روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الصلح
فسره الائمة بالعقد الذي تنقطع به خصومة المتخاصمين، وليس هذا على سبيل الحد، بل أرادوا ضربا من التعريف، إشارة إلى أن هذه اللفظة تستعمل عند سبق المخاصمة غالبا، ثم أدخل الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم في الباب، التزاحم في المشترك، كالشوارع ونحوها. وفي الكتاب ثلاثة أبواب.
الاول : في أحكام الصلح. وقد يجري بين المتداعيين، وبين المدعي وأجنبي. والقسم الاول نوعان. أحدهما: ما يجري على الاقرار وهو ضربان.

(3/427)


أحدهما: الصلح عن العين. وهو صنفان. أحدهما: صلح المعاوضة، وهو الذي يجري على غير العين المدعاة، بأن ادعى عليه دارا فأقر له بها، وصالحه منها على عبد أو ثوب، فهذا الصنف حكمه حكم البيع، وإن عقد بلفظ الصلح. وتتعلق به جميع أحكام البيع كالرد بالعيب، والشفعة، والمنع من التصرف قبل القبض، واشتراط القبض في المجلس إن كان المصالح عليه والمصالح عنه متفقين في علة الربا، واشتراط التساوي في معيار الشرع إن كان جنسا ربويا، وجريان التحالف عند الاختلاف، ويفسد بالغرر، والجهل، والشروط الفاسدة كفساد البيع. ولو صالحه منها على منفعة دار، أو خدمة عبد مدة معلومة، جاز، ويكون هذا الصلح إجارة، فتثبت فيه أحكام الاجارة. الصنف الثاني: صلح الحطيطة، وهو الجاري على بعض العين المدعاة، كمن صالح من الدار المدعاة على نصفها أو ثلثها، أو من العبدين على أحدهما، فهذا هبة بعض المدعى لمن في يده، فيشترط لصحته القبول ومضي مدة إمكان القبض. وفي اشتراط إذن جديد في قبضه، الخلاف المذكور في كتاب الرهن. ويصح بلفظ الهبة، وما هو في معناها. وفي صحته بلفظ الصلح، وجهان. أحدهما: لا، لان الصلح يتضمن المعاوضة. ومحال أن يقابل ملكه ببعضه. وأصحهما: الصحة، لان الخاصية التي يفتقر إليها لفظ الصلح، هي سبق الخصومة، وقد حصلت. ولا يصح هذا الصنف بلفظ البيع.

(3/428)


فرع الصلح يخالف البيع في صور. إحداها: المسألة السابقة، وهي إذا صالح صلح الحطيطة بلفظ الصلح، فإنه يصح على الاصح. ولو كان بلفظ البيع، لم يصح قطعا. الثانية: لو قال من غير سبق خصومة: بعني دارك بكذا، فباع، صح. ولو قال والحالة هذه: صالحني عن دارك هذه بألف، لم يصح على الاصح، لان لفظ الصلح لا يطلق إلا إذا سبقت خصومة، وكأن هذا الخلاف فيما لو استعملا لفظ الصلح بلا نية. فلو استعملاه ونويا البيع، كان كناية بلا شك، وجرى فيه الخلاف في انعقاد البيع بالكناية. الثالثة: لو صالح عن القصاص، صح ولا مدخل للفظ البيع فيه. الرابعة: قال صاحب التلخيص لو صالحنا أهل الحرب من أموالهم على شئ نأخذه منهم، جاز ولا يقوم مقامه البيع، واعترض عليه القفال، بأن تلك المصالحة، ليست مصالحة عن أموالهم وإنما نصالحهم ونأخذ منهم للكف عن دمائهم وأموالهم، وهذا صحيح، ولكن لا يمنع مخالفة اللفظين، فإن لفظ البيع لا يجري في أمثال تلك المصالحات. الخامسة: قال صاحب التلخيص لو صالح من إرش الموضحة على شئ معلوم، جاز إذا علما قدر أرشها. ولو باع، لم يجز وخالفه الجمهور في افتراق اللفظين، وقالوا: إن كان الارش مجهولا كالحكومة التي لم تقدر ولم تضبط، لم يصح الصلح عنه ولا بيعه. وإن كان معلوم القدر والصفة، كالدراهم، إذا ضبطت، صح الصلح عنها، وصح بيعها ممن هي عليه. وإن كان معلوم القدر دون الصفة، على الوجه المعتبر في السلم، كالابل الواجبة في الدية، ففي جواز الاعتياض عنها بلفظ الصلح وبلفظ البيع جميعا

(3/429)


وجهان. ويقال: قولان. أحدهما: يصح كمن اشترى عينا لم يعرف صفتها. وأصحهما: المنع كما لو أسلم في شئ لم يصفه، هذا في الجراحة التي لا توجب القود، فإن أوجبته في النفس، أو فيما دونها، فالصلح عنها مبني على أن موجب العمد ماذا ؟ وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. الضرب الثاني: الصلح عن الدين، وهو صنفان. أحدهما: صلح المعاوضة وهو الجاري على عين الدين المدعى. فينظر، إن صالح عن بعض أموال الربا على ما يوافقه في العلة، فلا بد من قبض العوض في المجلس، ولا يشترط تعيينه في نفس الصلح على الاصح. فإن لم يكن العوضان ربويين، فإن كان العوض عينا، صح الصلح، ولا يشترط قبضه في المجلس على الاصح. وإن كان دينا، صح على الاصح، ولكن يشترط التعيين في المجلس، ولا يشترط القبض بعد التعيين على الاصح. الصنف الثاني: صلح الحطيط وهو الجاري على بعض الدين المدعى، فهو إبراء عن بعض الدين، فإن استعمال لفظ الابراء أو ما في معناه، بأن قال: أبرأتك من خمسمائة من الالف الذي عليك، أو صالحتك على الباقي، برئ مما أبرأه، ولا يشترط القبول على الصحيح. وفي وجه بعيد: يشترط فيه، وفي كل إبراء، ولا يشترط قبض الباقي في المجلس. وإن اقتصر على لفظ الصلح فقال: صالحتك على الالف الذي لي عليك على خمسمائة، فوجهان كنظيره في صلح الحطيطة في العين، والاصح الصحة. وفي اشتراط القبول وجهان، كالوجهين فيما لو قال لمن عليه الدين: وهبته لك. والاصح، الاشتراط، لان اللفظ بوضعه يقتضيه. ولو

(3/430)


صالح منه على خمسمائة معينة، جرى الوجهان. ورأى الامام الفساد هنا أظهر. ولا يصح هذا الصنف بلفظ البع، كنظيره في الصلح عن العين. ولو صالح من ألف مؤجل على ألف حال أو عكسه. فباطل، لان الاجل لا يسقط ولا يلحق. فلو عجل من عليه المؤجل وقبله المستحق، سقط الاجل بالاستيفاء، وكذا الحكم في الصحيح والمكسر. ولو صالح من ألف مؤجل على خمسمائة، حالة فباطل. ولو صالح من ألف حال على خمسماءة مؤجلة، فهذا ليس من المعاوضة في شئ، بل هو مسامحة من وجهين. أحدهما حط خمسمائة. والثاني: إلحاق أجل بالباقي. والاول شائع، فيبرأ. عن خمسمائة. والثاني: وعد لا يلزم، فله المطالبة بالباقي في الحال. فرع قال أحد الوارثين لصاحبه: تركت حقي من التركة لك، فقال قبلت، لم يصح ويبقى حقه كما كان. ولو قال صالحتك من نصيبي على هذا الثوب، فإن كانت التركة أعيانا، فهو صلح عن العين. وإن كانت ديونا عليه، فهو صلح عن الدين. وإن كانت على غيره، فهو بيع دين لغير من عليه، وقد سبق حكمه. وإن كان فيها عين ودين على الغير، ولم نجوز بيع الدين لغير من عليه، بطل الصلح في الدين. وفي العين قولا تفريق الصفقة. فرع له في يد رجل ألف درهم، وخمسون دينارا، فصالحه منه على ألفي درهم، لا يجوز. وكذا لو مات عن إبنين والتركة ألفا درهم، ومائة دينار، وهي في يد أحدهما، فصالحه الآخر من نصيبه على ألفي درهم، لم يجز. ولو كان المبلغ المذكور دينا في ذمة غيره، فصالحه منه على ألفي درهم، جاز. والفرق أنه إذا كان في الذمة، فلا ضرورة إلى تقدير المعاوضة فيه، فيجعل مستوفيا لاحد الالفين، ومعتاضا عن الدنانير الالف الآخر. وإذا كان معينا، كان الصلح عنه إعتياضا، فكأنه باع ألف درهم وخمسين دينارا بألفي درهم. وهو من صور

(3/431)


مد عجوة. ونقل الامام عن القاضي حسين وجها في صورة الدين بالمنع، تنزيلا على المعاوضة. فرع صالحه عن الدار المدعاة على أن يسكنها سنة، فهو إعادة للدار يرجع فيها متى شاء. وإذا رجع، لم يستحق أجرة للمدة الماضية على الصحيح، لانها عارية. وفي وجه: يستحق، لانه قابل به رفع اليد عنها، وهو عوض فاسد، فيرجع بأجرة المثل. ولو صالحه عنها على أن يسكنها بمنفعة عبده سنة، فهو كما لو أجر دارا بمنفعة عبد سنة. فرع صالح عن الزرع الاخضر بشرط القطع، جاز. ودون هذا الشرط لا يجوز. ولو كانت المصالحة عن الزرع مع الارض، فلا حاجة إلى شرط القطع على الاصح. ولو كان النزاع في نصف الزرع، ثم أقر المدعى عليه، وتصالحا عنه على الشئ، لم يجز. وإن شرطا القطع، كما لو با نصف الزرع مشاعا، لا يصح، سواء شرط، أم لا. النوع الثاني: الصلح عن الانكار، فينظر، إن جرى على غير المدعى، فهو باطل. وصورة الصلح على الانكار، أن يدعي عليه دارا مثلا، فينكر، ثم

(3/432)


يتصالحا على ثوب أو دين، ولا يكون طلب الصلح منه إقرارا، لانه ربما يريد قطع الخصومة، هذا إذا قال: صالحني مطلقا، أو صالحني عن دعواك. بل الصلح عن الدعوى، لا يصح مع الاقرار أيضا، لان مجرد الدعوى لا يعتاض عنه. ولو قال بعد الانكار: صالحني عن الدار التي ادعيتها، فهل يكون إقرارا، كما لو قال: ملكني، أم لا، لاحتمال قطع الخصومة ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فعلى هذا، يكون الصلح بعد هذا الالتماس صلح إنكار. ولو قال: بعنيها، أو هبها لي، فالصحيح أنه إقرار. لانه صريح في التماس التمليك. وقال الشيخ أبو حامد: هو كقوله: صالحني. ومثله: لو كان النزاع في جارية، فقال: زوجنيها. ولو قال: أعرني أو أجرني فأولى بأن لا يكون إقرارا. ولو كان النزاع في دين، فقال: أبرئني، فهو إقرار. ولو أبرأ المدعي المدعى عليه وهو منكر، وقلنا: لا يفتقر الابراء إلى القبول، صح، لانه مستقل به، فلا حاجة إلى تصديق الغريم، بخلاف الصلح. ولهذا لو أبرأه من بعد

(3/433)


التحليف، لو صح، ولو تصالحا بعد التحليف، لم يصح. فرع لو جرى الصلح على الانكار على بعض العين المدعاة وهو صلح الحطيطة في العين، فوجهان. قال القفال: يصح، لانهما متفقان على أن المدعي يستحق النصف، لان المدعي يزعم إستحقاق الجميع، والمدعى عليه يسلم النصف له بحكم هبته له، وتسليمه إليه، فبقي الخلاف في جهة الاستحقاق، وقال الاكثرون: باطل، كما لو كان على غير المدعي. قالوا: ومتى اختلف القابض والدافع في الجهة، فالقول قول الدافع كما سبق في الرهن. والدافع هنا، يقول: إنما بذلت النصف لدفع الاذى، حتى لا يرفعني إلى القاضي، ولا يقيم علي بينة زور. وإن كان المدعى دينا، وتصالحا على بعضه على الانكار، نظر، إن صالحه عن ألف على خمسمائة مثلا في الذمة، لم يصح. ولو أحضر الخمسمائة وتصالحا من الالف المدعى عليها، فهو مرتب على صلح الحطيطة في العين. فإن لم يصح، فهنا أولى. وإلا، فوجهان. والاصح: البطلان باتفاقهم. والفرق أن ما في الذمة، ليس هو ذلك المحضر، وفي الصلح عليه معنى المعاوضة، ولا يمكن تصحيحه معاوضة مع الانكار. ولو تصالحا، ثم اختلفا هل تصالحا على الانكار، أم على الاعتراف ؟ قال ابن كج: القول قول مدعي الانكار، لان الاصل أن لا عقد. وينبغي أن يخرج على الوجهين فيما لو تنازع المتبايعان، هل عقدا صحيحا أم فاسدا. قلت: الصواب، ما قاله ابن كج وقد صرح به أيضا الشيخ أبو حامد، وصاحب البيان وغيرهما. والفرق أن الظاهر والغالب جريان البيع على الصحة، والغالب وقوع الصلح على الانكار. والله أعلم.
القسم الثاني من الباب : في الصلح الجاري بين المدعى وأجنبي، وله حالان.

(3/434)


الاول: مع إقرار المدعى عليه. فإن كان المدعى عينا، وقال الاجنبي: إن المدعى عليه وكلني في مصالحتك له على نصف المدعى، أو على هذا العبد من ماله، فتصالحا عليه، صح. وكذا لو قال: وكلني في مصالحتك عنه على عشرة في ذمته. ثم إن كان صادقا في الوكالة، صار المدعى ملكا للمدعى عليه، وإلا، فهو شراء الفضول، وقد سبق بيانه وتفريعه. وإن قال: أمرني بالمصالحة عنه على هذا العبد من مالي، فصالحه عليه، فهو كما لو اشترى لغيره بمال نفسه بإذن ذلك الغير، وقد سبق خلاف في صحته، وأنه إذا صح، هل هو هبة، أو قرض ؟ ولو صالح الاجنبي لنفسه بعين ماله، أو بدين في ذمته، صح له، كما لو اشتراه. وقيل: وجهان، كما لو قال لغيره من غير سبق دعوى: صالحني من دارك على ألف، لانه لم يجر مع الاجنبي خصومة. والمذهب، الصحة، لان الصلح ترتب على دعوى وجواب. أما إذا كان هذا المدعى دينا، وقال: وكلني المدعى عليه بمصالحتك على نصفه، أو على هذا الثوب من ماله، فصالحه، صح. ولو قال: على هذا الثوب، وهو ملكي، فوجهان. أحدهما: لا يصح، لانه بيع شئ بدين غيره. والثاني: يصح، ويسقط الدين كمن ضمن دينا وأداه. قلت: الاول: أصح. والله أعلم. ولو صالح لنفسه على عين أو دين في ذمته، فهو ابتياع دين في ذمة الغير، وسبق بيانه في موضعه. قلت: لو قال: صالحني عن الالف الذي لك على فلان على خمسمائة، صح، سواء كان بإذنه أم لا، لان القضاء دين غيره بغير إذن جائز. والله أعلم. الحال الثاني: أن يكون منكرا ظاهرا، فجاء أجنبي فقال: أقر المدعى عليه عندي، ووكلني في مصالحتك له، إلا أنه لا يظهر إقراره لئلا تنزعه منه، فصالحه،

(3/435)


صح، لان دعوى الانسان الوكالة في البيع والشراء وسائر المعاملات مقبولة. فإن قال: هو منكر، ولكنه مبطل، فصالحني له على عبدي هذا، لتنقطع الخصومة بينكما، فوجهان. قال الامام: أصحهما: لا يصح، لانه صلح إنكار. والثاني: يصح، لان الاعتبار في شروط العقد بمن يباشره وهما متفقان. هذ إذا كان المدعى عينا، فإن كان دينا، فقيل: على الوجهين. والمذهب: القطع بالصحة. والفرق أنه لا يمكن تمليك الغير عين ماله بغير إذنه. ويمكن قضاء دينه بغير إذنه. وإن قال: هو منكر، وأنا أيضا لا أعلم صدقك، وصالحه مع ذلك، لم يصح، سواء كان المصالح عليه له، أو للمدعى عليه. كما لو صالحه المدعي وهو منكر. وإن قال: هو منكر ومبطل في إنكاره، فصالحني لنفسي بعبدي هذا، أو بعشرة في ذمتي لآخذه منه، فإن كان المدعى دينا، فهو ابتياع دين في ذمة غيره. وإكان عينا، فهو شراء مغصوب، فينظر في قدرته على انتزاعه وعجزه. وقد سبق بيان الحالين في أول البيع. ولو صالح وقال: أنا قادر على انتزاعه، صح العقد على الاصح، إكتفاء بقوله. والثاني: لا، لان الملك في الظاهر للمدعى عليه، وهو عاجز عن انتزاعه. قال الامام: والوجه أن يقال: إن كان الاجنبي كاذبا، فالعقد باطل باطنا، وفي مؤاخذته في الظاهر لالتزامه، الوجهان. وإن كان صادقا، حكم بصحة العقد باطنا، وقطعنا بمؤاخذته، لكن لا تزال يد المدعى عليه إلا بحجة. فرع كالمثال لما ذكرنا إدعى رجل على ورثة ميت دارا من تركته، وقال: غصبنيها، فأقروا له، جاز لهم مصالحته. فإن دفعوا إلى بعضهم ثوبا مشتركا بينهم ليصالح عليه، جاز، وكان عاقدا عن نفسه ووكيلا عن الباقين. ولو قالوا لواحد: صالحه عنا على ثوبك، فصالحه عنهم، فإن لم يسمهم في الصلح، وقع الصلح عنه. وإن سماهم، فهل تلغى التسمية ؟ وجهان. فإن لم نلغها، وقع الصلح عنهم. وهل الثو ب هبة لهم، أو قرض عليهم ؟ وجهان. وإن ألغيناها، فهل يصح الصلح كله للعاقد، أم يبطل في نصيب الشركاء ويخرج نصيبه على قولي

(3/436)


تفريق الصفقة ؟ وجهان. وإن صالحه بعضهم على مال له دون إذن الباقين ليتملك جميع الدار، جاز. وإن صالح لتكون الدار له ولهم جميعا، لغا ذكرهم، وعاد الوجهان في أن الجميع يقع له، أم يبطل في نصيبهم. ويخرج نصيبه على قولي الصفقة. فرع أسلم كافر على أكثر من أربع نسوة، ومات قبل الاختيار والتعيين، وقف الميراث بينهن. فإن اصطلحن على القسمة على تفاوت أو تساو، جاز، وللضرورة. ولو اصطلحن على أن تأخذ ثلاث منهم أو أربع المال الموقوف، ويبذلن للباقيات عوضا من خالص أموالهم، لم يصح. ونظير المسألة، مالو طلق إحد إمرأتيه ومات قبل البيان، ووقف لهم نصيب زوجة فاصطلحتا، وما إذا ادعى اثنان وديعة في يد رجل، فقال: لاأعلم لايكما هي، وما إذا تداعيا دارا في يدهما، وأقام كل بينة. ثم اصطلحا. وكذا لو كانت في يد ثالث وقلنا باستعمال البينتين. قلت: وهذه مسائل تتعلق بالباب. إحداها: إدعى دارا، فأقر، فصالحه على عبد، فخرج مستحقا، أو رده بعيب، أو هلك قبل القبض، رجعت الدار إلى الاول. وإن وجد به عيبا بعد ما هلك، أو تعيب في يده، أخذ من الدار بقدر ما نقص من قيمة العبد، كما لو باعها بعبد. الثانية: إدعى عليه دارا، فأنكره، فقال المدعي: أعطيك ألفا وتقر لي بها، ففعل، فليس بصلح، ولا يلزم الالف، بل بذله وأخذه حرام. وهل يكون هذا إقرارا ؟ وجهان فالعدة والبيان. الثالثة: صالح أجنبي عن المدعي عليه بعوض معين، فوجده المدعي معيبا، فله رده، ولا يرجع ببدله بل ينفسخ الصلح ويرجع إلى خصومة المدعى عليه،

(3/437)


وكذا لو خرج العوض مستحقا. ولو صالحه على دراهم في الذمة، فأعطاه دراهم، فوجدها معيبة وردها، أو خرجت مستحقة، فله المطالبة ببدلها. الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه: لو اشترى رجل أرضا وبناها مسجدا، فجاء رجل فادعاها، فإن صدقه المشتري، لزمه قيمتها. وإن كذبه، فصالحه رجل آخر، صح الصلح، لانه بذل مال على جهة القربة، ولان القيمة على المشتري، لانه وقفه. والصلح عما في ذمة بغير إذنه، جائز. الخامسة: لو أتلف عليه شيئا قيمته دينار، فأقر به، وصالحه على أكثر من دينار، لم يصح، لان الواجب قيمة المتلف، فلم يصح الصلح على أكثر منه، كمن غصب دينارا، فصالح على أكثر منه. ولو صالحه عنه بعوض مؤجل، لم يصح. السادسة: سبق في أول الباب أن الصلح عن المجهول، لا يصح. قال الشافعي رضي الله عنه: لو ادعى عليه شيئا مجملا، فأقر له به وصالحه عنه على عوض، صح الصلح. قال الشيخ أبو حامد وغيره: هذا إذا كان المعقود عليه معلوما لهما، فيصح وإن لم يسمياه، كما لو قال: بعتك الشئ الذي نعرفه أنا وأنت بكذا، فقال: إشتريت، صح. السابعة: إذا أنكر المدعى عليه، ووكل أجنبيا ليصالح كما سبق، فهل يحل له التوكيل ؟ وجهان. قال ابن سريج: يحرم عليه الانكار. ولو فعله، فله التوكيل في المصالحة. وقال أبو إسحق: يحرم عليه أيضا التوكيل. ولو مات مورثه وخلف عينا فادعاها رجل، فأنكره ولا يعلم صدقه، وخاف من اليمين، جاز أن يوكل أجنبيا في الصلح، لتزول الشبهة، حكاه في البيان. والله أعلم.
الباب الثاني في التزاحم على الحقوق وفيه فصول. الاول: في الطريق، وهو قسمان: نافذ، وغيره. أما النافذ، فالناس كلهم يستحقون المرور فيه، وليس لاحد أن يتصرف فيه بما يبطل المرور، ولا أن يشرع

(3/438)


فيه جناحا، أو يتخذ على جدرانه ساباطا يضر بالمارة. فإن لم يضر، فلا منع منهما. ويرجع في معرفة الضرر وعدمه إلى حال الطريق. فإن كان ضيقا لا تمر فيه القوافل والفوارس، فينبغي أن يرتفع بحيث يمر المار تحته منتصبا. وإن كانوا يمرون فيه، فليكن ارتفاعه إلى حد يمر فيه المحمل مع الكنيسة فوقه على البعير، لانه وإن كان نادرا، فإنه قد يتفق. ولا تشترط زيادة على هذا، على الصحيح. وقال أبو عبيد بن حربويه: يشترط أن يكون بحيث يمر الراكب تحته منصوب الرمح. واتفق الاصحاب على تضعيف قوله، لان وضع الرمح على الكتف، ليس بعسير. ويجوز لكل أحد أن يفتح الابواب من ملكه إلى الشارع كيف شاء. وأما نصب الدكة وغرس الشجرة، فإن كان يضيق الطريق ويضر بالمارة، منع، وإلا، فوجهان. أحدهما: الجواز، كالجناح الذي لا يضر بهم. وأصحهما، وبه قطع العراقيون واختاره الامام: المنع. ولا يجوز أن يصالح عن إشراع الجناح على شئ، سواء صالح الامام، أو غيره، وسواء ضر بالمارة، أم لا. ولو أشرع جناحا لاضرر فيه، فانهدم، أو

(3/439)


هدمه، فأشرع رجل آخر جناحا في محاذاته لا تمكن معه إعادة الاول، جاز، كما لو قعد في طريق واسع ثم انتقل عنه، ويجوز لغيره الارتفاق به، هكذا قاله الاصحاب. ولك أن تقول: المرتفق بالقعود للمعاملة لا يبطل حقه بمجرد الزوال عن ذلك الموضع، وإنما يبطل بالسفر والاعراض عن الحرفة. فقياسه أن لا يبطل هنا بمجرد الهدم والانهدام، بل يعتبر إعراضه عن إعادته. قلت: إن ما قاسه كثيرون على ما إذا وقف في الطريق، ثم فارق موقفه، أو قعد للاستراحة ونحوها فلا يرد إعتراض الامام الرافعي رحمه الله. قال أصحابنا: ولو أخرج جناحا تحت جناح من يحاذيه، لم يكن للاول منعه، إذ لا ضرر. ولو أخرج فوق جناح الاول، قال ابن الصباغ: إن كان الثاني عاليا لا يضر بالمار فوق الجناح الاول، لم يمنع، وإلا، فله منعه. ولو أخرج مقابلا له، لم يمنع، إلا أن يعطل إنتفاع الاول. ولو كان الاول قد أخذ أكثر هواء الطريق، لم يكن لجاره مطالبته بتقصير جناحه ورده إلى نصف الطريق، لانه مباح سبق إليه. والله أعلم. واعلم أن الاكثرين، لم يتعرضوا في الاضرار الممنوع إلا للارتفاع، والانخفاض. وأما إظلام الموضع، فقال ابن الصباغ وطائفه: لا يؤثر، ومقتضى المعنى المذكور، ولفظ الشافعي رضي الله عنه، وأكثر الاصحاب، تأثيره. وقد صرح به منصور التميمي. وفي التتمة: إن انقطع الضوء كله، أثر، وإن نقص، فلا. فرع الشوارع التي في البلاد، والجواد الممتدة في الصحاري سواء في أنها منفكة عن الملك والاختصاص. والاصل فيها، الاباحة وجواز الانتفاع، إلا فيما يقدح في مقصودها هو الاستطراق. قال الامام: ومصير الموضع شارعا، له صورتان، إحداهما: أن يجعل الرجل ملكه شارعا وسبيلا مسبلا. والثانية: أن تجئ جماعة بلدة أو قرية، ويتركوا مسلكا نافذا بين الدور والمساكن، ويفتحوا إليه الابواب. ثم حكي عن شيخه، ما يقتضي صورة ثالثة، وهو أن يصير موضع من

(3/440)


الموات جادة يستطرقها الرفاق، فلا يجوز تغييره. وإنه كان يتردد في بنيات الطرق التي يعرفها الخواص ويسلكونها. وكل موات، يجوز استطراقه، لكن لا يمنع أحد من إحيائه وصرف الممر عنه، بخلاف الشوارع. قلت: قال الامام: ولا حاجة إلى لفظ في مصير ما يجعل شارعا. قال: وإذا وجدنا جادة مستطرقة، ومسلكا مشروعا نافذا، حكمنا باستحقاق الاستطراق فيه بظاهر الحال، ولم نلتفت إلى مبدإ مصيره شارعا. وأما قدر الطريق، فقل من تعرض لضبطه، وهو مهم جدا، وحكمه، أنه إن كان الطريق من أرض مملوكة يسبلها صاحبها، فهو إلى خيرته، والافضل توسيعها. وإن كان بين أراض يريد أصحابها إحياءها، فإن اتفقوا على شئ، فذاك. وإن اختلفوا، فقدره سبع أذرع، هذا معنى ما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الاختلاف في الطريق، أن يجعل عرضه سبع أذرع. ولو كان الطريق واسعا، لم يجز لاحد أن يستولي على شئ منه، وإن قل، يجوز عمارة ما حوله من الموات، ويملكه بالاحياء بحيث لا يضر بالمارة. ومن المهمات المستفادة، أن أهل الذمة يمنعون من إخراج الاجنحة إلى شوارع المسلمين النافذة. وإن جاز لهم استطراقها، لانه كإعلائهم على بناء المسلمين، أو أبلغ. هذا هو الصحيح، وذكر الشاشي في جوازه وجهين. ومن أخرج جناحا على وجه لا يجوز، هدم عليه. والله أعلم. القسم الثاني: الطريق الذي لا ينفذ، كالسكة المسدودة الاسفل، والكلام فيها ثلاثة أمور. الاول: إشراع الجناح، فلا يجوز لغير أهل السكة بلا خلاف، ولا لهم على

(3/441)


الاصح الذي قاله الاكثرون إلا برضاهم، سواء تضرروا، أم لا. والثاني وهو قول الشيخ أبي حامد ومن تابعه: يجوز إذا لم يضر الباقين، فإن أضر ورضي أهل السكة جاز. ولو صالحوه على شئ، لم يصح بلا خلاف، لان الهواء تابع، فلا يفرد بالمال صلحا، كما لا يفرد به بيعا. وهكذا الحكم في صلح صاحب الدار عن الجناح المشرع إليها، ونعني بأهل السكة كل من له باب نافذ إليها دون من يلاصق جدار دار السكة من غير نفوذ باب. ثم هل الاشتراك في جميعها لجميعهم، أم شركة كل واحد تختص بما بين رأس السكة وباب داره ؟ وجهان. أصحهما: الاختصاص، لان ذلك هو محل تردده، وما عداه، فهو فيه كغير أهل السكة. وتظهر فائدة الخلاف على قول الاكثرين في منع إشراع الجناح إلا برضاهم. فإن شركنا الكل في الكل، جاز لكل واحد من أهل السكة المنع. وإن خصصنا، فإنما يجوز المنع لمن موضع الجناح بين بابه ورأس الدرب. وتظهر فائدته على قول الشيخ أبي حامد، في أن مستحق المنع إذا أضر الجناح: من هو ؟ لكنهم لم يذكروه. قول الرافعي: لم يذكروه، من أعجب العجب، فقد ذكره صاحب التهذيب، مع أن معظم نقل الرافعي منه ومن النهاية. والله أعلم. ولو اجتمع المستحقون فسدوا رأس السكة، لم يمنعوا منه، كذا قاله الجمهور. وقال أبو الحسن العبادي: يحتمل أن يمنعوا، لان أهل الشارع يفزعون إليه إذا عرضت زحمة. ولو امتنع بعضهم، لم يكن للباقين السد قطعا. ولو سدوا باتفاقهم، لم يستقل بعضهم بالفتح. ولو اتفقوا على قسمة صحن السكة بينهم، جاز. ولو أراد أهل رأس السكة قسمة رأسها بينهم، منعوا لحق من يليهم. ولو أراد الاسفل قسمته فوجهان، بناء على الاشتراك فيه، ثم ما ذكرناه من سد الباب وقسمة الصحن، مفروض فيما لو لم يكن في السكة مسجد. فإن كان فيها مسجد عتيق، أو جديد، منعو من السد والقسمة، لان المسلمين كلهم يستحقون الاستطراق إليه، ذكره ابن كج. وعلى

(3/442)


قياسه، لا يجوز الاشراع عند الاضرار وإن رضي أهل السكة، لحق سائر المسلمين. الامر الثاني: فتح الباب، فليس لمن لا باب له في السكة إحداث باب إلا برضى أهلها كلهم. فلو قال: أفتح إليها بابا للاستضاءة دون الاستطراق، أو أفتحه وأسمره، فوجهان. أصحهما: عند أبي القاسم الكرخي: لايمنع. قلت: قل من بين الاصح من هذين الوجهين، ولهذا، اقتصر الرافعي على نسبة التصحيح إلى الكرخي. وممن صححه، صاحب البيان والرافعي في المحرر وخالفهم الجرجاني، والشاشي، فصححا المنع، وهو أفقه. والله أعلم. ولو كان له باب في السكة، وأراد أن يفتح غيره، فإن كان ما يفتحه أبعد من رأس السكة، فلمن الباب المفتوح بين داره ورأس السكة منعه، وفيمن داره بين الباب ورأس السكة، وجهان، بناء على كيفية الشركة كما سبق في الجناح. وإن كان ما يفتحه أقرب إلى رأس السكة، فإن سد الاول، جاز، وإلا، فكما إذا كان أبعد، لان الباب الثاني إذا انضم إلى الاول، أورث زيادة زحمة الناس ووقوف الدواب، فيتضررون به. وحكى في النهاية طريقة جازمة، بأن لا منع لمن يقع المفتوح بين داره ورأس السكة، لان الفاتح لا يمر عليهم. وهذا ينبغي أن يطرد فيما إذا كان المفتوح أبعد من رأس السكة. قلت: جزم صاحب الشامل بأنه إذا فتح بابا آخر أقرب إلى رأس السكة، ولم يسد الاول، جاز، ولا منع لاحد. وهذا وإن كان ظاهرا، فما نقله الامام أقوى. ولم يذكر الرافعي - فيما إذا كان المفتوح أبعد - حكم من بابه مقابل المفتوح، لا فوقه ولا تحته. وقد ذكر الامام، أنه كمن هو أقرب إلى رأس السكة، ففيه الوجهان. والله أعلم. وتحويل الميزاب من موضع إلى موضع، كفتح باب وسد باب.

(3/443)


فرع لو كان له داران، ينفذ باب إحداهما إلى الشارع، والاخرى إلى سكة منسدة، فأراد فتح باب من إحداهما إلى الاخرى، لم يكن لاهل السكة منعه على الاصح. ولو كان باب كل واحدة في سكة غير نافذة، ففتح من إحداها إلى الاخرى، ففي ثبوت المنع لاهل السكتين، الوجهان، قاله الامام. وموضع الوجهين، ما إذا سد باب إحداهما، وفتح الباب لغرض الاستطراق. أما إذا قصد إتساع ملكه ونحوه، فلا منع قطعا. قلت: هذه العبارة فاسدة، فإنها توهم إختصاص الخلاف، بما إذا سد باب إحداهما، وذلك خطأ، بل الصواب، جريان الوجهين إذا بقي البابان نافذين، وكل الاصحاب مصرحون به. قال أصحابنا: ولو أراد رفع الحائط بينهما وجعلهما دارا واحدة، ويترك بابيهما على حالهما، جاز قطعا. وممن نقل إتفاق الاصحاب على هذا، القاضي أبو الطيب في تعليقه. فالصواب أن يقال: موضع الوجهين، إذا لم يقصد إتساع ملكه. وأما قوله: كذا نقله الامام، فإن الوجهين مشهوران جدا. وقوله الاصح: الجواز، تابع فيه صاحب التهذيب، وخالفه أصحابنا العراقيون، فنلقوا عن الجمهور، المنع. بل نقل القاضي أبو الطيب إتفاق الاصحاب على المنع. قال: وعندي أنه يجوز. والله أعلم. فرع حيث منعنا فتح الباب إلى السكة المنسدة، فصالحه أهل السكة بمال، جاز، بخلاف الجناح، لانه هناك بذل مال في مقابلة الهواء. قال في التتمة: ثم إن قدروا مدة، فهو إجارة. وإن أطلقوا، أو شرطوا التأبيد، فهو بيع جزء شائع من السكة، وتنزيل له منزلة أحدهم. كما لو صالح رجلا على مال ليجري في أرضه نهرا، كان ذلك تمليكا للنهر. ولصالحه بمال على فتح باب من داره إلى داره، صح، ويكون كالصلح عن إجراء الماء على سطحه، ولا يملك شيئا من الدار والسطح، لان السكة لا تراد إلا للاستطراق، فإثبات الاستطراق فيها يكون نقلا للملك.

(3/444)


وأما الدار والسطح، فلا يقصد بهما الاستطراق وإجراء الماء. قلت: قال أصحابنا: لو كانت داره في آخر السكة المنسدة، فأراد نقل بابها إلى الوسط، ويجعل ما بين الباب وأسفل السكة دهليزا، فإن شركنا الجميع في جميع السكة، كان للباقين منعه، وإلا، فلا. والله أعلم. الامر الثالث: فتح المنافذ والكوات للاستضاءة، ولا منع منه بحال، لمصادفته الملك، بل له إزالة رفع الجدار، وجعل شباك مكانه. فرع قال الامام: لو فتح من لا باب له في السكة المنسدة بابا برضى أهلها، كان لاهلها الرجوع متى شاؤوا، ولا يلزمهم بالرجوع شئ، بخلاف ما لو أعار الارض للبناء والغراس، ثم رجع، فإنه لا يقلعه مجانا. وهذا لم أره لغيره. والقياس: أن لافرق. فرع قال الروياني: إذا كان بين داريه طريق نافذ، فحفر تحته سردابا من إحداهما إلى الاخرى، وأحكمه بالازج لم يمنع. قال: وبمثلها أجاب الاصحاب فيما إذا لم يكن نافذا، لان لكل أحد دخول هذا الزقاق، كاستطراق الدرب النافذ. قال: وغلط من قال بخلافه، وهذا اختيار منه لكونها في معنى الشارع، والظاهر خلافه. واعتذر الامام عن جواز دخولها بأنه من قبيل الاباحة المستفادة من قرائن الاحوال. قلت: هذا الذي ذكره الروياني - فيما كان الطريق نافذا - صحيح. وكذا صرح به القاضي أبو الطيب وغيره.

(3/445)


وأما تجويزه ذلك - فيما إذا لم يكن الطريق نافذا - ونقله ذلك عن الاصحاب، فضعيف، ولا يوجد ذلك في كتب معظم الاصحاب، ولعله وجده في كتاب أو كتابين، فإني رأيت له مثل هذا كثيرا. وكيف كان، فهذا الحكم ضعيف، فإن الاصحاب مصرحون بأن الطريق في السكة المسدودة ملك لاصحاب السكة، وأنهم لو أرادوا سدها وجعلها مساكن، جاز، ونقل الامام إتفاق الاصحاب على هذا. وإذا ثبت إنها ملكهم، فالقرار تابع للارض كما يتبعها الهواء، فكما لا يجوز إخراج الجناح فوق أرضهم بغير رضاهم، كذا السرداب تحتها. والله أعلم. الفصل الثاني في الجدار الجدار بين المالكين قسمان. الاول: المختص. فهل للجار وضع الجذوع عليه بغير إذن مالكه ؟ قولان. القديم: نعم. ويجبر المالك إن امتنع، والجديد: لا، ولا يجبر. قلت: الاظهر: هو الجديد. وممن نص على تصحيحه، صاحب المهذب، والجرجاني، والشاشي، وغيرهم، وقطع به جماعة. والله أعلم. فعلى القديم: إنما يجبر بشروط. أحدها: أن لا يحتاج مالك الجدار إلى وضع جذوع عليه. والثاني: أن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدار، ولا يبني عليه أزجا، ولا يضع عليه ما يضر الجدار. والثالث: أن لا يملك شيئا من جدران البقعة التي يريد نسقيفها، أو لا يملك إلا جدارا، فإن ملك جدارين، فليسقف عليهما، وليس له إجبار صاحب الجدار، ولم يعتبر الامام هذا الشرط هكذا. بل قال: يشترط كون الجوانب الثلاثة من البيت لصاحب البيت، ويحتاج رابعا. فأما إذا كان الكل للغير، فلا يضع قولا واحدا. قال: ولم يعتبر بعض الاصحاب هذا الشرط، واعتبر في التتمة مثل ما ذكره الامام، وحكى الوجهين فيما إذا لم يملك إلا جانبا أو جانبين. والمذهب: ما

(3/446)


قدمناه. وإن قلنا بالجديد، فلا بد من رضى المالك. فإن رضي بلا عوض، فهو عارية، يرجع فيها قبل وضع الجذوع والبناء عليها قطعا، وبعده، على الاصح كسائر العواري. وإذا رجع، لا يتمكن من قلعه مجانا. وفي فائدة رجوعه وجهان. أصحهما: أنه يتخير بين أن يبقى بأجره، وبين أن يقلع، ويضمن أرش النقص، كما لو أعار أرضا للبناء. لكن في إعارة الارض خصلة ثالثة، وهي تملك البناء بقيمته، وليس لمالك الجدار ذلك، لان الارض أصل، فجاز أن يستتبع البناء، والجدار تابع، فلايستتبع. والثاني: ليس له إلا الاجرة، ولا يملك القلع أصلا، لان ضرر القلع يصل إلى ما هو خالص ملك المستعير، لان الجذوع إذا رفعت أطرافها، لم تستمسك على الجدار الباقي. والوجه الثاني: لا يملك الرجوع أصلا، ولا يستفيد به القلع، ولاطلب الاجرة للمستقبل، وبه قطع العراقيون، لان مثل هذه الاعارة، يراد بها التأبيد، فأشبه الاعارة لدفن ميت، فإنه لا ينبش ولا أجرة. فعلى هذا، لو رفع الجذوع صاحبها، أو سقطت بنفسها، لم يملك إعادتها بغير إذن جديد على الاصح. وكذا لو سقط الجدار فبناه مالكه بتلك الآلة، لان الاذن تناول مرة. فإن بناه بغير تلك الآلة، فلا خلاف أنه لا يعيد إلا بإذن جديد، لانه جدار آخر. قلت: الخلاف في جواز الاعادة بلا إذن. فلو منعه المالك، لم يعد بلا خلاف، إذ لا ضرر، كذا صرح به صاحب التتمة. وأشار القاضي أبو الطيب أو صرح بجريان الوجهين في جواز منعه، فقال في وجه: ليس له منعه لانه صار له حق لازم، هذا كله إذا وضع أولا بإذن. فلو ملكا دارين، ورأيا خشبا على الجدار، ولا يعلم كيف وضع، فإذا سقط الحائط، فليس له منعه، من إعادة الجذوع بلا خلاف، كذا صرح به القاضي أبو الطيب وصاحب المهذب والشامل وآخرون، لانا حكمنا بأنه وضع بحق، وشككنا في المجوز للرجوع. ولو أراد صاحب الحائط نقضه، فإن كان مستهدما، جاز، وحكم إعادة جذوع ما سبق. وإن لم يكن مستهدما، لم يمكن من نقضه قطعا. والله أعلم. أما إذا رضي بعوض، فقد يكون على وجه البيع أو الاجارة، وسنتكلم فيهما

(3/447)


إن شاء الله تعالى. ولو صالحه عنه على المال، لم يجز على قول الاجبار، لان من ثبت له حق، لا يجوز أخذ عوض من عليه، وإن قلنا لا، جاز، بخلاف الصلح عن الجناح، لانه هواء مجرد. القسم الثاني: المشترك، والكلام فيه ثلاثة أمور. الاول: الانتفاع به، فليس لاحد الشريكين أن يتد فيه وتدا، أو يفتح فيه كوة، أو يترب الكتاب بترابه بغير إذن شريكه، كسائر الاملاك المشتركة، لا يستقل أحد الشريكين بالانتفاع، ويستثنى من الانتفاع، ضربان. أحدهما: لو أراد أحدهما وضع الجذوع عليه، ففي إجبار شريكه، القولان، كالجار وأولى. ما لا تقع فيه المضايقة من الانتفاعات، فلكل واحد منهما الاستقلال به، كالاستناد وإسناد المتاع إليه، ويجوز في الجدار الخالص للجار مثله، وهو كالاستضاءة بسراج الغير، والاستظلال بجداره، فإنه جائز. ولو منع أحدهما الآخر من الاستناد، فهل يمتنع ؟ وجهان، لانه عناد محض. قلت: أصحهما: لا يمتنع. والله أعلم. ومن الضرب الثاني، ما إذا بنى في ملكه جدارا متصلا بالجدار المشترك، بحيث لا يقع ثقله عليه. الامر الثاني: قسمته، إما في كل الطول ونصف والعرض، وإما في نصف الطول وكل العرض، وليس المراد بالطول: إرتفاعه عن الارض، فإن ذلك سمك،

(3/448)


وإنما طول الجدار: امتداده زاويته البيت إلى زاوته الاخرى مثلا، والعرض: هو البعد الثالث، فإذا كان طوله عشرة أذرع، وعرضه ذراعا، فقسمته في كل الطول ونصف العرض: أن يجعل لكل واحد نصف ذراع من العرض في طول عشرة أذرع. وقسمته بالعكس: أن يجعل لكل واحد خمسة أذرع طولا في عرض ذراع، أو أي واحدا من النوعين تراضيا عليه، جاز. لكن كيف يقسم ؟ وجهان. أحدهما: يعلم بعلامة وخط يرسم. والثاني: يشق وينشر بالمنشار. وينطبق على هذا الثاني ما ذكره العراقيون: أنهما لو طلبا من الحاكم القسمة بالنوع الاول، لم يجبهما، لان شق الجدار في الطول إتلاف له، وتضييع، ولكنهما يباشرانها بأنفسهما إن شاءا، وهو كما لو هدماه، واقتسما النقض. وإن طلب أحدهما القسمة، وامتنع الآخر، نظر، إن طلب النوع الاول، لم يجب إليه على الصحيح لما فيه من الاضرار. وقيل: يجاب ويجبر الممتنع، لكن لا يقسم بالقرعة، بل يخص كل واحد مما يليه. وإن طلب النوع الثاني، لم يجب إليه على الاصح. أما إذا انهدم الجدار وظهرت العرصة، أو كان بينهما عرصة جدار لم يبن عليها، فطلب أحدهما قسمتها بالنوع الثاني، يجاب قطعا. وإن طلبها بالنوع الاول، فإن قلنا في الجدار: إن طالب مثل هذه القسمة يجاب، ويخص كل واحد بالشق الذي يليه بغير قرعة، فكذا هنا. وإن قلنا هناك: لا يجاب، فهنا وجهان. أصحهما عند العراقيين وغيرهم: الاجابة. وإذا بنى الجدار وأراد تعريضه، زاد فيه من عرض بيته. الامر الثالث: العمارة، فإذا هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير إذن صاحبه لاستهدامه، أو لغيره، ففي التهذيب وغيره: أن النص إجبار الهادم على إعادته، وأن القياس: أنه يغرم نقضه ولا يجبر على البناء، لان الجدار ليس مثليا. قلت: قد ذكر صاحب التنبيه وسائر العراقيين وطائفة من غيرهم، فيما إذا استهدم، فهدمه أحدهما بلا إذن، طريقين. أصحهما: القطع بإجباره على إعادة مثله. والثاني: فيه القولان السابقان في الاجبار إبتداء، أحدهما عليه إعادة مثله، والثاني: لا شئ. وقطع إمام الحرمين في أواخر باب ثمرة الحائط يباع أصله بأن من هدمك حائط غيره عدوانا، يلزمه أرش ما نقص، ولا يلزمه بناؤه، لانه ليس بمثلي، والمذهب ما نص عليه. والله أعلم.

(3/449)


ولو إنهدم الجدار بنفسه، أو هدماه معا لاستهدامه أو غيره، وامتنع أحدهما من العمارة، فقولان. القديم: إجباره عليها دفعا للضرر وصيانة للاملاك المشتركة عن التعطيل. والجديد: لا إجبار، كما لا يجبر على زرع الارض المشتركة، ولان الممتنع يتضرر أيضا بتكليفه العمارة. ويجري القولان في النهر، والقناة، والبئر المشتركة، إذا امتنع أحدهما من التنقية والعمارة. قلت: لم يبين الامام الرافعي الاظهر من القولين، وهو من المهمات. والاظهر عند جمهور الاصحاب، هو جديد. ممن صرح بتصحيحه: المحاملي، والجرجاني، وصاحب التنبيه وغيرهم. وصحح صاحب الشامل القديم، وأفتى به الشاشي. وقال الغزالي في الفتاوى: الاقيس، أن يجبر. وقال: والاختيار، إن ظهر للقاضي أن امتناعه مضارة، أجبره. وإن كان لاعسار، أو غرض صحيح، أو شك فيه، لم يجبر. وهذا التفصيل الذي قاله، وإن كان أرجح من إطلاق القول بالاجبار، فالمختار الجاري على القواعد: أن لا إجبار مطلقا. والله أعلم. ولو كان علو الدار لواحد، وسفلها لآخر، فانهدمت، فليس لصاحب السفل إجبار صاحب العلو على معاونته في إعادة السفل وهل لصاحب العلو إجبار صاحب السفل على إعادته ليبني عليه ؟ فيه القولان. وقيل: القولان فيما إذا انهدم، أو هدما، فلا شرط. أما لو استهدم، فهدمه صاحب السفل بشرط الاعادة، فيجبر قطعا. ويجري القولان، فيما إذا طلب أحدهما اتخاذ سترة بين سطحيهما، هل يجبر الآخر على مساعدته ؟ قلت: قال أصحابنا: ويجريان فيما لو كان بينهما دولاب وتشعث واحتاج إلى

(3/450)


إصلاحه. والله أعلم. فرع إذا قلنا بالقديم، فأصر الممتنع، أنفق الحاكم عليه من ماله. فإن لم يكن له مال، اقترض عليه، أو أذن الشريك في الانفاق عليه، ليرجع على الممتنع. فلو استقل به للشريك، فلا رجوع على المذهب. وقيل: قولان. القديم: نعم. والجديد: لا. وقيل: يرجع في القديم. وفي الجديد، قولان وقيل: إن لم يمكنه عند البناء مراجعة الحاكم، رجع، وإلا، فلا. ثم إذا بناه، إن كان بالآلة القديمة، فالجدار بينهما كما كان. والسفل في الصورة الاخرى لصاحبه كما كان، وليس لصاحب العلو نقضه ولا منعه من الانتفاع بملكه. وإن بناه بآلة من عنده، فالمعاد ملكه، وله نقضه. فلو قال الشريك: لا تنقض وأغرم لك نصف القيمة، لم يجز له النقض، لانا على هذا القول نجبر الممتنع على ابتداء العمارة، فالاستدامة أولى. فرع إذا قلنا بالجديد، فأراد الطالب الانفراد بالعمارة، نظر، إن أرادها بالنقض المشترك، أو أراد صاحب العلو إعادة السفل بنقض صاحب الاسفل، أو بآلة مشتركة، فللآخر منعه. وإن أراد بناءه بآلة من عنده، فله ذلك ليصل إلى حقه. ثم المعاد ملكه، يضع عليه ما شاء، وينقضه إذا شاء. فلو قال شريك الجدار: لا تنقض لاغرم لك نصف القيمة، أو قال صاحب السفل: لا تنقض لاغرم لك القيمة، لم يلزمه إجابته على هذا القول كابتداء العمارة. ولو قال صاحب السفل: انقض ما أعدته لابنيه بآلة نفسي. فإن كا طالبه بالبناء، فامتنع، لم يجبره، وإن لم يطالبه وقد بنى علوه، لم يجب، لكن له أن يتملك السفل بالقيمة،

(3/451)


ذكره في التهذيب، وإن لم يبن عليه العلو، أجيب صاحب السفل، ومتى بنى بآلة نفسه، فله منع صاحبه من الانتفاع بالمعاد، بفتح كوة وغرز وتد ونحوهما، وليس له منع صاحب السفل من السكون على الصحيح، لان العرصة ملكه. ولو أنفق على البئر والنهر، فليس له منع الشريك من الانتفاع بالماء لسقي الزرع وغيره، وله منعه من الانتفاع بالدولاب والبكرة المحدثين. ولو كان للممتنع على الجدار المنهدم جذوع، فأراد إعادتها بعد أن بناه الطالب بآلة نفسه، لزمه تمكينه، أو نقض ما أعاد ليبني معه الممتنع، ويعيد جذوعه. فرع لو تعاونا على إعادة الجدار المشترك بنقضه، بقي على ما كان. فلو شرطا زيادة لاحدهما، لم يصح على الصحيح. وفي وجه: يصح، لتراضيهما. فلو انفرد أحدهما بالبناء بالنقض المشترك بإذن شريكه، بشرط أن يكون له الثلثان، جاز، ويكون السدس الزائد في مقابلة عمله في نصيب الآخر، هكذا أطلقوه. واستدرك الامام فقال: هذا مصور فيما إذا شرط له سدس النقض في الحال، لتكون الاجرة عتيدة. فأما إذا شرط السدس الزائد له بعد البناء، فلا يصح، لان الاعيان لا تؤجل. ولو بناه أحدهما بآلة نفسه بإذن الآخر، بشرط أن يكون ثلثا الجدار له، فقد قابل ثلث الآلة المملوكة له، وعمله فيه بسدس العرصة المبني عليها. وفي صحة هذه المعاملة قولان، لجمعها بيعا وإجارة. وشرط صحتها: معرفة الآلات وصفة الجدار، ويعود النظر في شرط ثلث النقض في الحال، أو بعد البناء. فرع إذا كان له حق إجراء ماء في ملك غيره، فانهدم، لم يجب على مستحق الاجراء مشاركته في العمارة، لانها تتعلق بالآلات وهي لمالكها. وإن كان الانهدام بسبب الماء، فلا عمارة عليه أيضا. قال الامام: وفيه احتمال، لكن الظاهر، أن لا عمارة عليه، لان الانهدام تولد من مستحق.

(3/452)


الفصل الثالث في السقف فإذا كان السفل لرجل، والعلو لرجل، فقد يكون السقف بين ملكيهما مشتركا، وقد يكون لاحدهما. وحكم القسمين في الانتفاع، يخالف حكمهما في الجدار، فيجوز لصاحب العلو، الجلوس ووضع الاثقال عليه على العادة، ولصاحب السفل الاستكنان به، وتعليق ما ليس له ثقل يتأثر به السقف، كالثوب ونحوه قطعا. وفي غيره، أوجه. أحدها: لا يجوز أصلا. والثاني: يجوز ما لا يحتاج إلى إثبات وتد في السقف. وأصحها: يجوز مطلقا على العادة بلا فرق بين ما يحتاج إلى وتد وغيره. قال الشيخ أبو محمد: فإن قلنا: ليس له إثبات الوتد والتعليق فيه، فليس لصاحب العلو غرز الوتد في الوجه الذي يليه. وإن جوزناه له، ففي جوازه لصاحب العلو وجهان، لندور حاجته، بخلاف التعليق. فرع إذن المالك لغيره في البناء على ملكه، قد يكون بغير عوض، وهو الاعارة، وقد يكون بعوض. فمن صوره، أن يكري أرضه، أو رأس جداره، أو سقفه، مدة معلومة بأجرة معلومة، فيجوز، وسبيله سبيل سائر الاجارات. ومنها أن يأذن فيه بصيغة البيع، ويبين الثمن، وهو صحيح، خلافا للمزني رحمه الله. ثم يتصور ذلك بعبارتين. إحداهما: أن يبيع سطح البيت أو علوه للبناء عليه بثمن معلوم. والثانية: أن يبيع حق البناء على ملكه. والاولى، هي عبارة الشافعي رضي الله عنه وجماهير الاصحاب. والثانية: عبارة الامام، والغزالي، رحمهما الله تعالى. والاشبه: أن المراد منهما شئ واحد. ثم في حقيقة هذا العقد، أوجه. أحدها أنه بيع ويملك المشتري به مواضع رؤوس الجذوع. والثاني: أنه إجارة. وإنما لم يشرط تقدير المدة، لان العقد الوارد على المنفعة، تتبع فيه الحاجة. فإذا اقتضت التأبيد، أبد، كالنكاح. وأصحهما: أنه ليس بيعا ولا إجارة محضين، بل فيه شبههما، لكونه على منفعة، لكنها مؤبدة. فإذا قلنا: ليس بيعا، فعقده بلفظ الاجارة، ولم يتعرض لمدة، انعقد أيضا على الاصح، كما ينعقد بلفظ الصلح، لانه كما يوافق البيع في التأبيد، يوافقها في المنفعة. وإذا جرت هذه المعاملة، وبنى المشتري عليه، لم يكن للبائع أن يكلفه النقص ليغرم له

(3/453)


أرش النقض. ولو انهدم الجدار أو السقف بعد بناء المشتري عليه وإعادة مالكه، فللمشتري إعادة البناء بتلك الآلات أو بمثلها. ولو انهدم قبل البناء، فللمشتري البناء عليه إذا أعاده. وهلل يجبره على إعادته ؟ فيه الخلاف السابق. ولو هدم صاحب السفل أو غيره السفل قبل بناء المشتري، فعلى الهادم قيمة حق البناء للمشتري، لانه حال بينه وبين حقه. فلو أعيد السفل، استرد الهادم القيمة لزوال ا لحيلولة. ولو كان الهدم بعد البناء، فالقياس أن يقال: إن قلنا: إن من هدم جدار غيره، يلزمه إعادته، لزمه إعادة السفل والعلو. وإن قلنا: عليه أرش النقص، فعليه أرش نقص الآلات، وقيمة حق البناء للحيلولة. وبالجملة لا ينفسخ هذا العقد بعارض هدم وانهدام، لالتحاقه بالبيوع. فرع سواء جرى الاذن في البناء بعوض أو بغيره، يجب بيان قدر الموضع المبني عليه طولا وعرضا، ويجب مع ذلك إن كان البناء على الجدار أو السطح، بيان سمك البناء وطوله وعرضه، وكون الجدران منضدة أو خالية الاجواف، وكيفية السقف المحمول عليه، لان الغرض يختلف بذلك. وفي وجه: يكفي إطلاق ذكر البناء، ويحمل على ما يحتمله المبني عليه، ولا يشترط التعرض لوزن ما يبنيه على الصحيح، لان التعريف في كل شئ بحسبه. ولو كانت الآلات حاضرة، أغنت مشاهدتها عن كل وصف. وإذا أذن في البناء على أرضه، لم يجب ذكر سمك البناء وكيفيته على الصحيح، لان الارض تحتمل كل شئ. فرع ادعى بيتا في يد رجل، فأقر، وتصالحا على أن يبني المقر على سطحه، جاز وقد أعاره المقر له سطح بيته للبناء. ولو تنازعا في سفله، واتفقا على كون العلو للمدعى عليه، فأقر له بما ادعى، وتصالحا على أن يبني المدعي على السطح، ويكون السفل للمدعى عليه، جاز، وذلك بيع السفل بحق البناء على العلو. فصل من احتاج إلى إجراء ماء المطر من سطحه على سطح غيره، أو إجراء ماء في أرض رجل، لم يكن له إجبار صاحب السطح والارض على المذهب. وحكي قول قديم: أنه يجبر، وهو شاذ. فإن أذن فيه بإجارة، أو إعارة،

(3/454)


أو بيع، جاز. ثم في السطح لا بد من بيان الموضع الذي يجري عليه الماء، والسطوح التي ينحدر الماء إليه منها. ولا بأس بالجهل بقدر ماء المطر، لانه لا يمكن معرفته، وهذا عقد جوز للحاجة. وإذا أذن وبين، ثم بنى على سطحه ما يمنع الماء، فإن كان عارية، فهو رجوع، وإن كان بيعا أو إجارة، فللمشتري أو المستأجر نقب البناء وإجراء الماء فيه. وأما في الارض، فقال في التهذيب: لا حاجة في العارية إلى بيان، لانه إذا شاء رجع، والارض تحتمل ما تحتمل. وإن أجر، وجب بيان موضع الساقية وطولها وعرضها وعمقها، وقدر المدة. قال في الشامل: ويشترط كون الساقية محفورة. وإذا استأجر، لا يملك الحفر. وإن باع، وجب بيان الطول والعرض. وفي العمق وجهان، بناء على أن المشتري، يملك موضع المجرى، أم لا يملك إلا حق الاجراء ؟ ومقتضى كلام الاصحاب ترجيح الاول. هذا إذا كان لفظ البيع: بعتك مسيل الماء. فإن قال: حق مسيل الماء، فهو كبيع حق البناء، ويجئ في حقيقة العقد ما سبق في بيع حق البناء. وفي المواضع كلها، ليس له دخول الارض بغير إذن مالكها، إلا أن يريد تنقية النهر، وعليه أن يخرج من أرضه ما يخرجه من النهر. فرع المأذون له في إجراء ماء المطر، ليس له إلقاء الثلج، ولا أن يترك الثلج حتى يذوب ويسيل إليه، ولا أن يجري فيه ما يغسل به ثيابه وأوانيه، بل لا يجوز أن يصالح على ترك الثلوج على سطحه ولا إجراء الغسالات على مال، لان الحاجة لا تدعو إليه. وفي الاول، ضرر ظاهر. وفي الثاني، جهالة. والمأذون له في إلقاء الثلج، ليس له إجراء الماء. فرع تجوز المصالحة على قضاء الحاجة في حش غيره على مال، وكذا على جمع الزبل والقمامة في ملكه، وهي إجارة يراعى فيها شرائطها، وكذا المصالحة على البيتوتة على سطح. فلو باع مستحق البيتوتة منزله، فليس للمشتري أن يبيت عليه، بخلاف ما إذا باع مستحق إجراء الماء على غيره مدة [ بقاء ] داره، فإن المشتري يستحق الاجراء بقية المدة، لان الاجراء من مرافق الدار، بخلاف البيتوتة.

(3/455)


فرع لو خرجت أغصان شجرة إلى هواء ملك جاره، فللجار مطالبته بإزالتها. فإن لم يفعل، فله تحويلها عن ملكه. فإن لم يمكن، فله قطعها، ولا يحتاج فيه إلى إذن القاضي، وفيه وجه ضعيف. فلو صالحه على إبقائها بعوض، لم يصح إن لم يستند الغصن إلى شئ، لانه اعتياض عن مجرد الهواء. وإن استند إلى جدار، فإن كان بعد الجفاف، جاز، وإن كان رطبا، فلا، لانه يزيد ولا يعرف قدر ثقله وضرره. فقال طائفة من أصحابنا البصريين: يجوز، وما ينمى يكون تابعا. والاول أصح. وانتشار العروق، كانتشار الاغصان. وكذلك ميل الجدار إلى هواء الجار، قاله الاصطخري.
الباب الثالث في التنازع فيه مسائل. الاولى: إذا ادعى على رجلين دارا في يدهما، فصدقه أحدهما، وكذبه الآخر، ثبت له النصف بإقرار المصدق، والقول قول المكذب. فلو صالح المدعي المقر على مال، وأراد المكذب أخذها بالشفعة، ففيه طريقان. أحدهما، قول الشيخ أبي حامد وجماعة: إن ملكاها في الظاهر بسببين مختلفين، فله ذلك، لانه لا تعلق لاحد الملكين بالآخر. وإن ملكا بسبب واحد، من إرث، أو شراء، فوجهان. أحدهما: المنع، لانه زعم أن الدار ليست للمدعي، وأن الصلح باطل. وأصحهما: يأخذ، لانا حكمنا في الظاهر بصحة الصلح. ولا يبعد انتقال ملك أحدهما فقط وإن ملكا بسبب. و الطريق الثاني، قاله ابن الصباغ: إن اقتصر المكذب على قوله: لا شئ لك في يدي، أو لا يلزمني تسليم شئ إليك، أخذ. وإن قال مع ذلك: وهذه الدار ورثناها، ففيه الوجهان. وهذا الطريق، أقرب، مع أن قوله: ورثناها، لا يقتضي بقاء نصيب الشريك في ملكه، بل يجوز انتقاله إلى المدعي. فالاختيار: أن يقطع بجواز الاخذ، إلا أن يقول: إن الشريك مالك في الحال.

(3/456)


قلت: هذا الذي اختاره، هو الصواب، وقد قطع به هكذا القاضي أبو الطيب في تعليقه. والله أعلم. المسألة الثانية: ادعى رجلان دارا في يد رجل، فأقر لاحدهما بنصفها، نظر، إن ادعياها إرثا ولم يتعرضا لقبض، شارك صاحبه فيما أخذه، لان التركة مشتركة، فالحاصل منها مشترك. وإن قالا: ورثناها وقبضناها، ثم غصبناها، لم يشاركه على الصحيح وقول الاكثرين. فإن ادعيا ملكا بشراء أو غيره، فإن لم يقولا: اشترينا معا، فلا مشاركة. وإن قالا: اشترينا معا، أو اتهبنا معا، وقبضنا معا، فوجهان. أصحهما: أنه كالارث. والثاني: لا مشاركة. فلو لم يتعرضا لسبب الملك، فلا مشاركة قطعا، نص عليه في المختصر. وحيث شركنا في هذه الصور، فصالح المصدق المدعى عليه على مال، فإن كان بإذن الشريك، صح، وإلا، فباطل في نصيب الشريك. وفي نصيبه قولا تفريق الصفقة. وقيل: يصح في جميع المقر به لتوافق المتعاقدين، وهضعيف. ولو ادعيا دارا في يده، فأقر لاحدهما بجميعها، فإن وجد من المقر له في الدعوى ما يتضمن إقرارا لصاحبه، بأن قال: هذه الدار بيننا، ونحو ذلك، شاركه. وإن لم يوجد، بل اقتصر على دعوى النصف، نظر، إن قال بعد إقرار المدعى عليه بالكل: الجميع لي، سلم الجميع له، ولا يلزم من ادعائه النصف أن لا يكون الباقي له، ولعله ادعى النصف، لكون البينة ما تساعده على غيره، أو يخاف الجحوالكلي. وإن قال: النصف الآخر لصاحبي، سلم لصاحبه. وإن لم يثبته لنفسه، لا لرفيقه، فهل يترك في يد المدعى عليه، أم يحفظه القاضي، أم يسلم إلى رفيقه ؟ فيه أوجه، أصحها: أولها. الثالثة: تداعيا جدارا حائلا بين ملكيهما، فله حالان. أحدهما: أن يكون متصلا ببناء أحدهما دون الآخر اتصالا لا يمكن إحداثه

(3/457)


بعد بنائه، فيرجح جانبه. وصورته: أن يدخل نصف لبناء الجدار المتنازع فيه في جداره الخاص، ونصف جداره الخاص في المتنازع فيه، ويظهر ذلك في الزوايا. وكذلك لو كان لاحدهما عليه أزج لا يمكن إحداثه بعد بناء الجدار بتمامه، بأن أميل من مبدإ ارتفاعه عن الارض قليلا. وإذا ترجح جانبه، حلف وحكم له بالجدار، إلا أن تقوم بينة على خلافه. ولا يحصل الرجحان بوجود الترصيف المذكور في مواضع معدودة من طرف الجدار، لامكان إحداثه بعد بناء الجدار بنزع لبنة ونحوها، وإدراج أخرى. ولو كان الجدار المتنازع فيه مبنيا على خشبة طرفها في ملك أحدهما، وليس منها شئ في ملك الآخر، فالخشبة لمن طرفها في ملكه، والجدار المبني عليها تحت يده ظاهرا، قال الامام: ولا يخلو من احتمال. الحال الثاني: أن يكون متصلا ببنائهما جميعا، أو منفصلا عنهما، فهو في أيديهما، فإن أقام أحدهما بينة، قضي له، وإلا، فيحلف كل واحد منهما للآخر. فإذا حلفا، أو نكلا، جعل الجدار بينهما بظاهر اليد. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، قضى للحالف بالجميع. وهل يحلف كل واحد على النصف الذي يحصل له، أم على الجميع لانه ادعاه ؟ وجهان. أصحهما: الاول. قال الشافعي رضي الله عنه: ولا أنظر إلى من إليه الدواخل والخوارج، ولا أنصاف اللبن، ولا معاقد القمط معناه: لا أرجح بشئ منها. قال المفسرون لكلامه: المراد بالخوارج: الصور، والكتابة المتخذة في ظاهر الجدار. وبالدواخل: الطاقات، والمحاريب في باطن الجدار. وبأنصاف اللبن: أن يكون الجدار من لبنات مقطعة، فتجعل الاطراف الصحاح إلى جانب، ومواضع الكسر إلى جانب. ومعاقد القمط، تكون في الجدار المتخذ من قصب أو

(3/458)


حصير ونحوهما. وأغلب ما يكون ذلك، في الستر بين السطوح، فيشد بحبال، أو خيوط. وربما جعل عليها خشبة معترضة، فيكون العقد من جانب، والوجه المستوي من جانب. ولو كان لاحدهما عليه جذوع، لم يرجح، لانه لا يدل على الملك، كما لو تنازعا دارا في يدهما ولاحدهما فيها متاع، فإذا حلفا، بقيت الجذوع بحالها، لاحتمال أنها وضعت بحق. الرابعة: السقف المتوسط بين سفل أحدهما وعلو الآخر، كالجدار بين ملكيهما، فإذا تداعياه، فإن لم يكن إحداثه بعد بناء العلو كالازج الذي لا يمكن عقده على وسط الجدار بعد امتداده في العلو، جعل في يد صاحب السفل، لاتصاله ببنائه على سبيل الترصيف. وإن أمكن بأن يكون السقف عاليا، فيثقب وسط الجدار، وتوضع رؤوس الجذوع في الثقب، فيصير البيت بيتين، فهو في أيديهما، لاشتراكهما في الانتفاع به. الخامسة: علو الخان أو الدار لاحدهما، والسفل للآخر، وتنازعا في العرصة أو الدهليز. فإن كان المرقى في الصدر، جعلت بينهما، لان لكل واحد يدا، وتصرفا بالاستطراق ووضع الامتعة وغيرهما. قال الامام: وكان لا يبعد أن يقال: ليس للعلو إلا الممر، وتجعل الرقبة للسفل. لكن لم يصر إليه أحد من الاصحاب. وإن كان المرقى في الدهليز أو الوسط، فمن أول الباب إلى المرقى، بينهما، وفيما وراءه، وجهان. أصحهما: لصاحب السفل، لانقطاع صاحب العلو عنه، واختصاص صاحب السفل يدا

(3/459)


وتصرفا. والثاني: بينهما، لان صاحب العلو قد ينتفع به بوضع الامتعة فيه، وطرح القمامة. وإن كان المرقى خارجا، فلا تعلق لصاحب العلو بالعرصة بحال. ولو تنازعا المرقى وهو داخل، فإن كان منقولا كالسلم الذي يوضع ويرفع، فإن كان في بيت لصاحب السفل، فهو في يده، وإن كان في غرفة لصاحب العلو، ففي يده. وإن كان منصوبا في موضع المرقى، فنقل ابن كج عن الاكثرين: أنه لصاحب العلو، لعود منفعته إليه. وعن ابن خيران: أنه لصاحب السفل كسائر المنقولات. وهذا هو الوجه. وإن كان المرقى مثبتا في موضعه، كالسلم المسمر، والاخشاب المعقودة، فلصاحب العلو، لعود نفعه إليه. وكذا إن كان مبنيا من لبن أو آجر إذا لم يكن تحته شئ. فإن كان تحته بيت، فهو بينهما كسائر السقوف. وإن كان تحته موضع حب أو جرة، فالاصح: أنه لصاحب العلو. والثاني: أنه كما لو كان تحته بيت.

(3/460)