أنه صار قارنا بذلك. هذا آخر المقدمة. فإذا تعذرت معرفة إحرام زيد، فطريقان. أحدهما: يكون عمرو كمن نسي ما أحرم به. وفيه القولان: القديم والجديد. والطريق الثاني وهو المذهب، وبه قال الاكثرون: لا يتحرى بحال، بل ينو القران. وحكوه عن نصه في القديم. والفرق، أن الشك في مسألة النسيان وقع في فعله، فله سبيل إلى التحري، بخلاف إحرام زيد. فرع هذا الذي ذكرناه من الاحوال الثلاثة لزيد، هو فيما إذا أحرم عمرو في الحال بإحرام كإحرام زيد. أما لو علق إحرامه فقال: إذا أحرم زيد، فأنا محرم، فلا يصح إحرامه، كما لو قال: إذا جاء رأس الشهر، فأنا محرم. هكذا نقله صاحب التهذيب وغيره. ونقل في المعتمد في صحة الاحرام المعلق بطلوع الشمس ونحوه وجهين. وقياس تجويز تعليق أصل الاحرام بإحرام الغير، تجويز هذا، لان التعليق موجود في الحالين، إلا أن هذا تعليق بمستقبل، وذلك تعليق بحاضر، وما يقبل التعليق من العقود، يقبلهما جميعا. قلت: قال الروياني: لو قال أحرمت كإحرام زيد وعمرو، فإن كانا محرمين

(2/345)


بنسك متفق، كان كأحدهما. وإن كان أحدهما بعمرة، والآخر بحج، كان هذا المعلق قارنا، وكذا إن كان أحدهما قارنا. قال: ولو قال: كإحرام زيد الكافر، وكان الكافر قد أتى بصورة إحرام، فهل ينعقد له ما أحر به الكافر، أم ينعقد مطلقا ؟ وجهان، وهذا ضعيف أو غلط، بل الصواب انعقاده مطلقا. قال الروياني: قال أصحابنا: لو قال: أحرمت يوما أو يومين، انعقد مطلقا كالطلاق. ولو قال: أحرمت بنصف نسك، انعقد بنسك كالطلاق. وفيما نقله، نظر. والله أعلم. فصل في سنن الاحرام من سننه: الغسل إذا أراده. يستوي في استحبابه، الرجل، والصبي، والحائض، والنفساء. ولو أمكن الحائض المقام بالميقات حتى تطهر، فالافضل أن تؤخر الاحرام حتى تطهر، فتغتسل ليقع إحرامها في أكمل أحوالها. وحكي قول أن: الحائض والنفساء، لا يسن لهما الغسل، وهو شاذ ضعيف. وإذا اغتسلتا، نوتا. ولامام الحرمين في نيتهما احتمال. فإن عجز المحرم عن الماء، تيمم، نص عليه في الام. وذكرنا في غسل الجمعة

(2/346)


احتمالا للامام، أنه لا تيمم، وذاك عائد هنا. وإذا وجد ماء لا يكفيه للغسل، توضأ، قاله في التهذيب. قلت: هذا الذي قاله في التهذيب قاله أيضا المحاملي. فإن أراد أنه يتوضأ، ثم يتيمم، فحسن. وإن أراد الاقتصار على الوضوء، فليس بجيد لان المطلوب هو الغسل، فالتيمم يقوم مقامه دون الوضوء. والله أعلم. ويسن الغسل للحاج في مواطن. أحدها: عند الاحرام. والثاني: لدخول مكة. والثالث: للوقوف بعرفة. والرابع: للوقوف بمزدلفة بعد الصبح يوم النحر. والخامس، والسادس، والسابع: ثلاثة أغسال لرمي جمار أيام التشريق. وهذه الاغسال، نص عليها الشافعي، رحمة الله عليه، قديما وجديدا. ويستوي في استحبابها، الرجل والمرأة. وحكم الحائض ومن لم يجد ماء، كما سبق في غسل الاحرام. وزاد في القديم ثلاثة أغسال: لطواف الافاضة، والوداع، وللحلق، ولم يستحبه لرمي جمرة العقبة، اكتفاء بغسل العيد، ولان وقته متسع، بخلاف رمي أيام التشريق. قلت: قال الشافعي رحمه الله في الام: أكره ترك الغسل للاحرام. وهذا الذي ذكره في الغسل الرابع: أنه للوقوف بمزدلفة، هو الذي ذكره الجمهور، وكذا نص عليه في الام. وجعل المحاملي في كتبه، وسليم الرازي، والشيخ نصر المقدسي، الغسل الرابع للمبيت بالمزدلفة، ولم يذكروا غسل الوقوف بها. والله أعلم. فرع يستحب أن يتأهب للاحرام بحلق العانة، ونتف الابط، وقص

(2/347)


الشارب، وقلم الاظفار، وغسل الرأس بسدر أو خطمي ونحوه. فرع يستحب أن يتطيب للاحرام. وسواء الطيب الذي يبقى له أثر وجرم بعد الاحرام، والذي لا يبقى، وسواء الرجل والمرأة، هذا هو المذهب. وحكي وجه: أن التطيب مباح، ليس بمستحب. وقول: أنه لا يستحب للنساء بحال. ووجه: أنه يحرم عليهن التطيب بما تبقي عينه. ثم إذا تطيب، فله إستدامته بعد الاحرام، بخلاف المرأة إذا تطيبت ثم لزمتها عدة، تلزمها إزالة الطيب في وجه، لان العدة حق آدمي، فالمضايقة فيه أكثر. ولو أخذ الطيب من موضعه بعد الاحرام ورده إليه، أو إلى موضع آخر، لزمه الفدية على المذهب. وقيل: قولان. ولو انتقل من موضع إلى موضع آخر بالعرق، فالاصح: أنه لا شئ عليه. والثاني: عليه الفدية إن تركه. هذا كله في تطييب البدن. وفي تطييب إزار الاحرام وردائه وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: الجواز كالبدن. والثاني: التحريم، لانه يلبس مرة بعد أخرى. ووجه ثالث: إن بقي عينه بعد الاحرام، لم يجز، وإلا، جاز. وهذا الخلاف، فيمن قصد تطييب الثوب. أما من طيب بدنه فتعطر ثوبه تبعا، فلا بأس بلا خلاف. فإن جوزنا تطييب الثوب للاحرام، فلا بأس باستدامة ما عليه بعد الاحرام، كالبدن. فلو نزعه ثم لبسه، لزمه الفدية على الاصح كما لو أخذ الطيب من بدنه، ثم رده إليه، أو ابتدأ لبس ثوب مطيب. فرع يستحب للمرأة أن تخضب يديها إلى الكوعين بالحناء قبل الاحرام، وتمسح وجهها أيضا بشئ من الحناء لتستر البشرة، فإنها تؤمر بكشفهما، ولا فرق في استحباب الخضاب للمحرمة بين المزوجة وغيرها. وأما في غير الاحرام، فيستحب للمزوجة الخضاب، ويكره لغيرها. وحيث استحببناه، فإنما يستحب تعميم اليد دون النقش، والتسويد، والتطريف، وهو خضب أطراف

(2/348)


الاصابع. ويكره لها الخضاب بعد الاحرام. قلت: سواء في استحباب الخضاب، العجوز والشابة. ولا تختضب الخنثى، كما لا يختضب الرجل. والله أعلم. فرع فإذا أراد الاحرام، نزع المخيط، ولبس إزارا ورداء ونعلين. ويستحب أن يكون الازار والرداء أبيضين جديدين، وإلا فمغسولين، ويكره المصبوغ. فرع يستحب أن يصلي قبل الاحرام ركعتين. فإن أحرم في وقت فريضة فصلاها، أغنته عن ركعتي الاحرام. وإن كان في وقت الكراهة، لم يصلهما على الاصح. قلت: والمستحب، أن يقرأ فيهما: * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) *. قال أصحابنا: فإن كان في الميقات مسجد، استحب أن يصليهما فيه. والله أعلم. فرع فإذا صلى، نوى ولبى. وفي الافضل قولان. أظهرهما: أن ينوي ويلبي حين تنبعث به دابته إلى صوب مكة، إن كان راكبا، أو حين يجوجه إلى

(2/349)


الطريق، إن كان ماشيا. والثاني: أن ينوي ويلبي ذقب الصلاة وهو قاعد، ثم يسير. قلت: وعلى القولين: يستحب أن يستقبل القبلة عند الاحرام. والله أعلم. فرع السنة، أن يكثر من التلبية في دوام الاحرام. وتستحب قائما، وقاعدا، وراكبا، وماشيا، وجنبا، وحائضا. ويتأكد استحبابها، في كل صعود، وهبوط، وحدوث أمر، من ركوب أو نزول، أو اجتماع رفاق، أو فراغ من صلاة، وعند إقبال الليل والنهار، ووقت السحر. وتستحب التلبية في المسجد الحرام، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، فإنها مواضع نسك. وفي سائر المساجد قولان. الجديد: يلبي. والقديم: لا يلبي، لئلا يشوش على المصلين والمتعبدين. ثم قال الجمهور: القولان في أصل التلبية، فإن استجبناهما، استحببنا رفع الصوت بها، وإلا، فلا. وجعلهما إمام الحرمين في استحباب رفع الصوت، ثم قال: إن لم تستحب رفعه في سائر المساجد، ففي الرفع في المساجد الثلاثة، وجهان. وهل تستحب التلبية في طواف القدوم والسعي بعده ؟ قولان. الجديد: لا، لان لهما أذكارا. والقديم: يستحب. ولا يجهر بها، ولا يلبي في طوافي الافاضة والوداع بلا خلاف، لخروج وقت التلبية. ويستحب للرجل رفع صوته بالتلبية، بحيث لا يضر بنفسه، ولا تجهر بها المرأة، بل تقتصر على إسماع

(2/350)


نفسها. قال الروياني: فإن رفعت صوتها، لم يحرم، لانه ليس بعورة على الصحيح. قلت: لكن يكره، نص عليه الدارمي. ويستحب أن يكون صوت الرجل في صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب التلبية دون صوته بها. والله أعلم. ويستحب للملبي، أن لا يزيد على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل يكررها، وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لك لا شريك لك. ويجوز كسر همزة - إن - وفتحها. قلت: الكسر أصح وأشهر. والله أعلم. فإن زاد على هذه التلبية، لم يكره. ويستحب إذا رأى شيئا يعجبه، أن يقول: لبيك إن العيش عيش الآخرة. ويستحب إذا فرغ من التلبية، أن يصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يسأل الله تعالى رضوانه والجنة ويستعيذ به من النار، ثم يدعو بما أحب، ولا يتكلم في أثناء تلبيته بأمر، أو نهي أو غيرهما لكن لو سلم عليه، رد، نص عليه.

(2/351)


قلت: ويكره التسليم عليه في حال التلبية. والله أعلم. ومن لا يحسن التلبية بالعربية، يلبي بلسانه. باب دخول مكة زادها الله شرفا وما يتعلق به
السنة أن يدخل المحرم بالحج مكة قبل الوقوف بعرفة. ولدخوله سنن. منها: الغسل بذي طوى، وأن يدخل من ثنية كداء - بفتح الكاف

(2/352)


والمد - وهي بأعلى مكة. وإذا خرج، خرج من ثنية كدى - بضم الكاف - بأسفل مكة. والذي يشعر به كلام الاكثرين: أنها بالمد أيضا. ويدل عليه أنهم كتبوها بالالف، ومنهم من قالها بالياء. قلت: الصواب الذي أطبق عليه المحققون من أهل الضبط: أن الثنية السفلى - بالقصر وتنوين الدال - ولا اعتداد بشياع خلافه عند غيرهم. وأما كتابته بالالف، فليست ملازمة للمد. والثنية: الطريق الضيق بين جبلين، وهذه الثنية عند جبل قعيقعان. والله أعلم. قال الاصحاب: وهذه السنة في حق من جاء من طريق المدينة والشام. فأما الآتي من غيرها، فلا يؤمر أن يدور حول مكة ليدخل من ثنية كداء، وكذا الغسل بذي طوى. قالوا: وإنما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلك الثنية، اتفاقا، لا قصدا. ومقتضى هذا: أن لا يتعلق نسك بالدخول منها للآتي من جهة المدينة. وكذا قاله الصيدلاني، وقال الشيخ أبو محمد: ليست الثنية على طريق المدينة، بل عدل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فيستحب الدخول منها لكل آت. ووافق إمام الحرمين الجمهور، وسلم للشيخ بأن موضع الثنية على ما ذكره.

(2/353)


قلت: الصحيح: أن يستحب الدخول من الثنية لكل آت من أي جهة. والله أعلم. فرع هل الافضل دخول مكة ماشيا، أم راكبا ؟ وجهان. فإن دخل ماشيا، فقيل: الاولى أن يكون حافيا. قلت: الاصح: ماشيا أفضل، وله دخول مكة ليلا ونهارا بلا كراهة، فقد ثبتت السنة فيهما. والاصح: أن النهار أفضل، وبه قال أبو إسحق، واختاره صاحب التهذيب وغيره. وقال القاضي أبو الطيب وغيره: هما سواء في الفضيلة. والله أعلم. فرع يستحب إذا وقع بصره على البيت، أن يرفع يديه ويقول: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه، أو اعتمره، تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا. ويضيف إليه: اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام. ويدعو بما أحب من مهمات الآخرة والدنيا، وأهمها سؤال المغفرة. واعلم أن بناء البيت رفيع يرى قبل دخول المسجد، في موضع يقال له: رأس الردم، إذا دخل من أعلى مكة. وحينئذ يقف ويدعو بما ذكرنا. فإذا فرغ من الدعاء، قصد المسجد ودخله من باب بني شيبة، وهذا مستحب لكل قادم بلا

(2/354)


خلاف. ويبتدئ عند دخوله بطواف القدوم، ويؤخر اكتراء منزله، وتغيير ثيابه، إلى أن يفرع طوافه. فلو دخل والناس في مكتوبة، صلاها معهم أولا. وكذا لو أقيمت الجماعة وهو في أثناء الطواف، قدم الصلاة، وكذا لو خاف فوت فريضة أو سنة مؤكدة. ولو قدمت المرأة نهارا وهي جميلة، أو شريفة لا تبرز للرجال، أخرت الطواف إلى الليل، وليس في حق من دخل مكة بعد الوقوف، طواف قدوم، إنما هو لمن دخلها أولا. ويسمى طواف القدوم أيضا، طواف الورود، وطواف التحية، لانه التحية البقعة. ويأتي به كل من دخلها، سواء كان تاجرا، أو حاجا، أو غيرهما. ولو كان معتمرا فطاف للعمرة، أجزأه عن طواف القدوم، كما تجزئ الفريضة عن تحية المسجد. فصل من قصد مكة لا لنسك، له حالان. أحدهما: أن لا يكون ممن يتكرر دخوله، بأن دخلها لزيارة، أو تجارة، أو رسالة، وكالمكي إذا دخلها عائدا من سفره، هل يلزمه أن يحرم بالحج، أو العمرة ؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أحدهما: يلزمه، وهو الاظهر عند المسعودي، وصاحب التهذيب وغيرهما في آخرين، واختاره صاحب

(2/355)


التلخيص. والثاني: يستحب، وهو الاظهر عند الشيخ أبي حامد ومتابعيه، والشيخ أبي محمد والغزالي. والطريق الثاني: القطع بالاستحباب. قلت: الاصح في الجملة: استحبابه، وقد صححه الرافعي في المحرر. والله أعلم. الحال الثاني: أن يكون ممن يتكرر دخوله، كالحطابين والصيادين ونحوهم، فإن قلنا في الحال الاول: لا يلزمه، فهنا أولى، وإلا، فالمذهب: أنه لا يلزمه أيضا. وقيل: قولان. وفي وجه ضعيف: يلزمهم الاحرام كل سنة مرة. وحيث قلنا بالوجوب، فله شروط. أحدها: أن يجئ الداخل من خارج الحرم، فأما أهل الحرم، فلا إحرام عليهم بلا خلاف. الثاني: أن لا يدخلها لقتال، ولا خائفا. فإن دخلها لقتال باغ، أو قاطع طريق، أو غيرهما، أو خائفا من ظالم أو غريم يحبسه وهو معسر لا يمكنه الظهور لاداء النسك، لم يلزمه الاحرام بلا خلاف. الثالث: أن يكون حرا. فالعبد لا إحرام عليه. وقيل: إن أذن سيده في الدخول محرما، فهو كحر، والمذهب: الاول. وإذا اجتمعت شرائط الوجوب، فدخل غير محرم، فطريقان. أصحهما وبه قطع الاكثرون: لا قضاء عليه. والثاني: على وجهين. وقيل: قولين. أحدهما: هذا. والثاني: يلزمه القضاء، تداركا للواجب. وسبيله على هذا، أن يخرج ثم يعود محرما. وعللوا عدم القضاء بعلتين. إحداهما: أنه لا يمكن القضاء، لان الدخول الثاني يقتضي إحراما آخر،

(2/356)


فصار كمن نذر صوم الدهر فأفطر يوما. وفرع صاحب التلخيص على هذه العلة، أنه لو لم يكن ممن يتكرر دخوله كالحطابين، ثم صار منهم، قضى، لتمكنه. وربما نقل عنه: أنه يوجب عليه أن يجعل نفسه منهم. والعلة الثانية وهي الصحيحة، وبها قال العراقيون والقفال: أنه تحية للبقعة، فلا تقضى، كتحية المسجد. وأبطلوا العلة الاولى. قال ابن كج تفريعا على قول الوجوب: إنه إذا انتهى إلى الميقات على قصد دخول مكة، لزمه أن يحرم من الميقات. فلو أحرم بعد مجاوزته، فعليه دم، بخلاف ما لو ترك الاحرام من أصله. وهل ينزل دخول الحرم منزلة دخول مكة فيما ذكرناه ؟ قال بعض الشارحين: نعم، والمراد بمكة في هذا، الحرم. ولا يبعد تخريجه على خلاف سبق في نظائره. قلت: الصواب: القطع بأن الحرم كمكة في هذا. وقد اتفق الاصحاب عليه، وصرح به خلائق، منهم، صاحب الحاوي والمحاملي في المقنع وغيره، والجرجاني في التحرير والشاشي في المستظهري والروياني في الحلية وغيرهم. وعجب قول الرافعي: قال بعض الشارحين، مع شهرة هذه الكتب. والله أعلم.
فصل في أحكام الطواف
للطواف بأنواعه وظائف واجبة، وأخرى مسنونة. فالواجب: ثمانية، مختلف في بعضها. الاول: الطهارة عن الحدث، والنجس، وستر العورة، كما في

(2/357)


الصلاة. فلو طاف محدثا، أو عاريا، أو على بدنه، أو ثوبه، نجاسة غير معفو عنها، لم يصح طوافه، وكذا لو كان يطأ في مطافه النجاسة. ولم أر للائمة تشبيه مكان الطواف بالطريق في حق المتنفل ماشيا، أو راكبا، وهو تشبيه لا بأس به. ولو أحدث في أثناء طوافه عمدا، لزمه الوضوء. وهل يبني على ما مضى من طوافه، أم يستأنف ؟ قولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: له البناء. والثاني: يجب الاستئناف. فلو سبقه الحدث، فإن قلنا: يبني العامد، فهذا أولى، وإلا فقولان، أو وجهان. الاصح: البناء. هذا كله إذا لم يطل الفصل. فإن طال، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وحيث لا نوجب الاستئناف، نستحبه. الواجب الثاني: الترتيب، وهو أن يبتدئ من الحجر الاسود، فيحاذيه

(2/358)


بجميع بدنه، ويمر تلقاء وجهه والبيت على يساره. فلو جعل البيت على يمينه، ومر من الحجر الاسود إلى الركن اليماني، لم يصح طوافه. فلو لم يجعله على يمينه ولا على يساره، بل استقبله بوجهه معترضا، أو جعل البيت على يمينه، ومشى قهقرى نحو الباب، فوجهان. أصحهما: لا يصح، وهو الموافق لعبارة الاكثرين. والقياس جريان هذا الخلاف فيما لو مر معترضا مستدبرا. قلت: الصواب: القطع بأنه لا يصح الطواف في هذا الصورة، فإنه منابذ لما ورد الشرع به. والله أعلم.

(2/359)


ولو ابتدأ من غير الحجر الاسود، لم يعتد بما فعله حتى ينتهي إلى الحجر الاسود، فيكون منه ابتداء الطواف. وينبغي أن يمر في الابتداء بجميع بدنه على جميع الحجر الاسود، فلا يقدم جزءا من بدنه على جزء من الحجر الاسود. فلو حاذاه ببعض بدنه، وكان بعضه مجاوزا إلى جانب الباب، فقولان. الجديد: أنه لا يعتد بتلك الطوفة. والقديم: يعتد بها. وجعل إمام الحرمين والغزالي هذا الخلاف وجهين، وليس كما قالا، بل هما قولان منصوصان، حكاهما الاصحاب. ولو حاذى بجميع البدن بعض الحجر دون بعضه، أجزأه، ذكره أصحابنا العراقيون. كما يجزئه أن يستقبل في الصلاة بجميع بدنه بعض الكعبة. الواجب الثالث: أن يكون خارجا بجميع بدنه عن جميع البيت. فلو مشى على الشاذروان، لم يصح طوافه، فإنه جزء من البيت. وينبغي أن يدور في

(2/360)


طوافه حول الحجر وهو المحوط بين الركنين الشاميين بجدار قصير، بينه وبين كل واحد من الركنين فتحة. وكلام كثير من الاصحاب يقتضي كون جميعه من البيت، وهو ظاهر نصه في المختصر. لكن الصحيح: أنه ليس كذلك، بل الذي هو من البيت، قدر ست أذرع تتصل بالبيت. وقيل: ست أذرع، أو سبع. ولفظ المختصر محمول على هذا. فلو دخل إحدى الفتحتين، وخرج من الاخرى، لم يحسب له ذلك، ولا ما بعده حتى ينتهي إلى الفتحة التي دخل منها بلا خلاف. ولو لم يدخل الفتحة، وخلف القدر الذي من البيت، ثم اقتحم الجدار، وقطع الحجر على السمت، صح طوافه. قلت: الاصح: أنه لا يصح الطواف في شئ من الحجر، وهو ظاهر المنصوص، وبه قطع معظم الاصحاب تصريحا وتلويحا. ودليله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف خارج الحجر. والله أعلم. ولو كان يطوف ويمس الجدار بيده في موازاة الشاذروان أو غيره من أجزاء البيت، ففي صحة طوافه وجهان. الصحيح باتفاق فرق الاصحاب: أنه لا يصح، لان بعض بدنه في البيت، فهو كما لو كان يضع إحدى رجليه أحيانا على الشاذروان، ويقفز بالاخرى. الواجب الرابع: أن يقع الطواف في المسجد الحرام، ولا بأس بالحائل فيه بين الطائف والبيت، كالسقاية والسواري. ويجوز في أخريات المسجد، وأروقته، وعند باب المسجد من داخله، ويجوز على سطوحه إذا كان البيت أرفع بناء كما هو اليوم. فإن جعل سقف المسجد أعلى، فقد ذكر في العدة: أنه لا يجوز الطواف على سطحه. ولو صح قوله، لزم أن يقال: لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - لم

(2/361)


يصح الطواف حول عرصتها، وهو بعيد. فرع لو وسع المسجد، اتسع المطاف، وقد جعلته العباسية أوسع مما كان في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: أول من وسع المسجد الحرام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشترى دورا وزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة. وكان عمر أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام، ثم وسعه عثمان بن عفإن رضي الله عنه كذلك، واتخذ له الاروقة، وكان أول من اتخذها، ثم وسعه عبد الله بن الزبير في خلافته، ثم وسعه الوليد بن عبد الملك، ثم المنصور، ثم المهدي. وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا هذا. والله أعلم. الواجب الخامس: العدد. وهو أن يطوف سبعا. الواجب السادس: مختلف فيه. وهو، أنه إذا فرغ من الطواف، صلى ركعتين. وهل هما واجبتان، أم سنة ؟ قولان. أظهرهما: سنة، هذا إذا كان الطواف فرضا. فإن كان سنة، فطريقان. أحدهما: طرد القولين. والثاني: القطع بأن الصلاة سنة. وقيل: تجب الصلاة في الطواف المفروض قطعا. ويستحب أن يقرأ في الاولى بعد الفاتحة: * (قل يا أيها الكافرون) * وفي الثانية: * (قل هو الله أحد) *: وأن يصليها خلف المقام. فإن لم يفعل، ففي الحجر، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي أي موضع شاء من الحرم وغيره. ويجهر فيهما بالقراءة ليلا، ويسر نهارا. وإذا قلنا: هما سنة، فصلى فريضة بعد الطواف، أجزأه عنها، كتحية المسجد، نص عليه في القديم، وحكاه الامام عن الصيدلاني، لكنه استبعده.

(2/362)


وتمتاز هذه الصلاة عن غيرها، بجريان النيابة فيها إذ الاجير يؤديها عن المستأجر. قلت: اختلف أصحابنا في صلاة الاجير هذه، فقيل: تقع عنه. وقيل: تقع عن المستأجر، وهو الاشهر. والله أعلم. فرع ركعتا الطواف وإن أوجبناهما، فليستا بشرط في صحته، ولا ركنا منه، بل يصح بدونهما. وفي تعليل جماعة من الاصحاب، ما يقتضي اشتراطهما. قلت: الصواب: أنهما ليستا شرطا ولا ركنا. والله أعلم. ولا تفوت هذه الصلاة ما دام حيا، ولا يجبر تأخيرها، ولا تركها بدم، لكن حكى صاحب التتمة عن نص الشافعي رضي الله عنه: أنه إذا أخر، تستحب له إراقة دم. وقال الامام: لو مات قبل الصلاة، لم يمتنع جبرها بالدم. قلت: وإذا أراد أن يطوف طوافين أو أكثر، استحب أن يصلي عقيب كل طواف ركعتيه. فلو طاف طوافين أو أكثر بلا صلاة، ثم صلى لكل طواف ركعتيه، جاز. والله أعلم. الواجب السابع: مختلف فيه، وهو النية. وفي وجوبها في الطواف،

(2/363)


وجهان. أصحهما: لا تجب، لان نية الحج تشمله. وهل يشترط أن لا يصرفه إلى غرض آخر من طلب غريم ونحوه ؟ وجهان. أصحهما: نعم. ولو نام في الطواف أو بعضه على هيأة لا ينتقض الوضوء. قال الامام: هذا يقرب من صرف الطواف إلى طلب الغريم. ثم قال: ويجوز أن يقطع بوقوعه موقعه. قلت: الاصح: صحة طوافه. والله أعلم. فرع لو حمل رجل محرما، من صبي، أو مريض، أو غيرهما، وطاف به، فإن كان الحامل حلالا، أو قد طاف عن نفسه، حسب الطواف للمحمول بشرطه، وإلا، فإن قصد الطواف عن المحمول، فثلاثة أوجه. أصحها: يقع للمحمول فقط، تخريجا على قولنا: يشترط أن لا يصرفه إلى غرض آخر. والثاني: يقع عن الحامل فقط، تخريجا على قولنا: لا يشترط ذلك، فإن الطواف حينئذ يكون محسوبا له، فلا ينصرف عنه، بخلاف ما إذا حمل محرمين وطاف بهما وهو حلال أو محرم قد طاف، فإنه يجزئهما جميعا، لان الطواف غير محسوب للحامل، فيكون المحمولان كراكبي دابة. والثالث: يقع عنهما جميعا. ولو قصد الطواف عن نفسه، وقع عنه، ولا يحسب عن المحمول، قاله الامام، وحكى اتفاق الاصحاب عليه. قال: وكذا لو قصد الطواف لنفسه، وللمحمول. وحكى صاحب التهذيب وجهين في حصوله للمحمول، مع الحامل. ولو لم يقصد شيئا من الاقسام الثلاثة، فهو كما لو قصد نفسه أو كليهما. وسواء في الصبي المحمول، حمله وليه الذي أحرم عنه أو غيره. قلت: لو طاف المحرم بالحج معتقدا أنه محرم بعمرة، أجزأه عن الحج، كما لو طاف عن غيره، وعليه طواف، ذكره الروياني. والله أعلم. الواجب الثامن: مختلف فيه، وهو الموالاة بين الطوفات السبع، وفيها قولان. أظهرهما: أنها سنة، فلا تبطل بالتفريق الكثير. والثاني: واجبة، فتبطل بالتفريق الكثير بلا عذر. فإن فرق يسيرا أو كثيرا بعذر، فهو كما قلنا في الوضوء. قال الامام: والكثير ما يغلب على الطن تركه الطواف. ولو أقيمت المكتوبة وهو في أثناء الطواف، فالتفريق بها، تفريق بعذر. وقطع الطواف المفروض لصلاة الجنازة أو الرواتب، مكروه، إذ لا يحسن ترك فرض العين لفرض الكفاية.

(2/364)


أما سنن الطواف، فخمس. الاولى: أن يطوف ماشيا، ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه، أو كان ممن يحتاج إلى ظهوره ليستفتي. ولو طاف راكبا بلا عذر، جاز بلا كراهة، كذا قاله الاصحاب. قال الامام: وفي القلب من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها المسجد شئ. فإن أمكن الاستيثاق، فذاك، وإلا، فإدخالها مكروه. الثانية: أن يستلم الحجر الاسود بيده في ابتداء الطواف، ويقبله، ويضع جبهته عليه. فإن منعته الزحمة من التقبيل، اقتصر على الاستلام. فإن لم يمكن، اقتصر على الاشارة باليد، ولا يشترط بالفم إلا التقبيل. ولا يقبل الركنين الشاميين، ولا يستلمهما. ويستلم الركن اليماني، ولا يقبله. ويستحب، أن

(2/365)


يقبل اليد بعد استلام اليماني، وبعد استلام الحجر الاسود إذا اقتصر على استلامه للزحمة. وذكر إمام الحرمين: أنه مخير بين أن يستلم ثم يقبل اليد، وبين أن يقبل اليد، ثم يستلم. والمذهب: القطع بتقديم الاستلام، ثم تقبيلها، وبهذا قطع الجمهور. ولو لم يستلم بيده، فوضع عليه خشبة، ثم قبل طرفها، جاز. قلت: الاستلام بالخشبة ونحوها، مستحب إذا لم يتمكن من الاستلام باليد. والله أعلم. ويستحب تقبيل الحجر، واستلامه، واستلام اليماني عند محاذاتهما في كل طوفة، وهو في الاوتار آكد، لانها أفضل. قلت: ولا يستحب للنساء استلام، ولا تقبيل، إلا عند خلو المطاف في الليل أو غيره. والله أعلم. الثالثة: الدعاء، فيستحب أن يقول في ابتداء الطواف: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -. ويقول بين الركنين اليمانيين: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي

(2/366)


الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ويدعو في جميع طوافه بما شاء. وقراءة القرآن في الطواف أفضل من الدعاء غير المأثور. وأما المأثور، فهو أفضل منها على الصحيح. وعلى الثاني: أنها أفضل منه. الرابعة: الرمل - بفتح الميم والراء - وهو الاسراع في المشي مع تقارب الخطى دون الوثوب والعدو. ويقال له: الخبب. وغلط الائمة من ظن أنه دون الخبب. ويسن الرمل في الطوفات الثلاث الاول. ويسن المشي على الهينة في الاربعة الاخيرة. ثم هل يستوعب البيت بالرمل ؟ قولان. المشهور: يستوعب. والثاني: لا يرمل بين الركنين اليمانيين. ولا خلاف أن الرمل لا يسن في كل طواف، بل فيما يسن فيه قولان. أظهرهما عند الاكثرين: إنما يسن في طواف يستعقب السعي. والثاني: يسن في طواف القدوم. فعلى القولين: لا رمل في طواف الوداع. ويرمل من قدم مكة معتمرا لوقوع طوافه مجزئا عن القدوم واستعقابه السعي. ويرمل أيضا الحاج الافقي إن لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف، وإن دخلها قبل الوقوف، فهل يرمل في طواف القدوم ؟ ينظر، إن كان لا يسعى عقبه، فعلى القول الثاني: يرمل. وعلى الاول: لا يرمل، وإنما يرمل في طواف الافاضة. وإن كان يسعى عقبه، يرمل فيه على القولين. وإذا رمل فيه، وسعى بعده، فلا يرمل في طواف الافاضة إن لم يرد السعي عقبه، وكذا إن أراده على الاظهر. وإذا طاف للقدوم، وسعى بعده ولم يرمل، فهل يقضيه في طواف الافاضة ؟ وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: لا.

(2/367)


ولو طاف ورمل ولم يسع، قال الاكثرون: يرمل في طواف الافاضة هنا، لبقاء السعي، والظاهر أنهم فرعوا على القول الاول، وإلا، فالقول الثاني لا يعتبر السعي. وهل يرمل المكي المنشئ حجه من مكة ؟ إن قلنا بالقول الثاني، فلا، إذ لا قدوم في حقه، وإلا، فنعم، لاستعقابه السعي. فرع لو ترك الرمل في الطوفات الثلاث، لم يقضه في الاربع الاخيرة، لان هيئتها السكينة فلا يغير. فرع القرب من البيت مستحب للطائف، ولا ينظر إلى كثرة الخطى لو تباعد. فلو تعذر الرمل مع القرب للزحمة، فإن كان يرجو فرجة، وقف ليرمل فيها، وإلا، فالمحافظة على الرمل مع البعد عن البيت أفضل، لان القرب فضيلة تتعلق بموضع العبادة، والرمل فضيلة تتعلق بنفس العبادة، والمتعلق بنفس العبادة أولى بالمحافظة. ألا ترى أن الصلاة بالجماعة في البيت، أفضل من الانفراد في المسجد. ولو كان في حاشية المطاف نساء، ولم يأمن ملامستهن لو تباعد، فالقرب بلا رمل أولى من البعد مع الرمل، حذرا من انتقاض الطهارة وكذا لو كان بالقرب أيضا نساء، وتعذر الرمل في جميع المطاف، لخوف الملامسة، فترك الرمل في هذه الحالة أولى. ومتى تعذر الرمل، استحب أن يتحرك في مشيه، ويرى من نفسه أنه لو أمكنه الرمل، لرمل. وإن طاف راكبا أو محمولا، قولان. أظهرهما: يرمل به الحامل ويحرك الدابة. وقيل: القولان في المحمول البالغ. ويرمل حامل الصبي قطعا. فرع ليكن من دعائه في الرمل: اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا.

(2/368)


الخامسة: الاضطباع. وهو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الايمن، وطرفيه على عاتقه الايسر، ويبقي منكبه الايمن مكشوفا. وكل طواف سن فيه الرمل، سن فيه الاضطباع، وما لا، فلا. لكن الرمل مخصوص بالطوفات الثلاث الاول، والاضطباع يعم جميعها. ويسن أيضا في السعي بين الصفا والمروة على المذهب الذي قطع به الجمهور. وحكي وجه: أنه لا يسن فيه. ولا يسن في ركعتي الطواف على الاصح، لكراهة الاضطباع في الصلاة. فعلى هذا، إذا فرغ من الطواف، أزال الاضطباع ثم صلى الركعتين، ثم أعاد الاضطباع وخرج للسعي. فرع لا ترمل المرأة، ولا تضطبع. وأما الصبي، فيضطبع على الصحيح. قلت: ومتى كان عليه طواف الافاضة، فنوى غيره عن غيره، أو عن نفسه، تطوعا، أو قدوما، أو وداعا، وقع عن طواف الافاضة، كما في واجب الحج والعمرة. ولو نذر أن يطوف، فطاف عن غيره، قال الروياني: إن كان زمن النذر معينا، لم يجز أن يطوف فيه عن غيره. وإن طاف في غيره، أو كان زمانه غير معين، فهل يصح أن يطوف عن غيره والنذر في ذمته ؟ وجهان. أصحهما: لا يجوز كالافاضة. والله أعلم. فصل في السعي إذا فرغ من ركعتي الطواف، استحب أن يعود إلى

(2/369)


الحجر الاسود ويستلمه، ثم يخرج من باب الصفا، ليسعى بين الصفا والمروة، فيبدأ بالصفا، ويرقى على الصفا بقدر قامة رجل، حتى يتراءى البيت، ويقع بصره عليه، فإذا رقي عليه، استقبل البيت، وهلل وكبر، وقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. ثم يدعو بما أحب من أمر الدين والدنيا، ثم يعيد هذا الذكر والدعاء ثانيا، ثم يعيد الذكر ثالثا، ولا يدعو. قلت: ولنا وجه: أنه يدعو بعد الثالثة، وبه قطع الروياني، وصاحب التنبيه، والماوردي وغيرهم، وهو الصحيح. وقد صح ذلك في صحيح مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم.

(2/370)


ثم ينزل من الصفا، ويمشي إلى المروة، ويرقى عليها بقدر قامة رجل، ويأتي بالذكر والدعاء كما فعل على الصفا. ثم المستحب في قطع هذه المسافة، أن يمشي من الصفا على عادته حتى يبقى بينه وبين الميل الاخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ست أذرع، ثم يسعى سعيا شديدا حتى يتوسط بين الميلين الاخضرين. أحدهما: في ركن المسجد. والآخر: متصل بدار العباس رضي الله عنه. ثم يمشي على عادته حتى يصعد المروة. وإذا عاد من المروة إلى الصفا مشى في موضع مشيه، وسعى في موضع رعيه أولا. ويستحب أن يقول في سعيه: رب اغفر، وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الاعز الاكرم. فرع الرقي على الصفا والمروة سنة، والواجب هو السعي بينهما، ويحصل ذلك بغير رقي، بأن يلصق العقب بأصل ما يذهب منه، ويلصق رؤوس أصابع رجليه بما يذهب إليه من الصفا والمروة. وفيه وجه ضعيف: أنه يجب الرفي عليهما بقدر قامة رجل. وأما الذكر، والدعاء، والاسراع في السعي، وعدم الاسراع، فسنة. والموالاة في مرات السعي، سنة، وكذا الموالاة بين الطواف والسعي، سنة، فلو تخلل بينهما فصل طويل، لم يضر، بشرط أن لا يتخلل ركن. فلو طاف للقدوم، ثم وقف بعرفة، لم يصح سعيه بعد الوقوف، بل عليه أن يسعى بعد طواف الافاضة. وذكر في التتمة: أنه إذا طال الفصل بين مرات السعي، أو بين الطواف والسعي، ففي صحة السعي قولان وإن لم يتخلل ركن، والمذهب ما سبق. فرع في واجبات السعي وشروطه فيشترط وقوعه بعد طواف صحيح، سواء طواف القدوم والافاضة. ولا يتصور وقوعه بعد طواف الوداع، لان طواف الوداع هو المأتي به بعد الفراغ، وإذا بقي السعي، لم يكن المأتي به طواف وداع. ولو سعى عقيب طواف القدوم، لم تستحب إعادته بعد طواف الافاضة، بل قال

(2/371)


الشيخ أبو محمد: تكره إعادته. ويشترط الترتيب: وهو أن يبدأ بالصفا. فإن بدأ بالمروة، لم يحسب مروره منها إلى الصفا. قلت: ويشترط في المرة الثانية: أن يبدأ بالمروة. فلو أنه لما وصل المروة ترك العود في طريقه، وعدل إلى المسجد، وابتدأ المرة الثانية من الصفا أيضا، لم يصح أيضا على الصحيح. وفيه وجه شاذ في البحر وغيره. والله أعلم. ويجب أن يسعى بينهما سبعا، ويحسب الذهاب بمرة، والعود بأخرى. فيبدأ بالصفا، ويختم بالمروة. وقال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وابن الوكيل، وأبو بكر الصيرفي: يحسب الذهاب والعود مرة واحدة، والصحيح ما قدمناه، وعليه العمل، ولا يشترط فيه الطهارة، ولا ستر العورة، ولا سائر شروط الصلاة. ويجوز السعي راكبا، والافضل ماشيا. فرع لو طاف أو سعى، وشك في العدد، أخذ بالاقل. ولو كان عنده أنه أتمهما، فأخبره ثقة عن بقاء شئ، لم يلزمه الاتيان به، لكن يستحب. والسعي ركن، لا يحبر بدم، ولا يتحلل بدونه. قلت: الافضل: أن يتحرى لسعيه زمن خلو المسعى. وإذا عجز عن السعي الشديد للزحمة، فليتشبه بالساعي كما قلنا في الرمل. والله أعلم. والمرأة تمشي، ولا تسعى. قلت: وقيل: إن سعت في الخلوة بالليل سعت كالرجل والله أعلم. فصل في الوقوف وما يتعلق به له مقدمة. فيستحب للامام إذا لم يحصر بنفسه الحج، أن ينصب أميرا على الحجيج، فيطيعونه فيما ينوبهم. ويستحب للحجيج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف. فمن كان منهم مفردا أو قارنا، أقام بعد طواف القدوم على إحرامه إلى أن يخرج إلى عرفة. ومن كان متمتعا، طاف وسعى وحلق، فيحل من عمرته، ثم يهل بالحج من مكة على ما سبق في صورة التمتع، وكذا يفعل المقيم بمكة. ويستحب للامام أو

(2/372)


منصوبه أن يخطب بمكة في اليوم السابع من ذي الحجة بعد صلاة الظهر خطبة واحدة، يأمر الناس بالغدو فيها إلى منى، ويخبرهم بما بين أيديهم من المناسك، ويأمر المتمتعين أن يطوفوا للوداع قبل الخروج. ولو كان السابع يوم جمعة، خطب لها وصلاها، ثم خطب هذه الخطبة، لان السنة فيها التأخير عن الصلاة. ثم يخرج بهم في اليوم الثامن، وهو يوم التروية إلى منى، ويكون خروجهم بعد صلاة الصبح، بحيث يصلون الظهر بمنى، هذا هو المشهور. وفي قول: يصلون الظهر بمكة، ثم يخرجون، فإن كان يوم التروية يوم جمعة، استحب أن يخرجوا قبل طلوع الفجر، لان السفر يوم الجمعة إلى حيث لا تصلى الجمعة، حرام أو مكروه كما سبق، وهم لا يصلون الجمعة بمنى. وكذا لو كان يوم عرفة يوم جمعة، لا يصلونها، لان الجمعة شرطها دار الاقامة. قال الشافعي رضي الله عنه: فإن بني بها قرية، واستوطنها أربعون من أهل الكمال، أقاموا الجمعة والناس معهم. فإذا خرجوا إلى منى، صلوا بها الصلوات مع الامام، وباتوا بها. وهذا

(2/373)


المبيت، سنة، وليس بنسك مجبور بالدم. فإذا طلعت الشمس يوم عرفة على ثبير، ساروا إلى عرفات. فإذا وصلوا نمرة، ضربت بها قبة الامام، فإذا زالت الشمس، ذهب الامام والناس إلى مسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فيخطب فيه الامام خطبتين، يبين لهم في الاولى ما بين أيديهم من المناسك، ويحرهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف، ويخفف هذه الخطبة، لكن لا يبلغ تخفيفها تخفيف الثانية. وإذا فرغ منها، جلس بقدر سورة (الاخلاص) ثم يقوم إلى الخطبة الثانية، ويأخذ المؤذن في الاذان، ويخفف الخطبة يحيث يفرغ منها مع فراغ المؤذن من الاقامة. وقيل: مع فراغه من الاذان. قلت: الاصح: مع فراغه من الاذان، وبه قطع الجمهور. والله أعلم. ثم ينزل فيصلي بالناس الظهر، ثم يقيم المؤذن فيصلي بهم العصر جمعا. فإن كان الامام مسافرا، فالسنة له القصر، ولا يقصر المكيون والمقيمون حولها. فإذا سلم الامام قال: أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر. وهل يختص الجمع بالمسافرين من الحجيج، أم يجوز لغيرهم ؟ فيه كلام تقدم في صلاة المسافر. وأشار جماعة: إلى أنه يخطب ويصلي بنمرة. وصرح الجمهور: بأنه يخطب ويصلي بمسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كما سبق. فرع في الحج أربع خطب مسنونة إحداها: بمكة في اليوم السابع. والثانية: يوم عرفة، وقد ذكرناهما. والثالثة: يوم النحر بمنى. والرابعة: يوم النفر الاول بمنى. ويخبرهم في كل خطبة بما بين أيديهم من المناسك وأحكامها إلى الخطبة الاخرى، وكلهن أفراد، وبعد صلاة الظهر، إلا يوم عرفة، فإنها خطبتان، وقبل الصلاة.

(2/374)


فرع ثم بعد الصلاتين، يذهبون إلى الموقف. والسنة، أن يقفوا عند الصخرات، ويستقبلوا الكعبة - والوقوف راكبا أفضل على الاظهر. والثاني: هو والماشي سواء - ويذكروا الله تعالى ويدعوه حتى تغرب الشمس، ويكثروا التهليل فإذا غربت الشمس، دفعوا من عرفات منصرفين إلى مزدلفة - ويؤخروا المغرب ليصلوها مع العشاء بمزدلفة، ويذهبوا بسكينة ووقار. فمن وجد فرجة أسرع. فإذا وصلوا المزدلفة، مع بهم الامام المغرب والعشاء. وحكم الاذان والاقامة، سبق في باب الاذان. ولو انفرد بعضهم بالجمع بعرفة، أو بمزدلفة، أو صلى إحدى الصلاتين مع الامام، والاخرى وحده، جاز. ويجوز أن يصل المغرب بعرفة، وفي الطريق. قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يتنفلون بين الصلاتين إذ جمعوا، ولا على إثرهما. فأما بينهما، فلمراعاة الموالاة. وأما على إثرهما، فقال ابن كج: لا يتنفل الامام، لانه متبوع. فلو اشتغل بالنفل، لاقتدى به الناس، وانقطعوا عن المناسك. وأما المأموم، ففيه وجهان. أحدهما: لا يتنفل كالامام. والثاني: الامر واسع له، لانه غير متبوع. هذا في النافلة دون الرواتب. ثم أكثر الاصحاب، أطلقوا القول بتأخير الصلاتين إلى المزدلفة. وقيل: يؤخرهما ما لم يخش فوت وقت الاختيار للعشاء. فإن خافه، لم يؤخر، بل يجمع بالناس في الطريق. والسنة: أن ينصرفوا من عرفة إلى المزدلفة عن طريق المأزمين، وهو الطريق بين الجبلين. فرع من مكة إلى منى، فرسخان. ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات، منها إلى كل واحدة منهما فرسخ. قلت: المختار: أن المسافة بين مكة ومنى، فرسخ فقط. كذا قاله جمهور العلماء المحققين، منهم الازرقي، وغيره ممن لا يحصى. والله أعلم. فرع في بيان الوقوف بعرفة المعتبر فيه، الحضور بعرفة لحظة، بشرط كونه أهلا للعبادة، سواء حضرها ووقف، أو مر بها. وفي وجه: لا يكفي المرور المجرد، وهو شاذ. ولو حضر بها، ولم يعلم أنها عرفة، أو حضر مغمى عليه، أو نائما، أو دخلها قبل وقت الوقوف، ونام حتى خرج الوقت، أجزأه على الصحيح.

(2/375)


وفي الجميع وجه: أنه لا يجزئه قال في التتمة: هو مبني على أن كل ركن من أركان الحج يجب إفراده بالنية. قلت: الاصح عند الجمهور: لا يصح وقوف مغمى عليه. والله أعلم. ولو حضر في طلب غريم، أو دابة شاردة، أجزأه قطعا، قال الامام: ولم يذكروا فيه الخلاف السابق في صرف الطواف إلى جهة أخرى. ولعل الفرق، أن الطواف قربة مستقلة، قال: ولا يمتنع طرد الخلاف. ولو حضر مجنون، لم يجزئه، قال في التتمة: لكن يقع نفلا، كحج الصبي الذي لا يميز. ومنهم من طرد في الجنون الوجه المنقول في الاغماء. فرع في أي موضع وقف من عرفة، أجزأه. وأما حد عرفة، فقال الشافعي رحمة الله عليه: هي ما جاوز حد عرنة - بضم العين وفتح الراء وبعدها نون - إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين ابن عامر، وليس وادي عرنة، من عرفات، وهو على منقطع عرفات مما يلي منى ومسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، صدره من عرنة، وآخره من عرفات. ويميز بينهما صخرات كبار فرشت هناك، فمن وقف في صدره، فليس بواقف في عرفات. قال في التهذيب: وهناك يقف الامام للخطبة والصلاة. وأما نمرة، فقال صاحب الشامل وطائفة: هي من عرفات. وقال الاكثرون: ليست من عرفات، بل بقربها، وجبل الرحمة في وسط عرصة عرفات، وموقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده معروف. قلت: الصواب: أن نمرة، ليست من عرفات. وأما مسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فقد قال الشافعي رحمه الله: إنه ليس من عرفة، فلعله زيد بعده في آخره. وبين هذا المسجد وموقف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصخرات نحو

(2/376)


ميل. قال إمام الحرمين: ويطيف بمنعرجات عرفات جبال، وجوهها المقبلة من عرفة. والله أعلم. فرع وقت الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر، ولنا وجه: أنه يشترط كون الوقوف بعد الزوال، وبعد مضي زمان إمكان صلاة الظهر، وهذا شاذ ضعيف جدا. فلو اقتصر على الوقوف ليلا، صح حجه على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: في صحته قولان. ولو اقتصر على الوقوف نهارا، وأفاض قبل الغروب. صح وقوفه بلا خلاف. ثم إن عاد إلى عرفة وبقي بها حتى غربت الشمس، فلا دم. وإن لم يعد حتى طلع الفجر، أراق دما. وهل هو واجب أو مستحب ؟ فيه ثلاثة طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: مستحب. والثاني: واجب. والطريق الثاني: مستحب قطعا. والثالث: إن أفاض مع الامام، فمعذور، وإلا، فعلى القولين. وإذا قلنا بالوجوب، فعاد ليلا، فلا دم على الاصح. فرع إذا غلط الحجاج، فوقفوا في غير يوم عرفة، فإما أن يغلطوا بالتأخير، وإما بالتقديم. الحال الاول: إن غلطوا بالتأخير، فوقفوا في اليوم العاشر من ذي الحجة،

(2/377)


أجزأهم، وتم حجهم، ولا قضاء. هذا إذا كان الحجيج على العادة. فإن قلوا، أو جاءت شرذمة يوم النحر فظنت أنه يوم عرفة، وأن الناس قد أفاضوا، فوجهان. أحدهما، يدركون، ولا قضاء. وأصحهما: لا يدركون، فيجب القضاء. وإذا لم يجب القضاء، فلا فرق بين أن تبين الحال بعد يوم الوقوف، أو في حال الوقوف. فلو بان قبل الزوال، فوقفوا بعده، قال في التهذيب: المذهب: أنه لا يجزئهم، لانهم وقفوا على يقين الفوات، وهذا غير مسلم، لان عامة الاصحاب قالوا: لو قامت بينة برؤية الهلال ليلة العاشر وهم بمكة لا يتمكنون من الوقوف بالليل، وقفوا من الغد، وحسب لهم، كما لو قامت البينة بعد الغروب اليوم الثلاثين من رمضان على رؤية الهلال ليلة الثلاثين، نص على أنهم يصلون من الغد العيد. فإذا لم يحكم بالفوات لقيام البينة ليلة العاشر، لزم مثله في اليوم العاشر. هذا إذا شهد واحد أو عدد برؤية هلال ذي الحجة فردت شهادتهم، فيلزم الشهود الوقوف في التاسع عندهم وإن كان الناس يقفون بعدهم. أما إذا غلطوا فوقفوا في الحادي عشر، فلا يجزئهم بحال. الحال الثاني: أن يغلطوا بالتقديم، فيقفوا في الثمن. فإن بان الحال قبل فوات وقت الوقوف، لزمهم الوقوف في وقته. وإن بان بعده، فوجهان. أحدهما:

(2/378)


لا قضاء. وأصحهما عند الاكثرين: وجوب القضاء. ولو غلطوا في المكان، فوقفوا في غير عرفة، لم يصح حجهم بحال. قلت: ومما يتعلق بالوقوف: أنه يستحب أن يرفع يديه في الدعاء، بحيث لا تجاوزان رأسه، ولا يفرط في الجهر في الدعاء، فإنه مكروه، وأن يقف متطهرا. والله أعلم. فصل في المبيت بالمزدلفة وما يتعلق به المزدلفة، ما بين مأزمي عرفة، ووادي محسر. وقد سبق، أنهم يفيضون من عرفة بعد الغروب، فيأتون مزدلفة، فيجمعون الصلاتين. وينبغي أن يبيتوا بها، وهذا المبيت ليس بركن. قال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وأبو بكر بن خزيمة من أصحابنا: هو ركن. والصحيح: الاول. ثم المبيت نسك. فإن دفع بعد منتصف الليل لعذر، أو لغيره، أو دفع قبل نصف الليل، وعاد قبل طلوع الفجر، فلا شئ عليه. وإن ترك المبيت من أصله، أو دفع قبل نصف الليل، ولم يعد، أراق دما. وهل هو واجب، أم مستحب ؟ فيه طرق. أصحها: على قولين كالافاضة من عرفة قبل الغروب. والثاني: القطع بالايجاب. والثالث: بالاستحباب. قلت: لو لم يحضر مزدلفة في النصف الاول، وحضرها ساعة في النصف الثاني، حصل المبيت، نص عليه في الام، وفي قول ضعيف نص عليه في الاملاء والقديم: يحصل بساعة بين نصف الليل وطلوع الشمس. وفي قول: يشترط معظم الليل. والاظهر: وجوب الدم بترك المبيت. والله أعلم. والاولى، تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى. وأما غيرهم، فيمكثون حتى يصلوا الصبح بها، ويغلسون بالصبح. والتغليس هنا، أشد استحبابا من باقي الايام. فرع يستحب أن يأخذوا حصى الجمار من المزدلفة. ولو أخذوا من موضع آخر، جاز، لكن يكره من المسجد والحش والمرمى. وقد قدر المأخوذ وجهان. أحدهما: سبعون حصاة لرمي يوم النحر والتشريق، قاله في المفتاح وهو، ظاهر

(2/379)


نصه في المختصر. والثاني: سبع حصيات لرمي يوم النحر فقط، وبهذا قال الجمهور: ونقلوه عن نصه، وجعلوه بيانا لما أطلقه في المختصر. وجمع بعضهم بينهما فقال: يستحب الاخذ للجميع، لكن ليوم النحر أشد. ثم قال الجمهور: يتزودوا الحصى بالليل. وفي التهذيب: يتزودوها بعد صلاة الصبح. فصل في الدفع إلى منى وما يتعلق به ثم بعد صلاة الصبح، يدفعون إلى منى. فإذا انتهوا إلى قزح، وهو جبل مزدلفة، وقفوا فذكروا الله تعالى ودعوا إلى الاسفار مستقبلين الكعبة. ولو وقفوا في موضع آخر من المزدلفة، حصل أصل هذه السنة، لكن أفضله، ما ذكرناه. ولو فاتت هذه السنة، لم تجبر بدم كسائر الهيئات. فإذا أسفروا، ساروا إلى منى وعليهم السكينة، ومن وجد فرجة، أسرع. فإذا بلغوا وادي محسر، استحب للراكب تحريك دابته، وللماشي الاسراع قدر رمية حجر. وفي وجه: لا يسرع الماشي، وهو ضعيف شاذ. ثم يسيرون وعليهم السكينة، ويصلون منى بعد طلوع الشمس، فيرمون سبع حصيات إلى جمرة العقبة، وهي أسفل الجبل مرتفعة عن الجادة، على يمين السائر إلى مكة، ولا ينزل الراكبون حتى يرموا. والسنة، أن يكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية إذ بدأ بالرمي. وقال القفال: إذا رحلوا من مزدلفة، خلطوا التلبية بالتكبير في مسيرهم.

(2/380)


فإذا افتتحوا الرمي محضوا التكبير. قال الامام: ولم أر هذا لغيره. فإذا رمى، نحر إن كان معه هدي، ثم حلق أو قصر. فإذا فرغ منه، دخل مكة وطاف طواف الافاضة، وهو الركن. وسعى بعده أن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، ثم يعود إلى منى للمبيت بها والرمي أيام التشريق. ويستحب أن يعود إليها قبل أن يصلي الظهر. فرع الحلق في وقته في الحج والعمرة، فيه قولان. أحدهما: أنه استباحة محظور، وليس بنسك. وأظهرهما: أنه نسك، وهو ركن لا يجبر بالدم. حتى لو كانت برأسه علة لا يمكنه بسببها التعرض للشعر، صبر إلى الامكان، ولا يفدي بخلاف من لا شعر على رأسه، فإنه لا يؤمر بالحلق بعد نباته، لان النسك حلق شعر يشتمل الاحرام عليه. ويقوم التقصير مقام الحلق، لكن الحلق أفضل. والمرأة لا تؤمر بالحلق، بل تقصر. ويستحب أن يكون

(2/381)


تقصيرها بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها. ويختص الحلق والتقصير بشعر الرأس. ويستحب أن يبدأ بحلق الشق الايمن، ثم الايسر، وأن يستقبل القبلة، وأن يدفن شعره. والافضل، أن يحلق أو يقصر جميع الرأس. وأقل ما يجزئ حلق ثلاث شعرات أو تقصيرها. ولنا وجه بعيد: أن الفدية تكمل في الشعرة الواحدة في الحلق المحظور، وذلك الوجه عائد في حصول النسك بحلق الشعة الواحدة. ولو حلق ثلاث شعرات في دفعات، أو أخذ من شعرة واحدة شيئا، ثم عاد ثانيا فأخذ منها، ثم عاد ثالثا وأخذ منها، فإن كملنا الفدية بها، لو كان محظورا حصل به النسك، وإلا، فلا. وإذا قصر، فسواء أخذ مما يحاذي الرأس أو مما استرسل عنه، وفي وجه شاذ: لا يجزئ المسترسل. ولا يتعين للحلق والتقصير آلة، بل حكم النتف، والاحراق، والاخذ بالموسى أو النورة أو المقصدين واحد. ومن لا شعر على رأسه، لا شئ عليه. ويستحب له إمرار الموسى على رأسه. قال الشافعي رحمه الله: ولو أخذ من شاربه أو شعر لحيته شيئا، كان أحب إلي. وجميع ما ذكرناه، فيمن لم يلتزم الحلق. أما من نذر الحلق في وقته، يلزمه، ولا يجزئه التقصير، ولا النتف والاحراق. وفي استئصال الشعر بالمقصين وإمرار الموسى من غير استئصال، تردد للامام. والظاهر: المنع، لعدم اسم الحلق. ولو لبد رأسه في الاحرام، فهل هو كالنذر ؟ قولان. الجديد: لا. وفي وجه غريب: لا يلزم الحلق بالنذر إذا لم نجعله نسكا. فرع وقت حلق المعتمر، إذا فرغ من السعي. فلو جامع بعد السعي وقبل الحلق، فسدت عمرته إذا قلنا: الحلق نسك، لوقوع جماعه قبل التحلل. فصل أعمال الحج يوم النحر أربعة كما سبق، وهي: رمي جمرة العقبة،

(2/382)


والذبح، والحلق، والطواف، وهذا يسمى: طواف الافاضة، والزيارة، والركن، وقد يسمى أيضا: طواف الصدر، والاشهر: أن طواف الصدر طواف الوداع. وترتيب الاربعة على ما ذكرناه، ليس بواجب، بل مسنون. فلو طاف قبل أن يرمي، أو ذبح في وقته قبل أن يرمي، فلا بأس، ولا فدية. ولو حلق قبل الرمي والطواف. فإن قلنا: الحلق استباحة محظور، لزمه الفدية، وإلا، فلا، على الصحيح. وإذا أتى بالطواف قبل الرمي، أو بالحلق، وقلنا: نسك، قطع التلبية بشروعه فيه، لانه أخذ في أسباب التحلل. وكذا المعتمر، يقطع التلبية بأخذه في الطواف. ويستحب في هذه الاعمال: أن يرمي بعد طلوع الشمس، ثم يأتي بباقيها، فيقطع الطواف في ضحوة، ويدخل وقت جميعها بانتصاف ليلة النحر. ومتى يخرج ؟ أما الرمي: فيمتد إلى غروب الشمس يوم النحر. وهل يمتد تلك الليلة ؟ فيه وجهان. أصحهما: لا. وأما الذبح، فالهدي لا يختص بزمن، لكن يختص بالحرم. بخلاف الضحايا، فإنها تختص بالعيد وأيام التشريق، ولا تختص بالحرم. قلت: كذا جزم الامام الرافعي هنا: بأن الهدايا لا تختص بزمن. والصحيح: أنها كالاضحية، تختص بالعيد والتشريق. وقد ذكره هو على الصواب في باب الهدي، وسيأتي بيانه فيه إن شاء الله تعالى قريبا. والله أعلم.

(2/383)


وأما الحلق والطواف، فلا يتوقت أحدهما لكن ينبغي أن يطوف قبل خروجه من مكة. فإن طاف للوداع وخرج وقع عن طواف الافاضة، وإن خرج ولم يطف أصلا، لم تحل له النساء وإن طال الزمان. ثم مقتضى كلام الاصحاب: لا يتوقت آخر الطواف، وأنه لا يصير قضاء. وفي التتمة: أنه إذا تأخر عن أيام التشريق، صار قضاء. فرع للحج تحللان، وللعمرة تحلل واحد. قال الاصحاب: لان الحج يطول زمنه، وتكثر أعماله. بخلاف العمرة، فأبيح بعض محرماته في وقت، وبعضها في وقت. ثم أسباب تحلل الحج: الرمي، والطواف، والحلق إن قلنا: هو نسك، وإلا، فالرمي والطواف. إن قلنا: ليس بنسك، حصل التحلل الاول بأحدهما، والتحلل الثاني بالآخر، وإلا حصل التحلل الاول باثنين من الثلاثة، إما الرمي والحلق، وإما الحلق والطواف، وإما الرمي والطواف، وحصل التحلل الثاني بالثالث. ولا بد من السعي مع الطواف وإن لم يكن سعى. هذا الذي ذكرنا، هو المذهب المعروف الذي قطع به معظم الاصحاب. وفي وجه للاصطخري: دخول وقت الرمي، كالرمي في حصول التحلل. ووجه للداركي: أنا إن جعلنا الحلق نسكا، حصل التحللان جميعا بالحلق مع الطواف، أو بالطواف والرمي، ولا يحصل بالرمي والحلق إلا أحدهما. ووجه: أنه يحصل التحلل الاول بالرمي فقط، أو الطواف فقط، وإن قلنا: الحلق نسك. ولو فاته الرمي، فهل يتوقف تحلله على الاتيان ببدله ؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: نعم. والثالث: إن افتدى بالدم، توقف. وإن افتدى بالصوم، فلا، لطول زمنه. وأما العمرة: فتحللها بالطواف والسعي، ويضم إليهما الحلق إن قلنا: نسك. ويحل بالتحلل الاول في الحج: اللبس، والقلم، وستر الرأس، والحلق

(2/384)


إن لم نجعله نسكا. ولا يحل الجماع إلا بالتحللين بلا خلاف. والمستحب: أن لا يطأ حتى يرمي في أيام التشريق. وفي عقد النكاح، والمباشرة فيما سوى الفرج، كالقبلة، والملامسة، قولان. أظهرهما عند الاكثرين: لا يحل إلا بالتحللين، وأظهرهما عند صاحب المهذب وطائفة: يحل بالاول، ويحل الصيد بالاول على الاظهر باتفاقهم. والمذهب: حل الطيب بالاول، بل هو مستحب بين التحللين. فصل مبيت أربع ليال، نسك في الحج: ليلة النحر بمزدلفة، وليالي التشريق بمنى. لكن الليلة الثالثة، إنما تكون نسكا لمن لم ينفر النفر الاول. وفي قدر الواجب من المبيت، قولان حكاهما الامام عن نقل شيخه، وصاحب التقريب. أظهرهما: معظم الليل. والثاني: المعتبر كونه حاضرا حال طلوع الفجر. قلت: المذهب: ما نص عليه الشافعي رحمه الله في الام وغيره: أن الواجب في مبيت المزدلفة، ساعة في النصف الثاني من الليل، وقد سبق بيانه قريبا. والله أعلم. ثم هذا المبيت، مجبور بالدم. وهل هو واجب، أم مستحب ؟ أما ليلة المزدلفة، فسبق حكمه. وأما الباقي، فقولان. أظهرهما: الاستحباب. والثاني: الايجاب. وقيل: مستحب قطعا. قلت: الاظهر: الايجاب. والله أعلم. ثم إن ترك ليلة مزدلفة وحدها، أراق دما. وإن ترك الليالي الثلاث، فكذلك على المذهب. وحكى صاحب التقريب قولا: أن في كل ليلة دما، وهو شاذ. وإن ترك ليلة، فأقوال: أظهرها: تجبر بمد. والثاني: بدرهم. والثالث: بثلث دم. وإن ترك ليلتين، فعلى هذا القياس. وإن ترك الليالي الاربع، فقولان. أظهرهما: دمان، دم للمزدلفة، ودم للباقي. والثاني: دم للجميع. هذا في حق من كان بمنى وقت الغروب. فإن لم يكن حينئذ، ولم يبت، وأفردنا المزدلفة بدم، فوجهان، لانه لم يترك إلا ليلتين. أحدهما: مدان، أو درهمان، أو ثلثا دم. والثاني: دم كامل لتركه جنس المبيت بمنى، وهذا أصح، وهو جار فيما لو ترك ليلتين من الثلاث دون المزدلفة. هذا كله في غير المعذور. أما من ترك مبيت مزدلفة

(2/385)


أو منى لعذر، فلا دم عليه. وهم أصناف، منهم، رعاء الابل، وأهل سقاية العباس، فلهم إذا رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت بمنى ليالي التشريق، وللصنفين جميعا أن يدعوا رمي يوم، ويقضوه في اليوم الذي يليه قبل رمي ذلك اليوم، وليس لهم أن يدعوا رمي يومين متواليين. فإن تركوا رمي اليوم الثاني، بأن نفروا اليوم الاول بعد الرمي، عادوا في اليوم الثالث. وإن تركوا رمي اليوم الاول، بأن نفروا يوم النحر بعد الرمي، عادوا في الثاني. ثم لهم أن ينفروا مع الناس، هذا هو الصحيح. وفي وجه: ليس لهم ذلك. وإذا غربت الشمس والرعاء بمنى، لزمهم المبيت تلك الليلة، والرمي من الغد، ولاهل السقاية أن ينفروا بعد الغروب على الصحيح، لان عملهم بالليل، بخلاف الرعي. ورخصة أهل السقاية، لا تختص بالعباسية على الصحيح. وفي وجه: تختص بهم، وفي وجه: تختص ببني هاشم. ولو أحدثت سقاية الحاج، فللمقيم بسببها ترك المبيت، قاله في التهذيب. وقال ابن كج وغيره: ليس له. قلت: الاصح: قوله في التهذيب. والله أعلم. ومن المعذورين، من انتهى إلى عرفة ليلة النحر، واشتغل بالوقوف عن مبيت المزدلفة، فلا شئ عليه، وإنما يؤمر بالمبيت المتفرغون. ولو أفاض من عرفة إلى مكة، وطاف للافاضة بعد نصف الليل، ففاته المبيت، قال القفال: لا شئ عليه لاشتغاله بالطواف. وقال الامام: وفيه احتمال. ومن المعذورين، من له مال يخاف ضياعه. ولو اشتغل بالمبيت، أو له مريض يحتاج إلى تعهده، أو يطلب آبقا، أو يشتغل بأمر آخر يخاف فوته ففي هؤلاء وجهان. الصحيح المنصوص: أنه لا شئ عليهم بترك المبيت، ولهم أن ينفروا بعد الغروب. فصل فيما يتعلق بالرمي إذا فرغ الحجاج من طواف الافاضة، عادوا إلى منى وصلوا بها الظهر، ويخطب الامام بها بعد الظهر خطبة، ويعلمهم فيها سنة الرمي والافاضة، ليتدارك من أخل بشئ منها، ويعلمهم رمي أيام التشريق، وحكم المبيت، والرخصة للمعذورين. وفي وجه: تكون هذه الخطبة بمكة. والصحيح: أنها بمنى. ويخطب بهم في الثاني من أيام التشريق. ويعلمهم جواز النفر فيه. ويودعهم، ويأمرهم بختم الحج بطاعة الله تعالى. واعلم أن مجموع الرمي سبعون

(2/386)


حصاة. لجمرة العقبة يوم النحر سبعة. ولكل يوم من أيام التشريق إحدى وعشرين إلى الجمرات الثلاث، لكل جمرة سبع. ومن أراد النفر في اليوم الثاني قبل غروب الشمس، فله ذلك، ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة، ورمي الغد، ولا دم عليه. ومن لم ينفر حتى غربت الشمس، لزمه مبيت الليلة الثالثة، ورمي يومها. ولو ارتحل فغربت الشمس قبل انفصاله من منى، فله النفر ولو غربت وهو في شغل الارتحال، أو نفر قبل الغروب فعاد لشغل قبل الغروب أو بعده، جاز النفر على الاصح. قلت: فلو تبرع في هذه الحالة بالمبيت، لم يلزمه الرمي في الغد، نص عليه الشافعي رحمه الله. والله أعلم. ومن نفر وقد بقي معه شئ من الحصى التي تزودها، طرحها أو دفعها إلى غيره. قال الائمة: ولم يؤثر شئ فيما يعتاده الناس من دفنها. أما وقت رمي يوم النحر، فسبق، وأما أيام التشريق، فيدخل بزوال الشمس، ويبقى إلى غروبها. وهل يمتد إلى الفجر ؟ أما في اليوم الثالث، فلا، لخروج وقت المناسك، وأما اليومان، فوجهان. أصحهما: لا يمتد. فرع اليوم الاول من أيام التشريق، يسمى: يوم القر - بفتح القاف وتشديد الراء - لانهم قارون بمنى. واليوم الثاني: النفر الاول. والثالث: النفر الثاني. فإذا ترك رمي يوم القر عمدا أو سهوا، هل يتداركه في اليوم الثاني أو الثالث ؟ أو ترك رمي الثاني، أو رمي اليومين الاولين، هل يتدارك في الثالث ؟ قولان. أظهرهما: نعم. فإن قلنا: لا يتدارك في بقية الايام، فهل يتدارك في الليلة الواقعة بعده من ليالي التشريق ؟ وجهان تفريعا على الاصح: أن وقته لا يمتد تلك الليلة. وإن قلنا

(2/387)


بالتدارك، فتدارك، فهل هو أداء، أم قضاء ؟ قولان. أظهرهما: أداء، كأهل السقاية والرعاء. فإن قلنا: أداء، فجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد، فكل يوم للقدر المأمور به وقت اختيار، كأوقات الاختيار للصلوات. ويجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال. ونقل الامام، أن على هذا القول، لا يمتنع تقديم رمي يوم إلى يوم، لكن يجوز أن يقال: إن وقته يتسع من جهة الآخر دون الاول، فلا يجوز التقديم. قلت: الصواب: الجزم بمنع التقديم، وبه قطع الجمهور تصريحا ومفهوما. والله أعلم. وإذا قلنا: جنه قضاء، فتوزيع الاقدار المعينة على الايام مستحق، ولا سبيل إلى تقديم رمي يوم إلى يوم، ولا إلى تقديمه على الزوال. وهل يجوز بالليل ؟ وجهان. أصحهما: نعم، لان القضاء لا يتوقت. والثاني: لا، لان الرمي عبادة النهار كالصوم. وهل يجب الترتيب بين الرمي المتروك ورمي يوم التدارك ؟ قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما: نعم كالترتيب في المكان، وهما مبنيان على أن المتدارك قضاء، أم أداء ؟ إن قلنا: أداء، وجب الترتيب، وإلا، فلا. فإن لم نوجب الترتيب، فهل يجب على أهل العذر كالرعاء ؟ وجهان. قال المتولي: نظيره أن من فاتته الظهر، لا يلزمه ترتيب بينها وبين العصر. ولو أخرها للجمع، فوجهان. ولو رمى إلى الجمرات كلها عن اليوم قبل أن يرمي إليها عن أمسه، أجزأه إن لم نوجب الترتيب، وإلا، فوجهان. أصحهما: يجزئه ويقع عن القضاء. والثاني: لا يجزئه أصلا. قال الامام: ولو صرف الرمي إلى غير النسك، بأن رمى إلى شخص أو دابة في الجمرة، ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في صرف الطواف. فإن لم ينصرف، وقع عن أمسه، ولغا قصده. وإن انصرف، فإن شرطنا الترتيب، لم يجزئه أصلا، وإلا أجزأه عن يومه. ولو رمى إلى كل جمرة أربع عشرة حصاة، سبعا عن أمسه، وسبعا عن يومه، جاز، إن لم نعتبر الترتيب، وإلا، فلا. وهو نصه في المختصر. هذا كله في رمي اليوم الاول أو الثاني من أيام التشريق. أما إذا ترك رمي يوم النحر، ففي تداركه في أيام التشريق طريقان. أصحهما: أنه على القولين. والثاني: القطع بعدم التدارك، للمغايرة بين الرميين قدرا ووقتا وحكما، فإن رمي النحر يؤثر في التحلل.

(2/388)


فرع يشترط في رمي التشريق، الترتيب في المكان، بأن يرمي الجمرة التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة. ولا يعتد برمي الثانية، قبل تمام الاولى، ولا بالثالثة، قبل تمام الاوليين. ولو ترك حصاة ولم يدر من أين تركها، جعلها من الاولى، فرمى إليها حصاة وأعاد الاخريين. وفي اشتراط الموالاة بين رمي الجمرات، ورميات الجمرة الواحدة، الخلاف السابق في الطواف. فرع السنة أن يرفع يده عند الرمي، وأن يرمي أيام التشريق مستقبل القبلة، ويوم النحر مستدبرها، وأن يكون نازلا في رمي اليومين الاولين، وراكبا في اليوم الاخير، فيرمي، وينفر عقيبه. كما أنه يوم النحر، يرمي، ثم ينزل، هكذا قاله الجمهور. ونص عليه في الاملاء. وفي التتمة: أن الصحيح ترك الركوب في الايام الثلاثة. قلت: هذا الذي في التتمة ليس بشئ والصواب: ما تقدم. وأما جزم الرافعي، بأنه يستدبر القبلة يوم النحر، فهو وجه، قاله الشيخ أبو حامد وغيره. ولنا وجه: أنه يستقبلها. والصحيح: أنه يجمل القبلة على يساره، وعرفات على يمينه، ويستقبل الجمرة، فقد ثبتت فيه السنة الصحيحة. والله أعلم. والسنة، إذا رمى الاولى، أن يتقدم قليلا بحيث لا يبلغه حصى الرامين، فيقف مستقبلا القبلة، ويدعو، ويذكر الله تعالى طويلا قدر سورة (البقرة) وإذا رمى الجمرة الثانية، فعل مثل ذلك، ولا يقف إذا رمى الثالثة. فرع لو ترك رمي بعض الايام وقلنا: يتدارك، فتدارك، فلا دم عليه على المشهور. وفي قول: يجب دم مع التدارك، كمن أخر قضاء رمضان حتى دخل

(2/389)


رمضان آخر، يقضي ويفدي. ولو نفر يوم النحر، أو يوم القر قبل أن يرمي، ثم عاد ورمى قبل الغروب، أجزأه ولا دم. ولو فرض ذلك يوم النفر الاول، فكذا على الاصح. والثاني: يلزمه الدم، لان النفر في هذا اليوم جائز في الجملة، فإذا نفر فيه، خرج عن الحج، فلا يسقط الدم بعوده. وحيث قلنا: لا يتدارك، أو قلنا به، فلم يتدارك، وجب الدم، وكم قدره ؟ فيه صور. فإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق، والصورة فيمن توجه عليه رمي اليوم الثالث، فثلاثة أقوال أحدها: دم. والثاني: دمان. والثالث: أربعة دماء، وهذا الاخير أظهرها عند صاحب التهذيب. لكن مقتضى كلام الجمهور: ترجيح الاول. ولو ترك رمي يوم النحر أو يوما من التشريق، وجب دم. وإن ترك رمي بعض يوم من التشريق، ففيه طريقان. أحدهما: الجمرات الثلاث كالشعرات الثلاث، فلا يكمل الدم في بعضها. بل إن ترك جمرة، ففيها الاقوال الثلاثة، فيمن حلق شعرة. أظهرها: مد. والثاني: درهم. والثالث: ثلث دم. وإن ترك جمرتين، فعلى هذا القياس.

(2/390)


وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة، قال صاحب التقريب: إن قلنا: في الجمرة ثلث دم، ففي الحصاة جزء من أحد وعشرين جزءا من دم، وإن قلنا: في الجمرة مد أو درهم، فيحتمل أن نوجب سبع مد، أو سبع درهم، ويحتمل أن لا نبعضهما. والطريق الثاني: يكمل الدم في وظيفة الجمرة الواحدة، كما يكمل في جمرة النحر. وفي الحصاة والحصاتين الاقوال الثلاثة، وهذا الخلاف في الحصاة، أو الحصاتين، من آخر أيام التشريق. فأما لو تركها من الجمرة الاخيرة يوم القر، أو النفر الاول، ولم ينفر، فإن قلنا: لا يجب الترتيب بين التدارك ورمي الوقت، صح رميه، لكنه ترك حصاة، ففيه الخلاف، وإلا، ففيه الخلاف السابق في أن الرمي بنية اليوم، هل يقع عن الماضي ؟ إن قلنا: نعم، تم المتروك بما أتى به في اليوم الذي بعده، لكنه يكون تاركا للجمرة الاولى والثانية في ذلك اليوم، فعليه دم. وإن قلنا: لا، كان تاركا رمي حصاة ووظيفة يوم، فعليه دم إن لم نفرد كل يوم بدم، وإلا فعليه لوظيفة اليوم دم. وفي ما يجب لترك الحصاة، الخلاف. وإن تركها من إحدى الجمرتين الاوليين من أول يوم كان، فعليه دم، لان ما بعدهد غير صحيح، لوجوب الترتيب في المكان. هذا كله إذا ترك بعض يوم من التشريق، فإن ترك بعض رمي النحر، فقد ألحقه في التهذيب بما إذا ترك من الجمرة الاخيرة من اليوم الاخير. وقال في التتمة: يلزمه دم ولو ترك حصاة، لانها من أسباب التحلل، فإذا ترك شيئا منها، لم يتحلل إلا ببدل كامل. وحكى في النهاية وجها غريبا ضعيفا: أن الدم يكمل في حصاة واحدة مطلقا. فرع قال في التتمة: لو ترك ثلاث حصيات من جملة الايام لم يعلم موضعها، أخذ بالاسوإ، وهو أنه ترك حصاة من يوم النحر، وحصاة من الجمرة الاولى يوم القر، وحصاة من الجمرة الثانية يوم النفر الاول. فإن لم نحسب ما يرميه بنية وظيفة اليوم عن الفائت، فالحاصل ست حصيات من رمي يوم النحر، سواء

(2/391)


شرطنا الترتيب بين التدارك ورمي الوقت، أم لا. وإن حسبناه، فالحاصل رمي يوم النحر وأحد أيام التشريق لا غير، سواء شرطنا الترتيب، أم لا، ودليله يعرف مما سبق من الاصول. فرع في بيان ما يرمى شرطه كونه حجرا، فيجزئ المرمر، والبيرام، والكذان، وسائر أنواع الحجر. ويجزئ حجر النورة قبل أن يطبح ويصير نورة. وأما حجر الحديد، فتردد فيه الشيخ أبو محمد. والمذهب: جوازه، لانه حجر في الحال، إلا أن فيه حديدا كامنا يستخرج بالعلاج وفي ما تتخذ منه الفصوص، كالفيروزج، والياقوت، والعقيق، والزمرد، والبلور، والزبرجد، وجهان. أصحهما: الاجزاء، لانها أحجار. ولا يجزئ اللؤلؤ، وما ليس بحجر من طبقات الارض، كالنورة، والزرنيخ، والاثمد، والمدر، والجص، والجواهر المنطبعة، كالتبرين وغيرهما. والسنة أن يرمي بمثل حصى الخذف، وهو دون الانملة طولا وعرضا في قدر الباقلاء، يضعه على بطن الابهام، ويرميه برأس السبابة. ولو رمى بأصغر من ذلك، أو أكبر، كره وأجزأه. ويستحب أن يكون الحجر طاهرا. قلت: جزم الامام الرفاعي رحمه الله، بأن يرميه على هيأة الخذف، فيضعه على بطن الابهام، وهذا وجه ضعيف. والصحيح المختار: أن يرميه على غير هيأة الخذف. والله أعلم. فرع في حقيقة الرمي الواجب، ما يقع عليه اسم الرمي. فلو وضع الحجر في المرمى، لم يعتد به على الصحيح. ويشترط قصد المرمى. فلو رمى في الهواء فوقع في المرمى، لم يعتد به. ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، فلا يضر تدحرجه وخروجه بعد الوقوع، لكن ينبغي أن يقع فيه. فإن شك في وقوعه فيه، فقولان. الجديد: لا يجزئه. ولا يشترط كون الرامي خارج الجمرة. فلو وقف في الطرف، ورمى إلى الطرف الآخر، جاز. ولو انصدمت الحصاة المرمية بالارض خارج الجمرة، أو بمحمل في الطريق، أو عنق بعير، أو ثوب إنسان، ثم ارتدت فوقعت في المرمى، اعتد بها، لحصولها في المرمى بفعله من غير معاونة. ولو حرك صاحب المحمل المحمل فنفضها، أو صاحب الثوب، أو تحرك البعير فدفعها

(2/392)


فوقعت في المرمى، لم يعتد بها. ولو وقعت على المحمل أو عنق البعير، ثم تدحرجت إلى المرمى، ففي الاعتداد بها وجهان. لعل أشبههما المنع، لاحتمال تأثرها به. ولو وقعت في غير المرمى، ثم تدحرجت إلى المرمى، أو ردتها الريح إليه، فوجهان. قال في التهذيب: أصحهما: الاجزاء، لحصولها فيه لا بفعل غيره. ولا يجزئ الرمى عن القوس، ولا الدفع بالرجل. ويستحب أن يرمي الحصيات في سبع دفعات. فلو رمى حصاتين أو سبعا دفعة، فإن وقعن في الرمى معا، حسبت واحدة فقط، وإن ترتبت في الوقوع، حسبت واحدة على الصحيح. ولو أتبع حجرا حجرا. ووقعت الاولى قبل الثانية، فرميتان. وإن تساوتا، أو وقعت الثانية قبل الاولى، فرميتان على الاصح. ولو رمى بحجر قد رمى به غيره، أو رمى هو به إلى جمرة أخرى، أو إلى هذه الجمرة في يوم آخر، جاز. وإن رمى به هو تلك الجمرة في ذلك اليوم، فوجهان. أصحهما: الجواز، كما لو دفع إلى فقير مدا في كفارة، ثم اشتراه ودفعه إلى آخر، وعلى هذا تتأدى جميع الرميات بحصاة واحدة. فرع العاجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس، يستنيب من يرمي عنه. ويستحب أن يناول النائب الحصى إن قدر، ويكبر هو. وإنما تجوز النيابة لعاجز بعلة لا يرجى زوالها قبل خروج وقت الرمي، ولا يمنع الزوال بعده. ولا يصح رمي النائب عن المستنيب إلا بعد رميه عن نفسه، فلو خالف وقع عن نفسه كأصل الحج. ولو أغمي عليه ولم يأذن لغيره في الرمي عنه، لم يجز الرمي عنه. وإن أذن، جاز الرمي عنه على الصحيح. قلت: شرطه أن يكون أذن قبل الاغماء، في حال تصح الاستنابة فيه، صرح به الماوردي وآخرون، ونقله الروياني عن الاصحاب. والله أعلم. وإذا رمى النائب، ثم زال عذر المستنيب والوقت باق، فالمذهب: أنه ليس عليه إعادة الرمي، وبهذا قطع الاكثرون. وفي التهذيب: أنه على القولين فيما إذا حج المعضوب عن نفسه ثم برئ. فصل ثم إذا فرغ الحاج من رمى اليوم الثالث من أيام التشريق، استحب أن يأتي المحصب، فينزل به ويصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به

(2/393)


ليلة الرابع عشر. ولو ترك النزول به، فلا شئ عليه. وحد المحصب: ما بين الجبلين إلى المقبرة. فصل في طواف الوداع قولان. أظهرهما: يجب. والثاني: يستحب. وقيل يستحب قطعا. فإن تركه، جبره بدم. فإن قلنا: إنه واجب، كان جبره واجبا، وإلا، مستحبا. والمذهب: أن طواف القدوم، لا يجبر. وعن صاحب التقريب: أنه كالوداع في وجوب الجبر، وهو شاذ. وإذا خرج بلا وداع، وقلنا: يجب الدم، فعاد قبل بلوغه مسافة القصر، سقط عنه الدم. وإن عاد بعد بلوغها، فوجهان. أصحهما: لا يسقط، ولا يجب العود في الحالة الثانية. وأما الاولى، فستأتي إن شاء الله تعالى. وليس على الحائض طواف وداع. فلو طهرت قبل مفارقة خطة مكة، لزمها العود والطواف. وإن طهرت بعد , بلوغها مسافة القصر، فلا. وإن لم تبلغ مسافة القصر، فنص أنه لا يلزمها العود، ونص أن المقصر بالترك يلزمه العود. فالمذهب: الفرق، كما نص عليه. وقيل: فيهما قولان. فإن قلنا: لا يلزم العود، فالنظر إلى نفس مكة أو الحرم ؟ وجهان. أصحهما: مكة. ثم إن أوجبنا العود، فعاد وطاف سقط الدم، وإن لم يعد، لم يسقط. وإن لم نوجبه، فلم يعد، فلا دم على الحائض، ويجب على المقصر. فرع ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الاشغال، ويعقبه الخروج بلا مكث. فإن مكث، نظر، إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج، كشراء متاع، أو قضاء دين، أو زيارة صديق أو عيادة مريض، فعليه إعادة الطواف. وإن اشتغل بأسباب الخروج، كشراء الزاد، وشد الرحل ونحوهما، فهل يحتاج إلى إعادته ؟ فيه طريقان. قطع الجمهور بأنه لا يحتاج. وفي النهاية: وجهان. قلت: لو أقيمت الصلاة فصلاها، لم يعده. والله أعلم. فرع حكم طواف الوداع، حكم سائر أنواع الطواف في الاركان

(2/394)


والشرائط. وفيه وجه لابي يعقوب الابيوردي: أنه يصح بلا طهارة، وتجبر الطهارة بالدم. فرع هل طواف الوداع من جملة المناسك ؟ فيه خلاف، قال الامام، والغزالي: هو من المناسك، وليس على الخارج من مكة وداع، لخروجه منها. وقال صاحبا التتمة و التهذيب وغيرهما: ليس طواف الوداع من المناسك، بل يؤمر به من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر، سواء كان مكيا أو أفقيا، وهذا أصح، تعظيما لحرم، وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الاحرام، ولانهم اتفقوا على أن المكي إذا حج وهو على أنه يقيم بوطنه، لا يؤمر بطواف الوداع، وكذا الافقي إذا حج وأراد الاقامة بمكة، لا وداع عليه، ولو كان من جملة المناسك، لعم الحجيج. قلت: ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك، ما ثبت في صحيح مسلم وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا، ووجه الدلالة: أن طواف الوداع يكون عند الرجوع، فسماه قبله: قاضيا للمناسك، وحقيقته: أن يكون قضاها كلها. والله أعلم. فرع استحب الشافعي رحمه الله للحاج إذا طاف للوداع، أن يقف بحذاء الملتزم بين الركن والباب ويقول: اللهم البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، حتى سيرتني في بلادك، وبلغتني بنعمتك، حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني، فازدد عني رضى، وإلا فالآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم اصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، قال: وما زاد فحسن، وقد زيد فيه: واجمع لي خير الدنيا والآخرة، إنك قادر على

(2/395)


ذلك، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصرف. وينبغي أن يتبع نظره البيت ما أمكنه، ويستحب أن يشرب من زمزم، وأن يزور بعد الفراغ قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: يستحب للحاج دخول البيت حافيا ما لم يؤذ أو يتأذ بزحام أو غيره. ويستحب أن يصلي فيه، ويدعو في جوانبه، وأن يكثر الاعتمار والطواف تطوعا قال صاحب الحاوي: الطواف أفضل من الصلاة. وظاهر عبارة صاحب المهذب وآخرين في قولهم: أفضل عبادات البدن الصلاة، أنها أفضل منه، ولا ينكر هذا. ويقال: الطواف صلاة، لان الصلاة عند الاطلاق لا تنصرف إليه، لا سيما في كتب المصنفين الموضوعة للايضاح، وهذا أقوى في الدليل. والله أعلم. فصل أعمال الحج ثلاثة أقسام: أركان، وأبعاض، وهيآت. فالاركان خمسة: الاحرام، والوقوف، والطواف، والسعي، والحلق إن قلنا: هو

(2/396)


نسك. وهذه هي أركان العمرة سوى الوقوف، ولا مدخل للجبران في الاركان. والترتيب يعتبر في معظمها، فلا بد من تقديم الاحرام والوقوف على الطواف والحلق. ولا بد من تأخير السعي عن طواف. وينبغي أن يعد الترتيب من الاركان، كما عدوه من أركان الصلاة والوضوء. ولا يقدح في ذلك عدم الترتيب بين الطواف والحلق كما لا يقدح عدم الترتيب بين القيام والقراءة في الصلاة. وأما الابعاض، فمجاوزة الميقات قبل الاحرام والرمى، مجبوران بالدم قطعا. وفي الجمع بين الليل والنهار بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى وطواف الوداع، قولان. أحدهما: الايجاب، فيكون من الابعاض المجبورة بالدم وجوبا. والثاني: الاستحباب، فيكون من الهيآت، وما سواها هيآت وتقدم وجه ضعيف: وجوب جبر طواف القدوم.
باب حج الصبي ومن في معناه
حج الصبي صحيح، فإن كان مميزا، أحرم بإذن وليه. فإن استقل، فوجهان. أصحهما: لا يصح. والثاني: يصح، ولوليه تحليله. ولو أحرم عنه وليه، فإن قلنا: يصح استقلاله، لم يصح، وإلا، فوجهان. أصحهما: يصح. وإن لم يكن مميزا، أحرم عنه وليه، سواء كان حلالا أو محرما، حج عن نفسه أم لا. ولا يشترط حضور الصبي ومواجهته على الاصح. والمجنون، كصبي لا يميز، يحرم عنه وليه. وفيه وجه غريب ضعيف: أنه لا يجوز الاحرام عنه، إذ ليس له أهلية العبادات. والمغمى عليه، لا يحرم عنه غيره. وأما الولي الذي يحرم عن الصبي، أو يأذن له، فالاب يتولى ذلك، وكذا الجد وإن علا عند عدم الاب، ولا يتولاه عند وجود الاب على الصحيح. وفي الوصي والقيم، طريقان. قطع العراقيون بالجواز، وقال آخرون: وجهان. أرجحهما عند الامام: المنع. وفي

(2/397)


الاخ والعم، وجهان. أصحهما: المنع. وفي الام، طريقان. أحدهما: القطع بالجواز. وأصحهما، وبه قال الاكثرون: أنه مبني على ولايتها التصرف في ماله. فعلى قول الاصطخري: تليه. وعلى قول الجمهور: لا تلي. قلت: ولو أذن الاب لمن يحرم عن الصبي، ففي صحته وجهان حكاهما الروياني. الصحيح: صحته، وبه قطع الدارمي. والله أعلم. فصل متى صار الصبي محرما بإحرامه، أو بإحرام وليه، فعل ما قدر عليه بنفسه، وفعل به الولي ما عجز عنه. فإن قدر على الطواف، علمه فطاف، وإلا طيف به على ما سبق. والسعي كالطواف. ويصلي عنه وليه ركعتي الطواف إن لم يكن مميزا، وإلا صلاهما بنفسه على الصحيح. وفي الوجه الضعيف: لا بد أن يصليهما الولي بكل حال. ويشترط إحضاره عرفة، ولا يكفي حضور غيره عنه. وكذا يحضر المزدلفة والمواقف. ويناول الاحجار فيرميها إن قدر، وإلا رمي عنه من لا رمي عليه. ويستحب أن يضعها في يده أولا، ثم يأخذها فيرمي. قلت: لو أركبه الولي دابة وهو غير مميز، فطافت به، قال الروياني: لم يصح إلا أن يكون الولي سائقا أو قائدا. والله أعلم. فصل القدر الزائد من النفقة بسبب السفر، هل في مال الصبي أو الولي ؟ وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: في مال الولي. فعلى هذا، لو أحرم بغير إذنه، وصححناه، حلله. فإن لم يفعل، أنفق عليه. فصل يمنع الصبي المحرم من محظورات الاحرام. فلو تطيب، أو لبس ناسيا، فلا فدية عليه. وإن كان عامدا، فقد بنوه على أصل مذكور في الجنايات،

(2/398)


وهو أن عمده عمد، أو خطأ ؟ إن قلنا: خطأ، فلا. وإن قلنا: عمد، وهو الاظهر، وجبت. قال الامام: وبهذا قطع المحققون، لان عمده في العبادات كعمد البالغ، ألا ترى أنه إذا تعمد الكلام، بطلت صلاته، أو الاكل، بطل صومه ؟ ونقل الداركي قولا فارقا، بين أن يكون الصبي ممن يلتذ بالطيب واللباس، أم لا ؟ ولو حلق، أو قلم، أو قتل صيدا، وقلنا: عمد هذه الافعال وسهوها سواء، وجبت الفدية، وإلا، فهي كالطيب واللباس. ومتى وجبت الفدية، فهي على الولي، أم في مال الصبي ؟ قولان. أظهرهما: في مال الولي، هذا إذا أحرم بإذنه. فإن أحرم بغير إذنه وجوزناه، فالفدية في مال الصبي بلا خلاف، قاله في التتمة. وفي وجه: إن أحرم به الاب أو الجد، ففي مال الصبي. وإن أحرم به غيرهما، فعليه. ومتى وجبت في مال الصبي ؟ إن كانت. مرتبة، فحكمها حكم كفارة القتل، وإلا، فهل يجزئ أن يفتدي بالصوم في حال الصبي ؟ وجهان مبنيان على صحة قضائه الحج الفاسد في الصبي، وليس للولي والحالة هذه أن يفدي عنه بالمال، لانه غير متعين. فرع لو جامع الصبي ناسيا، أو عامدا، وقلنا: عمده خطأ، ففي فساد حجه قولان، كالبالغ إذا جامع ناسيا، أظهرهما: لا يفسد. وإن قلنا: عمده عمد، فسد حجه. وإذا فسد، هل عليه القضاء ؟ قولان. أظهرهما: نعم لانه إحرام صحيح، فوجب فإفساده القضاء كحج التطوع. فعلى هذا، هل يجزئه القضاء في حال الصبي ؟ قولان. ويقال: وجهان. أظهرهما: نعم، اعتبارا بالاداء. والثاني: لا، لانه ليس أهلا لاداء فرض الحج. فعلى هذا، إذا بلغ، نظر في الحجة التي أفسدها، فإن كانت بحيث لو سلمت من الفساد أجزأته عن حجة الاسلام بأن بلغ قبل فوات الوقوف، تأدت حجة الاسلام بالقضاء، وإلا، فلا، وعليه أن يبدأ بحجة الاسلام، ثم يقضي. فإن نوى القضاء أولا، انصرف إلى حجة الاسلام. وإذا جوزنا القضاء في حال الصبي، فشرع فيه، وبلغ قبل الوقوف، انصرف إلى حجة الاسلام، وعليه القضاء. ومهما فسد حجه وأوجبنا القضاء، وجبت الكفارة أيضا، وإلا، ففي الكفارة وجهان. أصحهما: الوجوب. وإذا وجبت، ففي مال الصبي أو الولي ؟ فيه الخلاف السابق.

(2/399)


فرع حكم المجنون، حكم الصبي الذي لا يميز في جميع المذكور. ولو خرج الولي بالمجنون بعد استقرار فرض الحج عليه، وأنفق من ماله، نظر، إن لم ينفق حتى فات الوقوف، غرم له الولي زيادة نفقة السفر. وإن أفاق، وأحرم، وحج، فلا غرم، لانه قضى ما عليه. وتشترط إفاقته عند الاحرام، والوقوف، والطواف، والسعي. ولم يتعرضوا لحالة الحلق. وقياس كونه نسكا، اشترط الافاقة فيه، كسائر الاركان. فصل لو بلغ الصبي في أثناء الحج، نظر، إن بلغ بعد خروج وقت الوقوف بعرفة، لم يجزئه عن حجة الاسلام. ولو بلغ بعد الوقوف وقبل خروج وقته، ولم يعد إلى الموقف، لم يجزئه عن حجة الاسلام على الصحيح. ولو عاد فوقف في الوقت، أو بلغ قبل وقت الوقوف، أو في حال الوقوف، أجزأه عن حجة الاسلام، لكن يجب إعادة السعي إن كان سعى عقيب طواف القدوم قبل البلوغ على الاصح، ويخالف الاحرام، فإنه مستدام في حال البلوغ. وإذا وقع حجه عن الاسلام، فهل يلزمه الدم ؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما: لا إذ لا إساءة. والثاني: نعم، لفوات الاحرام الكامل من الميقات. والطريق الثاني: القطع بأن لا دم. والخلاف فيمن لم يعد بعد البلوغ إلى الميقات، فإن عاد، فلا دم على الصحيح والطواف في العمرة، كالوقوف في الحج. فإذا بلغ قبله، أجزأته عمرته عن عمرة الاسلام. وعتق العبد في أثناء الحج والعمرة، كبلوغ الصبي في أثنائهما.

(2/400)


فرع ذمي أتى الميقات يريد النسك، فأحرم منه، لم ينعقد إحرامه، فإن أسلم قبل فوات الوقوف، ولزمه الحج، فله أن يحج من سنته، وله التأخير، لان الحج على التراخي. فإن حج من سنته، وعاد إلى الميقات فأحرم منه، أو عاد محرما، فلا دم عليه. وإن لم يعد، لزمه دم كالمسلم إذا جاوزه بقصد النسك. وقال المزني: لا دم. فصل إذا طيب الولي الصبي، أو ألبسه، أو حلق رأسه، نظر، إن فعله لحاجة الصبي، فطريقان. أصحهما: أنه كمباشرة الصبي ذلك، فيكون فيمن تجب عليه الفدية القولان المتقدمان. والثاني: القطع بأنها على الولي. ولو طيبه لا لحاجة، فالفدية عليه، وكذا لو طيبه أجنبي. وهل يكون الصبي طريقا ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: لا يكون. والله أعلم.
باب محرمات الاحرام
وهي سبعة أنواع. الاول: اللبس. أما رأس الرجل، فلا يجوز ستره لا بمخيط كالقلنسوة، ولا بغيره كالعمامة، والازار والخرقة، وكل ما يعد ساترا. فإن ستر، لزمه الفدية. ولو توسد وسادة، أو وضع يده على رأسه، أو انغمس في ماء، أو استظل بمحمل أو هودج، فلا بأس، سواء مس المحمل رأسه، أم لا. وقال في التتمة: إذا مس المحمل رأسه، وجبت الفدية. ولم أر هذا لغيره، وهو ضعيف. ولو وضع على

(2/401)


رأسه زنببيلا أو حملا، فلا فدية على المذهب. وقيل: قولان. ولو صلى رأسه بطين، أو حناء، أو مرهم، أو نحوهما، فإن كان رقيقا لا يستر، فلا فدية. وإن كان ثخينا ساترا، وجبت على الاصح. ولا يشترط لوجوب الفدية ستر جميع الرأس، كما لا يشترط في فدية الحلق الاستيعاب، بل تجب بستر قدر يقصد ستره لغرض، كشد عصابة، أو إلصاق لصوق لشجة ونحوها، وكذا ضبطه الامام والغزالي. واتفق الاصحاب على أنه لو شد خيطا على رأسه، لم يضر، ولا فدية. وهذا ينقض ما ضبطا به، فإن ستر المقدار الذي يحويه شد الخيط، قد يقصد لمنع الشعر من الانتشار وغيره. فالوجه: الضبط بتسميته ساترا كل الرأس أو بعضه. قلت: تجب الفدية بتغطية البياض الذي وراء الاذن، قاله الروياني وغيره، وهو ظاهر. ولو غطى رأسه بكف غيره، فالمذهب: أنه لا فدية، ككف نفسه. وفي الحاوي والبحر وجهان لجواز السجود على كف غيره. والله أعلم. أما غير الرأس، فيجوز ستره. لكن لا يجوز لبس القميص، ولا السراويل، والتبان، والخف، ونحوها. فإن لبس شيئا من هذا مختارا، لزمه الفدية، قصر الزمان، أم طال ولو لبس القباء، لزمه الفدية، سواء أخرج يده من الكمين، أم لا. وفيه وجه قاله في الحاوي: أنه إن كان من أقبية خراسان ضيق الاكمام قصير الذيل، لزمت الفدية وإن لم يدخل يده في الكم. وإن كان من أقبية العراق واسع الكم طويل الذيل، لم يجب حتى يدخل يديه في كميه. والصحيح المعروف: ما سبق. ولو ألقى على نفسه قباء، أو فرجيه، وهو مضطجع. قال الامام: إن أخذ من بدنه ما إذا قام عد لابسه، لزمه الفدية. وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر، فلا. والليس مرعي في وجوب الفدية على ما يعتاد في كل ملبوس. فلو ارتدى بقميص، أو قباء، أو التحف بها، أو اتزر بسراويل، فلا فدية. كما لو اتزر بإزار لفقه من رقاع. ولا يتوقف التحريم والفدية في الملبوس على المخيط، بل لا فرق بين المخيط والمنسوج، كالزرد، والمعقود، كجبة اللبد،

(2/402)


والملفق بعضه ببعض، سواء المتخذ من القطن والجلد وغيرهما. ويجوز أن يعقد الازار ويشد عليه خيطا، وأن يجعل له مثل الحجزة، ويدخل فيها التكة، وأن يشد طرف إزاره في طرف ردائه، ولا يعقد رداءه، وله أن يغرزه في طرف إزاره. ولو اتخذ لردائه شرجا وعرى، وربط الشرج بالعرى، وجبت الفدية على الاصح. قلت: المذهب والمنصوص: أنه لا يجوز عقد الرداء، وكذا لا يجوز خله بخلال أو مسلة، ولا ربط طرفه إلى طرفه بخيط ونحوه. والله أعلم. ولو شق الازار نصفين، ولف على كل ساق نصفا وعقده، فالذي نقله الاصحاب: وجوب الفدية، لانه كالسراويل. وقال إمام الحرمين: لا فدية لمجرد اللف والعقد، وإنما تجب إن كانت خياطة أو شرجا وعرى. وله أن يشتمل بالازار والرداء طاقين، وثلاثة، وأكثر، بلا خلاف. وله أن يتقلد المصحف والسيف، ويشد الهميان والمنطقة على وسطه. أما المرأة، فالوجه في حقها، كرأس الرجل. وتستر جميع رأسها وسائر بدنها بالمخيط، كالقميص والسراويل والخف، وتستر من الوجه القدر اليسير الذي يلي الرأس، إذ لا يمكن استيعاب ستر الرأس إلا به. والمحافظة على ستر الرأس بكماله لكونه عورة، أولى من المحافظة على كشف ذلك الجزء من الوجه. ولها أن تسدل على وجهها ثوبا متجافيا عنه بخشبة ونحوها، سواء فعلته لحاجة من حر أو

(2/403)


برد، أو فتنة ونحوها، أم لغير حاجة. فإن وقعت الخشبة، فأصاب الثوب وجهها بغير اختيارها، ورفعته في الحال، فلا فدية. وإن كا عمدا، أو استدامته، لزمتها الفدية. وإذا ستر الخنثى المشكل رأسه فقط، أو وجهه فقط، فلا فدية، وإن سترهما، وجبت. فرع يحرم على الرجل لبس القفازين، وفي تحريمه على المرأة، قولان. أظهرهما عند الاكثرين: يحرم، نص عليه في الام والاملاء، وتجب به الفدية. والثاني: لا يحرم، فلا فدية. ولو اختضبت ولفت على يديها خرقة فوق الخضاب، أو لفتها بلا خضاب، فالمذهب: أنه لا فدية. وقيل: قولان كالقفازين. وقال الشيخ أبو حامد: إن لم تشد الخرقة، فلا فدية، وإلا، فالقولان. فإن أوجبنا الفدية، فهل تجب بمجرد الحناء ؟ فيه ما سبق في الرجل إذا خضب رأسه بالحناء. ولو اتخذ الرجل لساعده، أو لعضو آخر شيئا مخيطا، أو

(2/404)


للحيته خريطة يغلفها بها إذا خضبها، فهل يلحق بالقفازين ؟ فيه تردد عن الشيخ أبي محمد. والاصح: الالحاق، وبه قطع كثيرون. ووجه المنع: أن المقصود اجتناب الملابس المعتادة، وهذا ليس بمعتاد. فرع أما المعذور، ففيه صور. إحداها: لو احتاج الرجل إلى ستر الرأس، أو لبس المخيط لعذر، كحر، أو برد، أو مداواة، أو احتاجت المرأة إلى ستر الوجه، جاز، ووجبت الفدية، الثانية: لو لم يجد الرجل الرداء، لم يجز لبس القميص، بل يرتدي به. ولو لم يجد الازار ووجد السراويل، نظر، إن لم يتأت منه إزار لصغره، أو لفقد آلة الخياطة، أو لخوف التخلف عن القافلة، فله لبسه، ولا فدية. وإن تأتى، فلبسه على حاله، فلا فدية أيضا على الاصح. وإذا لبسه في الحالتين، ثم وجد الازار، وجب نزعه. فإن أخر، وجبت الفدية. الثالثة: لو لم يجد نعلين، لبس المكعب، أو قطع الخف أسفل من الكعب ولبسه. ولا يجوز لبس المكعب والخف المقطوع مع وجود التعين، على الاصح. فعلى هذا، لو لبس المقطوع لفقد النعلين، ثم وجدهما، وجب نزعه. فإن أخر، وجبت الفدية. وإذا جاز لبس الخف المقطوع، لم يضر استتار ظهر القدم بما بقي منه. والمراد بفقد الازار والنعل: أن لا يقدر على تحصيله، إما لفقده، وإما لعدم بذل مالكه، وإما لعجزه عن ثمنه أو أجرته. ولو بيع بغبن، أو نسيئة، أو وهب له، لم يلزمه قبوله. وإن أعير، وجب قبوله. النوع الثاني: التطيب فتجب الفدية باستعمال الطيب قصدا. فأما الطيب، فالمعتبر فيه أن يكون معظم الغرض منه التطيب، واتخاذ الطيب منه، أو يظهر فيه هذا الغرض. فالمسك، والكافور، والعود، والعنبر، والصندل، طيب. وأما ما له رائحة طيبة من نبات الارض، فأنواع.

(2/405)


منها: ما يطلب للتطيب واتخاذ الطيب منه، كالورد، والياسمين، والزعفران، والخيري، والورس، فكله طيب. وحكي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيري. ومنها: ما يطلب للاكل، أو للتداوي غالبا، كالقرنفل، والدارصيني، والسنبل، وسائر الابازير الطيبة، والتفاح، والسفرجل، والبطيخ، والاترج، والنارنج، ولا فدية في شئ منها. ومنها: ما يتطيب به ولا يؤخذ منه الطيب، كالنرجس، والريحان الفارسي، وهو الضيمران، والمرزنجوش، ونحوها، ففيها قولان. القديم لا فدية. والجديد: وجوبها. وأما البنفسج، فالمذهب: أنه طيب. وقيل: لا. وقيل: قولان. والنيلوفر، كالنرجس. وقيل: طيب قطعا. ومنها: ما ينبت بنفسه، كالشيخ، والقيصوم، والشقائق، وفي معناها نور الاشجار، كالتفاح والكمثرى وغيرهما، وكذا العصفر، والحناء ولا فدية في شئ من هذا. وحكى بعض الاصحاب وجها: أنه تعتبر عادة كل ناجية فيما يتخذ طيبا، وهذا غلط نبهنا عليه. فرع الادهان ضربان. دهن ليس بطيب، كالزيت، والشيرج، وسيأتي في النوع الثالث إن شاء الله تعالى. ودهن هو طيب، فمنه دهن الورد، والمذهب: وجوب الفدية فيه، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ومنه دهن البنفسج، فإن لم نوجب الفدية في نفس البنفسج، فدهنه أولى، وإلا، فكدهن الورد. ثم اتفقوا على أن ما طرح فيه الورد والبنفسج، فهو دهنهما. ولو طرحا على السمسم فأخذ رائحة، ثم استخرج منه الدهن، قال الجمهور: لا يتعلق به فدية، وخالفهم الشيخ أبو محمد. ومنه ألبان ودهنه، أطلق الجمهور: أن كل واحد منهما طيب. ونقل الامام عن نص الشافعي رحمه الله: أنهما ليس بطيب، وتابعه الغزالي، ويشبه أن لا

(2/406)


يكون خلافا محققا، بل هما محمولان على توسط حكاه صاحبا المهذب والتهذيب، وهو أن دهن ألبان المنشوش، وهو المغلي في الطيب، طيب وغير المنشوش، ليس بطيب. قلت: وفي كون دهن الاترج طيبا، وجهان حكاهما الماوردى، والروياني. وقطع الدارمي: بأنه طيب. والله أعلم. فرع ولو أكل طعاما فيه زعفران، أو طيب آخر، أو استعمل مخلوطا بالطيب لا بجهة الاكل، نظر إن استهلك الطيب فلم يبق له ريح ولا طعم ولا لون، فلا فدية. وإن ظهرت هذه الصفات، أو بقيت الرائحة فقط وجبت الفدية. وإن بقي اللون وحده، فقولان. أظهرهما: لا فدية. وقيل: لا فدية قطعا. وإن بقي الطعم فقط، فكالرائحة على الاصح. وقيل: كاللون. ولو أكل الخلنجين المربى بالورد، نظر في استهلاك الورد فيه عدمه، وخرج على هذا التفصيل. قلت: قال صاحب الحاوي والروياني: لو أكل العود، فلا فدية عليه، لانه لا يكون متطيبا به، إلا بأن يتبخر به، بخلاف المسك. والله أعلم. فرع لو خفيت رائحة الطيب، أو الثوب المطيب، لمرور الزمان، أو لغبار وغيره، فإن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت رائحته، حرم استعماله. وإن بقي اللون، لم يحرم على الاصح. ولو انغمر شئ من الطيب في غيره كماء ورد انمحق في ماء كثير، لم تجب الفدية باستعماله على الاصح. فلو انغمرت الرائحة وبقي اللون أو الطعم، ففيه الخلاف السابق. فرع في بيان الاستعمال هو أن يلصق الطيب ببدنه، أو ملبوسه، على الوجه المعتاد في ذلك الطيب. فلو طيب جزءا من بدنه بغالية، أو مسك مسحوق، أو ماء ورد، لزمه الفدية، سواء الالصاق بظاهر البدن، أو باطنه، بأن أكله، أو احتقن به، أو استعط. وقيل: لا فدية في الحقنة والسعوط. ولو عبق به الريح دون العين، بأن جلس في دكان عطار، أو عند الكعبة وهي تبخر، أو في بيت تبخر ساكنوه، فلا فدية. ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة، لم يكره، وإلا،

(2/407)


كره على الاظهر. وقال القاضي حسين: يكره قطعا. والقولان في وجوب الفدية، والمذهب: الاول ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه، أو ثيابه، لزمه الفدية. فلو مس طيبا فلم يعلق به شئ من عينه، لكن عبقت به الرائحة، فلا فدية على الاظهر. ولو شد المسك، أو العنبر، أو الكافور في طرف ثوبه، أو وضعته المرأة في جيبها، أو لبست الحلي المحشو بشئ منها، وجبت الفدية، لانه استعماله. قلت: ولو شد العود، فلا فدية، لانه لا يعد تطيببا، بخلاف شد المسك. والله أعلم. ولو شم الورد، فقد تطيب. ولو شم ماء الورد، فلا، بل استعماله أن يصبه على بدنه أو ثوبه. ولو حمل مسكا أو طيبا غيره، في كيس، أو خرقة مشدودة، أو قارورة مصممة الرأس، أو حمل الورد في ظرف، فلا فدية، نص عليه في الام. وفي وجه شاذ: أنه إن كان يشم قصدا، لزمه الفدية. ولو حمل مسكا في فأرة غير مشقوقة، فلا فدية على الاصح. ولو كانت الفأرة مشقوقة، أو القارورة مفتوحة الرأس، قال الاصحاب: وجبت الفدية، وفيه نظر، لانه لا يعد تطيبا. ولو جلس على فراش مطيب، أو أرض مطيبة، أو نام عليها مفضيا ببدنه أو ملبوسه إليها، لزمه الفدية. فلو فرش فوقه ثوبا، ثم جلس عليه، أو نام، لم تجب الفدية. لكن إن كان الثوب رقيقا، كره. ولو داس بنعله طيبا، لزمه الفدية. فرع في بيان القصر فلو تطيب ناسيا لاحرامه، أو جاهلا بتحريم الطيب، فلا فدية. وقال المزني: تجب ولو علم تحريم الاستعمال، وجهل وجوب الفدية. ولو علم تحريم الطيب، وجهل كون الممسوس طيبا، فلا فدية على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ولو مس طيبا رطبا وهو يظنه يابسا لا يعلق به شئ منه، ففي وجوب الفدية قولان. رجح الامام وغيره: الوجوب. ورجحت طائفة: عدم الوجوب، وذكر صاحب التقريب: أنه القول الجديد. ومتى لصق الطيب بدنه أو ثوبه على وجه لا يوجب الفدية، بأن كان ناسيا، أو ألقته الريح عليه، لزمه أن يبادر إلى غسله، أو ينحيه، أو يعالجه بما يقطع ريحه.

(2/408)


والاولى أن يأمر غيره بإزالته، فإن باشره بنفسه، لم يضر، فإن أخر إزالته مع الامكان، فعليه الفدية، فإن كان زمنا لا يقدر على الازالة، فلا فدية، كمن أكره على التطيب، قاله في التهذيب. قلت: ولو لصق به طيب يوجب الفدية، لزمه أيضا المبادرة إلى إزالته. والله أعلم. النوع الثالث: دهن شعر الرأس واللحية، قد سبق، أن الدهن مطيب وغيره. فالمطيب: سبق. وأما غيره: كالزيت، والشيرج، والسمن، والزبد، ودهن الجوز، واللوز، فيحرم استعماله في الرأس واللحية. فلو كان أقرع، أو أصلع، فدهن رأسه. أو أمرد، فدهن ذقنه، فلا فدية. وإن كان محلوق الرأس، وجبت الفدية على لاصح. ويجوز استعمال هذا الدهن في سائر البدن، شعره وبشره، ويجوز أكله. ولو كان على رأسه شجة، فجعل هذا الدهن في داخلها، فلا فدية. فرع للمحرم أن يغتسل، ويدخل الحمام، ويزيل الوسخ عن نفسه، ولا كراهة في ذلك على المشهور، وبه قطع الجمهور. وقيل: يكره على القديم. وله غسل رأسه بالسدر والخطمي، لكن المستحب أن لا يفعله. ولم يذكر الجمهور

(2/409)


كراهته، وحكى الحناطي كراهته على القديم. وإذا غسله، فينبغي أن يرفق، لئلا ينتف شعره. فرع يحرم الاكتحال بما فيه طيب، ويجوز بما لا طيب فيه. ثم نقل المزني: أنه لا بأس به. وفي الاملاء: أنه يكره. وتوسط قوم فقالوا: إن لم يكن فيه زينة، كالتوتياء الابيض، لم يكره. وإن كان فيه زينة كالاثمد، كره، إلا لحاجة الرمد ونحوه. فرع نقل الامام عن الشافعي رحمه الله: اختلاف قول، في وجوب الفدية إذا خضب الرجل لحيته، وعن الاصحاب طرقا في مأخذه. أحدها: التردد في أن الحناء طيب، أم لا ؟ وهذا غريب ضعيف. والاصحاب قاطعون: بأنه ليس بطيب كما سبق. الثاني: أن من يخضب، قد يتخذ لموضع الخضاب غلافا يحيط به، فهل يلحق بالملبوس المعتاد ؟ وقد سبق الخلاف فيه. الثالث وهو الصحيح: أن الخضاب تزيين للشعر، فتردد القول في إلحاقه بالدهن. والمذهب: أنه لا يلتحق، ولا تجب الفدية في خضاب اللحية. قال الامام: فعلى المأخذ الاول: لا شئ على المرأة إذا خضبت يدها بعد الاحرام. وعلى الثاني والثالث: يجري التردد. وقد سبق بيان خضاب يدها وشعر الرجل. فرع للمحرم أن يفتصد ويحتجم ما لم يقطع شعرا. ولا بأس بنظره في المرآة. ونقل أن الشافعي رحمه الله، كرهه في بعض كتبه. قلت: المشهور من القولين: أنه لا يكره. ويجوز للمحرم إنشاد الشعر الذي يجوز للحلال إنشاده. والسنة: أن يلبد رأسه عند إرادة الاحرام، وهو أن يعقص شعره ويضرب عليه الخطمي، أو الصمغ، أو غيرهما، لدفع القمل وغيره. وقد صحت في استحبابه الاحاديث واتفق أصحابنا عليه وصرحوا باستحبابه، ونقله

(2/410)


صاحب البحر أيضا عن الاصحاب. والله أعلم. النوع الرابع: الحلق والقلم، فتحرم إزالة الشعر قبل وقت التحلل، وتجب فيه الفدية، سواء فيه شعر الرأس والبدن، وسواء الازالة بالحلق، أو التقصير، أو النتف، أو الاحراق، أو غيرها. وإزالة الظفر، كإزالة الشعر، سواء قلمه أو كسره، أو قطعه. ولو قطع يده أو بعض أصابعه وعليها شعر أو ظفر، فلا فدية، لانهما تابعان غير مقصودين. ولو كشط جلدة الرأس، فلا فدية، والشعر تابع. وشبهوه بما إذا أرضعت امرأته الكبيرة الصغيرة، بطل النكاح ولزمها مهر الصغيرة. ولو قتلتها، فلا مهر عليها، لاندراج البضع في القتل. ولو مشط لحيته، فنتف شعرا، فعليه الفدية. فإن شك هل كان منسلا، أو انتتف بالمشط ؟ فلا فدية على الصحيح. وقيل: الاظهر. فرع سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الدماء، أن فدية الحلق والقلم، لها خصال. إحداها: إراقة دم، فلا يتوقف وجوب كمال الدم على حلق جميع الرأس، ولا على قلم جميع الاظفار بالاجماع، بل يكمل الدم في ثلاث شعرات، أو ثلاثة أظفار، سواء كانت من أظفار اليد أو الرجل، أو منهما. هذا إذا أزالها دفعة في مكان. فإن فرق زمانا أو مكانا، فسيأتي بعد النوع السابع إن شاء الله تعالى. فإن حلق شعرة أو شعرتين، فأقوال. أظهرها وهو نصه في أكثر كتبه: أن في الشعرة، مدا من طعام، وفي شعرتين، مدين. والثاني: في شعرة، درهم، وفي

(2/411)


شعرتين، درهمان. والثالث: في شعرة، ثلث دم، وفي شعرتين، ثلثاه. والرابع: في الشعرة الواحدة، دم كامل. والظفر، كالشعرة، والظفران، كالشعرتين. ولو قلم دون المعتاد، فكتقصير الشعر. ولو أخذ من بعض جوانبه، ولم يستوعب رأس الظفر، فإن قلنا: في الظفر الواحد دم أو درهم، وجب بقسطه. وإن قلنا: مد، لم يبعض. فرع هذا الذي سبق في الحلق لغير عذر. فأما الحلق لعذر، فلا إثم فيه. وأما الفدية، ففيها صور. إحداها: لو كثر القمل في رأسه، أو كان به جراحة أحوجه أذاها إلى الحلق، أو تأذى بالحر لكثرة شعره، فله الحلق، وعليه الفدية. الثانية: لو نبتت شعرة أو شعرات داخل جفنه، وتأذى بها، قلعها، ولا فدية على المذهب. وقيل: وجهان. ولو طال شعر حاجبه أو رأسه , وغطى عينه، قطع قدر المغطى، ولا فدية. وكذا لو انكسر بعض ظفره، وتأذى به، قطع المنكسر، ولا يقطع معه من الصحيح شيئا.

(2/412)


الثالثة: ذكرنا أن النسيان يسقط الفدية في الطيب واللباس، وكذا حكم ما عدا الوطئ من الاستمتاعات، كالقبلة، واللمس بشهوة. وفي وطئ الناسي، خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. وهل تجب الفدية بالحلق والقلم ناسيا ؟ وجهان. أصحهما: تجب، وهو المنصوص. والثاني: مخرج في أحد قولين له في المغمى عليه إذا حلق، والمجنون. والصبي الذي لا يميز، كمغمى عليه. ولو قتل الصيد ناسيا، قال الاكثرون: فيه القولان كالحلق. وقيل: تجب قطعا. فرع للمحرم حلق شعر الحلال. ولو حلق المحرم أو الحلال شعر المحرم، أثم. فإن حلق بإذنه، فالفدية على المحلوق، وإلا، فإن كان نائما، أو مكرها، أو مغمى عليه، فقولان. أظهرهما: الفدية على الحالق، والثاني: على المحلوق. فعلى الاول: لو امتنع الحالق من الفدية مع قدرته، فهل للمحلوق مطالبته بإخراجها ؟ وجهان: أصحهما، وبه قال الاكثرون: نعم. ولو أخرج المحلوق الفدية بإذن الحالق، جاز وبغير إذنه، لا يجوز على الاصح، كما لو أخرجها أجنبي بغير إذنه. وإن قلنا: الفدية على المحلوق، نظر، إن فدى بالهدي أو الاطعام، رجع بأقل الامرين من الاطعام وقيمة الشاة على الحالق. وإن فدى بالصوم، فأوجه. أصحها: لا يرجع. والثاني: يرجع بثلاثة أمداد من طعام، لانها بدل صومه. والثالث: يرجع بما يرجع به لو فدى بالهدي، أو الاطعام. وإذا قلنا: يرجع، فإنما يرجع بعد الاخراج على الاصح. وعلى الثاني: له أن يأخذ منه ثم يخرج. وهل للحالق أن يفدي على هذا القول ؟ أما بالصوم، فلا، وأما بغيره، فنعم، لكن بإذن المحلوق. وإن لم يكن نائما، ولا مكرها، ولا مغمى عليه، لكنه سكت فلم يمنعه من الحلق، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: هو كما لو حلق بإذنه، والثاني: كما لو حلقه نائما. ولو أمر حلال حلالا بحلق شعر محرم نائم، فالفدية على الآمر إن لم يعرف الحالق الحال، وإلا، فعليه على الاصح. قلت: ولو طارت نار إلى شعره فأحرقته، قال الروياني: إن لم يمكنه إطفاؤها، فلا شئ عليه، وإلا، فهو كمن حلق رأسه وهو ساكت. والله أعلم. النوع الخامس: الجماع. وهو مفسد للحج إن وقع قبل التحللين، سواء

(2/413)


قبل الوقوف وبعده. وإن وقع بينهما، لم يفسد على المذهب: وحكي وجه: أنه يفسد. وقول قديم: أنه يخرج إلى أدنى الحل، ويجدد منه إحرجما، ويأتي بعمل عمرة. وتفسد العمرة أيضا بالجماع قبل التحلل. وقد قدمنا إنه ليس لها إلا تحلل واحد فإن قلنا: الحلق نسك، فهو مما يقف التحلل عليه، وإلا فلا. واللواط، كالجماع. وكذا إتيان البهيمة على الصحيح. فرع ما سوى الحج والعمرة من العبادات، لا حرمة لها، بعد الفساد. ويخرج منها بالفساد. وأما الحج والعمرة، فيجب المضي في فاسدهما، وهو إتمام ما كان يعمله لولا الفساد. فرع يجب على مفسد الحج بالجماع بدنة. وعلى مفسد العمرة أيضا بدنة على الصحيح، و على الثاني: شاة. ولو جامع بين التحللين، وقلنا: لا يفسد، لزمه شاة على الاظهر، وبدنة على الثاني. وفيه وجه: أنه لا شئ عليه، وهو شاذ منكر. ولو أفسد حجه بالجماع، ثم جامع ثانيا، ففيه خلاف تجمعه أقوال. أظهرها: يجب بالجماع الثاني شاة. والثاني: بدنة. والثالث: لا شئ فيه. والرابع: إن كان كفر عن الاول، فدى الثاني، وإلا، فلا. والخامس: إن طال الزمان بين الجماعين، أو اختلف المجلس، فدى عن الثاني، وإلا، فلا. فرع يجب على مفسد الحج، القضاء بالاتفاق، سواء كان الحج فرضا أو تطوعا، ويقع القصاء عن المفسد. فإن كان فرضا، وقع عنه، وإن كان تطوعا، فعنه. ولو أفسد القضاء بالجماع، لزمه الكفارة، ولزمه قضاء واحد. ويتصور القضاء في عام الافساد، بأن يحصر بعد الافساد ويتعذر عليه المضي في الفاسد،

(2/414)


فيتحلل ثم يزول الحصر والوقت باق، فيشتغل بالقضاء. وفي وقت القضاء، وجهان. أصحهما: على الفور. والثاني: على التراخي. فإن كان أحرم في الاداء قبل الميقات من دويرة أهله أو غيرها، لزمه أن يحرم في القضاء من ذلك الموضع. فإن جاوزه غير محرم، لزمه دم. كالميقات الشرعي. وإن كان أحرم من الميقات، أحرم منه في القضاء. وإن كان أحرم بعد مجاوزة الميقات، نظر، إن جاوزه مسيئا، لزمه في القضاء الاحرام من الميقات الشرعي، وليس له أن يسئ ثانيا. وهذا معنى قول الاصحاب: يحرم في القضاء من أغلظ الموضعين، من الميقات، أو من حيث أحرم في الاداء. وإن جاوزه غير مسئ، بأن لم يرد النسك، ثم بدا له، فأحرم، ثم أفسد، فوجهان. أصحهما، وبه قطع صاحب التهذيب وغيره: أن عليه أن يحرم في القضاء من الميقات الشرعي. والثاني: له أن يحرم من ذلك الموضع ليسلك بالقضاء مسلك الاداء. ولهذا لو اعتمر من الميقات، ثم أحرم بالحج من مكة، وأفسده، كفاه في القضاء أن يحرم من نفس مكة. ولو أفرد الحج، ثم أحرم بالعمرة من أدنى الحل، ثم أفسدها، كفاه أن يحرم في قضائها من أدنى الحل. والوجهان فيمن لم يرجع إلى الميقات. أما لو رجع ثم عاد، فلا بد من الاحرام من الميقات. ولا يجب أن يحرم بالقضاء في الزمن الذي أحرم منه بالاداء، بل له التأخير عنه، بخلاف المكان. والفرق أن اعتناء الشرع بالميقات المكاني أكمل، فإن مكان الاحرام يتعين بالنذر، وزمانه لا يتعين. حتى لو نذر الاحرام في شوال، له تأخيره. وأظن أن هذا الاستشهاد لا يخلو من نزاع. قلت: ولا يلزمه في القضاء، أن يسلك الطريق الذي سلكه في الاداء بلا خلاف، لكن يشترط إذا سلك غيره أن يحرم من قدر مسافة الاحرام في الاداء. والله أعلم. فرع لو كانت المرأة محرمة أيضا، نظر، إن جامعها مكرهة أو نائمة، لم يفسد حجها. وإن كانت طائعة عالمة، فسد. وحينئذ، هل يجب على كل واحد منهما بدنة ؟ أم يجب على الزوج فقط بدنة عن نفسه ؟ أم عليه بدنة عنه وعنها ؟ فيه ثلاثة أقوال، كالصوم. وقطع قاطعون بإلزامها البدنة. وإذا خرجت الزوجة للقضاء، فهل يلزم الزوج ما زاد من النفقة بسبب السفر ؟ وجهان. أصحهما: يلزمه. وإذا

(2/415)


خرجا للقضاء معا، استحب أن يفترقا من حين الاحرام. فإذا وصلا إلى الموضع الذي أصابها فيه، فقولان. قال في الجديد: لا تجب المفارقة. وقال في القديم: تجب. فرع ذكرنا في كون القضاء على الفور وجهين. قال القفال: هما جاريان في كل كفارة وجبت بعدوان، لانالكفارة في وضع الشرع، على التراخي كالحج. والكفارة بلا عدوان، على التراخي قطعا. وأجرى الامام الخلاف في المتعدي بترك الصوم. وقد سبق في كتاب الصوم انقسام قضاء الصوم إلى الفور والتراخي. قال الامام: والمتعدي بترك الصلاة، لزمه قضاؤها على الفور بلا خلاف. وذكر غيره وجهين. أصحهما: هذا. والثاني: أنها على التراخي. وربما رجحه العراقيون. وأما غير المتعدي، فالمذهب: أنه لا يلزمه القضاء على الفور، وبهذا قطع الاصحاب. وفي التهذيب وجه: أنه يلزمه على الفور، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: فليصلها إذا ذكرها. فرع يجوز للمفرد بأحد النسكين إذا أفسده، أن يقضيه مع الآخر قارنا، وأن يتمتع. ويجوز للمتمتع والقارن القضاء على سبيل الافراد. ولا يسقط دم القران بالقضاء على سبيل الافراد. وإذا جامع القارن قبل التحلل الاول، فسد نسكاه، وعليه بدنة واحدة، لاتحاد الاحرام، ويلزمه دم القران مع البدنة على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ثم إذا اشتغل بقضائهما، فإن قرن أو تمتع، فعليه دم آخر، وإلا، فقد أشار الشيخ أبو علي إلى خلاف فيه، ومال إلى أنه لا يجب شئ آخر. قلت: المذهب: وجوب دم آخر إذا أفرد في القضاء، وبه قطع الجمهور. وممن قطع به، الشيخ أبو حامد، والماوردي والمحاملي، والقاضي أبو الطيب في كتابيه، والمتولي، وخلائق آخرون، وهو مراد الامام الرافعي بقوله في أوائل هذا الفرع: لا يسقط دم القران، لكنه ناقضه بهذه الحكاية عن أبي علي. والله أعلم.

(2/416)


وإن جامع بعد التحلل الاول، لم يسقط واحد من نسكيه، سواء كان أتى بأعمال العمرة، أم لا. وفيه وجه قاله الاودني: أنه إذا لم يأت بشئ من أعمال العمرة، كسدت عمرته. وهذا شاذ ضعيف، لان العمرة في القران تتبع الحج. ولهذا يحل للقارن معظم مخطورات الاحرام بعد التحلل الاول وإن لم يأت بأعمال العمرة ولو قدم القارن مكة، وطاف، وسعى، ثم جامع، بطل نسكاه وإن كان بعد أعمال العمرة. فرع إذا فات القارن الحج، لفوات الوقوف، فهل يحكم بفوات عمرته ؟ قولان. أظهرهما: نعم، تبعا للحج، كما تفسد بفساده. والثاني: لا، لانه يتحلل بعملها. فإن قلنا بفواتها، فعليه دم واحد للفوات، ولا يسقط دم القران. وإذا قضاهما، فالحكم على ما ذكرناه في قضائهما عند الافساد. إن قرن، أو تمتع، فعليه الدم، وإلا، فعلى الخلاف. فرع جميع ما ذكرناه، هو في جماع العامد العالم بالتحريم. فأما إذا جامع ناسيا، أو جاهلا بالتحريم، فقولان. الاظهر: الجديد: لا يفسد. والقديم: يفسد. ولو أكره على الوطئ، فقيل: وجهان، بناء على الناسي، وقيل: يفسد قطعا، بناء على أن إكراه الرجل على الوطئ ممتنع. ولو أحرم عاقلا، ثم جن، فجامع، فيه القولان في الناسي. فرع لو أحرم مجامعا. فأوجه. أحدها: ينعقد صحيحا. فإن نزع في الحال، فذاك، وإلا، فسد نسكه، وعليه البدنة، والمضي في فاسده، والقضاء. والثاني: ينعقد فاسدا، وعليه القضاء والمضي في فاسده، سواء مكث، أو نزع. ولا تجب البدنة إن نزع في الحال وإن مكث، وجبت شاة في قول، وبدنة في قول كما سبق في نظائره. والجالث: لا ينعقد أصلا، كما لا تنعقد الصلاة مع الحدث.

(2/417)


قلت: هذا الثالث: أصحها. والله أعلم. فصل إذا ارتد في أثناء حجه أو عمرته، فوجهان. أصحهما: يفسد، كالصوم والصلاة. والثاني: لا يفسد، لكن لا يعتد بالمفعول في الردة. ولا فرق على الوجهين بين طول زمنها وقصره. فإذا قلنا بالفساد، فوجهان. أصحهما: يبطل النسك من أصله، ولا يمضي فيه، لا في الردة، ولا بعد الاسلام. والثاني: أنه كالافساد بجماع، فيمضي في فاسده إن أسلم، لكن لا كفارة. النوع السادس: مقدمات الجماع. فيحرم على المحرم المباشرة بشهوة، كالمفاخذة، والقبلة، واللمس باليد بشهوة قبل التحلل الاول. وفي حكمها بين التحللين ما سبق من الخلاف. ومتى ثبت التحريم، فباشر عمدا، لزمه الفدية. وإن كان ناسيا، فلا شئ عليه بلا خلاف، لانه استمتاع محض. ولا يفسد شئ منها نسكه، ولا يوجب الفدية بحال وإن كان عمدا، سواء أنزل، أم لا. والاستمناء باليد، يوجب الفدية على الاصح. ولو باشر دون الفرج، ثم جامع، هل تدخل الشاة في البدنة، أم تجبان معا ؟ وجهان. قلت: الاصح: تدخل. ولا يحرم اللمس بغير شهوة. وأما قوله في الوسيط والوجيز: تحرم كل مباشرة تنقض الوضوء، فشاذ، بل غلط. والله أعلم. فرع لا ينعقد نكاح المحرم، ولا إنكاحه، ولا نكاح المحرمة. والمستحب ترك الخطبة للمحرم والمحرمة. وتمام هذه المسألة في كتاب النكاح. النوع السابع: الاصطياد. فيحرم عليه كل صيد

(2/418)


مأكول، أو في أصله مأكول ليس مائيا، وحشيا كان، أو في أصله وحشي. ولا فرق بين المستأنس وغيره، ولا بين المملوك وغيره. ويجب في المملوك مع الجزاء ما بين قيمته حيا ومذبوحا لمالكه، إذا رده إليه مذبوحا. قلت: قال أصحابنا: هذا إذا قلنا: ذبيحة المحرم حلال، فإن قلنا: ميتة، لزمه له كل القيمة. وقد ذكره الرافعي بعد هذا بقليل. وقال الماوردي وغيره: وإذا قلنا: ميتة، فالجلد للمالك. والله أعلم. وقال المزني: لا جزاء في المملوك. ولو توحش حيوان إنسي، لم يحرم، لانه ليس بصيد. ويحرم التعرض لاجزاء الصيد، بالجرح والقطع. ولو جرحه فنقصت قيمته، فسيأتي بيان ما يجب بنقصه إن شاء الله تعالى. وإن برأ ولم يبق نقص ولا أثر، فهل يلزمه شئ ؟ وجهان، كالوجهين في جراحة الآدمي إذا اندملت ولم يبق نقص ولا شين، ويجريان فيما لو نتف ريشه فعاد كما كان. وبيض الطائر المأكول، مضمون بقيمته، فإن كانت مذرة، فلا شئ عليه بكسرها، إلا بيضة النعامة، ففيها قيمتها، لان قشرها قد ينتفع به. ولو نفر صيدا عن بيضته التي

(2/419)


حضنها، ففسدت، لزمه قيمتها. ولو أخذ بيض دجاجة، فأحضنه صيدا، ففسد بيض الصيد، أو لم يحضنه، ضمنه، لان الظاهر أن فساد بيضه بسبب ضم بيض الدجاجة إليه. ولو أخذ بيض صيد وأحضنه دجاجة، فهو في ضمانة حتى يخرج الفرخ ويسعى. فلو خرج ومات قبل الامتناع، لزمه مثله من النعم. ولو كسر بيضة فيها فرخ له روح، فطار وسلم، فلا شئ عليه. وإن مات، فعليه مثله من النعم ولو حلب لبن صيد، ضمنه، قاله كثيرون من أصحابنا العراقيين وغيرهم. وقال الروياني: لا يضمن. فصل ما ليس بمأكول من الدواب والطيور، ضربان. ما ليس له أصل مأكول، وما أحد أصليه مأكول. فالاول: لا يحرم التعرض له بالاحرام، ولا جزاء على المحرم بقتله ثم من هذا الضرب: ما يستحب قتله للمحرم وغيره، وهي المؤذيات،

(2/420)


كالحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحدأة، والذئب، والاسد، والنمر، والدب، والنسر، والعقاب، والبرغوث، والبق، والزنبور. ولو ظهر القمل على بدن المحرم أو ثيابه، لم يكره تنحيته. ولو قتله، لم يلزمه شئ. ويكره له أن يفلي رأسه ولحيته. فإن فعل فأخرج منهما قملة وقتلها، تصدق ولو بلقمة، نص عليه الشافعي رحمه الله. قال الاكثرون: هذا التصدق مستحب. وقيل: واجب، لما فيه من إزالة الاذى عن الرأس. قلت: قال الشافعي رحمه الله تعالى: وللصئبان حكم القمل، وهو بيض القمل. والله أعلم ومنه: ما فيه منفعة ومضرة، كالفهد، والصقر، والبازي، فلا يستحب قتلها، لنفعها، ولا يكره، لضررها. ومنه: ما لا يظهر فيه منفعة ولا ضرر، كالخنافس، والجعلان، والسرطان، والرخم والكلب الذي ليس بعقور، فيكره قتلها. ولا يجوز قتل النمل، والنحل، والخطاف، والضفدع. وفي وجوب الجزاء بقتل الهدهد والصرد، خلاف مبني على الخلاف في جواز أكلهما.

(2/421)


قلت: قوله: إن الكلب الذي ليس بعقور يكره قتله، مراده كراهة تنزيه. وفي كلام غيره، ما يقتضي التحريم. والمراد: الكلب الذي لا منفعة فيه مباحة. فأما ما فيه منفعة مباحة، فلا يجوز قتله بلا شك، سواء في هذا، الكلب الاسود، وغيره. والامر بقتل الكلاب منسوخ. والله أعلم. الضرب الثاني: ما أحد أصليه مأكول، كالمتولد بين الذئب والضبع، وبين حماري الوحش والانس، فيحرم التعرض له، ويجب الجزاء فيه. قلت: قال الشافعي رحمه الله: فإن شك في شئ من هذا، فلم يدر أخالطه وحشي مأكول، أم لا، استحب فداؤه. والله أعلم. فرع الحيوان الانسي: كالنعم، والخيل، والدجاج، يجوز للمحرم ذبحها، ولا جزاء. والمتولد بين الانسي والوحشي، كالمتولد بين الظبي والشاة، أو بين اليعقوب والدجاجة، يجب فيه الجزاء كالمتولد بين المأكول وغيره. فرع صيد البحر حلال للمحرم، وهو ما لا يعيش إلا في البحر. أما ما يعيش في البر والبحر، فحرام كالبري. وأما الطيور المائية التي تغوص في الماء وتخرج، فبرية. والجراد بري على المشهور. فصل جهات ضمان الصيد ثلاث. المباشرة، والتسبب، واليد. فالمباشرة، معروفة. وأما التسبب، فموضع ضبطه كتاب الجنايات. ويذكر هنا صور. إحداها: لو نصب الحلال شبكة في الحرم، أو نصبها المحرم حيث كان، فتعقل بها صيد وهلك، فعليه الضمان، سواء نصبها في ملكه أو غيره. قلت: ولو نصب الشبكة، أو الاحبولة وهو حلال، ثم أحرم فوقع بها صيد، لم يلزمه شئ، ذكره القفال، وصاحب البحر وغيرهما. وهو معنى نص

(2/422)


الشافعي رحمه الله تعالى. والله أعلم. الثانية: لو أرسل كلبا، أو حل رباطه ولم يرسله، فأتلف صيدا، لزمه ضمانه. ولو انحل الرباط لتقصيره فيه، ضمن على المذهب، هذا إذا كان هناك صيد. فإن لم يكن، فأرسل الكلب أو حل رباطه، فظهر صيد، ضمنه أيضا على الاصح. قلت: قال القاضي أبو حامد وغيره: يكره للمحرم حمل البازي وكل صائد. فإن حمله فأرسله على صيد فلم يقتله، فلا جزاء، لكن يأثم. ولو انفلت بنفسه فقتله. فلا ضمان. والله أعلم. الثالثة: لو نفر المحرم صيدا فعثر وهلك به، أو أخذه سبع، أو انصدم بشجرة، أو جبل، لزمه الضمان، سواء قصده تنفيره، أم لا، ويكون في عهدة التنفير حتى يعود الصيد إلى عادته في السكون. فإن هلك بعد ذلك، فلا ضمان. ولو هلك قبل سكون النفار بآفة سماوية، فلا ضمان على الاصح، إذ لم يتلف بسببه ولا في يده. ووجه الثاني: استدامة أثر النفار. الرابعة: لو حفر المحرم بئرا حيث كان، أو حفرها حلال في الحرم في محل عدوان، فهلك فيها صيد، لزمه الضمان. ولو حفرها في ملكه أو في موات، فثلاثة أوجه. أصحها: يضمن في الحرم دون الاحرام. قلت: وقيل: إن حفرها للصيد، ضمن، وإلا، فلا، واختاره صاحب الحاوي. والله أعلم. فرع لو دل الحلال محرما على صيد فقتله، وجب الجزاء على المحرم، ولا ضمان على الحلال، سواء كان في يده، أم لا، لكنه يأثم.

(2/423)


ولو دل المحرم حلالا على صيد فقتله، فإن كان في يد المحرم، لزمه الجزاء، لانه ترك حفظه وهو واجب، فصار كالمودع إذا دل السارق، وإلا، فلا جزاء على واحد منهما. ولو أمسك محرم صيدا حتى قتله غيره، فإن كان القاتل حلالا، وجب الجزاء على المحرم وهل يرجع به على الحلال ؟ وجهان. قال الشيخ أبو حامد: لا، لانه غير حرام عليه. وقال القاضي أبو الطيب: نعم، وبه قطع في التهذيب كما لو غصب شيئا فإتلفه إنسان في يده. قلت: الاصح: الاول، لانه غير مضمون في حقه بخلاف شيئا فأتلفه إنسان في يد المغصوب. والله أعلم. وإن كان محرما أيضا، فوجهان. أصحهما: الجزاء كله على القاتل. والثاني: عليهما نصفين. وقال صاحب العدة: الاصح: أن الممسك يضمنه باليد، والقاتل بالاتلاف. فإن أخرج الممسك الضمان، رجع به على المتلف، وإن أخرج المتلف، لم يرجع على الممسك. قلت: قال صاحب البحر: لو رمى حلال صيدا، ثم أحرم، ثم أصابه، ضمنه على الاصح. ولو رمى محرم ثم تحلل، بأن قصر شعره، ثم أصابه، فوجهان. ولو رمى صيدا، فنفذ منه إلى صيد آخر، فقتلهما، ضمنهما. والله أعلم. الجهة الثالثة: اليد. فيحرم على المحرم إثبات اليد على الصيد ابتداء، ولا يحصل به الملك، وإذا أخذه، ضمنه كالغاصب. بل لو حصل التلف بسبب في يده، بأن كان راكب دابة، فتلف صيد بعضها، أو رفسها، أو بالت في الطرق،

(2/424)


فزلق به صيد فهلك، لزمه الضمان. ولو انفلت بعيره فأتلف صيدا، فلا شئ عليه. نص على هذا كله. ولو تقدم ابتداء اليد على الاحرام، بأن كان في يده صيد مملوك له، لزمه إرساله على الاظهر. والثاني: لا يلزمه. وقيل: لا يلزمه قطعا، بل يستحب. فإن لم نوجب الارسال، فهو لى ملكه، له بيعه وهبته، لكن لا يجوز له قتله. فإن قتله، لزمه الجزاء. كما لو قتل عبده، تلزمه الكفارة. ولو أرسله غيره، أو قتله، لزمه قيمته للمالك، ولا شئ على المالك. وإن أوجبنا الارسال، فهل يزول ملكه عنه ؟ قولان. أظهرهما: يزول. فعلى هذا، لو أرسله غيره، أو قتله، فلا شئ عليه. ولو أرسله المحرم، فأخذه غيره، ملكه. ولو لم يرسله حتى تحلل، لزمه إرساله على الاصح المنصوص. وحكى الامام على هذا القول وجهين: في أنه يزول ملكه بنفس الاحرام، أم الاحرام يوجب عليه الارسال، فإذا أرسل، زال حينئذ ؟ وأولهما: أشبه بكلام الجمهور. وإن قلنا: لا يزول ملكه، فليس لغيره أخذه، فلو أخذه، لم يملكه. ولو قتله، ضمنه. وعلى القولين: لو مات في يده بعد إمكان الارسال، لزمه الجزاء، لانهما مفرعان على وجوب الارسال، وهو مقصر بالامساك. ولو مات الصيد قبل إمكان الارسال، وجب الجزاء على الاصح. ولا يجب تقديم الارسال على الاحرام بلا خلاف. فرع لو اشترى المحرم صيدا، أو اتهبه، أو أوصي له به، فقبل، فهو مبني على ما سبق. فإن قلنا: يزول ملكه عن الصيد بالاحرام، لم يملكه بهذه الاسباب، وإلا، ففي صحة الشراء والهبة قولان، كشراء الكافر عبدا مسلما فإن لم نصحح هذه العقود، فليس له القبض. فإن قبض فهلك في يده، لزمه الجزاء، ولزمه القيمة للبائع. فإن رده عليه، سقطت القيمة، ولم يسقط ضمان

(2/425)


الجزاء إلا بالارسال. وإذا أرسل، كان كمن اشترى عبدا مرتدا فقتل في يده. وفيمن يتلف من ضمانه، خلاف موضعه كتاب البيع. قلت: كذا ذكر الامام الرافعي هنا، أنه إذا هلك في يده، ضمنه بالقيمة للآدمي مع الجزاء، وهذا في الشراء صحيح، أما في الهبة، فلا يضمن القيمة على الاصح، لان العقد الفاسد كالصحيح في الضمان، والهبة غير مضمونة، وقد ذكر الرافعي هذا الخلاف في كتاب الهبة: وسيأتي إن شاء الله تعالى. والله أعلم. فرع لو مات للمحرم قريب يملك صيدا، ورثه على المذهب. وقيل: هو كالشراء. فإن قلنا: يرث، قال الامام، والغزالي: يزول ملكه عقب ثبوته، بناء على أن الملك زول عن الصيد بالاحرام. وفي التهذيب وغيره، خلافه. لانهم قالوا: إذا ورثه، لزمه إرساله. فإن باعه، صح بيعه ولا يسقط عنه ضمان الجزاء. حتى لو مات في يد المشتري، وجب الجزاء على البائع. وإنما يسقط عنه، إذا أرسله المشتري. وإن قلنا: لا يرث، فالملك في الصيد لباقي الورثة. وإحرامه بالنسبة إلى الصيد، مانع من موانع الارث، كذا قاله في التتمة. وقال الشيخ أبو القاسم الكرخي على هذا الوجه: إنه أحق به، فيوقف حتى يتحلل فيتملكه. قلت: هذا المنقول عن أبي القاسم الكرخي، هو الصحيح، بل الصواب المعروف على المذهب، وبه قطع الاصحاب في الطريقين. فممن صرح به الشيخ أبو حامد، والدارمي وأبو علي البندنيجي، والمحاملي في كتابيه، والقاضي أبو الطيب في المجرد، وصاحب الحاوي، والقاضي حسين، وصاحبا العدة والبيان. قال الدارمي: فإن مات الوارث قبل تحلله، قام وارثه مقامه. والله أعلم. فرع لو اشترى صيدا، فوجده معيبا وقد أحرم البائع، فإن قلنا: يملك الصيد بالارث، رده عليه، وإلا، فوجهان، لان منع الرد إضرار بالمشتري. ولو باع صيدا وهو حلال،، فأحرم ثم أفلس المشتري بالثمن، لم يكن له الرجوع على

(2/426)


الاصح كالشراء، بخلاف الارث، فإنه قهري. فرع لو استعار المحرم صيدا، أو أودع عنده، كان مضمونا عليه بالجزاء، وليس له التعرض له. فإن أرسله، سقط عنه الجزاء وضمن القيمة للمالك. فإن رد إلى المالك، لم يسقط عنه الجزاء ما لم يرسله المالك. قلت: نقل صاحب البيان في باب العارية، عن الشيخ أبي حامد: أن المحرم إذا استودع صيدا لحلال، فتلف في يده، لم يلزمه الجزاء، لانه لم يمسكه لنفسه. والله أعلم. فرع حيث صار الصيد مضمونا على المحرم بالجزاء، فإن قتله حلال في يده، فالجزاء على المحرم. وإن قتله محرم آخر، فهل الجزاء عليهما، أم على القاتل ومن في يده طريق ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم. فرع لو خلص المحرم صيدا من فم سبع، أو هرة، أو نحوهما، وأخذه ليداويه ويتعهده، فمات في يده، لم يضمن على الاظهر. فرع الناسي، كالعامد في وجوب الجزاء، ولا أثم. وقيل: في وجوب الجزاء عليه قولان. والمذهب: الوجوب. ولو أحرم ثم جن، فقتل صيدا،

(2/427)


ففي وجوب الجزاء قولان نص عليهما. قلت: أظهرهما: لا تجب. والله أعلم. فرع لو صال صيد على محرم، أو في الحرم، فقتله دفعا، فلا ضمان، ولو ركب إنسان صيدا، وصال على محرم، ولا يمكنه دفعه إلا بقتل الصيد، فقتله، فالمذهب: وجوب الجزاء على المحرم، وبه قطع الاكثرون، لان الاذى ليس من الصيد. وحكى الامام أن القفال ذكر فيه وجهين. أحدهما: الضمان على الراكب، ولا يطالب به المحرم. والثاني: يطالب المحرم، ويرجع بما غرم على الراكب. فرع لو ذبح صيدا في مخمصة وأكله، ضمن، لانه أهلكه لمنفعته من غير إيذاء من الصيد. ولو أكره محرم على قتل صيد، فقتله، فوجهان. أحدهما: الجزاء على الآمر. والثاني: على المحرم ويرجع به على الآمر، سواء صيد الحرم أو الاحرام. قلت: الثاني: أصح. والله أعلم. فرع ذكرنا أن الجراد وبيضه مضمونان بالقيمة. فلو وطئه عامدا أو جاهلا، ضمن. ولو عم المسالك ولم يجد بدا من وطئه، فوطئه، فالاظهر: أنه لا ضمان. وقيل: لا ضمان قطعا، ولو باض صيد في فراشه ولم يمكنه رفعه إلا بالتعرض للبيض، ففسد بذلك، ففيه هذا الخلاف. فرع إذا ذبح المحرم صيدا، لم يحل له الاكل منه. وهل يحل لغيره، أم يكون ميتة ؟ فيه قولان. الجديد: أنه ميتة. فعلى هذا، إن كان مملوكا،

(2/428)


وجب مع الجزاء، قيمته للمالك. والقديم: لا يكون ميتة، فيحل لغيره. فإن كان مملوكا، لزمه مع الجزاء ما بين قيمته مذبوحا وحيا. وهل يحل له بعد زوال الاحرام ؟ وجهان. أصحهما: لا. وفي صيد الحرم إذا ذبح: طريقان. أصحهما: طرد القولين. والثاني: القطع بالمنع، لانه محرم على جميع الناس، وفي جميع الاحوال. قلت: قال صاحب البحر: قال أصحابنا: إذا كسر بيض صيد، فحكم البيض حكم الصيد إذا ذبحه، فيحرم عليه قطعا. وفي غيره، القولان. وكذا إذا كسره في الحرم. قال أصحابنا: وكذا لو قتل المحرم الجراد، قال: وقيل: يحل البيض لغيره قطعا، بخلاف الصيد المذبوح على أحد القولين، لان إباحته تقف على الذكاة، بخلاف البيض. وعلى هذا، لو بلعه إنسان قبل كسره، لم يحرم. وهذا اختيار الشيخ أبي حامد، والقاضي الطبري. قال الروياني: وهو الصحيح. والله أعلم. فصل في بيان الجزاء الصيد ضربان، مثلي، وهو ما له مثل من النعم، وغير مثلي. فالمثلي: جزاؤه على التخيير والتعديل، فيتخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين الحرم، إما بأن يفرق اللحم عليهم، وإما بأن يملكهم جملته مذبوحا. ولا يجوز أن يدفعه حيا، وبين أن يقوم المثل دراهم. ثم لا يجوز أن يتصدق بالدراهم، لكن إن شاء اشترى بها طعاما وتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوما حيث كان. وأما غير المثلي، ففيه قيمته، ولا يتصدق بها دراهم، بل يجعلها طعاما، ثم إن شاء تصدق به، وإن شاء صام عن كل مد يوما. فان انكسر مد في الضربين، صام يوما. فحصل من هذا أنه في المثلي مخير بين الحيوان، والطعام، والصيام وفي غيره مخير بين الطعام،

(2/429)


والصوم، هذا هو المذهب، والمقطوع به في كتب الشافعي والاصحاب. وروى أبو ثور قولا: أنها على الترتيب. وإذا لم يكن الصيد مثليا، فالمعتبر قيمته بمحل الاتلاف، وإلا، فقيمته بمكة ويومئذ، لان محل ذبحه مكة. فإذا عدل عن ذبحه، وجبت قمته بمحل الذبح. هذا نصه في المسألتين، وهو المذهب. وقيل: فيهما قولان. وحيث اعتبرنا محل الاتلاف، فللامام احتمالان، في أنه يعتبر في العدول إلى الطعام سعر الطعام في ذلك المكان، أم سعره بمكة ؟ والظاهر منهما: الثاني. فرع في بيان المثلي اعلم أن المثل ليس معتبرا على التحقيق، بل يعتبر على التقريب. وليس معتبرا في القيمة، بل في الصورة والخلقة. والكلام في الدواب ثم الطيور. أما الدواب: فما ورد فيه نص - أو حكم فيه صحابيان، أو عدلان من التابعين، أو من بعدهم - من النعم أنه مثل الصيد المقتول، اتبع، ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم. وقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضبع بكبش وحكمت الصحابة رضي الله عنهم في النعامة ببدنه، وفي حمار الوحش وبقرته، ببقرة، وفي الغزال، بعنز، وفي الارنب، بعناق، وفي اليربوع بجفرة. وعن عثمان رضي الله عنه: أنه حكم في

(2/430)


أم حبين بحلان. وعن عطاء، ومجاهد: أنهما حكما في الوبر بشاة. قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن كانت العرب تأكله، ففيه جفرة، لانه ليس أكبر بدنا منها. وعن عطاء: في الثعلب شاة. وعن عمر رضي الله عنه: في الضب جدي. وعن بعضهم: في الابل، بقرة. أما العناق: فالانثى من المعز من حين تولد، إلى حين ترعى. والجفرة: الانثى من ولد المعز تفطم وتفصل عن أمها، فتأخذ في الرعي، وذلك بعد أربعة أشهر. والذكر جفر، هذا معناها في اللغة. لكن يجب، أن يكون المراد بالجفر هنا، ما دون العناق، فإن الارنب، خير من اليربوع. أما أم حبين، فدابة على خلقة الحرباء عظيمة البطن. الارنب، خير من اليربوع وفي حل أكلها، خلاف مذكور في الاطعمة. ووجوب الجزاء، يخرج على الخلاف. وأما الحلان، ويقال الحلام. فقيل: هو الجدي. وقيل: الخروف. ووقع في بعض كتب الاصحاب: في الظبي كبش. وفي الغزال عنز. وكذا قاله أبو القاسم الكرخي، وزعم أن الظبي: ذكر الغزلان، وأن الانثى غزال. قال الامام: هذا وهم، بل الصحيح: أن في الظبي عنزا، وهو شديد الشبه بها، فإنه أجرد الشعر، متقلص الذنب. وأما الغزال، فولد الظبي، فجب فيه ما يجب في الصغار. قلت: قول الامام، هو الصواب. قال أهل اللغة: الغزال: ولد الظبية إلى حين يقوى ويطلع قرناه، ثم هي ظبية، والذكر: ظبي. والله أعلم. هذا بيان ما فيه حكم. أما ما لانقل فيه عن السلف، فيرجع فيه إلى قول عدلين فقيهين فطنين. وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد أحد الحكمين، أو يكون قاتلاه الحكمين ؟ نظر، إن كان القتل عدوانا، فلا، لانه يفسق. وإن كان خطأ، أو

(2/431)


مضطرا إليه، جاز على الاصح، ولو حكم عدلان أن له مثلا، وعدلان أن لا مثل له، فهو مثلي. قلت: ولو حكم عدلان بمثل، وعدلان بمثل آخر، فوجهان في الحاوي والبحر. أصحهما: يتخير. والثاني: يلزمه الاخذ بأعظمهما، وهما مبنيان على اختلاف المفتيين. والله أعلم. وأما الطيور فحمام وغيره. فالحمامة، فيها شاة وغيرها إن كان أصغر منها جثة، كالزرزور، والصعوة، والبلبل، والقبرة، والوطواط ففيه القيمة. وإن كان أكبر من الحمام، أو مثله، فقولان. الجديد، وأحد قولي القديم: الواجب القيمة. والثاني: شاة، والمراد بالحمام: كل ما عب في الماء، وهو أن يشربه جرعا، وغير الحمام يشرب قطر قطرة. وكذا نص الشافعي رضي الله عنه في عيون المسائل، ولا حاجة في وصف الحمام، إلى ذكر الهدير مع العب، فإنهما متلازمان. ولهذا اقتصر الشافعي رضي الله عنه على العب، ويدخل في اسم الحمام، اليمام التي تألف البيوت، والقمري، والفاختة، والدبسي، والقطاة. فرع يفدى الكبير من الصيد بالكبير من مثله من النعم، والصغير بالصغير، والمريض بالمريض، والمعيب بالمعيب، إذا اتحد جنس العيب، كالعور والعور. وإن اختلف، كالعور والجرب، فلا. وإن كان عور أحدهما في اليمين، والآخر في اليسار، ففي إجزائه، وجهان. الصحيح: الاجزاء، وبه قطع العراقيون، لتقاربهما. ولو قابل المريض بالصحيح، أو المعيب بالسليم، فهو

(2/432)


أفضل. وإن فدى الذكر بالانثى، فطرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: الاجزاء. والطريق الثاني: القطع بالجواز. والثالث: إن أراد الذبح، لم يجز. وإن أراد التقويم، جاز، لان قيمة الانثى أكثر، ولحم الذكر أطيب. والرابع: إن لم تلد الانثى، جاز، وإلا، فلا. فإن جوزنا الانثى فهل هي أفضل ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: تفضيل الذكر، للخروج من الخلاف. والله أعلم. وإن فدى الانثى بالذكر، فوجهان. وقيل: قولان قلت: أصحهما الاجزاء، وصححه البندنيجي. والله أعلم. فإذا تأملت ما ذكرنا من كلام الاصحاب، وجدتهم طاردين الخلاف مع نقص اللحم. وقال الامام: الخلاف فيما إذا لم ينقص اللحم في القيمة ولا في الطيب، فإن كان واحد من هذين النقصين، لم يجز بلا خلاف. فرع لو قتل صيدا حاملا، قابلناه بمثله حاملا. ولا يذبح الحامل، بل يقوم لمثل حاملا ويتصدق بقيمته طعاما. وفيه وجه: أنه يجوز ذبح حائل نفيسة بقيمة حامل وسط، ويجعل التفاوت بينهما، كالتفاوت بين الذكر والانثى ولو ضرب بطن صيد حامل، فألقى جنبنا ميتا، نظر، إن ماتت الام أيضا، فهو كقتل الحامل، وإلا، ضمن ما نقصت الام، ولا يضمن الجنين، بخلاف جنين الامة، يضمن بعشر قيمة الام، لان الحمل يزيد في قيمة البهائم، وينقص الآدميات، فلا يمكن اعتبار التفاوت في الآدميات، وإن ألقت جنينا حيا، ثم ماتا، ضمن كل واحد منهما بانفراده. وإن مات الولد وعاشت الام، ضمن الولد بانفراد، وضمن نقص الام. فرع قال الشافعي رحمه الله في المختصر: إن جرح ظبيا نقص عشر

(2/433)


قيمته، فعليه عشر قيمة شاة. وقال المزني تخريجا عليه: عشر شاة. قال جمهور الاصحاب: الحكم ما قاله المزني، وإنما ذكر الشافعي القيمة، لانه قد لا يجد شريكا في ذبح شاة، فأرشده إلى ما هو أسهل، فإن جزاء الصيد على التخيير. فعلى هذا، هو مخير، إن شاء أخرج العشر، وإن شاء صرف قيمته في طعام وتصدق به، وإن شاح صام عن كل مد يوما. ومنهم من جرى على ظاهر النص وقال: الواجب عشر القيمة. وجعل في المسألة قولين: المنصوص، وتخريج المزني. فعلى هذا إذا قلنا بالمنصوص، فأوجه، أصحها: تتعين الصدقة بالدراهم. والثاني، لا تجزئه الدراهم، بل يتصدق بالطعام، أو يصوم. والثالث: يتخير بين عشر المثل، وبين إخراج الدراهم. والرابع: إن وجد شريكا في الدم، أخرجه ولم تجزئه الدراهم، وإلا، أجزأته. هذا في الصيد المثلي. وأما غير المثلي، فالواجب ما نقص من قيمته قطعا. قلت: لو قتل نعامة فأراد أن يعدل عن البدنة إلى بقرة، أو سبع شياه، لم يجز على الاصح ذكره في البحر. والله أعلم. فرع لو جرح صيدا، فاندمل جرحه وصار زمنا، فوجهان. أصحهما: يلزمه جزاء كامل، كما لو أزمن عبدا، لزمه كل قيمته. والثاني: أرش النقص. وعلى هذا، يجب قسط من المثل، أو من قيمة المثل ؟ فيه الخلاف السابق في الفرع قبله. ولو جاء محرم آخر، فقتله بعد الاندمال، أو قبله، فعليه جزاؤه زمنا، ويبقي الجزاء على الاول بحاله. وقيل: إن أوجبنا جزاء كاملا، عاد هنا إلى قدر النقص، لانه يبعد إيجاب جزاءين لمتلف واحد. ولو عاد المزمن فقتله، نظر، إن قتله قبل الاندمال، لزمه جزاء واحد. كما لو قطع يدي رجل ثم قتله، فعليه دية. وفي وجه: أن أرش الطرف ينفرد عن دية النفس، فيجئ مثله هنا. وإن قتله بعد الاندمال، أفرد كل واحد بحكمه. ففي القتل جزاؤه زمنا، وفيما يجب بالازمان، الخلاف السابق. وإذا أوجبنا بالازمان جزاءا كاملا، وكان للصيد امتناعان، كالنعامة، تمتنع بالعدو وبالجناح، فأبطل أحد امتناعيه، فوجهان. أحدهما: يتعدد الجزاء، لتعدد الامتناع. وأصحهما: لا، لاتحاد الممتنع. وعلى هذا، فما الواجب ؟ قال الامام: الغالب على الظن، أنه يعتبر ما نقص، لان امتناع النعامة في

(2/434)


الحقيقة واحد، إلا أنه يتعلق بالرجل والجناح، فالزائل، بعض الامتناع. فرع جرح صيدا فغاب، ثم وجد ميتا ولم يدر أمات بجراحته أم بحادث فهل يلزمه جزاء كامل، أم أرش الجرح فقط ؟ قولان. قلت: أظهرهما: الثاني. والله أعلم. فرع إذا اشترك محرمون في قتل صيد، حرمي أو غيره، لزمهم جزاء واحد. ولو قتل القارن صيدا، لزمه جزاء واحد. وكذا لو ارتكب محظورا آخر، فعليه فدية واحدة. ولو اشترك محرم وحلال في قتل صيد، لزم المحرم نصف الجزاء، ولا شئ على الحلال. فرع قد سبق، أنه يحرم على المحرم أكل الصيد الذي ذبحه، وكذا يحرم عليه أكل ما اصطاده له حلال، أو بإعانته، أو بدلالته بلا خلاف. فإن أكل منه، فقولان. الجديد: لا جزاء عليه. والقديم: يلزمه القيمة بقدر ما أكل. ولو أكل المحرم ما ذبحه بنفسه، لم يلزمه لاكله بعد الذبح شئ آخر بلا خلاف، كما لا يلزمه في أكل صيد المحرم بعد الذبح شئ آخر. فرع يجوز للمحرم أكل صيد ذبحه الحلال إذا لم صده له، ولا كان بدلالته أو إعانته، ولا جزاء عليه قطعا. فصل صيد حرم مكة، حرام على المحرم والحلال. وبيان المحرم منه وما يجب به الجزاء وقدر الجزاء، يقاس بما سبق في صيد الاحرام. ولو أدخل حلال الحرم صيدا مملوكا، كان له إمساكه وذبحه والتصرف فيه كيف شاء كالنعم، لانه صيد حل. ولو رمى من الحل صيدا في الحرم، أو من الحرم صيدا في الحل، أو أرسل كلبا في الصورتين، أو رمى صيدا بعضه في الحل وبعضه في الحرم - والاعتبار بقوائمه لا بالرأس - أو رمى حلال إلى صيد فأحرم قبل أن يصيبه، أو رمى محرم إليه، فتحلل قبل أن يصيبه، لزمه الضمان في كل ذلك. قلت: هذا الذي ذكره، فيما إذا كان بعضه في الحرم، هو الاصح. وذكر

(2/435)


الجرجاني في المعاياة فيه ثلاثة أوجه. أحدها: لا يضمنه، لانه لم يكمل حرميا. والثاني: إن كان أكثره في الحرم، ضمنه، وإن كان أكثره في الحل، فلا. والثالث: إن كان خارجا من الحرم إلى الحل، ضمنه، وإن كان عكسه، فلا. والله أعلم. ولو رمى من الحل صيدا في الحل، فقطع السهم في مروره هواء الحرم، فوجهان. أحدهما: لا يضمن، كما لو أرسل كلبا في الحل على صيد في الحل، فتخطى طرف الحرم، فإنه لا يضمن. وأصحهما: يضمن، بخلاف الكلب، لان للكلب اختيارا، بخلاف السهم. ولهذا قال الاصحاب: لو رمى صيدا في الحل فعدا الصيد، فدخل الحرم، فأصابه السهم، وجب الضمان. وبمثله، لو أرسل كلبا، لا يجب. ولو رمى صيدا في الحل فلم يصبه، وأصاب صيدا في الحرم، وجب الضمان. وبمثله لو أرسل كلبا، لا يجب. ثم في مسألة إرسال الكلب وتخطيه طرف الحرم، إنما لا يجب الضمان إذا كان للصيد مفر آخر. فأما إذا تعين دخوله الحرم عند الهرب، فيجب الضمان قطعا، سواء كان المرسل عالما بالحال، أو جاهلا، غير أنه لا يأثم الجاهل. فرع لو أخذ حمامة في الحل، أو أتلفها، فهلك فرخها في الحرم، ضمنه، ولا يضمنها. ولو أخذ الحمامة من الحرم، أو قتلها، فهلك فرخها في الحل، ضمن الحمامة والفرخ جميعا، كما لو رمى من الحرم إلى الحل. ولو نفر صيدا حرميا، عامدا، أو غير عامد، تعرض للضمان. حتى لو مات بسبب التنفير بصدمة، أو أخذ سبع، لزمه الضمان. وكذا لو دخل الحل فقتله حلال، فعلى

(2/436)


المنفر الضمان. بخلاف ما لو قتله محرم، فإن الجزاء عليه، تقديما للمباشرة. فرع لو دخل الكافر الحرم، وقتل صيدا، لزمه الضمان. وقال صاحب المهذب: يحتمل أن لا يلزمه. فصل قطع نبات الحرم حرام، كاصطياد صيده. وهل يتعلق به الضمان ؟ قولان. أظهرهما: نعم. والقديم: لا. ثم النبات: شجر وغيره. أما الشجر، فيحرم التعرض بالقلع والقطع لكل شجر رطب غير مؤذ حرمي. فيخرج بقيد الرطب اليابس، فلا شئ في قطعه، كما لو قد صيدا ميتا نصفين. وبقيد غير مؤذ: العوسج، وكل شجرة ذات شوك، فإنها كالحيوان المؤذي، فلا يتعلق

(2/437)


بقطعها ضمان على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه اختاره صاحب التتمة: أنها مضمونة، لاطلاق الخبر، ويخالف الحيوان، فإنه يقصد بالاذية. ويخرج بقيد الحرمي أشجار الحل، فلا يجوز أن يقلع شجرة من أشجار الحرم، وينقلها إلى الحل، محافظة على حرمتها. ولو نقل، فعليه ردها، بخلاف ما لو نقل من بقعة من الحرم إلى أخرى، لا يؤمر بالرد. وسواء نقل أشجار الحرم، أو أغصانها، إلى الحل، أو إلى الحرم، ينظر، إن يبست، لزمه الجزاء. وإن نبتت في الموضع المنقول إليه، فلا جزاء عليه. فلو قلعها قالع، لزمه الجزاء إبقاء لحرمة الحرم. ولو قلع شجرة من الحل وغرسها في الحرم فنبتت، لم يثبت لها حكم الحرم، بخلاف الصيد يدخل الحرم، فيجب الجزاء بالتعرض له، لان الصيد ليس بأصل ثابت، فاعتبر مكانه. والشجر أصل ثابت، فله حكم منبته. حتى لو كان أصل الشجرة في الحرم، وأغصانها في الحل، فقطع من أغصانها شيئا، وجب الضمان للغصن. ولو كان عليه صيد فأخذه، فلا ضمان. وعكسه: لو كان أصلها في الحل، وأغصانها في الحرم، فقطع غصنا منها، فلا شئ عليه. ولو كان عليه صيد فأخذه، لزمه ضمانه. قلت: قال صاحب البحر: لو كان بعض أصل الشجرة في الحل، وبعضه في الحرم، فلجميعها حكم الحرم. قال بعض أصحابنا: لو انتشرت أغصان الشجرة الحرمية، ومنعت الناس الطريق، أو آذتهم، جاز قطع المؤذي منها. والله أعلم. فرع إذا أخذ غصنا من شجرة حرمية، ولم يخلف، فعليه ضمان النقصان، وسبيله سبيل جرح الصيد. وإن أخلف في تلك السنة لكون الغصن لطيفا، كالسواك، وغيره، فلا ضمان. وإذا أوجبنا الضمان، فنبت وكان المقطوع مثله، ففي سقوط الضمان قولان، كالقولين في السن إذا نبت بعد القلع.

(2/438)


فرع يجوز أخذ أوراق الاشجار، لكن لا يخبطها، مخافة من أن يصيب قشورها. فرع يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة، وإن شاء ببدنة، وما دونها بشاة، والمضمونة بشاة ما كانت قريبة من سبع الكبيرة، فإن صغرت جدا، فالواجب القيمة. ثم ذلك كله على التعديل والتخيير كالصيد. فرع هل يعم التحريم والضمان من الاشجار، ما ينبت بنفسه، وما يستنبت، أم يختص بالضرب الاول ؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما عند العراقيين والاكثرين من غيرهم: التعميم. والثاني: التخصيص، وبه قطع الامام، والغزالي. والطريق الثاني: القطع بالتعميم. فإذا قلنا: بالتخصيص زاد قيد آخر، وهو كون الشجر مما ينبت بنفسه. وعلى هذا، يحرم الاراك والطرفاء وغيرهما من أشجار البوادي. وأدرج الامام فيه العوسج، لكنه ذو شوك، وقد سبق بيانه. ولا تحرم المستنبتات، مثمرة كانت، كالنخل والعنب، أو غير مثمرة، كالخلاف. وعلى هذا القول، لو نبت ما يستنبت أو عكسه، فالصحيح الذي قاله الجمهور: أن الاعتبار بالجنس، فيجب الضمان في الثاني دون الاول. وقيل: الاعتبار بالقصد، فينعكس. أما غير الاشجار، فكلا الحرم يحرم قطعه. فإن قلعه، لزمه القيمة، إن لم يخلف. فإن أخلف، فلا قيمة قطعا، لان الغالب هنا الاخلاف كسن الصبي. فلو كان يابسا، فلا شئ في قطعه كما سبق في الشجر. فلو قلعه، لزمه الضمان، لانه لو لم يقلع، لنبت ثانيا، ذكره في التهذيب. ويجوز تسريح البهائم في حشيشه لترعى. ولو أخذ الحشيش لعلف البهائم، جاز على الاصح. ويستثنى من المنع، الاذخر، فإنه يجوز لحاجة السقوف وغيرها، للحديث الصحيح.. ولو احتيج إلى شئ من نبات الحرم للدواء، جاز قطعه على الاصح.

(2/439)


فرع يكره نقل تراب الحرم وأحجاره إلى سائر البقاع، ولا يكره نقل ماء زمزم. قال الشيخ أبو الفضل بن عبدان: ولا يجوز قطع شئ من ستر الكعبة، ونقله، وبيعه، وشراؤه، خلاف ما تفعله العامة، يشترونه من بني شيبة، وربما وضعوه في أوراق المصاحف. ومن حمل منه شيئا، لزمه رده. قلت: الاصح: أنه لا يجوز إخراج تراب الحرم، ولا أحجاره إلى الحل. ويكره إدخال تراب الحل وأحجاره الحرم. وبهذا قطع صاحب المهذب والمحققون من أصحابنا. وأما ستر الكعبة، فقد قال الحليمي، رحمه الله، أيطا: لا ينبغي أن يؤخذ منها شئ. وقال صاحب التلخيص: لا يجوز بيع أستار الكعبة. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله بعد أن ذكر قول ابن عبدان والحليمي: الامر فيها إلى الامام، يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء، واحتج بما رواه الازرقي صاحب كتاب مكة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان ينزع كروة البيت كل سنة، فيقسمها على الحاج. وهذا الذي اختاره الشيخ، حسن متعين، لئلا يتلف بالبلى، وبه قال ابن عباس، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنهم قالوا: ويلبسها من صارت إليه من جنب وحائض وغيرهما. ولا يجوز أخذ طيب الكعبة، فإن أراد التبرك، أتى بطيب من عنده فمسحها به، ثم أخذه. والله أعلم. فصل لا يتعرض لصيد حرم المدينة وشجره، وهو حرام على المذهب. وحكي قول ووجه: أنه مكروه. فإذا حرمناه، ففي الضمان قولان. الجديد: لا يضمن. والقديم: يضمن. وفي ضمانه وجهان. أحدهما: كحرم مكة. وأصحهما: أخذ سلب الصائد وقاطع الشجر. وفي المراد بالسلب: وجهان. الصحيح وبه قطع الاكثرون: كسلب القتيل من الكفار. والثاني: ثيابه

(2/440)


فقط. وفي مصرفه: أوجه. الصحيح: أنه للسالب كالقتيل. والثاني: لفقراء المدينة. والثالث: لبيت المال. واعلم أن ظاهر الحديث، وكلام الائمة: أنه يسلب إذا اصطاد، ولا يشترط الاتلاف. وقال إمام الحرمين: لا أدري أيسلب إذا أرسل الصيد، أم لا يسلب حتى يتلفه ؟ قلت: ذكر صاحب البحر وجهين: في أنه هل يترك للمسلوب من ثيابه ما يستر عورته ؟ واختار: أنه يترك، وهو قول صاحب الحاوي، وهو الاصوب. والله أعلم. فصل وج: واد بصحراء الطائف، وصيده حرام على المذهب. وقيل: في تحريمه وكراهته خلاف. فعلى التحريم، قيل: حكمه في الضمان كحرم المدينة. والصحيح الذي قطع به صاحب التلخيص والاكثرون: أنه لا ضم فيه قطعا. فصل النقيع - بالنون وقيل: بالباء - ليس بحرم، ولكن حماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لابل الصدقة، ونعم الجزية، فلا يحرم صيده، لكن لا

(2/441)


تملك أشجاره ولا حشيشه. وفي وجوب ضمانهما على متلفهما، وجهان. أحدهما: لا، كصيده. وأصحهما: يجب، لانه ممنوع، بخلاف الصيد. فعلى هذا، ضمانهما بالقيمة، ومصرفهما مصرف نعم الجزية والصدقة. قلت: ينبغي أن يكون مصرفه بيت المال. والله أعلم. فصل المحظورات، تنقسم إلى استهلاك، كالحلق، وإلى استمتاع، كالطيب. وإذا باشر محظورين. فله أحوال. أحدها: أن يكون أحدهما استهلاكا، والآخر استمتاعا، فينظر، إن لم يستند إلى سبب واحد، كحلق الرأس، ولبس القميص، تعددت الفدية كالحدود المختلفة. وإن استند إلى سبب، كمن أصابت رأسه شجة واحتاج إلى حلق جوانبها وسترها بضماد فيه طيب، تعددت أيضا على الاصح. والثاني: تتداخل. الحال الثاني: أن يكونا استهلاكا، وهذا ثلاثة أضرب. أحدها: أن يكون مما يقابل بمثله، وهو الصيود فتعدد الفدية، سواء فدى عن الاول، أم لا، اتحد المكان، أو اختلف، وإلى بينهما، أو فرق، كضمان المتلفات. الضرب الثاني: أن يكون أحدهما مما يقابل بمثله، والآخر ليس مقابلا، كالصيد والحلق، فحكمه حكم الضرب الاول بلا خلاف. الضرب الثالث: أن لا يقابل واحد منهما، فينظر، إن اختلف نوعهما، كالحلق والقلم، تعددت، سواء فرق أو والى في مكان أو مكانين، بفعلين أم بفعل، كمن لبس ثوبا مطيبا، فإنه يلزمه فديتان. وفي هذه الصورة وجه ضعيف: أنه فدية واحدة.

(2/442)


قلت: الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أن من لبس ثوبا مطيبا وطلى رأسه بطيب ستره بكفيه، فعليه فدية واحدة، لاتحاد الفعل وتبعية الطيب. والله أعلم. وإن اتحد النوع، بأن حلق فقط، فقد سبق، أن حلق ثلاث شعرات، فيه فدية كاملة. ولو حلق جميع الرأس دفعة في مكان واحد، ففديه فقط. ولو حلق شعر رأسه وبدنه متواصلا، ففدية على الصحيح. وقال الانماطي: فديتان. ولو حلق رأسه في مكانين أو مكان، في زمانين متفرقين، فالمذهب: التعدد. وقيل: هو كما لو اتحد نوع الاستمتاع، واختلف المكان أو الزمان، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ولو حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة، أو ثلاثة أزمنة متفرقة، فإن قلنا: كل شعرة تقابل بثلث دم، فلا فرق بين حلقها دفعة أو دفعات. وإن قلنا: الشعرة بمد أو درهم، والشعرتان بمدين أو درهمين، بني على الخلاف الذي ذكرناه الآن. فإن لم نعدد الفدية فيما إذا حلق افرأس في دفعات، ولم نجعل لتفرق الزمان أثرا، فالواجب دم. وإن عددنا وجعلنا التفريق مؤثرا، قطعنا حكم كل شعرة عن الاخريين، وأوجبنا ثلاثة أمداد في قول، وثلاثة دراهم في قول. الحال الثالث: أن يكون استمتاعا. فإن اتحد النوع، بأن تطيب بأنواع من الطيب، أو ليس أنواعا، كالعمامة، والقميص، والسراويل، والخف، أو نوعا واحدا مرة بعد أخرى، نظر، إن فعل ذلك في مكان على التوالي، لم تتعدد الفدية، ولا يقدح في التوالي طول الزمان في مضاعفة القمص وتكوير العمامة. وإن فعل ذلك في مكانين، أو مكان، وتخلل زمان، نظر، إن لم يتخلل التكفير، فقولان. الجديد: يجب للثاني فدية أخرى. والقديم: يتداخل. فإن قلنا بالجديد فجمعهما سبب واحد، بأن تطيب، أو لبس مرارا لمرض واحد، فوجهان. أصحهما: التعدد. وإن تحلل، وجبت فدية أخرى بلا خلاف. فإن كان نوى بما أخرجه الماضي والمستقبل جميعا، بني على جواز تقديم الكفارة على الحنث المحظور. إن قلنا: لا يجوز، فلا أثر لهذه النية. وإن جوزناه، فوجهان. أحدهما: أن الفدية كالكفارة في جواز التقديم، فلا يلزمه للثاني شئ. والثاني:

(2/443)


المنع. أما إذا اختلف النوع، بأن لبس وتطيب، فالاصح: التعدد، وإن اتحد الزمان، والمكان، والسبب. والثاني: التداخل. والثالث: إن اتحد السبب، تداخل، وإلا، فلا. هذا كله في غير الجماع، فإن تكرر الجماع، فقد سبق حكمه. قلت: لا يتعدد الجزاء، بتعدد جهة التحريم إذا اتحد الفعل كما سبق في محرم قتل صيدا حرميا وأكله، لزمه جزاء واحد. ولو باشر امرأته مباشرة توجب شاة لو انفردت، ثم جامعها، ففي وجه: يكفيه البدنة عنهما. ووجه: تجب شاة وبدنة. ووجه: إن قصد بالمباشرة الشروع في الجماع، فبدنة، وإلا فشاة وبدنة. ووجه: إن طال الفصل، فشاة وبدنة، وإلا فبدنة. والاول: أصح. والله أعلم.
باب موانع إتمام الحج بعد الشروع فيه هي ستة نواع. الاول: الاحصار، فإذا أحصر العدو المحرمين عن المضي في الحج من جميع الطرق، كان لهم أن يتحللوا. فإن كان الوقت واسعا، فالافضل أن لا يعجل التحلل، فربما زال المنع فأتم الحج. وإن كان الوقت ضيقا، فالافضل تعجيل التحلل، لئلا يفوت الحج. ويجوز للمحرم بالعمرة، التحلل عند الاحصار. ولو

(2/444)


منعوا ولم يتمكنوا من المضي إلا ببذل مال، فلهم التحلل، ولا يبذلون المال وإن قل، بل يكره البذل إن كان الطالبون كفارا، لما فيه من الصغار. وإن احتاجوا إلى قتال ليسيروا، نظر، إن كان المانعون مسلمين، فلهم التحلل، ولا يلزمهم القتال وإن قدروا عليه. وإن كانوا كفارا، فقيل: يلزمهم قتالهم إن لم يزد عدد الكفار على الضعف. وقال إمام الحرمين: هذا الاطلاق ليس بمرضي، بل شرطه وجدانهم السلاح، وأهبة القتال. فإن وجدوا، فلا سبيل إلى التحلل. والصحيح الذي قاله الاكثرون: أنه لا يجب القتال، وإن كان في مقابلة كل مسلم أكثر من كافرين، لكن إن كان بالمسلمين قوة، فالاولى أن يقاتلوهم، نصرة للاسلام، وإتماما للحج. وإن كان بالمسلمين ضعف، فالاولى أن يتحللوا، وعلى كل حال لو قاتلوا، فلهم لبس الدروع والمغافر، وعليهم الفدية كمن لبس لحر أو برد. فرع ما ذكرناه من جواز التحلل بلا خلاف، هو فيما إذا منعوا المضي، دون الرجوع. فأما لو أحاط بهم العدو من الجوانب كلها، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: جواز التحلل أيضا. والثاني: لا، إذ لا يحصل به أمن. فصل ليس للمحرم التحلل بعذر المرض، بل يصبر حتى يبرأ. فإن كان محرما بعمرة، أتمها. وإن كان بحج وفاته، تحلل بعمل عمرة، لانه لا يستفيد بالتحلل زوال المرض، بخلاف المحصر. هذا إذا لم يشرط التحلل بالمرض. فإن شرط أنه إذا مرض تحلل، فطريقان. قال الجمهور: يصح الشرط في القديم. وفي الجديد: قولان. أظهرهما: الصحة. والثاني: المنع. والطريق الثاني قاله الشيخ أبو حامد وغيره: القطع بالصحة، لصحة الحديث فيه ولو شرط التحليل لغرض اخر، كضلال الطريق. وفراغ النفقة، والخطأ في

(2/445)


العدد، فهو كالمرض على المذهب. وقييل: لا يصح قطعا وحيث صححنا الشرط، فتحلل، فإن كان اشترط التحلل بالهدي، لزمه الهدي. وإن كان شرط التحلل بلا هدي، لم يلزمه الهدي. وإن أطلق، لم يلزمه على الاصح. ولو شرط أن يقلب حجه عمرة عند المرض، فهو أولى بالصحة من شرط التحلل، ونص عليه. ولو قال: إذا مرضت، فأنا حلال، فيصير حلالا بنفس المرض، أم لا بد من التحلل ؟ فيه وجهان. المنصوص: الاول فصل يلزم من تحلل بالاحصار، دم شاة إن لم يكن سبق منه شرط. فإن كان شرط عند إحرامه، أنه يتحلل إذا أحصر، ففي تأثير هذا الشرط في إسقاط الدم طريقان. أحدهما: على وجهين كما سبق فيمن تحلل بشرط المرض. وأصحهما: القطع بأنه لا يؤثر، لان التحلل بالاحصار جائز بلا شرط، فشرطه لاغ. فرع اختلف القول في أن دم الاحصار، هل له بدل وما بدله ؟ وهو على الترتيب، أم التخيير ؟ وسيأتي إيضاح هذا كله في الباب الآتي إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: لا بدل، وكان واجدا لدم، ذبحه، ونوى التحلل عنده. وإنما اشترطت النية، لان الذبح قد كون للتحلل ولغيره، فيشترط قصد صارف. وإن لم يجد الهدي لاعساره أو غير ذلك، فهل يتحلل في الحال، أم يتوقف التحلل على وجوده ؟ قولان. أظهرهما: التحلل في الحال، ولا بد من نية التحلل. وهل يجب الحلق ؟ إن قلنا: هو نسك، فنعم، وإلا، فلا. والحاصل: أنا إن اعتبرنا الذبح والحلق مع النية، فالتحلل بالثلاثة. وإن لم نعتبر الذبح، حصل بالنية مع الحلق على الاظهر، وبالنية وحدها على الآخر، وهو قولنا: الحلق ليس بنسك. وإن قلنا: لدم الاحصار بدل، فإن كان يطعم، توقف التحلل عليه، كتوقفه على

(2/446)


الذبح. وإن كان يصوم، فكذلك مع ترتب الخلاف. ومنع التوقف هنا أولى للمشقة في الصبر على الاحرام، لطول مدة الصوم. فرع لا يشترط بعث دم الاحصار إلى الحرم، بل يذبحه حيث أحصر ويتحلل، وكذا ما لزمه من دماء المحظورات قبل الاحصار، وما معه من هدي، ويفرق لحومها على مساكين ذلك الموضع. هذا إن صد عن الحرم. فإن صد عن البيت دون أطراف الحرم، فهل له الذبح في الحل ؟ وجهان. أصحهما: الجواز. المانع الثاني: الحصر الخاص الذي يتفق لواحد، أو شرذمة من الرفقة. فينظر، إن لم يكن المحرم معذورا فيه، كمن حبس في دين يتمكن من أدائه، فليس له التحلل، بل عليه أن يؤدي ويمضي في حجه. فإن فاته الحج في الحبس، لزمه أن يسير إلى مكة ويتحلل بعمل عمرة. وإن كان معذورا، كمن حبسه السلطان ظلما، أو بدين لا يتمكن من أدائه، جاز له التحلل على المذهب، وبه قطع العراقيون، وقال المراوزة: في جواز التحلل قولان. أظهرهما: الجواز. المانع الثالث: الرق. فإحرام العبد ينعقد بإذن سيده وبغير إذنه. فإن أحرم بإذنه، لم يكن له تحليله، سواء بقي نسكه صحيحا أو أفسده. ولو باعه والحالة هذه، لم يكن للمشتري تحليله، وله الخيار إن جهل إحرامه، فإن أحرم بغير إذنه، فالاولى أن يأذن له في إتمام نسكه. فإن حلله، جاز على المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى ابن كج وجها: أنه ليس له تحليله، لانه يلزمه بالشروع، تخريجا من أحد القولين في الزوجة إذا أحرمت بحج التطوع، وهذا شاذ منكر. قلت: قال الجرجاني في المعاياة: ولو باعه والحالة هذه،، فللمشتري تحليله كالبائع، ولا خيار له. والله أعلم. ولو أذن له في الاحرام، فله الرجوع قبل الاحرام. فإن رجع ولم يعلم العبد، فأحرم، فله تحليله على الاصح. ولو أذن له في العمرة، فأحرم بالحج، فله تحليله، ولو كان بالعكس، لم يكن له تحليله. قاله في التهذيب. وظني أنه لا يسلم عن الخلاف.

(2/447)


قلت: ذكر الدارمي في الصورتين وجهين، لكن الاصح قول صاحب التهذيب. والله أعلم. ولو أذن له في التمتع، فله منعه من الحج بعد تحلله من العمرة، وليس له تحليله عن العمرة، ولا عن الحج، بعد الشروع. ولو أذن في الحج أو التمتع، فقرن، لم يجز تحليله. ولو أذن أن يحرم في ذي القعدة، فأحرم في شوال، فله تحليله قبل دخول ذي القعدة، وبعد دخوله، فلا. وإذا أفسد العبد حجه بالجماع، لزمه القضاء. وهل يجزئه القضاء في الرق ؟ فيه قولان كما سبق في الصبي. فإن قلنا: يجزئ، لم يلزم السيد أن يأذن له فيه إن كان إحرامه الاول من غير إذنه، وكذا إن كان بإذنه على الاصح. وكل دم لزمه بفعل محظور، كاللباس، والصيد، أو بالفوات، لم يلزمه السيد بحال سواء أحرم بإذنه أم بغير إذنه. ثم العبد، لا ملك له حتى يتحلل بذبح. فإن ملكه السيد، فعلى القديم: يملك، فيلزم إخراجه. وعلى الجديد، لا يملك، ففرضه الصوم، وللسيد منعه منه في حال الرق إن كان أحرم بغير إذنه، وكذا بإذنه على الاصح، لانه لم يأذن في موجبه. ولو قرن، أو تمتع بغير إذن سيده، فحكم دم القران والتمتع حكم دماء المحظورات. وإن قرن أو تمتع بإذنه، فهل يجب الدم على السيد ؟ الجديد: أنه لا يجب. وفي القديم قولان، بخلاف ما لو أذن له في النكاح، فإن السيد يكون ضامنا للمهر على القديم قولا واحدا، لانه لا بدل للمهر، وللدم بدل، وهو الصوم، والعبد من أهله. وعلى هذا، لو أحرم بإذن السيد، فأحصر وتحلل، فإن قلنا: لا بدل لدم الاحصار، صار السيد ضامنا على القديم قولا واحدا. وإن قلنا: له بدل، ففي صيرورته ضامنا له في القديم، قولان. وإذا لم نوجب الدم على السيد، فالواجب على العبد الصوم، وليس لسيده منعه منه على الاصح، لاذنه في سببه. ولو ملك السيد هديا، وقلنا: يملكه، أراقه، وإلا، لم تجز إراقته. ولو أراقه السيد عنه فهو على هذين القولين. ولو أراق عنه بعد موته، جاز قولا واحدا، لانه حصل اليأس من تكفيره. والتمليك بعد الموت، ليس بشرط. ولهذا، لو تصدق عن ميت جاز. ولو عتق العبد قبل صومه ووجد هديا، فعليه الهدي إن اعتبرنا في الكفارة حال الاداء أو الاغلظ. وإن اعتبرنا حال الوجوب، فله الصوم. وهل له الهدي ؟ قولان. فرع حيث جوزنا للسيد تحليله، أردنا أنه يأمره بالتحلل، لا أنه يستقل بما

(2/448)


يحصل به التحلل، إذ غايته أن يستخدمه ويمنعه المضي، ويأمره بفعل المحظورات، أو يفعلها به، ولا يرتفع الاحرام بشئ من هذا. وإذا جاز للعبد تحليله، جاز للعبد التحلل. ثم إن ملكه السيد هديا، وقلنا: يملك، ذبح ونوى التحلل، أو حلق ونوى التحلل، وإلا فطريقان. أحدهما: أنه كالحر، فيتوقف تحلله على وجود الهدي، إن قلنا: لا بدل لدم الاحصار، أو على الصوم، إن قلنا: له بدل. كل هذا على أحد القولين. وعلى أظهرهما: لا يتوقف، بل يكفيه نية التحلل والحلق إن قلنا: نسك. والطريق الثاني، القطع بهذا القول الثاني. وهذا الطريق، هو الاصح عند الاصحاب، لعظم المشقة في انتظار العتق، ولان منافعه لسيده، وقد يستعمله في محظورات الاحرام. فرع أم الولد، والمدبر، والمعلق عتقه بصفة، ومن بعضه حر، كالقن. ولو أحرم المكاتب بغير إذن المولى، فقيل: في جواز تحليله قولان، كمنعه من سفر التجارة. وقيل: له تحليله قطعا، لان للسيد منفعة في سفر التجارة. فرع ينعقد نذر الحج من العبد وإن لم يأذن له السيد على الاصح، فيكون في ذمته. فلو أتى به في حال الرق، هل يجزئه ؟ وجهان. قلت: الاصح. يجزئه. والله أعلم. المانع الرابع: الزوجية. يستحب للمرأة أن لا تحرم بغير إذن زوجها،

(2/449)


ويستحب له الحج بها. فلو أرادت أداء فرض حجها، فللزوج منعها على الاظهر. والثاني: ليس له، بل لها أن تحرم بغير إذنه. ومنهم من قطع بهذا، والمذهب: الاول. ولو أحرمت بغير إذنه، إن قلنا: ليس له منعها، لم يملك تحليلها، وإلا، فيملكه على الاظهر. وأما حج التطوع، فله منعها منه. فإن أحرمت به، فله تحليلها على المذهب، وقييل: قولان. وحيث قلنا: يحللها. فمعناه: يأمرها به كما سبق في العبد. وتحللها كتحلل الحر المحصر سواء. ولو لم تتحلل، فللزوج أن يستمتع بها، والاثم عليها، كذا حكاه الامام عن الصيدلاني، ثم توقف فيه الامام. فرع لو كانت مطلقة، فعليه حبسها للعدة، وليس لها التحلل، إلا أن تكون رجعية، فيراجعها ويحللها. فرع الامة المزوجة، ليس لها الاحرام إلا بإذن الزوج والسيد جميعا. المانع الخامس: منع الابوين، فمن له أبوان، أو أحدهما، يستحب أن لا يحج إلا بإذنهما، أو بإذنه. ولكل منهما منعه من الاحرام بالتطوع على المذهب. وحكي فيه وجه شاذ. وهل لهما تحليله ؟ قولان سبق نظيرهما. وأما حج الفرض، فليس لهما منعه من الاحرام به على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: قولان كالزوجة، فإن أحرم به، فلا منع بحال، وحكي فيه وجه شاذ منكر. المانع السادس: الدين. فمن عليه دين حال وهو موسر، يجوز لمستحق الدين منعه من الخروج وحبسه. فإن أحرم، فليس له التحلل كما سبق، بل عليه قضاء الدين والمضي فيه. وإن كان معسرا، فلا مطالبة ولا منع، وكذا لا منع لو كان الدين مؤجلا، لكن يستحب أن لا يخرج حتى يوكل من يقضي الدين عند حلوله. فصل إذا تحلل المحصر، فإن كان نسكه تطوعا، فلا قضاء، وإلا، فإن لم يكن مستقرا كحجة الاسلام في السنة الاولى من سني الامكان، فلا حج عليه، إلا أن تجتمع شروط الاستطاعة بعد ذلك. وإن كان مستقرا كحجة الاسلام فيما بعد السنة الاولى من سني الامكان، وكالقضاء والنذر، فهو باق في ذمته. ثم ما ذكرناه من نفي القضاء، هو في الحصر العام. فأما الخاص، فالاصح: أنه كالعام. وقيل: يجب فيه القضاء.

(2/450)


فرع لو صد عن طريق، وهناك طريق آخر، نظر، إن تمكن من سلوكه، بأن وجد شرائط الاستطاعة فيه، لزمه سلوكه، سواء طال هذا الطريق، أم قصر، سواء رجا الادراك، أم خاف الفوات، أم تيقنه، بأن أحصر في ذي الحجة وهو بالعراق مثلا، فيجب المضي والتحلل بعمل عمرة، ولا يجوز التحلل بحال، وإذا سلكه كما أمرناه، ففاته الحج لطول الطريق الثاني، أو خشونته، أو غيرهما مما يحصل الفوات بسببه، لم يلزمه القضاء على الاظهر، لانه محصر، ولعدم تقصيره. والثاني: يلزمه كما لو سلكه ابتداء ففاته بضلال الطريق ونحوه. ولو استوى الطريقان من كل وجه، وجب القضاء قطعا، لانه فوات محض. وإن لم يتمكن من سلوك الطريق الآخر، فهو كالصد المطلق. ولو أحصر، فصابر الاحرام متوقعا زواله، ففاته الحج، والاحصار دائم، تحلل بعمل عمرة، وفي القضاء، طريقان. أصحهما: طرد القولين فيمن فاته لطول الطريق الثاني. والطريق الثاني: القطع بوجوب القضاء، فإنه تسبب بالمصابرة في الفوات. فرع لا فرق في جواز التحلل بالاحصار بين أن يتفق قبل الوقوف أو بعده، ولا بين الاحصار عن البيت فقط، أو عن الموقف فقط، أو عنهما. ثم إن كان قبل الوقوف، وأقام على إحرامه إلى أن فاته الحج، فإن أمكنه التحلل بالطواف والسعي، لزمه وعليه القضاء والهدي، للفوات. وإن لم يزل الحصر، تحلل بالهدي، وعليه مع القضاء هديان. أحدهما: للفوات، والآخر: للتحلل. وإن كان الاحصار بعد الوقوف، فإن تحلل، فذاك. وهل يجوز البناء لو انكشف الاحصار ؟ فيه الخلاف السابق. الجديد: لا يجوز. والقديم: يجوز. ويحرم إحراما ناقصا ويأتي ببقية الاعمال. وعلى هذا، لو لم يبن مع الامكان، وجب القضاء. وقيل: فيه وجهان. وإن لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت، فهو فيما يرجع إلى وجوب الدم لفواتهما، كغير المحصر. وبماذا يتحلل ؟ بني على أن الحلق نسك، أم لا ؟ وأن فوات زمن الرمي كالرمي، أم لا ؟ وقد سبق بيانهما. فإن قلنا: فوات وقت الرمي كالرمي، وقلنا: الحلق نسك، حلق وتحلل التحلل الاول. وإن قلنا: ليس بنسك، حصل التحلل الاول بمضي زمن الرمي، وعلى

(2/451)


التقديرين، فالطواف باق عليه. فمتى أمكنه طاف، فيتم حجه. ثم إذا تحلل بالاحصار الواقع بعد الوقوف، فالمذهب: أنه لا قضاء عليه، وبه قطع العراقيون. وحكى صاحب التقريب في وجوب القضاء قولين، وطردهما في كل صورة أتى فيها بعد الاحرام بنسك لتأكد الاحرام بذلك النسك. ولو صد عن عرفات ولم يصد عن مكة، فيدخل مكة ويتحلل بعمل عمرة. وفي وجوب القضاء قولان سبقا. فصل في حكم فوات الحج فواته بفوات الوقوف، وإذا فات تحلل بالطواف والسعى والحلق، والطواف لا بد منه قطعا. وكذا السعي على المذهب إن لم يكن سعي عقيب طواف القدوم. وفي قول: لا حاجة إلى السعي. ومنهم من أنكر هذا القول. وأما الحلق، فيجب إن قلنا: هو نسك، وإلا، فلا. ولا يجب الرمي والمبيت بمنى وإن بقي وقتهما. وقال المزني والاصطخري: يجب. ثم إذا تحلل بأعمال العمرة، لا ينقلب حجه عمرة، ولا يجزئه عن عمرة الاسلام. وفي وجه: ينقلب عمرة، وهو شاذ. ثم من فاته الحج، إن كان حجه فرضا، فهو باق في ذمته كما كان. وإن كان تطوعا، لزمه قضاؤه كما لو أفسده. وفي وجوب الفور في القضاء، الخلاف السابق في الافساد. ولا يلزمه قضاء عمرة مع الحج عندنا، ويلزم مع القضاء للفوات دم واحد، وفيه قول مخرج: أنه يلزمه دمان. أحدهما: للفوات. والآخر: لانه في معنى المتمتع من حيث أنه تحلل بين النسكين. ولا فرق بين أن يكون سبب الفوات مما يعذر فيه كالنوم، أم فيه تقصير.
باب الدماء
الدماء الواجبة في المناسك، سواء تعلقت بترك واجب، أو ارتكاب منهي،

(2/452)


إذا أطلقناها، أردنا شاة. فإن كان الواجب غيرها، كالبدنة في الجماع، نصصنا عليها. ولا يجزئ فيها جميعها إلا ما يجزئ في الاضحية، إلا في جزاء الصيد، فيجب المثل، في الصغير صغير، وفي الكبير كبير. وكل من لزمه شاة، جاز له ذبح بقرة أو بدنة مكانها، إلا في جزاء الصيد. وإذا ذبح بدنة أو بقرة مكان الشاة، فهل الجميع فرض حتى لا يجوز أكل شئ منها، أم الفرض سبعها حتى يجوز له أكل الباقي ؟ فيه وجهان. قلت: الاصح: أنه سبعها، صححه صاحب البحر وغيره. والله أعلم. ولو ذبح بدنة ونوى التصدق بسبعها عن الشاة الواجبة عليه، وأكل الباقي، جاز. وله أن ينحر البدنة عن سبع شياه لزمته. ولو اشترك جماعة في ذبح بدنة أو بقرة، وأراد بعضهم الهدي، وبعضهم الاضحية، وبعضهم اللخم، جاز، ولا يجوز أن يشترك اثنان في شاتين، لامكان الانفراد فصل في كيفية وجوب الدماء وما يقوم مقامها وفيه نظران. لامكان الانفراد أحدهما: النظر في أي دم يجب على الترتيب، وأي دم يجب على التخيير

(2/453)


وهاتان الصفتان متقابلتان، فمعنى الترتيب: أن يتعين عليه الذبح، ولا يجوز العدول إلى غيره، إلا إذا عجز عنه. ومعنى التخيير: أنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة. والنظر الثاني: في أنه، أي دم يجب على سبيل التقدير، وأي دم يجب على سبيل التعديل ؟ وهاتان الصفتان متقابلتان. فمعنى التقدير: أن الشرع قدر البدل المعدول إليه ترتيبا أو تخييرا بقدر لا يزيد ولا ينقص. ومعنى التعديل: أنه أمر فيه بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة. فكل دم بحسب الصفات المذكورة، لا يخلو من أحد أربعة أوجه. أحدها: الترتيب والتقدير. والثاني: الترتيب والتعديل. والثالث: التخيير والتقدير. والرابع: التخيير والتعديل. وتفصيلها بثمانية أنواع. أحدها: دم التمتع، وهو دم ترتيب وتقدير، كما ورد به نص القرآن العزيز. وقد سبق شرحه، وذكرنا أن دم القران في معناه. وفي دم الفوات، طريقان. أصحهما وبه قطع الجمهور: أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير وسائر الاحكام. والثاني: على قولين. أحدهما: هذا. والثاني: أنه كدم الجماع في الاحكام، إلا أن هذا شاة، والجماع بدنة، لاشترك الصورتين في وجوب القضاء. الثاني: جزاء الصيد، وهو دم تخيير وتعديل، ويختلف بكون الصيد مثليا أو غيره، وسبق إيضاحه. وجزاء شجر الحرم، كجزاء الصيد. وسبق حكاية قول عن رواية أبي ثور، أن دم الصيد على الترتيب، وهو شاذ. الثالث: دم الحلق والقلم، وهو دم تخيير وتقدير. فإذا حلق جميع شعره، أو ثلاث شعرات، يخير بين أن يذبح شاة، وبين أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين، وبين أن يصوم ثلاثة أيام. وإذا تصدق بالآصع، وجب أن يعطي كل مسكين نصف صاع. هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى في العدة وجها: أنه لا يتقدر ما يعطى كل مسكين. الرابع: الدم المنوط بترك المأمورات، كالاحرام من الميقات، والرمي

(2/454)


والمبيت بمزدلفة ليلة النحر، وبمنى ليالي التشريق، والدفع من عرفة قبل الغروب، وطواف الوداع. وفي هذا الدم أربعة أوجه. أصحها وبه قطع العراقيون وكثيرون من غيرهم: أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير. فإن عجز عن الدم، صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. والثاني: أنه ترتيب وتعديل، لان التعديل هو القياس، وإنما يصار إلى التقدير بتوقيف. فعلى هذا، يلزمه ذبح شاة. فإن عجز، قومها دراهم واشترى بها طعاما وتصدق به. فإن عجز، صام عن كل مد يوما. وإذا ترك حصاة، فقد ذكرنا أقوالا في أن الواجب مد، أو درهم، أو ثلث شاة ؟ فإن عجز، فالطعام، ثم الصوم على ما يقتضيه التعديل بالقيمة. والثالث: أنه دم ترتيب. فإن عجز، لزمه صوم الحلق. والرابع: دم تخيير وتعديل، كجزاء الصيد، وهذان الوجهان شاذان ضعيفان. الخامس: دم الاستمتاع، كالتطيب والادهان واللبس ومقدمات الجماع، فيه أربعة أوجه. الاصح: أنه دم تخيير، وتقدير، كالحلق، لاشتراكهما في الترفه. والثاني: تخيير وتعديل، كالصيد. والثالث: ترتيب وتعديل. والرابع: ترتيب وتقدير، كالتمتع. السادس: دم الجماع، وفيه طرق للاصحاب، واختلاف منتشر، المذهب منه: أنه دم ترتيب وتعديل، فيجب بدنة. فإن عجز عنها، فبقرة. فإن عجز، فسبعة من الغنم. فإن عجز، قوم البدنة بدراهم، والدراهم بطعام، ثم يتصدق به. فإن عجز، صام عن كل مد يوما. وقيل: إذا عجز عن الغنم، قوم البدنة وصام. فإن عجز، أطعم، فيقدم الصيام على الاطعام، ككفارة القتل ونحوها، وقيل: لا مدخل للاطعام والصيام هنا، بل إذا عجز عن الغنم، ثبت الهدي في ذمته إلى أن يجد تخريجا من أحد القولين في دم الاحصار. ولنا قول: وقيل وجه: أنه يتخير بين البدنة، والبقرة، والغنم. فإن عجز عنها، فالاطعام ثم الصوم. وقيل: يتخير بين البدنة، والبقرة، والسبع من الغنم، والاطعام، والصيام. السابع: دم الجماع الثاني، أو الجماع بين التحللين. وقد سبق الخلاف، أن واجبهما بدنة، أم شاة ؟ إن قلنا: بدنة، فهي في الكيفية كالجماع الاول قبل التحللين، وإلا، فكمقدمات الجماع.

(2/455)


الثامن: دم الاحصار، فمن تحلل بالاحصار، فعليه شاة، ولا عدول عنها إذا وجدها. وإن لم جدها، فهل له بدل ؟ قولان. أظهرهما: نعم، كسائر الدماء. والثاني: لا، إذ لم يذكر في القرآن بدله، بخلاف غيره. فإن قلنا بالبدل، ففيه أقوال. أحدها: بدله الاطعام بالتعديل. فإن عجز، صام عن كل مد يوما. وقيل: يتخير على هذا، بين صوم الحلق وإطعامه. والقول الثاني: بدله الاطعام فقط، وفيه وجهان. أحدهما: ثلاثة آصع، كالحلق. والثاني: يطعم ما يقتضيه التعديل. والقول الثالث: بدله الصوم فقط،، وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: عشرة أيام. والثاني: ثلاثة. والثالث: بالتعديل عن كل مد يوما. ولا مدخل للطعام على هذا القول، غير أنه يعتبر به قدر الصيام. والمذهب على الجملة: الترتيب والتعديل. فصل في بان زمان إراقة الدماء ومكانها أما الزمان: فالدماء الواجبة في الاحرام لارتكاب محظور أو ترك مأمور، لا تختص بزمان، بل تجوز في يوم النحر وغيره. وإنما تختص بيوم النحر والتشريق الضحايا، ثم ما سوى دم الفوات يراق في النسك الذي هو فيه. وأما دم الفوات، فيجوز تأخيره إلى سنة القضاء. وهل تجوز إراقته في سنة الفوات ؟ قولان. أظهرهما: لا، بل يجب تأخيره إلى سنة

(2/456)


القضاء. والثاني، نعم، كدماء الافساد. فعلى هذا، وقت الوجوب سنة الفوات. وإن قلنا بالاظهر، ففي وقت الوجوب وجهان. أصحهما: وقته إذا أحرم بالقضاء، كما يجب دم التمتع بالاحرام بالحج. ولهذا نقول: لو ذبح قبل تحلله من الفائت، لم يجزه على الصحيح كما لو ذبح المتمتع قبل الفراغ من العمرة، هذا إذا كفر بالدم، أما إذا كفر بالصوم، فإن قلنا: وقت الوجوب أن يحرم بالقضاء، لم يقدم صوم الثلاثة على القضاء، ويصوم السبعة إذا رجع، وإن قلنا: تجب بالفوات، ففي جواز صوم الثلاثة في حجة الفوات وجهان. ووجه المنع: أنه إحرام ناقص. وأما المكان، فالدماء الواجبة على المحرم ضربان. واجب على المحصر بالاحصار، أو بفعل محظور. وقد سبق بيانه في الاحصار. وواجب على غيره، فيختص بالحرم، ويجب تفريق لحمه على مساكين الحرم، سواء الغرباء الطارئون والمستوطنون، لكن الصرف إلى المستوطنين أفضل. وهل يختص ذبحه بالحرم ؟ قولان. أظهرهما: نعم. فلو ذبح في طرف الحل، لم يجزه. والثاني: يجوز ذبحه خارج الحرم، بشرط أن ينقل ويفرق في الحرم قبل تغير اللحم، وسواء في هذا كله دم التمتع والقران، وسائر ما يجب بسبب في الحل أو الحرم، أو بسبب مباح، كالحلق للادنى، أو بسبب محرم. وفي القديم قولان. ما أنشئ بسببه في الحل، يجوز ذبحه وتفرقته في الحل، كدم الاحصار. وفي وجه: ما وجب بسبب مباح، لا يختص ذبحه وتفرقته بالحرم. ووجه: أنه لو حلق قبل وصوله الحرم وذبح وفرق حيث حلق، جاز. وكل هذا شاذ ضعيف. وأفضل الحرم للذبح في حق الحاج، منى. وفي حق المعتمر، المروة، لانهما محل تحللهما. وكذا حكم ما يسوقانه من الهدي. قلت: قال القاضي حسين في الفتاوي: ولو لم يجد في الحرم مسكينا،

(2/457)


لم يجز نقل الدم إلى موضع آخر، سواء جوزنا نقل الزكاة، أم لا، لانه وجب لمساكين الحرم، كمن نذر الصدقة على مساكين بلد فلم يجدهم، يصبر إلى أن يجدهم، ولا يجوز نقلها، ويخالف الزكاة على قول، لانه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد، بها، بخلاف هذا. والله أعلم. فرع لو كان يتصدق بالاطعام بدلا عن الذبح، وجب تخصيصه بمساكين الحرم، بخلاف الصوم، يأتي به حيث شاء، إذ لا غرض للمساكين فيه. قلت: قال صاحب البحر: أقل ما يجزئ أن يدفع الواجب إلى ثلاثة من مساكين الحرم إن قدر. فإن دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث، ضمن. وفي قدر الضمان، وجهان. أحدهما: الثلث والثاني: أقل ما يقع عليه الاسم، وتلزمه النية عند التفرقة، قال: فإن فرق الطعام، فهل يتعين لكل مسكين مد كالكفارة، أم لا ؟ وجهان. الاصح: لا يتقيد، بل تجوز الزيادة على مد، والنقص منه. والثاني: لا يجوز أقل منه ولا أكثر. والله أعلم. فرع لو ذبح الهدي في الحرم، فسرق منه، لم يجزئه عما في ذمته، وعليه إعادة الذبح، وله شراء اللحم والتصدق به بدل الذبح. وفي وجه ضعيف: يكفيه التصدق بالقيمة. فصل الايام المعلومات: هن العشر الاول من ذي الحجة، آخرها يوم النحر. والايام المعدودات: أيام التشريق.
باب الهدي
يستحب لمن قصد مكة بحج أو عمرة، أن يهدي إليها شيئا من النعم، ولا يجب ذلك إلا بالنذر. وإذا ساق هديا تطوعا أو منذورا، فإن كان بدنة أو بقرة، استحب أن يقلدها نعلين، وليكن لهما قيمة ليتصدق بهما، وأن يشعرها أيضا، والاشعار الاعلام. والمراد هنا: أن يضرب صفحة سنامها الايمن بحديدة وهي مستقبلة القبلة فيدميها ويلطخها بالدم، ليعلم من رآها أنها هدي، فلا يتعرض لها.

(2/458)


وإن ساق غنما، استحب تقليدها بخرب القرب، وهي عراها وآذانها، لا بالنعل، ولا يشعرها. قلت: وفي الافضل مما يقدم من الاشعار والتقليد، وجهان. أحدهما: يقدم الاشعار، وقد صح فيه حديث في صحيح مسلم والثاني: يقدم التقليد، وهو المنصوص. وصح ذلك من فعل ابن عمر رضي الله عنهما. قال صاحب البحر: وإن قرن هديين في حبل، أشعر أحدهما في سنامه الايمن، والآخر في الايسر، ليشاهدا، وفيما قاله احتمال. والله أعلم. وإذا قلد النعم وأشعرها، لم تصر هديا واجبا على المشهور، كما لو كتب الوقف على باب داره. وإذا عطب الهدي في الطريق، فإن كان تطوعا، فعل به ما شاء من بيع أو أكل وغيرهما. وإن كان واجبا، لزمه ذبحه. فلو تركه حتى هلك ضمنه. وإذا ذبحه، غمس النعل التي قلده في دمه، وضرب بها سنامه، وتركه ليعلم من مر به أنه هدي، يأكل منه. وهل تتوقف الاباحة على قوله: أبحته لمن يأكل منه ؟ قولان. أظهرهما: لا تتوقف، لانه بالنذر زال ملكه وصار للمساكين. ولا يجوز للمهدي، ولا لاغنياء الرفقة، الاكل منه قطعا، ولا لفقراء الرفقة على الصحيح.

(2/459)


قلت: الاصح الذي يقتضيه ظاهر الحديث وقول الاصحاب: أن المراد بالرفقة: جميع القافلة. وحكى الروياني في البحر وجها استحسنه: أنهم الذين يخالطونه في الاكل وغيره، دون باقي القافلة. والله أعلم. وفي وقت ذبح الهدي، وجهان. الصحيح، أنه يختص بيوم النحر وأيام التشريق، كالاضحية. وبهذا قطع العراقيون وغيرهم. والثاني: لا يختص بزمن، كدماء الجبران. فعلى الاول، لو أخر الذبح حتى مضت مدة هذه الايام، فإن كان الهدي واجبا، ذبحه قضاء، وإن كان تطوعا، فقد فات. فإن ذبحه، قال الشافعي رحمه الله: كان شاة لحم. قلت: وإذا عطب هدي التطوع، فذبحه، قال صاحب الشامل وغيره: لا يصير مباحا للفقراء إلا بلفظه، وهو أن يقول: أبحته للفقراء أو المساكين. قال: ويجوز لمن سمعه الاكل. وفي غيره، قولان. قال في الاملاء: لا يحل حتى يعلم الاذن. وقال في القديم والام: يحل، وهو الاظهر. والله أعلم.

(2/460)