روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الحجر
هو نوعان. حجر شرع لغيره، وحجر لمصلحة نفسه. الاول: خمسة أضرب. حجر الراهن لحق المرتهن، وحجر المفلس لحق الغرماء، وحجر المريض للورثة، وحجر العبد لسيده، وكذا المكاتب لسيده ولله تعالى. وخامسها: حجر المرتد لحق المسلمين.

(3/408)


وهذه الاضرب خاصة لا تعم التصرفات، بل يصح من هؤلاء المحجورين، الاقرار بالعقوبات، وكثير من التصرفات، وهي مذكورة في أبوابها.

(3/410)


النوع الثاني: ثلاثة أضرب. أحدها: حجر المجنون، ويثبت بمجرد الجنون، ويرتفع بالافاقة، وتنسلب به الولايات واعتبار الاقوال كلها. ومن عامله، أو أقرضه، فتلف المال عنده، أو أتلفه، فمالكه هو المضيع. وما دام باقيا يجوز استرداده. والثاني: حجر الصبي. قال في التتمة: ومن له أدنى تمييز، ولم يكمل عقله، فهو كالصبي المميز. وتدبيره ووصيته، يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى. وقد سبق إذنه في الدخول وحمله الهدية. والثالث: حجر السفيه المبذر، والضرب الاول أعم من الثاني. والثاني أعم من الثالث. ومقصود الكتاب هذه الاضرب، والثالث معظم المقصود.
فصل فيما يزول به حجر الصبي قال جماعة: ينقطع حجر الصبي بالبلوغ رشيدا. ومنهم من يقول: حجر الصبي ينقطع بمجرد البلوغ، وليس هذا اختلافا محققا، بل من قال بالاول، أراد الاطلاق الكلي، ومن قال بالثاني، بالحجر أراد الحجر المخصوص بالصبي، وهذا أولى، لان الصبي سبب مستقل بالحجر، وكذلك التبذير. وأحكامهما متغايرة. ومن بلغ مبذرا، فحكم تصرفه حكم تصرف السفيه، لا حكم تصرف الصبي. فرع للبلوغ أسباب. منها مشترك بين الرجال والنساء، ومختص بالنساء. أما المشترك، فمنه السن. فإذا استكمل المولود خمسة عشرة سنة قمرية، فقد بلغ. وفي وجه: يبلغ بالطعن في الخامسة عشرة، وهو شاذ ضعيف.

(3/411)


السبب الثاني: خروج المني ويدخل وقت إمكانه باستكمال تسع سنين، ولا عبرة بما ينفصل قبلها، هذا هو الصحيح المعتمد. وفي وجه: إنما يدخل بمضي نصف السنة العاشرة. وفي وجه: باستكمال العاشرة. ولنا وجه: أن المني لا يكون بلوغ في النساء، لانه نادر فيهن. وعلى هذا، قال الامام: الذي يتجه عندي: أنه لا يلزمها الغسل. وهذا الوجه شاذ، وفيما قاله الامام نظر. السبب الثالث: إنبات العانة يقتضي الحكم بالبلوغ في الكفار. وهل هو حقيقة البلوغ، أم دليله ؟ قولان. أظهرهما: الثاني. فإن قلنا بالاول، فهو بلوغ في المسلمين أيضا. وإن قلنا بالثاني، فالاصح أنه ليس ببلوغ. قلت: إختلف أصحابنا فيما يفتى به في حق المسلمين، واختار الامام الرافعي في المحرر أنه لا يكون بلوغا. والله أعلم. ثم المعتبر شعر خشن يحتاج في إزالته إلى حلق، فأما الزغب والشعر الضعيف الذي قد يوجد في الصغر، فلا أثر له. وأما شعر الابط، واللحية، والشارب، فقيل: كالعانة. وقيل: لا أثر لها قطعا. وألحق صاحب التهذيب الابط بالعانة دون اللحية والشارب.

(3/412)


قلت: ويجوز منبت عانة من احتجنا إلى معرفة بلوغه بها للضرورة، هذا هو الصحيح. وقيل: تمس من فوق حائل. يلصق بها شمع ونحوه ليعتبر بلصوقه به وكلاهما خطأ، إذ يحتمل أنه حلقه، أو نبت شئ يسير. والله أعلم وأما ثقل الصوت، ونهود الثدي، ونتوء طرف الحلقوم وانفراق الارنبة، فلا أثر لها على المذهب. وطرد في التتمة فيها الخلاف. وأما ما يختص بالنساء، فاثنان. أحدهما: الحيض فهو لوقت الامكان، بلوغ. والثاني: الحبل، فإنه مسبوق بالانزال، لكن لا نستيقن الولد إلا بالوضع. فإذا وضعت، حكمنا بحصول البلوغ قبل الوضع بستة أشهر وشئ. فإن كانت مطلقة، وأتت بولد يلحق الزوج، حكمنا ببلوغها قبل الطلاق. فرع الخنثى المشكل، إذا خرج من ذكره ما هو بصفة المني، ومن فرجه ما هو بصفة الحيض، حكم ببلوغه على الاصح. لانه ذكر أمنى، أو أنثى حاضت. والثاني: لا للتعارض. وإن وجد أحد الامرين فقط، أو أمنى وحاض بالفرج، فقطع الجمهور بأنه ليس ببلوغ، لجواز أن يظهر من الفرج الآخر ما يعارضه. والحق، ما قاله الامام، أنه ينبغي أن يحكم ببلوغه بأحدهما، كما يحكم بذكورته وأنوثته. إن ظهر خلافه، غيرنا الحكم. قلت: قال صاحب التتمة إذا أنزل الخنثى من ذكره أو خرج الدم من فرجه مرة، لم يحكم ببلوغه. فإن تكرر، حكم به. وهذا الذي قاله حسن وإن كان غريبا. والله أعلم. فرع وأما الرشد، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: هو إصلاح الدين

(3/413)


والمال، والمراد بالصلاح في الدين: أن لا يرتكب محرما يسقط العدالة، وفي المال: أن لا يبذر. فمن التبذير تضييع المال بإلقائه في البحر، أو احتمال الغبن الفاحش في المعاملات ونحوها، وكذا الانفاق في المحرمات. وأما الصرف في الاطعمة النفيسة التي لا تليق بحاله، فقال الامام، والغزالي: هو تبذير. وقال الاكثرون: لا، لان المال يتخذ لينتفع فيه ويلتذ. وكذا القول في التجمل بالثياب الفاخرة، والاكثار من شراء الجواري، والاستمتاع بهن، وما أشبه ذلك. وأما الصرف إلى وجوه الخير، كالصدقات، وفك الرقاب، وبناء المساجد و المدارس، وشبه ذلك، فليس بتبذير، فلا سرف في الخير، كما لا خير في السر وقال الشيخ أبو محمد: إن بلغ الصبي وهو مفرط بالانفاق في هذه الوجوه، فهو مبذر. وإن عرض ذلك بعد بلوغه مقتصدا، لم يصر مبذرا، والمعروف للاصحاب ما سبق. وبالجملة التبذير على ما نقله معظم الاصحاب محصور في التضييعات وصرفه في المحرمات. فرع لا بد من اختبار الصبي ليعرف حاله في الرشد وعدمه. ويختلف

(3/414)


بطبقات الناس، فولد التاجر يختبر في البيع والشراء والمماكسة فيهما، وولد الزارع في أمر الزراعة والانفاق على القوام بها، والمحترف فيما يتعلق بحرفته، والمرأة في أمر القطن والغزل وحفظ الاقمشة وصون الاطعمة عن الهرة والفأرة وشبهها من مصالح البيت. ولا تكفي المرة الواحدة في الاختبار، بل لا بد من مرتين فأكثر بحيث يفيد غلبة الظن برشده. وفي وقت الاختبار. وجهان. أحدهما: بعد البلوغ. وأصحهما: قبله. وعلى هذا في كيفيته وجهان. أصحهما: يدفع إليه قدر من المال، ويمتحن في المماكسة والمساومة. فإذا آن الامر إلى العقد، عقد الولي. والثاني: يعقد الصبي ويصح منه هذا العقد للحاجة. ولو تلف في يده المال المدفوع إليه للاختبار، فلا ضمان على الولي. قلت: والصبي الكافر كالمسلم في هذا الباب، فيعتبر في صلاح دينه وماله ما هو صلاح عندهم، وصرح به القاضي أبو الطيب وغيره. والله أعلم.

(3/415)


فصل إن بلغ الصبي غير رشيد لاختلال صلاح الدين، أو المال، بقي محجورا عليه، ولم يدفع إليه المال. وفي التتمة وجه، أنه إن بلغ مصلحا لماله، دفع إليه وصح تصرفه فيه، وإن كان فاسقا. وإن بلغ مفسدا لماله، منع منه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، وهذا الوجه شاذ ضعيف، والصواب ما تقدم وعليه التفريع، فيستدام الحجر عليه، ويتصرف في ماله من كان يتصرف قبل بلوغه. وإن بلغ رشيدا، دفع إليه ماله. وهل ينفك الحجر بنفس البلوغ والرشد ؟ أم يحتاج إلى فك ؟ وجهان. أصحهما: الاول لانه لم يثبت بالحاكم، فلم يتوقف عليه، كحجر المجنون، يزول بنفس الافاقة. والثاني، يحتاج، فعلى هذا ينفك بالقاضي أو الاب، أو الجد. وفي الوصي والقيم وجهان. وعلى هذا لو تصرف قبل الفك، فهو كتصرف من أنشئ عليه الحجر بالسفه الطارئ بعد البلوغ. ويجري الوجهان في الاحتياج فيما لو بلغ غير رشيد، ثم رشد. وإذا حصل الرشد، فلا فرق بين الرجل والمرأة وبين أن تكون مزوجة أو غيرها. فرع لو عاد التبذير بعدما بلغ رشيدا، فوجهان. أحدهما: يعود الحجر عليه بنفس التبذير، كما لو جن. وأصحهما: لا يعود، لكن يعيده القاضي، ولا يعيده غيره على الصحيح. وقال أبويحيى البلخي: يعيده الاب والجد كما يعيده القاضي. ولو عاد الفسق دون التبذير، لم يعد الحجر قطعا، ولا يعاد أيضا على المذهب، لان الاولين لم يحجروا على الفسقة، بخلاف الاستدامة، لان الحجر كان ثابتا، فبقي. وإذا حجر على من طرأ عليه السفه، ثم عاد رشيدا، فإن قلنا: الحجر عليه لا يثبت إلا بحجر القاضي، لم يرتفع إلا برفعه. وإذا قلنا: يثبت بنفسه، ففي زواله الخلاف السابق فيمن بلغ رشيدا. وأما الذي يلي أمر من حجر عليه للسفه الطارئ، فهو القاضي إن قلنا: لا بد من حجر القاضي. وإن قلنا:

(3/416)


يصير محجورا بنفس السفه، فوجهان، كالوجهين فيما إذا طرأ عليه الجنون بعد البلوغ، أحدهما الاب، ثم الجد كحال الصغر، وكما لو بلغ مجنونا. والثاني: القاضي لان ولاية الاب زالت، فلا تعود. والاول أصح في صورة الجنون، والثاني أصح في صورة السفه. وأعلم أن الغزالي صرح في الوسيط والوجيز بأن عود التبذير وحده لا أثر له، وإنما المؤثر في عود الحجر أو إعادته عود الفسق والتبذير جميعا، وليس كما قال، بل الاصحاب متفقون على أن عود التبذير كاف في ذلك كما سبق. قلت: أما الوجيز فهو فيه كما نقله عنه، وكذا في أكثر نسخ الوسيط. وفي بعضها حذف هذه المسألة وإصلاحها على الصواب. وكذا وجد في أصل الغزالي، وقد ضرب على الاول وأصلحه على الصواب. والله أعلم. فرع لو كان يغبن في بعض التصرفات خاصة، فهل يحجر عليه حجر خاص في ذلك النوع ؟ وجهان، لبعد اجتماع الحجر بالسفه وعدمه في شخص. فرع الشحيح على نفسه جدا مع اليسار، في الحجر عليه لينفق بالمعروف وجهان، أصحهما: المنع.
فصل فيما يصح من تصرفات المحجور عليه بالسفه، وما لا يصح وفيه مسائل. الاولى: لا تصح منه العقود التي هي مظنة الضرر المالي، كالبيع، والشراء، والاعتاق، والكتابة، والهبة، والنكاح، وسواء اشترى بعين أو في الذمة.

(3/417)


وفي الشراء في الذمة وجه، أنه يصح تخريجا من العبد، وليس بشئ. وإذا باع وأقبض، استرد من المشتري، فإن تلف في يده، ضمن. ولو اشترى وقبض، أو استقرض فتلف المأخوذ في يده، أو أتلفه، فلا ضمان لان الذي أقبضه هو المضيع، ويسترد وليه الثمن إن كان أقبضه. وسواء كان من عامله عالما بحاله، أم جاهلا لتقصيره بالبحث عن حاله. ولا يجب على السفيه أيضا الضمان بعد فك الحجر، لانه حجر ضرب لمصلحته فأشبه الصبي، لكن الصبي لا يأثم، والسفيه يأثم لانه مكلف. وفي وجه، يضمن بعد فك الحجر إن كان أتلفه بنفسه، وهو شاذ. قلت: هذا إذا أقبضه البائع الرشيد. فأما إذا أقبضه السفيه بغير إذن البائع، أو أقبضه البائع، وهو صبي أو محجور عليه بسفه، فإنه يضمنه بالقبض قطعا، صرح به أصحابنا وفقهه ظاهر. والله أعلم. هذا كله إذا استقل بهذه التصرفات، فأما إذا أذن له الولي، فإن أطلق الاذن، فهو لغو وإن عين تصرفا وقدر العوض، فوجهان. أصحهما عند الغزالي: الصحة، كما لو أذن في النكاح، فإنه يصح قطعا، وإن كان بعضهم قد أشار إلى طرد الخلاف فيه. وأصحهما عند البغوي: لا يصح كما لو أذن للصبي. قلت: هذا الثاني أصح عند الاكثرين منهم، الجرجاني، والرافعي في المحرر وجزم به الروياني في الحلية. والله أعلم. ويجري الوجهان فيما لو وكله رجل بشئ من هذه التصرفات، هل يصح عقده للموكل، وفيما لو اتهب أو قبل الوصية لنفسه. قلت: الاصح: صحة إتهابه وبه قطع الجرجاني. والله أعلم. ولو أودعه إنسان شيئا فتلف عنده، فلا ضمان عليه. وإن أتلفه، فقولان كما لو أودع صبيا. المسألة الثانية: لو أقر بدين معاملة، لم يقبل سواء أسنده إلى ما قبل الحجر أو

(3/418)


بعده، كالصبي. وفيما إذا أسنده إلى ما قبل الحجر، وجه أنه يصح تخريجا من المفلس على قول، وليس شئ. ولو أقر بإتلاف أو جناية توجب المال، لم يقبل على الاظهر كدين المعاملة. ثم ما رددناه من إقراره لا يؤاخذ به بعد فك الحجر. ولو أقر بما يوجب حدا أو قصاصا، قبل. ولو أقر بسرقة توجب القطع قبل في القطع. وفي المال قولان كالعبد إذا أقر بالسرقة. هذا إن لم يقبل إقراره بالاتلاف. فإن قبلناه فهنا أولى. ولو أقر بقصاص وعفا المستحق على مال ثبت على الصحيح، لانه يتعلق باختيار غيره، لا بإقراره. ولو أقر بنسب، ثبت وينفق على الولد المستلحق من بيت المال. قلت: كذا قال الاصحاب في كل طرقهم: يقبل إقراره بالنسب، وينفق عليه من بيت المال قطعا. وشذ الروياني فقال في الحلية: يقبل إقراره بالنسب في أصح الوجهين، وينفق عليه من ماله، وهذا شاذ نبهت عليه لئلا يغتر به. ولو أقر بالاستيلاد، لم يقبل. والله أعلم. ومن ادعى عليه دين معاملة قبل الحجر وأقام بينة سمعت، فإن لم تكن بينة، وقلنا: النكول ورد اليمين كالبينة، سمعت، وإن قلنا: كالاقرار، فلا. الثالثة: يصح طلاقه وخلعه، وظهاره، ورجعته، ونفيه النسب باللعان، وشبه ذلك، إذ لا تعلق لها بالمال. ولو كان السفيه مطلقا مع حاجته إلى النكاح، سري بجارية فإن تضجر منها، أبدلت. الرابعة: حكمه في العبادات، كالرشيد، لكن لا يفرق الزكاة بنفسه.

(3/419)


ولو أحرم بغير إذن الولي، إنعقد إحرامه. فإن أحرم بحج تطوع، وزاد ما يحتاج إليه في سفره على نفقته المعهودة، ولم يكن له في طريقه كسب يفي بتلك الزيادة، فللولي منعه. ثم المذهب وبه قطع الاكثرون، أنه كالمحصر يتحلل بالصوم، إذا قلنا: لدم الاحصال بدل، لانه ممنوع من المال، ونقل الامام فيه وجهين: هذا، والثاني أن عجزه عن النفقة لا يلحقه بالمحصر، بل هو كالمفلس الفاقد للزاد والراحلة، لا يتحلل إلا بلقاء البيت. وإن لم يزد ما يحتاج إليه على النفقة المعهودة، أو كان يكتسب في الطريق ما يفي بالزيادة، لم يمنعه الولي، بل ينفق عليه من ماله، ولم يسلمه إليه، بل إلى ثقة لينفق عليه في الطريق. وإن أحرم بحجة مفروضة، كحجة الاسلا والنذر قبل الحجر، لم ينفق عليه الولي كما ذكرنا. قال في التتمة: وكالمنذورة بعد الحجر، كالنذورة قبله إن سلكنا بالنذر مسلك واجب الشرع، وإلا فهي كحجة التطوع. قلت: ولو أفسد حجة المفروض بالجماع، لزمه المضي فيه والقضاء. وهل يعطيه الولي نفقة القضاء ؟ وجهان. حكتهما الماوردي. والله أعلم. ولو نذر التصدق بعين مال، لم يصح. وفي الذمة ينعقد. ولو حلف،

(3/420)


انعقدت بيمينه ويكفر عند الحنث بالصوم كالعبد. قلت: وفيه وجه حكاه صاحب الحاوي، والقاضي حسين، والمتولي، أنه يلزمه التكفير بالمال، فيجب على الولي إخراج الكفارة من مال السفيه. قال ا لقاضي: فإن كثر حنثه، لزمه الكفارة، ولا يخرجها الولي، ولا يصح صومه، بل تبقى عليه حتى يعسر، فيصوم إذا قلنا: الاعتبار في الكفارة بحال الاداء. وإذا قلنا: بالصحيح أن واجبه الصوم، فلم يصم حتى فك حجره. قال الماوردي: إن قلنا يعتبر في الكفارة حال الاداء، لم يجزئه الصوم مع اليسار. وإن اعتبرنا حال الوجوب، ففي إجزاء الصوم وجهان، لانه كان من أهل الصوم، إلا أنه كان موسرا. والله أعلم.
فصل فيمن يلي أمر الصبي والمجنون، وكيف يتصرف أما الذي يلي، فهو الاب ثم الجد، ثم وصيهما، ثم القاضي، أو من ينصبه القاضي. قلت: وهل يحتاج الحاكم إلى ثبوت عدالة الاب والجد لثبوت ولايتهما ؟ وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب، والشاشي، وآخرون. وينبغي أن يكون الراجح، الاكتفاء بالعدالة الظاهرة. والله أعلم. ولا ولاية للام على الاصح.

(3/421)


وقال الاصطخري: لها ولاية المال بعد الاب والجد، وتقدم على وصيهما. وأما كيفية التصرف، فالقول الجملي فيه: كون التصرف على وجه النظر والمصلحة، فيجوز للولي أن يشتري له العقار، بل هو أولى من التجارة. فإن لم يكن فيه مصلحة لثقل الخراج، أو جور السلطان، أو إشراف الموضع على الخراب، لم يجز. ويجوز أن يبني له الدور والمساكن، ويبني بالآجر والطين دون اللبن والجص. قال الروياني: جوز كثير من الاصحاب البناء على عادة البلد كيف كان. قال: وهو الاختيار. ولا يبيع عقاره إلا لحاجته، مثل أن لا يكون له ما يصرفه في نفقته وكسوته، وقصرت غلته عن الوفاء بهما ولم يجد من يقرضه، أو لم ير المصلحة في

(3/422)


الاقتراض، أو لغبطة مثل أن يكون ثقيل الخراج، أو رغب فيه شريك أو جار بأكثر من ثمن مثله وهو يجد مثله ببعض ذلك الثمن. ويجوز أن يبيع ماله نسيئة وبالعرض، إذا رأى المصلحة فيه. وإذا باع نسيئة، زاد على ثمنه نقدا، وأشهد عليه وارتهن به رهنا وافيا. فإن لم يفعل، ضمن، كذا قاله الجمهور. وحكى الامام وجهين في صحة البيع إذا لم يرتهن، وكان المشتري مليئا، وقال: الاصح الصحة. ويشبه أن يذهب القائل بالصحة إلى أنه لا يضمن، ويجوزه اعتمادا على ذمة الملئ. وإذا باع الاب مال ولده لنفسه نسيئة، لا يحتاج إلى رهن من نفسه، لانه أمين في حق ولده. فرع إذا باع الاب أو الجد عقار الطفل ورفع إلى القاضي، سجل على بيعه، ولم يكلفه إثبات الحاجة أو الغبطة بالبينة، لانه غير متهم. وفي بيع الوصي والامين لا يسجل إلا إذا قامت البينة على الحاجة أو الغبطة. قلت: وفي احتياج الحاكم إلى ثبوت عدالة الاب والجد ليسجل لهما، وجهان حكاهما في البيان. والله أعلم. وإذا بلغ الصبي وادعى على الاب أو الجد بيع ماله بغير مصلحة، فالقول قولهما مع اليمين. وإن ادعاه على الوصي أو الامين، فالقول قول المدعي في العقار، وعليهما البينة. وفي غير العقار وجهان. أصحهما: كالعقار. والفرق عسر الاشهاد في كل قليل وكثير يبيعه، ومنهم من أطلق وجهين من غير فرق بين ولي وولي، ولا بين العقار وغيره. ودعواه على المشتري من الولي، كهي على الولد.

(3/423)


فرع ليس للوصي بيع ماله لنفسه، ولا بيع مال نفسه له، وللاب والجد ذلك، ولهما بيع مال أحد الصغيرين للآخر. وهل يشترط أن يقول: بعت واشتريت، كما لو باع لغيره. أم يكفي أحدهما ؟ وجهان سبقا في البيع. فرع إذا اشترى الولي للطفل، فليشتر من ثقة. وحيث أمر بالارتهان، لا يقوم الكفيل مقامه. فرع لا يستوفى القصاص المستحق له، ولا يعفو، ولا يعتق عبيده، ولو كان بعوض، ولا يكاتبهم، ولا يهب أمواله ولو بشرط الثواب، ولا يطلق زوجته ولو بعوض. ولو باع شريكه شقصا مشفوعا، أخذ أو ترك بحسب المصلحة. فإن ترك بحسب المصلحة، ثم بلغ الصبي وأراد أخذه، لم يمكن على الاصح، كما لو أخذ للمصلحة، ثم بلغ الصبي وأرادرده. والثاني: يمكن لانه لو كان بالغا، كان له الاخذ. وإن خالف المصلحة والآخذ المخالف للمصلحة، لم يدخل في ولايته، فلا يفوت بتصرف الولي. قلت: فإذا قلنا بالاصح، فبلغ وادعى أنه ترك الشفعة من غير غبطة، قال صاحب المهذ ب وغيره: حكمه حكم بيع العقار. والله أعلم. فرع ليس للولي أخذ أجرة ولا نفقة من مال الصبي إن كان غنيا، وإن

(3/424)


كان فقيرا وانقطع بسببه عن الكسب، فله أخذ قدر النفقة. وفي التعليق: أنه يأخذ اقل الامرين من قدر النفقة، وأجرة المثل. قلت: هذا المنقول عن التعليق، هو المعروف في أكثر كتب العراقيين ونقله صاحب البيان عن أصحابنا مطلقا، وحكاه هو وغيره عن نص الشافعي رضي الله عنه، وحكى الماوردي والشاشي وجها، أنه يجوز أيضا للغني أن يأكل بقدر أجرته. والصحيح المعروف، القطع بأنه لا يجوز للغني مطلقا. والله أعلم. والقول في أنه هل يستبد بالاخذ، يأتي في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وهل عليه ضمان ما أخذه كالمضطر إذا أكل طعام الغير أم لا ؟ كالامام إذا أخذ الرزق من بيت المال ؟ فيه قولان. قلت: أظهرهما: لا ضمان، لظاهر القرآن، ولانه بدل عمله. والله أعلم. فرع للولي أن يخلط ماله بمال الصبي ويؤاكله، قال ابن سريج: وللمسافرين خلط أزوادهم وإن تفاوتوا في الاكل، قال: وهذا أولى بالجواز، لان كلا منهم من أهل المسامحة. قلت: لا خلاف في جواز خلط المسافرين على الوجه المذكور، بل هو مستحب، ونقل صاحب البيان من أصحابنا، أنه مستحب، ذكره في باب الشركة، ودلائله من الاحاديث الصحيحة كثيرة. والله أعلم. فرع يجب على الولي أن ينفق عليه ويكسوه بالمعروف، ويخرج من أمواله الزكاة وأروش الجنايات وإن لم تطلب، ونفقة القريب بعد الطلب. فرع إن دعت ضرورة حريق أو نهب إلى المسافرة بماله، سافر، وإلا، فإن كان الطريق مخوفا، لم يسافر به، وإن كان آمنا، فوجهان. أصحهما: الجواز لان المصلحة قد تقتضي ذلك، والولي مأمور بالمصلحة بخلاف المودع. والثاني:

(3/425)


المنع وبه قطع العراقيون كالوديعة. قلت: لو سافر به في البحر، لم يجز إن كان مخوفا، وكذا إن كانت سلامته غالبة على المذهب، وبه قطع القاضي حسين، ونقله الامام عن معظم الاصحاب. وقيل: يجوز إن أوجبنا ركوبه للحج. والله أعلم. ثم إذا أجاز له المسافرة به، جاز أن يبعثه مع أمين. فرع ليس لغير القاضي إقراض مال الصبي، إلا عند ضرورة نهب أو حريق ونحوه، أو إذا أراد سفرا. ويجوز للقاضي الاقراض، وإن لم يكن شئ من ذلك لكثرة أشغاله. وفي وجه: القاضي كغيره. ولا يجوز إيداعه مع إمكان الاقراض على الاصح، فإن عجز عنه، فله الايداع. ويشترط فيمن يودعه الامانة، وفي من يقرضه الامانة واليسار. وإذا أقرض ورأى أن يأخذ به رهنا، أخذه، وإلا تركه. قلت: يستحب للحاكم إذا حجر على السفيه، أن يشهد على حجره. وإن رأى أن ينادي عليه في البلد، نادى مناديه ليتجنب الناس معاملته. وحكى في الحاوي والمستظهري عن أبي علي ابن أبي هريرة وجها، أنه يجب الاشهاد، وهو شاذ. وإذا كان للصبي أو السفيه كسب، أجبره الولي على الاكتساب ليرتفق به في النفقة وغيرها، حكاه في البيان. ولو وجب للسفيه قصاص، فله أن يقتص ويعفو. فإن عفا على مال، صح، ووجب دفع المال إلى وليه. وإن عفا مطلقا، أو على غير مال، فإن قلنا: القتل يوجب أحد الامرين: القصاص أو الدية، وجبت الدية لان عفوه عنها لا يصح، وإن قلنا: يوجب القصا ص فقط، سقط القصاص، ولا مال. وإذا مرض المحجور عليه لسفه مرضا مخوفا، لم يتغير حكمه، وتصرفاته فيه كتصرفه في صحته. وحكى في الحاوي وجها، أنه يغلب عليه حجر المرض، فيصح عتقه من ثلثه، وهذا شاذ ضعيف. والله أعلم.

(3/426)